شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب الأيمان والنذور] [أولا: كتاب الأيمان]
ش: الأيمان جمع يمين، وهي في أصل اللغة الحلف بمعظم في نفسه أو عند الحالف، على أمر من الأمور، بصيغ مخصوصة، كقوله: والله لأفعلن. وحياتك لأركبن، والأصل في مشروعيتها الإجماع، وقد شهد لذلك أمر الله تعالى نبيه بها، قال سبحانه: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} [يونس: 53] وقال تعالى: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} [التغابن: 7] {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3] وقال سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] الآية.
3659 - ومن السنة قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيرا منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها» متفق عليه.

[اليمين المنعقدة]
قال: ومن حلف أن يفعل شيئا فلم يفعله، أو لا يفعل شيئا ففعله فعليه الكفارة.
ش: الأصل في هذا في الجملة قول الله تعالى:

(7/64)


{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] الآية.
3660 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير» رواه مسلم وغيره.
3661 - وعن أبي موسى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير، أو أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني» متفق عليه. في عدة أحاديث سوى هذين.
وقد شمل كلام الخرقي ما كان فعله معصية، فلو حلف أن يفعل معصية فلم يفعلها فعليه الكفارة، وهذا قول العامة لما تقدم، وقيل لا كفارة في ذلك.
3662 - لما روي من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا نذر فيما لا يملك ابن آدم، ولا في معصية، ولا في قطيعة رحم، ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليدعها، وليأت الذي هو خير،

(7/65)


فإن تركها كفارتها» رواه أبو داود والنسائي، لكن قال فيه أبو داود: الأحاديث كلها عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وليكفر عن يمينه إلا ما لا يعبأ به. وهذه إشارة إلى ضعفه وشذوذه.
3663 - وقد «روى الأحوص عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قلت: يا رسول الله، أرأيت ابن عم لي آتية أسأله فلا يعطيني، ولا يصلني، ثم يحتاج إلي فيأتيني فيسألني، وقد حلفت أن لا أعطيه ولا أصله؟ فأمرني أن آتي الذي هو خير، وأكفر

(7/66)


عن يميني» . رواه النسائي.
وقول الخرقي: حلف أن يفعل شيئا فلم يفعله، هذا إذا كانت يمينه مؤقتة ففات الوقت، أو كانت مطلقة ففات وقت الإمكان، وبيان ذلك له محل آخر، والله أعلم.

[من شرط الحنث في اليمين التذكر]
قال: فإن فعله ناسيا فلا شيء عليه إذا كانت اليمين بغير الطلاق والعتاق.
ش: لما قال - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن من حلف على ترك شيء ففعله فعليه الكفارة، قال: إن هذا مقيد بما إذا فعله ذاكرا ليمينه، أما إذا فعله ناسيا لها - واليمين بغير الطلاق والعتاق فلا شيء عليه، لعموم قول الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] .
3664 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه» .

(7/67)


وإن كانت اليمين بالطلاق والعتاق فإنهما يلزمانه، لترددهما بين التعليق بالشرط - لأن صورتهما صورته - وبين اليمين، لوجود معنى اليمين فيهما وهو الحث أو المنع، فغلب جانب التعليق احتياطا للفروج، ولفكاك الرقاب، وأيضا فقد تقدم أن أصل اليمين في اللغة الحلف بمعظم، والحلف بالطلاق والعتاق - كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو فعبدي حر - ليس كذلك، وإنما هو جزاء أو شرط، والأصل البقاء وعدم النقل، وتسمية ذلك حلفا إنما هو مجاز، لما فيه من الحث أو المنع، والأصل الحقيقة، وهذا هو المذهب عند الأصحاب.
وفي المذهب (رواية ثانية) لا يحنث في الجميع، اعتمادا على عموم الآية والحديث، إذ الحث والمنع في اليمين بمنزلة الطاعة والمعصية في الأمر والنهي، وقد استقر أن فاعل المنهي عنه ناسيا أو مخطئا لا يكون آثما ولا مخالفا، فكذلك من فعل المحلوف على تركه ناسيا أو جاهلا، لا يكون حانثا، ولا مخالفا ليمينه، وهذه الراوية اختيار أبي العباس، وقال: قد نظرت جوابه في هذه الرواية فوجدت الناقلين له بقدر الناقلين لجوابه في الرواية الأولى، التي هي رواية التفرقة (وعنه رواية ثالثة) يحنث في الجميع، وهي أضعفهن، لأنه فعل ما حلف عليه قاصدا لفعله، فأشبه الذاكر.
(تنبيه) : وحكم جاهل المحلوف عليه - كمن حلف لا يسلم

(7/68)


على فلان، فسلم عليه يحسبه غيره، أو أن لا يفارق غريمه حتى يستوفي حقه، فأعطاه قدر حقه، ففارقه ظنا منه أنه قد بر فوجد ما أخذه ردئيا ونحو ذلك حكم الناسي على ما تقدم، (أما المكره) بغير الإلجاء ففيه روايتان، والذي نصره أبو محمد عدم الحنث، نظرا إلى أن الفعل لا ينسب إليه، وخرج التفرقة بين الطلاق والعتاق وغيرهما من الرواية ثم وإن كان الإكراه بالإلجاء - كمن حلف لا يدخل دارا، فحمل وأدخلها، ولم يقر على الامتناع - لم يحنث، لعدم نسبة الفعل إليه، وإن قدر على الامتناع فوجهان: (الحنث) لأن قدرته على الامتناع بمنزلة فعله (وعدمه) لانتفاء الفعل منه حقيقة، والفاعل في حال الجنون قيل كالناسي، لأن فعله قد يعتبر، بدليل صحة إيلائه، والأصح عدم حنثه مطلقا كالنائم.

[اليمين الغموس]
قال: من حلف على شيء وهو يعلم أنه كاذب فلا كفارة عليه، لأن الذي أتى به أعظم من أن تكون فيه الكفارة.
ش: كذلك قال أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في رواية الجماعة: هو أعظم من أن تكون فيه كفارة، وعليه الأصحاب.
3665 - وذلك لما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خمس ليس لهن كفارة: الشرك بالله، وقتل

(7/69)


النفس بغير حق، ونهب المؤمن، والفرار يوم الزحف، ويمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق» .
3666 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «اختصم إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجلان، فوقعت اليمين على أحدهما، فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما له عندي شيء. قال: فنزل جبريل على النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إنه كاذب، إن له عنده حقه، فأمره أن يعطيه حقه وكفارة يمينه معرفته أن لا إله إلا الله أو شهادته» . . . رواهما أحمد، وروى الثاني أبو داود بنحوه،

(7/70)


فأخبر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الأول أن هذه اليمين لا كفارة لها، وأخبر جبريل في الثاني أن كفارتها الشهادة، لا الكفارة التي أوجبها الله تعالى في تعقيد الأيمان، وكلامنا فيها، وأيضا فإن هذه اليمين أعظم من أن تكفر، كما قال أحمد، إذ الكفارة لا ترفع إثمها، ولا تمحو ما حصل بها، وبيان ذلك أنها كبيرة، أو من أعظم الكبائر.
3667 - ففي البخاري عن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «جاء أعرابي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، ما الكبائر؟ قال: «الإشراك بالله» قال: ثم ماذا؟ قال: «ثم عقوق الوالدين» قال: ثم ماذا؟ قال: «اليمين الغموس» قلت: وما اليمين الغموس؟ قال: التي يقتطع بها مال امرئ مسلم هو فيها كاذب.» 3668 - وعن عبد الله بن أنيس، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أكبر الكبائر الشرك بالله، وعقوق الوالدين، واليمين الغموس وما حلف حالف بالله يمين صبر، فأدخل فيها جناح بعوضة، إلا جعلت نكتة في قلبه إلى يوم القيامة» رواه أبو داود،

(7/71)


وأيضا فهي يمين غير منعقدة، فلا توجب كفارة كاللغو، وبيان عدم انعقادها أنها لا تقتضي برا، ولا يمكن فيها، واليمين المنعقدة هي التي يمكن فيها البر والحنث.
3669 - وقد روى ابن أبي شيبة عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليمين حنث أو ندم» » فجعل اليمين مترددة بين شيئين الحنث أو الندم، وهذه حنث فقط بل وندم.
(وعن أحمد) رواية أخرى تجب فيها الكفارة، لأنه وجدت منه اليمين والمخالفة مع القصد، فأوجبت الكفارة كالمستقبلة ولأن الكفارة إذا وجبت مع غير الغموس أولى، وجواب هذا قد تقدم، وهو أن هذه لعظمها قصرت الكفارة عن الدخول فيها.
3670 - قال ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كنا نعد من الأيمان التي لا كفارة فيها اليمين الغموس.

(7/72)


(تنبيه) اليمين الغموس التي تغمس صاحبها في النار، وهي يمين الصبر، وأصل الصبر الحبس، فيمين صبر أي يمين حبس، لأنها تحبس صاحبها.

[اليمين اللغو]
قال: والكفارة إنما تلزم من حلف وهو يريد عقد اليمين.
ش: الكفارة إنما تلزم من حلف وهو قاصد لعقد اليمين، فلو مرت اليمين على لسانه من غير قصد إليها، كقوله: لا والله، وبلى والله، في عرض حديثه، فلا كفارة عليه، لأنه من لغو اليمين.
3671 - قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنزلت هذه الآية: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] في قول الرجل: لا والله وبلى والله. أخرجه البخاري وأبو داود، وقال بعض المحدثين: وطريقة البخاري في صحيحه تقتضي أن نحو هذا من باب المرفوع، قلت: وكذلك جاء مصرحا به في

(7/73)


رواية أخرى لأبي داود، قال: اللغو في اليمين قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هو قول الرجل في بيته كلا والله، وبلى والله» » . وكذلك قال أهل اللغة: اللغو ما اطرح ولم يعقد عليه، وإذا كان من اللغو فلا كفارة فيه بدليل الآية الكريمة، فإن الله سبحانه نفى المؤاخذة فيه، وجعل المؤاخذة والكفارة فيما عقدنا من الأيمان، وكلام الخرقي يشمل الماضي والمستقبل، وهو ظاهر قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - (وفي المذهب رواية أخرى) في المستقبل أنه ليس من اللغو، فيجب فيه الكفارة.
وقد خرج من كلام الخرقي من لا قصد له أصلا، كالنائم والطفل، والمجنون، ونحوهم، وفي معنى ذلك السكران، لانتفاء القصد منه، وأبو محمد يجري فيه القولين من الروايتين في طلاقه.
ومما يلحق بذلك المكره، لأن قصده كلا قصد، وكذلك الصبي، لأنه وإن كان له قصد إلا أن الشارع رفع القلم عنه، ورفع القلم يقتضي أن لا تلزمه كفارة.

(7/74)


ودخل في كلامه الكافر فتصح يمينه، وتلزمه الكفارة، وإن حنث في كفره، لأنه مكلف، ولأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر عمر بالوفاء بنذر الاعتكاف الذي نذره في الجاهلية والنذر حلف.

قال: ومن حلف على شيء وهو يرى أنه كما حلف عليه فلم يكن فلا كفارة عليه، لأنه من لغو اليمين.
ش: اليمين على الماضي إما صادقا فيها فهو بار إجماعا، وإما كاذبا فيها متعمدا فهي اليمين الغموس، وقد تقدمت، وإما مخطئا معتقدا أن الأمر كما حلف عليه، فهذه صورة الخرقي، وهي عنده من لغو اليمين وإذا كانت من لغو اليمين فلا كفارة فيها، وبيان أنها من لغو اليمين أن المؤاخذة منتفية فيها، إذ المؤاخذة إنما تكون مع قصد المخالفة ولا مخالفة، ولهذا لا يأثم الحالف والحال هذه، وقيل عن أحمد (رواية أخرى) : إن هذا ليس من لغو اليمين، وتجب به الكفارة، نظرا لظاهر حديث عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فإن ظاهره حصر اللغو في الأول، ولأن اليمين بالله وجدت مع المخالفة، فأوجبت الكفارة، كاليمين على مستقبل.
(تنبيه) : الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يجعل لغو اليمين شيئين: (أحدهما) : أن لا يقصد عقد اليمين، كقوله: لا والله وبلى والله، سواء كان ذلك في الماضي أو في المستقبل. (والثاني) : أن يحلف على شيء فيتبين بخلافه، وهذه طريقة ابن أبي موسى

(7/75)


وغيره، وهي في الجملة ظاهر المذهب، والقاضي يجعل الماضي لغوا قولا واحدا، وفي سبق اللسان في المستقبل روايتان، وأبو محمد عكسه يجعل سبق اللسان في المستقبل لغوا قولا واحدا وفي الماضي روايتان، ومن الأصحاب من يحكي روايتين في الصورتين، ويجعل اللغو في إحدى الروايتين هذا دون هذا، وفي الأخرى هذا دون هذا، وجمع أبو البركات بين طريقتي القاضي وأبي محمد، فحكى المسألة على ثلاث روايات، فإذا سبق على لسانه في الماضي: لا والله، وبلى والله. في اليمين معتقدا أن الأمر كما حلف عليه فهذا لغو اتفاقا، وإن سبق على لسانه اليمين في المستقبل، أو تعمد اليمين على أمر يظنه كما حلف عليه فتبين بخلافه، فثلاث روايات (كلاهما لغو) وهو المذهب (الحنث) في الماضي دون ما يسبق على لسانه (وعكسه) وقد تلخص لك في المسألة خمس طرق، والمذهب منها في الجملة قول الخرقي.

[اليمين المكفرة]
قال: واليمين المكفرة أن يحلف بالله عز وجل، أو باسم من أسمائه.
ش: لا نزاع أن الحلف بالله عز وجل يمين مكفرة.
3672 - وقد قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من كان حالفا فليحلف بالله أو

(7/76)


ليصمت» متفق عليه، وكذلك الحلف باسم من أسمائه في الجملة، وقد أمر الله سبحانه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحلف بربه كما تقدم.
3673 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «أكثر ما كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يحلف لا ومقلب القلوب» رواه البخاري وغيره.
3674 - وفي النسائي والمسند أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمرهم إذا أرادوا أن يحلفوا أن يقولوا: ورب الكعبة» . ولا يناقض هذا قول

(7/77)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله» إذ الحالف بجميع أسماء الله أو صفاته حالف بالله، وأسماء الله بالنسبة إلى هذا المقام تنقسم ثلاثة أقسام: (أحدها) : ما لا يسمى به غيره، نحو والله، والأول الذي ليس قبله شيء، والآخر الذي ليس بعده شيء، ورب العالمين، ومالك يوم الدين، والحي الذي لا يموت، وخالق الخلق، ونحو ذلك، وكذلك والرحمن، على الصحيح، فهذا القسم به يمين مكفرة بكل حال، لاستحالة صرف ذلك إلى غير الله تعالى. (الثاني) : ما قد يسمى به غير الله، لكن إطلاقه ينصرف إلى الله سبحانه، كالخلق، والرازق والرب، والمولى والرحيم، ونحو ذلك، فهذا إن نوى به اسم الله أو أطلق كان يمينا، نظرا لما يفهم منه عند ذلك، وإن نوى غير الله فليس بيمين على المذهب، لصحة إطلاقه عليه، قال الله سبحانه حكاية عن يوسف - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: {ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ} [يوسف: 50] و {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] وقال سبحانه: {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} [النساء: 8] وقال عن نبيه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] وإذا نوى

(7/78)


بلفظه ما يحتمله فينصرف إليه، وقال طلحة العاقولي: إن أتى بذلك معرفا نحو: والخالق والرازق. كان يمينا مطلقا، لأنه لا يستعمل مع التعريف إلا في اسم الله تعالى. (الثالث) : ما يسمى به الله سبحانه، لكن لا ينصرف إطلاقه إلى الله سبحانه، كالحي والعالم والموجود، والكريم، فهذا إن نوى به غير الله، أو أطلق فليس بيمين، نظرا لما يفهم منه عند الإطلاق، وإن نوى به الله تعالى فهو يمين عند الشيخين وغيرهما، لأنه قصد الحلف بما يسمى به الله سبحانه، أشبه القسم الذي قبله، وقال القاضي وابن البنا: لا يكون يمينا، لأن اليمين انعقادها لحرمة الاسم، ومع الاشتراك لا حرمة، والنية المجردة لا تنعقد بها اليمين، وأجيب بأن الانعقاد بالاسم المحتمل المنوي به أحد محتملاته، فيصير كالمصرح به، والله أعلم.

قال: أو بآية من القرآن.
ش: لما قال الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إن الحالف بالله تعالى أو بأسمائه تكون يمينه مكفرة، أشار إلى أن الحالف بصفاته سبحانه كذلك، كأن يحلف بكلام الله، أو بالمصحف،

(7/79)


أو بالقرآن، أو بآية منه، أو بعزة الله، أو بعظمته، أو علمه، ونحو ذلك.
3675 - وفي حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لما خلق الله الجنة أرسل جبريل فقال: انظر إليها وإلى ما أعددت لأهلها. فقال: وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها» .
3676 - وفي حديثه أيضا عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يبقى رجل بين الجنة والنار، فيقول: يا رب اصرف وجهي عن النار، لا وعزتك لا أسألك غيرها» متفق عليهما.

(7/80)


3677 - وفي حديث اغتسال أيوب «بلى وعزتك» ثم إن الصفات أيضا تنقسم ثلاثة أقسام: (أحدها) ما هو صفة لذاته سبحانه، لا يحتمل غيرها، كعزة الله، وعظمته، وكبريائه، وكلامه، ونحو ذلك، فهذا القسم به يمين بكل حال. (الثاني) : ما هو صفة لذاته لكن قد يعبر به عن غيرها مجازا، كعلم الله وقدرته، فإنها قد يراد بها معلوم الله ومقدوره، كقولهم: اللهم اغفر لنا علمك فينا. أي ما علمته فينا، ويقال: انظر إلى قدرة الله، أي مقدوره، فهذا مع الإطلاق يكون يمينا، اعتمادا على ما يفهم منه عند التخاطب، وكذلك مع قصد صفة الله تعالى بلا ريب، ومع إرادة المعلوم أو المقدور لا يكون يمينا، على قياس ما تقدم فيما إذا نوى بالرب غير الله سبحانه، والمنصوص عن أحمد أن ذلك يكون يمينا بكل حال، ولا يقبل منه فيه غير صفة الله، ولعله يريد في الحكم.
(الثالث) : ما لا ينصرف بإطلاقه إلى صفة الله تعالى، لكن ينصرف بالنية أو بإضافته إليه لفظا، كالعهد والميثاق، ونحو ذلك، فهذا لا يكون يمينا مكفرة إلا بالنية. أو بالإضافة كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

قال: أو بصدقة ملكه أو بالحج.
ش: أي ومن الأيمان المكفرة الحلف بصدقة ملكه

(7/81)


أو الحج، كأن يقول: إن دخلت الدار، أو كلمت زيدا، أو نحو ذلك فعلي الحج، أو فلله علي الصدقة بمالي أو عتق عبدي، ونحو ذلك، وضابطه أن يخرج النذر مخرج اليمين، بأن يمنع نفسه أو غيره به شيئا، أو يحث به على شيء، ويسمى هذا نذر اللجاج والغضب، واختلف عن أحمد في حكمه، (فعنه) أن الواجب فيه الكفارة ليس إلا، حتى لو فعل المنذور لم يجزئه.
3678 - لما روى سعيد بن منصور في سننه، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن محمد بن الزبير الحنظلي، عن أبيه، عن عمران بن حصين، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين» لكنه ضعيف من قبل محمد بن الزبير.

(7/82)


3679 - وروى عبد الرزاق، عن يحيى بن أبي كثير، عن رجل من بني حنيفة، وعن أبي سلمة كلاهما عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لا نذر في غضب، ولا في معصية الله، وكفارته كفارة يمين» ، وهذا وإن كان مرسلا لكنه يتقوى بالذي قبله.
3680 - ثم يعضد ذلك ما روى أبو داود في سننه، عن سعيد بن المسيب، أن «رجلين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة، فقال: إن عدت تسألني فكل مال لي في رتاج الكعبة، فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن الكعبة غنية عن مالك، كفر عن يمينك، وكلم أخاك،

(7/83)


سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم وفيما لا يملك» » .
3681 - ويروى نحو هذا أيضا عن ابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وحفصة، وزينب بنت أبي سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. ولا يعرف عن غيرهم خلافهم، ومثل ذلك لا يتقاصر عن تخصيص إطلاق الأمر بالوفاء بالنذر، ثم بالنظر إلى المعاني، وقد علم أن قول القائل: إن فعلت كذا فعلي الحج، ونحو ذلك ليس مقصوده الشرط ولا الجزاء، بل منع نفسه من ذلك، فهو كاليمين، فيدخل في قَوْله تَعَالَى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]

(7/84)


الآية، وهذا بخلاف قوله: إن شفى الله مريضي فعلي الحج، ونحو ذلك، فهذا المقصود فيه وجود الشرط والجزاء، والمعتبر المقاصد، (وعنه) - وهو ظاهر كلام الخرقي، والمذهب بلا ريب - يتخير بين فعل ذلك، عملا بما التزمه، وبين كفارة اليمين لما تقدم، ويحكى عن ابن عقيل في الواضح أنه قال: يفعله.

قال: أو بالعهد.
ش: أي ومن اليمين المكفرة الحلف بالعهد، وقد يشمل كلام الخرقي (ما إذا نوى بذلك صفة الله تعالى) ، وما إذا لم ينو، ولا ريب أنه إذا نوى به صفة الله تعالى أنه يكون يمينا، إذ العهد يحتمل أن يراد به كلام الله تعالى الذي أمرنا أو نهانا به، كقوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَابَنِي آدَمَ} [يس: 60] ولا ريب أن كلامه صفة له سبحانه، ويحتمل أن يراد به استحقاقه لما تعبدنا به، فإذا نوى بالعهد الأول فقد نوى به أحد محتمليه، بل هو الظاهر منه، فيصير كما لو صرح به، (أما إذا لم ينو) فهل هو يمين - وهو ظاهر كلام الخرقي، إذ الألف واللام بدل من المضاف، فكأنه قال: وعهد الله. ولو قال ذلك فهو يمين بلا ريب أو ليس بيمين - وهو ظاهر كلام أبي الخطاب في الهداية، لتردده بين صفة الله تعالى وغيرها، والأصل براءة الذمة؟ فيه روايتان.
(تنبيه) : حكم الميثاق، والعظمة والجلال، والأمانة، حكم

(7/85)


العهد، إن أضاف ذلك إلى الله، أو نوى به صفة الله، فهو يمين، وإن أطلق فروايتان.

قال: أو بالخروج من الإسلام.
ش: أي ومن اليمين المكفرة الحلف بالخروج من الإسلام، كأن يقول: إن فعل كذا فهو يهودي، أو مجوسي، أو بريء من الإسلام، أو القرآن، أو النبي – عليه أفضل الصلاة والسلام - أو يعبد الصليب، أو يستحل الزنا، أو ترك الصلاة، ونحو ذلك، (وهذا أشهر الروايتين) عن أحمد، واختيار جمهور الأصحاب القاضي، والشريف، وأبي الخطاب، والشيرازي، وابن عقيل وغيرهم، لأن التزام ذلك يقتضي الكفر، وذلك أبلغ في انتهاك الحرمة من انتهاك حرمة القسم، فكان بإيجاب الكفارة أولى.
3682 - وقد «روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه سئل عن الرجل يقول: هو يهودي أو نصراني، أو مجوسي، أو بريء من الإسلام، في اليمين يحلف بها، فيحنث في هذه الأشياء، قال: «عليه كفارة يمين» » . رواه أبو بكر، وهذا نص إن ثبت، لكنه بعيد الثبوت، (والرواية الثانية) لا كفارة في ذلك، وهي اختيار أبي محمد، إذ الوجوب من الشرع، ولم يثبت، ولأن

(7/86)


ذلك ليس باسم الله ولا صفته، فلا يدخل في الأيمان المشروع الحلف بها.
3683 - وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله» .
3684 - وفي الصحيحين أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على يمين بملة غير الإسلام كاذبا فهو كما قال» ولم يأمر في ذلك بكفارة، قال أبو محمد: ويحتمل أن يحمل كلام أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في الرواية الأولى على الندب، لأنه قال في رواية حنبل: أحب إلي أن يكفر كفارة يمين.
(قلت) : وهذا الذي أخذ القاضي منه عدم وجوب الكفارة، وقد نقل عنه حرب التوقف.
وقد خرج من كلام الخرقي إذا قال: أنا أسرق، أو أقتل النفس التي حرم الله، أو قال: أخزاه الله، ونحو ذلك أنه لا يكون يمينا، لأنه ليس بخروج من الإسلام، وكذلك إن قال: عصيت الله في كل ما أمرني به إن فعلت كذا، عند الأصحاب، لأن المتبادر إلى الفهم من ذلك المأمور به من

(7/87)


الفروع، واختار أبو البركات أنه من الأول، لدخول التوحيد فيه، نظرا للعموم، وكذلك عندهم في: محوت المصحف، ونص عليه أحمد، واختار ابن عقيل أنه يمين، لأن ذلك إهانة للمصحف، وإسقاط لحرمته، وإنه كفر، ولو قال: لا يراني الله في موضع كذا إن فعلت كذا، فعند القاضي - وقال: إن أحمد نص عليه - وأبي البركات، هو من الأول، وهو واضح، وخالف أبو محمد فلم يوجب في ذلك كفارة، وظاهر كلامه وإن سلم وجوب الكفارة في الأول.
(تنبيه) : حيث وجبت الكفارة فيما تقدم فإنما تجب بالحنث.
3685 - وفي صحيح مسلم «من حلف باللات فليقل: لا إله إلا الله» فجعل كفارة ما حصل منه قول لا إله إلا الله.

قال: أو بتحريم مملوكه أو شيء من ماله.
ش: أي ومن الأيمان المكفرة إذا حلف بتحريم مملوكه، أو بتحريم شيء من ماله، كأن قال: هذا العبد أو هذا الطعام علي حرام، أو الحل علي حرام. ونحو ذلك - ما عدا الزوجة - إن فعلت كذا، وفعله فعليه الكفارة. نص عليه أحمد، مستدلا بحديث العسل، وهو الذي نزل فيه على الصحيح

(7/88)


قول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] فسمى سبحانه تحريم ما أحله يمينا، وفرض له تحلة وهي الكفارة، وقد اختلف في سبب نزول هذه الآية.
3686 - ففي الصحيحين أنها نزلت في العسل لما شربه، وقال: لن أعود له أو «لا حاجة لي فيه» ثم اختلف في الحديث هل كان ذلك عند حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وأن عائشة وسودة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - في حديث طويل وصفية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تواصوا، وقالوا للنبي: نجد منك ريح مغافير. أو كان ذلك عند زينب بنت جحش - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وأن عائشة وحفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - تواصيا بما تقدم. وقيل نزلت في تحريمه أمة له.
3687 - «فعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان له أمة يطؤها،

(7/89)


فلم تزل به عائشة وحفصة رض الله عنهما حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1] » . رواه النسائي، وقيل: إن هذه الأمة مارية القبطية، وأيا ما كان فهو حجة لما تقدم.
ولم يتعرض الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لما حرمه هل يحرم أم لا؟ والمذهب أنه لا يحرم، ولأبي الخطاب في الهداية احتمال بالتحريم، لكنه يزول بالكفارة، ومنشأ الخلاف أن من نظر إلى أنه تحريم لمباح ألحقه بتحريم الزوجة بالظهار، فحرمه كما تحرم هي، ومن نظر إلى أن هذا داخل بظاهر الآية في الأيمان، فيعطى حكمها، وحكمها أنها لا تحرم شيئا لم يحرمه الله. ونص الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - على تحريم المملوك والمال، لتخرج الزوجة، لأن عنده أن ذلك ظهار، وقد تقدم ذلك.
قال: أو بنحر ولده.
ش: هذا ساقط في بعض النسخ، وثابت في أكثرها،

(7/90)


وبالجملة قد ذكر فيه بعد روايتين، فلنؤخر الكلام عليه إن شاء الله تعالى إلى ثم، والله أعلم.

قال: أو يقول: أقسم بالله، أو أشهد بالله، أو أعزم بالله.
ش: أي ومن اليمين المكفرة الحلف بواحد من هذه الأشياء، هذا قول عامة أهل العلم، إذ لو قال: بالله. ولم يقل: أقسم ولا أشهد. كان يمينا، بتقدير الفعل قبله، لأن الباء تتعلق بمقدر، فإذا نطق بالفعل المقدر كان أولى بثبوت الحكم، لا سيما وقد ثبت لذلك عرف الشرع والاستعمال، قال الله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] .
3688 - «وعن عبد الرحمن بن صفوان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وكان صديقا للعباس أنه لما كان يوم الفتح جاء بأبيه إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله، بايعه على الهجرة، فأبى وقال: «إنها لا هجرة» فانطلق إلى العباس، فقام العباس معه، فقال: يا رسول الله، قد عرفت ما بيني وبين فلان، وأتاك بأبيه لتبايعه على الهجرة فأبيت، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنها لا هجرة» فقال العباس: أقسمت عليك لتبايعنه: قال: فبسط رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يده فقال: «هات أبررت عمي ولا هجرة» .

(7/91)


3689 - وعن أبي الزاهرية، «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أن امرأة أهدت إليها تمرا في طبق، فأكلت بعضه وبقي بعضه، فقالت: أقسمت عليك ألا أكلت بقيته، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أبريها فإن الإثم على المحنث» رواهما أحمد، وإذا كان يمينا من غير ذكر اسم الله، فمع اسم الله أولى وأحرى.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق في هذه الثلاثة بين أن ينوي اليمين أو لا ينوي، وهو قول الجمهور، وخالف أبو بكر في: أعزم بالله. فقال: إن لم ينو اليمين لم يكن يمينا، زاعما بأنه

(7/92)


لم يثبت لذلك عرف الشرع ولا الاستعمال، وللأول احتمال اليمين مع الاقتران بما يقوم مقام النية، وهو الجواب بجواب القسم، والخرقي صور المسألة فيما إذا أتى بذلك بلفظ الاستقبال مع ذكر اسم الله، فلو أتى به بلفظ الماضي، كأن قال: شهدت بالله، أو أقسمت بالله. فكذلك، لما تقدم من حديثي عائشة وعبد الرحمن، ولو لم يأت باسم الله، كأن قال: أقسم أو أقسمت، وفي حديث سليمان - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - أنه قال: «لأطوفن الليلة على سبعين امرأة» ولم يذكر اسم الله، وهو ظاهر في انعقاد اليمين وإن لم يذكر اسم الله في لفظه، أو شهدت أو أشهد، فإن نوى اليمين فهو يمين عندنا بلا خلاف نعلمه، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله، وإن لم ينو اليمين فروايتان: (إحداهما) : - وهي اختيار عامة الأصحاب، الشريف، وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل، والشيرازي، والخرقي، وأبي بكر، فيما قاله أبو الخطاب في الهداية - هو يمين، (أيضا) لما تقدم من حديثي عبد الرحمن وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فإن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يستفصل فيهما هل نويا اليمين أم لا.
3690 - وكذلك في «حديث أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما قال: أقسمت عليك يا رسول الله لتخبرني بما أصبت مما أخطأت. فقال

(7/93)


النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تقسم يا أبا بكر» . رواه أبو داود، (والثانية) - وهي اختيار أبي بكر - لا تكون يمينا، لاحتماله للقسم بالله وبغيره، وإذا لا بد من النية لتميز المراد وتبينه.
(تنبيهان) :
«أحدهما» : ظاهر كلام أبي محمد في المقنع، وأبي البركات أن حكم: أعزم. حكم أقسم وأشهد، إن نوى به اليمين كان يمينا، وإن أطلق فروايتان، وقال أبو محمد في المغني: إذا قال: أعزم أو عزمت. لم يكن قسما، نوى به القسم أو لم ينو، لأنه لم يثبت له عرف في الشرع، ولا الاستعمال في كونه قسما. قلت: وأكثر الأصحاب لم أرهم ذكروا ذلك، وإنما ذكروا: أشهد وأقسم. وزادوا مع ذلك أحلف.
(الثاني) : لو قال: نويت بأقسمت بالله الخبر عن قسم ماض، أو بأقسم. الخبر عن قسم يأتي دين، وهل يقبل منه في الحكم، وهو اختيار أبي محمد، أو لا يقبل، وهو اختيار القاضي؟ فيه قولان.

قال: أو بأمانة الله.
ش: أي ومن الأيمان المكفرة الحلف بالأمانة، وحكم

(7/94)


الحلف بذلك حكم الحلف بعهد الله أو ميثاقه، على ما مر إن أضافها إلى الله، أو نوى بها صفة الله تعالى فهو يمين، وإن قال: والأمانة. وأطلق فروايتان. (تنبيهان) :
«أحدهما» : قال أبو محمد: يكره الحلف بالأمانة.
3691 - لأن في السنن أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف بالأمانة فليس منا» .
3692 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه كان ينهى عن ذلك أشد النهي. (قلت) وظاهر الحديث والأثر التحريم.
(الثاني) : ظاهر كلام الخرقي أن ما عدا ما تقدم من الأيمان بالله تعالى وأسمائه وصفاته، وما ذكره لا يكون يمينا مكفرة، وذلك كالحلف بغير الله تعالى، سواء كان معظما أو غير معظم، أضافه إلى الله تعالى أو لم يضفه، كقوله: ومعلوم الله ومقدوره وخلقه، والكعبة، والنبي، ورأس السلطان، وزيد، ونحو ذلك، وهو كذلك، للنهي عن الحلف بذلك.

(7/95)


3693 - ففي الصحيح أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» .
3694 - وقال: «من كان حالفا فلا يحلف إلا بالله» .
3695 - وقال: «إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم» وإذا كان منهيا عن الحلف بذلك فلا يدخل في الأيمان المشروعة.
واستثنى من ذلك عامة الأصحاب الحلف برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فجعلوا الحلف به يمينا مكفرة. ونص عليه أحمد في رواية أبي طالب لأنه أحد شطري الشهادة، فأشبه الحلف بالشطر الآخر وهو اسم الله، وخالفهم أبو محمد نظرا لما تقدم، ولأنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مخلوق، فأشبه إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وأورد أبو البركات المذهب عدم وجوب الكفارة، وظاهر نقله أن المسألة على روايتين، وخرج على رواية وجوب الكفارة بجواز الحلف به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أما إن لم يجب بالحلف به كفارة فحكمه في الحلف به حكم غيره، هل يكره ذلك، وهو الذي جزم به أبو الخطاب في الهداية، وأبو علي، وابن البنا، وأورده

(7/96)


أبو محمد مذهبا، أو يحرم وهو الذي أورده أبو البركات مذهبا، وهو ظاهر الحديث؟ على قولين، (وعن أحمد) ما يحتملهما، وقال حرب: قلت لأحمد: الرجل يقول: وبيت الله. فكرهه، وقال: هذا حلف بغير الله، والله أعلم.

قال: ولو حلف بهذه الأيمان على شيء واحد فحنث لزمته كفارة واحدة.
ش: كأن حلف بالله، وبالرب، وبالرحمن، وبعهد الله وميثاقه. ونحو ذلك على شيء واحد، فكفارة واحدة، لأن ذلك يمين واحدة، وإنما ذلك تأكيد ومبالغة في الحلف، فهو كما لو قال: والله الذي لا إله إلا هو، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، الطالب الغالب. إلى غير ذلك من تعداد الصفات، وعكس هذه المسألة في الصورة مع الاتفاق في الحكم إذا حلف يمينا واحدة على أشياء مختلفة، إناطة بأنها يمين واحدة، فلم يجب بها أكثر من كفارة واحدة.
وقول الخرقي: ولو حلف بهذه الأشياء كلها على شيء واحد. مفهومه أنه لو حلف بها على أشياء فحنث أنه يجب عليه لكل يمين كفارة، وقد اختلف فيما إذا كرر اليمين على شيء واحد، بأن قال: والله لا أكلت، والله لا أكلت، والله لا أكلت. أو على أشياء بأن قال: والله لا لبست، والله لا شربت، والله لا مشيت، ثم أكل وشرب، ولبس ومشى،

(7/97)


(فعنه) - وهو اختيار أبي بكر والقاضي - تجزئه كفارة واحدة، نظرا إلى أن الكفارات زواجر بمنزلة الحدود، والحدود تتداخل، فكذلك الكفارات، (وعنه) يجب عليه كفارات بعدد ما حلف عليه، نظرا إلى أن كل واحدة يمين منعقدة، فأشبهت الأيمان المختلفة الكفارة، (وعنه) - وإليه ميل أبي محمد، ويحتمله كلام الخرقي - أنها إن كانت على فعل واحد - كوالله لا أكلت، ووالله لا أكلت، ووالله لا أكلت - فكفارة واحدة، نظرا إلى أن ذلك غالبا يستعمل للتأكيد، وإن كانت على أفعال - كوالله لا شربت، ووالله لا لبست، ووالله لا مشيت - فكفارات، لانتفاء التأكيد إذا، (ومحل الخلاف) في الأول إذا لم يرد التأكيد، أما إن أراد التأكيد فلا تجب إلا كفارة واحدة بلا ريب، كما قد نص عليه أحمد في رواية حرب، (ومحل الخلاف) في الثاني إذا كان ذلك قبل التكفير، أما إن حنث مثلا في اللبس فكفر عنه، ثم حنث في الشرب فإنه تجب عليه كفارة ثانية بلا ريب، لانتفاء التداخل إذا.

قال: ولو حلف على شيء واحد بيمينين مختلفتي الكفارة لزمته في كل واحدة من اليمينين كفارتها.
ش: كأن حلف بالله وبالظهار، لانتفاء التداخل، إذ التداخل إنما يكون مع اتحاد الجنس كالحدود من جنس،

(7/98)


والكفارات هنا جنسان، فأشبهتا حد الزنا والسرقة.

قال: ولو حلف بحق القرآن لزمته بكل آية كفارة يمين.
ش: نص أحمد على هذا في رواية حرب وغيره.
3696 - وذلك لما ذكر أبو محمد بن حزم في كتاب الإعراب، قال: وروينا من طريق الحجاج بن منهال، قال: حدثنا أبو الأشهب، عن الحسن، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف بسورة من القرآن فعليه بكل آية منها كفارة يمين صبر، إن شاء بر وإن شاء فجر» وذكر أبو محمد بن قدامة أن الأثرم رواه عن مجاهد، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيحتمل أنه روي من طريقين.
3697 - وهو وإن كان مرسلا، فقد عضده أن ذلك قول ابن مسعود، ولا يعرف عن صحابي غيره خلافه، (وعنه) - وقال أبو محمد: إنه قياس المذهب - يجزئه كفارة واحدة،

(7/99)


بناء على أن الحلف بجميع صفات الله تعالى كما تقدم لا يجب بها أكثر من كفارة واحدة، فالحلف بصفة واحدة - وهي كلامه سبحانه - أولى، قال أبو محمد: ويحتمل أن يحمل كلام أحمد في الأول على الاستحباب، لأنه قال: عليه بكل آية كفارة، فإن لم يمكنه فكفارة واحدة. قلت: وهذا للوجوب أقرب منه للاستحباب، لأن أحمد إنما نقله لكفارة واحدة عند العجز، إذ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وهو لا يطيق إلا ذلك، والحكم فيما إذا حلف بالمصحف أو بكلام الله، كالحكم فيما تقدم، لأن ذلك عبارة عن القرآن، والحكم فيما إذا حلف بسورة من القرآن كالحكم في الحلف بكله، هل يجب عليه بكل آية منها كفارة، أو لا تجب إلا كفارة واحدة؟ فيه القولان.

قال: وقد روي عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيمن حلف بنحر ولده روايتان: إحداهما كفارة يمين، والأخرى يذبح كبشا.

(7/100)


ش: هذا أولا مبني على قاعدة تأتي للخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو أن نذر المعصية ينعقد موجبا لكفارة يمين، إذ ذبح الولد معصية، بل من أعظم المعاصي، قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151] وقال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31] .
3698 - «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أكبر الكبائر أن تجعل لله ندا وهو خلقك» قيل: ثم أي؟ قال: «أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك» » وأمر إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بذبح ولده أمر مختص به، لا يتعداه إلى غيره، ثم قد نسخ ذلك بالفداء بالكبش.
إذا تقرر هذا فمن أوجب كفارة يمين جرى على القاعدة في نذر المعصية، إذ الواجب فيه كفارة يمين كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وإلى هذا ميل أبي محمد، وقال أبو الخطاب في خلافه: إنه الأقوى. ومن أوجب ذبح كبش، قال: لأنه الذي أوجبه الله تعالى على إبراهيم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بدلا عما أوجبه الله تعالى عليه من ذبح ولده، إذ مقتضى النذر أن يلزم ذبح

(7/101)


الولد، لكن لما منعنا الله من ذلك كان بمنزلة منع إبراهيم من ذبح ولده، ثم إبراهيم - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - أوجب الله عليه ذبح كبش بدلا عن ذبح الولد، فكذلك نحن.
3699 - وقد اختلف عن الحبر ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - على قولين، كالروايتين السابقتين، وأنصهما عنه ذبح كبش، كما هو أنص الروايتين عن أحمد، وهو اختيار القاضي، ونصبها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - صور المسألة فيمن حلف بنحر

(7/102)


ولده، كأن قال: إن فعلت كذا فلله علي نحر ولدي. أو: ولدي نحير إن فعلت كذا، وكذلك الحكم فيما إذا نذر وأطلق، كأن قال: لله علي نحر ولدي، والحكم في نذر نحر نفسه أو نحر أجنبي كذلك، قاله القاضي وأبو محمد، وقد نص عليه أحمد في ذبح نفسه، في رواية ابن منصور، وأشار إليه في ذبح الأجنبي، في رواية أبي طالب.
وقول الخرقي: فيمن حلف بنحر ولده، هذه العبارة تشمل ما إذا كان له ولد واحد أو أولاد، لكن مراده والله أعلم إذا لم يكن له إلا ولد واحد، لأن أحمد نص في الثانية أن الكبش يتعدد بتعدد الأولاد، وهو جار على قاعدته، ومنصوصه في الطلاق وغيره من أن المفرد المضاف يعم.
وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه لا تجب عليه الكفارة إلا إذا حنث، ونص عليه أحمد فيمن نذر أن ينحر نفسه يفدي نفسه إذا حنث، وقوله: يذبح كبشا، كذا قال بعضهم، وبعضهم قال شاة، وأحمد قد أجاب تارة بهذا، وتارة بهذا.

[الحلف بالعتق]
قال: ومن حلف بعتق ما يملك فحنث عتق عليه كل ما يملك من عبيده، وإمائه، ومدبريه، وأمهات أولاده، ومكاتبيه وشقص يملكه من مملوك.
ش: صورة هذه المسألة إذا قال: إن فعلت كذا فكل مملوك لي حر، أو كل مملوك لي عتيق إن فعلت كذا، فإذا فعل ذلك فقد وجد الشرط فيعمل بمقتضاه، وهو عتق من تقدم، كما لو قال: إن فعلت كذا، فكل زوجة لي طالق، ونحو ذلك، وما ذاك إلا أن هذا صورته صورة الشرط

(7/103)


حقيقة، وكذلك معناه، إذ ليس فيه التزام حتى يشبه اليمين، كما في نذر اللجاج: إن فعلت كذا فلله علي عتق عبيدي، ونحو ذلك، وإنما عتق عليه عبيده وإماؤه لأن ملكه عليهم تام بلا ريب، وإنما عتق مكاتبوه ومدبروه وأمهات أولاده لبقاء ملكه عليهم، فيدخلون فيما يملك، وكذلك أيضا عتق الشقص الذي يملكه، لدخوله فيما يملكه، (وقيل عن أحمد) رواية أخرى لا يعتق الشقص إلا أن ينويه، لأن ذلك لا يخطر ببال الحالف غالبا، فلا يتعلق به اليمين، والله أعلم.

[كفارة اليمين قبل الحنث أم بعده]
قال: ومن حلف فهو مخير في الكفارة قبل الحنث أو بعده، وسواء كانت الكفارة صوما أو غيره، إلا في الظهار والحرام، فعليه الكفارة قبل الحنث.
ش: قد تقدم أن مذهب الخرقي أن الحرام ظهار، فحكمه حكمه، وإنما عطفه عليه لتغاير لفظيهما كما في قوله:
فألفيت قولها كذبا ومينا.

(7/104)


وقد تقدم أيضا أن كفارة الظهار يجب إخراجها قبل الحنث، فلا حاجة إلى إعادة ذلك، والكلام الآن في كفارة اليمن، ومذهبنا ومذهب جمهور السلف أن الحالف إذا أراد الحنث في الجملة فهو مخير إن شاء أخرج الكفارة قبل الحنث، وإن شاء بعده.
3700 - لما روي «عن عبد الرحمن بن سمرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: قال لي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يا عبد الرحمن، لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك. وائت الذي هو خير» . متفق عليه. وهذا أمر، وأقل أحواله الجواز، وللبخاري «فأت الذي هو خير، وكفر عن يمينك» ، وفي لفظ «إذا حلفت علي يمن، فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك، ثم ائت الذي هو خير» رواه أبو داود، والنسائي، وهذا أصرح من الذي قبله.
3701 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من

(7/105)


حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها، فليكفر عن يمينه، وليفعل الذي هو خير» رواه مسلم وغيره.
3702 - وعن أبي موسى الأشعري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين، فأرى غيرها خيرا منها، إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير» ، أو قال: «أتيت الذي هو خير، وكفرت عن يميني» هذا لفظ أبي داود، وعند النسائي في رواية «إلا كفرت عن يميني، وأتيت الذي هو خير» وهو في الصحيحين بنحو ذلك أيضا.
وظاهر كلام الخرقي أن التكفير قبل الحنث وبعده سواء في الفضيلة، لا ترجيح لأحدهما على الآخر، وهو اختيار أبي محمد، لورود الأحاديث بهذا تارة، وبهذا أخرى، فدل على استواء الأمرين، وقال ابن أبي موسى: بعده أفضل عند أحمد، للخروج من الخلاف، وإذا ينبغي براءة الذمة، إذ عند الحنفي لا يجزئ الإخراج إلا بعد الحنث، وكذلك عند الشافعي في الصوم فقط، وهذا المقتضي لتنصيص الخرقي على التسوية بين الصوم وغيره، وعورض الخروج من الخلاف بتعجيل النفع للفقراء.

(7/106)


وظاهر كلام الخرقي أن التخيير جار وإن كان الحنث محظورا، وهو أحد الوجهين، إناطة بوجود السبب، (والوجه الثاني) : لا يجزئه، لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا حلف على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها فكفر عن يمينك، وائت الذي هو خير» والإتيان هنا ليس بخير، فلا يتناوله الأمر بالتقديم، على أن الملحوظ في التقديم الرخصة، والرخص لا تباح بالمعاصي.
(تنبيه) : الكفارة قبل الحنث محللة لليمين، قال الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وبعد الحنث مكفرة، قال سبحانه: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] قال بعضهم: أي فحنثتم.

[الاستثناء في اليمين]
قال: وإذا حلف بيمين فقال: إن شاء الله، فإن شاء فعل، وإن شاء ترك، ولا كفارة عليه إذا لم يكن بين الاستثناء واليمين كلام.
ش: إذا حلف فقال مثلا: والله لأدخلن الدار إن شاء الله. فهو مخير في الجملة بين الفعل والترك، فإن ترك لم يحنث إجماعا.
3703 - وقد شهد له ما روي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن رسول

(7/107)


الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من حلف على يمين فقال: إن شاء الله، فلا حنث عليه» رواه الخمسة، وحسنه الترمذي.
3704 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من

(7/108)


حلف فقال: إن شاء الله، لم يحنث» رواه الترمذي والنسائي.
3705 - وفي الصحيحين أيضا من حديثه «قال سليمان بن داود - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: لأطوفن الليلة بمائة امرأة، تلد كل امرأة منهن غلاما يقاتل في سبيل الله. فقال له الملك، قل: إن شاء الله، فلم يقل ونسي، وطاف بهن ولم تلد منهن إلا امرأة نصف إنسان» قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو قال إن شاء الله، لم يحنث، وكان دركا لحاجته» .
إذا تقرر هذا فشرط صحة الاستثناء الاتصال المعتاد على

(7/109)


المذهب المعروف، فلو سكت سكوتا يمكنه الكلام فيه، أو تكلم بكلام أجنبي، ونحو ذلك بطل استثناؤه، ولا يضر السكوت لعارض من تنفس أو عطاس، ونحو ذلك، إذ الاستثناء أحد المخصصات، فاعتبر اتصاله كبقية المخصصات، من الشرط والصفة وغيرهما.
3706 - وفي حديث ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - من رواية أبي داود وغيره «من حلف علي يمين فاستثنى» فظاهره أن الاستثناء يكون عقب الحلف، وقال أحمد: حديث النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعبد الرحمن بن سمرة «إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها، فكفر عن يمينك» ولم يقل: واستثن. قلت: والظاهر أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنما حكم على اليمين التي يحنث بتركها، ولهذا لم يقل له ولم يستثن، (وعن أحمد) رواية أخرى: لا يضر الفصل اليسير، بشرط أن لا يخلط كلامه بغيره.
3707 - لما روي عن عكرمة أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال يوما: «والله لأغزون قريشا، والله لأغزون قريشا» ثم قال: «إن شاء الله» » ، وفي رواية عن عكرمة، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وفي رواية عن عكرمة يرفعه أنه قال: «والله لأغزون قريشا ثم قال: إن شاء الله ثم قال: والله لأغزون قريشا إن شاء الله ثم قال: والله لأغزون قريشا ثم سكت ثم قال: إن شاء الله» زاد فيه بعض الرواة: ثم لم يغزهم. رواه

(7/110)


أبو داود، واحتج به أحمد، فقال: حديث ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «والله لأغزون قريشا» ثم سكت ثم قال: إنما هو استثناء بالقرب، ولم يخلط كلامه بغيره، اهـ.
3708 - وفي الصحيحين «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في مكة: لا يختلى خلاها الحديث، فقال له العباس: يا رسول الله إلا الإذخر، فإنه لقينهم ولبيوتهم، فقال: إلا الإذخر» فأثر الاستثناء وهو منفصل.

(7/111)


3709 - وفي حديث سليمان - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أن الملك قال له: قل إن شاء الله، فلم يقل، وظاهره أنه قال له ذلك بعد الفراغ من اليمين. وقد قال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «لو قال: إن شاء الله - يعني وقت قال له الملك - لم يحنث» (وحكى ابن أبي موسى) عن بعض الأصحاب أن المشترط المجلس، لأن حالة المجلس كحالة الكلام، وينبغي أن يقيد هذا أيضا بما قيد به الذي قبله، من أنه لا يخلط كلامه بغيره، وكلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - محتمل للقولين الأولين، (واشترط) القاضي، وأبو البركات وغيرهما مع ما تقدم أن ينوي الاستثناء قبل تمام المستثنى منه، لأن المخرج بالاستثناء غير مراد بالحكم عليه، وإلا لزم أن يكون مرادا غير مراد، وهو متناقض، فيلزم منه رفع ما أوقعه، وظاهر بحث أبي محمد أن المشترط قصد الاستثناء فقط، حتى لو نوى عند تمام يمينه صح استثناؤه، وفيه نظر، وظاهر إطلاق الخرقي عدم الاشتراط أصلا، وهو وجه حكاه ابن البنا، وبناه على أن لغو اليمين عندنا صحيح، وهي ما كان على الماضي، وإن لم يقصده، وهو ظاهر حديث الإذخر وحديث سليمان.
وقول الخرقي: وإذا حلف، يشمل كل حلف، وكذلك ظاهر الحديث، وقد استثنى من ذلك الطلاق والعتاق كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وإذا يصير ملخص الأمر أن كل يمين تدخلها الكفارة، كاليمين بالله تعالى، والنذر والظهار يدخلها الاستثناء، وقد نص أحمد على ذلك.

(7/112)


وقوله: فقال. ظاهره أنه لا ينفعه الاستثناء بقلبه، وهو كذلك لظاهر الحديث، ولأن الاستثناء كالجزء من اليمين، واليمين لا تنعقد بالنية، فكذلك الاستثناء، وعن أحمد في المظلوم يستثنى في نفسه: أرجو أن يجوز إذا خاف على نفسه، وكأنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نظر إلى أن ذلك تأويل، والمظلوم ينفعه تأويله.

[الاستثناء في العتق والطلاق]
قال: وإذا استثنى في الطلاق والعتاق فأكثر الروايات عن أبي عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه توقف عن الجواب، وقد قطع في موضع أنه لا ينفعه الاستثناء.
ش: وذلك كأن قال لزوجته: أنت طالق إن شاء الله. أو لعبده: أنت حر إن شاء الله. وتوقف أحمد عن الجواب في ذلك، لاختلاف الناس فيه، مع عدم نص قاطع في ذلك، وحظر ذلك، وهو الحكم بحل فرج أو تحريمه، والذي استقر عليه قوله أنه لا ينفعه الاستثناء، معللا ذلك في رواية حنبل بأنهما ليسا من الأيمان، وإذا لم يكونا من الأيمان فلا يدخلان في قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «من حلف فقال: إن شاء الله لم يحنث» ، وقد تقدمت الإشارة إلى هذا في أول الباب، وأن المغلب فيهما التعليق على شرط، وإذا هذا الشرط الذي قد علق عليه الطلاق - وهو مشيئة الله تعالى - أمر لا سبيل إلى علمه، فهو كالتعليق على مستحيل، أو أمر يفضي

(7/113)


اعتباره إلى رفع الطلاق بالكلية، أشبه ما لو قال: أنت طالق طلقة لا تلزمك. ونحو ذلك.
3710 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق إن شاء الله. هي طالق. رواه أبو حفص بسنده، وعن أبي بردة نحوه.
3711 - وعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وأبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قالوا: كنا معاشر أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نرى الاستثناء جائزا في كل شيء إلا في العتاق والطلاق. ذكره أبو

(7/114)


الخطاب (وحكى أبو محمد رواية أخرى) عن أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بصحة الاستثناء في الطلاق والعتاق، بناء على أنهما من الأيمان، فيدخلان في عموم من حلف على يمين إذ ذلك نكرة في سياق الشرط، فتشمل كل يمين، ونظرا إلى أن التعليق يحصل على مشيئة لم يعلم وجودها، أشبه ما لو علقه على مشيئة زيد، وأجيب بأن مشيئة الله تعالى قد علمت بمباشرة الآدمي سبب ذلك، وهو النطق بالطلاق، ونقل الشيخ أبو حامد الاسفرائيني ومن تبعه عن إمامنا رواية بالتفرقة بين الطلاق العتاق، وقطع أبو البركات وغيره بأن ذلك غلط على الإمام، وسبب الغلط - والله أعلم - أن أحمد قال فيمن قال: إن ملكت فلانا فهو حر إن شاء الله، فملكه صار حرا، وقال فيمن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق إن شاء الله، فتزوجها لم تطلق، ففرق بين التعليقين،

(7/115)


وذلك أن من أصله أن العتق يصح أن يعلق بالملك، بخلاف الطلاق كما سيأتي إن شاء الله تعالى، ففرق أحمد لأجل هذا، لا لأجل الاستثناء بالمشيئة، وللمسألة فروع أخر ليس هذا موضعها، والله أعلم.

[حكم تعليق العتق والطلاق على شرط]
قال: وإن قال: إن تزوجت فلانة فهي طالق، لم تطلق إن تزوج بها، وإن قال: إن ملكت فلانا فهو حر، فملكه صار حرا.
ش: اختلفت الرواية عن أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هاتين المسألتين على ثلاث روايات: (إحداهن) صحة التعليق فيهما، فيقع العتق والطلاق، (والثانية) عدم الصحة فيهما فلا يقعان، وهي اختيار أبي محمد، وأبي الخطاب.
3712 - ومدركهما أن قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك» . رواه أحمد، وأبو داود، والترمذي وحسنه من رواية عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده.
3713 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا طلاق قبل نكاح، ولا عتق قبل ملك»

(7/116)


رواه ابن ماجه من رواية المسور بن مخرمة، هل هذا الطلاق والعتاق وقعا قبل ملك، أو لم يقعا إلا في ملك، وأصل هذا فيما قيل إن الشرط هل منع انعقاد السبب، أو إنما منع ترتب حكمه عليه، فمن نظر إلى الأول قال بوقوع الطلاق والعتاق، لوجود سببهما في الملك، ومن نظر إلى الثاني قال بعدم وقوعهما، لوجود السبب قبل الملك، والمشهور عن أحمد - وهو المختار لعامة أصحابه، حتى إن بعضهم لا يثبت ما يخالف ذلك - التفرقة بين الطلاق والعتاق، كما قاله الخرقي، فيقع العتق دون الطلاق، نظرا إلى أن العتق قربة وطاعة، فصح تعليقه على الملك كالنذر، وقد دل على الأصل قول الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [التوبة: 75] الآية. وهذا بخلاف الطلاق، فإنه ليس بقربة من حيث

(7/117)


هو، بل عدمه هو القربة، والأصل أن الإنسان لا ينفذ له تصرف إلا فيما يملك، وأيضا الملك قد يقصد للعتق، كما في شراء من يعتق عليه برحم أو بشرط، والنكاح لا يقصد للطلاق، بل قد تذهب فائدته، اهـ.
والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - صور المسألة فيما إذا علق طلاق معينة على تزوجها، وكذلك الحكم في غير المعينة، كما إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق. وكلامه في تعليق العتق يشمل ما إذا كان المكلف حرا أو عبدا، والصحيح عندهم أن العبد لا يصح تعليقه، وإن صح تعليق الحر، لعدم ملكه حين التعليق.

[ما تحمل عليه ألفاظ اليمين]
قال: ولو حلف أن لا ينكح فلانة، أو لا اشتريت فلانة، فنكحها نكاحا فاسدا، أو اشتراها شراء فاسدا لم يحنث.
ش: هذا هو المشهور والمختار من الأوجه، حملا لذلك على النكاح الشرعي والشراء الشرعي، ولا ريب أنهما الصحيحان، إذ كلام المكلف محمول على المراد من كلام الشارع، وكلام الشارع المراد به الصحيح، فكذلك كلام المكلف، (وقيل بحنثه) مطلقا، نظرا لإطلاق اللفظ الشامل للشرعي واللغوي، وملخصه أن الأول غلب الحقيقة الشرعية، والثاني غلب الحقيقة اللغوية (وفي المذهب وجه ثالث) اختاره ابن أبي موسى ولا بأس به أنه يحنث بالنكاح

(7/118)


أو الشراء المختلف فيه، لعدم الجزم بكونه ليس بشرعي، مع تيقن دخوله في الحقيقة اللغوية، دون النكاح أو الشراء المتفق على بطلانهما، لتيقن كونه ليس بشرعي، مع أن المغلب في الإطلاق هو الشرعي، والله أعلم.

قال: ولو حلف أن لا يشتري فلانا، أو لا يضربه، فوكل في الشراء أو الضرب حنث ما لم تكن له نية.
ش: لأن فعل الوكيل قائم مقام فعل الموكل، فكأنه هو، والدليل على أن الفعل يضاف إلى الموكل، قال الله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح: 27] وقال: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللهم ارحم المحلقين» ولا ريب في تناول ذلك لمن حلق رأسه بأمره، ولو حلف لا يدخل دارا، فأمر من حمله وأدخله إليها حنث، والخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ذكر الصورتين على سبيل المثال، ولينبه بهما على مذهب المخالف، والحكم منوط بما إذا حلف لا يفعل شيئا، وإنما ذكر هاتين الصورتين على سبيل المثال، إذ الشافعي يخالف فيهما في الجملة، والنعمان يخالف في صورة البيع دون الضرب،

(7/119)


ثم محل هذه المسألة إذا لم يكن ثم نية أو ما يقوم مقامها من قرينة حال ونحو ذلك، أما مع النية أو بدلها فإن الحكم يناط بها ويعتمد عليها، والله أعلم.

[حكم فعل المحلوف عليه ناسيا]
قال: وإذا حلف بعتق أو طلاق أو لا يفعل شيئا ففعله ناسيا حنث.
ش: قد تقدمت هذه المسألة في قوله: وإن فعله ناسيا فلا شيء عليه إذا كانت اليمين بغير الطلاق والعتاق، والخلاف فيها فلا حاجة إلى إعادتها، والله أعلم.

[حكم التأويل في اليمين]
قال: ومن حلف فتأول في يمينه فله تأويله إذا كان مظلوما، فإن كان ظالما لم ينفعه تأويله، لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» .
ش: التأويل أن يقصد بلفظه ما يخالف ظاهره مع احتمال اللفظ له، كأن يحلف أنه أخي وينوي بذلك أخوة الإسلام، قال الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] أو المشابهة استعارة، أو يحلف أنه كان تحت سقف، وينوي به السماء، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32] أو يحلف أنه كان على فراش أو بساط، مريدا بذلك الأرض، قال سبحانه: {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} [الذاريات: 48] وقال سبحانه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19] أو يحلف ما لفلان عندي

(7/120)


وديعة، مريدا بـ «ما» الذي، أو ما فلان ها هنا، ويريد موضعا معينا، ونحو ذلك مما هو سائغ في اللغة، مع أن السابق إلى فهم السامع خلافه.
ولا يخلو المتأول من ثلاثة أحوال: (أحدها) أن يكون الحالف مظلوما، كأن يستحلفه ظالم على شيء لو صدقه لناله أو مسلما أو ذميا ضرر، فهذا له تأويله بلا ريب.
3714 - لما «روى سويد بن حنظلة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، قال: خرجنا نريد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ومعنا وائل بن حجر، فأخذه عدو له، فتحرج القوم أن يحلفوا، وحلفت أنا أنه أخي، فخلي عنه، فأتينا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له، فقال: «أنت كنت أبرهم وأصدقهم، صدقت، المسلم أخو المسلم» رواه أحمد وابن ماجه.
3715 - وفي حديث الإسراء المتفق عليه: «مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح» .

(7/121)


3716 - وقال - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب» ، (الحال الثانية) : أن يكون ظالما، كالذي يستحلف على حق عنده، فهذا لا ينفعه التأويل، وتنصرف يمينه إلى ظاهر اللفظ الذي يقصده المستحلف بلا ريب أيضا.
3717 - لما استدل به الشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهو حديث أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يمينك على ما يصدقك به صاحبك» وفي لفظ: يصدقك عليه صاحبك وعنه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أيضا، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليمين على نية المستحلف» رواهما مسلم وغيره، ولأنه لو ساغ التأويل والحال ما تقدم

(7/122)


لاتخذ ذلك وسيلة إلى جحود الحق، وبطل المعنى المقصود باليمين، وهو تخويف الحالف من عاقبة اليمين، ولا ريب أن الشريعة تأبى مثل ذلك، والشيخ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعتمد في الاستدلال على اللفظ الأول، وكذلك غيره من الأئمة من أصحابنا وغيرهم، وبعض العلماء اعتمد في الاستدلال على الثاني، وقال: إن معنى الأول أن يمينك التي يجوز لك أن تحلفها هي التي تكون صادقة في نفسها، بحيث لو اطلع عليها صاحبك لعلم أنها حق وصدق، وأن ظاهرها كباطنها، فيصدقك على ما حلفت عليه، وإذا فائدة هذا الحديث أن الحالف يعرض على نفسه اليمين، فإن وجدها كما تقدم حلف إن شاء، وإلا أمسك.
(الحال الثالثة) إذا كان المتأول لا ظالما ولا مظلوما، وهذه الحالة لم يتعرض الخرقي لها بنفي ولا إثبات، وفيها قولان حكاهما أبو العباس، وقال: إن ظاهر كلام أحمد المنع في اليمين، اهـ.
وظاهر كلام الشيخين الجواز، واعتمد أبو محمد على ما روي أن مهنا كان عنده هو والمروذي وجماعة،

(7/123)


فجاء رجل يطلب المروذي ولم يرد المروذي أن يكلمه، فوضع مهنا إصبعه في كفه، فقال: ليس المروذي ها هنا، وما يصنع المروذي ها هنا، يريد ليس في كفه، ولم ينكر ذلك الإمام أحمد.
3718 - واستدل بأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يمزح ولا يقول إلا حقا، والمزح أن يوهم السامع بكلامه غير ما يفهم من ظاهره، كما قال لتلك العجوز: «لا يدخل الجنة عجوز» يعني أن الله ينشئهن أبكارا، عربا أترابا.
3719 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أن رجلا جاء إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله احملني. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنا حاملوك على ولد ناقة» فقال: وما أصنع بولد الناقة. قال: «وهل تلد الإبل إلا النوق» رواه أبو داود.
3720 - «وقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لرجل احتضنه من ورائه: «من يشتري

(7/124)


العبد» فقال: يا رسول الله، تجدني إذا كاسدا. قال: «لكنك عند الله لست بكاسد» ، وهذا كله من التأويل الحق الجائز، فإن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يقول إلا حقا، (قلت) : وهذا كله ورد في غير اليمين وهو واضح، أما اليمين فلها حرمة، فقد يقال: لا حاجة إلى ارتكابها والتعريض فيها، لا سيما وقد عضد هذا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اليمين على نية المستحلف» خرج منه المظلوم لما تقدم، وللاتفاق أيضا فيما أظن، فيبقى ما عداه على مقتضى العموم، والله أعلم.

(7/125)