شرح الزركشي على مختصر الخرقي

 [كتاب أدب القاضي]
ش: قال الأزهري: القضاء في الأصل إحكام الشيء والفراغ منه، ويكون القضاء إمضاء الحكم، ومنه قَوْله تَعَالَى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ} [الإسراء: 4] وسمي الحاكم قاضيا لأنه يمضي الأحكام ويحكمها، ويكون (قضى) بمعنى أوجب، فيجوز أن يكون سمي قاضيا لإيجابه الحكم على من يجب عليه. انتهى؛ قلت: ويجوز أن يكون سمي من الأول، لأنه ينبغي أن يكون محكما في نفسه، أي كاملا في صفاته وأفعاله.
والأصل في مشروعيته قَوْله تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65] وقَوْله تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وقَوْله تَعَالَى: {يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى} [ص: 26] .
3776 - وعن عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - –

(7/232)


أنه قال: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران» ، متفق عليه.
3777 - ولأبي داود والنسائي من رواية أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر» ، وكذا من مسلم، مع أن هذا

(7/233)


-ولله الحمد - إجماع والقضاء من فروض الكفايات، لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه، فكان واجبا كالجهاد والإمامة، ولما تقدم من قَوْله تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] ونحوه.
3778 - وعن أبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم» رواه أبو داود.

(7/234)


3779 - وله من حديث أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مثله.
3780 - وعن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لا يحل لثلاثة أن يكونوا بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم» رواه أحمد، ونقل إسماعيل بن سعيد عن أحمد أنه سئل: هل يأثم القاضي بالامتناع إذا لم يوجد غيره ممن يوثق به؟ قال: لا يأثم. وظاهر هذا أنه غير واجب، والأول المذهب، قال أبو محمد: ويحتمل أن تحمل هذه الرواية على من لم يمكنه القيام بالواجب لظلم السلطان وغيره.

(7/235)


[شروط القاضي]
قال: ولا يولى قاض حتى يكون بالغا عاقلا، مسلما حرا عدلا، عالما فقيها ورعا.
3781 - ش: (أما اشتراط البلوغ) فلما روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تعوذوا بالله من رأس السبعين، وإمارة الصبيان» رواه أحمد، ولأن الصبي مولى عليه فلا يكون مولى على غيره، ولأن الصبي يستحق الحجر عليه، والقاضي يستحق الحجر على غيره فتنافيا، (وأما اشتراط الإسلام) فلأن ذلك شرط في الشهادة، ففي القضاء أولى، ودليل الأصل: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ولأن الكفر يقتضي إذلال صاحبه، والقضاء يقتضي احترامه، وبينهما منافاة، وقد قال الله سبحانه: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا} [النساء: 141] وأي سبيل أعظم من أن يلزمه، ويحكم عليه بغير

(7/236)


اختياره، (وأما اشتراط الحرية) فقياسا لمنصب القضاء على منصب الإمامة؛ ولأن العبد في أعين الناس ممتهن، والقاضي موضوع للفصل بين الخصومات، وبين الحالتين منافاة.
3782 - وما ورد من قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اسمعوا وأطيعوا وإن أمر عليكم عبد حبشي، ما أقام فيكم كتاب الله عز وجل» رواه مسلم وغيره، فمحمول على من كان عبدا مجازا، أو على غير ولاية الحكم، (وأما اشتراط العدالة) فلقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] والقاضي يخبر بقول، فلا يجوز قبوله مع فسقه لذلك، ولأن العدالة شرط في الشاهد، ففي

(7/237)


القاضي أولى، ولأن قوله ألزم، وضرره أشمل، ودليل الأصل: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] (وأما اشتراط كونه عالما) أي عالما بوجوه الكتاب والسنة، واختلاف علماء المسلمين - فقيها - وهو من صار الفقه له سجية، لأن الفقيه اسم فاعل من فقه - بالضم - ككرم فهو كريم، وذلك من صار له أهلية استنباط الأحكام الشرعية.
3783 - فلما تقدم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، إذ فيه في صحيح مسلم: إذا حكم الحاكم فاجتهد؛ قال العلماء: معناه إذا أراد أن يحكم، فعند ذلك يجتهد، وإلا لو حمل على ظاهره لاقتضى أن الاجتهاد مؤخر عن الحكم، وليس كذلك اتفاقا.
3784 - وعن بريدة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «القضاة «ثلاثة، واحد في الجنة، واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق وقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى على جهل فهو في النار» رواه أبو داود وابن ماجه.

(7/238)


3785 - وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من أفتي بفتيا بغير علم كان إثم ذلك على الذي أفتاه» رواه أحمد وابن ماجه.
3786 - وعن عمرو بن الحارث يرفعه إلى معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، أن «رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما أراد أن يبعث معاذا إلى اليمن قال له: «كيف تقضي إذا عرض لك قضاء» ؟ قال: أقضي بكتاب الله. قال: «فإن لم تجد في كتاب الله؟» قال: أقضي بسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «فإن لم

(7/239)


تجد في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: أجتهد رأيي ولا آلو. قال: فضرب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صدره وقال: «الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما يرضي رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» -» رواه أبو داود والترمذي، وقد شهد لهذا قَوْله تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وقوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] الآية.

(7/240)


(وأما اشتراط كونه ورعا) فلأن غير الورع لا يؤمن أن يتساهل، فيأخذ الرشا الملعون آخذه عن الله وعن الحق.
3787 - فعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم» رواه الترمذي.
3788 - وعن ابن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - نحوه رواه أبو داود.

(7/241)


3789 - وعن عمر بن عبد العزيز - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه قال: ينبغي للقاضي أن يجتمع فيه سبع خصال، وإن فاتته واحدة كانت فيه وصمة، العقل، والعفة، والورع، والنزاهة، والصرامة، والعلم بالسنن، والحلم. رواه سعيد.
وظاهر كلام الخرقي أن الورع شرط لصحة تولية القضاء، وهو ظاهر كلام أحمد على ما حكاه أبو بكر في التنبيه قال: إذا كان فيه ست خصال فقيها، عالما، ورعا، عفيفا، بصيرا بما يأتي بصيرا بما يذر، أي صلح للقضاء، أو صلح أن يستقضى، وعامة المتأخرين كالقاضي ومن بعده لا يشترطون ذلك، بل

(7/242)


يجعلونه من المندوبات.
إذا تقرر هذا فقد أهمل الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - شروطا أخر لا بد من التنبيه عليها، ولعله لوضوحها، أو لإشعار كلامه بها تركها، (منها كونه عاقلا) وهذا واضح جدا، لأن المجنون أسوأ حالا من الصبي، (ومنها كونه ذكرا) ويحتمله كلام الخرقي لذكره ما تقدم بصيغة التذكير، وذلك لما تقدم من قوله: القضاة ثلاثة قال: «فرجل» إلى آخره، وظاهره حصر القضاة في الثلاثة الموصوفين بما ذكر.
3790 - وعن أبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: «لما بلغ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى، قال: «لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة» رواه البخاري والنسائي والترمذي وصححه، ولأن القاضي يحضره الرجال، ويحتاج فيه إلى كمال رأي، وتمام عقل،

(7/243)


وفطنة، والمرأة لا تحضر محافل الرجال، وهي ناقصة عقل بدليل النص، قليلة رأي وفطنة، وقد نبه الله سبحانه على ذلك بقوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] فأشار سبحانه إلى كثير نسيانها وغلطها، (ومنها) أن يكون متكلما سميعا بصيرا، لأن الأخرس يتعذر عليه النطق بالحكم، وإشارته إن فهمت لكن لا يفهمها كل أحد، والأصم لا يسمع قول الخصمين، والأعمى لا يعرف المدعي من المدعى عليه، والشاهد من المشهود له، (واختلف) هل يشترط كونه كاتبا، وهو الذي أورده ابن حمدان مذهبا، حذارا من أن يخفى عليه ما يكتبه كاتبه، فربما دخل عليه الخلل، أو لا يشترط، وهو ظاهر كلام عامة الأصحاب، الخرقي وأبي بكر، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي وابن البنا وغيرهم، ونصبه أبو محمد للخلاف، نظرا إلى أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان أميا، وهو سيد الحكام؟ على قولين، (وكذلك اختلف) أيضا في اشتراط كونه زاهدا،

(7/244)


والمذهب عدم الاشتراط، وحكى ابن حمدان قولا بالاشتراط، وظاهر كلام أبي بكر في التنبيه أنه يشترط أن يكون أعلم من غيره، وهو يرجع إلى صحة تولية المفضول مع وجود الفاضل، والمذهب الصحة فيما أظن.
(تنبيهات) : «أحدها» : ما يتصور فقده من هذه الشروط إذا فقد في الدوام أزال الولاية، إلا فقد السمع أو البصر فيما ثبت عنده ولم يحكم به، فإن ولايته ثابتة فيه، «الثاني» : العاقل من عرف الواجب والممتنع والممكن، وما ينفعه وما يضره غالبا، والعقل ضرب من العلوم الضرورية، مثل العلم باستحالة اجتماع الضدين ونحوه، قاله القاضي وغيره، وقال التميمي: هو نور كالعلم، وعن إبراهيم الحربي، عن أحمد أنه قال: العقل غريزة، والحكمة فطنة، والعلم سماع، والرغبة في الدنيا هوى، والزهد فيها عفاف.

(7/245)


قال القاضي: معنى قوله أنه غريزة، أنه خلق الله ابتداء وليس باكتساب، وللناس فيه أقوال كثيرة، وهل محله القلب أو الدماغ؟ فيه روايتان، المختار منهما للأصحاب الأول، قال التميمي: الذي نقول به أن العقل في القلب، يعلو نوره إلى الدماغ فيفيض إلى الحواس، ما جرى في العقل. انتهى، وجعل الماوردي الاختلاف في محله مفرعا على قول من زعم أنه جوهر لطيف، يفصل به بين حقائق المعلومات كلها، وقال: كل من نفى كونه جوهرا أثبت محله في القلب، لأن القلب محل العلوم كلها.
(الثالث) : العدالة المشترطة هنا هل هي العدالة ظاهرا وباطنا كما في الحدود، أو ظاهرا فقط كما في إمامة الصلاة، والحاضن، وولي اليتيم، ونحو ذلك، أو فيها الخلاف كما في العدالة في الأموال؟ ظاهر إطلاقات الأصحاب أنها كالذي في الأموال، وقد يقال إنها كالذي في الحدود.
(الرابع) غير واحد من الأصحاب يقول: من شرط القاضي كونه مجتهدا، وهو الذي أشار إليه الخرقي بقوله: عالما فقيها، والمجتهد من له أهلية يمكنه أن يعرف بها غالب الأحكام الشرعية الفرعية بالدليل إذا يشاء. مع معرفة جملة كثيرة منها

(7/246)


بأدلتها، فيحتاج أن يعرف من الكتاب والسنة ما يتعلق بالأحكام المذكورة جملة، ويعرف حقيقة ذلك ومجازه، وأمره ونهيه، ومبينه ومجمله، ومحكمه ومتشابهه، وعامه وخاصه، ومطلقه ومقيده، وناسخه ومنسوخه، والمستثنى والمستثنى منه ويزيد في السنة بأن يعرف مما يتعلق بالأحكام صحيحه وسقيمه، وتواتره وآحاده، ومرسله ومنقطعه ونحو ذلك،

(7/247)


ويعرف موضع الوفاق من موضع الخلاف فيما يتعلق بالأحكام، والقياس وما يتعلق به، والعربية، المتداولة بالحجاز واليمن والشام والعراق، ومن حولهم من العرب، وزاد ابن عقيل في التذكرة: والاستدلال، واستصحاب الحال، والقدرة على إبطال شبه المخالف، وإقامة الدلالة على مذهبه. والله أعلم.

قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا يحكم الحاكم بين اثنين وهو غضبان.
ش: هذا - والله أعلم - اتفاق.
3791 - وقد شهد له ما روى «عبد الرحمن بن أبي بكرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: كتب أبي وكتبت له إلى ابنه عبيد الله بن أبي بكرة، وهو قاض بسجستان، أن لا تحكم بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان» رواه الجماعة. وفي معنى هذا كل مشغل للفكر،

(7/248)


كشدة جوع أو عطش أو ألم، أو هم أو حزن، أو فرح أو نعاس، أو حر مزعج، أو برد مؤلم، أو مدافعة بول أو غائط ونحو ذلك.
وظاهر كلام الخرقي وعامة الأصحاب أن المنع من ذلك على سبيل التحريم، وفي الخصال لابن البنا الإتيان بلفظ الكراهة، وفي المغني: لا خلاف نعلمه أن القاضي لا ينبغي له أن يقضي وهو غضبان، وعلى كل حال فإذا خالف وحكم فوافق الحق (فعن القاضي) لا ينفذ حكمه، لارتكاب النهي.
3792 - فيدخل تحت قوله - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» ، (وعنه) - في المجرد وهو الذي أورده الشيخان، وأبو الخطاب مذهبا - أنه ينفذ، إذ المنع من ذلك كان حذارا من

(7/249)


شغل فكره المؤدي إلى عدم استيفاء النظر في الحكم، فربما وقع الخلل فيه، والفرض أن لا خلل في الحكم.
3793 - وأما ما روي عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، أن «رجلا من الأنصار خاصم الزبير عند النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في شراج الحرة التي يسقون بها النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمر. فأبى عليه، فاختصما عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - للزبير: «اسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك» ، فغضب الأنصاري ثم قال: يا رسول الله أن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثم قال للزبير: «اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر» ، فقال الزبير: والله إني لأحسب أن هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] الآية» متفق عليه. فهذا الذي وجد من النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان غضبا

(7/250)


يسيرا، ومثله لا يمنع الحكم، أو أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يحكم حتى زال عنه ذلك. انتهى. وقيل: إن عرض ذلك بعد فهم الحكم نفذ لاستبانة الحق قبل الشاغل، وإلا فلا، هذا نقل أبي البركات، وتبعه ابن حمدان، ولفظ أبي محمد في الكافي: وقيل: إنما يمنع الغضب الحكم قبل أن يتضح حكم المسألة، أما إذا حدث بعد اتضاح الحكم لم يمنع حكمه فيها لقضية الزبير، وهذا ظاهر في جواز الحكم وعدم جوازه، لا في نفوذه وعدم نفوذه.

[مشاورة القاضي لأهل العلم والأمانة]
وقال: وإذا نزل به الأمر المشكل عليه شاور فيه أهل العلم والأمانة.
ش: إذا نزلت بالقاضي قضية واتضح له حكمها حكم، لما تقدم من حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وإن لم يتضح له الحكم وأشكل عليه شاور فيه، لقول الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران: 159] وكذلك فعل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في أسارى بدر، وفي لقاء الكفار يوم بدر، وفي غير ذلك.

(7/251)


3794 - وروي: «ما كان أحد أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله» - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
3795 - وكذلك شاور أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الصحابة في ميراث الجدة.
3796 - وكذلك عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في حد الخمر. قال أحمد: لما ولي سعد بن إبراهيم قضاء المدينة، كان يجلس بين القاسم وسالم يشاورهما

(7/252)


ويشاور أهل العلم والأمانة، إذ الجاهل لا قول له فيعتبر، وغير الأمين قوله هدر.
إذا تقرر هذا فهذه المشاورة لمعرفة الحق بالاجتهاد، فإذا إذا اتضح له الحكم حكم، وإلا أخره حتى يتضح له، لا لتقليد غيره فإنه لا يجوز، وإن كان أعلم أو ضاق الوقت.
(تنبيه) : هذه المشاورة على سبيل الاستحباب، قاله في المغني، وهو ظاهر كلام المجد، لأنه أتى بلفظ الابتغاء، ولا ريب أنه لا يقضي على جهل وتردد.

[قضاء القاضي بعلمه]
قال: ولا يحكم الحاكم بعلمه.
ش: هذا هو المذهب المنصوص، والمختار لعامة الأصحاب من الروايات.
3797 - لما روت أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له نحو ما أسمع، فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار» متفق عليه، وظاهره

(7/253)


أنه لا يحكم إلا بما يسمع في حال حكمه، وقد روي: وإنما أحكم وهذا صريح أو كالصريح في أنه لا يحكم إلا بما يسمع.
3798 - وأيضا «قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حديث هلال بن أمية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لما لاعن زوجته: «أبصروه فإن جاءت به - يعني الولد - على نعت كذا فهو لهلال، وإن جاءت به على نعت كذا فهو لشريك» فجاءت به على النعت المكروه، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو كنت راجما بغير بينة لرجمت هذه» فلم يحكم بعلمه، لعدم قيام البينة.

(7/254)


3799 - وأصرح من هذين ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أبا جهم بن حذيفة مصدقا، فلاجه رجل في صدقته، فضربه أبو جهم فشجه، فأتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقالوا: القود يا رسول الله. فقال: «لكم كذا وكذا» فلم يرضوا، فقال: «لكم كذا وكذا» فرضوا، فقال: «إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم» قالوا: نعم، فخطب فقال: «إن هؤلاء الليثيين أتوني يريدون القود، فعرضت عليهم كذا وكذا فرضوا، أفرضيتم؟» قالوا: لا، فهم المهاجرون بهم، فأمرهم رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يكفوا عنهم فكفوا، ثم دعاهم فزادهم فقال: «أفرضيتم؟» فقالوا: نعم، قال: «إني خاطب على الناس ومخبرهم برضاكم» قالوا: نعم. فخطب فقال: «أرضيتم؟» قالوا: نعم» . رواه الخمسة إلا الترمذي، فلم يحكم عليهم النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعلمه لما جحدوا، تعليما لأمته، وسدا لباب التهم والظنون.

(7/255)


3800 - وعن أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: لو رأيت رجلا على حد من حدود الله عز وجل ما أخذته ولا دعوت له أحدا حتى يكون معي غيري، حكاه الإمام أحمد.

(7/256)


(والرواية الثانية) : يجوز أن يحكم بعلمه، أخذا من قول أحمد فيما نقله أبو طالب في الأمة إذا زنت يقيم مولاها الحد إذا تبين له الزنا، حملت لو رآها، قال أبو الخطاب: فإذا جاز للسيد ذلك برؤيته في الحدود فالحاكم أولى، ومن قوله في رواية حرب: إذا أقر في مجلسه بحد أو حق لزمه ذلك وأخذ به. وفي كلا المأخذين نظر، إذ السيد لا يتهم في ماله اتهام الحاكم، ولا يعم ضرره كضرر الحاكم، والإقرار في المجلس يخالف الإقرار في غيره كما سيأتي.
3801 - وبالجملة استدل لهذه الرواية بما روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن «هندا قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي إلا ما أخذت منه وهو لا يعلم؟ فقال: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» متفق عليه، كذا ترجم عليه البخاري فقال: باب حكم الحاكم بعلمه إذا لم يخف الظنون والتهم، وكان أمرا مشهورا؛ ولأنه

(7/257)


إذا جاز الحكم بشاهدين مع أنهما إنما يحصلان غلبة الظن، فما يجزم به أولى، وقد أجيب عن قضية أبي سفيان بأنها فتيا لا حكم، وإلا فكيف يحكم على الغائب مع إمكان حضوره؟ لا يقال: يجوز أن يكون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عالما بتعذر حضوره، لأنا نقول: ويجوز خلاف ذلك، فإذا هي واقعة عين.
(والرواية الثالثة) : يجوز ذلك في غير الحدود لما تقدم، لا في الحدود لدرئها بالشبهة، وذلك شبهة.
إذا تقرر هذا فلا فرق في ذلك بين ما سمعه قبل ولايته أو بعدها، ولا بين ما علمه في مجلس حكمه أو قبله، إلا أنه استثني من ذلك الحكم بالبينة في مجلسه بلا نزاع أعلمه، وكذلك الإقرار على منصوصه في رواية حرب المتقدمة، وهو الذي أورده الشيخان وأبو الخطاب مذهبا، لأن مجلس الحكم التهمة منتفية عنه غالبا، وطرد القاضي القاعدة في الإقرار، فقال: لا يحكم به حتى يسمعه معه شاهدان، حذارا من الحكم بالعلم، واستثنى عامة الأصحاب الجرح والتعديل، فإنه يحكم بعلمه فيه، وإلا يتسلسل، فإن الشاهدين يحتاج إلى معرفة عدالتهما، فإذا لم يحكم بعلمه احتاج كل واحد منهما إلى مزكيين، ثم كل واحد منهما إلى مزكيين وتسلسل، وحكى ابن

(7/258)


حمدان في رعايتيه قولا بالمنع وهو مردود إن صح ما حكاه القرطبي، فإنه حكى اتفاق الكل على الجواز.
(تنبيه) : الخلاف في جواز حكمه بعلمه ولا نزاع أنه لا يحكم بخلاف علمه و «ألحن» أي أفصح وأفطن، وقد جاء مفسرا في رواية أخرى قال: «فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض» أي أكثر بلاغة وإيضاحا لحجته، والله أعلم.

[نقض القاضي حكم غيره]
قال: ولا ينقض من حكم غيره إذا رفع إليه إلا ما خالف كتابا أو سنة، أو إجماعا.
ش: لأن الواجب أن لا يعدل عن هذه الثلاثة مع وجودها، بدليل حديث معاذ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المتقدم.
3802 - وعن شريح أنه كتب إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يسأله، فكتب إليه: أن اقض بما في كتاب الله، فإن لم يكن في كتاب الله فبسنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فإن لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاقض بما قضى به الصالحون، فإن لم يكن فيما قضى به الصالحون فإن شئت فتقدم وإن شئت فتأخر، ولا أرى التأخر

(7/259)


إلا خيرا لك، رواه النسائي، وإذا من خالف حكمه واحدا من الثلاثة فقد عدل عنها، فيرد قوله، بدليل قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» ، ويرجح هذا أيضا قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59] الآية.
3803 - وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: ردوا الجهالات إلى السنة، وقول الخرقي: خالف كتابا أو سنة. مقيد بنصيهما، بخلاف ما إذا كانت المخالفة لظاهريهما، فإنه لا ينقض إذ الظواهر تختلف آراء المجتهدين فيها، والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.
3804 - ولأن أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سوى بين الناس في العطاء، وأعطى العبيد، وخالفه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ففاضل بين الناس،

(7/260)


وخالفهما علي فسوى بين الناس، وحرم العبيد. ولم ينقض واحد ما فعله من قبله، وهذا إجماع أو كالإجماع من الصحابة على أن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد.
والحكم في حكم نفسه كذلك، فإذا تبين له خطأ نفسه فإن كان لمخالفة نص كتاب أو سنة أو إجماع نقض حكمه، وإلا لم ينقضه.
وعموم كلام الخرقي وغيره يقتضي النقض لمخالفة نص السنة وإن كانت آحادا، ونص عليه الإمام، وظاهر كلامه وكلام غيره أن حكم الحاكم وحكم غيره لا ينقض لمخالفة ما عدا هذه الثلاثة، وهو كذلك، واختار ابن حمدان النقض لمخالفة قياس جلي قطع فيه بنفي الفارق.
وقول الخرقي: لا ينقض من حكم غيره إلى آخره، يشمل ما إذا كان الغير متوليا أو معزولا، يصلح للقضاء أو لا يصلح، وكذلك أطلق أبو بكر وابن عقيل، والشيرازي وابن البنا، ومنهم من صرح بالقبلية، وقال أبو الخطاب في الهداية: إذا كان من قبله لا يصلح للقضاء نقض أحكامه كلها وإن وافقت الصواب. وخالفه أبو محمد في المغني والكافي، واختار أنه لا ينقض الصواب منها لعدم الفائدة في ذلك، وإنما ينقض ما

(7/261)


خالف الحق منها، وإن لم يخالف واحدا من الثلاثة. ويتلخص فيمن هذه حاله ثلاثة أقوال.
(النقض) مطلقا، (النقض) إن خالف الصواب، وإن لم يخالف واحدا من الثلاثة (حكمه حكم غيره) إن خالف حكمه واحدا من الثلاثة نقض وإلا فلا، وهو ظاهر كلام المجد، ويشهد له إطلاق الأكثرين.
وقوة كلام الخرقي يقتضي أنه لا يجب عليه تتبع قضايا من كان قبله، وصرح بذلك أبو محمد في كتابيه، وظاهر كلامه في المقنع - تبعا لأبي الخطاب في الهداية - الوجوب، وهو الذي أورده ابن حمدان في الكبرى مذهبا، والله أعلم.

[اشتراط عدالة الشهود]
[شهادة مستور الحال]
قال: وإذا شهد عنده من لا يعرفه سأل عنه، فإن عدله اثنان قبل شهادته.
ش: وضع هذه المسألة أن مستور الحال - وهو من عرف إسلامه وجهل حاله - هل تقبل شهادته؟ فيه روايتان مشهورتان (إحداهما) - وهي اختيار أبي بكر والخرقي فيما قاله القاضي في روايتيه، اعتمادا على قوله فيما بعد: والعدل من لم تظهر منه ريبة - تقبل شهادته في الجملة (والرواية الثانية) - وهي المذهب عند الأكثرين، القاضي وأصحابه، وأبي محمد والخرقي، فيما قاله أبو البركات، اعتمادا على لفظه هنا، وهو ظاهر - لا تقبل،

(7/262)


ومنشأ الخلاف أن العدالة هل هي شرط لقبول الشهادة، والشرط لا بد من تحقق وجوده، وإذا لا يقبل مستور الحال لعدم تحقق الشرط فيه، أو الفسق مانع فيقبل، إذ الأصل عدم الفسق، ويشهد للأول قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] فوصف الشاهدين بعد كونهما من رجالنا - وهم المسلمون - بأن يكونا من الذين نرضاهم، فدل على اشتراط زيادة على الإسلام وهي العدالة، ويؤيد ذلك ويوضحه قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] فأمر باستشهاد العدل، ومستور الحال لا تعلم عدالته، فلا يخرج من عهدة الأمر باستشهاده، ويشهد للثاني قَوْله تَعَالَى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] أو (فتثبتوا) فأمر سبحانه بالتثبت أو بالتبين عند مجيء الفاسق، ومقتضاه أنه لا يتبين ولا يتثبت عند عدم الفسق، إذ الفسق هو السبب للتثبت، فإذا انتفى الفسق انتفى التثبت، إذ لا بقاء للمسبب عند انتفاء السبب.
3805 - وأيضا ما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: «جاء أعرابي إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال: إني رأيت الهلال. يعني رمضان، فقال: «أتشهد أن لا إله إلا الله؟» قال: نعم. قال: «أتشهد أن محمدا رسول

(7/263)


الله؟» قال: نعم. قال: «يا بلال أذن في الناس فليصوموا غدا» رواه الخمسة إلا أحمد فاكتفى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بمجرد إسلامه، وأجيب عن الحديث بأن الصحابة عدول، فلا حاجة إلى البحث عن عدالتهم، وعن الآية الكريمة بأنا نقول بموجبها، وأنه إذا انتفى الفسق انتفى التثبت، لكن إنما ينتفي الفسق بالخبرة به أو بالتزكية، فإن قيل: ينتفي بأن الأصل في المسلمين العدالة.
قيل: لا نسلم هذا، إذ العدالة أمر زائد على الإسلام، ولو سلم هذا فمعارض بأن الغالب - لا سيما في زماننا هذا - الخروج عنها، وقد يلتزم أن الفسق مانع، ويقال: المانع لا بد من تحقق ظن عدمه كالصبي والكفر.
إذا تقرر هذا فإذا عرف الحاكم عدالة الشاهد أو فسقه عمل على ذلك، كما أشار إليه الخرقي بقوله: من لا يعرفه. لما تقدم من أن الحاكم يحكم بعلمه في ذلك، وإن جهلهما فعلى الأولى إن كان مسلما قبل شهادته ما لم يظهر له منه ريبة، من غفلة أو غير ذلك، ولم يقدح فيه خصمه، فإن جهل إسلامه فلا بد من المعرفة به، وذلك إما بخبره عن نفسه بأنه مسلم، أو بإتيانه بما يصير به مسلما، وإما ببينة أو اعتراف من المشهود عليه، ولا

(7/264)


يكتفى بظاهر الدار. وإن جهل حريته حيث تعتبر فلا بد من معرفتها، إما ببينة، وإما باعتراف المشهود عليه، وهل يرجع إلى قول الشاهد في ذلك؟ فيه وجهان، الذي جزم به أبو محمد لا، إذ لا يملك أن يصير حرا، فلا يملك الإقرار بذلك، بخلاف الإسلام، وإن ارتاب، أو قدح فيه خصمه سأل عنه، كما يسأل عن عدالته على الرواية الثانية بلا ريب، وذلك بأن يكتب الحاكم ما يعرف به الشاهد في الجملة فيكتب اسمه وكنيته وحليته، ونسبه وصنعته، وسوقه ومسجده ومسكنه، ويكتب اسم المشهود له، [حذارا من أن يكون بينه وبين المشهود له ما يمنع قبول شهادته له، ويكتب المشهود عليه] حذارا من أن يكون بينه وبين الشاهد ما يمنع من قبول شهادته عليه، ويكتب قدر الدين، لأنهم قد يرون قبوله في اليسير دون الكثير، في رقاع، ويرفعها إلى أصحاب مسائله الذين يعرفونه بحال من جهل حاله، ثم إذا أخبره منهم اثنان بجرح أو تعديل اعتمد عليه، وهل يراعى في أصحاب مسائله شروط الشهادة بالجرح والتعديل والعدد، ولفظ الشهادة عند الحاكم أو في المسؤولين؟ على وجهين، والله أعلم.

[شهادة الفاسق]
قال: وإن عدله اثنان وجرحه اثنان فالجرح أولى.

(7/265)


ش: لتضمن قول الجارح زيادة خفيت على المعدل، من محل محرم، أو شرب خمر ونحو ذلك، والأخذ بالزائد أولى، لأن المعدل قوله متضمن لنفي ما يقدح في العدالة، والجارح مثبت لذلك، ولا ريب أن المثبت مقدم على النافي، والخرقي إنما نص على ما إذا استوى عدد الجارحين والمعدلين، أما إن زاد عدد أحدهما على الآخر، كما إذا عدله اثنان وجرحه واحد وقبلناه، فالتعديل أولى، لأنها بينة تامة والعكس بالعكس بطريق الأولى، ولو عدله ثلاثة وجرحه اثنان وبينا السبب فالجرح أولى لما تقدم، ولو لم يبينا السبب وقبلنا ذلك فالتعديل أولى.
تنبيهات (أحدها) هل يقبل في الجرح والتعديل قول عدل - وهو اختيار أبي بكر - بناء على أنه خبر، أو قول اثنين - وهو ظاهر قول الخرقي، واختيار القاضي وعامة الأصحاب - بناء على أنه شهادة؟ على روايتين وعليهما تنبني تزكية المرأة وتزكية الأعمى لمن لم يخبره قبل عماه بل بعده، وتزكية الوالد للولد ونحوه، والتزكية بدون لفظ الشهادة، وظاهر كلام أبي محمد اشتراط الذكورية ولفظ الشهادة عليها، (الثاني) لا يقبل التعديل إلا ممن له خبرة باطنة ومعرفة بالجرح والتعديل، غير

(7/266)


متهم بمعصية ولا غيرها.
3806 - ومعنى الخبرة الباطنة كما جاء عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أنه أتي بشاهدين فقال: لا أعرفكما، ولا يضركما أن لم أعرفكما، جيئا بمن يعرفكما؛ فأتيا برجل فقال له عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أتعرفهما؟ فقال: نعم. فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: صحبتهما في السفر الذي يتبين فيه جواهر الناس؟ قال: لا. قال: عاملتهما في الدراهم والدنانير الذي يقطع فيها الرحم؟ قال: لا. قال: كنت جارا لهما تعرف صباحهما ومساءهما؟ قال: لا. قال يا ابن أخي لست تعرفهما، جيئا بمن يعرفكما.
وظاهر قول الأصحاب أن الحاكم لا يقبل تعديل المعدل حتى يعلم أو يظن أن له خبرة بالمعدل، لما تقدم عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وهذا هو أحد احتمالي أبي محمد (والثاني) أن معنى كلام الأصحاب أن

(7/267)


المعدل لا يجوز له التعديل إلا إذا كان ذا خبرة، أما الحاكم فله أن يقبل التعديل وإن لم يعرف حقيقة الحال، وله أن يستكشف كما فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -.
(الثالث) يقبل التعديل المطلق، وصفته أن يقول: هو عدل رضي، أو عدل مقبول الشهادة؛ ولا يشترط أن يقول: علي ولي. ولا يكفي: لا أعلم منه إلا الخير. وهل يكفي: هو عدل. من غير بيان السبب؟ على وجهين، ظاهر كلام أبي محمد الجواز، وظاهر كلام أبي البركات المنع، وهل يقبل الجرح المطلق؟ فيه روايتان، المذهب منهما عدم القبول، وقيل: إن اتحد مذهب الجارح والحاكم، أو عرف أسباب الجرح قبل المطلق. وهو حسن، والمطلق أن يقول: هو فاسق، أو: ليس بعدل. والمبين أن يذكر قادحا في عدالته برؤية أو سماع منه، أو استفاضة عنه، هذا هو المشهور، وعن القاضي في خلافه، فالمبين أن يقول: هو فاسق ونحوه، والمطلق أن يقول: الله أعلم به. ونحوه. انتهى ولا يكفي قوله: بلغني عنه كذا.
(الرابع) التزكية حق للشرع، يطلبها الحاكم وإن سكت عنها الخصم، وقيل بل حق للخصم، فلو أقر بها حكم عليه بدونها، وعلى الأول لا بد منها. والله أعلم.

(7/268)


[اتخاذ القاضي كاتبا عدلا]
قال: ويكون كاتبه عدلا.
ش: لا ريب في كون كاتب القاضي يكون عدلا، لأنها موضع أمانة، وقد لزم من اشتراط عدالته كونه مسلما، وهو كذلك.
3807 - لما يروى أن أبا موسى قدم على عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ومعه كاتب نصراني، فأحضر أبو موسى شيئا من مكتوباته عند عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فاستحسنه وقال: قل لكاتبك يجيء فيقرأ كتابه. قال: إنه لا يدخل المسجد. قال: ولم؟ قال: إنه نصراني. فانتهره عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وقال: لا تأمنوهم وقد خونهم الله، ولا تقربوهم وقد أبعدهم الله، ولا تعزوهم وقد أذلهم الله. وفي رواية: أن أبا موسى قال لعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إن لي كاتبا نصرانيا، قال: مالك قاتلك الله، أما سمعت الله يقول: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] .
ويستحب أن يكون مع عدالته فقيها، ليعرف مواقع الألفاظ التي تتعلق بها الأحكام، وقد تضمن كلام الخرقي - رَحِمَهُ اللَّهُ - جواز اتخاذ الكاتب وهو كذلك، بل يستحب، لأن الحاكم يكثر

(7/269)


اشتغاله، فتتعذر عليه الكتابة بنفسه، وإن اشتغل بها ترك ما هو أهم منها.
قال: وكذلك قاسمه.
ش: لأنه أمينه، فاشترطت فيه العدالة كبقية أمنائه، ويشترط مع عدالته كونه حاسبا، لأنه عمله الذي هو مرصد له، فهو كالفقه للحاكم.

[حكم الهدية للقاضي]
قال: ولا يقبل هدية من لم يكن يهدي له قبل ولايته.
ش: لأن حدوث الهدية إذا دليل على أنها لأجل الولاية، توسلا إلى استمالة قلب الحاكم معه على خصمه، فأشبهت الرشوة.
3808 - ولهذا قال مسروق: إذا قبل القاضي الهدية أكل السحت، وإذا قبل الرشوة بلغت به إلى الكفر.

(7/270)


3809 - والسحت قد فسره الحبر وسعيد بن جبير أنه الرشوة.
3810 - وعن كعب الأحبار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: قرأت في بعض كتب الله: الهدية تفقؤ عين الحاكم. قال ابن عقيل: معناه أن المحبة الحاصلة للمهدي إليه منعته من تحديق النظر إلى معرفة باطل المهدي. انتهى.
3811 - وشاهد هذا الحديث المرفوع «حبك الشيء يعمي ويصم» رواه

(7/271)


أحمد في مسنده.
3812 - وقد روي عن أبي حميد الساعدي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «هدايا العمال غلول» رواه أحمد.

(7/272)


وظاهر كلام الخرقي أن هذا على سبيل التحريم، وصرح به غيره، وعن ابن عقيل الكراهة إذا لم يكن له حكومة، أما مع الحكومة فلا نزاع في التحريم.
ومفهوم كلام الخرقي أنه يقبل هدية من كان يهدي إليه قبل ولايته، وهو كذلك، صرح به غير واحد، لأن ولايته ليست سببا لها.
3813 - وقد قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في عامل الزكاة «هلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر هل يهدى إليه أم لا» فدل على أن الهدية متى لم يكن سببها الولاية جاز قبولها، قال القاضي: ويستحب له التنزه عنها، وصرح ابن حمدان بالكراهة، وهذا إن لم يكن له حكومة، أما مع الحكومة، أو مع توقعها فلا يجوز القبول بلا

(7/273)


ريب، مع أن أبا بكر في التنبيه منع من الهدية وأطلق.
وظاهر كلام الخرقي والأصحاب الاقتصار في الاستثناء على هذه الصورة، وفي الجامع الصغير: ينبغي ألا يقبل هدية إلا من صديق كان يلاطفه قبل ولايته، أو ذي رحم محرم منه، بعد أن لا يكون له خصم، وكأنه أناط المنع بالتهمة، ونفاه عند ظن عدمها.

[عدل القاضي بين الخصمين]
قال: ويعدل بين الخصمين في الدخول عليه.
ش: أي يدخلهما عليه معا، ولا يقدم أحدهما في الدخول، لئلا ينكسر قلب صاحبه، وربما كان ذلك سببا لعدم قيامه بحجته.
3814 - وقد روى عمر بن شيبة في كتاب قضاة البصرة بإسناده عن أم سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من يلي القضاء بين المسلمين فليعدل بينهم في لفظه، وإشارته ومقعده ولا يرفع صوته على أحد الخصمين ما لا يرفعه على الآخر» » ، والله أعلم.

(7/274)


قال: والمجلس.
ش: أي يجلسهما مجلسا واحدا لما تقدم، والأولى أن يكونا بين يديه.
3815 - لما روى «عبد الله بن الزبير قال: قضى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم» . رواه أحمد وأبو داود.
وظاهر كلام الخرقي أنه لا فرق في ذلك بين المسلم والكافر، وهو أحد الوجهين. حذارا من انكسار قلبه المؤدي غالبا أو كثيرا لعدم قيامه بحجته، وإنه ظلم له (والوجه الثاني) يقدم المسلم على الكافر في الدخول، ويرفعه في الجلوس، لقوله سبحانه {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر: 20] الآية والذي في المغني أنه يجوز تقديم المسلم على الكافر في الجلوس.
3816 - لما روى إبراهيم التيمي قال: «وجد علي كرم الله وجهه درعه مع يهودي، فقال: درعي سقطت وقت كذا. فقال اليهودي: درعي وفي يدي، بيني وبينك قاضي المسلمين. فارتفعا إلى شريح، فلما رآه شريح قام من مجلسه، فأجلسه في موضعه،

(7/275)


وجلس مع اليهودي بين يديه، فقال علي: إن خصمي لو كان مسلما لجلست معه بين يديك، ولكن سمعت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: «لا تساووهم في المجالس» . ذكره أبو نعيم في الحلية

(7/276)


وظاهر كلامه أنه يسوي بينهما في الدخول، وفي الرعاية قول بالعكس يقدمه ولا يرفعه، وإذا الأقوال أربعة.
قال: والخطاب.
ش: أي يسوي بينهما في الخطاب، فلا يرفع صوته على أحدهما دون صاحبه من غير سبب، وكذلك لا يسمع من أحدهما أو ينصت له دون الآخر لما تقدم.
3817 - «وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يا علي إذا جلس إليك الخصمان فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء» رواه أحمد وأبو داود والترمذي. والله أعلم.

(7/277)