شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [كتاب الأضاحي]
ش: الأضاحي جمع أضحية، وإضحية بضم الهمزة وكسرها، والضحايا جمع ضحية، وقد
أتى الخرقي بهذا الجمع بعد، والأضحى جمع أضحاة كأرطاة وأرطى، وبها سمي يوم
الأضحى.
[حكم الأضحية]
قال: والأضحية سنة، لا يستحب تركها لمن يقدر عليها.
ش: لا نزاع في مشروعية الأضحية ومطلوبيتها، اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فعلا وقولا.
3596 - فقد صح عنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أنه ضحى بكبشين
أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمى وكبر، ووضع رجله على صفاحهما» .
3597 - «وعن زيد بن أرقم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت أو قالوا: يا
رسول الله، ما هذه الأضاحي؟ قال: «سنة أبيكم إبراهيم» قالوا: ما لنا فيها؟
قال: «بكل شعرة حسنة» قالوا:
(7/3)
فالصوف، قال: «بكل شعرة من الصوف حسنة» » .
رواه أحمد، وابن ماجه.
3598 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ما أنفقت الورق في شيء أفضل من نحيرة
في يوم عيد» رواه الدارقطني، في أحاديث أخر، وقد قيل في قَوْله تَعَالَى:
{فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] المراد الأضحية.
3599 - قال الحسن: صلاة يوم النحر والبدن، وقال عطاء ومجاهد:
(7/4)
صل الصبح بجمع، وانحر البدن بمنى، واختلف
في هذه المطلوبية هل تنتهي إلى الوجوب؟ والمعروف المشهور المنصوص من مذهبنا
أنه لا ينتهي إلى ذلك.
3600 - لما روي عن «جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: صليت مع رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عيد الأضحى، فلما انصرف أتي بكبش
فذبحه، وقال: «باسم الله والله أكبر، اللهم هذا عني وعن من لم يضح من أمتي»
رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي، فمن لم يضح منا فقد كفاه تضحية النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وناهيك بها أضحية.
3601 - وعن علي بن حسين، عن أبي رافع، - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يضحي بكبشين يقول في أحدهما:
«اللهم هذا عن أمتي جميعا، من شهد لك بالتوحيد، وشهد لي بالبلاغ» ويقول في
الآخر: «هذا عن محمد وآل محمد»
(7/5)
قال فمكثنا سنين ليس رجل من بني هاشم يضحي،
قد كفاه الله المؤمنة برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
والغرم. رواه أحمد.
3602 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ثلاث كتبت علي وهي لكم تطوع: الوتر،
والنحر، وركعتا الفجر» رواه الدارقطني. وهو نص إن ثبت.
3603 - وفي الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال:
«من أراد أن يضحي فدخل العشر» الحديث وسيأتي، فعلق ذلك على الإرادة،
والواجب لا يتعلق على الإرادة، وحكى أبو الخطاب (رواية بالوجوب مع الغنى)
وأخذها من نص أحمد على أن للوصي أن يضحي عن اليتيم من ماله، قال: فأجراها
مجرى الزكاة وصدقة الفطر، ونازعه أبو محمد في ذلك، وقال: بل هذا على سبيل
التوسعة عليه في يوم العيد، كما يشتري
(7/6)
له في ذلك اليوم ما جرت عادة أمثاله بلبسه.
قلت: وهذا حسن، ويرجحه أنه قال: للوصي أن يضحي. وما قال: عليه أن يضحي له.
كما أن عليه أداء الزكاة عنه.
3604 - وبالجملة استدل للوجوب بما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من
وجد سعة فلم يضح فلا يقربن مصلانا» رواه أحمد وابن ماجه.
3605 - وعن مخنف بن سليم، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
قال: «يا أيها الناس إن على أهل كل بيت في كل عام أضحية وعتيرة» رواه أحمد،
وأبو داود، وقال: العتيرة منسوخة. وقد ضعفا، أما الأول فقال الترمذي
والدارقطني وغيرهما: الصحيح وقفه، وأما الثاني فقال عبد الحق: إسناده ضعيف،
ثم على تقدير صحتهما يحملان على تأكيد الاستحباب، جمعا بين الأدلة، وقول
الخرقي: سنة لا يستحب تركها. إشعار بتأكيدها.
(7/7)
[ما يستحب
للمضحي إذا دخل عشر ذي الحجة]
قال: ومن أراد أن يضحي فدخل العشر فلا يأخذ من شعره ولا بشرته (شيئا) .
3606 - ش: لما روي عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة وأراد
أحدكم أن يضحي فليمسك عن شعره وأظفاره» رواه الجماعة إلا البخاري، ولفظ أبي
داود وغيره «فلا يأخذ من شعره وأظفاره حتى يضحي» .
وظاهر كلام الخرقي وابن أبي موسى والشيرازي وطائفة أن المنع من ذلك على
سبيل التحريم، وهو أحد الوجهين، ونصره أبو محمد، اعتمادا على ظاهر الحديث،
(والوجه الثاني) - وهو اختيار القاضي وطائفة - أن ذلك على سبيل الكراهة.
3607 - لقول «عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كنت أفتل قلائد هدي رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم يقلدها بيده، ثم يبعث بها،
ولا يحرم عليه شيء
(7/8)
أحله الله له حتى ينحر الهدي» . متفق عليه.
ولا ريب أن دلالة الأول أقوى، لاحتمال خصوصية النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بذلك، واحتمال أن قص الشعر ونحوه مما يقل فعله، إذ لا
يفعل في الجمعة إلا مرة واحدة، فلعل عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لم
ترد بقولها ذلك ثم حديث أم سلمة في الأضحية، وحديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - في الهدي المرسل، فلا تعارض بينهما، وعلى هذا إذا فعل فليس عليه
إلا التوبة، ولا فدية إجماعا.
(تنبيه) : ينتهي المنع بذبح الأضحية، صرح به ابن أبي موسى وغيره، لأن المنع
لذلك، فيزول بزواله، فإذا نحر استحب له الحلق، قاله ابن أبي موسى
والشيرازي.
[تجزئ البدنة والبقرة عن سبعة في الأضحية]
قال: وتجزئ البدنة عن سبعة وكذلك البقرة.
3608 - ش: لما «روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: أمرنا رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة
في بدنة» . متفق عليه، وفي لفظ: «قال لنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اشتركوا في الإبل والبقر كل سبعة في بدنة» رواه
البرقاني على شرط الصحيحين. وفي «رواية أنه قال: اشتركنا مع النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الحج والعمرة كل سبعة منا في بدنة، فقال
رجل لجابر: أيشترك في البقرة ما يشترك في الجزور؟ فقال: ما هي إلا من
البدن» . رواه مسلم وهو كذلك.
(7/9)
(تنبيه) : فلو اشترك جماعة في بدنة أو بقرة
على أنهم سبعة فبانوا ثمانية، ذبحوا معها شاة وأجزأتهم، وصححه الشيرازي على
ما قاله أبو بكر وصاحب التلخيص، قال الشيرازي وقال بعض أصحابنا: لا يجزئ عن
الثامن، ويعيد الأضحية.
[ما يجزئ في الأضحية من الضأن]
قال: ولا يجزئ إلا الجذع من الضأن، والثني من غيره.
3609 - ش: لما روى جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «قال: قال رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تذبحوا إلا مسنة، إلا أن يعسر
عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن» . رواه الجماعة إلا البخاري والترمذي.
3610 - «وعن البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ضحى خال لي
يقال له أبو بردة قبل الصلاة، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «شاتك شاة لحم» فقال: يا رسول الله، إن عندي داجنا جذعة من
المعز. قال: «اذبحهما ولا تصلح لغيرك» . متفق عليه.
(7/10)
3611 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - قال: سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول:
«نعم أو نعمت الأضحية الجذع من الضأن» . رواه أحمد والترمذي.
3612 - وعلى هذا يحمل ما روى مجاشع بن سليم، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الجذع يوفي مما توفي منه الثنية» . رواه أبو
داود، أي الجذع من الضأن.
قال: والجذع من الضأن الذي له ستة أشهر وقد دخل في السابع.
(7/11)
ش: قد تقدم الكلام على ذلك في الزكاة، وأن
لنا وجها آخر أن الجذع من الضأن ما استكمل ثمانية أشهر، وقد قال وكيع:
الجذع من الضأن يكون ابن ستة أشهر أو سبعة، وعرفه الخرقي هنا بصفة يعرف بها
عند اشتباه سنه، فقال: وسمعت أبي يقول: سألت بعض أهل البادية: كيف تعرفون
الضأن إذا أجذع؟ قال: لا تزال الصوفة قائمة على ظهره ما دام حملا، فإذا
نامت الصوفة على ظهره علم أنه قد أجذع.
قال: وثني المعز إذا تمت له سنة ودخل في الثانية.
ش: قد تقدم أيضا الكلام على هذا، وأن هذا الذي قاله الأصحاب، وأن ابن
الأثير قال: ما كمل له سنتان.
[ما يجزئ في الأضحية من البقر]
قال: والبقرة إذا صار لها سنتان ودخلت في الثالثة.
ش: لأنه يروى عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «لا
تذبحوا إلا مسنة» ومسنة البقر التي لها سنتان، ورأيت في نسخة من الجامع
الصغير أن الثنية من البقر التي كمل لها ثلاث سنين.
(7/12)
[ما يجزئ في
الأضحية من الإبل]
قال: والإبل إذا صار لها خمس سنين ودخلت في السادسة.
ش: قال الأصمعي، وأبو زياد الكلابي، وأبو زيد الأنصاري: إذا مضت السنة
الخامسة على البعير، ودخل في السادسة، وألقى ثنيته فهو حينئذ ثني. ويرى أنه
يسمى ثنيا لأنه ألقى ثنيته، فظاهر هذا أن أهل اللغة يعتبرون في تسميته ثنيا
حين كمال خمس سنين وإلقاء ثنيته، والفقهاء جعلوا الضابط استكمال خمس سنين.
[ما يشترط في الأضحية]
قال: ويجتنب في الضحايا العوراء البين عورها. والعرجاء البين عرجها،
والمريضة التي لا يرجى برؤها، والعجفاء التي لا تنقي.
ش: لا إشكال في اجتناب هذه الأربعة في الضحايا، وأنها لا تجزئ.
3613 - لما روى البراء بن عازب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «قال رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أربع لا تجوز في الأضاحي:
العوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعرجاء البين
(7/13)
عرجها - وفي لفظ - ظلعها، والكسيرة التي لا
تنقي» رواه الخمسة وصححه الترمذي، وفي لفظ «والعجفاء التي لا تنقي» بدل
الكسيرة، وهذا نص.
وفسر الخرقي العوراء بالبين عورها كما في الحديث، وقال أصحابنا: هي التي
انخسفت عينها وذهبت، إذ العين عضو
(7/14)
مستطاب، فإن كان بها بياض لا يمنع النظر
أجزأت ولو نقصه، وكذلك إن أذهبه على أشهر الوجهين، لأن ذلك لا ينقص لحمها،
(وفسر العجفاء) بالتي لا تنقي كما في الحديث، «والكسيرة التي لا تنقي» وفي
لفظ كما تقدم «العجفاء التي لا تنقي» وهي التي لا مخ في عظامها لهزالها،
والنقي المخ، وهذه بالمنع أجدر من التي قبلها، لأنها عظام مجتمعة، (وفسر
العرجاء) بالبين عرجها كما في الحديث، وفسر ذلك أبو الخطاب وابن البنا،
وصاحب التلخيص، وأبو محمد وغيرهم بالتي تعجز عن مصاحبة جنسها في المشي،
والمشاركة في العلف، لأن ذلك ينقص لحمها، ويفضي إلى هزالها، فلو كان عرجها
يسيرا لا يفضي بها إلى ذلك، أجزأت، وقال أبو بكر وتبعه القاضي في الجامع
الصغير، هي التي لا تطيق أن يبلغ المنسك، فإن كانت تقدر على المشي إلى موضع
الذبح أجزأت.
وفسر الخرقي المريضة بالتي لا يرجى برؤها، لأن ذلك ينقص لحمها نقصا كثيرا
ويهزلها، والحديث قال فيه: البين مرضها أي التي تبين أثره عليها، واختاره
أبو محمد، معللا بأن ذلك ينقص اللحم ويفسده، وقال القاضي، وأبو الخطاب وابن
البنا: المريضة هي الجرباء، لأن الجرب يفسد اللحم. وأناط أبو البركات وصاحب
التلخيص الحكم بفساد اللحم، وهو أضبط وأشمل، ولعل القاضي ومن تبعه أرادوا
ضرب مثال.
(7/15)
قال: والعضباء.
ش: أي ومما يجتنب في الضحايا العضباء.
3614 - وذلك لما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «نهى رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يضحى بأعضب القرن أو الأذن» ،
قال قتادة: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب، فقال: العضب النصف فأكثر من ذلك.
رواه الخمسة وصححه الترمذي، وظاهر النهي التحريم والفساد، وبهذا يتخصص
مفهوم «أربع لا تجوز في الضحايا» إن سلم المفهوم وأن له عموما.
قال: والعضب ذهاب أكثر من نصف الأذن أو القرن.
ش: العضب القطع مطلقا، والعضب المانع هنا هو المذهب لأكثر الأذن أو القرن
على أشهر الروايتين. واختيار أكثر الأصحاب، لأن الأكثر يعطى حكم الكل،
بخلاف اليسير فإنه في حكم العدم، إذ اعتباره يشق، وقد تقدم عن ابن المسيب -
وناهيك به - أنه النصف فأكثر، ولهذا - والله أعلم - قال أبو محمد في
الهدايا إنه النصف، لكن الأصحاب - وهو أيضا هنا - على حكاية المذهب كما
تقدم. (والرواية الثانية) أن المانع ذهاب الثلث فأكثر، اختاره أبو بكر،
(7/16)
لتسمية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - له كثيرا. ومنهم من حكى الرواية على أنه ذهاب أكثر من الثلث،
وملخصه أن للأصحاب في الثلث على هذه الرواية قولين، كما أنه يتلخص في النصف
على الأولى كذلك، لكن الخلاف في الثلث أشهر من الخلاف ثم.
(تنبيه) : يفهم من كلام الخرقي أن ما عدا هذه الخمسة لا يجتنب فيجزئ، وهو
كذلك، إلا أن منها ما جعل في معنى ما تقدم فيمنع من التضحية به، ويكون قد
دخل في كلام الخرقي، إما بطريق التنبيه، وإما بطريق المساواة، ومنها ما
اختلف في التضحية به، ونشير إن شاء الله تعالى إلى طرف من ذلك، فمما جعل في
معنى الممنوع منه فلا تجوز الأضحية به (العمياء) ، فإنها لا تجزئ بلا ريب،
إذ هي أولى بالمنع من العرجاء بلا ريب، لمنعها من المشي مع جنسها،
ومشاركتها لهم في الرعي، وما أحسن ما قال أبو البركات: لا تجزئ قائمة
العينين. فإنه نبه على أن العلة ما قلناه، لإذهاب عضو كما في العوراء التي
انخسفت عينها، ومن ذلك (الجدباء) ، وقال السامري: الجدباء. قال أحمد: هي
التي قد يبس
(7/17)
ضرعها، لأن ذلك أبلغ من ذهاب شحمة العين،
ومنه على ما قال في التلخيص (العصماء) وهي التي انكسر غلاف قرنها، وفيه
شيء، ومنه (الهتماء) وهي التي ذهبت ثناياها من أصولها، قاله صاحب التلخيص،
زاعما أنه قياس المذهب، قال: لأن أثر ذهاب الأسنان لا سيما إذا ذهبت كلها
أكثر من ذهاب بعض القرن، وقال: إنه لم يعثر فيه للأصحاب بشيء.
ومما اختلف في التضحية به (الجماء) وهي التي لم يخلق لها قرن، وقال ابن
البنا: ولا أذن. فقال ابن حامد: لا يجوز، لأن ذهاب جميع القرن أبلغ من ذهاب
بعضه، وقال القاضي، وابن البنا، وأبو محمد وغيرهم: يجوز، نظرا إلى أن هذا
ليس بعيب، بخلاف كسر بعض القرن، ومن ذلك (البتراء) وهي التي لا ذنب لها،
قال أبو محمد: سواء كان خلقة أو مقطوعا، واختار هو الإجزاء.
(7/18)
3615 - وقد «روي من حديث الحجاج بن أرطأة،
عن بعض شيوخه، أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سئل أيضحى
بالبتراء؟ قال: «لا بأس به» إلا أن هذا منقطع، مع أن الحجاج ضعيف، وقطع
صاحب التلخيص بالمنع، وقال: وهي المبتورة الذنب، وظاهر هذا أنها المقطوعة
الذنب، وقد قال أبو محمد: إن التي قطع منها عضو كالألية لا يجوز التضحية
بها، ومنه أيضا (الخصي) قاله جماعة من الأصحاب منهم الشيخان.
3616 - لما روي عن أبي رافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «ضحى النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكبشين أملحين موجوءين خصيين» . وعن
عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - نحوه. . . رواه أحمد، والوجاء رض
(7/19)
الخصيتين، وما قطعت خصيتاه أو شلتا
فكالموجوء، ولأن الخصاء إذهاب عضو غير مستطاب، يسمن الحيوان ويطيب لحمه،
بخلاف ذهاب شحمة العين، وقيد ابن حمدان ذلك تبعا لصاحب التلخيص بغير
المجبوب، فظاهره أن المجبوب لا يجزئ عندهما. وقد فسر ابن البنا الخصي بالذي
قطع ذكره، وهو صريح لمخالفتهما، ومن ذلك (المقابلة) وهي التي قد انقطع من
طرف أذنها قطعة (والمدابرة) وهي التي قد انقطع من خلف الأذن مثل ذلك
(والخرقاء) وهي التي شقت أذنها، وقال القاضي: التي انثقبت أذنها.
(والشرقاء) وهي التي تشق أذنها لسمة، فقال عامة الأصحاب بإجزاء ذلك مع
الكراهة، عملا بمفهوم حديث البراء بن عازب «أربع لا تجوز في الأضاحي» وقال
ابن أبي موسى بالمنع في الأربعة، اتباعا للنهي عن ذلك.
3617 - فعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن نستشرف العين والأذن، وأن لا نضحي بمقابلة
ولا مدابرة، ولا شرقاء ولا خرقاء» . رواه الخمسة، وصححه الترمذي، وهذا
منطوق فيقدم على عموم ذلك المفهوم.
(7/20)
[الحكم لو أوجب
الأضحية سليمة فتعيبت عنده]
قال: ولو أوجبها سليمة فعابت عنده ذبحها وكانت أضحية.
ش: نص أحمد على هذا في رواية صالح.
3618 - لما روي «عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: اشتريت
كبشا لأضحي به، فعدا الذئب فأخذ الألية، قال: فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «ضح به» » . رواه أحمد، وابن ماجه، ويخرج لنا
عدم الإجزاء بناء على القول بوجوب
(7/21)
الأضحية، كما لو أوجبها بنذره ثم عينها
فعابت، وقول الخرقي: فعابت. أي عيبا يمنع الإجزاء، وإلا ما لا يمنع الإجزاء
لا يحتاج إلى التنبيه عليه، وفي قوله: فعابت. إشعار بأنه لو أعانها هو أنها
لا تجزيه، وهو كذلك.
قال: وإن ولدت ذبح ولدها معها.
ش: حكم ولد المعينة حكمها، يذبحه كما يذبحها لأنه كجزئها، ولأنه حكم قد ثبت
له بطريق السراية من الأم، فيثبت له ما ثبت لها كولد أم الولد.
3619 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رجلا سأله فقال: يا أمير
المؤمنين، إني اشتريت هذه البقرة لأضحي بها، وإنها ولدت هذا العجل. فقال
علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «لا تحلبها إلا فضلا عن تيسير ولدها، فإذا
كان يوم الأضحى فاذبحها وولدها عن سبعة» . رواه سعيد في سننه، وكذلك قال
أبو بكر وغيره من الأصحاب: إذا أوجب سبعة أنفس أضحية ذبحت وولدها عن
السبعة، والضمير في: وإن ولدت. راجع
(7/22)
للتي أوجبها، فلو لم يوجبها كان ولدها له
كبقية نمائها، ثم إن كلامه يشمل الولد الموجود حال التعيين وبعده، وهو
كذلك.
(تنبيه) : لو عين أضحية عما ثبت في ذمته فولدت ذبح ولدها معها، فلو تعيبت
الأم فبطل التعيين فيها فهل يتبعها الولد كما يتبعها ابتداء فيبطل التعيين
فيه، أو لا، لأن البطلان في الأم لمعنى اختص بها؟ فيه وجهان.
[ما تتعين به الأضحية]
قال: وإيجابها أن يقول: هي أضحية.
ش: لا ريب في صيرورة الحيوان واجبا بقوله هذا أضحية، لأن هذا هو اللفظ
الموضوع لذلك، أشبه ما لو قال لعبده: هذا حر. ولا يتعين لفظ الأضحية، بل كل
لفظ دل على ذلك، كقوله: هذا لله. ونحوه من ألفاظ النذر، كما هو قاعدة
المذهب، وصرح به الأصحاب، وقد يتعين بالنية كما في البيع والوقف والهبة
ونحوهن، في رواية ضعيفة.
والخرقي والله أعلم إنما أراد بذلك المبالغة في أنه لا يحصل بالنية مع
الشراء، كما يقوله المالكي والحنفي، وهو احتمال قاله أبو الخطاب، وذلك لأنه
إزالة ملك على وجه القربة، فلا تؤثر فيه النية المقارنة للشراء كالعتق
والوقف.
(تنبيه) : وكذلك حكم الهدي يحصل بقوله: هذا
(7/23)
هدي، أو لله، ونحو ذلك، لا بالنية ولو مع
سوقه، ولا بإشعاره وتقليده، قاله عامة الأصحاب، وخالفهم أبو محمد فقال
بوجوبه بذلك، جازما به كما يحصل الوقف ببناء مسجد والإذن في الصلاة فيه،
والله أعلم.
قال: ولو أوجبها ناقصة وجب عليه ذبحها ولم تجزئه.
ش: إذا أوجب التي اشتراها ناقصة - أي نقصا يمنع الإجزاء - وجب عليه ذبحها،
لأن إيجابها كالنذر لذبحها، فيلزمه الوفاء به، وصار هذا كنذر هدي من غير
بهيمة الأنعام، فلا يجزئه عن الأضحية الشرعية، لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أربع لا تجوز في الأضاحي» ويكون شاة لحم منذورة،
فإن زال عيبها كأن كانت عجفاء فزال عجفها ونحو ذلك أجزأت عن الأضحية، قاله
جماعة من الأصحاب.
[بيع الأضحية في الدين]
قال: ولا تباع أضحية الميت في دينه.
ش: لأن ذبحها قد تعين، أشبه ما لو كان حيا، ولأنه خرج عنها لله تعالى في
حياته، أشبه الوقف، ولم يفرق الأصحاب فيما علمته بين أن يوجبها في حال صحته
أو في حال مرضه، وقد يقال: إن قولهم: إن التبرعات في المرض تعتبر من الثلث
وتنقض للدين المستغرق. يخرج ذلك، وقول الخرقي: أضحية الميت. يشمل ما إذا
أوجبها، أو ذبحها ثم مات، فإنها إذا تتعين بالذبح، وخرج منه ما إذا عدم
ذلك،
(7/24)
كما لو اشتراها بنية الأضحية ثم مات، فإنها
تباع في دينه لانتفاء تعيينها بذلك على المذهب.
قال: ويأكلها ورثته.
ش: يعني على الوجه المشروع في الأكل كما سيأتي، لقيامهم مقامه، والله أعلم.
[كيفية تقسيم الأضحية بعد الذبح]
قال: والاستحباب أن يأكل ثلث أضحيته ويتصدق بثلثها ويهدي ثلثها.
ش: قال الإمام أحمد: نحن نذهب إلى حديث عبد الله، يأكل هو الثلث، ويطعم من
أراد الثلث، ويتصدق على المساكين بالثلث.
3620 - قال علقمة: «بعث معي عبد الله بهديه فأمرني أن آكل ثلثها، وأن أرسل
إلى أهل أخيه بالثلث، وأن أتصدق بالثلث» .
3621 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «الهدايا والضحايا
ثلث لك، وثلث لأهلك، وثلث للمساكين» .
(7/25)
3622 - وقد جاء عن ابن عباس - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - في صفة أضحية النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «ويطعم أهل بيته الثلث، ويطعم فقراء جيرانه الثلث، ويتصدق
على السؤال بالثلث» . رواه الحافظ أبو موسى في «الوظائف» ، وقال: حديث حسن.
ولأن الله قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}
[الحج: 36] .
وظاهر ذلك القسم على ثلاثة.
وقول الخرقي: والاستحباب. ظاهر في أنه لو أكل أو أهدى أو تصدق بأكثر من
الثلث جاز، ولا ريب في ذلك، نعم كلامه أيضا يقتضي أنه لو أكلها كلها، أو
أهداها كلها، أو تصدق بها كلها جاز، وليس كذلك، بل الأصحاب على أنه لا يجب
الأكل منها، ويجب أن يتصدق منها ولو بأوقية، نظرا لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
{فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] .
وقَوْله تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ
وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] أمر، وظاهر الأمر الوجوب، خرج منه الأكل.
3623 - بدليل ما روى عبد الله بن قرط أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
(7/26)
قال: «أعظم الأيام عند الله يوم النحر ثم
يوم القر» .
3624 - «وقرب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خمس
بدنات أو ست ينحرهن، فطفقن يزدلفن إليه أيتهن يبدأ بها، فلما وجبت جنوبها
قال كلمة خفية لم أفهمها، فسألت بعض من يليني ما قال؟ قالوا: قال «من شاء
اقتطع» » وظاهر هذا أنه لم يأكل من ذلك شيئا، وفيه نظر، لأن هذه واقعة عين،
والمعتمد أن الأمر بالأكل يرد كثيرا، والمراد به الإباحة، كما في قَوْله
تَعَالَى: {كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} [الأنعام: 141] . ونحوه
فكذلك ها هنا، بخلاف الأمر بالصدقة، وغاية ما يقال أنه يلزم إذا استعمال
الأمر في حقيقته ومجازه، ونلتزمه على أن المندوب مأمور به عندنا حقيقة.
إذا تقرر هذا فالذي يجب عليه الصدقة به هو أقل ما ينطلق عليه الاسم، قاله
جمهور الأصحاب، نظرا لإطلاق الآيتين المتقدمتين، وقال أبو بكر في التنبيه:
لا يدفع إلى المساكين ما يستحي من توجهه به إلى خليطه، اهـ.
ومن لم يأت
(7/27)
بالواجب من الصدقة، بأن أكل الجميع، أو
أهدى الجميع، فهل يضمن ما كان يجب أن يتصدق به، أو ما كان يشرع أن يتصدق به
وهو الثلث؟ فيه وجهان.
(تنبيهان) :
«أحدهما» : عموم كلام الخرقي في الإطعام يشمل الكافر، وهو كذلك في الصدقة
المستحبة منها، كبقية صدقة التطوع، أما الصدقة الواجبة منها فلا تدفع إليه
كالزكاة ونحوها، ولهذا قيل: لا بد من دفع الواجب إلى فقير وتمليكه، وهذا
بخلاف الإهداء فإنه يجوز إلى غني وإطعامه، " الثاني " هذا الذي قاله الخرقي
بناء على قوله باستحباب الأضحية، ففي الأكل وجهان (الجواز) كما في هدي
التمتع والقران (وعدمه) كالأضحية المنذورة على قول الأكثرين، وعن أبي بكر -
وتبعه أبو محمد - جواز الأكل من الأضحية المنذورة أيضا، لأن أكثر ما في
النذر التزام حكم الأضحية، ومن حكمها جواز الأكل، والله أعلم.
قال: ولا يعطي الجازر بأجرته شيئا منها.
3625 - ش: «قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أمرني رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أقوم على بدنه، وأن أتصدق بلحومها وجلودها
وأجلتها، وأن لا أعطي الجزار منها شيئا، وقال: «نحن نعطيه من عندنا» . متفق
عليه. وفي قوله: بأجرته. إشعار بأنه
(7/28)
يجوز الدفع إليه لا على سبيل الأجرة، كأن
يدفع إليه لفقره أو هدية، وهو كذلك، لأنه ساوى غيره في ذلك، وزاد عليه
بمباشرته لها، وتشوف نفسه إليها، وبهذا المعنى يتخصص عموم الحديث، ولو قيل
بعمومه سدا للذريعة لكان حسنا.
قال: وله أن ينتفع بجلدها.
ش: لا نزاع في ذلك، لأن الجلد جزء من الأضحية، أشبه اللحم.
3626 - وعن أبي سعيد الخدري، أن قتادة بن النعمان أخبره، «أن النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قام فقال: «إني كنت أمرتكم أن لا
تأكلوا من الأضاحي فوق ثلاثة أيام لتسعكم، وإني أحله لكم، فكلوا منه ما
شئتم، ولا تبيعوا لحوم الهدي والأضاحي، وكلوا وتصدقوا، واستمتعوا بجلودها،
وإن أطعتم من لحومها شيئا فكلوا إن شئتم» . رواه أحمد، وفي قول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وإن أطعمتم من لحومها شيئا فكلوا إن
شئتم» إشعار بوجوب الإطعام منها، وتوقف الأكل عليه.
(7/29)
قال: ولا يجوز أن يبيعه ولا شيئا منها.
ش: هذا هو المذهب بلا ريب، لما تقدم من حديثي علي والنعمان - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - قال أحمد: سبحان الله، كيف يبيعها وقد جعلها لله تبارك
وتعالى! .
وحكى قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا يعطي في جزارته
شيئا منها» (وعن أحمد) رواية أخرى: يجوز بيع الجلد والصدقة بثمنه.
3627 - لأن ذلك يروى عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - ولأنه إذا
كان له منع الفقراء منه رأسا بأن ينتفع به، فلأن يمنعهم من عينه ويدفع ثمنه
إليهم أولى، (وعنه ثالثة) يباع بمتاع البيت كالغربال ونحوه، فيكون إبدالا
بما يحصل منه مقصودها، كما جاز إبدال الأضحية، (وعنه رابعة) يباع جلد
البقرة والبدنة ويتصدق بثمنه، دون الشاة، ولعله اعتمد في ذلك على أثر.
(تنبيه) : حكم جل الأضحية حكم جلدها، قاله أبو
(7/30)
البركات، لكنه إنما حكى الروايتين
الأولتين.
[استبدال الأضحية]
قال: ويجوز أن يبدل الأضحية - إذا أوجبها - بخير منها.
ش: هذا مبني على أصل، وهو أنه إذا أوجب أضحية فهل يزول ملكه عنها؟ بذلك قال
عامة الأصحاب، وزعم أبو محمد في الكافي أن أحمد نص على أنه لا يزول بذلك،
إذ النذور محمولة على أصولها في الفروض، وفي الفرض لا يزول ملكه وهو
الزكاة، وله إخراج البدل فكذلك في النذر، وخالفهم أبو الخطاب في هدايته
وخلافه الصغير، فقال بالزوال، معتمدا على قول أحمد في الهدي إذا عطب في
الحرم: قد أجزأ عنه. وقوله في الأضحية إذا هلكت: ليس عليه بدلها. وقوله إذا
عين الهدي أو الأضحية فأعورت أو عجفت يذبحها وتجزئه، وكذا لو ذبحت فسرقت،
أو ذبحها ذابح بغير إذنه أجزأت، قال: ولو كان ملكه باقيا لوجب عليه بدلها
في جميع هذه المواضع، ووجه ذلك أنه جعلها
(7/31)
لله تعالى، فأشبهت المعتق والموقوف، فعلى
هذا القول لا يجوز البيع ولا الإبدال مطلقا.
أما على المذهب فيجوز إبدالها بخير منها وقد نص عليه أحمد، نظرا لمصلحة
الفقراء في ذلك، ولا يجوز بدونها قطعا، لما فيه من تفويت حرمتها وإنه لا
يجوز، وهل يجوز بمثلها؟ فيه وجهان: (أحدهما) : وهو ظاهر كلام الخرقي،
واختاره أبو محمد لا يجوز، لأنه تفويت للعين من غير فائدة تحصل، أشبه ما لو
أبدلها بدونها. (والثاني) : يجوز لأن الواجب لم ينقص.
وحيث جاز الإبدال فهل يجوز البيع؟ فيه روايتان: (إحداهما) : وهي اختيار أبي
بكر والقاضي - يجوز، إذ الإبدال بيع في الحقيقة، «ولأن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ساق مائة بدنة في حجته، وقدم علي من اليمن
فأشركه فيها» . رواه مسلم وغيره. (والثانية) : وهي ظاهر كلام الخرقي،
واختيار أبي محمد - لا يجوز.
3628 - لما روي «عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: أهدي عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بختيا، فأعطي بها ثلاثمائة دينار، فأتى النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، إني أهديت بختيا
فأعطيت بها ثلثمائة دينار، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدنا؟ قال:
(7/32)
«لا، انحرها إياها» رواه أحمد وأبو داود،
والبخاري في تأريخه، وهذا نص، وفيه دليل على المنع من الإبدال، كما يقوله
أبو الخطاب، ويجاب عن تشريك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
بأن ذلك في الأجر والثواب، أو كان قبل الإيجاب.
وحيث جاز البيع فهل ذلك بشرط أن يبيعها لمن يضحي بها، قاله الشيرازي، وصاحب
التلخيص، أو مطلقا، وهو ظاهر كلام القاضي وأبي بكر؟ فيه قولان، ثم على
القولين يشتري خيرا منها، قاله أبو بكر وصاحب التلخيص، وحكاه أبو محمد عن
القاضي، وظاهر كلام القاضي في الجامع جواز شراء مثلها، قال: عليه بدنة
مكانها. ثم قال صاحب التلخيص: يصرف ثمنها في خير منها، وقال غيره: يشتري
خيرا منها، وأطلق.
(تنبيه) : حكم الهدي الواجب حكم الأضحية فيما تقدم.
[وقت ذبح الأضحية]
قال: وإذا مضى من نهار يوم الأضحى مقدار صلاة الإمام العيد وخطبته فقد حل
الذبح.
(7/33)
ش: يوم الأضحى يوم لذبح الأضحية في الجملة
بالإجماع، واختلف بماذا يدخل وقت الذبح، فعند الخرقي أنه يدخل بمقدار مضي
صلاة العيد وخطبته، لأن الصلاة تتقدم وتتأخر، وقد تفعل وقد لا تفعل، وذلك
ضابط لا يختلف، فأنيط الحكم به، ولم يعتبر أبو محمد في المقنع تبعا لأبي
الخطاب في الهداية غير قدر الصلاة، لأن المذكور في الأحاديث - كما سيأتي إن
شاء الله تعالى - الصلاة، وقال القاضي وعامة أصحابه - الشريف، وأبو الخطاب
في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وابن البنا، وأبو محمد في
المغني، وهو إحدى الروايات عن الإمام -: المعتبر في حق أهل المصر صلاة
الإمام فقط.
3629 - لما «روي عن جندب بن سفيان البجلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه
صلى مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم أضحى، قال:
فانصرف فإذا هو باللحم وذبائح الأضحى تفرق، فعرف رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنها ذبحت قبل أن يصلي، فقال: «من كان ذبح
قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى، ومن لم يكن ذبح حتى صلينا فليذبح باسم
الله» .
(7/34)
3630 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر: «من
كان ذبح قبل الصلاة فليعد» متفق عليهما، وللبخاري من حديث أنس «من ذبح قبل
الصلاة فإنما يذبح لنفسه، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب نسك
المسلمين» . (والرواية الثانية) - وهي اختيار أبي محمد في الكافي، وزعم في
المغني أنها ظاهر كلامه -: المعتبر مع الصلاة الفراغ من الخطبة، لأن النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنكاره كان بعد الفراغ من الخطبة،
ولأن الخطبة كالجزء من الصلاة. (والرواية الثالثة) : يعتبر مع ذلك ذبح
الإمام.
3631 - لما «روي عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «صلينا مع رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوم النحر بالمدينة فتقدم رجال
فنحروا، وظنوا أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد نحر،
فأمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من كان نحر قبله أن يعيد
بنحر آخر، ولا ينحروا حتى ينحر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
-» -» . . . رواه أحمد ومسلم.
وهذه الروايات في حق أهل الأمصار، أما أهل القرى الذين لا صلاة عليهم
لقلتهم، ومن كان في حكمهم كأصحاب الطنب والخركاوات، فعامة الأصحاب هنا
(7/35)
يوافقون الخرقي، لأنه لما تعذر في حقهم
اعتبار حقيقة الصلاة اعتبر قدرها، ثم إن عامة أصحاب القاضي على أن المعتبر
قدر الصلاة فقط، بعد دخول وقتها، بناء على اعتبارهم الصلاة ثم، وظاهر كلام
القاضي في الجامع وأبي محمد أن المعتبر قدر الصلاة والخطبة، ولنا وجه ثالث
أن المعتبر مع ذلك ذبح الإمام من الرواية الثالثة ثم، وحكى صاحب التلخيص
وجها آخر أن المعتبر ذلك الوقت، أي وقت صلاة الإمام، وهو ظاهر إطلاق أبي
البركات، أو صلاة الإمام وخطبته، أو خطبته وذبحه، ويتلخص أن في أهل الأمصار
خمسة أقوال، وفي أهل القرى ستة.
إذا تقرر هذا فلا فرق في أهل الأمصار بين من عليه الصلاة ومن لا صلاة عليه،
كالنساء ونحوهن، ثم إن الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وكثيرا من الأصحاب
أطلقوا قدر الصلاة والخطبة، فيحتمل أن يعتبروا ذلك بمتوسطي الناس، وأبو
محمد اعتبر قدر صلاة وخطبة تامتين في أخف ما يكون، وإذا اعتبرنا الصلاة
فإذا صلى الإمام في المصلى واستخلف من صلى في المسجد، فمتى صلوا في أحد
الموضعين جاز الذبح، ولو لم يصل الإمام في المصر لعذر أو غيره لم يجز الذبح
حتى تزول
(7/36)
الشمس، لأن الصلاة تفوت إذا، وأما الذبح في
اليوم الثاني والثالث فيجوز قبل الصلاة، لأنه مرتب على أداء صلاة العيد،
وذلك قد سقط.
قال: إلى آخر يومين من أيام التشريق.
ش: وقت الذبح عندنا ينتهي بمضي يومين من أيام التشريق، فأيام النحر عندنا
ثلاثة أيام يوم الأضحى، ويومان بعده.
3632 - لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد ثبت عنه بلا
ريب أنه نهى عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث، ويلزم منه تأقيت الذبح بثلاث،
ولا يجوز الذبح في وقت لا يجوز ادخار الأضحية إليه، لا يقال: فقد ثبت نسخ
ذلك، لأنا نقول الحديث دل على
(7/37)
حكمين، المنع من الادخار فق ثلاث، وأن وقت
الذبح ذلك، ونسخ المنع من الادخار فوق ثلاث لا يلزم منه نسخ الحكم الآخر.
3633 - ثم إن هذا قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس، وأبي هريرة وأنس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - قال أحمد: أيام النحر ثلاثة عن غير واحد من
أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وفي رواية
(7/38)
قال: خمسة من أصحاب رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ولم يذكر أنسا.
3634 - ولا مخالف لهم إلا رواية رويت عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(7/39)
(تنبيه) : فإن خرج الوقت ولم ينحر ذبح
الواجب قضاء، إذ الذبح أحد مقصودي الأضحية فلا يسقط بفوات وقته كتفرقة
اللحم، وخير في التطوع، فإن ذبح فهو شاة لحم، والله أعلم.
قال: نهارا ولا يجوز ليلا.
ش: لما تكلم الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على أول وقت الأضحية وآخره، شرع
يتكلم على محله، فقال إن محله النهار دون الليل، ولا نزاع أن النهار محل
للذبح، واختلف في الليل هل هو محل لذلك أم لا؟ (فعنه) - وهو اختيار الخرقي
- ليس بمحل لذلك، نظرا لظاهر قَوْله تَعَالَى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ
فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعَامِ} [الحج: 28] واليوم اسم لما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس.
3635 - وفي مراسيل أبي داود - فيما أظن - من طريق بقية بن الوليد، عن مبشر
بن عبيد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، قال: «نهى رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الذبح بالليل» ، لكن مبشرا، قالوا: متروك.
فهو عكس اسمه، (وعنه) - وهو اختيار أبي بكر، والقاضي وأصحابه، وصاحب
التلخيص وغيرهم - هو محل للذبح أيضا، لأن النهي عن الادخار فوق ثلاث، يدخل
فيه الليل، واليوم يطلق ويراد مع ليلته، ومحل
(7/40)
الخلاف فيما عدا ليلة النحر، وهذا واضح،
لأن الوقت في الذبح إنما يدخل بعد مضي جزء من النهار كما تقدم، اهـ.
فعلى الأولى إن ذبح ليلا لم تجزئه أضحيته، لكن في الواجب يلزمه البدل، وفي
التطوع يكون ذبحه ذبح لحم، وعلى الثانية تجزئ لكنه يكره حذارا من الخلاف،
والله أعلم.
قال: فإن ذبح قبل ذلك لم تجزئه.
ش: إذا ذبح قبل وقت الذبح، بأن ذبح في اليوم الأول قبل مقدار الصلاة
والخطبة، أو مقدار الصلاة على ما تقدم من الخلاف، وفي اليوم الثاني، وكذا
الثالث قبل طلوع فجرهما على مختاره لم تجزئه لإيقاع ذلك في غير وقته، أشبه
ما لو صلى قبل الوقت، وقد شهد لذلك ما تقدم في حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ - «من ذبح قبل الصلاة فإنما يذبح لنفسه» والله أعلم.
قال: ولزمه البدل.
ش: لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من ذبح
قبل أن يصلي فليذبح مكانها أخرى» وفي لفظ «فليعد»
(7/41)
وكلام الخرقي يشمل الأضحية الواجبة وغيرها،
وهو ظاهر الحديث، لكن أبا محمد وغيره حملوا على الواجب بنذر أو بتعيين، أما
ما ذبحه تطوعا فلا بدل عليه إلا أن يشاء، لأن غايته أنه قصد تطوعا فأفسده،
فصار كما لو خرج بصدقة تطوع فدفعها لغير مستحقها، وحمل أبو محمد الحديث على
الندب، أو على التخصيص بمن وجبت عليه. قلت: وأولى المحملين الأول، لأن
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حكم حكما عاما، فدعوى التخصيص
لا دليل عليه.
والبدل الواجب مثل المذبوح أو خير منه، قال أبو محمد: وهو بظاهره مشكل، إذ
الحيوان عند الأصحاب متقوم بلا ريب، وكأن أبا محمد إنما أراد أن يشتري
بقيمته مثله، وترك بيان ذلك إحالة على ما تقدم له، وقد قال هو والأصحاب
فيما إذا أوجب أضحية ثم أتلفها: إنه يضمنها بقيمتها تصرف في مثلها، ثم
اختلفوا هل يضمنها بقيمتها يوم الإتلاف فقط، وهو قول القاضي، وتبعه أبو
الخطاب في خلافه، أو بأعلى القيمتين، وهو قول أكثر أصحاب القاضي؟ على
قولين. وعلى القول الثاني: أعلى القيمتين هو من حين الإيجاب إلى حين التلف،
عند ابن عقيل، وصاحب التلخيص، ومن حين التلف إلى حين جواز الذبح، عند
الشريف وأبي الخطاب في الهداية، والشيرازي والشيخين وغيرهم.
(تنبيه) : الشاة المذبوحة شاة لحم كما في الحديث، يصنع بها ما شاء، هذا
المشهور، ولأبي محمد احتمال أن حكمها
(7/42)
حكم الأضحية، كالهدي إذا عطب، لا يخرج عن
حكم الهدي على رواية، ويكون معنى قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
- «شاة لحم» أي في فضلها وثوابها خاصة، دون ما يصنع بها.
[ذبح الكتابي للأضحية]
قال: ولا يستحب أن يذبحها إلا مسلم.
ش: لا نزاع في ذلك، لأنها قربة وطاعة، فلا يليها غير أهل القرب، ومقتضى
كلام الخرقي أنه يجوز أن يذبحها غير المسلم، ومراده بذلك الكتابي، بدليل ما
تقدم له، وقد اختلف عن أحمد في ذلك، (فعنه) - وهو اختيار الخرقي وعامة
الأصحاب - يجوز، لأنه يجوز له ذبح غير الأضحية، فجاز له ذبح الأضحية
كالمسلم، ولأن الكافر يجوز أن يتولى ما هو قربة للمسلم كبناء المساجد ونحو
ذلك، (وعنه) المنع.
3636 - لأن في حديث ابن عباس الطويل «ولا يذبح ضحاياكم إلا طاهر» .
3637 - وقال جابر: لا يذبح النسك إلا مسلم. وحملا على الكراهة التنزيهية،
اهـ.
ويشترط أن ينوي المسلم ذلك، ويكون توكيل الذمي في
(7/43)
مجرد النحر، نعم في المعينة لا يحتاج إلى
نية، نظرا للتعيين.
(تنبيه) : عامة الأصحاب على حكاية الروايتين على الإطلاق، وخصهما ابن أبي
موسى والشيرازي بالبقر والغنم، وجزما في الإبل بعدم الإجزاء، وقال الشريف
وأبو الخطاب في خلافيهما: هذا - أي جواز ذبح الكتابي - على الرواية التي
تقول: الشحوم المحرمة على اليهود لا تحرم علينا، زاد الشريف: أو على كتابي
نصراني، ومقتضى هذا أن محل الروايتين على القول بحل الشحوم، أما إن قلنا
بتحريم الشحوم فلا يلي اليهودي بلا نزاع، وقد أشار أبو محمد إلى هذا، فإنه
علل المنع بأن الشحم محرم علينا، فيكون ذلك إتلاف جزء منها، وأجاب بمنع
تحريم الشحم.
[استحباب أن يذبح المضحي بنفسه]
قال: فإن ذبحها بيده كان أفضل.
ش: اقتداء بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإنه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضحى بكبشين أقرنين أملحين، ذبحهما بيده، وسمى
وكبر، ووضع رجله على صفاحهما، ونحر من البدن التي ساقها في حجته ثلاثا
وستين بدنة، ولأن فعل القرب أولى من الاستنابة فيها، فإن استناب جاز بلا
نزاع، وقد استناب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما غبر
عليه من بدنه، والمستحب إذا لم يذبح بيده أن يمسك المدية بيده حال الإمرار،
فإن لم فليحضر، لأن في حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الطويل
«واحضروها إذا ذبحتم، فإنه يغفر
(7/44)
لكم عند أول قطرة من دمها» والله أعلم.
[النية والتسمية عند الأضحية]
قال: ويقول عند الذبح: باسم الله والله أكبر.
ش: قد تقدم هذا، وأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سمى
وكبر، والأولى أن يكون ذلك عند تحريك يده بالذبح، والله أعلم.
قال: فإن نسي لم يضره.
ش: إذا نسي التسمية فلا يضره، وقد تقدم ذلك والخلاف فيه، فلا حاجة إلى
إعادته.
قال: وليس عليه أن يقول عند الذبح عمن، لأن النية تجزئ.
ش: لا ريب في الاكتفاء بالنية، إذ الأعمال بها، نعم إن ذكر من ضحى عنه
فحسن.
3638 - لأن في حديث جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اللهم منك وإليك عن محمد وأمته، باسم
الله والله أكبر» ثم ذبح» .
(7/45)
وقول الخرقي: لأن النية تجزئ. إشعار بأنه
لا بد من النية، ولا إشكال أنها لا تصير أضحية إلا بالنية، بقي هل تحتاج
إلى تجديد النية عند الذبح؟ قال في التلخيص: إذا قال: جعلت هذه أضحية.
أغناه عن تجديد النية عند الذبح، وكذا إذا نذرها بعينها، بخلاف ما إذا
نذرها في ذمته، ثم قال: جعلتها هذه. فإنه لا بد وأن ينويه وقت الذبح. قلت:
وعلى هذا ففي المتطوع به لا بد وأن ينويه عند الذبح.
[الاشتراك في الأضحية]
قال: ويجوز أن يشترك السبعة فيضحوا بالبقرة أو البدنة.
ش: قد تقدمت هذه المسألة في أول الباب، وقد يقال: إنه إنما أعادها هاهنا
لأن كلامه السابق في أن البدنة أو البقرة تجزئ عن سبعة، فهذا قد يقال فيما
إذا ذبحها ذابح عنهم ونحو ذلك، وهذه المسألة فيما إذا اشتركوا فيها،
والأجود أن يقال: إن كلامه السابق في الواجب، إذ الإجزاء مشعر بذلك، وهنا
في التطوع، ونبه بذلك على مخالفة من فرق بينهما اهـ.
(7/46)
(تنبيه) : الاعتبار أن يشترك الجميع دفعة،
فلو اشترك ثلاثة في بقرة أضحية، وقالوا: من جاء يريد أضحية شاركناه. فجاء
قوم فشاركوهم، لم تجزئ إلا عن الثلاثة، قاله الشيرازي.
[حكم العقيقة]
قال: والعقيقة سنة.
ش: قال الأزهري: قال أبو عبيد: قال الأصمعي وغيره: العقيقة أصلها الشعر
الذي يكون على رأس الصبي حين يولد، وسميت الشاة المذبوحة عند حلق شعره
عقيقة، على عادتهم في تسمية الشيء باسم سببه، ثم اشتهر ذلك فلا يفهم من
العقيقة عند الإطلاق إلا الذبيحة، وقال ابن عبد البر: أنكر أحمد هذا
التفسير، وقال: إنما العقيقة الذبح نفسه، وذلك لأن أصل العق القطع، ومنه:
عق والديه.
إذا قطعهما، والذبح قطع الحلقوم والمريء.
والعقيقة مشروعة مطلوبة عندنا بلا ريب.
3639 - لما روي «عن أم كرز الكعبية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها سألت
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن العقيقة، فقال: «نعم
عن الغلام شاتان، وعن الأنثى واحدة، ولا يضركم ذكرانا كن أو إناثا» » .
رواه أحمد، والترمذي وصححه.
(7/47)
3640 - «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عق عن الحسن
والحسين كبشا كبشا» . رواه أبو داود والنسائي، وقال: بكبشين كبشين.
3641 - وعن بريدة الأسلمي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنا في الجاهلية
إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاة ولطخ رأسه بدمها، فلما جاء الإسلام كنا نذبح
شاة ونحلق رأسه ونلطخه بزعفران. رواه
(7/48)
أبو داود وقال أحمد: العقيقة سنة عن رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قد عق عن الحسن والحسين، وفعله
أصحابه.
واختلف أصحابنا هل تنتهي هذه المطلوبية إلى الوجوب؟ فقال أبو بكر في
التنبيه بانتهائها إلى ذلك، قال أبو الخطاب: ويحتمله كلام أحمد.
3642 - لما روى الحسن، عن سمرة، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «كل غلام مرتهن بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويحلق رأسه
ويسمى» . رواه الخمسة وصححه الترمذي. وقال الإمام أحمد والنسائي وغيرهما:
لم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة.
(7/49)
3643 - وعن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده،
«أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بتسمية المولود يوم
سابعه، ووضع الأذى عنه والعق» . رواه الترمذي وقال: حسن غريب.
وقال عامة الأصحاب - وهو المعروف عن أحمد - بعدم انتهائها إلى ذلك، ووقفوا
عند القول باستحبابها.
3644 - لما روي عن عمرو بن شعيب أيضا، عن أبيه، عن جده، قال: «سئل النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن العقيقة، فقال: «لا أحب العقوق»
وكأنه كره الاسم، فقالوا: يا رسول الله، إنما نسألك عن
(7/50)
أحدنا يولد له. قال: «من أحب أن ينسك عن
ولده فليفعل، عن الغلام شاتان متكافئتان، وعن الجارية شاة» » رواه أحمد،
وأبو داود، والنسائي، وإذا يحمل ما تقدم على تأكيد الاستحباب، جمعا بين
الأدلة، ويرجحه الأمر بالتسمية يوم السابع والحلق، وليس ذلك بواجب، وإذا
كانا مستحبين فكذلك الذبح، حذارا من استعمال الأمر في حقيقته ومجازه، لا
لمجرد دلالة الاقتران.
[على من تكون العقيقة ووقت ذبحها]
قال: عن الغلام شاتان، وعن الجارية شاة.
ش: لما تقدم من حديثي أم كرز، وعبد الله بن عمرو، وعق النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الحسن والحسين قد جاء فيه كبش، وجاء
كبشان، مع أن رواية الكبش قد تحمل على الجواز، وعلى عدم الوجدان، وكذا نقول
بجواز أن يذبح شاة واحدة إذا لم يقدر على غيرها، والأولى كون الشاتين
متماثلتين، لما تقدم في الحديث «متكافيتان» قال أحمد: يعني متقاربتين
(7/51)
أو متساويتين.
قال: تذبح يوم السابع.
ش: وذلك لما تقدم من حديثي سمرة وعبد الله بن عمرو، وظاهر كلام الخرقي أن
جميع العقيقة تذبح يوم السابع، وقال ابن البنا: تذبح إحدى شاتي الغلام يوم
ولادته، والأخرى يوم سابعه، والأول هو المعروف في النقل، وهو ظاهر الحديث،
فإن فات السابع فقال الأصحاب في أربع عشرة، فإن فات ففي إحدى وعشرين.
3645 - لأن ذلك يروى عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وهذا على سبيل
الاستحباب وبعد يجزئ لحصول المقصود، وكذلك قبل بعد الولادة، إذ هو أول
الوقت، فإن تجاوز إحدى وعشرين ففيه احتمالان: (أحدهما) : يستحب في كل سابع،
فيذبح في ثمانية وعشرين، ثم في خمس وثلاثين، وعلى هذا قياسا على ما تقدم.
(والثاني) : يفعل في كل وقت، لأن هذا قضاء، فلم يتوقت كقضاء الأضحية
وغيرها.
(7/52)
[ما يجزئ في
العقيقة ومصرفها]
قال: ويجتنب فيها من العيوب ما يجتنب في الأضحية.
ش: يجتنب في العقيقة من العيب ما يجتنب في الأضحية، لأنها قربة يتقرب بها
إلى الله تعالى، شكرا على نعمته، فأشبهت الأضحية، فعلى هذا لا يعق بعوراء
بين عورها، ولا عرجاء بين عرجها، ولا مريضة بين مرضها، ولا عجفاء لا تنقي،
وبيان ذلك مفصلا قد تقدم.
قال: وسبيلها في الأكل والصدقة والهدية سبيلها.
ش: لأنها نسيكة مشروعة، أشبهت الأضحية، قال أبو محمد: وإن طبخها ودعا
إخوانه فأكلوها فحسن.
قال: إلا أنها تطبخ أجدالا.
ش: يعني أن الأولى في العقيقة أن تفصل الأعضاء، فتطبخ كذلك، ولا تكسر
عظامها، تفاؤلا بسلامة المولود.
3646 - وفي مراسيل أبي داود، عن جعفر، عن أبيه «، أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: في العقيقة التي عقتها فاطمة عن الحسن
والحسين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - «أن يبعثوا إلى بيت القابلة برجل،
وكلوا وأطعموا، ولا تكسروا منها عظما» ولهذا قال أبو بكر في التنبيه: يعطي
القابلة منها فخذا.
(تنبيه) : الأجدال واحدها جدل بالدال غير المعجمة وهو العضو، والله سبحانه
أعلم.
(7/53)
|