شرح
الزركشي على مختصر الخرقي [كتاب
الكفارات]
ش: أجمع المسلمون على مشروعية الكفارة، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى: {لَا
يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ
عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ
كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ
وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ
لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89] ومن السنة ما تقدم من قوله: «فأت
الذي هو خير، وكفر عن يمينك» ونحوه، والله أعلم.
[خصال الكفارة في اليمين على التخيير]
قال: وإذا وجبت عليه بالحنث كفارة يمين فهو مخير إن شاء أطعم.
ش: لما تقدم للخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - اليمين الموجبة للكفارة شرع يبين
الكفارة، فقال: ومن وجبت عليه بالحنث كفارة يمين فهو مخير إن شاء أطعم،
وهذا والحمد لله إجماع في أنه إن شاء أطعم، وإن شاء كسى، وإن شاء أعتق، وقد
شهد النص المتقدم لذلك، وهو واضح، إذ أصل موضوع، «أو» للتخيير بين شيئين أو
أشياء.
3721 - ولهذا قال ترجمان القرآن - كما ذكره عنه الإمام أحمد في
(7/126)
التفسير -: كل ما كان في كتاب الله «أو»
فهو للتخيير، وما كان (فمن لم يجد) فالأول الأول، والله أعلم.
[الإطعام في كفارة اليمين]
قال: عشرة.
ش: الكلام في الإطعام في ثلاثة أمور: (أحدها) : في عددهم، وهو عشرة بنص
الكتاب، نعم هل يقوم تكرار إطعام الواحد مقام تعداد الأشخاص، أم لا، أو
يفرق بين العدم والوجود؟ فيه خلاف يأتي إن شاء الله تعالى، والله أعلم.
قال: مساكين مسلمين أحرارا، كبارا كانوا أو صغارا، إذا أكلوا الطعام.
ش: هذا (الأمر الثاني) مما يتعلق بالإطعام وهو صفة المطعمين، وقد اشترط
الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - لهم أربعة أوصاف: (الأول) : أن يكونوا مساكين،
اعتمادا على ما تقدم من الآية، وعلى قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا
الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة: 60] الآية. ويدخل في
المسكين الفقير، لأنه مسكين وزيادة على قاعدتنا، ولما تقدم من أن الفقير
والمسكين في غير الزكاة صنف واحد، لأن
(7/127)
جهة استحقاقهم واحدة وهي الحاجة، وإنما
جعلا صنفين في الزكاة للتفريق بينهما في الاسم والعطف المقتضي للمغايرة،
ويخرج ما عدا هذين، وإن كان من أهل الزكاة، نعم يجوز الدفع للغارم لإصلاح
نفسه لاحتياجه، فهو كالمسكين، وكلام أبي محمد يوهم المنع. (الثاني) : أن
يكونوا مسلمين، وقد تقدم هذا في الظهار فلا حاجة إلى إعادته. (الثالث) : أن
يكونوا أحرارا، وهذا أيضا قد تقدم في كفارة الظهار، ونزيد هنا بأن ظاهر
كلامه أنه لا يجوز دفعها إلى مكاتب، لأنه ليس بحر، وهذا (إحدى الروايتين)
واختيار القاضي في المجرد، وأبي الخطاب في الهداية، وأبي محمد، لأنه صنف
آخر غير المساكين، والله سبحانه إنما جعل الإطعام للمساكين، ولأنه يأخذ
ليفك رقبته، لا لتحصيل كفايته كالمسكين. (والثانية) : - وهي اختيار القاضي،
والشريف، وأبي الخطاب في خلافاتهم - يجوز، لأنه محتاج للأخذ فأشبه المسكين.
(الرابع) : أن يكونوا قد أكلوا الطعام، فلا يجوز دفعها إلى صغير لم يأكل
الطعام، وهذا (إحدى الروايتين) واختيار القاضي، لظاهر قَوْله تَعَالَى:
{فَإِطْعَامُ} [المجادلة: 4] فظاهره أن الواجب إطعامهم، فإذا لم يعتبر ذلك
فلا أقل من اعتبار إمكانه ومظنته، ولا يتحقق المظنة فيمن لم يأكل.
(والثانية) - وهي اختيار
(7/128)
أبي الخطاب - لا يشترط ذلك، إذ حقيقة الأكل
ليس بشرط، والإطعام مصدر أريد به المطعوم، فالواجب مطعوم عشرة مساكين، بأن
يملكهم ذلك، وهذا يمكن في حق من لم يأكل الطعام، بأن يقبض له وليه فيحصل له
الملك، كما يقبض للصغير الذي قد أكل الطعام.
قال: لكل مسكين مد من حنطة أو دقيق، أو رطلان بالعراقي خبزا، أو مدان تمرا
أو شعيرا.
ش: هذا الأمر الثالث، وهو في قدر ما يدفع للمساكين وهو مد حنطة، أو نصف صاع
تمر أو شعير، وقد تقدمت هذه المسألة في الظهار، وتقدم أن غيره قال: يجزئ في
الكفارة ما يجزئ في الفطرة، وقد نص الخرقي هنا على جواز إخراج الدقيق، ولم
يتعرض له في الظهار، ولا ريب في إجزائه في الكفارتين، كما يجزئ في الفطرة،
ومراد الخرقي بالدقيق دقيق الحنطة، أما دقيق الشعير فالواجب منه مدان، ثم
المعتبر في الدقيق الوزن لتفرق أجزائه في الطحن، ولهذا قال أحمد: يجزئه
بالوزن رطل وثلث، ولا يجزئه إخراج مد دقيق بالكيل، اهـ.
نعم لو طحن مد الحنطة وأخرجه أجزأه،
(7/129)
وكذلك إن أخرج من الدقيق ما يعلم أنه مد.
ونص هنا أيضا على جواز إخراج الخبز، (وهو إحدى الروايتين) عن أحمد، واختيار
القاضي وعامة الأصحاب، لدخول ذلك في قوله: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ
مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] والخبز من أوسط
طعام أهلينا، وعلى هذا جرى السلف.
3722 - فروى الإمام أحمد في التفسير، عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89]
قال: الخبز واللبن، وفي رواية عنه، قال: الخبز والتمر، والخبز والزيت،
والخبز والسمن.
(7/130)
3723 - وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
الخبز والتمر، الخبز والسمن، الخبز واللحم.
3724 - وعن الأسود بن يزيد: الخبز والتمر.
3725 - وعن ابن سيرين كانوا يقولون: إن أفضله الخبز واللحم، وأوسطه الخبز
والسمن، وأخسه الخبز والتمر. وهذا يقرب من حكاية الإجماع، وفارق زكاة الفطر
ونحوها، لأن النص هنا تناول الخبز، بخلاف ثم، فإن قول الراوي: فرض رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدقة الفطر صاعا من تمر. لا
يتناوله، مع أنه لو قيل بالإجزاء في زكاة الفطر دون غيرها لكان متوجها، لأن
قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «أغنوهم عن السؤال في هذا اليوم» الملحوظ
فيه سد حاجتهم، وحاجتهم تندفع بدفع الخبز، وهذا بخلاف غير زكاة الفطر، فإن
الدفع يراد للاقتيات في جميع
(7/131)
العام، فيحتاج إلى الادخار ولا بد في
المدخر من أن يكون على صفة يمكن ادخاره، (والرواية الثانية) : لا يجوز
إخراج الخبز، لخروجه عن حال الكمال والادخار، أشبه الهريسة ونحوها.
فعلى المذهب لا بد أن يدفع رطلي خبز بالعراقي، لأن ذلك لا يكون أقل من مد،
نعم لو طحن مدا وخبزه ودفع خبزه أجزأه، نص عليه أحمد.
تنبيهان: (أحدهما) : شرط إجزاء المخرج في الكفارة أن يكون سالما من العيب،
بأن لا يكون مسوسا، ولا فيه تراب يحتاج إلى تنقية، لأنه مخرج في حق الله
تعالى عما في الذمة، أشبه الشاة المخرجة في الزكاة. (الثاني) : قال أبو
محمد: الأفضل البر، خروجا من الخلاف، قلت: وهذا كأنه على مختاره في الفطرة.
وعلى المذهب ثم الأفضل التمر، فكذلك هنا، وقد قال أحمد: التمر أعجب إلي،
والدقيق ضعيف، والتمر أحب إلي. ولأبي محمد احتمال بأفضلية الخبز على غيره،
نظرا لرفع الكلفة عن المسكين وهو واضح والله أعلم.
قال: ولو أعطاهم مكان الطعام أضعاف قيمته ورقا لم يجزئه.
ش: لما ذكر صفة الدفع للفقراء في الإطعام أراد أن يبين أنه لا يجزئ إخراج
قيمة ذلك، وأرشد إلى ذلك بمثال، وهو
(7/132)
أنه لا يجزئ إخراج أضعاف قيمة ذلك من
الورق، وذلك لما فيه من العدول عن المنصوص، لأن المطعوم أو الثياب ليسا
بورق ولا ذهب، ولأن الشارع خير بين ثلاثة، وجواز إخراج القيمة يفضي إلى
التخيير بين أربعة، وهو خلاف النص أيضا، وقد حكى أبو محمد في المقنع وغيره
من الأصحاب رواية بالجواز، وقطع في المغني هنا بالمنع، وكأنه بنى ذلك على
المذهب. والله أعلم.
قال: ويعطي من أقاربه من يجوز أن يعطيه من زكاة ماله.
ش: لأنه حق لله واجب، فجرى مجرى الزكاة، فعلى هذا لا يجوز الدفع للوالدين
وإن علوا، أو للولد وإن سفل، وفي بقية الأقارب الواجبة نفقتهم روايتان،
ويجوز الدفع إلى من عدا ذلك من الأقارب.
قال: ومن لم يصب إلا مسكينا واحدا ردده عليه في كل يوم تتمة عشرة أيام.
ش: إذا ردد الكفارة على مسكين واحد عشرة أيام في كفارة اليمين، أو ستين
يوما في كفارة الظهار ونحوها، فهل يجزئه؟ فيه ثلاث روايات (إحداها) - وهي
اختيار أبي بكر وابن بطة فيما حكاه عنه أبو حفص في تعاليقه -: يجزئه مطلقا،
نظرا إلى أن تكرار الإطعام قائم مقام تكرار الأشخاص، ولأنه لو أطعم كل يوم
مسكينا حتى كملت
(7/133)
العدة جاز بلا ريب، فكذلك إذا كرر إطعام
الواحد، لأنه صدق عليه أنه أطعم كل يوم مسكينا. (والثانية) - وهي اختيار
ابن شهاب -: لا يجزئه مطلقا، اعتمادا على قَوْله تَعَالَى: {فَكَفَّارَتُهُ
إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: 89] فمن لم يطعم عشرة لم يمتثل
الأمر. (والرواية الثالثة) - وهي اختيار الخرقي، والقاضي وأصحابه، وعامة
الأصحاب -: لا يجزئه مع الوجود، لما تقدم في التي قبلها، ويجزئه مع العدم،
إناطة بالعذر، إذ معنى الشيء يقوم مقامه عند تعذره، كما أقيم التراب مقام
الماء عند تعذره، وكذلك غيره من المبدلات والله أعلم.
[الكسوة في كفارة اليمين]
قال: وإن شاء كسا.
ش: قد تقدم الدليل على التخيير بين الإطعام والكسوة والعتق.
قال: عشرة مساكين، للرجل ثوب يجزئه أن يصلي فيه، وللمرأة درع وخمار.
ش: الكلام في الكسوة على ثلاثة أشياء؛ (أحدها) : في عدد المكسوين وذلك عشرة
بنص الكتاب. (والثاني) : في صفتهم بأن يكونوا مساكين، وهو بنص الكتاب أيضا،
وقد تقدم إيضاح ذلك في الإطعام، إذ هؤلاء المساكين هم الذين في
(7/134)
الإطعام فيشترط لهم ما يشترط لهم.
(والثالث) : في صفة ما يدفع إليهم من الكسوة، وهو ما تصح صلاة الفريضة معه،
إذ الكفارة عبادة، تعتبر فيها الكسوة، فلم يجز فيها أقل مما ذكرناه كالصلاة
ولأن اللابس لما لا يستر عورته ليس بمكتس شرعا، إذا تقرر هذا فيدفع للرجل
ثوب يستر عورته وعاتقه أو بعضه، على الخلاف في الواجب في المنكب، وللمرأة
ما يستر عورتها وهي جميع بدنها ما عدا وجهها وكفيها على إحدى الروايتين،
ولما كان ذلك لا يحصل غالبا إلا بدرع وهو القميص، وخمار، ذكر الخرقي ذلك،
وإلا لو أعطاها ثوبا واسعا يستر بدنها ورأسها أجزأه ذلك، إناطة بستر عورتها
المعتبرة في الصلاة، وقد وقع لابن البنا أنه يدفع للرجل قميص ومنديل، وفيه
نظر، والله أعلم.
[العتق في كفارة اليمين]
قال: وإن شاء أعتق.
ش: قد تقدم الإجماع على التخيير في ذلك.
قال: رقبة مؤمنة قد صلت وصامت، لأن الإيمان قول وعمل، وتكون سليمة ليس فيها
نقص يضر بالعمل.
ش: الكلام في العتق في شيئين: (أحدهما) في عدد المعتق وهو رقبة واحدة
بالإجماع، وشهادة الكتاب والسنة.
(7/135)
(والثاني) : في صفة الرقبة، ويعتبر لها
أمران (أحدهما) : أن تكون مؤمنة، وهو اتفاق في كفارة القتل، لنص الكتاب
عليه، وهو قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] أما في غيرها من الكفارات فروايتان
تقدمتا في الظهار، والمذهب منهما بلا ريب عند الأصحاب اشتراط ذلك أيضا،
وأبو بكر يختار عدم الاشتراط كالرواية الأخرى، ومبنى ذلك على أنه هل يحمل
المطلق على المقيد مع الاختلاف في السبب، والاتحاد في الحكم أم لا؟ وفيه
ثلاثة أقوال، ثالثها - وهو اختيار أبي الخطاب - يحمل بضرب من القياس،
وبيانه هنا أن الإعتاق يتضمن تكميل أحكامه، ومن تكميل أحكامه بل هو رأسها
الإسلام، فاشترط فيه ذلك، كالمعتق في كفارة القتل وحيث اشترط الإيمان فهل
يشترط له الصوم والصلاة أم لا؟ فيه عن أحمد ما يدل على روايتين (إحداهما) -
وهي اختيار الأكثرين - لا يشترط ذلك، فعلى هذا يجوز عتق الطفل الصغير، لأنه
محكوم بإيمانه شرعا، قال سبحانه: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ
ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا
أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الطور: 21] .
(7/136)
3726 - وفي الصحيح من حديث «معاوية بن
الحكم أنه أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بجارية، فقال
لها: «أين الله؟» قالت: في السماء، قال: «من أنا؟» قالت: أنت رسول الله،
قال: «أعتقها فإنها مؤمنة» » ، فحكم لها بالإيمان بهذا القول، وكذلك في
حديث أبي هريرة، ولأن أحكام الإسلام جارية على الطفل في إرثه وغسله، ودفنه
والصلاة عليه، وغير ذلك، فكذلك في عتقه في الكفارة، وعلى هذه الرواية لا
يجزئ الجنين، لعدم ثبوت أحكام الدنيا له. (والثانية) وهي اختيار الخرقي
يشترط ذلك، وعللها الخرقي - تبعا لأحمد في رواية الأثرم - بأن الإيمان قول
وعمل، وإذا لا بد من وجود العمل،
(7/137)
إما حقيقة، وإما تأهلا، وعلى هذا هل يشترط
حقيقة العمل أو التأهل لذلك؟ فيه أيضا عن أحمد ما يدل على قولين (أحدهما) :
المشترط التأهل، وهو ظاهر كلامه في رواية حنبل: أحب إلي أن يكون كبيرا، وهو
الذي اعتمده القاضي، وأبو البركات، فحكيا الرواية على أنه لا يجزئ من له
دون سبع سنين، ويجزئ من بلغها لتأهله لعمل ذلك. (والثاني) : المشترط العمل،
وهو ظاهر كلام الخرقي، وأحمد في رواية الأثرم، وقد تقدمت، فعلى هذا من صام
وصلى وصح ذلك منه أجزأ وإن كان صغيرا، ومن لا فلا وإن كان كبيرا، اهـ.
وحيث لم يشترط الإيمان فأحمد إنما نص على إجزاء اليهودية والنصرانية، وكذلك
قال أبو محمد (وعنه) تجزئ الذمية، وهذا ربما أعطى أنه لا يجزئ غير الذمية
بلا خلاف، وبعض الأصحاب يطلق الخلاف في اشتراط الإيمان في غير كفارة القتل
وعدمه، اهـ.
(الأمر الثاني) : أن تكون الرقبة سليمة، ومعنى سلامتها أن لا يكون فيها نقص
يضر بالعمل، وقد تقدم ذلك في الظهار، فلا حاجة إلى إعادتها والله أعلم.
(7/138)
قال: ولو اشتراها بشرط العتق وأعتقها في
الكفارة عتقت ولم تجزئه عن الكفارة.
ش: هذا هو المشهور من الروايتين، والمختار للأصحاب، لأن عتقه مستحق بسبب
آخر فلم يجزئه، كما لو اشترى قريبه ينوي به عتقه عن الكفارة، أو علق عتقه
على شرط، ونواه عند وجوده. (والثانية) : تجزئ لأن عتقه لم يتحتم، أشبه
المعلق عتقه بصفة قبل وجودها، ولعل هذا يلتفت إلى أن شرط العتق هل هو حق
لله تعالى بحيث يجبر المشتري عليه، وإذا لا يجزئ في الكفارة، أو لآدمي، فلا
يجبر المشتري عليه، بل للبائع الفسخ، وإذا يجزئ في الكفارة؟ فيه قولان.
وقد فهم من كلام الخرقي جواز اشتراط هذا الشرط في البيع، وصحة البيع
المشروط فيه هذا الشرط، ولنشر إلى المسألتين، (فأما) جواز اشتراط العتق في
البيع ففيه روايتان، (المذهب منهما) عند الأصحاب جواز ذلك وصحته.
3727 - لما روي «عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها أرادت أن تشتري
بريرة للعتق، فاشترطوا ولاءها، فذكرت ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: «اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق» متفق
عليه. إلا أن البخاري لم يذكر لفظ: أعتقيها.
(7/139)
(والثانية) لا يصح ذلك، وهي ظاهر كلام صاحب
الوجيز، لأنه شرط مناف لمقتضى البيع، أشبه اشتراط أن لا يبيعه ولا يهبه،
ونحو ذلك على المذهب، (فعلى الأولى) هل يجبر المشتري على العتق إن أباه،
وهو المشهور، أو يكون للبائع الفسخ؟ فيه قولان مبنيان على ما تقدم، (وعلى
الثاني) : هل يبطل البيع، وهو اختيار أبي الخطاب في خلافه، لأن فواته يفوت
الرضى الذي هو شرط لصحة البيع قطعا، أو لا يبطل، وهو اختيار أبي محمد،
لحديث بريرة، فإن أهلها اشترطوا الولاء، ولم يبطله النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فيه روايتان، والله أعلم.
قال: وكذلك لو اشترى بعض من يعتق عليه إذا ملكه، ينوي بشرائه الكفارة، عتق
ولم يجزئه.
3728 - ش: أما العتق فلعموم: «من ملك ذا رحم محرم عتق عليه» » ، وأما عدم
الإجزاء في الكفارة فلأن الواجب تحرير الرقبة، كما نص الله عليه سبحانه،
والتحرير فعل العتق، ولم يحصل هنا، إنما الذي حصل الشراء، ولأنه لم يخلص
العتق
(7/140)
لله سبحانه، أشبه ما لو أعتقه رياء وسمعة،
والله أعلم.
قال: ولا يجزئ في الكفارة أم ولده.
ش: هذا هو المشهور والمختار للأصحاب من الروايتين، لأن عتقها مستحق بسبب
آخر، أشبه المعلق عتقه بصفة عند وجودها ونحوه. (والثانية) : يجزئ لدخول ذلك
تحت قوله سبحانه: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] والله أعلم.
قال: ولا مكاتب قد أدى من كتابته شيئا.
ش: هذا إحدى الروايات، واختيار القاضي وأصحابه وغيرهم، لأنه إذا أدى فقد
حصل العوض عن بعض الرقبة في المعين، فلم يجز كما لو أعتق بعضها، وإذا لم
يؤد فهي رقبة كاملة لم يؤد عن شيء منها عوض، أشبهت المدبرة. (والثانية) :
وهي اختيار أبي بكر يجزئ مطلقا، لأنه عبد ما بقي عليه درهم، كما ثبت بالنص
فأجزأ عتقه كغيره، ولدخوله تحت قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}
[النساء: 92] . (والثالثة) : لا يجزئه مطلقا، لأن عتقه مستحق بسبب آخر،
أشبه أم الولد، ولا نزاع أنه لو أعتق عبدا على مال يأخذه منه لم يجزئه عن
الكفارة، والله أعلم.
(7/141)
قال: ويجزئ المدبر.
ش: لدخوله تحت قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] ولأن
التدبير إما وصية أو تعليق بصفة، وأيا ما كان فإنه يجزئ كما يجزئ الموصى
به، والمعلق عتقه بصفة قبل وجودها.
قال: والخصي.
ش: لأن ذلك لا يضر بالعمل، فأشبه الفحل، ولا فرق بين المقطوع والأشل
والموجوء، لتساويهم في المعنى والله أعلم.
قال: وولد الزنا.
ش: لدخوله تحت قَوْله تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] ولأنه
كغيره في جواز بيعه وعتقه، وقبول شهادته ونحو ذلك، فكذلك في إعتاقه عن
الكفارة.
3729 - وما ورد من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ولد
الزنا شر الثلاثة» فقد قال الطحاوي: المراد به الملازم للزنا، كما يقال:
ابن السبيل، للملازم لذلك، وقال غيره: هو شر
(7/142)
الثلاثة أصلا ونسبا وعنصرا، لخبثه، وهو
نشوءه من ماء الزنا، على أن الكلام في أحكام الدنيا، وليس في الحديث تعرض
لذلك، والله أعلم.
[الصيام في كفارة اليمين]
قال: فمن لم يجد من هذه الثلاثة واحدا صام ثلاثة أيام.
ش: إذا لم يجد واحدا من الثلاثة السابقة - وهي الإطعام والكسوة والعتق -
بأن لا يجد ذلك أصلا أو وجده وتعذر عليه شراؤه لعدم الثمن، أو لكونه محتاجا
إلى ما هو أهم منه، كما هو مفصل في موضعه، فإنه ينتقل إلى صيام ثلاثة أيام
بالإجماع، وشهادة الكتاب والله أعلم.
قال: متتابعة.
ش: قدر الصيام ثلاثة أيام بنص الكتاب والإجماع، وشرطها التتابع على المشهور
والمختار للأصحاب من الروايتين.
3730 - نظرا إلى أن ذلك قد ورد في قراءة أبي وعبد الله بن مسعود - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا - ذكره الإمام أحمد في التفسير
(7/143)
وغيره، وناهيك بهما، وهو وإن لم يثبت كونه
قرآنا - لعدم تواتره - فلا أقل من أن ينزل منزلة خبر الآحاد، على أنهما
سمعاه من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على سبيل التفسير،
فظناه قرآنا، وإذا فهو حجة يجب المصير إليه. (والثانية) : لا يجب التتابع
فيها، عملا بإطلاق الآية الكريمة، والصحابي إنما نقل ذلك على كونه قرآنا،
وإذا لم يثبت كونه قرآنا سقط اعتباره رأسا، وأصل ذلك أن ما صح من القراءة
الشاذة هل يكون حجة، بحيث يخصص العام، ويقيد المطلق، ونحو ذلك أم لا؟ فيه
قولان للعلماء، وهما روايتان عن إمامنا أشهرهما نعم، وهو مذهب الحنفية،
والثانية: لا، وهو مذهب الشافعية، وحيث اشترطنا التتابع فأفطر فيها فلا
يخلو إما أن يكون لعذر أو لغير عذر، وبيان ذلك قد تقدم مفصلا في الظهار
والله أعلم.
قال: ولو كان الحانث عبدا لم يكفر بغير الصوم.
ش: قد تقدم الكلام على هذا في الظهار بما فيه كفاية، ونزيد هنا بأن ظاهر
كلامه صحة يمين العبد، ولا ريب في
(7/144)
ذلك، لدخوله تحت الخطاب، وأن السيد ليس له
منعه من الصيام وإن أضر به، وهو كذلك، لأنه حق لله تعالى، فأشبه صوم رمضان
أو قضائه، وهذا بخلاف الحج، لأن الضرر كثير، لطول مدته، وفوات خدمته والله
أعلم.
قال: ولو حنث وهو عبد فلم يكفر حتى عتق فعليه الصوم ولا يجزئه غيره.
ش: هذا ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم، في عبد حلف فحنث وهو عبد، ولم يكفر
حتى عتق: يكفر كفارة عبد، لأنه إنما يكفر ما وجب عليه يوم حنث، ولو افترى
وهو عبد ثم أعتق فإنما يجلد جلد العبد؛ وقد ذكر أحمد الحكم ودليله، وملخص
القياس أن هذا حق تعلق به وهو رقيق فلم يتغير بحريته كالحد، وأيضا فإن الذي
خوطب به وتعلق به هو الصوم، لا سيما على قول الخرقي، فإنه لو أذن له في
التكفير بالمال لم يكن له ذلك، فإذا فعل غير ما خوطب به لم يجزئه. [كما لو
وجبت عليه صلاة الصبح فصلى بدلها مائة ركعة أو أكثر فإنها لا تجزئه] .
وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله تعالى.
واعلم أن هذا على مختار الخرقي من أنه ليس له التكفير
(7/145)
بغير الصوم، أما من قال: يجوز له التكفير
بالمال في الجملة في حال رقه فبعد عتقه أولى، ولهذا قال القاضي في قول
الخرقي: إن فيه نظرا، قال: لأن المنصوص أنه يكفر كفارة عبد، أي لا يلزمه
التكفير بالمال فإن كفر به أجزأه. (قلت) : ولا نظر في ذلك على قول الخرقي،
إنما النظر لو كان الخرقي يجوز له التكفير بالمال في حال رقه، كما يقوله
القاضي، ثم قال ذلك، اهـ.
وظاهر كلام الخرقي أن الاعتبار في الكفارات بحال الوجوب، إذ لو اعتبر أغلظ
الأحوال لأوجب على العبد التكفير بالمال إذا قدر عليه قبل أن يأتي بالصوم،
وقد اختلف عن إمامنا - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه المسألة، (فعنه) - كما هو
ظاهر كلام الخرقي - الاعتبار بحال الوجوب، وهذا اختيار القاضي في تعليقه،
والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، وابن شهاب وأبي الحسين، والشيرازي، وابن
عقيل وغيرهم، لأنه حين الاستقرار في الذمة، لأنه لو فعل ما وجب عليه إذ ذاك
لأجزأه بلا ريب، ولأن الكفارة وجبت على وجه الطهرة، فاعتبرت بحال الوجوب
كالحد (وعنه) : الاعتبار بأغلظ الأحوال، اختارها القاضي في روايتيه، وحكاها
الشريف وأبو الخطاب عن الخرقي، وكأنهما أخذا ذلك من قوله: ومن دخل في الصوم
ثم أيسر لم يكن عليه الخروج من الصوم إلى العتق أو الإطعام إلا أن يشاء. إذ
(7/146)
ظاهره أن من لم يدخل في الصوم كان عليه
الانتقال إلى العتق أو الإطعام، وما تقدم أظهر (وبالجملة) وجه هذا القول
بأنه حق يجب في الذمة بوجود مال، فاعتبر بأغلظ الحالين كالحج، والجواب
القول بالموجب في الحج، لأنه ليس له حالتان، إنما له حالة واحدة، وهي حالة
اليسار، يجب فيها ويستقر، وقبل ذلك لا يخاطب به أصلا، والكفارة يخاطب بها
على كل حال، (وعنه) رواية ثالثة حكاها الشيرازي: الاعتبار بحال الأداء،
قياسا على الوضوء، فالجامع أنه حق له بدل من جنسه، فكان الاعتبار فيه بحال
الأداء كالوضوء.
إذا تقرر هذا (فعلى الرواية الأولى) يعتبر اليسار والإعسار حال الوجوب
عليه، فإذا كان موسرا إذ ذاك ففرضه العتق لا يجزئه غيره، وإن كان معسرا
ففرضه الصوم، ولا يجب عليه العتق بعد وإن أيسر، (وعلى الثانية) متى وجد
رقبة من حين الوجوب إلى حين التكفير لم يجزئه إلا العتق، (وعلى الثالثة)
الاعتبار بحال الأداء، فإذا كان موسورا إذًا وجب عليه العتق، وإن كان حين
الوجوب معسرا، ولو كان حين الأداء معسرا أجزأه الصوم، وإن كان حين الوجوب
موسرا، اهـ.
وقول الخرقي: ولو حنث وهو عبد. إلى آخره إشعار بأن حالة الوجوب هي حالة
الحنث، وهو كذلك قطعا، فعلى هذا لو حلف العبد ولم يحنث حتى عتق فحكمه حكم
الأحرار، وهذا في اليمين، أما في الظهار والقتل فوقت الوجوب العود والزهوق،
والله أعلم.
قال: ويكفر بالصوم من لم يفضل عن قوت عياله يومه وليلته مقدار ما يكفر به.
(7/147)
ش: قد تقدم أن من لم يجد واحدا من الثلاثة
المتقدمة - وهي العتق، والإطعام والكسوة - انتقل إلى الصيام، وبيان عدم
الوجدان أن لا يفضل عن قوته وقوت عياله يوم العيد وليلته مقدار ما يكفر به،
لأنه إذا يدخل تحت قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ} [البقرة: 196] بخلاف ما إذا وجد ما يكفر به فاضلا عما تقدم، فإنه
واجد، فلا يدخل تحت الآية الكريمة.
وعموم كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقتضي أن من وجد ما يكفر به فاضلا
عما تقدم لا يجوز له أن يكفر بالصوم، وإن كان ماله غائبا، وهو كذلك بلا
نزاع فعلمه، فيما إذا أمكنه الشراء بنسيئة، وكذلك إن لم يمكنه كما هو مقتضى
كلام الخرقي، ومختار عامة الأصحاب، حتى أن أبا محمد، وأبا الخطاب والشيرازي
وغيرهم جزموا بذلك، وقيل: يجوز والحال هذه العدول إلى الصوم، وهو الذي
أورده أبو البركات مذهبا، وقيل: إنما يعدل إليه في كفارة الظهار خاصة إذا
رجا إتمامه قبل حصول المال، وحكم الدين المرجو الوفاء حكم المال الغائب
قاله أبو محمد.
وعموم كلامه أيضا يقتضي أن الدين لا يمنع وجوب الكفارة، وهو إحدى
الروايتين، والرواية الثانية –
(7/148)
وصححها أبو محمد - يمنعها، ثم أن أبا محمد
في المغني جعل محلهما في الدين غير المطالب به، أما المطالب به فيمنعها بلا
خلاف، وغيره يطلق الخلاف.
قال: ومن له دار لا غنى له عن سكناها، أو دابة يحتاج إلى ركوبها، أو خادم
يحتاج إلى خدمته، أجزأه الصيام في الكفارة.
ش: لأن ذلك من حوائجه الأصلية، أشبه الطعام المحتاج إليه، وفي معنى ما تقدم
ما يلبسه ولو للتجمل، وما يحتاج إليه من كتب علم ونحو ذلك. ومقتضى كلام
الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه متى استغنى عن سكنى الدار، أو لم يحتج إلى
دابة أو عبد، فإن الصيام لا يجزئه، وهو كذلك في الجملة، كما إذا كان له
داران أو عبدان أو دابتان ونحو ذلك، يستغني بإحداهما، فإنه يبيع الأخرى،
وينتقل إلى التكفير بالمال، وكذلك إذا كان له دار واحدة أو دابة واحدة،
ونحو ذلك، وأمكنه بيعها وشراء ما يسكنه مثله أو يركبه مثله، ويفضل ما يشتري
به رقبة، فإنه يلزمه ذلك، جمعا بين الحقين، وكذلك إذا كان مثله يخدم نفسه
وله خادم، فإنه يلزمه عتقه، قاله أبو محمد، لأنه غير محتاج إليه، وعلى
قياسه لو كان له دار يسكنها، ومثله يسكن بالأجرة، ولا ضرر عليه في ذلك،
فإنه يلزمه بيعها والتكفير بالمال، ويستثنى من ذلك إذا كان له سرية يمكنه
بيعها وشراء
(7/149)
سرية ورقبة يعتقها، فإنه لا يلزمه ذلك،
وينتقل إلى الصيام، لتعلق الغرض بعينها، وكذلك إذا تعذر عليه بيع ما تقدم،
أو أمكن البيع وتعذر الشراء، فإن له الانتقال إلى الصوم، لتعذر الجمع بين
الحقين، فأشبه ما لو لم يكن له فضل، وتمام الكلام على ذلك له محل آخر،
والله أعلم.
قال: ويجزئه إن أطعم خمسة مساكين وكسا خمسة.
ش: مناط المسألة أن يطعم بعضا ويكسو بعضا، بحيث يستوفي من المجموع عشرة،
والخرقي ذكر صورة على سبيل المثال، وإنما أجزأ ذلك لأن كل فقير من العشرة
مخير فيه بين إطعامه وكسوته، فإذا أطعم مثلا خمسة وكسا خمسة، فقد قام
بالواجب عليه، فوجب أن يجزئه، ولأن كلا من الطعام والكسوة يقوم مقام الآخر
في جميع العدد، فكذلك في بعضه، كالتيمم لما قام مقام الماء في البدن كله في
الجنابة، قام مقام البعض فيما إذا كان بعض البدن صحيحا وبعضه جريحا.
ويتخرج لنا وجه آخر أنه لا يجزئه، كما لو أعطى في الجبران شاة وعشرة دراهم،
لاستلزامه التخيير ثم بين ثلاثة أشياء، وهنا بين أربعة أشياء، والشارع إنما
خيره ثم بين شيئين، وهنا بين ثلاثة أشياء.
(تنبيه) : لو أطعم المسكين بعض الطعام وكساه بعض الكسوة لم يجزئه بلا ريب،
لأنه لم يأت بالواجب من أحدهما، والله أعلم.
(7/150)
قال: وكذلك إن أعتق نصفي عبدين، أو نصفي
أمتين، أو نصفي عبد وأمة أجزأ عنه.
ش: هذا اختيار القاضي في تعليقه، وعامة أصحابه كالشريف وأبي الخطاب في
خلافيهما، وابن البنا والشيرازي، لأن نصف الشيئين بمنزلة الشيء الواحد،
بدليل ما لو كان له نصف ثمانين شاة مشاعا، وجبت عليه الزكاة كما لو ملك
أربعين، واختار ابن حامد فيما حكاه القاضي في روايتيه، وأبو بكر وحكاه نصا
عن أحمد أنه لا يجزئه ذلك، لأن إطلاق الرقبة ينصرف إلى الكاملة، ثم إن
المراد من العتق تكميل الأحكام ولا يحصل من ذلك، وفي المذهب وجه ثالث
اختاره الشيخان: إن كان نصفهما حرا أجزأ لتكميل الأحكام، إذ بذلك يحصل
تكميل عبدين لا عبد واحد، فهو بالجواز أولى، وإلا لم يجزئ لما تقدم في دليل
أبي بكر، والله أعلم.
قال: وإن أعتق نصف عبد، وأطعم خمسة مساكين أو كساهم لم يجزئه.
ش: لأن الأصل عدم التلفيق، لأنه عدول عن
(7/151)
المنصوص، وإنما قلنا به في الإطعام والكسوة
لتساويهما في المعنى، وهنا لم يتساويا، بل تباينا، إذ القصد من العتق تكميل
الأحكام، وتخليص الرقبة من الرق، والقصد من الإطعام والكسوة سد الخلة بدفع
الحاجة، ودفع ضرر الحر والبرد مع ستر العورة، وهما متباينان، بخلاف الطعام
والكسوة، فإنهما لتقاربهما أجريا مجرى الجنس الواحد، والخرقي - رَحِمَهُ
اللَّهُ - نص على جواز التلفيق من الطعام والكسوة، وعلى منع ذلك في العتق
مع أحدهما، وبقي عليه لو أتى ببعض واحد من الثلاثة ثم عجز عن تمامه، هل له
التتميم بالصوم؟ ليس له ذلك قاله أبو محمد، قال: لأنه إذا لم يجز تكميل أحد
نوعي المبدل من الآخر وهو الطعام أو الكسوة فتكميله بالمبدل أولى.
(قلت) : وقد يقال بذلك كما في الغسل والوضوء مع التيمم، فإنه لو وجد ماء
يكفي لبعض طهارته لزمه استعماله ثم تيمم للباقي، وأبو محمد استشعر هذا،
وأجاب عنه بأن التيمم لا يأتي ببعضه عن بعض الطهارة، وإنما يأتي به بكماله،
قال: وها هنا لو أتى بالصيام جميعه أجزأه. قلت: وهذا الجواب فيه نظر، فإنه
وإن أتى به بكماله، فإنه إنما يأتي به عن بعض الطهارة لا عن كلها، ولهذا لو
قدر على الماء لزمه غسل ما بقي من بدنه ولا يلزمه غسل الجميع وإنما كان
يأتي به بكماله، لأنه التيمم ليس له إلا صفة واحدة ويرجح هذا أيضا قول
النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه
ما استطعتم» .
(7/152)
قال: ومن دخل في الصوم ثم أيسر لم يكن عليه
الخروج من الصوم إلى العتق أو الإطعام إلا أن يشاء.
ش: هذا المذهب المجزوم به عند عامة الأصحاب، منهم أبو محمد في المغني، لأنه
بدل لا يبطل بالقدرة على المبدل، فلم يلزمه الخروج إلى المبدل بعد الشروع
فيه، كالمتمتع العاجز عن الهدي إذا شرع في صوم السبعة الأيام، فإنه لا
يلزمه الخروج اتفاقا، وفارق التيمم فإنه يبطل بالقدرة على الماء بعد فراغه
منه، وليس كذلك الصوم، فإنه لا يبطل إذا قدر على العتق وأيضا فإن الصوم
يجري كل يوم منه مجرى عبادة منفردة، بدليل افتقاره إلى نية، وعدم تعدي
فساده إلى ما قبله، وليس كذلك الصلاة.
ولأبي محمد في المقنع احتمال أنه يلزمه الانتقال، لقدرته على المبدل قبل
إتمام البدل، فأشبه المتيمم إذا قدر على الماء قبل إتمام الصلاة، وقد تقدم
الفرق.
وصريح كلام الخرقي أن له أن ينتقل إلى العتق والإطعام إذا شاء ذلك، لأنه
إنما سقط عنه ذلك للرفق به، فإذا أتى به أجزأه، كالمريض الساقط عنه حضور
الجمعة إذا حضرها، وقد تقدم للخرقي في العبد أنه إذا أعتق لا يجزئه غير
الصوم، والفرق أن العبد ليس له أهلية التكفير بغير
(7/153)
الصوم كما تقدم، بخلاف الحر المعسر، وخرج
أبو الخطاب في الحر المعسر قولا أنه كالعبد لا يجزئه غير الصوم، نظرا إلى
أنهما إنما خوطبا بالصوم، ففعل غيره يكون عدولا عما وقع به الخطاب، ويتلخص
أن في العبد والحر المعسر ثلاثة أقوال: (ثالثها) : للحر الانتقال بخلاف
العبد، وهو اختيار الخرقي.
(تنبيه) : قال الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما: فائدة هذه المسألة إذا
قلنا: الاعتبار بأعلى الحالين، أما إن قلنا بحال الوجوب فلا، لأنه إذا لو
قدر على العتق قبل الشروع في الصوم لم يلزمه. (قلت) : ومن هنا قالا: إن
مذهب الخرقي أن الاعتبار بأعلى الحالين، والذي يظهر أن الخرقي إنما نص على
هذه المسألة للخلاف فيها؛ إذ مذهب الحنفية لزوم الانتقال والحال ما تقدم،
ومن هنا يقال: إنه لا مفهوم لقوله: ومن دخل في الصوم ثم أيسر لم يكن عليه
الخروج منه. والله سبحانه أعلم.
(7/154)
[باب جامع الأيمان] [الرجوع
في الأيمان إلى النية أم العرف]
ش: الأولى قراءة باب، أي هذا باب جامع الأيمان،
لأن المقصود الحكم على أيمان مختلفة، لا الحكم على من جمع أيمانا والله
أعلم.
قال: ويرجع في الأيمان إلى النية.
ش: وذلك لما تقدم في المعاريض من حديث سويد بن حنظلة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -.
3731 - وعن «أنس بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: أقبل النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو مردف أبا بكر، وأبو بكر شيخ يعرف،
ورسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شاب لا يعرف، قال فيلقى
الرجل أبا بكر فيقول: يا أبا بكر من هذا الرجل الذي بين يديك؟ فيقول: هذا
الرجل يهديني السبيل. فيحسب الحاسب أنه إنما يعني الطريق؛ وإنما يعني سبيل
الخير» . رواه أحمد والبخاري.
3732 - وفي «حديث ركانة الذي في السنن أنه لما طلق امرأته ألبتة، وقال
للنبي: والله ما أردت إلا واحدة: فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «والله ما أردت إلا واحدة؟» : فقال: «والله ما أردت إلا
واحدة» ؛ وأيضا قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما
الأعمال
(7/155)
بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى» وأيضا فإن
كلام الشارع ورد على لغة العرب، ولا ريب أنه محمول على مراده الثابت
بالدليل.
3733 - كما في قَوْله تَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ} [آل
عمران: 173] ؛ والمراد نعيم بن مسعود {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا
لَكُمْ} [آل عمران: 173] والمراد أبو سفيان وأصحابه، وهو كثير لا يكاد
يحصى، فكذلك كلام غيره يحمل على مراده، إذا تقرر هذا فشرط الرجوع إلى النية
احتمال اللفظ لها كما سيأتي إن شاء الله تعالى، أما إذا نوى باللفظ ما لا
يحتمله أصلا، كأن حلف لا يكلم زيدا، وأراد لا يدخل بيتا ونحو ذلك فهذه نية
مجردة، لا ارتباط لها باللفظ، فوجودها كعدمها، ثم النية تارة توافق ظاهر
اللفظ، كما إذا نوى بالعموم العموم، وبالخصوص الخصوص، وبالإطلاق الإطلاق،
ونحو ذلك، فهذه مؤكدة للفظ ومقوية له، كالشرط الموافق في العقد لمقتضاه،
وتارة تخالف ظاهره، كأن يريد بعام خاصا، أو بمطلق مقيدا، أو بخاص عاما،
ونحو ذلك مثل أن يحلف لا يأكل لحما ويريد لحم الإبل مثلا لا غيره، أو
ليعتقن عبدا، ويريد عبدا بعينه، أو لا يأوي
(7/156)
مع امرأته في دارها مثلا، ويريد جفاءها
بترك اجتماعه معها في جميع الدور ونحو ذلك.
(تنبيه) : رجوع الحالف إلى نيته هو فيما بينه وبين الله تعالى، بشرط احتمال
اللفظ له كما تقدم، وعدم ظلمه كما تقدم أيضا، أما عند الحاكم فإن قرب ما
ادعاه أنه قصده من الظاهر سمع منه، وإن بعد لم يسمع، وإن توسط فروايتان،
والناظر الفهم في مظان ذلك لا يخفى عليه ما قلناه والله أعلم.
قال: فإن لم ينو شيئا رجع إلى سبب اليمين وما هيجها.
ش: إذا لم ينو شيئا - لا ظاهر اللفظ ولا غير ظاهره كما تقدم - رجع إلى سبب
اليمين وما هيجها، أي أثارها، فإذا حلف مثلا أن لا يأوي مع امرأته في هذه
الدار، وكان سبب يمينه غيظا من جهة الدار، لضرر لحقه من جيرانها، أو منة
حصلت عليه بها ونحو ذلك اختصت يمينه بها كما هو مقتضى اللفظ، وإن كان لغيظ
من المرأة يقتضي جفاءها، ولا أثر للدار فيه، تعدى ذلك إلى كل دار، المحلوف
عليها بالنص، وما عداها بعلة الجفاء التي اقتضاها السبب، (وكذلك) : إذا حلف
لا يدخل بلدا لظلم رآه فيه، أو لا يكلم زيدا لشربه الخمر مثلا، فزال الظلم،
وترك زيد شرب الخمر، جاز له الدخول والكلام، لزوال العلة المقتضية لليمين،
وذلك لأن السبب يدل على النية؛ لأنه الداعي للحالف على الحلف، والداعي إلى
الشيء تتعلق الإرادة
(7/157)
به فيصير مرادا، ولهذا لما قال الحطيئة
يهجو بني عجلان:
ولا يظلمون الناس حبة خردل
كان ذلك هجاء قبيحا، ولو قاله في مقام المدح كان مدحا حسنا، وما ذاك إلا
لاختلاف المقام.
(7/158)
وكلام الخرقي يشمل ما إذا كان اللفظ خاصا
والسبب يقتضي التعميم كما مثلناه أولا، أو عاما والسبب يقتضي التخصيص كما
مثلناه ثانيا، ولا نزاع بين الأصحاب فيما علمت في الرجوع إلى السبب المقتضي
للتعميم لما تقدم، واختلف في عكسه فقيل فيه وجهان، وقيل روايتان، وبالجملة
فيه قولان أو ثلاثة: (أحدها) - وهو المعروف عن القاضي في التعليق، وفي
غيره، واختيار عامة أصحابه، الشريف وأبي الخطاب في خلافيهما - يؤخذ بعموم
اللفظ، وهو مقتضى نص أحمد في رجل حلف لا صدت من هذا النهر. وكان سبب يمينه
ظلم السلطان فزال السلطان، لم
(7/159)
يصطد فيه، وكذلك قال فيمن حلف لا يدخل بلدا
لظلم رآه فيه فزال الظلم، فقال: النذر يوفى به، وقال أيضا في رواية المروذي
فيمن قالت له زوجته: قد تزوجت علي، فقال: كل امرأة لي طالق، فإن المخاطبة
تطلق مع نسائه مع أن دلالة الحال تقتضي إخراجها، إذ القصد إرضاؤها، ووجه
ذلك الاعتماد على ظاهر اللفظ وهو العموم، والسبب لا ينافيه ولا معارضة
بينهما، وصار هذا كألفاظ الشارع العامة، على المعروف عندنا وعند الأصوليين،
تحمل على مقتضاها من العموم، ولا تخصص بأسبابها، وبنى أبو الخطاب ذلك على
ما إذا اجتمع التعيين والإضافة.
والقول الثاني - وهو ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد، وحكي عن القاضي
في موضع -: يحمل اللفظ العام على السبب، ويكون ذكر السبب مبنيا على أن
العام أريد به خاص، لما تقدم، وأيضا فإن السبب هو العلة المقتضية للحكم،
فيزول الحكم بزوالها، وخرج عن ذلك ألفاظ الشارع، فإن العلة في وجودها ليس
السبب، ثم المقصود في ألفاظ الشارع تقرير الحكم وتعميمه لجميع المكلفين وفي
جميع الصور، بخلاف غيره.
والقول الثالث: لا يقتضي التخصيص فيما إذا حلف لا يدخل البلد لظلم رآه فيه،
ويقتضي التخصيص فيما إذا دعي إلى غداء فحلف لا يتغدى، أو حلف لا يخرج عبده
أو زوجته إلا بإذنه والحال يقتضي ما داما كذلك، وقد أشار القاضي إلى هذا في
التعليق، فقال - بعد ذكر صورة الغداء، وفيما إذا تأهبت امرأته للخروج فقال:
إن خرجت فأنت
(7/160)
طالق -: لا يعرف الرواية عن أصحابنا في
هذا، وقياس المذهب أن يمينه لا تقصر على الخروج الذي تأهبت له، ولا على
الغداء عنده، لعموم اللفظ، ولقول أحمد - وذكر مسألة الصيد من النهر - قال:
وقيل تقصر يمينه على الغداء عنده، وعلى الخروج الذي تأهبت له لأنه لا عموم
لهذا اللفظ، إذ قوله: إذا خرجت، يقتضي خروجا واحدا، وكذلك: إن تغديت، يقتضي
غداء واحدا، فيختص ذلك الواحد المنكر بدلالة الحال.
تنبيهان: (أحدهما) : هذا الذي قاله الخرقي - من تقديم النية على السبب - هو
الذي اعتمده عامة الأصحاب، وعكس ذلك الشيرازي، فقدم السبب على النية.
(الثاني) : إذا اختلف السبب والنية، كأن تمن امرأته عليه بغزلها، فحلف: لا
لبست ثوبا من غزلها؛ وقصده اجتناب اللبس خاصة، دون الانتفاع بالثمن، قدمت
النية على السبب وجها واحدا، لموافقتها مقتضى اللفظ، وإن قصد ثوبا واحدا
فكذلك في ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي محمد، إذ السبب إنما اعتبر لدلالته
على القصد، فإذا خالف حقيقة القصد كان وجوده كعدمه، وقدم القاضي والحال هذه
السبب لموافقته العموم، فيجتمع ظاهران على مخالفة النية، قلت: وهذا متوجه
في الحكم.
(7/161)
(الثالث) : بحث شهاب الدين القرافي بحثا
ملخصه الفرق بين النية المخصصة والمؤكدة، وقال: إن أهل العصر لا يكادون
يفرقون بينهما، فالحالف إذا حلف لا يلبس ثوبا ونوى الكتان لا يحنثوه بغيره،
قال: وهو خطأ بالإجماع، إذ العام إذا أريدت به أفراده حصل التحنيث بها في
اللفظ والنية المؤكدة، وإن لم ترد حنث باللفظ، وإن نوى بعض الأفراد غافلا
عن البعض الآخر حنث في المنوي باللفظ والنية المؤكدة وفي البعض الآخر
باللفظ، وإن أطلق العام ونوى إخراج بعض أفراده لم يحنث بالمخرج، ثم بين ذلك
بقاعدة، وهي أن من شرط المخصص أن يكون منافيا للمخصص ومعارضا له، وقصد
البعض مع الغفلة عن الباقي لا معارضة فيه، ونظر ذلك بـ (اقتلوا الكفار،
اقتلوا اليهود) فاقتلوا اليهود، لا يعارض الأول، بل يؤكد بعض أنواعه، ولو
قال: لا تقتلوا أهل الذمة؛ لخصص لحصول المنافاة،
(7/162)
ثم أورد على نفسه أن العلماء يستعملون
العام في الخاص وهو ما تقدم، وأنه لو قال: لا لبست ثوبا كتانا، اختصت يمينه
بالكتان، وأجاب عن الأول بأن معنى قولهم، إطلاق اللفظ، وإخراج بعض مسمياته
عن الحكم المسند للعموم، لا قصد بعض العموم، وعن الثاني بأن المستقل إذا
لحقه غير مستقل صيره غير مستقل، والصفة هنا وهي «كتانا» لا تستقل، فإذا
لحقت مستقلا وهو الموصوف قبلها صيرته غير مستقل فأبطلت عمومه، وأورد على
هذا لم لا تجعل الصفة مؤكدة للعموم في البعض، ويبقى الباقي على عمومه كما
في النية، إذ التأكيد يكون باللفظ إجماعا، وأجاب بأن الصفة لفظ له مفهوم
مخالفة، وهو دلالته على العدم عن غير المذكور، والمفهوم من دلالة الالتزام،
والنية لا دلالة لها، لا مطابقة ولا تضمنا ولا التزاما، لأنها من المعاني،
والمعاني مدلولات، فليس فيها ما يقتضي إخراج غير المنوي، فبقي الحكم
للعموم.
وهذا البحث الذي قاله حسن، إلا أن ظاهر قول الفقهاء من أصحابنا وغيرهم
يخالفه، والظاهر أن مثل هذا من باب إطلاق العام وإرادة الخاص، وقوله: إن
معنى ذلك إطلاق اللفظ وإخراج بعض مسمياته؛ منازع فيه، بل هو إطلاق العام
مريدا لخاص، كإطلاق الثوب مريدا به الكتان، وقد وقع للقاضي من أصحابنا أن
اللفظ في نفسه لا يتصف بعموم ولا خصوص إلا بقصد المتكلم، فإذا قال
(7/163)
الحالف: لا لبست ثوبا، يقصد الكتان، فقصده
لا يتناول غير الكتان، فلا يحنث إلا به، وقد حكى القاضي عبد الوهاب -
وناهيك به - أن العموم هل يقصر على مقصوده، أو يحمل على عموم لفظه؟ على
قولين لأصحابه وغيرهم، ونصر قصره، وهذا هو هذه المسألة بعينها والله أعلم.
قال: ولو حلف لا يسكن دارا هو ساكنها خرج من وقته، فإن تخلف عن الخروج حنث.
ش: لأن يمينه اقتضت المنع من السكنى، فمتى تأخر عن الخروج حنث، لأنه يصدق
عليه أنه ساكن، (وظاهر) إطلاق الخرقي يقتضي أنه لو أقام لنقل متاعه وأهله،
أو لخوف من الخروج، ونحو ذلك أنه يحنث، والمعروف خلاف هذا، إذ الانتقال
عرفا إنما يكون بالأهل والمال وعلى وجه يمكنه، فهو غير داخل في اليمين،
(وظاهر) إطلاقه أيضا أنه لو خرج دون أهله ومتاعه أنه لا يحنث، والمعروف
حنثه أيضا في الجملة، اعتمادا على العرف كما تقدم، إذ العرف أن السكنى تكون
بالأهل والمال، ألا ترى أنه يقال: فلان ساكن في كذا. وهو غائب عنه، وفرق
أبو محمد في المغني، فحنثه
(7/164)
بالأهل دون المتاع، واتفق هو والأصحاب فيما
علمت أنه لو أودع متاعه أو أعاره، أو أزال ملكه عنه، أو أبت امرأته من
الخروج ولم يمكنه إكراهها أنه لا يحنث بالخروج وحده.
(تنبيه) : هذا مع عدم النية والسبب، أما مع وجود أحدهما فالاعتماد عليه كما
تقدم، وكذلك في كل صورة تأتي والله أعلم.
قال: ولو حلف لا يدخل دارا فحمل وأدخلها ولم يمكنه الامتناع لم يحنث.
ش: لأن الفعل غير منسوب إليه ولا موجود منه، وخرج من كلامه ما إذا دخلها من
غير حمل فإنه يحنث مطلقا، حتى لو دخلها في ماء أو من ظهرها، لوجود المحلوف
عليه، نعم يستثنى من ذلك ما إذا دخلها ناسيا على المذهب، إلا في الطلاق
والعتاق، أو مكرها على أشهر الروايتين، وخرج التفرقة بين الطلاق والعتاق
وغيرهما وخرج أيضا ما إذا أمكنه الامتناع ولم يمتنع فإنه يحنث، وهو أحد
الوجهين، واختيار أبي محمد، لأن له نوع اختيار، أشبه ما لو كان الدخول
بأمره؛ (الوجه الثاني) - وحكي عن القاضي -: لا يحنث، لأن الفعل منسوب إلى
غيره، وحيث لم نحنثه بالدخول ففي حنثه بالاستدامة وجهان، والله أعلم.
قال: ولو حلف لا يدخل دارا فأدخل يده أو رجله أو رأسه أو شيئا منه حنث.
(7/165)
ش: إذا حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه - كما
إذا حلف لا يأكل هذا الرغيف، أو لا يشرب ماء هذا الإناء، فأكل أو شرب
بعضهما - ففيه روايتان مشهورتان: (إحداهما) - وهي اختيار الخرقي والقاضي
وغيره وأبي بكر، والشريف وأبي الخطاب في خلافيهما، والشيرازي وابن البنا،
وابن عقيل في التذكرة، وغيرهم -: يحنث بفعل البعض، لأنه منع نفسه من فعل
المحلوف عليه، فوجب أن يمتنع من كل جزء منه كالنهي والجامع المنع فيهما.
ودليل الأصل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أمرتكم
بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه» ، وقد رد هذا بأن
النهي عن الشيء ليس نهيا عن أجزائه، كالنهي عن خمس ركعات في الظهر، نعم
النهي عن الشيء نهي عن أجزائه، كالنهي عن الحرير، نهي عن الأسود والأبيض
منه، فالقياس على النهي غير صحيح، (والرواية الثانية) - واختارها أبو
الخطاب فيما قاله أبو محمد - لا يحنث إلا بفعل الجميع.
3734 - لأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يخرج رأسه
إلى عائشة - رضي الله
(7/166)
عنها - وهو معتكف فتغسله وهي حائض»
والمعتكف ممنوع من الخروج من المسجد.
3735 - ويروى «أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي بن كعب:
«لا أخرج من المسجد حتى أعلمك سورة من القرآن» ، فلما أخرج رجله من المسجد
علمه إياها، ولأن اليمين تناولت الجميع فلم يحنث بالبعض
(7/167)
كالإثبات، وبهذا استدل أحمد فقال: الكل لا
يكون بعضا، والبعض لا يكون كلا، وقد يجاب عن هذا بأن الاعتكاف عبارة عن
ملازمة المسجد للطاعة، ومن أخرج بعضه يصدق عليه أنه ملازم للمسجد، لا أنه
مفارق له، على أن هذه واقعة عين، فيحتمل أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - استثنى هذا القدر، وهذا هو الجواب عن قصة أبي بن كعب
إذ هي واقعة عين، فيحتمل أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
ترك ذلك ناسيا، ولعله الظاهر، فلما ذكر حين خرج استدرك فعلمه في الحال.
إذا تقرر هذا (فمن صور) الخلاف إذا حلف لا يلبس ثوبا من غزلها أو نسجها أو
شرائها فلبس ثوبا شوركت في غزله أو نسجه أو شرائه، أو لا يبيع أمته أو لا
يهبها فباع بعضها ووهب بعضها، وما أشبه ذلك، واختلف الأصحاب فيما إذا قال:
لا ألبس من غزلها، فلبس ثوبا فيه منه، فقال القاضي وأبو الخطاب في الهداية:
إنه على الروايتين، لأن المعنى لا ألبس ثوبا من غزلها لأن الغزل لا يلبس
بمفرده، واختار الشيخان تحنيثه على الروايتين، لأنه يصدق أنه لبس من غزلها،
(ومن صور) المسألة عند الأكثرين والقاضي
(7/168)
وغيره مسألة الخرقي، وهو ما إذا حلف لا
يدخل دارا فأدخلها بعض جسده، يده أو رجله ونحو ذلك، لأنه منع نفسه من
الدخول، وإذا تساويا معنى تساويا حكما، كمنع نفسه من أكل الرغيف مثلا، ولا
ريب أن المسألة فيها روايتان منصوصتان وإنما اختلف الأصحاب في المختار
منهما، فالقاضي والأكثرون على التحنيث كالمسألة السابقة، تسوية بينهما،
وأبو بكر وأبو الخطاب في الهداية اختارا عدم التحنيث، بخلاف المسألة
السابقة، فإن أبا بكر يختار فيها الحنث كالجماعة، وكأن الفرق أن الحالف لا
يدخل دارا إذا أدخلها بعض جسده لا يصدق عليه أنه دخل، وإنما أدخل يده أو
رجله مثلا، فلا يكون مخالفا ليمينه.
(تنبيهان) : «أحدهما» : محل الخلاف كما تقدم في اليمين المطلقة، أما إن نوى
الجميع أو البعض اعتمدت نيته، وكذلك إذا قامت قرينة تقتضي أحد الأمرين كما
إذا حلف لا يشرب النهر، أو: لا أكلت الخبز، أو لا كلمت المشركين، أو لا
أهنت الفقراء؛ ونحو ذلك، فإن يمينه تتعلق ببعض ذلك وجها واحدا، وعكس هذا
إذا حلف لا يصوم يوما، أو لا يصلي صلاة، أو علق طلاق امرأته على وجود حيضة
ونحو ذلك، فإن يمينه تتعلق بالجميع.
«الثاني» مما مثل به أبو محمد في الكافي، وابن عقيل في التذكرة للمسألة:
إذا حلف لا يأكل رغيفا فأكل بعضه، وترجمها الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما:
إذا حلف لا يفعل شيئا ففعل بعضه، وظاهر هذا أنه لا فرق بين أن تكون اليمين
على شيء معين أو مبهم، والله أعلم.
(7/169)
قال: ولو حلف أن يدخل لم يبر حتى يدخل
جميعه.
ش: لا نزاع في هذا فيما نعلمه، إذ اليمين تناولت فعل الجميع، فلم يبر إلا
به، كما لو أمر بشيء فإنه لا يخرج عن عهدة الأمر إلا بفعل الجميع بلا ريب،
ومثل هذا إذا حلف ليأكلن هذا الرغيف ونحوه، فإنه لا يبر إلا بأكل جميعه
والله أعلم.
قال: ولو حلف أن لا يلبس ثوبا هو لابسه، نزعه من وقته، فإن لم يفعل حنث.
ش: أما نزعه من وقته فليمتثل ما حلف على تركه، وأما تحنيثه إذا لم ينزع في
الحال فلأن استدامة ذلك يسمى لبسا، ولذلك يقال: لبست هذا الثوب شهرا ويرشح
هذا منع الشارع من استدامة المخيط في الإحرام كابتدائه، وحكم: لا يركب دابة
هو راكبها كذلك، بخلاف: لا يتزوج، ولا يتطيب، ولا يتطهر، فإنه لا يحنث
باستدامة ذلك على المذهب، لأنه لا يقال: تزوج شهرا، إنما يقال: منذ شهر،
وكذلك في التطيب والتطهير، وحنثه القاضي في كتاب إبطال الحيل، والله أعلم.
قال: وإن حلف أن لا يأكل طعاما اشتراه زيد، فأكل طعاما اشتراه زيد وبكر،
حنث إلا أن يكون أراد أن لا ينفرد أحدهما بالشراء.
(7/170)
ش: أما مع النية فواضح، وأما مع عدمها
فاختلف الأصحاب في ذلك، فعن بعضهم أنه خرجها على الروايتين في فعل بعض
المحلوف عليه، لأن الضمير في: اشتراه. يرجع إلى الطعام، والطعام لم ينفرد
زيد بشرائه، إنما اشترياه معا. واختار الشيخان أنه يحنث على الروايتين، لأن
زيدا مشتر لنصفه، ونصفه طعام، فوجب أن يحنث به لوجود المحلوف عليه، كما لو
انفرد زيد بشرائه، وهذا مقتضى قول القاضي في جامعه، والشريف وأبي الخطاب في
خلافيهما، وابن البنا وغيرهم، فإنهم جزموا في هذه الصورة بالحنث، مع
حكايتهم الخلاف في الصورة السابقة، وكذلك قطع هؤلاء بالحنث فيما إذا قال:
لا آكل مما طبخه زيد، أو لا ألبس ثوبا خاطه زيد، أو لا أدخل دارا لزيد، مع
حكايتهم الخلاف في الأصل السابق، ووافقهم أبو محمد في الأولى، وخالفهم في
اللتين بعدها، فأجرى فيهما الخلاف، والله أعلم.
قال: ولو حلف أن لا يكلمهما أو لا يزورهما، فكلم أو زار أحدهما حنث، إلا أن
يكون أراد أن لا يجتمع فعله بهما.
ش: أما إذا كانت له نية فلا إشكال في اعتمادها، كما إذا قصد أن لا يجتمع
فعله وهو الزيارة أو الكلام بأحدهما، فإنه لا يحنث إلا بزيارتهما أو
كلامهما، ولو قصد ترك كلام أو زيارة كل منهما منفردا حنث بكلام أو زيارة
أحدهما، وإن أطلق خرج على الروايتين في فعل بعض المحلوف عليه، لأن
(7/171)
الحالف على كلام شخصين أو زيارتهما إذا كلم
أو زار أحدهما فعل بعض المحلوف عليه، قال أبو محمد: ويمكن أن يقال: إن
تقدير يمينه: لا كلمت هذا، ولا كلمت هذا؛ لأن المعطوف يقدر له بعد حرف
العطف فعل وعامل مثل العامل الذي قبل المعطوف عليه، فيصير كقوله تعالى:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] أي
وحرمت عليكم بناتكم، وإذا يصير كل واحد منهما محلوفا عليه منفردا، كما لو
صرح بذلك. قلت: هذا على القول الضعيف للنحاة من أنه يقدر للمعطوف عامل مثل
عامل المعطوف عليه، أما على القول المشهور من أن العامل فيهما واحد - وهو
الأول - فلا يمشي ما قاله، وحكم: لا آكل خبزا ولحما ونحو ذلك حكم ما تقدم،
أما: لا أدخل هاتين الدارين، ولا أعصي الله في هذين البلدين ونحو ذلك ففيه
الروايتان بلا ريب، ولا يجري فيه تردد أبي محمد، إذ لا عاطف ومعطوف، أما إن
كان تعليق على شيئين، كأن
(7/172)
قال لزوجته: إن كلمت زيدا وعمرا فأنت طالق،
أو قال لامرأتيه: إن حضتما فأنتما طالقتان. ونحو ذلك، فعن بعض الأصحاب
تخريجه على الخلاف، واختار أبو محمد في المغني - وهو احتمال له في الكافي -
أنه لا يحنث إلا بفعل الشيئين، إذ المشروط لا يوجد إلا بتكامل مشروطه، وجعل
في الكافي مسألة: إن حضتما. مسألة اتفاق، في أنه لا يحنث إلا بوجود الحيض
منهما. والله أعلم.
قال: ولو حلف أن لا يلبس ثوبا، فاشترى به أو بثمنه ثوبا فلبسه حنث إذا كان
ممن امتن عليه بذلك الثوب، وكذلك إن انتفع به أو بثمنه.
ش: هذه المسألة من فروع اعتبار سبب اليمين، وأن الحكم قد يتعدى لغير
الملفوظ به، نظرا لسبب اليمين الجاري مجرى العلة الشرعية، فإذا امتنت عليه
زوجته بثوب، فحلف أن لا يلبسه، والباعث له على ذلك المنة، فإن يمينه تتعدى
سبب ذلك إلى غير الثوب، فإذا اشترى به أو بثمنه ثوبا حنث، وكذلك إن انتفع
بثمنه، لوجود المنة بالثوب، إذ بدل الشيء يقوم مقامه، وخرج ما إذا انتفع
لها بثوب آخر، لأن المحلوف عليه ثوب بعينه، فتعلقت اليمين به.
وقول الخرقي: إذا كان ممن امتن عليه بذلك الثوب، يحترز عما إذا لم يمتن
عليه به، ولا قصد هو أيضا قطع منتها، فإن يمينه تتعلق بلبسه خاصة، اعتمادا
على اللفظ المجرد.
قال: ولو حلف أن لا يأوي مع زوجته في دار، فأوى
(7/173)
معها في غيرها، حنث إذا كان أراد بيمينه
جفاء زوجته، ولم يكن للدار سبب هيج يمينه.
ش: هذا من فروع اعتبار النية، فإذا حلف لا يأوي مع زوجته في دار عينها،
يقصد بذلك جفاءها، ولم يكن للدار سبب هيج يمينه، فأوى معها في غيرها حنث،
لأن وجود الدار والحال هذه كعدمها، لما اقتضته نيته من جفائها الموجود
بالإيواء معها في كل دار، وإن كان للدار سبب باعث على اليمين، كأن امتن
عليه بها ونحو ذلك، لم يحنث بالإيواء معها في غيرها، لعدم ما يقتضي التعدية
إلى غيرها، فصار ذلك كما لو عدمت النية والسبب، فإن يمينه لا تتجاوز ما حلف
عليه، وهو الإيواء معها في تلك الدار.
(تنبيه) : معنى الإيواء المبيت والله أعلم.
قال: ولو حلف أن يضرب عبده في غد فمات الحالف من يومه فلا حنث عليه.
ش: لأن اليمين على الغد، وفي الغد لم يكن الحالف مكلفا، فلم يتعلق به حنث،
وكذلك لو جن في اليوم واستمر به ذلك إلى فوات الغد، لما تقدم من خروجه عن
التكليف في وقت اليمين. (قلت) : وهذا بخلاف ما لو أغمي عليه، فإنه يحنث،
لبقاء التكليف، أما لو ارتد فينبغي بناؤه على تكليف الكفار بالفروع،
والمذهب التكليف.
ومقتضى كلامه أنه لو مات الحالف في غد أنه يحنث،
(7/174)
وهو يشمل وإن لم يتمكن من ضربه، وهو
المذهب، لأنه أدرك وقت الفعل وهو من أهل التكليف، ويشهد لهذا من قاعدتنا أن
الوجوب في الصلاة والزكاة ونحوهما يتعلق بأول الوقت، وإن لم يتمكن من
الفعل، وقيل: لا يحنث مطلقا، وقيل: إن تمكن من الضرب في الغد حنث، وإن لم
يتمكن فلا، لأن الترك لم يكن باختياره فهو كالمكره، وهذه الأقوال الثلاثة
لم أرها مصرحا بها في هذه المسألة بعينها، لكنها تؤخذ من مجموع كلام أبي
البركات وغيره.
ومقتضى كلام الخرقي أيضا أنه لو لم يمت الحالف في اليوم لكنه مرض فيه أو
نحو ذلك، بحيث تعذر عليه الفعل في الغد أنه يحنث، وهو كذلك والله أعلم.
قال: فإن مات العبد حنث.
ش: لا نزاع في هذا إذا كان موت العبد باختيار الحالف، كما إذا قتله، أما إن
كان بغير اختياره فلا يخلو إما أن يكون قبل الغد أو فيه، فإن كان قبل الغد
ففيه قولان، المذهب المنصوص منهما الحنث أيضا، كما قاله الخرقي، لعدم
المحلوف عليه في وقته، أشبه ما لو ترك الضرب مع بقاء العبد لصعوبته عليه،
ونحو ذلك. (والثاني) : لا يحنث، لأن عدم ضربه بغير فعل منه، أشبه المكره.
وحيث حنث فهل يحنث في الحال - وهو المذهب المنصوص - لأن يمينه منعقدة وقد
تحقق عدم الفعل، فأشبه
(7/175)
ما لو لم يوقت بوقت، أو لا يحنث إلا إذا
جاء الغد، أو لا يحنث إلا في آخر الغد؟ على ثلاثة أقوال، وإن كان في الغد
بعد التمكن من ضربه حنث، وكذلك قبله على المذهب، ثم هل يحنث عقب التلف، أو
في آخر اليوم؟ فيه القولان السابقان والله أعلم.
قال: وإذا حلف أن لا يكلمه حينا، فكلمه قبل ستة أشهر حنث.
ش: الحين عند الإطلاق يحمل على ستة أشهر، نص عليه أحمد والأصحاب، فإذا حلف
لا يكلمه حينا، وكلمه قبل ستة أشهر حنث، لمخالفته لما حلف عليه، وإن كلمه
بعدها لم يحنث، لأنه وفى بمقتضى يمينه، وهو عدم كلامه حينا، وإنما قلنا:
الحين عند الإطلاق ستة أشهر - وإن كان الحين في أصل الوضع زمنا مبهما، يطلق
على القليل والكثير - لأن الله سبحانه أطلقه وفسر بذلك في قَوْله تَعَالَى:
{تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] .
3736 - كذا قال سعيد بن جبير، وقتادة، والحسن، ويروى ذلك عن ابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وناهيك به لمعرفته بالقرآن إن صح عنه، وما أطلق
والمراد به أكثر من ذلك،
(7/176)
كما في قوله سبحانه وتعالى:
{لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ} [يوسف: 35] فإنه عبر به عن عدة سنين، قيل:
ثلاث عشرة سنة. فما ذكرناه هو الأقل وهو المتيقن، ولا يرد نحو قوله سبحانه:
{فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17]
لقيام القرينة الدالة على أن المراد وقت المساء ووقت الصباح، ولا نحو:
{وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] أي يوم القيامة، لقيام
القرينة أيضا على إرادة الزمن الطويل، والله أعلم.
قال: وإذا حلف أن يقضيه حقه في وقت، فقضاه قبله لم يحنث، إذا كان أراد
بيمينه أن لا يجاوز ذلك الوقت.
ش: كما إذا حلف ليقضينه حقه في رمضان، فقضاه في شعبان ونحو ذلك، وهذه
المسألة من فروع اعتبار النية، فإنه إذا قصد أن لا يتجاوز رمضان، فمعنى
يمينه أني لا أؤخر القضاء لبعد رمضان، فما قبل رمضان كله ظرف للقضاء، فإذا
قضاه في شعبان مثلا لم يحنث، لوجود القضاء
(7/177)
في وقته، وكذلك إذا كان السبب يقتضي ذلك،
لقيامه مقام النية، كما تقدم ذلك للخرقي، أما إن عدما فظاهر كلام الخرقي
وأبي البركات واختاره أبو محمد أنه لا يبر إلا بالقضاء في الوقت الذي حلف
عليه، وهو رمضان على ما مثلنا، اعتمادا على اللفظ، وقال القاضي: يبر مطلقا،
نظرا للعرف، فإنه يقضي بالتعجيل في مثل هذه اليمين، والله أعلم.
قال: ولو حلف أن لا يشرب ماء هذا الإناء فشرب بعضه حنث، إلا أن يكون أراد
أن لا يشربه كله.
ش: هذه المسألة قد تقدم الكلام عليها عند قوله: إذا حلف لا يدخل دارا
فأدخلها بعض جسده، فلا حاجة إلى إعادتها والله أعلم.
قال: ولو قال: والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك، فهرب منه لم يحنث.
ش: لأن يمين الحالف انصبت على أنه لا يفارقه، فهي على فعل نفسه، فمتى هرب
منه المحلوف عليه لم يوجد منه فعل، فلم يحنث، ومنصوص أحمد - رَحِمَهُ
اللَّهُ - في رواية جعفر بن أحمد بن شاكر أنه يحنث لأن المقصود من نحو هذه
(7/178)
اليمين أن لا يحصل بيننا مفارقة، فاليمين
توجهت على فعل الحالف والمحلوف فيحنث، فهو كما لو قال: لا افترقنا، واختار
أبو البركات متابعة لما جزم به أبو محمد في الكافي أنه متى أمكنه متابعته
وإمساكه فلم يفعل حنث، لأنه والحال هذه مختار للمفارقة، فينسب إليه، بخلاف
ما إذا لم يمكنه ذلك، فإنه لم توجد منه المفارقة ولا نسبت إليه.
(تنبيه) : لو فلسه الحاكم وحكم عليه بفراقه، فهل يحنث نظرا إلى أن المفارقة
وإن كان سببها من غيره قد وجدت منه، أو لا يحنث لأن الفعل والحال هذه لا
ينسب إليه، لعدم اختياره له؟ يخرج على روايتي ما إذا فارقه مكرها بضرب، وما
أجري مجراه والله أعلم.
قال: ولو قال: لا افترقنا. فهرب منه حنث.
ش: قد تقدمت الإشارة إلى هذا، وأن المحلوف عليه هنا عدم المفارقة منهما،
وقد وجدت مع الهرب، فيحنث، نعم لو أكرها معا على الفرقة ففي الحنث خلاف كما
تقدم.
(تنبيه) : الفرقة ما يعده الناس فراقا كما في البيع، والله أعلم.
قال: ولو حلف على زوجته أن لا تخرج إلا بإذنه فذلك في كل مرة، إلا أن يكون
نوى مرة واحدة.
ش: إذا حلف على زوجته أنها لا تخرج إلا بإذنه، أو بغير إذنه، أو حتى يأذن
لها، فخرجت بغير إذنه حنث، لوجود المخالفة فيما حلف عليه، وانحلت يمينه بلا
نزاع، إذ حرف «أن» لا يقتضي التكرار، وإن أذن لها فخرجت لم يحنث
(7/179)
بلا ريب، لعدم المخالفة، ثم هل يحتاج بعد
ذلك في كل خروج إلى إذن أو قد انحلت يمينه بالإذن الأول؟ فيه روايتان،
المذهب منهما الأول، وهذا معنى قول الخرقي: فذلك في كل مرة، أي إذا لم
يحنث، وأصل الخلاف والله أعلم من قوله: إن خرجت. معناه خروجا، وخروجا نكرة
في سياق الإثبات، لكنها في سياق الشرط، فمن لحظ كونها في سياق الشرط - وهو
التحقيق - قال: تعم كل خروج، فكل خروج محلوف عليه أنها لا تخرج إلا على
صفة، وهو الإذن فإذا خرجت بغير إذنه حنث، وإن كان قد أذن لها في خروج سابق،
ومن لحظ كونها نكرة في سياق الإثبات، مع قطع النظر إلى الشرط، قال: إنما
تناولت خروجا واحدا على صفة وهو الإذن، فإذا أذن لها فخرجت زالت اليمين،
لوجود المحلوف عليه، هذا كله مع الإطلاق، أما مع التقييد باللفظ، كما إذا
قال: حتى آذن لك مرة، أو في كل مرة، فلا ريب في اعتماد ذلك، وتقوم مقام
اللفظ النية، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله.
(تنبيه) : أخذ أبو الخطاب في الهداية الرواية الثانية من قول عبد الله عن
أبيه: إذا حلف أن لا تخرج امرأته إلا بإذنه، إذا أذن لها مرة فهو إذن لكل
مرة، وتكون يمينه على ما نوى، وإن قال: كلما خرجت فهو بإذني، أجزأه مرة
واحدة، وهذا ظاهر في الأخذ، وكذلك تبعه أبو البركات، وأبو محمد
(7/180)
في المقنع على حكاية الرواية، إلا أن قول
أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - في: كلما خرجت فهو بإذني، أنه يجزئه مرة واحدة،
فيه نظر، لأن هذا صريح في العموم، وقد يحمل قوله: أجزأه مرة واحدة. إذا نوى
بالمرة الإذن في كل مرة، أو أنه عبر بالعام - وهو كل خروج - عن الخاص، وهو
خروج واحد مجازا، اهـ. وقطع أبو محمد في المغني بالرواية الأولى، وجعل
رواية عبد الله فيما إذا أذن لها مرة أنه يسمع منه، وكأنه أخذ ذلك من قوله
في الرواية: وتكون يمينه على ما نوى. والظاهر خلافه والله أعلم.
قال: ولو حلف أن لا يأكل هذا الرطب، فأكله تمرا حنث، وكذلك كلما تولد من
ذلك الرطب.
ش: أصل هذه المسألة إذا اجتمع في المحلوف عليه التعيين والصفة، أو التعيين
والاسم، فهل يغلب التعيين - كما اختاره الخرقي وعامة الأصحاب، منهم ابن
عقيل في تذكرته، ولهذا كان التعريف بالإشارة من أعرف المعارف - أو الصفة
والاسم، وهو اختيار ابن عقيل على ما حكاه عنه أبو البركات، وأومأ إليه أحمد
في رواية مهنا، فيمن حلف لا يشرب هذا النبيذ، فثرد فيه وأكله أنه لا يحنث،
لأن ذلك بمنزلة العلة، فيزول الحكم بزوالها. على قولين.
(7/181)
ويدخل تحت ذلك صور (منها) مسألة الخرقي وهي
ما إذا حلف لا يأكل هذا الرطب، فصار تمرا أو دبسا أو خلا، ونحو ذلك؛
(ومنها) : إذا حلف لا آكل هذه الحنطة؛ فصارت دقيقا، أو خبزا، أو هريسة أو
نحو ذلك. (ومنها) : لا آكل هذا اللبن، فصار جبنا، أو كشكا ونحو ذلك، أو لا
آكل هذا الحمل، فصار كبشا، أو لا أدخل هذه الدار، فصارت فضاء أو حماما،
ونحو ذلك، أو لا أكلم هذا الصبي، فصار شيخا، أو لا أكلم زوجة فلان هذه، أو
عبده سعيدا ونحو ذلك، فطلق الزوجة، وباع العبد، أو: لا لبست هذا القميص
فصار سراويل أو رداء ونحو ذلك، واستثنى أبو محمد من ذلك إذا استحالت
الأجزاء، أو تغير الاسم، مثل أن يحلف لا آكل هذه البيضة، فتصير فرخا، أو
الحنطة، فتصير زرعا، فهذا لا يحنث بأكله، قال: وعلى قياسه الخمر إذا صارت
خلا، وعن ابن عقيل أنه طرد القول حتى في البيضة والزرع، ولعله أظهر، إذ لا
يظهر بين صيرورة البيضة فرخا وصيرورة الرطب خلا ونحو ذلك فرق طائل، وأبعد
من ذلك الخمر إذا صارت خلا، فإن الماهية باقية، وإنما تغيرت الصفة، وقد قال
أبو البركات: إذا حلف ليأكلن من هذه البيضة أو التفاحة ثم عمل منها ناطفا
أو شرابا، بر على القول بتقديم التعيين، ولا يبر على القول
(7/182)
باعتبار الصفة، وليس في الشراب إلا مائية
ماء من التفاح.
(تنبيه) : محل الخلاف مع عدم النية والسبب، أما مع وجود أحدهما فالحكم له
كما تقدم، والله أعلم.
قال: وإذا حلف أن لا يأكل تمرا فأكل رطبا لم يحنث.
ش: هذا واضح، إذ المحلوف عليه التمر، والرطب غيره فلا يحنث به، والله أعلم.
قال: ولو حلف أن لا يأكل اللحم، فأكل الشحم أو المخ أو الدماغ لم يحنث، إلا
أن يكون أراد اجتناب الدسم، فيحنث بأكل الشحم.
ش: أما مع عدم الإرادة فلأن الشحم والمخ - وهو الذي في العظام - والدماغ
وهو الذي في الرأس في قحفه ليسوا بلحم حقيقة ولا عرفا، فالحالف لا يأكل
لحما لا يحنث بذلك، لعدم تناول يمينه له، وعلى قياس ذلك الألية وكل ما لا
يسمى لحما، كالكبد والطحال، والرئة والمصران، والكرش والقانصة، والقلب
والأكارع والكلية، وكذلك ما كان لحما إلا أنه اختص باسم، إما لغة أو عرفا،
كلحم خد الرأس، على ظاهر كلام أحمد، واختيار القاضي،
(7/183)
وكاللسان على أظهر الاحتمالين، وعن أبي
الخطاب: يحنث بأكل لحم الخد، وهو مناقض لاختياره في الهداية، فيما إذا حلف
لا يأكل رأسا؛ لا يحنث إلا بأكل رأس جرت العادة بأكله منفردا، فغلب العرف،
مع أنه قد يقال: إنه عرف فعلي ولم يغلب هنا العرف مع أنه نقلي، وقد ناقض
القاضي أيضا قوله هذا فقال - تبعا لابن أبي موسى - فيما إذا أكل هنا مرقا
يحنث، لأنه لا يخلو من أجزاء لحم تذوب فيه، وجرى أبو الخطاب على الصواب،
وتبعه الشيخان فقالا: لا يحنث؛ لأنه على تقدير تسليم أن فيه أجزاء لحم
ذائبة فذلك لا يسمى لحما، لا حقيقة ولا عرفا، وأحمد قال في رواية صالح لا
يعجبني. اهـ.
وأما مع إرادة الدسم، فظاهر كلام الخرقي أنه لا يحنث بشيء من ذلك إلا
بالشحم، لأنه المتبادر من إرادة الدسم، وقال الشيخان وغيرهما من الأصحاب:
يحنث بجميع ذلك، لوجود الاسم فيه.
(تنبيه) : اختلف في بياض اللحم - كسمين الظهر ونحوه - (هل حكمه حكم اللحم)
فيحنث من حلف لا يأكل لحما فأكله، وهو قول ابن حامد والقاضي، وظاهر كلام
أبي البركات أن المسألة اتفاقية، لدخوله في مسمى اللحم، ولهذا لو اشتراه من
وكل في شراء لحم لزم موكله، (أو حكم الشحم) فيحنث من حلف لا يأكل شحما
فأكله، وهو اختيار أكثر الأصحاب، القاضي والشريف، وأبي الخطاب
(7/184)
والشيرازي وابن عقيل، واختيار أبي محمد،
وقال: إنه ظاهر كلام الخرقي، وقول طلحة العاقولي، لشبهه للشحم في صفته
وذوبه، ولأن الله تعالى استثناه من الشحم حيث قال: {وَمِنَ الْبَقَرِ
وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ
ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] الآية؛ على قولين، وفي كلا الدليلين نظر؛ إذ
مجرد شبه الشيء بالشيء لا يقتضي أن يسمى باسمه، ويعطى حكمه، على أن شبه
سمين الظهر بالألية أقرب من شبهه بالشحم، وأما الاستثناء فقال البغوي
وغيره: {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] أي ما علق
بالظهر والجنب من داخل بطونهما؛ اهـ. فالمستثنى شحم حقيقة وعرفا، إلا أن
الله تعالى أرخص لهم فيه دفعا للحرج عنهم، والله أعلم.
قال: فإن حلف أن لا يأكل الشحم فأكل اللحم حنث، لأن اللحم لا يخلو من شحم.
ش: قد ذكر الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - الحكم وذكر دليله، وهو أن اللحم لا
يخلو من شحم، فالحالف لا يأكل الشحم يمينه تشمل كل شحم، وهذا شحم فيدخل في
يمينه، وقال عامة الأصحاب: لا يحنث، لأن وجود هذا والحالة هذه كالعدم،
فاليمين لا تتناوله عرفا.
(تنبيه) : استنبط أبو محمد من هذا أن الشحم عند الخرقي كل ما يذوب بالنار،
قال: وهذا ظاهر قول أبي الخطاب،
(7/185)
وقول طلحة، قال: ويشهد له ظاهر الآية
والعرف، وبنى على هذا أنه يحنث بأكل الألية، وقال القاضي وغيره: إن الشحم
هو الذي يكون في الجوف، من شحم الكلى أو غيره، فعلى هذا لا يحنث بأكل
الألية واللحم الأبيض، ونحو ذلك، وهذا هو الصواب، وقد تقدم أن الآية لا تدل
على ما ادعاه، وأن العرف عكس هذا، والله أعلم.
قال: وإن حلف أن لا يأكل لحما ولم يرد أكل لحم بعينه، فأكل من لحم الأنعام
أو الطائر أو السمك حنث.
ش: أما إذا أكل من لحم الأنعام أو الطائر فلا نزاع فيما نعلمه في حنثه،
لدخول المحلوف عليه، وهو اللحم حقيقة وعرفا، وأما إذا أكل من لحم السمك ففي
الحنث به وجهان، المشهور منهما - وهو اختيار الخرقي والقاضي، وعامة أصحابه
- الحنث. (والثاني) - وهو اختيار ابن أبي موسى -: عدمه، ولعله الظاهر، لأن
لحم السمك وإن كان لحما حقيقة، بدليل قَوْله تَعَالَى: {لِتَأْكُلُوا
مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: 14] وقَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ كُلٍّ
تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12] إلا أن أهل العرف خصصوا ذلك، كما
خصصوا لفظ الدابة بذوات الأربع، وصاروا لا يسمونه لحما، وإنما يسمونه سمكا،
ولهذا لا يكادون يقولون إذا أكلوا سمكا: أكلنا لحما. وإنما يقولون: سمكا،
ولا ريب أن العرف ناسخ للحقيقة اللغوية،
(7/186)
إذ هي بالنسبة إليه مجاز، ولعل هذا الخلاف
مبني على أنه هل وصل إلى حد النقل أم لا؟ فيكون الخلاف في تحقيق المناط،
والظاهر وصوله، لأن ضابط المنقول أن يتبادر الذهن عند الإطلاق للمنقول
إليه، ولا ريب أن إطلاق اللحم لا يفهم منه عند الإطلاق السمك، اهـ.
وظاهر إطلاق الخرقي أنه يحنث بأكل كل لحم، فيدخل في ذلك اللحوم المحرمة،
كلحم الخنزير ونحوه، وهو أشهر الوجهين، وبه قطع أبو محمد، لدخوله في مسمى
اللحم حقيقة وعرفا. (والثاني) : لا يدخل ذلك، لأن قرينة حال المسلم تقتضي
أنه لا يريد ذلك، والقرائن تخصص، وينبغي على هذا التعليل أن يدخل ذلك في
يمين الكافر وجها واحدا، وقد يدخل في كلام الخرقي أيضا لحم الخد، ولحم
اللسان، وقد تقدم الكلام على ذلك، والله أعلم.
قال: وإذا حلف أنه لا يأكل سويقا فشربه، أو لا يشربه فأكله حنث، إلا أن
يكون له نية.
ش: أما مع النية فلا كلام كما تقدم غير مرة، وأما مع عدمها ففيه ثلاثة
أقوال. (أحدها) : الحنث كما قاله الخرقي، لأن مقصود اليمين في مثل ذلك
الاجتناب، فكأنه حلف أن يتجنب ذلك عن إيصاله إلى باطنه. (والثاني) : عدم
الحنث، أخذا من قول أحمد في رواية مهنا - فيمن حلف لا يشرب هذا النبيذ،
فثرد فيه وأكل -: لا يحنث، لأن أنواع الأفعال
(7/187)
كالأعيان، ولا ريب أنه لو حلف على نوع من
الأعيان لم يحنث بغيره، فكذلك الأفعال. (والثالث) : إن عين المحلوف عليه:
كلا أكلت هذا السويق. حنث بشربه تغليبا للتعيين كما تقدم، بخلاف ما إذا لم
يعين: كلا أكلت سويقا. فإنه لا يحنث، وهذا قول القاضي في المجرد، وعنده في
الروايتين أن محل الخلاف مع التعيين، أما مع عدمه فلا يحنث قولا واحدا،
وخرج أبو الخطاب وأبو محمد الخلاف في كل ما حلف لا يأكله فشربه، أو لا
يشربه فأكله، حتى قال أبو محمد - فيمن حلف لا يشرب شيئا فمصه ورمى به -:
أنه يجيء على قول الخرقي أنه يحنث، ونص أحمد في رواية إبراهيم الحربي -
فيمن حلف لا يشرب شيئا، فمص قصب السكر -: ليس عليه شيء، وكذلك لو حلف لا
يأكل شيئا، فمص قصب السكر، لم يكن عليه شيء، على ما يتعارفه الناس أن الرجل
لا يقول: أكلت قصب السكر، وتبع النص ابن أبي موسى. والله أعلم.
قال: وإذا حلف بالطلاق أن لا يأكل تمرة، فوقعت في تمر، فإن أكل منه واحدة
منع من وطء زوجته حتى يعلم أنها ليست التي وقعت اليمين عليها، ولا يتحقق
حنثه حتى يأكل التمر كله.
ش: مسألة الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذا شك في التمرة التي أكلها هل هي
المحلوف عليها أم لا، واختياره والحال هذه اجتناب
(7/188)
الزوجة، للشك في تحريمها، أشبه ما لو
اشتبهت أخته بأجنبية، وتبعه على ذلك ابن البنا، وقال أبو الخطاب وغيره: إنه
لا يجب عليه اجتنابها، بل الأولى له ذلك، إذ الأصل الحل، فلا يزول بالشك،
وفارق المقيس عليه، إذ الأصل عدم الحل، إلا بعقد يتحقق صحته، بوجود شروطه،
وانتفاء موانعه ولم يوجد، أما إذا علم أكل التمرة التي حلف عليها، بأن أكل
التمر كله، أو الجانب الذي وقعت فيه، ونحو ذلك فلا ريب في حنثه، وإن علم أن
التمرة التي أكلها غير المحلوف عليها فلا ريب أيضا في عدم حنثه، وحل زوجته.
وقول الخرقي: من حلف بالطلاق؛ يشمل البائن والرجعي، وهو مبني على قاعدته في
تحريم الرجعية، أما على قول غيره في حلها فلا اجتناب، إذا كان الطلاق رجعيا
لأن قصاراه وطء رجعية وهو مباح، والله أعلم.
قال: ولو حلف أن يضربه عشرة أسواط، فجمعها فضربه بها ضربة واحدة، لم يبر في
يمينه.
ش: هذا هو المذهب المشهور، لأن الأسواط آلة أقيمت مقام المصدر، فمعنى
الكلام: لأضربنه عشر ضربات بسوط، ولو قال كذلك لم يبر إلا بعشر ضربات،
فكذلك هذا، يحقق ذلك أنه لو ضربه عشر ضربات بسوط بر اتفاقا، ولو عاد إلى
السوط لم يبر بالضرب بسوط واحد، كما لو حلف ليضربنه بعشرة أسواط.
3737 - ولا ترد قصة أيوب - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وإن قلنا: شرع من قبلنا
(7/189)
شرع لنا؛ لأن ذلك رخصة في حقه، رفقا
بامرأته، لإحسانها إليه، ولذلك امتن عليه بذلك، ولو كان الحكم عاما له
ولغيره لما اختص بالمنة، وكذلك الكلام في المريض الذي يخشى تلفه، يقام عليه
الحد بعثكال من النخل ونحوه، ترخيصا من الشارع، رفعا للحرج والمشقة، ولهذا
لا يجوز أن يضرب في حال الصحة بالسياط المجموعة بلا ريب، (وعن ابن حامد)
أنه يبر بذلك، أخذا من قول أحمد في المريض عليه الحد: يضرب بعثكال النخل،
يسقط عنه الحد، واستدلالا بقصة أيوب - عَلَيْهِ السَّلَامُ -.
3738 - وبقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في المريض الذي
زنا: «خذوا له عثكالا، فيه مائة شمراخ، فاضربوه بها ضربة واحدة» ، وقد تقدم
الجواب عن ذلك، ثم كان من حق ابن حامد أن
(7/190)
يسوي بين الأصل والفرع، فلا يقول بالبر إلا
في حق من له عذر يبيح ضربه في الحد بالعثكال، وإذا كان يقرب قوله، ولهذا
قال أبو محمد: لو قيل بهذا كان له وجه، والله أعلم.
(7/191)
قال: ولو حلف أن لا يكلمه فكتب إليه أو
أرسل إليه رسولا حنث، إلا أن يكون أراد أن لا يشافهه.
ش: أما إذا قصد بيمينه أن لا يكلمه مشافهة، أو كان السبب يقتضي ذلك، فلا
إشكال في أنه لا يحنث بمكاتبته أو مراسلته، لعدم التكليم مشافهة، وإن قصد
ترك مواصلته، أو كان السبب يقتضي ذلك، فلا ريب أيضا في حنثه بمكاتبته
ومراسلته، لوجود مواصلته المحلوف على تركها، وإن عريت اليمين عن قصد وسبب
ففيه روايتان، حكاهما في الكافي (إحداهما) - وهي التي حكاها في المغني عن
الأصحاب -: الحنث أيضا، لأن الظاهر من هذه اليمين هجرانه، فتحمل يمينه
عليه، اعتمادا على الظاهر؛ (والثانية) - وإليها ميل أبي محمد -: عدم الحنث
والحال هذه، لأن ذلك ليس بكلام حقيقة، ولهذا يصح نفيه فيقال: ما كلمته،
وإنما كاتبته، ولأن الله تعالى امتن على موسى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فقال
سبحانه: {يَامُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي
وَبِكَلَامِي} [الأعراف: 144] ولو كانت الرسالة تكليما لشارك موسى غيره من
الرسل، وأما قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ
اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا}
[الشورى: 51] فاستثنى الرسول من التكليم، وذلك بالنظر إلى الاشتراك في أصل
معنى التكليم وهو التأثير، إذ هو مأخوذ من الكلم وهو الجرح، ولا شك أن
المراسلة والمكاتبة يؤثران في المرسل إليه والمكتوب له، ولذلك جعل سبحانه
الكلام قسيما للوحي في
(7/192)
موضع آخر، لا من أقسامه فقال تعالى:
{إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ
وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] الآية إلى قَوْله تَعَالَى:
{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] نظرا إلى أن كلا
منهما يختص عند الإطلاق باسم، وبالجملة ميل أبي محمد هنا إلى الحقيقة، وميل
الأصحاب إلى المعنى، وهو أوجه، والله أعلم.
(7/193)
[ثانيا: كتاب
النذور]
كتاب النذور ش: النذور جمع نذر، كفلس وفلوس، يقال: نذرت أنذر وأنذر بفتح
الذال في الماضي، وكسرها وضمها في المضارع، ونذرت بالقوم أنذر، بالكسر في
الماضي، والفتح في المضارع، إذا علمت بهم، واستعددت لهم، ولا نزاع في صحة
النذر، ولزوم الوفاء به في الجملة، وقد شهد لذلك قَوْله تَعَالَى:
{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] وقوله: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ}
[الحج: 29] .
3739 - وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن يطيع
الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه» وهو عبارة عن قول يلتزم به المكلف
المختار لله تعالى حقا، والله أعلم.
(7/194)
[أنواع النذر]
قال: ومن نذر أن يطيع الله عز وجل لزمه الوفاء به، ومن نذر أن يعصيه لم
يعصه وكفر كفارة يمين، ونذر الطاعة الصلاة والصيام، والحج والعمرة، والعتق
والصدقة، والاعتكاف والجهاد، وما كان في هذه المعاني، سواء نذره مطلقا، بأن
يقول: لله علي أن أفعل كذا وكذا. أو علقه بصفة، مثل قوله: إن شفاني الله عز
وجل من علتي، أو شفى فلانا، أو سلم مالي الغائب، أو ما كان في هذا المعنى،
فأدرك ما أمل بلوغه من ذلك، فعليه الوفاء به، ونذر المعصية أن يقول: لله
علي أن أشرب الخمر، أو أقتل النفس المحرمة، وما أشبهه، فلا يفعل ذلك، ويكفر
كفارة يمين لأن النذر كاليمين؛ وإذا قال: لله علي أن أركب دابتي، أو أسكن
داري، أو ألبس أحسن ثيابي، وما أشبهه، لم يكن هذا نذر طاعة ولا معصية، فإن
لم يفعل كفر كفارة يمين، وإذا نذر أن يطلق زوجته، استحب له أن لا يطلق،
ويكفر كفارة يمين.
ش: النذر أولا على ضربين، مطلق ومقيد (فالمطلق) أن يقول: لله علي نذر، ولا
ينوي شيئا، فيجب عليه كفارة يمين.
3740 - لما روى عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «كفارة النذر إذا لم يسم شيئا كفارة
يمين» رواه أبو داود والترمذي وصححه، ومسلم والنسائي ولم يقولا: «إذا لم
يسم شيئا» .
(7/195)
3741 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من
نذر نذرا لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا أطاقه فليف به» رواه
أبو داود، (والمقيد) على ضربين (أحدهما) : ما يقصد به المنع من الشيء، أو
الحمل عليه، ويسمى نذر اللجاج والغضب، وقد تقدم الكلام عليه في الأيمان؛
(والثاني) : ما ليس كذلك، وهو على خمسة أقسام (أحدها) : أن ينذر قربة تستحب
ولا تجب، من صوم وصلاة ونحوهما، فيجب الوفاء به بلا خلاف نعلمه عندنا، سواء
نذره مطلقا، كقوله: لله علي صوم يوم، أو صلاة ركعتين، أو مقيدا كقوله: إن
شفاني الله أو شفى ولدي فلله علي الحج، فوجد القيد، وسواء كانت القربة مما
لها أصل وجوب في الشرع كما تقدم، أو لم تكن كالاعتكاف، وهو إجماع في
المقيد، وفيما له أصل وجوب، وقول الجمهور في
(7/196)
الآخرين، ويشهد للجميع عموم حديث ابن عباس،
وقَوْله تَعَالَى: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] الآية.
3742 - وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قالت: سمعت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «من نذر أن يطيع الله فليطعه،
ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه» وفي رواية: «فليف بنذره، ومن نذر أن يعصي
الله فلا يف به» رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي.
3743 - ويشهد لغير المقيد ولما لا أصل لوجوبه في الشرع ما روي عن ابن عمر -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن «عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: يا
رسول الله إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة، - وفي رواية - يوما في
المسجد الحرام. فقال: «أوف بنذرك» متفق عليه.
3744 - وعن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن «رجلا قام يوم الفتح فقال:
يا رسول الله: إني نذرت لله عز وجل إن فتح الله عليك مكة أن أصلي صلاة في
بيت المقدس. فقال: «صل ها هنا» ثم أعاد عليه، فقال: «صل ها هنا» ثم أعاد
عليه، فقال: «فشأنك إذا» . رواه أبو داود، وله في رواية: فقال النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «والذي بعث محمدا بالحق لو صليت ها
هنا لأجزأ عنك كل صلاة في بيت المقدس» » .
(7/197)
(الثاني) : أن ينذر معصية، كشرب الخمر،
وقتل النفس التي حرم الله بغير حق، وصوم يوم الحيض، والتصدق بمال الغير،
ونحو ذلك، فلا يجوز الوفاء به إجماعا، ويشهد له حديث عائشة - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - المتقدم.
3745 - ولأبي داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا نذر إلا فيما يبتغى به وجه
الله تعالى، ولا يمين في قطيعة رحم» .
3746 - وللنسائي عن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، قال: قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا نذر في معصية، ولا
فيما لا يملك ابن آدم» ثم فيه روايتان (إحداهما) : أنه لاغ ولا شيء فيه،
(7/198)
قال أحمد - فيمن نذر ليهدمن دار غيره لبنة
لبنة -: لا كفارة عليه. وذلك لما تقدم.
3747 - ولأن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لأبي
إسرائيل حين نذر أن يقوم في الشمس، ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم: «مروه
فليتكلم، وليجلس وليستظل، وليتم صومه» رواه البخاري وغيره.
3748 - «وقال للمرأة التي نذرت أن تنحر ناقته - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك العبد» رواه مسلم
وغيره، وظاهر هذا أنه لا نذر صحيح في معصية الله، أو لا نذر مشروع، وغير
المشروع وجوده كعدمه، مع أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لم يأمر في ذلك بكفارة، ولو وجبت لبينها. (والرواية الثانية) وهي المذهب
المعروف عند الأصحاب أنه منعقد.
(7/199)
3749 - لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا
نذر في معصية الله، وكفارته كفارة يمين» رواه أبو داود والترمذي والنسائي.
3750 - وعن عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: سمعت رسول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «النذر نذران فما كان نذر طاعة
فذلك لله
(7/200)
فيه الوفاء، وما كان نذر معصية فذلك
للشيطان ولا وفاء فيه، ويكفره ما يكفر اليمين» . رواه النسائي، وهذا المبين
يقضي على ذلك المجمل ويبين أن المراد به: لا وفاء لنذر في معصية الله.
وكذلك جاء مصرحا به في مسلم في التي نذرت نحر ناقة النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال لها: «لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا
يملكه العبد» .
3751 - وقد استشهد ترجمان القرآن لذلك من الكتاب، فعن يحيى بن سعيد، أنه
سمع القاسم بن محمد يقول: أتت امرأة إلى عبد الله بن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا - فقالت: إني نذرت أن أنحر ابني. فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -: لا تنحري ابنك، وكفري عن يمينك. فقال شيخ عند ابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: كيف يكون في هذا كفارة؟ فقال ابن عباس -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ
نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] ثم جعل فيه من الكفارة ما رأيت. رواه مالك في
الموطأ، فعلى هذه الرواية إن لم يفعل ما نذره من
(7/201)
المعصية وجبت عليه كفارة يمين، وإن فعل ذلك
أثم ولا شيء عليه على المعروف، كما لو حلف على فعل معصية ففعلها، ولأبي
محمد احتمال بوجوب الكفارة مطلقا، وهو ظاهر كلام الخرقي، وظاهر الحديث.
(الثالث والرابع) : نذر مكروها أو مباحا، كطلاق زوجته من غير حاجة ونحوه،
أو ركوب دابة، أو لبس ثوب له ونحوها، وفي ذلك أيضا روايتان، (إحداهما) :
أنه لاغ لا شيء فيه، لما تقدم من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ -: «لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله» ، وهذا لم يبتغ به وجه
الله تعالى، ولحديث أبي إسرائيل، فإنه نذر أفعالا تكره المداومة عليها وقد
تحرم، ولم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكفارة.
3752 - وعن «عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نذرت أختي أن
تمشي إلى بيت الله الحرام حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستفتيته فقال: «لتمش ولتركب» » .
3753 - وعن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «رأى شيخا يهادى بين ابنيه، فقال: «ما بال هذا؟»
قالوا: نذر أن يمشي. قال: «إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني» وأمره أن يركب»
، متفق عليهما، ولم يأمره في ذلك بكفارة، ولو وجبت
(7/202)
لبينها. (والثانية) - وهي المذهب أنه
منعقد، لأن في حديث عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له: «إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا،
فلتحج راكبة، ولتكفر عن يمينها» . رواه أبو داود، وفي رواية له أيضا
وللترمذي: ولتصم ثلاثة أيام؛ وهذه زيادة فيجب قبولها، ولعموم قول النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر كفارة يمين» فعلى هذه
الرواية إن لم يفعل ما نذره وجبت عليه الكفارة، وإن فعل فلا شيء عليه، إلا
أنه في المكروه لا يستحب له الفعل، وفي المباح يتخير بين الفعل وتركه قاله
الأصحاب.
3754 - وقد روى أبو داود عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن «امرأة
قالت: يا رسول الله إني نذرت أن أضرب
(7/203)
على رأسك بالدف. قال: «أوفي بنذرك» » .
(القسم الخامس) : نذر الواجب، كقوله: لله علي أن أصوم رمضان، أو أحج حجة
الإسلام، ونحو ذلك، فحكى أبو محمد عن الأصحاب عدم انعقاد النذر والحال هذه،
لأن النذر التزام، والواجب لازم له، فالتزامه تحصيل الحاصل، وحكى في المغني
احتمالا - وجعله في الكافي قياس المذهب - أنه ينعقد موجبا للكفارة إن لم
يفعله، كما لو حلف على ذلك.
3755 - وقد سمى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذلك يمينا
فقال: «النذر حلف» ولا نسلم أن نذر الواجب تحصيل الحاصل، لاختلاف جهة
الإيجاب، إذ الواجب بالشرع غير الواجب بإيجاب المكلف، ولهذا لو ترك الناذر
صوم رمضان والحال ما تقدم لزمه كفارة يمين، ولو تركه من غير نذر لم يلزمه
غير القضاء، وقال في المغني في موضع آخر: إن قياس قول الخرقي الانعقاد،
(7/204)
وقول القاضي عدمه، فيما إذا نذر صوم يوم
يقدم فلان، فوافق قدومه يوما من رمضان، وأبو البركات حكى المسألة على
روايتين، وأورد المذهب بالانعقاد كنذر المباح.
(تنبيه) : قد علم من كلام الخرقي أن الطلاق مكروه، وهذا مع عدم الحاجة
إليه، وهو المذهب، (وعنه يحرم) والحال هذه، كالطلاق في حال الحيض، وطلاق
الثلاث في رواية، أما عند الحاجة إليه فيباح، وقد يستحب، كما إذا كان بقاء
النكاح ضررا، وقد يجب كالمولي إذا امتنع من الفيئة.
[ما يلزم من نذر التصدق بجميع ماله]
قال: ومن نذر أن يتصدق بكل ماله أجزأه أن يتصدق بثلثه لما روي عن «النبي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال لأبي لبابة - حين قال: إن من
توبتي يا رسول الله أن أنخلع من مالي - فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يجزئك الثلث» » .
ش: لما تقدم للخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن نذر الطاعة يلزم الوفاء به،
والصدقة طاعة وقربة، أراد أن ينبه على هذه المسألة، وإلا لاقتضى كلامه وجوب
الصدقة بالجميع، والذي قاله الخرقي هو المذهب المعروف.
3756 - لما ذكره من حديث «أبي لبابة - وهو رفاعة بن عبد المنذر - أنه قال:
يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي
(7/205)
وأساكنك، وأن أنخلع من مالي صدقة لله عز
وجل ولرسوله. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يجزئ
عنك الثلث» » رواه أحمد.
3757 - وعن كعب بن مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: يا رسول الله
إن من توبتي أن أنخلع من مالي.
(7/206)
سهمي من خيبر. وقد اعترض على هذا بأنه ليس
فيه تصريح بالنذر، فيحتمل أنه أراد أن يتصدق بذلك، فأرشده النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلى ما هو أولى، ويجاب بأن هذا ظاهر في جعله
لله تعالى، ويرشحه قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يجزئ
عنك الثلث إذ لفظة الإجزاء ظاهرة في الوجوب، ثم لو سلم أنه ليس بنذر، فلا
نسلم أن الصدقة بما زاد على الثلث قربة لمنع النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من ذلك، وهو لا يمنع القرب، ونذر ما ليس بقربة لا
يلزم الوفاء به. ويحكى عن أحمد رواية أخرى أن الواجب في ذلك كفارة يمين.
3758 - لما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أنها سئلت عن رجل قال:
مالي في رتاج الكعبة، فقالت: يكفره ما يكفر اليمين. رواه مالك في الموطأ.
اهـ. (وعنه ثالثة) حكاها ابن أبي موسى:
(7/207)
يجب إخراج الجميع نظرا إلى أن الصدقة قربة
وطاعة، فدخل تحت قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من نذر أن
يطيع الله فليطعه» .
ومقتضى كلام الخرقي أن من نذر الصدقة ببعض ماله لزمه ذلك البعض، وإن كان
أكثر من النصف، (وهو إحدى الروايتين) وزعم أبو محمد في المغني أنه الصحيح
من المذهب، عملا بما تقدم من الوفاء بنذر الطاعة، خرج منه إذا نذر الجميع
فيبقى فيما عداه على مقتضى الأصل، (والرواية الثانية) : أنه يجزئه إخراج
ثلث ذلك البعض المعين أو المقدر، وبها قطع القاضي في الجامع، جعلا للبعض
كالكل ولأبي محمد احتمال أن البعض إن كان الثلث فما دون لزمه، وإن كان أكثر
أجزأه قدر ثلث المال، لما تقدم من أن الحديث يتضمن أن الصدقة بزيادة على
الثلث ليس بقربة، وهذا الاحتمال هو الرواية الثانية التي حكاها أبو البركات
وصححها، وعنده أن محل الخلاف فيما إذا زاد المسمى على ثلث الكل، هل يلزمه
الكل أو قدر ثلث
(7/208)
المال؟ على روايتين، أما إذا كان المسمى
قدر الثلث فما دون فإنه يلزمه الوفاء به رواية واحدة، تضمن هذا أن للأصحاب
في نقل الخلاف طريقتين، والأولى طريقة أبي الخطاب، وأبي محمد، ومقتضى كلام
القاضي، وجمع ابن حمدان في رعايتيه الطريقتين، فحكى المسألة على ثلاث
روايات.
(تنبيه) : هل يختص ذلك بالصامت، أو يعم كل مال، إن لم يكن له نية وهو ظاهر
إطلاق الأكثرين، ومقتضى حديث كعب بن مالك، لأنه جعل سهمه الذي بخيبر من
المال، وأقره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - على ذلك، وقياس
مسألة إذا حلف لا مال له وله مال غير زكوي، أو دين على الناس أنه يحنث؟ على
روايتين.
[حكم من نذر نذرا فعجز عنه]
قال: ومن نذر أن يصوم وهو شيخ كبير، لا يطيق الصيام، كفر كفارة يمين، وأطعم
لكل يوم مسكينا.
ش: هذا هو المذهب المنصوص (أما الكفارة) فلأنه لم يأت بالمنذور بعينه، ولما
تقدم في حديث أخت عقبة الذي رواه أبو داود قال فيه: ولتكفر يمينها.
3759 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من نذر نذرا ولم يسمه فكفارته كفارة
يمين، ومن نذر نذرا لم يطقه فكفارته كفارة يمين» . رواه أبو داود، (وأما
الإطعام)
(7/209)
فكالصوم الواجب بأصل الشرع؛ وقيل: لا يجب
إلا الكفارة لظاهر الحديثين، وقيل: لا يجب إلا الإطعام، كالواجب بأصل الشرع
وهو صوم رمضان، وقيل: إن هذا النذر غير منعقد أصلا، لأنه تكليف ما لا يطيق،
وهو غير جائز شرعا، وحكم ما إذا نذر الصوم وهو قادر ثم عجز حكم ما تقدم،
إلا أنه لا نزاع في انعقاد نذره.
[حكم من نذر صياما أو صلاة ولم يذكر عددا]
قال: وإذا نذر صياما ولم يذكر عددا ولم ينوه فأقل ذلك صوم يوم.
ش: لأنه ليس في الشرع صوم مفرد أقل من يوم، فيجب ذلك، لأنه اليقين، وهذا مع
الإطلاق، أما مع التقييد بلفظه أو بنيته فيعمل على ذلك بلا ريب.
قال: وأقل الصلاة ركعتان.
ش: أي وإذا نذر صلاة فأقلها ركعتان، ما لم ينو أكثر أو يسمه، وهو إحدى
الروايتين، وهي التي نصبها أبو الخطاب والشريف في خلافيهما، وقطع بها
القاضي في الجامع، وابن عقيل في التذكرة. (والرواية الثانية) : يجزئه ركعة،
ومبناهما على أن أقل ما يصح التطوع به هل هو ركعة أو ركعتان؟ على روايتين
تقدمتا ومفهوم كلامه ثم أن أقله ركعتان، وعليه جرى ها هنا.
[ما يلزم من نذر المشي إلى بيت الله الحرام]
قال: وإذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام لم يجزئه إلا أن يمشي في حج أو
عمرة.
(7/210)
ش: من نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه
الوفاء بنذره، كما تضمنه كلام الخرقي، لأنه قربة وطاعة فلزمه كنذر الصلاة.
3760 - ودليل الأصل ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا تشد الرحال إلا إلى
ثلاثة مساجد، المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى» متفق عليه، ولا
يجزئه الذهاب إلا في حج أو عمرة لأنه المشي المعهود في الشرع إلى البيت،
فحمل إطلاق الناذر عليه، ولقد غالى أبو محمد فقال: إذا نذر إتيان البيت غير
حاج ولا معتمر لزمه الحج أو العمرة، وسقط شرطه، لمناقضته لنذره. وفيه نظر،
لجواز التصريح بخلاف الظاهر، والكلام إنما يتم بآخره ويلزمه المشي من دويرة
أهله، والإحرام من حيث يحرم للواجب، وحكم من نذر المشي إلى موضع من الحرم
كذلك، بخلاف غيره، كعرفة وغيرها، والله أعلم.
قال: فإن عجز عن المشي ركب وكفر كفارة يمين.
ش: إذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام لزمه المشي، لظاهر حديثي أنس وأخت
عقبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وسيأتيان، ولأن المشي
(7/211)
والحال هذه قربة، لأنه مشي إلى عبادة،
والمشي إلى العبادة أفضل، فإن عجز عن المشي جاز له الركوب.
3761 - لحديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن «رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رأى شيخا يهادى بين ابنيه فقال: «ما بال
هذا؟» قالوا: نذر أن يمشي. قال: «إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني» وأمره أن
يركب» . متفق عليه.
3762 - وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاء رجل إلى رسول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: يا رسول الله إن أختي
نذرت أن تمشي إلى البيت، أو قال: أن تحج ماشية، فقال رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى لا يصنع بشقاء أختك شيئا،
فلتحج راكبة ولتكفر عن يمينها» . رواه أبو داود.
(7/212)
وإذا ركب كفر كفارة يمين (على إحدى
الروايتين) واختيار القاضي، وأبي محمد، لهذا الحديث، وبه احتج أحمد، ولأبي
داود في رواية والترمذي في حديث عقبة بن عامر قال: «ولتصم ثلاثة أيام» ،
ولعموم قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كفارة النذر
كفارة يمين» ؛ (وعن أحمد رواية أخرى) : يجب عليه هدي من الميقات لأنه أخل
بواجب في الإحرام، فلزمه الهدي كتارك الإحرام من الميقات، والإحرام دونه.
3763 - ولما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إن «أخت
عقبة بن عامر نذرت أن تحج ماشية، وإنها لا تطيق ذلك، فقال النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله لغني عن مشي أختك، فلتركب ولتهد
بدنة» » ، وفي رواية: أمرها أن تركب وأن تهدي هديا. رواه أبو داود، ويخرج
لنا (رواية ثالثة) أنه لا شيء عليه، بناء على تارك المنذور لعذر، وهو ظاهر
حديث أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم.
3764 - وعن «عقبة بن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: نذرت أختي أن
تمشي إلى بيت الله الحرام حافية، فأمرتني أن أستفتي لها رسول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فاستفتيته فقال: «لتمش ولتركب» متفق عليه،
وليس في الصحيح ذكر كفارة.
(7/213)
وإن عجز عن مشي البعض وقدر على البعض، فإنه
يمشي ما قدر عليه، ويركب ما عجز عنه، «لقول النبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لأخت عقبة: «لتمش ولتركب» أي لتمشي ما قدرت عليه
ولتركب ما عجزت عنه، وحكم الكفارة على ما سبق.
هذا كله إذا ترك المشي لعجزه عنه، أما إذا تركه مع قدرته عليه فلا ريب في
وجوب الكفارة عليه، ثم هل هي كفارة يمين أو هدي؟ على الروايتين السابقتين
والمذهب على إجزاء حجه، وقال أبو محمد: قياس المذهب أنه يستأنف الحج ماشيا
لتركه صفة النذر، كما لو نذر صوما متتابعا ففرقه، وعلى هذا لو مشى بعضا
وركب بعضا ففيه احتمالان، (أحدهما) : يحج ثانيا فيمشي ما ركب؛ (والثاني) :
لا يجزيه إلا حج يمشي في جميعه، اعتمادا على ظاهر نذره.
تنبيهان: (أحدهما) : عكس مسألة الخرقي إذا نذر الركوب إلى بيت الله الحرام
فإنه يلزمه، لأن فيه إنفاقا في الحج، فإن تركه ومشى لزمته الكفارة، ثم هل
هي كفارة أو هدي؟ على الروايتين السابقتين، وهذا كله مع الإطلاق، أما لو
نوى بالمشي أو بالركوب إلى البيت إتيانه، فإنه يلزمه إتيانه في حج أو عمرة،
ولا يلزمه مشي ولا ركوب. (الثاني) يلزم المنذور من المشي أو الركوب في الحج
أو العمرة إلى التحلل، لانقضاء النسك إذًا، وقال أحمد: يركب في الحج إذا
رمى، وفي العمرة إذا سعى، لأنه لو وطئ بعد ذلك لم يفسد حجا ولا عمرة، وظاهر
هذا أنه إنما
(7/214)
يلزمه ذلك إلى التحلل الأول والله أعلم.
[ما يلزم من نذر عتق رقبة]
قال: وإذا نذر عتق رقبة فهي التي تجزئ عن الواجب، إلا أن يكون نوى رقبة
بعينها.
ش: إذا نذر رقبة وأطلق حمل ذلك على ما يجزئ في الواجب، وهي الرقبة المؤمنة
على المذهب، السالمة من عيب مضر بالعمل على ما تقدم، حملا للمطلق على
المعهود الشرعي، وهو الواجب في الكفارة وإن نوى رقبة معينة أجزأته وإن كانت
كافرة أو معيبة، لأنه نوى بلفظه ما يحتمله، قال أحمد فيمن نذر عتق عبد
بعينه فمات العبد قبل أن يعتقه: يلزمه كفارة يمين، ولا يلزمه عتق عبد، لأن
هذا شيء فاته، على حديث عقبة بن عامر، وإليه أذهب في الفائت وما عجز عنه،
اهـ.
[حكم إضافة النذر لوقت]
قال: وإذا نذر صيام شهر من يوم يقدم فلان، فقدم في أول يوم من شهر رمضان،
أجزأه صيامه لشهر رمضان ونذره.
ش: النذر والحال هذه منعقد في الجملة، قال القاضي في روايتيه: من نذر أن
يصوم يوم يقدم فلان انعقد نذره، ذكره أبو بكر في الاعتكاف من كتاب الخلاف،
وحكى صحته عن أحمد في مواضع، اهـ، وكذلك جزم غير واحد من الأصحاب
(7/215)
بالصحة وذلك لأنه نذر طاعة يمكن الوفاء به
غالبا، فأشبه غيره من النذور، فإذا قدم فلان في أول شهر رمضان فهل يتبين
بذلك عدم انعقاده؟ المشهور - وهو اختيار أبي محمد -: لا، وظاهر كلام الخرقي
نعم؛ لقوله: أجزأه صيامه لرمضان ونذره؛ وعن القاضي أن ظاهر كلام الخرقي عدم
الانعقاد، وأخذ ذلك من كون الخرقي لم يوجب القضاء والحال هذه.
إذا تقرر هذا فلقدوم زيد حالات: (إحداها) : أن يقدم والناذر صائم صوما
واجبا، ففيه روايتان (إحداهما) : وهي اختيار الخرقي، وابن عقيل في التذكرة:
يجزئه صومه عن الواجب والنذر، لأن الذي نذره صوم يوم يقدم فلان وقد صامه
(والثانية) - وهي أنصهما، واختيار أبي بكر والقاضي، والشريف وأبي الخطاب في
خلافيهما -: لا يجزئه عن النذر، لأنه لم يأت بما وجب عليه لأن الواجب عليه
صوم يوم قدوم زيد عن النذر، ولم يأت به عن النذر، إنما أتى ببعضه عنه،
ولهذا
(7/216)
الخلاف التفات إلى نذر صوم الواجب، وإلى
أنه هل يلزمه الصوم حين القدوم، أو من أول اليوم؟ وعلى هذا فمذهب الخرقي
صحة نذر الواجب كما هو المذهب، وأنه إنما يلزمه من حين القدوم، وهو أحد
الوجهين أو الروايتين، ونظير ذلك إذا قال: أنت طالق يوم يقدم زيد، هل تطلق
من حين قدومه أو من أول اليوم؟ على قولين، اهـ. فإن قلنا: لا يجزئه لزمه
القضاء لتركه المنذور، وهل عليه كفارة؟ فيه روايتان يأتي الكلام عليهما إن
شاء الله تعالى، ويتخرج أن لا شيء عليه، كنذر الواجب في رواية، وقد تقدم في
كلام القاضي ما يدل عليه.
(الحال الثانية) : وهي التي ذكرها الخرقي في قوله: ومن نذر أن يصوم يوم
يقدم فلان فقدم يوم فطر أو أضحى لم يصمه، وصام يوما مكانه، وكفر كفارة
يمين.
ش: إذا قدم يوم فطر أو أضحى ففيه روايتان (إحداهما) : لا شيء عليه، لأن يوم
الفطر والأضحى ليسا بمحل للصوم، لمنع الشارع منه، فأشبه ما لو قدم ليلا، إذ
الممنوع منه شرعا كالممنوع منه حسا، وحكى أبو محمد هذه الرواية تخريجا من
نذر المعصية، وفيه نظر، لأن العصيان يعتمد المخالفة، ولا مخالفة هنا من
الناذر. (والرواية الثانية) - وهي المذهب -: عليه القضاء، لأن النهار محل
للصوم في الجملة، بخلاف الليل، والمانع عارض، وإذا يجب القضاء لترك
المنذور، ولهاتين الروايتين التفات إلى الصلاة في الدار المغصوبة، من
(7/217)
حيث إنه هل ينظر إلى عين الصلاة، أو إلى
الصلاة من حيث هي؟ لكن المشهور ثم النظر إلى عين الصلاة، والمشهور هنا
النظر إلى ذات اليوم من حيث هو، وقد يفرق بأن ثم المصلي آثم عاص لارتكابه
النهي؛ بخلاف هنا فإنه لا مخالفة منه، وإنما وجد أمر بغير اختياره، منعه من
الصوم. اهـ؛ وعلى هذه إذا قضى هل عليه كفارة؟ فيه روايتان (أشهرهما) عن
الإمام وعند الأصحاب: نعم؛ لتركه المنذور في وقته. (والثانية) : لا؛ لأنه
معذور في الترك، أشبه المكره، وخرج أبو محمد (قولا رابعا) بوجوب الكفارة من
غير قضاء، مما إذا نذرت المرأة صوم يوم حيضها، وحكم ما لو وافق يوم حيض أو
نفاس حكم ما تقدم إلا أن عن أحمد رواية فيما إذا وافق يوم عيد أنه إن صام
صح صومه، وهنا لا يصح الصوم بلا خلاف.
(الحال الثالثة) : قدم وهو مفطر، ففيه روايتان إحداهما: لا شيء عليه،
والثانية وهي المذهب: عليه القضاء، وقد تقدم توجيههما، وعلى هذه ففي
الكفارة روايتان، بناء على تارك المنذور لعذر.
(الحال الرابعة) : إذا قدم وهو ممسك، ففيه روايتان
(7/218)
(إحداهما) - وهي ظاهر كلام الشيرازي،
واختيار ابن عبدوس - أنه ينوي صيامه عن النذر ولا شيء عليه، لوجود الصوم
منه في اليوم، ولا تضر نيته من النهار لأن الواجب إنما تعلق به إذا، وقد
شهد لذلك قضية صوم يوم عاشوراء. (والثانية) : عليه القضاء، ويمنع أن الواجب
إنما تعلق به إذ ذاك، بل تبين تعلقه به من أول اليوم، وفي الكفارة لكونه
معذورا روايتان، هذا نقل الشيخين، وقال القاضي في الجامع: إنه ينوي صوم ذلك
اليوم ويقضي ويكفر. وهذا الذي نصبه الشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وقال
الشريف: إنه اختيار أبي بكر وهو مبني على لزوم الإمساك له وإن لم يصح صومه
عن النذر كرمضان، والمختار خلافه.
(الحال الخامسة) : قدم وهو صائم تطوعا، ففيه أيضا روايتان كالممسك:
(إحداهما) : أنه يعتقده عن النذر ويجزئه. (والثانية) : عليه القضاء، وفي
الكفارة الخلاف.
(الحال السادسة) إذا قدم في الليل، أو والناذر مجنون، فلا شيء عليه وإن
أفاق في اليوم، على ظاهر إطلاق أبي البركات، وقد يقال فيما إذا أفاق في
اليوم إنه كالمفيق في أثناء يوم من رمضان.
(الحال السابعة) قدم في النهار، وكان قد بيت له النية،
(7/219)
لخبر سمعه من الليل، فيجزئه بلا ريب.
قال: وإن وافق قدومه يوما من أيام التشريق صامه في إحدى الروايتين عن أبي
عبد الله - رَحِمَهُ اللَّهُ - والرواية الأخرى: لا يصومه، ويصوم يوما
مكانه، ويكفر كفارة يمين.
ش: هذا مبني على أصل تقدم، وهو أن أيام التشريق هل يصح صومها عن الفرض أم
لا؟ فإن قلنا يصح، صام هنا، وصار كما لو كان القدوم في غير يوم تشريق، وإن
قلنا لا يصح فهو كما لو قدم في يوم عيد وقد تقدم، وقد علم من هذا أن يوم
العيد لا يصح صومه وهو المذهب، وعن أحمد رواية أخرى أنه إن صام صح صومه،
كالصلاة في الدار المغصوبة.
(تنبيهان) : «أحدهما» : إذا قلنا بالإجزاء عن رمضان والنذر، فهل ينوي
النذر؟ قد يقال: إنه ينويه كما إذا قلنا فيما إذا كان صائما تطوعا أو
ممسكا، ويحتمل هذا كلام الخرقي، وعلى هذا يكون كلامه مشعرا بصورتي التطوع
والممسك، اهـ. (الثاني) : إذا كان القدوم في الليل، أو والناذر مجنون فقد
يقال: بطل النذر إذا لعدم تصور الفعل، إذ الليل ليس بمحل للصوم أصلا،
والمجنون لا يتوجه إليه خطاب تكليفي، وقد يقال: بل قد تبينا عدم انعقاده،
فيكون النذر موقوفا. وهذان المدركان يلحظان أيضا فيما إذا كان القدوم في
يوم عيد أو وهو مفطر، والله أعلم.
[نذر صيام شهر ولم يسمه فمرض أو حاضت المرأة]
قال: ومن نذر أن يصوم شهرا متتابعا ولم يسمه فمرض في بعضه أفطر فإذا عوفي
بنى، وكفر كفارة يمين، وإن أحب أتى بصيام شهر متتابع ولا كفارة عليه.
(7/220)
ش: إذا نذر أن يصوم شهرا والحال هذه فصام
ثم في أثنائه مرض مرضا مجوزا للفطر فأفطر فإنه إذا عوفي يخير بين الإتيان
بشهر متتابع ولا كفارة عليه، لإتيانه بالمنذور على وجهه، وبين البناء على
ما صامه والتكفير بكفارة يمين، لتركه صفة المنذور، كما «أمر النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخت عقبة بالكفارة لتركها المشي» ، ويخرج
رواية أخرى بعدم وجوب الكفارة للعذر، لإمكانه الإتيان بالمنذور على وجهه.
وقول الخرقي: مرض. قد قلنا: أي مرضا مجوزا للفطر. وهو شامل للموجب للفطر
وهو المخوف، وغير الموجب وهو المبيح، ولا ريب أن حكم الموجب ما تقدم، أما
المبيح فهل حكمه كذلك أو حكم من أفطر لغير عذر، فيلزمه الاستئناف بلا
كفارة؟ على وجهين، وكذلك هذان الوجهان فيما إذا سافر سفرا يبيح الفطر، ولنا
وجه ثالث يفرق بين المرض والسفر، ففي المرض يخير، لأن السبب وجد بغير
اختياره، وفي السفر يتعين الاستئناف، لوجود السبب منه باختياره، وقد تقدم
نحو ذلك في الظهار، وكلام الخرقي مشعر بأنه لو نذر شهرا وأطلق أنه لا يلزمه
التتابع فيه، وهو إحدى الروايتين، لوقوع الشهر على ما بين الهلالين وعلى
ثلاثين يوما، ولهذا لو صام ثلاثين يوما أجزأه بلا ريب والله أعلم.
قال: وكذلك المرأة إذا نذرت صيام شهر متتابع وحاضت فيه.
(7/221)
ش: يعنى أنها تخير بين الاستئناف فلا شيء
عليها وبين البناء مع الكفارة.
قال: ومن نذر أن يصوم شهرا بعينه فأفطر يوما بغير عذر ابتدأ شهرا وكفر
كفارة يمين.
ش: إذا نذر صوم شهر بعينه - كرجب مثلا - فأفطر يوما فيه أو أكثر، فلا يخلو
إما أن يكون لعذر أو لغير عذر، فإن كان لغير عذر ففيه روايتان: (إحداهما) -
وهي المشهورة واختيار الخرقي وأبي الخطاب في الهداية وابن البنا - أنه
ينقطع صومه ويبتدئ شهرا كاملا، (والثانية) - وقال أبو محمد: إنها الأقيس -:
لا ينقطع صومه، فيتم على ما صامه ثلاثين يوما إذا زال عذره؛ وأصل الخلاف أن
التتابع في الشهر المعين هل وجب لضرورة الزمن، وإليه ميل أبي محمد، أو
لإطلاق النذر، وإليه ميل الخرقي والجماعة، ولهذا لو شرط التتابع بلفظه أو
نواه لزمه الاستئناف قولا واحدا، ومما ينبني على ذلك أيضا إذا ترك صوم
الشهر كله، فهل يلزمه شهر متتابع، أو يجزئه متفرقا؟ على الروايتين ولهاتين
الروايتين أيضا التفات إلى ما إذا نذر صوم شهر وأطلق، هل يلزمه متتابعا أم
لا؟ وقد تقدم أن كلام الخرقي يشعر بعدم التتابع، وقضية البناء هنا يقتضي
اشتراط التتابع، كما هو المشهور عند الأصحاب ثم. انتهى. وعلى كلتا
الروايتين
(7/222)
يلزمه كفارة، جبرا للفطر الذي أفطره فيه،
وإن كان الفطر لعذر فإنه يبني قولا واحدا، لكن هل يجب وصل القضاء وتتابعه
أم لا؟ على الروايتين السابقتين، وهل يلزمه كفارة؟ على الروايتين أيضا في
ترك المنذور لعذر.
قال: ومن نذر أن يصوم فمات قبل أن يأتي به صام عنه ورثته من أقاربه.
ش: أما جواز صوم النذر عن الميت في الجملة فهو المذهب المعروف.
3765 - لما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن «امرأة قالت:
يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر، أفأصوم عنها؟ فقال: «أرأيت لو
كان على أمك دين فقضيتيه أكان ذلك يؤدي عنها؟» قالت: نعم، قال: «فصومي عن
أمك» متفق عليه؛ وفي رواية: «أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن الله نجاها أن
تصوم شهرا، فأنجاها الله فلم تصم حتى ماتت، فجاءت قرابة لها إلى رسول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فذكرت ذلك له، فقال: «صومي عنها» »
رواه أحمد وأبو داود، والنسائي.
(7/223)
3766 - وعلى هذا يحمل عموم ما روت عائشة -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» متفق عليه.
3767 - بدليل ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: إذا
مرض الرجل في رمضان ثم مات ولم يصم، أطعم عنه ولم يكن عليه قضاء، وإن نذر
قضى عنه وليه. رواه أبو داود، فقد فهم من الحديث الأول اختصاص الحكم
بالنذر، وأنه لا يتعدى إلى غيره، وقد جاء نحو هذا صريحا عن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
3768 - فعن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من مات وعليه صيام شهر رمضان فليطعم
عنه مكان كل يوم مسكينا» إلا أن سنده ضعيف، وقال الترمذي: الصحيح أنه عن
ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - موقوف.
(7/224)
وقيل: لا يصوم أحد عن أحد، كما لا يفعل ذلك
عنه في الحياة، وهو مردود بالنصوص، والذي يصوم عنه ورثته من أقاربه، لأنهم
لما خلفوه في أخذ ميراثه كذلك فيما عليه، وهذا على سبيل الاستحباب، فلو لم
يصوموا فلا شيء عليهم، إلا أنه وقع للقاضي في تعليقه ما ظاهره أنه لو خلف
إذا تركة فالورثة مخيرون، إن شاءوا صاموا، وإن شاءوا أنفقوا على من يصوم،
وهو حسن، ولو صام عنه قريبه غير الوارث، أو وارثه غير القريب أو أجنبي أجزأ
عنه، كما لو قضى عنه دينه، وقد شبهه النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - بالدين، ولتشبيهه بالدين قلنا: لا يجب على الوارث القريب
القضاء، بل يستحب له، إذ قضاء الدين عن الميت لا يجب على الوارث ما لم يخلف
تركة يقضى منها، وقول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صومي
عنها» ونحو ذلك أمر بالصوم على جهة الفتوى فيما سئل عنه، والغرض منه بيان
الجواز.
3769 - وقد جاء مصرحا به «من مات وعليه صيام صام عنه وليه لمن شاء» .
وظاهر كلام الخرقي أنه لا يجب مع القضاء فدية، وهو كذلك، لظاهر الحديث.
[قضاء نذر الطاعة عن الميت]
قال: وكذلك كل ما كان من نذر طاعة.
(7/225)
ش: كحج وصدقة، وعتق واعتكاف، ونحو ذلك من
القرب.
3770 - وقد جاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن «امرأة من
جهينة جاءت إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالت: إن
أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: «نعم، أرأيت لو كان
على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا الله فالله أحق بالوفاء» رواه البخاري
والنسائي بمعناه، وفي رواية لأحمد والبخاري قال: جاء رجل فقال: إن أختي
نذرت أن تحج. وهو دليل على الإجزاء من الوارث وغيره، حيث لم يستفسره النبي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أوارث هو أم لا، فقد ورد النص
بالقيام في الصوم والحج خصوصا، وورد في غيرهما عموما.
3771 - فعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن «سعد بن عبادة استفتى
رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إن أمي ماتت وعليها
نذر لم تقضه؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقض
عنها» رواه أبو داود والنسائي.
(7/226)
وقد عمل على ذلك ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، وهما راويا الحديث، وكذلك
ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -.
3772 - قال البخاري: أمر ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - امرأة جعلت
أمها على نفسها صلاة بقباء يعني ثم ماتت فقال: صلي عنها، قال: وقال ابن
عباس نحوه.
3773 - وروى سعيد عن سفيان، عن عبد الكريم أبي أمية عن عبيد الله بن عبد
الله بن عتبة أنه سأل ابن عباس عن نذر كان على أمه من اعتكاف، قال: صم
عنها، واعتكف عنها.
(7/227)
3774 - وقال: حدثنا أبو الأحوص، عن إبراهيم
بن مهاجر، عن عامر بن مصعب، أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - اعتكفت عن
أخيها عبد الرحمن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بعدما مات.
ولنا قول آخر ضعيف أنه لا يفعل شيئا من ذلك كما تقدم في الصوم.
وقد شمل كلام الخرقي الصلاة المنذورة، وهو إحدى الروايتين، واختيار أبي
بكر، والقاضي في التعليق وغيرهما، قياسا على ما تقدم (والرواية الثانية) :
لا يفعل الصلاة بخلاف الصوم
(7/228)
وغيره، لأنها عبادة تختص بالبدن، لا بدل
لها بحال.
ومفهوم كلام الخرقي أن الولي لا يفعل ما هو واجب بغير النذر، من قضاء
رمضان، وصوم كفارة، وصوم السبعة أيام للمتمتع، وحج، وزكاة مال، وعتق في
كفارة، وقد صرح بذلك الأصحاب في قضاء رمضان، لما تقدم من الإشارة في
الاستدلال، وكذلك نص عليه أحمد في السبعة الأيام للمتمتع في رواية المروذي،
قياسا على قضاء رمضان، لوجوبها بأصل الشرع، وهو فرق صوري، وقد يقال: الأصل
عدم الاستنابة إلا ما استثناه الدليل، وكذلك نص أحمد في صوم الكفارة في
رواية ابن منصور، إذ الكفارة زاجرة كالحد، فلم ينب فيها الولي؛ بخلاف نذر
الصوم فإنه نذر طاعة، أشبه نذر صدقة المال.
وأما الحج الواجب فقد قال الأصحاب إن لوارثه ولغير وارثه أن يفعله عنه بعد
مماته وإن لم يوص بذلك، سواء كان له تركة أو لم يكن.
3775 - وقد شهد لذلك ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال:
«أتى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رجل فقال: إن أبي مات
وعليه حجة الإسلام، أفأحج عنه؟ قال: «أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه
أقضيته عنه؟» قال: نعم. قال: «فاحجج عن أبيك» رواه الدارقطني، وأما
(7/229)
زكاة المال فلا يحضرني الآن فيه نقل،
والقياس أنه كالعتق الواجب، وقد صرح القاضي وأبو البركات وغيرهما بصحته عن
الميت مطلقا، وقد علم من مجموع هذا أن مفهومه إنما عمل به في الصوم فقط.
(تنبيه) : قول الخرقي: صام عنه ورثته من أقاربه، ظاهره كما تقدم أن الذين
يطلب منهم الصوم هم الورثة من الأقارب، وأحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال -
في من مات وعليه اعتكاف -: ينبغي لأهله أن يعتكفوا عنه. وهو شامل للوارث
وغير الوارث، وقال ابن عبدوس: إذا صام الولي صام الأقرب من الأولياء. ثم
قول الخرقي أيضا: ورثته. يشمل جميع الورثة، وظاهره أنه لو صام عنه الكل صح،
كأن يكونوا مثلا عشرة، وعليه عشرة أيام،
(7/230)
فيصوموا عنه كل واحد يوما، وقد ذكر لأحمد
في رواية أبي طالب من كان عليه صوم شهر، هل يصوم عشرة أنفس شهرا؟ فقال:
يصوم واحد؛ وقد قرر القاضي في تعليقه هذا النص على ظاهره، لما أورده على
لسان الخصم، وقال فيه: كما لا يصح أن يطوف واحد ويسعى آخر والله أعلم.
(7/231)
|