منار السبيل في شرح الدليل

كتاب البيع
مدخل
مدخل
...
كتاب البيع
وهو جائز بالكتاب، والسنة، والإجماع، لقوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا} 1 وحديث "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" متفق عليه.
[وينعقد لا هزلاً] أما الهزل بلا قصد لحقيقته فلا ينعقد به لعدم الرضى، وكذا التلجئة، لحديث "وإنما لكل امرئ ما نوى" .
[بالقول الدال على البيع والشراء] وهو الإيجاب، والقبول، فيقول البائع: بعتك، أو ملكتك ونحو ذلك، ثم يقول المشتري: ابتعت، أو قبلت أو اشتريت ونحوها.
[وبالمعاطاة كأعطني بهذا خبزاً، فيعطيه ما يرضيه] لأن الشرع ورد بالبيع، وعلق عليه أحكاماً، ولم يبين كيفيته فيجب الرجوع فيه إلى العرف، والمسلمون في أسواقهم وبياعاتهم على ذلك، ولم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه استعمال الإيجاب والقبول، ولو اشترط ذلك لبينه بياناً عاماً، وكذلك في الهبة والهدية والصدقة، فإنه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم، ولا عن أصحابه استعمال ذلك فيها. قاله في الشرح.
[وشروطه سبعة: أحدها: الرضى] لقوله تعالى: {...إِلَّا أَنْ تَكُونَ
ـــــــ
1 البقرة من الآية/ 275.

(1/306)


تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ...} 1 وحديث "إنما البيع عن تراض" رواه ابن حبان.
[فلا يصح بيع المكره بغير حق] فإن أكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه صح، لأنه حمل عليه بحق.
[الثاني الرشد] يعني: أن يكون العاقد جائز التصرف، لأنه يعتبر له الرضى فاعتبر فيه الرشد كالإقرار.
[فلا يصح بيع المميز والسفيه مالم يأذن وليهما] فيصح لقوله تعالى: {...وَابْتَلُوا الْيَتَامَى...} 2 معناه: اختبروهم لتعلموا رشدهم. وإنما يتحقق بتفويض البيع والشراء إليهما، وينفذ تصرفهما في اليسير بلا إذن لأن أبا الدرداء اشترى من صبي عصفوراً فأرسله ذكره ابن أبى موسى وغيره.
[الثالث: كون المبيع مالاً] وهو: ما فيه منفعة مباحة لغير ضرورة كالمأكول، والمشروب، والملبوس، والمركوب، والعقار، والعبيد والإماء، لقوله تعالى: {...وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ...} 3 وقد اشترى النبي صلى الله عليه وسلم، من جابر بعيراً، ومن أعرابي فرساً، ووكل عروة في شراء شاة، وباع مدبراً وحلساً وقدحاً، وأقر أصحابه على بيع هذه الأعيان و شرائها.
[فلا يصح بيع الخمر، والكلب والميتة] لحديث جابر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير
ـــــــ
1 البقرة من الآية/282.
2 النساء من الآية/5.
3 البقرة من الآية/275.

(1/307)


والأصنام.." لحديث رواه الجماعة. وعن أبي مسعود قال: نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن رواه الجماعة.
ولا يصح بيع الكلب عندنا مطلقاً، وكذا الميته حتى الجلد، ولو قلنا بطهارته بالدباغ. أفاده والدي أمتع الله به آمين.
[الرابع: أن يكون المبيع ملكاً للبائع، أومأذوناً له فيه وقت العقد] من مالكه أوالشارع كالوكيل وولي الصغير، وناظر الوقف ونحوه، لقوله صلى الله عليه وسلم، لحكيم بن حزام: "لا تبع ما ليس عندك" رواه الخمسة. قال في الشرح: ولا نعلم فيه خلافاً.
[فلا يصح بيع الفضولي ولو أجيز بعد] لأنه غير مالك، ولا مأذون له حال العقد، وهو مذهب الشافعي وابن المنذر، وعنه: يصح مع الإجازة. وهو قول مالك و إسحاق، وأبي حنيفة، وإن باع سلعة، وصاحبها ساكت، فحكمه حكم ما لو باعها بغير إذنه في قول الأكثرين. قاله في الشرح.
[الخامس: القدرة على تسليمه. فلا يصح بيع الآبق، والشارد، ولو لقادر على تحصيلهما] لحديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن شراء العبد وهو آبق رواه أحمد. ولمسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع الغرر وفسره القاضي وجماعته: بما تردد بين أمرين ليس أحدهما أظهر.
[السادس: معرفة الثمن والمثمن] لأن جهالتهما غرر، فيشمله النهي عن بيع الغرر ومعرفته.

(1/308)


[إما بالوصف] بما يكفي في السلم فيما يجوز السلم فيه خاصة فيصح البيع به، ثم إن وجده متغيراً فله الفسخ. قاله في الشرح.
[أو المشاهدة حال العقد، أو قبله بيسير] لا يتغير فيه المبيع عادة لحصول العلم بالمبيع بتلك المشاهدة.
[السابع: أن يكون منجزاً لا معلقاً، كبعتك إذا جاء رأس الشهر، أو إن رضى زيد] لأنه غرر، ولأنه عقد معاوضة فلم يجز تعليقه على شرط مستقبل كالنكاح. قاله في الكافي.
[ويصح بعت وقبلت إن شاء الله] لعدم الغرر، ولأنه يقصد للتبرك لا للتردد.
[ومن باع معلوماً ومجهولاً لم يتعذر علمه] كهذا العبد وثوب ونحوه.
[صح في المعلوم بقسطه] من الثمن، لصدور البيع فيه من أهله، وعدم الجهالة، لإمكان معرفته بتقسيط الثمن على كل منهما، وبطل في المجهول للجهالة.
[وإن تعذر معرفة المجهول] كبعتك هذه الفرس، وحمل الأخرى بكذا.
[ولم يبين ثمن المعلوم فباطل] بكل حال. قال في الشرح: لا أعلم فيه خلافاً.

(1/309)


فصل: ما يحرم وما لايحرم بيعه
...
فصل مايحرم ومالايحرم بيعه
[ويحرم، ولا يصح بيع، ولا شراء في المسجد] وقال في الشرح: يكره، والبيع صحيح، وكراهته لا توجب الفساد كالغش والتصرية، وفي قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك" دليل على صحته. انتهى.
[ولا ممن تلزمه الجمعة بعد ندائها الذي عند المنبر] لأنه الذي كان على عهده صلى الله عليه وسلم، فاختص به الحكم، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} 1 والنهي يقتضي الفساد، وأما النداء الأول فزاده عثمان رضي الله عنه، لما كثر الناس.
[وكذا لو تضايق وقت المكتوبة] أي: فلا يصح البيع، ولا الشراء قياساً على الجمعة.
[ولا بيع العنب، والعصير لمتخذه خمراً، ولا بيع البيض، والجوز ونحوهما للقمار، ولا بيع السلاح في الفتنة، ولأهل الحرب، أو قطاع الطريق] لقوله تعالى: {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} 2 ولأنه عقد على عين معصية الله تعالى بها فلم يصح، كإجارة الأمة للزنى والزمر، ولأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع السلاح في الفتنة قاله أحمد.
ـــــــ
1 الجمعة من الآية/9.
2 المائدة من الآية/3.

(1/310)


[ولا بيع قن مسلم لكافر لا يعتق عليه] لأنه لا يجوز استدامة الملك للكافر على المسلم إجماعاً. قاله في الشرح، لقوله تعالى: {ولَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} 1 كان يعتق عليه كأبيه وابنه وأخيه صح، لأنه وسيلة إلى حريته، ولأن ملكه لا يستقر عليه بل يعتق في الحال.
[ولا بيع على بيع المسلم لقوله لمن اشترى شيئاً بعشرة أعطيك مثله بتسعة] لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض" .
[ولا شراؤه على شرائه، كقوله لمن باع شيئاً بتسعة: عندي فيه عشرة] لأن الشراء يسمى بيعاً، فيدخل في الحديث السابق، لأنه في معناه، ولما فيه من الإضرار بالمسلم، وهو محرم.
[وأما السوم على سوم المسلم مع الرضى الصريح] فحرام، لحديث أبي هريرة مرفوعاً: "لا يسوم الرجل على سوم أخيه" رواه مسلم. ويصح العقد، لأن المنهى عنه السوم لا البيع، فإن وجد منه ما يدل على عدم الرضى لم يحرم السوم لأن النبي صلى الله عليه وسلم، باع فيمن يزيد حسنه الترمذي. قال في الشرح: وهذا إجماع، لأن المسلمين يبيعون في أسواقهم بالمزايدة.
[وبيع المصحف] حرام قال أحمد: لا أعلم في بيع المصاحف رخصة. وقال ابن عمر: وددت أن الأيدي تقطع في بيعها، قال في الشرح: وممن كره بيعها ابن عمر وابن عباس وأبو موسى، ولم يعلم لهم مخالف في عصرهم. ويصح العقد، لأن أحمد رخص في شرائه وقال: هو
ـــــــ
1 النساء من الآية/140.

(1/311)


أهون، فإن أبيع على كافر لم يصح. رواية واحدة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المسافرة بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن تناله أيديهم رواه مسلم. فلم يجز تمليكهم إياه، وتمكينهم منه.
[والأمة التي يطؤها قبل استبرائها فحرام] لأن عمر، رضي الله عنه أنكر على عبد الرحمن بن عوف حين باع جارية له كان يطؤها قبل استبرائها، وقال: ما كنت لذلك بخليق.. وفيه قصة رواه عبد الله بن عبيد بن عمير. ولأن فيه حفظ مائه، وصيانة نسبه فوجب الاستبراء قبل البيع.
[ويصح العقد] لأنه يجب الاستبراء على المشتري، لحديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عام أوطاس أن توطأ حامل حتى تضع، ولا غير حامل حتى تحيض حيضة رواه أحمد وأبو داود.
[ولا يصح التصرف في المقبوض بعقد فاسد، يضمن هو وزيادته كمغصوب] لأنه قبضه على وجه الضمان ولا بد. قاله فى القواعد. وكذلك المقبوض على وجه السوم. قال ابن أبى موسى: إن أخذه مع تقدير الثمن ليريه، فإن رضوه ابتاعه، فهو مضمون بغير خلاف. قاله في القواعد. ويضمن بالقيمة. نص عليه في رواية ابن منصور، وأبي طالب، وقال أبو بكر عبد العزيز: يضمن بالمسمى، واختاره الشيخ تقي الدين.

(1/312)


باب الشروط في البيع
مدخل
...
باب الشروط في البيع
[وهي قسمان: صحيح لازم، وفاسد مبطل للعقد. فالصحيح: كشرط تأجيل الثمن أو بعضه] لقوله تعالى: {...إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً...} الآية1.
[أو رهن أو ضمين معينين] لأن ذلك من مصلحة العقد.
[أو شرط صفة في المبيع، كالعبد كاتباً أو صانعاً أو مسلماً، والأمة بكراً أو تحيض، والدابة هملاجة أو لبوناً أو حاملاً، والفهد أو البازي صيوداً، فإن وجد المشروط لزم البيع] لصحة الشرط قال في الشرح: لا نعلم في صحته خلافاً.
[وإلا فللمشتري الفسخ] لفقد الشرط، ولحديث: "المسلمون على شروطهم" وقال شريح: من شرط على نفسه طائعاً غير مكره فهو عليه. ذكره البخاري.
[أو أوش فقد الصفة] المشروطة إن لم يفسخ. كأرش عيب ظهر عليه، وإن تعذر رد تعين أرش كمعيب تعذر رده.
[ويصح أن يشترط البائع على المشتري منفعة ما باعه مدة معلومة كسكنى الدار شهراً، وحملان الدابة إلى محل معين] نص عليه، لحديث جابر أنه باع النبى صلى الله عليه وسلم جملاً واشترط ظهره إلى المدينة. متفق عليه.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/282.

(1/313)


[ويصح أن يشترط المشتري على البائع حمل ما باعه] إلى موضع معلوم، فإن لم يكن معلوماً لم يصح الشرط، فلو شرط الحمل إلى منزله والبائع لا يعرفه لم يصح الشرط.
[أو تكسيره، أو خياطته، أو تفصيله] احتج أحمد في جواز الشرط بأن محمد ابن مسلمة اشترى من نبطي حزمة حطب، وشارطه على حملها واشتهر ذلك فلم ينكر. قاله في الكافي، ولأن ذلك بيع وإجارة، ولا يجمع بين شرطين مع ذلك وإن جمع بين شرطين من غير النوعين الأولين: كحمل حطب وتكسيره، وخياطة ثوب وتفصيله، بطل البيع، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، في حديث ابن عمرو، رواه الترمذي. قال الأثرم: قيل لأبي عبد الله: إن هؤلاء يكرهون الشرط، فنفض يده وقال: الشرط الواحد لا بأس به، إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن شرطين في البيع: أي في حديث عبد الله بن عمرو. رواه أبو داود والترمذي وصححه. وروي عن أحمد في تفسير الشرطين المنهي عنهما: أنهما شرطان صحيحان ليسا من مصلحة العقد أي: ولا مقتضاه.

(1/314)


فصل في الفاسد المبطل
[والفاسد المبطل، كشرط بيع آخر، أو سلف، أو قرض، أو إجارة، أو شركة، أو صرف للثمن، وهو بيعتان في بيعة، المنهي عنه] في الحديث، وهذا منه. قاله أحمد، ولحديث: "لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع" صححه الترمذي.
[وكذا كل ما كان في معنى ذلك مثل] بعتك هذا على.
[أن تزوجني ابنتك، أوأزوجك ابنتي، أو تنفق على عبدي، أو دابتي] لأنه شرط عقد في عقد فلم يصح، كنكاح الشغار. وقال ابن مسعود: صفقتان في صفقة ربا وهذا قول الجمهور. قاله في الشرح. وإن شرط أن لا خسارة عليه، أو متى نفق المبيع وإلا رده، أو أن لا يبيعه، أو لا يهبه، ولا يعتقه، أو إن عتق فالولاء له بطل الشرط وحده، لقوله صلى الله عليه وسلم " من اشترط شرطاً ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط" متفق عليه. والبيع صحيح لأنه صلى الله عليه وسلم، في حديث بريرة أبطل الشرط، ولم يبطل العقد وللبائع الرجوع بما نقصه الشرط من الثمن، وللمشتري الرجوع بزيادة الثمن إن كان هو المشترط. قاله في الشرح.
[ومن باع ما يذرع على أنه عشرة، فبان أكثر أو أقل صح البيع] والزيادة للبائع والنقص عليه.
[ولكل الفسخ] لضرر الشركة، ما لم يعط البائع الزيادة للمشتري

(1/315)


مجاناً في المسألة الأولى، أو يرضى المشتري بأخذه بكل الثمن في الثانية فلا فسخ، لعدم فوات الغرض، وإن كان المبيع نحو صبرة على أنها عشرة أقفزة فبانت أقل، أو أكثر صح البيع ولا خيار، والزيادة للبائع، والنقص عليه، لعدم الضرر. قال معناه في الشرح.

(1/316)


باب الخيار
مدخل
...
باب الخيار
[وأقسامه سبعة أحدها: خيار المجلس، ويثبت للمتعاقدين من حين العقد إلى أن يتفرقا من غير إكراه] لأن فعل المكره كعدمه، ويثبت في البيع عند أكثر أهل العلم، ويروى عن عمر وابنه وابن عباس وأبي برزة الأسلمي، لحديث: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا" متفق عليه.
[ما لم يتبايعا على أن لا خيار] فيلزم البيع بمجرد العقد.
[أو يسقطاه بعد العقد] فيسقط لأن الخيار حق للعاقد، فسقط بإسقاطه.
[وان أسقطه أحدهما بقي خيار الآخر] لحديث: "البيعان بالخيار مالم يتفرقا، أو يخير أحدهما صاحبه، فإن خير أحدهما صاحبه فتبايعا على ذلكً فقد وجب البيع" وفي لفظ "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أًن يكون البيع كان عن خيار، فإن كان البيع عن خيار فقد وجبً البيع" . متفق عليهما.
[وينقطع الخيار بموت أحدهما] لأن الموت أعظم الفرقتين
[لا بجنونه] في المجلس.
[وهو على خياره إذا أفاق] حتى يجتمعا، ثم يفترقا.

(1/316)


[وتحرم الفرقة من المجلس خشية الاستقالة] لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً، وفيه: "ولا يحل له أن يفارق صاحبه خشية أن يستقيله" رواه النسائي والأثرم والترمذي وحسنه. وما روي عن ابن عمر أنه كان إذا اشترى شيئاً يعجبه مشى خطوات ليلزم البيع محمول على أنه لم يبلغه الخبر.
[الثاني: خيار الشرط: وهو أن يشرطا، أو أحدهما الخيار إلى مدة معلومة فيصح وإن طالت المدة] بالإجماع قاله في الكافي، لحديث "المسلمون على شروطهم" ولم يثبت ما روى عن ابن عمر من تقديره بثلاث، وروي عن أنس خلافه، قاله في الشرح.
[لكن يحرم تصرفهما في الثمن والمثمن مدة الخيار] إلا بما يحصل به تجربة المبيع، إلا أن يكون الخيار للمشتري وحده فينفذ تصرفه، ويبطل خياره كالمعيب.
[وينتقل الملك من حين العقد] للمشترى، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من باع عبداً وله مال فماله للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع" رواه مسلم. فجعل المال للمبتاع باشتراطه، وهو عام في كل بيع، فيشمل بيع الخيار.
[فما حصل في تلك المدة من النماء المنفصل فللمنتقل له ولو أن الشرط للآخر فقط] ولو فسخ البيع، لحديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قضى أن الخراج بالضمان رواه الخمسة وصححه الترمذي.
[ولا يفتقر فسخ من يملكه إلى حضور صاحبه ولإرضائه] لأنه عقد جعل إلى اختياره، فجاز مع غيبة صاحبه وسخطه كالطلاق.

(1/317)


ونقل أبو طالب له الفسخ برد الثمن، وجزم به الشيخ تقي الدين كالشفيع، وصوبه في الإنصاف، ويحمل كلام من أطلق عليه.
[فإن مضى زمن الخيار ولم يفسخ صار لازماً] لئلا يفضي إلى بقاء الخيار أكثر من مدته المشروطة.
[ويسقط الخيار بالقول] لما تقدم.
[وبالفعل، كتصرف المشتري في المبيع بوقف، أوهبة، أو سوم، أو لمس لشهوة] لأن ذلك دليل على الرضى.
[وينفذ تصرفه إن كان الخيار له فقط] وإلا لم ينفذ، لأن علق البائع لم تنقطع عنه إلا عتق المشتري، لقوة العتق وسرايته.
[الثالث: خيار الغبن: وهو أن يبيع ما يساوي عشرة بثمانية، أو يشتري ما يساوي ثمانية بعشرة] وقيل يقدر بالثلث، اختاره أبو بكر، وجزم به في الإرشاد، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الثلث والثلث كثير" وظاهر كلام الخرقي أن الخيار يثبت بمجرد الغبن، وإن قل، والأولى أن يقيد بما يخرج عن العادة. قاله في الشرح.
[فيثبت الخيار ولا أرش مع الإمساك] لأن الشرع لم يجعله له، ولم يفت عليه جزء من المبيع يأخذ الأرش في مقابلته، وله ثلاث صور. إحداها: تلقي الركبان، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه فإذا أتى السوق فهو بالخيار" رواه مسلم. الثانية: النجش: وهو أن يزيد في السلعة من لا يريد شراءها ليغر المشتري لنهيه صلى الله عليه وسلم، عن النجش متفق عليه.

(1/318)


والشراء صحيح في قول أكثر العلماء لأن النهي عاد إلى الناجش لا إلى العاقد، لكن له الخيار إذا غبن، قال معناه في الشرح. الثالثة: المسترسل وهو من جهل القيمة من بائع ومشتر ولا يحسن يماكس فله الخيار إذا غبن لجهله بالمبيع أشبه القادم من سفر.
[الرابع: خيار التدليس: وهو أن يدلس البائع على المشتري ما يزيد به الثمن، كتصرية اللبن في الضرع، وتحمير الوجه، وتسويد الشعر فيحرم] لقوله صلى الله عليه وسلم: "من غشنا فليس منا" .
[ويثبت للمشتري الخيار] في قول عامة أهل العلم. قاله في الشرح. لحديث أبي هريرة مرفوعاً: "لا تصروا الإبل والغنم فمن ابتاعها فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها، إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاعاً من تمر" متفق عليه. وكل تدليس يختلف به الثمن، يثبت خيار الرد قياساً على التصرية، قاله في الكافي.
[حتى ولو حصل التدليس من البائع بلا قصد] قاله القاضي لدفع ضرر المشتري أشبه العيب.
[الخامس: خيار العيب] والعيوب: النقائص الموجبة لنقص المالية في عادة التجار، ويحرم على البائًع كتمه، لحديث عقبة بن عامر مرفوعاً: "المسلم أخو المسلم، ولا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً فيه عيب إلا بينه له" رواه أحمد وأبو داود والحاكم
[فإذا وجد المشتري بما اشتراه عيباً يجهله، خير بين رد المبيع بنمائه المتصل وعليه أجرة الرد] لأن الملك ينتقل عنه باختياره الرد، فتعلق به حق التوفية.
[ويرجع بالثمن كاملاً] لأنه بذل الثمن ليسلم له مبيع سليم ولم

(1/319)


يسلم له فثبت له الرجوع بالثمن كما في المصراة. وأما النماء المنفصل كالكسب والأجرة وما يوهب له، فهو للمشتري في مقابلة ضمانه، لا نعلم فيه خلافاً. قاله في الشرح.
[وبين إمساكه. ويأخذ الأرش] لأن الجزء الفائت بالعيب يقابله جزء من الثمن، فإذا لم يسلم له كان له ما يقابله، وهو الأرش. والأرش: قسط ما بين قيمته صحيحاً ومعيباً من ثمنه. نص عليه. ومن اشترى ما يعلم عيبه أو مدلساً أو مصراة وهو عالم فلا خيار له. لا نعلم فيه خلافاً. قاله في الشرح.
[ويتعين الأرش مع تلف المبيع عند المشتري] لتعذر الرد، وعدم وجود الرضى به ناقصاً. وقال في الشرح: وإذا زال ملك المشتري بعتق أو موت أو وقف، أو تعذر الرد قبل علمه بالعيب، فله الأرش، وبه قال مالك والشافعى. وكذا إن باعه غير عالم بعيبه. انتهى.
[ما لم يكن البائع علم بالعيب وكتمه تدليساً على المشتري، فيحرم ويذهب على البائع، ويرجع المشتري بجميع ما دفعه له] نص عليه لأنه غر المشتري.
[وخيار العيب على التراخي] لأنه لدفع ضرر متحقق، فلم يبطل بالتأخير. وقال الشيخ تقي الدين: يجبر المشتري على رده أو أخذ أرشه، لأن البائع يتضرر بالتأخير.
[لا يسقط إلا إن وجد من المشتري ما يدل على رضاه، كمتصرفه واستعماله لغير تجربة] قال في المنتهى وشرحه: فيسقط رد كأرش، لقيام دليل الرضى مقام التصريح. انتهى. وقال في الشرح: قال ابن المنذر: لأن الحسن وشريحاً وعبيد الله بن الحسن وابن أبي ليلى والثوري

(1/320)


وأصحاب الرأي يقولون: إذا اشترى سلعة فعرضها للبيع بعد علمه بالعيب بطل خياره. وهذا قول الشافعي، ولا أعلم فيه خلافاً. انتهى. وقال في الفروع: وإن فعله عالماً بعيبه، أو تصرف فيه بما يدل على الرضى أو عرضه للبيع، أو استغله، فلا. أي: فلا أرش. ذكره ابن أبي موسى والقاضي، واختلف كلام ابن عقيل. وعنه: له الأرش. وهو أظهر، لأنه وإن دل على الرضى فمع الأرش كإمساكه. اختاره الشيخ، قال وهو قياس المذهب، وقدمه في المستوعب. انتهى.
[ولا يفتقر الفسخ إلى حضور البائع] كالطلاق.
[ولا لحكم الحاكم] لأنه مجمع عليه فلم يحتج إلى حاكم، كفسخ المعتقة للنكاح: قاله في الكافي.
[والمبيع بعد الفسخ أمانة بيد المشتري] لحصوله بيده بلا تعد، لكن إن قصر في رده فتلف ضمنه لتفريطه.
[وإن اختلفا عند من حدث العيب مع الاحتمال ولا بينة، فقول المشتري بيمينه] لأن الأصل عدم القبض في الجزء الفائت، فيحلف على البت أنه اشتراه وبه العيب، أو أنه ما حدث عنده ويرده، وعنه القول قول البائع مع يمينه على البت، لأن الأصل سلامة المبيع وصحة العقد، ولأن المشتري يدعي استحقاق الفسخ والبائع ينكره. قضى به عثمان رضي الله عنه، وهو مذهب الشافعي، واستظهره ابن القيم في الطرق الحكمية.
[وإن لم يحتمل إلا قول أحدهما] كالإصبع الزائدة والجرح الطري.
[قبل بلا يمين] لعدم الحاجة إليها.

(1/321)


[السادس: خيار الخلف في الصفة، فإذا وجد المشتري ما وصف له، أو تقدمت رؤيته العقد بزمن يسير متغيراً فله الفسخ] وتقدم في السادس من شروط البيع.
[ويحلف إن اختلفا] لأنه غارم، قاله في الشرح.
[السابع: خيار الخلف في قدر الثمن، فإذا اختلفا في قدره حلف البائع: ما بعته بكذا، وإنما بعته بكذا، ثم المشتري: ما اشتريته بكذا وإنما اشتريته بكذا، ويتفاسخان] وبه قال شريح والشافعي، ورواية عن مالك، لحديث ابن مسعود مرفوعاً: "إذا اختلف المتبايعان وليس بينهما بينة فالقول ما يقول صاحب السلعة، أو يترادان" رواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وزاد فيه: "والبيع قائم بعينه" ولأحمد في رواية: "والسلعة كما هي" وفي لفظ "تحالفا" . وروي عن ابن مسعود أنه باع الأشعث رقيقاً من رقيق الإمارة فقال: بعتك بعشرين ألفاً، وقال الأشعث: اشتريت منك بعشرة، فقال عبد الله: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: "إذا اختلف المتبايعان، وليس بينهما بينة والمبيع قائم بعينه فالقول قول البائع، أو يترادان البيع" . قال: فإني أرد البيع وعن عبد الملك بن عبدة مرفوعاً "إذا اختلف المتبايعان استحلف البائع، ثم كان للمشتري الخيار إن شاء أخذ، وإن شاء ترك" رواهما سعيد. وظاهر هذه النصوص أنه يفسخ من غير حاكم. قاله في الشرح.

(1/322)


فصل في تملك المشتري للمبيع
[ويملك المشتري المبيع مطلقاً بمجرد العقد] لقول ابن عمر: مضت السنة أن ما ادركته الصفقة حياً مجموعاً فهو من مال المشتري رواه البخاري.
[ويصح تصرفه فيه قبل قبضه] لقول ابن عمر: كنا نبيع الإبل بالنقيع1 بالدراهم فنأخذ عنها الدنانير وبالعكس، فسألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لا باس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفرقا وبينكما شئ" رواه الخمسة. وهذا تصرف في الثمن قبل قبضه. وقال النبي صلى الله عليه وسلم، في البكر: "هو لك يا عبد الله بن عمر فاصنع به ما شئت" إلا المبيع بصفة، أو رؤية متقدمة فلا يصح التصرف فيه قبل قبضه، وإن تلف فمن ضمان البائع، قاله في الشرح.
[وإن تلف فمن ضمانه] أي للمشتري، لقوله صلى الله عليه وسلم "الخراج بالضمان" وهذا نماؤه للمشتري فضمانه عليه.
[إلا المبيع بكيل، أو وزن، أوعد، أو ذرع، فمن ضمان بائعه حتى يقبضه مشتريه] لتلفه قبل تمام ملك المشتري عليه، فأشبه ما تلف قبل تمام البيع. قاله في الكافي.
ـــــــ
1 النقيع: هو موضع قرب المدينة كان يستنقع فيه الماء، حماه سيدنا عمر رضي الله عنه لخيل المجاهدين. كذا في النهاية، وقال الحافظ: بالباء الموحدة كما وقع عند البيهقي: في بقيع الغرقد.

(1/323)


[ولا يصح تصرفه فيه ببيع، أو هبة، أو رهن قبل قبضه] قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافاً إلا ما روي عن البتي، قال ابن عبد البر: وأظنه لم يبلغه الحديث1 أي قوله صلى الله عليه وسلم "من ابتاع طعاماً فلا يبعه حتى يستوفيه" متفق عليه. وقال ابن عمر رأيت الذين يشترون الطعام مجازفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينهون أن يبيعوه حتى يؤووه إلى رحالهم متفق عليه. دل بصريحه على منع بيعه قبل قبضه، وبمفهومه على حل بيع ما عداه.
[وإن تلف بآفة سماوية قبل قبضه انفسخ العقد] لأنه من ضمان بائعه.
[وبفعل بائع، أو أجنبي، خيرالمشتري بين الفسخ، ويرجع بالثمن] على البائع لأنه مضمون عليه إلى قبضه.
[أو الإمضاء. ويطالب من أتلفه ببدله] بمثل مثلي، وقيمة متقوم.
[والثمن كالمثمن في جميع ما تقدم] إذا كان معيناً وإن كان في الذمة فله أخذ بدله إن تلف قبل قبضه، لاستقراره في ذمته.
ـــــــ
1 كذا في الأصل والجملة مقتضبة من الشرح ونص عبارة الشرح كما يلي: ولم نعلم بين أهل العلم في ذلك خلافاً إلا ما حكي عن البتي: أنه لا بأس ببيع كل شيء قبل قبضه. قال ابن عبد البر: وهذا قول مردود بالسنة والحجة المجمعة على الطعام، وأظنه لم يبلغه الحديث، ومثل هذا لا يلتفت إليه.

(1/324)


فصل في قبض المبيع
[ويحصل قبض المكيل بالكيل، والموزون بالوزن، والمعدود بالعد، والمذروع بالذرع] لحديث عثمان، رضي الله عنه، أن رسول الله صلى

(1/324)


الله عليه وسلم قال: "إذا بعت فكل، وإذا ابتعت فاكتل" رواه أحمد، ورواه البخاري تعليقاً. وحديث "إذا سميت الكيل فكل" رواه الأثرم وقيس العد والذرع على الكيل والوزن. وروي عن أحمد: أن القبض في كل شئ بالتخلية مع التميز، وما بيع جزافاً فقبضه نقله، لحديث ابن عمر: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاً فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن نبيعه حتى ننقله من مكانه رواه مسلم. وقبض الذهب، والفضة، والجواهر باليد، وقبض الحيوان أخذه بزمامه، أو تمشيته من مكانه، وما لا ينقل قبضه التخلية بين مشتريه وبينه، لأن القبض مطلق في الشرع، فيجب الرجوع فيه إلى العرف. قاله في الكافي.
[بشرط حضور المستحق أو نائبه] لأنه يقوم مقامه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا ابتعت فاكتل" .
[وأجرة الكيال، والوزان، والعداد، والذراع، والنقاد على الباذل] لأنه تعلق به حق توفية، ولا تحصل إلا بذلك، أشبه السقي على بائع الثمرة.
[وأجرة النقل على القابض] نص عليه، لأنه لا يتعلق به حق توفية.
[ولا يضمن ناقد حاذق أمين خطأ] سواء كان متبرعاً، أو بأجرة لأنه أمين.
[وتسن الإقالة للنادم من بائع ومشتر] لحديث أبي هريرة مرفوعاً: "من أقال مسلماً أقال الله عثرته يوم القيامة" رواه ابن ماجه وأبو داود. وليس فيه ذكر يوم القيامة. وهي فسخ لا بيع لإجماعهم على جوازها في السلم قبل قبضه، مع النهي عن بيع الطعام قبل قبضه.

(1/325)


باب الربا
مدخل
...
باب الربا
وهو محرم لقوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبا} الآيات 1 وعن أبي هريرة مرفوعاً: "اجتنبوا السبع الموبقات" ، قالوا: وما هن يا رسول الله؟ قال: "الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحًق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولى يوم الزحف، وقذف المحصنات الغًافلات المؤمنات" وحديث "لًعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه" متفق عليهما. وهو نوعان: ربا الفضل، وربا النسيئة.
وأجمعت الأمة على تحريمهما، وقد روي في ربا الفضل عن ابن عباس ثم رجع، قاله الترمذي وغيره، وقوله لا ربا إلا في النسيئة محمول على الجنسين، قاله في الشرح. والأعيان الستة المنصوص عليها في حديث أبي سعيد مرفوعاً: " الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، يداً بيد. فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطي سواء" رواه أحمد والبخاري. ثبت الربا فيها بالنص والاجماع واختلف فيما سواه، قاله في الشرح.
[يجري الربا في كل مكيل وموزون ولو لم يؤكل] على أشهر الروايات عن أحمد. أن علة الربا في الذهب والفضة كونهما موزوني جنس،
ـــــــ
1 البقرة من الآية/275/276/278.

(1/326)


وعلة الأعيان الأربعة كونهن مكيلات جنس: وبه قال النخعي و الزهري والثوري. قاله في الشرح. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تفعل بع الجمع1 بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيباً2" وقال في الميزان مثل ذلك رواه البخاري. قال المجد في المنتقى: وهو حجة في جريان الربا في الموزونات كلها، لأن قوله في الميزان، أي في الموزون، وإلا فنفس الميزان ليست من أموال الربا. انتهى.
[فالمكيل: كسائر الحبوب والأبازير والمائعات، لكن الماء ليس بربوي] لعدم تموله عادة ولأن الأصل إباحته.
[ومن الثمار: كالتمر والزبيب والفستق والبندق واللوز والبطم والزعرور والعناب والمشمش والزيتون والملح] لأنها مكيلة مطعومة. وقد روى معمر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الطعام بالطعام، إلا مثلاً بمثل رواه مسلم. والمماثلة المعتبرة هي المماثلة في الكيل والوزن، فدل على أنه لا يجري إلا في مطعوم يكال أو يوزن. قاله في الكافي. وقال في الشرح: فالحاصل أن ما اجتمع فيه الكيل أو الوزن، والطعم من جنس واحد، ففيه الربا - رواية واحدة - كالأرز والدخن والذرة ونحوها. وهذا قول الأكثر. قال ابن المنذر: هذا قول علماء الأمصار في القديم والحديث. انتهى.
[والموزون: كالذهب والفضة والنحاس والرصاص والحديد وغزل
ـــــــ
1 الجمع كما في النهاية: كل لون من النخيل لا يعرف اسمه فهو جمع. وقيل: الجمع: تمر مختلط من أنواع متفرقة، وليس مرغوباً فيه، ولا يختلط إلا لرداءته.
2 الجنيب كما في النهاية أيضاً: نوع جيد معروف من أنواع التمر.

(1/327)


الكتان والقطن والحرير والشعر والقنب والشمع والزعفران والخبز والجبن] لجريان العادة بوزنها عند أهل الحجاز، لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة" رواه أبو داود والنسائي.
[وما عدا ذلك فمعدود لا يجري فيه الربا ولو مطعوماً، كالبطيخ والقثاء والخيار والجوز والبيض والرمان] لما روى سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "لا ربا إلا فيما كيل أو وزن مما يؤكل أو يشرب" أخرجه الدارقطني. وقال: الصحيح أنه من قوله، ومن رفعه فقد وهم.
[ولا فيما أخرجته الصناعة عن الوزن] لزيادة ثمنه بصناعته.
[كالثياب] قال أحمد: لا بأس بالثوب بالثوبين، وهذا قول أكثر أهل العلم. قاله في الشرح، لقول عمار: العبد خير من العبدين والثوب خير من الثوبين، فما كان يداً بيد فلا بأس به، إنما الربا في النسء إلا ما كيل أو وزن.
[والسلاح والفلوس] ولو نافقة.
[والأوانى] لخروجها عن الكيل والوزن، ولعدم النص، والإجماع. وهو قول الثوري وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم، وهذا هو الصحيح. قاله في الشرح.
[غير الذهب والفضة] فيجرى فيهما، للنص عليهما.

(1/328)


فصل: في بيع المكيل بجنسه
[فإذا بيع المكيل بجنسه: كتمر بتمر، أوالموزون بجنسه: كذهب بذهب، صح بشرطين: المماثلة في القدر، والقبض قبل التفرق] لقوله فيما تقدم "مثلاً بمثل يداً بيد" رواه أحمد ومسلم. وعن أبي سعيد مرفوعاً: "لا تبيعوا الذهب بالذًهب إلا مثلاً بمثل ولا تشفوا1 بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض ولا تبيعوا منها غائباً بناجز" متفق عليه.
[وإذا بيع بغير جنسه، كذهب بفضة، وبر بشعير، صح بشرط القبض قبل التفرق، وجاز التفاضل] لقوله صلى الله عليه وسلم، في حديث عبادة: "فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم، إذا كان يداً بيد" رواه أحمد ومسلم. وعن عمر مرفوعاً "الذهب بالورق ربا إلا هاءً وهاءً، والبر بالبر ربا إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلا هاء وهاء، وًالتمر بالتمر ربا إلا هاء وهاء" متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يداً بيد" رواه أبو داود.
[وإن بيع الًمكيل بالموزون كبر بذهب مثلاً جاز التفاضل والتفرق قبل
ـــــــ
1 قال في النهاية: ولا تشفوا: أي لا تفضلوا. والشف: النقصان أيضاً فهو من الأضداد، يقال: شف الدرهم يشف إذا زاد وإذا نقص.

(1/329)


القبض] رواية واحدة، لأن العلة مختلفة، فجاز التفرق كالثمن بالمثمن. قاله في الشرح.
[ولا يصح بيع المكيل بجنسه وزناً ولا الموزون بجنسه كيلاً] لقوله صلى الله عليه وسلم: " الذهب بالذهب وزناً بوزن، والفضة بالفضة وزناً بوزن، والبر بالبر كيلاً بكيل، والشعير بالشعير كيلاً بكيل" رواه الأثرم. ولأنه لا يحصل العمل بالتساوي مع مخالفة المعيار الشرعي للتفاوت في الثقل والخفة، فإن كيل المكيل، أو وزن الموزون فكانا سواء، صح البيع للعلم بالتماثل.
[ويصح بيع اللحم بمثله إذا نزع عظمه] رطباً ويابساً. فإن لم ينزع عظمه لم يصح للجهل بالتساوي، أو بيع يابس منه برطب لم يصح لعدم التماثل.
[وبحيوان من غير جنسه] كقطعة من لحم إبل بشاة، لأنه ليس أصله ولا جنسه، فجاز كما لو بيع بغير مأكول. وفيه وجه لا يصح، لحديث: نهي عن بيع الحيً بالميت ذكره أحمد واحتج به. وقال الشيخ تقي الدين: يحرم به نسيئة عند جمهور الفقهاء. قاله في الفروع. وعلم منه أنه لا يصح بيع لحم بحيوان من جنسه، لما روى سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع اللحم بالحيوان رواه مالك في الموطأ. ولأنه جنس فيه الربا بيع بأصله الذي فيه منه فلم يجز، كالزيت بالزيتون. قاله في الكافي.
[ويصح بيع دقيق ربوي بدقيقه، إذا استويا نعومة أو خشونة] لتساويهما في الحال على وجه لا ينفرد أحدهما بالنقصان في ثاني الحال.

(1/330)


[ورطبه برطبه] كرطب برطب، وعنب بعنب، مثلاً بمثل، يداً بيد.
[ويابسه بيابسه] كتمر بتمر، وزبيب بزبيب، مثلاً بمثل، يداً بيد.
[وعصيره بعصيره] كمد ماء عنب بمثله يداً بيد.
[ومطبوخه بمطبوخه] كسمن بقري بسمن بقري، مثلاً بمثل، يداً بيد. ويصح بيع خبز بر بخبز بر وزناً، مثلاً بمثل.
[إذا استويا نشافاً أو رطوبة] لا إن اختلفا.
[ولا يصح بيع فرع بأصله: كزيت بزيتون، وشيرج بسمسم، وجبن بلبن. وخبز بعجين، وزلابية بقمح] لعدم التساوي أو الجهل به. ولا يصح بيع الرطب بالتمر، والعنب بالزبيب. وبه قال ابن المسيب، لحديث سعد بن أبي وقاص أن النبي صلى الله عليه وسلم، سئل عن بيع الرطب بالتمر قال: "أينقص الرطب إذا يبس" ؟ قالوا: نعم. فنهى عن ذلك رواه مالك وأبو داود.
[ولا بيع الحب المشتد في سنبله بجنسه] لحديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المحاقلة رواه البخاري. قال جابر: المحاقلة: بيع الزرع بمائة فرق من الحنطة ولأن بيع الحب بجنسه جزافاً من أحد الجانبين فلم يصح للجهل بالتساوي.
[ويصح بغير جنسه] من حب وغيره، كبيع بر مشتد في سنبله بشعير أو فضة، لعدم اشتراط التساوي، ولمفهوم حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع الثمار حتى تزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة رواه مسلم.

(1/331)


[ولا يصح بيع ربوي بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما، كمد عجوة ودرهم بمثلهما] أو بمدين أو بدرهمين.
[أو دينار ودرهم بدينار] حسماً لمادة الربا. نص عليه أحمد في مواضع، لما روى فضالة، قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم، بقلادة فيها ذهب وخرز اشتراها رجل بتسعة دنانير، أو سبعة. فقال: صلى الله عليه وسلم: "لا حتى تميز بينهما" ، قال: فرده حتى ميز بينهما رواه أبو داود. ولمسلم أمر بالذهب الذي في القلادة فنزع وحده، ثم قال: "الذهب بالذهب وزناً بوزن" فإن كان ما مع الربوي يسيراً لا يقصد، كخبز فيه ملح بمثله أو بملح، فوجوده كعدمه، لأن الملح لا يؤثر في الوزن، وكحبات شعير في حنطة.
[ويصح: أعطني بنصف هذا الدرهم فضة وبالآخر فلوساً] لوجود التساوي في الفضة، والتقابض فى الفلوس. ويحرم ربا النسيئة بين مبيعين اتفقا في علة ربا الفضل، فلا يباع أحدهما بالآخر نسيئة. قال في الشرح: بغير خلاف نعلمه عند من يعلل به، لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن اختلفت هذه الأصناف، فبيعوا كيف شئتم يداً بيد" إلا إن كان أحد العوضين نقداً أي: ذهباً أو فضة كسكر بدراهم، وخبز بدنانير، وحديد أو رصاص أو نحاس بذهب أو فضة فيصح، وإلا لا نسد باب السلم في الموزونات غالباً، وقد أرخص فيه الشرع، وأصل رأس ماله النقدان، قال في الشرح: ومتى كان أحد العوضين ثمناً، والآخر مثمناً جاز النساء فيهما، بغير خلاف. وقال في الكافي: ولا خلاف في جواز الشراء بالأثمان نساء من سائر الأموال موزوناً كان

(1/332)


أو غيره، لأنها رؤوس الأموال، فالحاجة داعية إلى الشراء بها نساء وناجزاً. انتهى. إلا صرف فلوس نافقة بنقد، فيشترط فيه الحلول والقبض. نص عليه إلحاقاً لها بالنقد، خلافاً لجمع، منهم ابن عقيل والشيخ تقي الدين، وتبعهم في الإقناع. وما لا يدخله ربا الفضل، كالثياب والحيوان، لا يحرم النسء فيه، لحديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمره أن يجهز جيشاً، فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة رواه أحمد وأبو داود والدارقطني وصححه.
[ويصح صرف الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، ومتماثلاً وزناً لا عداً، بشرط القبض قبل التفرق] لحديث أبي سعيد السابق متفق عليه. وقال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه من أهل العلم على أن المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أن الصرف فاسد. قاله في الشرح.
[ويصح أن يعوض أحد النقدين عن الآخر بسعر يومه] ويكون صرفاً بعين وذمة في قول الأكثرين، ومنع منه ابن عباس وغيره. قال في الشرح: ولنا حديث ابن عمر قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: إني أبيع الإبل بالنقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم فآخذ الدنانير، فقال: "لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تفرقا وبينكما شئ" رواه الخمسة. وفي لفظ بعضهم "أبيع بالدنانير، وآخذ مكانها الورق، وأبيع بالورق وآخذ مكانها الدنانير".

(1/333)


باب بيع الأصول والثمار
مدخل
...
باب بيع الأصول والثمار
[من باع أو وهب أو رهن، أو وقف داراً، أو أقر أو أوصى بها] أو جعلها صداقاً ونحوه.
[تناول أرضها] إن لم تكن موقوفة، كمصر والشام والعراق. ذكره في المبدع.
[وبناءها وفناءها إن كان] لأن غالب الدور ليس لها فناء: وهو ما اتسع أمامها.
[ومتصلاً بها لمصلحتها، كالسلاليم، والرفوف المسمرة، والأبواب المنصوبة، والخوابي المدفونة] لأنها لمصلحتها كحيطانها.
[وما فيها من شجر وعرش] لاتصالها بها.
[لا كنزاً وحجراً مدفونين] لأن ليس من أجزائها، إنما هو مودع فيها للنقل عنها، فهو كالقماش. قاله في الكافي.
[ولا منفصل كحبل ودلو وبكرة وفرش ومفتاح] لعدم اتصالها، واللفظ لا يتناولها. وقيل إن البيع يشمل ما جرت العادة بتبعيته، ولا يدخل ما فيها من معدن جار وماء نبع، لأنه يجري من تحت الأرض إلى ملكه. ويدخل ما فيها من معدن جامد، كمعدن الذهب والفضة والكحل، لأنه من أجزائها أو متروك للبقاء فيها، فهو كالبناء. وإن ظهر ذلك بالأرض، ولم يعلم به بائع فله الخيار، لما روي أن ولد بلال بن الحارث باعوا

(1/334)


عمر بن عبد العزيز أرضاً، فظهر فيها معدن، فقالوا: إنما بعنا الأرض، ولم نبع المعدن، وأتوا عمر بالكتاب الذي فيه قطيعة النبي صلى الله عليه وسلم لأبيهم فأخذه وقبله ورد عليهم المعدن. وعنه إذا ظهر المعدن في ملكه ملكه، وظاهره أنه لم يجعله للبائع ولا جعل له خياراً، قاله في الشرح.
[وإن كان المباع ونحوه أرضاً، دخل ما فيها من غراس وبناء] ولو لم يقل بحقوقها، لأنهما من حقوقها. وكذا إن باع بستاناً، لأنه إسم للأرض والشجر والحائط.
[لا ما فيها من زرع لا يحصد إلا مرة، كبر وشعير وبصل ونحوه] لأنه مودع في الأرض يراد للنقل، أشبه الثمرة المؤبرة. قال في الشرح: وإن أطلق البيع فهو للبائع. لا أعلم فيه خلافاً.
[ويبقى للبائع إلى أول وقت أخذه بلا أجرة] لأن المنفعة مستثناة له.
[ما لم يشترطه المشتري لنفسه] فيكون له، ولا تضر جهالته لأنه دخل في البيع تبعاً للأرض فأشبه الثمرة بعد تأبيرها.
[وإن كان يجز مرة بعد أخرى: كرطبة1 وبقول، أو تكرر ثمرته: كقثاء، وباذنجان، فالأصول للمشتري] لأنه يراد للبقاء، أشبه الشجر.
[والجزة الظاهرة واللقطة الأولى للبائع] لأنه يؤخذ مع بقاء أصله أشبه الشجر المؤبر.
[وعليه قطعهما في الحال] لأنه ليس له حد ينتهي إليه، وربما ظهر غير ما كان ظاهراً فيعسر التمييز ما لم يشترط المشترى دخوله في المبيع، فإن شرطه كان له، لحديث "المسلمون عند شروطهم" .
ـــــــ
1 الرطبة: بفتح الراء الفصة، فإذا يبست فهي وقت وجت.

(1/335)


فصل اذا بيع النخل
[وإذا بيع شجر النخل بعد تشقق طلعه، فالثمر للبائع متروكاً إلى أول وقت أخذه] إلا أن يشترطه المبتاع، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها، إلا أن يشترطها المبتاع" متفق عليه. والتأبير: التلقيح. إلا أنه لا يكون حتى يتشقق، فعبر به عن ظهور الثمرة. وهذا قول الأكثر. وحكى ابن أبي موسى رواية عن أحمد أنه إذا تشقق ولم يؤبر، أنه للمشتري، لظاهر الحديث. قاله في الشرح، واختارها الشيخ تقي الدين وصاحب الفائق.
[وكذا إن بيع شجر ما ظهر من عنب وتين وتوت وكرمان وجوز، أو ظهر من نوره] مما له نور يتناثر.
[كمشمش وتفاح وسفرجل ولوز] وخوخ.
[أو خرج من أكمامه] جمع كم وهو: الغلاف.
[كورد] وياسمين ونرجس وبنفسج وقطن يحمل في كل سنة، فما بدا من عنب ونحوه، أو ظهر من نوره، أو خرج من أكمامه فهو للبائع، إلا أن يشترطه المبتاع، لأن ذلك كتشقق الطلع في النخل، فقيس عليه.
[وما بيع قبل ذلك فللمشتري] لمفهوم الحديث السابق في النخل، وما عداه فبالقياس عليه، فإن أبر بعضه، فما أبر فللبائع، وما لم يؤبر

(1/336)


فللمشتري. نص عليه للخبر، وقال ابن حامد: الكل للبائع لأن اشتراكهما في الثمرة يؤدي إلى الضرر واختلاف الأيدي، فجعل ما لم يظهر تبعاً للظاهر. قاله في الكافي.
[ولا تدخل الأرض تبعاً للشجر] إذا باع شجراً.
[فإذا باد، لم يملك] 1 المشتري.
[غرس مكانه] لأنه لم يملكه، وللمشتري الدخول. لمصلحة الشجر، لثبوت حق الاجتياز له، ولا يدخل لتفرج ونحوه.
ـــــــ
1 في بعض نسخ المتن باد الشجر.

(1/337)


فصل: لايباع التمر فبل صلاحه
[ولا يصح بيع الثمرة قبل بدو صلاحها] لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها. نهى البائع والمبتاع متفق عليه. والنهي يقتضي الفساد. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على القول بجملة هذا الحديث.
[لغير مالك الأصل] فإن كان له صح لحصول التسليم للمشتري على الكمال، كبيعها مع أصلها. قال في الشرح: وبيع الثمرة قبل الصلاح مع الأصل جائز بالإجماع.
[ولا بيع الزرع قبل اشتداد حبه] لحديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع النخل حتى يزهو، وعن بيع السنبل حتى يبيض ويأمن العاهة. نهى البائع والمشترى رواه مسلم. قال ابن المنذر: لا أعلم أحداً يعدل عن القول به.
[لغير مالك الأرض] فإن باعه لمالك الأرض صح، لحصول التسليم

(1/337)


للمشتري على الكمال، فإن بيعت الثمرة قبل بدو الصلاح، أو الزرع قبل اشتداده بشرط القطع في الحال، صح إن انتفع بهما، وليسا مشاعين، لأن المنع لخوف التلف وحدوث العاهة قبل الأخذ، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم، في حديث أنس "أرأيت إن منع الله الثمرة، بم يأخذ أحدكم مال أخيه؟" رواه البخاري. وهذا مأمون فيما يقطع فيصح بيعه. فإن باعها بشرط القطع ثم تركه المشتري حتى بدا الصلاح، أو طالت الجزة، أو حدثت ثمرة أخرى فلم تتميز، أو اشترى عرية1 ليأكلها رطباً فأتمرت، بطل البيع، وعنه: لا يبطل، ويشتركان في الزيادة، وعنه: يتصدقان بها، قاله في الشرح. وإن اشترى خشباً فأخر قطعه فزاد، صح البيع، ويشتركان في زيادته. نص عليه في رواية ابن منصور. وقدم في الفائق: أن الزيادة للبائع، واختار ابن بطة أن الزيادة للمشتري وعليه الأجرة. حكى ذلك في الإنصاف.
[وصلاح بعض ثمرة شجر صلاح] لجميعها. قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافاً. وصلاح،
[لجميع نوعها الذي بالبستان] لأن اعتبار الصلاح في الجميع يشق. ولأنه يتتابع غالباً، هذا إذا اشترى جميعه، فإن اشترى بعضه فلكل شجرة حكم بنفسها على الصحيح من المذهب. قاله في الإنصاف، وقدمه في المغني وغيره.
[فصلاح البلح، أن يحمر أو يصفر] لأنه صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع الثمرة حتى تزهو، قيل لأنس: وما زهوها؟ قال: "تحمار وتصفار" أخرجاه.
ـــــــ
1 قال في القاموس: العرية: النخلة المعراة، والتي أكل ما عليها، وما عزل من المساومة عند بيع النخل.

(1/338)


[والعنب أن يتموه بالماء الحلو] لحديث أنس مرفوعاً "نهى عن بيع العنب حتى يسود، وعن بيع الحب حتى يشتد" رواه الخمسة إلا النسائي.
[وبقية الفواكه طيب أكلها وظهور نضجها] لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع الثمرة حتى تطيب. وفي رواية: حتى تطعم متفق عليه.
[وما يظهر فماً بعد فم كالقثاء والخيار أن يؤكل عادة] كالثمر. قال في الشرح: ويجوز لمشترى الثمرة بيعها في شجرها. روي ذلك عن الزبير بن العوام، والحسن البصري، وأبي حنيفة، والشافعي، و ابن المنذر. وكرهه ابن عباس وعكرمة وأبو سلمة، لأنه بيع له قبل قبضه، ولنا أنه يجوز له التصرف فيه، فجاز بيعه كما لو قطعه، وقولهم لم يقبضه ممنوع، فإن قبض كل شئ بحسبه، وهذا قبضه التخلية، وقد وجدت. انتهى.
[وما تلف من الثمرة قبل أخذها، فمن ضمان البائع] وهو قول أكثر أهل المدينة قاله في الشرح، لحديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بوضع الجوائح. وفي لفظ قال: "إن بعت من أخيك ثمراً فأصابته جائحة، فلا يحل لك أن تأخذ من ثمنه شيئاً، بم تأخذ مال أخيك بغير حق؟" رواهما مسلم. ولأن مؤنته على البائع إلى تتمة صلاحه.
[ما لم تبع مع أصلها] فمن ضمان المشتري، وكذا لو بيعت لمالك أصلها، لحصول القبض التام، وانقطاع علق البائع عنه.
[أو يؤخر المشتري أخذها عن عادته] فإن أخره عن عادته فمن

(1/339)


ضمانه لتلفه بتقصيره. قال فى الإنصاف: على الصحيح من المذهب، وعليه جماهير الأصحاب،. والجائحة: ما لا صنع لآدمي فيها، فإن أتلفها آدمي فللمشتري الخيار بين الفسخ والرجوع بالثمن على البائع، وبين الإمساك، ومطالبة المتلف بالقيمة. قاله في الكافي وغيره.

(1/340)


باب السلم
مدخل
...
باب السلم
السلم: لغة أهل الحجاز، والسلف: لغة أهل العراق. سمي سلماً لتسليم رأس ماله في المجلس، وسلفاً لتقديمه، ويقال السلف للقرض. وهو جائز بالإجماع. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه أن السلم جائز. وقال ابن عباس أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه، وأذن فيه، ثم قرأ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً...} الآية 1. رواه سعيد.
[ينعقد بكل ما بدل عليه] من سلم وسلف ونحوه.
[وبلفظ البيع] لأنه بيع إلى أجل بثمن حال.
[وشروطه سبعة] زائدة على شروط البيع.
[أحدها: انضباط صفات المسلم فيه: كالمكيل، والموزون، والمذروع] لقول عبد الله بن أبي أوفى، وعبد الرحمن بن أبزى: كنا نصيب المغانم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يأتينا أنباط من أنباط الشام، فنسلفهم في الحنطة والشعير والزبيب. فقيل: أكان لهم زرع، أم لم يكن؟ قال: ما كنا نسألهم عن ذلك أخرجاه2. فثبت جواز السلم في ذلك بالخبر، وقسنا عليه ما يضبط بالصفة لأنه في معناه، قاله في الكافي.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/282.
2 أي البخاري ومسلم.

(1/340)


[والمعدود من الحيوان ولو آدمياً] لحديث أبي رافع استسلف النبي صلى الله عليه وسلم، من رجل بكراً رواه مسلم. وعن علي أنه باع جملاً له يدعى عصيفيراً بعشرين بعيراً إلى أجل معلوم رواه مالك والشافعي. قال ابن المنذر: وممن روينا عنه ذلك: ابن مسعود وابن عباس وابن عمر. ولأنه يثبت في الذمة صداقاً، فصح السلم فيه كالنبات. وعنه: لا يصح لأن الحيوان لا يمكن ضبطه، لأنه يختلف اختلافاً متبايناً مع ذكر أوصافه الظاهرة، فربما تساوى العبدان وأحدهما يساوي أمثال صاحبه، وإن استقصى صفاته كلها تعذر تسليمه. قاله في الكافي. وقال ابن عمر: إن من الربا أبواباً لا تخفى، وإن منها السلم في السن رواه الجوزجاني. ومن قال بالرواية الأولى، حمل حديث ابن عمرعلى أنهم يشترطون من ضراب فحل بني فلان. قال الشعبي: إنما كره ابن مسعود السلف في الحيوان، لأنهم اشترطوا إنتاج فحل بني فلان. فحل معلوم رواه سعيد.
[فلا يصح في المعدود من الفواكه] كرمان وخوخ ونحوهما، لاختلافها بالصغر والكبر. قال أحمد: لا أرى السلم إلا فيما يكال أو يوزن أو يوقف عليه، فأما الرمان والبيض، فلا أرى السلم فيه. ونقل ابن منصور جواز السلم في الفواكه والخضراوات، لأن كثيراً من ذلك يتقارب. قاله في الشرح.
[ولا فيما لا ينضبط كالبقول] لأنها تختلف ولا يمكن تقديرها بالحزم.
[والجلود] لاختلافها، ولا يمكن ذرعها، لاختلاف أطرافها.

(1/341)


[والرؤوس والأكارع] لأنه أكثرها العظام والمشافر1 ولحمها قليل، وليست موزونة.
[والبيض] لما تقدم.
[والأواني المختلفة رؤوساً وأوساطاً كالقماقم ونحوها] فإن لم تختلف رؤوسها وأوساطها صح السلم فها. ولا يصح في الجواهر واللؤلؤ والعقيق ونحوها، لأنها تختلف اختلافاً متبايناً صغراً وكبراً وحسن تدوير وزيادة ضوء وصفاء.
[الثاني: ذكر جنسه ونوعه بالصفات التي يختلف بها الثمن] كحداثته وجودته، وضدهما.
[ويجوز أن يأخذ دون ما وصف له، ومن غير نوعه من جنسه] لأن الحق له وقد رضي بدونه، ولأنهما كالشئ الواحد لتحريم التفاضل بينهما، ولا يلزمه ذلك، لأن العقد تناول ما وصفاه على شرطهما وإن كان من غير جنسه: كلحم بقرعن ضأن، وشعيرعن بر، لم يجز ولو رضيا، لحديث: "من أسلف في شئ فلا يصرفه إلى غيره" رواه أبو داود وابن ماجة. ولأنه بيع بخلاف غير نوعه من جنسه. وذكر ابن أبي موسى رواية: أنه يجوز أن يأخذ مكان البر شعيراً مثله.
[الثالث: معرفة قدره بمعياره الشرعي، فلا يصح في مكيل وزناً، ولا فى موزون كيلاً] نص عليه، لحديث "من أسلف في شئ فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم" متفق عليه. ونقل المروزي عن أحمد: أن السلم في اللبن يجوز إذا كان كيلاً، أو وزناً.
ـــــــ
1 المشفر من البعير كالشفة للإنسان، جمعه مشافر.

(1/342)


وهذا يدل على إباحة السلم في المكيل وزناً، وفي الموزون كيلاً. اختاره الموفق و الشارح وابن عبدوس في تذكرته، وجزم به في الوجيز و المنور و منتخب الآدمي. قال في الشرح: وهو قول الشافعي و ابن المنذر، وقال مالك: ذلك جائز إذا كان الناس يتبايعون التمر وزناً. وهذا الصحيح، ولأن الغرض معرفة قدره، ولا بد أن يكون المكيال معلوماً، فإن شرط مكيالاً بعينه، أو صنجة1 بعينها غير معلومة، لم يصح. قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن السلم في الطعام لا يجوز بقفيز لا يعلم معياره، ولا بثوب بذرع فلان، لأن المعيار لو تلف، أو مات فلان بطل السلم. انتهى.
[الرابع: أن يكون في الذمة] فإن أسلم في عين لم يصح لأنه ربما تلف قبل تسليمه، ولأنه يمكن بيعه في الحال، فلا حاجة إلى السلم فيه. قاله في الشرح.
[إلى أجل معلوم] للحديث السابق.
[له وقع في العادة، كشهر ونحوه] لأن الأجل إنما اعتبر ليتحقق الرفق الذي شرع من أجله السلم، ولا يحصل ذلك بالمدة التي لا وقع لها في الثمن، ولا يصح إلى الحصاد والجذاذ وقدوم الحاج ونحوه، لأنه يختلف فلم يكن معلوماً. وعن ابن عباس قال: لا تبايعوا إلى الحصاد والدياس، ولا تتبايعوا إلا إلى أجل معلوم أي: إلى شهر معلوم. وعنه أنه قال: أرجو أن لا يكون به بأس، وبه قال مالك. وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يبايع إلى العطاء ولا يصح أن
ـــــــ
1 الصنجة: الميزان، وهي من الكلمات المعربة.

(1/343)


يسلم في شئ يأخذ كل يوم جزءاً معلوماً، سواء بين ثمن كل قسط أو لا، لدعاء الحاجة إليه. ومتى قبض البعض، وتعذر الباقي رجع بقسطه من الثمن، ولا يجعل للمقبوض فضلاً على الباقي، لأنه مبيع واحد متماثل الأجزاء، فقسط الثمن على أجزائه بالسوية، كما لو اتفق أجله. وإذا جاء بالسلم قبل محله، ولا ضرر فيه قبضه، وإلا فلا. فإن امتنع رفع الأمر إلى الحاكم ليأخذه، لما روى الأثرم أن أنساً كاتب عبداً له على مال إلى أجل، فجاءه به قبل الأجل، فأبى أن يأخذه، فأتى عمر بن الخطاب فأخذه منه، وقال: اذهب فقد عتقت وروى سعيد في سننه نحوه عن عمر، وعثمان جميعاً، ولأنه زاده خيراً. قاله في الكافي.
[الخامس: أن يكون مما يوجد غالباً عند حلول الأجل] لوجوب تسليمه إذاً، لأن القدرة على التسليم شرط، فلو أسلم في العنب إلى شباط لم يصح، لأنه لا يوجد فيه إلا نادراً، وكبيع الآبق بل أولى، ولا يشترط وجوده حال العقد لأنه صلى الله عليه وسلم، قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث، فقال: "من أسلم في شئ فليسلم في كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم" أخرجاه. ولو كان الوجود شرطاً لذكره، ولنهاهم عن سلف سنين، لأنه يلزم منه انقطاع المسلم فيه أوسط السنة، قاله في الشرح. ولا يصح السلم في ثمرة بستان بعينه. قال ابن المنذر: هو كالإجماع من أهل العلم، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسلف إليه رجل من اليهود دنانير في تمر مسمى، فقال اليهودي: من تمر حائط بني فلان. فقال النبي

(1/344)


صلى الله عليه وسلم: "أما من حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمًى إلى أجل مسمًى" رواه ابن ماجه وغيره، ورواه الجوزجاني في المترجم، و ابن المنذر، ولأنه لا يؤمن تلفه فلم يصح.
[السادس: معرفة قدر رأس مال السلم وانضباطه] لأنه لا يؤمن فسخ السلم لتأخر المعقود عليه - كما يأتي - فوجب معرفة رأس ماله، ليرد بدله كالقرض، والشركة فعلى هذا: لا يجوز أن يكون رأس المال إلا ما يجوز أن يكون مسلماً فيه، لأنه يعتبر ضبط صفاته، فأشبه المسلم فيه. قاله في الكافي.
[فلا تكفي مشاهدته] كما لو عقداه بصبرة لا يعلمان قدرها ووصفها.
[ولا يصح بما لا ينضبط] كجوهر ونحوه، لما تقدم.
[السابع: أن يقبضه قبل التفرق من مجلس العقد] تفرقاً يبطل خيار المجلس، لئلا يصير بيع دين بدين، لحديث ابن عمر مرفوعاً: "نهى عن بيع الكالئ بالكالئ" رواه الدارقطني. واستنبطه الشافعي من قوله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في شئ فليسلف" أي: فليعط. قال: لأنه لا يقع إسم السلف فيه حتى يعطيه ما أسلفه قبل أن يفارقه. وإن كان له في ذمة رجل ديناً فجعله سلماً في طعام إلى أجل لم يصح. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كل من نحفظ عنه من أهل العلم، وروي عن ابن عمر أنه قال: لا يصح ذلك قاله في الشرح.
[ولا يشترط ذكر مكان الوفاء] لأنه لم يذكر في الحديث، وكباقي البيوع.
[لأنه يجب مكان العقد] لأن مقتضى العقد التسليم في مكانه.

(1/345)


[مالم يعقد1 ببرية ونحوها] كسفينة ودار حرب.
[فيشترط] ذكره، لأنه لا يمكن التسليم في ذلك المكان، ولا قرينة، فوجب تعيينه بالقول والزمان. وإن أحضره قبل محله أو في غير مكان الوفاء، فاتفقا على أخذه جاز، وإن أعطاه عوضاً عن ذلك، أو نقصه من السلم لم يجز، لأنه بيع الأجل والمحل. قاله في الكافي.
[ولا يصح أخذ رهن أو كفيل بمسلم فيه] رويت كراهته عن علي وابن عباس وابن عمر، لأنه لا يمكن الاستيفاء من عين الرهن، ولا من ذمة الضامن، لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أسلم في شئ فلا يصرفه إلى غيره" ونقل حنبل جوازه، وهو قول عطاء ومجاهد ومالك والشافعي، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً...} إلى قوله: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ...} 2 وروي عن ابن عباس وابن عمر: أن المراد به السلم، واختاره جمع من الأصحاب، وحملوا قوله: لا يصرفه إلى غيره أي: لا يجعله رأس مال سلم آخر.
[وإن تعذر حصوله خير رب السلم بين صبر أو فسخ، ويرجع برأس ماله أو بدله إن تعذر] لحديث ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أسلف في شئ فلا يأخذ إلا ما أسلف فيه، أو رأس ماله" رواه الدارقطني. ولا يجوز بيع المسلم فيه قبل قبضه. بغير خلاف علمناه، لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه، وعن ربح مالم يضمن صححه الترمذي. قاله في الشرح. وقال ابن
ـــــــ
1 كانت في الأصل "يكن" وصححت من أصول المتن المخطوطة.
2 البقرة من الآية/282/283.

(1/346)


المنذر: ثبت عن ابن عباس، قال: "إذا أسلمت في شئ إلى أجل، فإن أخذت ما أسلفت فيه، وإلا فخذ عرضاً أنقص منه، ولا تربح مرتين" رواه سعيد.
[ومن أراد قضاء دين عن غيره، فأبى ربه، لم يلزم بقبوله] لما فيه من المنة، ولأنه إن كان المديون يقدر على الوفاء وجب عليه، وإلا لم يلزمه شئ، فإن ملكه لمدين، فقبضه ودفعه لرب الدين، أجبر على قبوله.

(1/347)


باب القرض
مدخل
...
باب القرض
قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن اقتراض ماله مثل من المكيل والموزون والأطعمة جائز. وقال الامام أحمد: ليس القرض من المسألة، يريد أنه لا يكره لأن النبي صلى الله عليه وسلم، كان يستقرض وهو مستحب للمقرض لحديث ابن مسعود مرفوعاً: "ما من مسلم يقرض مسلماً قرضاً مرتين إلا كان كصدقة مرةً" رواه ابن ماجه، ولأن فيه تفريجاً وقضاء لحاجة المسلم، أشبه الصدقة.
[يصح بكل عين يصح بيعها] من مكيل وموزون وغيره لأنه صلى الله عليه وسلم، استسلف بكراً متفق عليه.
[إلا بني أدم] فلا يصح قرضه لأنه لم ينقل، ولا هو من المرافق، ويفضي إلى أن يقترض جارية يطؤها ثم يردها.
[ويشترط علم قدره ووصفه] ليتمكن من رد بدله.
[وكون مقرض يصح تبرعه] كسائر عقود المعاملات، لأنه عقد على مال فلم يصح إلا من جائز التصرف.

(1/347)


[ويتم العقد بالقبول] كالبيع.
[ويملك ويلزم بالقبض1] لأنه عقد يقف التصرف فيه على القبض فوقف الملك عليه.
[فلا يملك المقرض استرجاعه] للزومه من جهته بالقبض.
[ويثبت له البدل حالاً] كالإتلاف، أو لأنه عقد منع فيه التفاضل، فمنع فيه الأجل كالصرف ولو مع تأجيله، لأنه وعد لا يلزم الوفاء به، كتأجيل العارية، قال الإمام أحمد: القرض حال، وينبغي أن يفي بوعده، وكذا كل دين حال. وقال مالك والليث: يتأجل الجميع بالتأجيل، لحديث "المسلمون على شروطهم" واختاره الشيخ تقي الدين، وصوبه في الإنصاف، وذكره البخاري في صحيحه عن بعض السلف.
[فإن كان متقوماً فقيمته وقت القرض] نص عليه، لأنها حينئذ تجب.
[وإن كان مثلياً فمثله] لأنه صلى الله عليه وسلم، استسلف بكراً فرد مثله رواه مسلم.
[ما لم يكن معيباً] أي: المثلي، إذا رد بعينه، كحنطة ابتلت، فلا يلزمه قبوله لما فيه من الضرر، لأنه دون حقه.
[أو فلوساً ونحوها، فيحرمها السلطان، فله القيمة] وقت القرض، نص عليه في الدراهم المكسرة، قال: يقومها كم تساوي يوم أخذها، فإن لم تترك المعاملة بها لكن رخصت، فليس له إلا مثلها، لأنها لم تتلف، إنما تغير سعرها فأشبهت الحنطة إذا رخصت. قاله في الكافي و الشرح.
ـــــــ
1 إن لفظة "ويملك" ساقطة من الأصل، وهي في جميع المخطوطات.

(1/348)


[ويجوز شرط رهن وضمين فيه] لأن النبي صلى الله عليه وسلم، استقرض من يهودي شعيراً ورهنه درعه متفق عليه.
[ويجوز قرض الماء كيلاً] كسائر المائعات، ويجوز قرضه مقداراً بزمن من نوبة غيره، ليرد مثله في الزمن من نوبته، نص عليه، لأنه من المرافق.
[والخبز والخمير عدداً، ورده عدداً بلا قصد زيادة] لحديث عائشة قلت: يا رسول الله، إن الجيران يستقرضون الخبز والخمير، ويردون زيادة ونقصاناً، فقال: "لا بأس، إنما ذلك من مرافق الناس لا يراد به الفضل" وعن معاذ أنه سئل عن اقتراض الخبز والخمير، فقال: "سبحان الله إنما هذا من مكارم الأخلاق، فخذ الكبير وأعط الصغير، وخذ الصغير وأعط الكبير، خيركم أحسنكم قضاء" . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك رواهما أبو بكر في الشافي.
[وكل قرض جر نفعاً فحرام، كان يسكنه داره، أو يعيره دابته، أو يقضيه خيراً منه] أو يهدي له أو يعمل له عملاً ونحوه لأنه صلى الله عليه وسلم، نهى عن بيع وسلف صححه الترمذي. وعن أبي بن كعب وابن مسعود وابن عباس، رضي الله عنهم أنهم كرهوه، ونهوا عن قرض جر منفعة ويروى كل قرض جر منفعة فهو ربا.
[فإن فعل ذلك بلا شرط، أو قضى خيراً منه بلا مواطأة جاز] 1 لأنه صلى الله عليه وسلم استسلف بكراً ورد خيراً منه وقال "خيركم أحسنكم قضاء" متفق عليه. وإن أهدى إليه قبل الوفاء من غير عادة
ـــــــ
1 لم تكن الجملة واضحة في الأصل وما ذكرناه من مخطوطات المتن.

(1/349)


لم يجز إلا أن يحسبه من دينه، لما روى ابن ماجة عن أنس مرفوعاً: "إذا أقرض أحدكم قرضاً فأهدى إليه، أو حمله على الدابة فلا يركبها ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه قبل ذلك" وروى الأثرم أن رجلاً كان له على سماك عشرون درهماً، فجعل يهدي إليه السمك ويقومه، حتى بلغ ثلاثة عشر درهماً، فسأل ابن عباس فقال: أعطه سبعة دراهم وإن كتب له به سفتجة1 أو قضاه في بلد آخر، أو أهدى إليه بعد الوفاء فلا بأس بذلك. قاله في الكافي. وإن شرط أن يوفيه في بلد آخر، أو يكتب له به سفتجة، فروى عن أحمد: أنه لا يجوز. وكرهه الحسن ومالك والشافعي، وصححه في الإنصاف، وجزم به في الوجيز. وعنه: يجوز. اختاره الشيخ تقي الدين، وصححه في النظم و الفائق. وذكر القاضي أن للوصي قرض مال اليتيم في بلد، ليوفيه في آخر، ليربح خطر الطريق. حكاه في المغني. قال: والصحيح جوازه، لأنه مصلحة لهما من غير ضرر بواحد منهما، والشرع لا يرد بتحريم المصالح التي لا مضرة فيها، ولما روي أن ابن الزبير كان يأخذ من قوم بمكة دراهم، ثم يكتب لهم بها إلى مصعب بن الزبير بالعراق، فيأخذونها منه فسئل عن ذلك ابن عباس فلم ير به بأساً وروي عن علي أنه سئل عن مثل ذلك فلم ير به بأساً انتهى.
[ومتى بذل المقترض ما عليه بغير بلد المقرض - ولا مؤنة لحمله -
ـــــــ
1 السفتجة: بضم فسكون ففتحتين. وهو أن يعطي مالا لآخر، وللآخر مال في بلد المعطي فيوفيه إياه هناك فيستفيد أمن الطريق. انتهى، من القاموس بمعناه.

(1/350)


لزم ربه قبوله مع أمن البلد والطريق] 1 لعدم الضرر عليه حينئذ، وكذا ثمن وأجرة ونحوهما. فإن كان لحمله مؤنة، أوالبلد أوالطريق غير آمن، لم يلزمه قبوله، لأنه ضرر، وفي الحديث "لا ضرر ولا ضرار" .
ـــــــ
1 في أصول المتن، بلد القرض.

(1/351)


باب الرهن
مدخل
...
باب الرهن
وهو المال يجعل وثيقة بالدين، ليستوفى منه إن تعذر وفاؤه من المدين، ويجوز في السفر لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ...} 2 أوفي الحضر. قال ابن المنذر: لا نعلم أحداً خالف فيه، إلا مجاهداً. وعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم، اشترى من يهودي طعاماً ورهنه درعه متفق عليه. فأما ذكر السفر فإنه خرج مخرج الغالب.
[يصح بشروط خمسة: كونه منجزاً] فلا يصح معلقاً كالبيع.
[وكونه مع الحق أو بعده] للآية. فإنه جعله بدلاً عن الكتابة، فيكون في محلها، وهو بعد وجوب الحق. ويصح مع ثبوته لأن الحاجة داعية إليه، ولا يصح قبله في ظاهر المذهب، اختاره أبو بكر والقاضي، لأنه تابع للدين فلا يجوز قبله، كالشهادة. قاله في الكافي، وقال في الشرح: واختار أبو الخطاب صحته، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. انتهى.
[وكونه ممن يصح بيعه] لأنه نوع تصرف في المال، فلم يصح إلا من جائز التصرف كالبيع.
ـــــــ
2 البقرة من الآية/283.

(1/351)


[وكونه ملكه أومأذوناً له في رهنه] قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه، أن الرجل إذا استعار شيئاً يرهنه على دنانير معلومة عند رجل قد سماه إلى وقت معلوم، ففعل: أن ذلك جائز، ومتى شرط شيئاً من ذلك، فخالف ورهن بغيره، لم يصح، وهذا إجماع أيضاً. حكاه ابن المنذر. وإن رهنه بأكثر احتمل أن يبطل في الكل، واحتمل أن يصح في المأذون، ويبطل في الزائد، كتفريق الصفقة. فإن أطلق الإذن في الرهن، فقال القاضي: يصح، وله رهنه بما شاء، وهو أحد قولي الشافعي والآخر لا يجوز حتى يبين قدره وصفته وحلوله وتأجيله. فإن تلف ضمنه الراهن. نص عليه، لأن العارية مضمونة، فإن فك المعير الرهن بغير إذن الراهن محتسباً بالرجوع، فهل يرجع ؟ على روايتين بناء على ما إذا قضى دينه بغير إذنه. قاله في الشرح.
[وكونه معلوماً، جنسه وقدره وصفته] لأنه عقد على مال، فاشترط العلم به كالمبيع، وكونه بدين واجب، كفرض وثمن وقيمة متلف. أو مآله إلى الوجوب، فيصح بعين مضمونة، كغصب وعارية ومقبوض على وجه السوم، أوبعقد فاسد، لا على دين كتابة ودية على عاقلة قبل الحول، ولا بعهدة مبيع، لأنه ليس له حد ينتهي إليه فيعم ضرره.
[وكل ما صح بيعه صح رهنه] لأن المقصود الاستيثاق للدين باستيفائه من ثمنه عند تعذر استيفائه من الراهن، وهذا يحصل مما يجوز بيعه، ولا يصح رهن المشاع لذلك.
[إلا المصحف] فلا يصح رهنه ولو لمسلم، لأنه وسيلة إلى بيعه المحرم.

(1/352)


[وما لا يصح بيعه] كحر وأم ولد ووقف وكلب وآبق ومجهول.
[لا يصح رهنه] لأنه لا يمكن بيعها وإيفاء الدين منها، وهو المقصود بالرهن.
[إلا الثمرة قبل بدو صلاحها، والزرع قبل اشتداد حبه] فيصح رهنهما، لأن النهي عن بيعهما لعدم أمن العاهة، وبتقدير تلفها لا يفوت حق المرتهن من الدين، لتعلقه بذمة الراهن.
[والقن دون رحمه المحرم] لأن الرهن لا يزيل الملك، فلا يحصل به التفريق. فإن احتيج إلى بيعه بيع رحمه معه، لأن التفريق بينهما محرم، والجمع بينهما في البيع جائز، فتعين، وللمرتهن من الثمن بقدر قيمة المرهون. قال معناه في الكافي.
[ولا يصح رهن مال اليتيم للفاسق] لأنه تعريض به للهلاك، لأنه قد يجحده الفاسق، أو يفرط فيه فيضيع.

(1/353)


فصل للراهن الرجوع
[وللراهن الرجوع في الراهن ما لم يقبضه المرتهن] وبه قال الشافعي.
[فإن قبض لزم] لقوله تعالى: {فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 1 وعنه، في غير المكيل والموزون: أنه يلزم بمجرد العقد، قياساً على البيع. ونص عليه في رواية الميموني. وقال القاضي في التعليق: هذا قول أصحابنا. قال في التلخيص: هذا أشهر الروايتين، وهو المذهب عند ابن عقيل وغيره، وعليه العمل. وقال مالك: يلزم الرهن بمجرد العقد كالبيع. وقال الشافعي: استدامة القبض ليست شرطاً. قاله في الشرح.

(1/353)


[فلا يصح تصرفه فيه بلا إذن المرتهن] لأنه محبوس على استيفاء حقه، فتصرف الراهن فيه يفوت عليه حقه. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن للمرتهن منع الراهن من وطء أمته المرهونة.
[إلا بالعتق] فإنه يصح مع الاثم، لأنه مبني على السراية والتغليب. نص عليه، لأنه إعتاق من مالك تام الملك.
[وعليه قيمته مكانه تكون رهناً] كبدل أضحية ونحوها، لأنه أبطل حق المرتهن من الوثيقة بغير إذنه، فلزمته قيمته، كما لو أبطلها أجنبي، وعنه: لا ينفذ عتق المعسر، لأنه عتق في ملكه يبطل به حق غيره، فاختلف فيه الموسر والمعسر، وهو مذهب مالك.
[وكسب الرهن ونماؤه رهن] لأنه تابع له، ولأنه حكم ثبت في العين بعقد المالك، فيدخل فيه النماء والمنافع. قال في الشرح: وأما الحديث، فنقول به وإن غنمه وكسبه ونماءه للراهن، ولكن يتعلق به حق المرتهن، ومؤنته على الراهن. انتهى.
[وهو أمانة بيد المرتهن لا يضمنه إلا لتفريط] نص عليه. لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنة، له غنمه وعليه غرمه" رواه الشافعي، والدارقطني، وقال: إسناده حسن متصل، ورواه الأثرم بنحوه. وروي عن علي رضي الله عنه، وبه قال عطاء والزهرى والشافعي. ولأنه لو ضمن لامتنع الناس منه خوفاً من ضمانه، فتتعطل المداينات، وفيه ضرر عظيم.
[ويقبل قوله بيمينه في تلفه. وأنه لم يفرط] لأنه أمين فأشبه المودع.

(1/354)


[وإن تلف بعض الرهن فباقيه رهن بجميع الحق] لأن الدين كله متعلق بجميع أجزاء الرهن.
[ولا ينفك منه شئ حتى يقضي الدين كله] لأن الرهن وثيقة بالدين كله فكان وثيقة بكل جزء منه كالضمان. قال ابن المنذر: أجمع كل من أحفظ عنه على أن من رهن شيئاً بمال فأدى بعضه، وأراد إخراج بعض الرهن، أن ذلك ليس له، حتى يوفيه آخر حقه أو يبرئه.
[وإذا حل أجل الدين، وكان الراهن قد شرط للمرتهن أنه إن لم يأته بحقه عند الحلول، وإلا فالرهن له، لم يصح الشرط] لحديث لا يغلق الرهن رواه الأثرم. قال أحمد: معناه لا يدفع رهناً إلى رجل يقول: إن جئتك بالدراهم إلى كذا وكذا، وإلا فالرهن لك. قال ابن المنذر: هذا معنى قوله: لا يغلق الرهن عند مالك والثوري وأحمد. وفي حديث معاوية بن عبد الله بن جعفر أن رجلاً رهن داراً بالمدينة إلى أجل مسمى فمضى الأجل، فقال الذي ارتهن: منزلي. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن" . ولأنه علق البيع على شرط مستقبل فلم يصح، كما لو علقه على قدوم زيد، ويصح الرهن. نصره أبو الخطاب، لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "لا يغلق الرهن" فسماه رهناً، ولم يحكم بفساده. قاله في الشرح.
[بل يلزمه الوفاء] كالدين الذي لا رهن به.
[أو يأذن للمرتهن في بيع الرهن] أو يأذن لغيره فيبيعه، لأنه مأذون له.
[أو يبيعه هو بنفسه ليوفيه حقه] من ثمنه، لأنه المقصود ببيعه.
[فإن أبى حبس أوعزر، فإن أصر باعه الحاكم] - نص عليه -

(1/355)


بنفسه أو أمينه، لقيامه مقام الممتنع. ووفى دينه، لأنه حق تعين عليه، فقام الحاكم مقامه فيه، وكذا إن غاب راهن، ولا يبيعه مرتهن إلا بإذن ربه أو إذن الحاكم.

(1/356)


فصل: في الأنتفاع بالرهن
...
فصل في الأتتفاع بالرهن
[وللمرتهن ركوب الرهن، وحلبه بقدر نفقته بلا إذن الراهن، ولو حاضراً] نص عليه، لما روى البخاري وغيره عن أبي هريرة مرفوعاً: "الظهر يركب بنفقته إذا كان مرهوناً، ولبن الدر يشرب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي يركب، ويشرب النفقة" ولا يعارضه حديث "لا يغلق الرًهن من راهنه، له غنمه، وعليه غرمه" لأنا نقول به، والنماء للراهن، ولكن للمرتهن ولاية صرفه إلى نفقته، لثبوت يده عليه، ولوجوب نفقة الحيوان، فهو كالنائب عن المالك في ذلك ومحله إن أنفق بنية الرجوع. وأما غير المحلوب، والمركوب كالعبد والأمة فليس للمرتهن أن ينفق عليه، ويستخدمه بقدر نفقته. نص عليه، لاقتضاء القياس أنه لا ينتفع المرتهن من الرهن بشئ، تركناه في المركوب والمحلوب للخبر. ولا يجوز للمرتهن الانتفاع بالرهن بغير إذن الراهن. قال في الشرح: لا نعلم فيه خلافاً.
[وله الإنتفاع به مجاناً بإذن الراهن] لطيب نفس ربه به، ما لم يكن الدين قرضاً، فيحرم الإنتفاع لجر النفع، قال أحمد: أكره قرض الدور، وهو الربا المحض. يعني: إذا كانت الدار رهناً في قرض ينتفع بها المرتهن.

(1/356)


[لكن يصير مضموناً عليه بالإنتفاع] به مجاناً لصيرورته عارية.
[ومؤنة الرهن، وأجرة مخزنه، وأجرة رده، من إباقه على مالكه] لحديث: "لا يغلق الرهن من صاحبه الذي رهنه له غنمه وعليه غرمه" رواه الشافعي، والدارقطني.
[وإن أنفق المرتهن على الرهن بلا إذن الراهن مع قدرته على استئذانه فمتبرع] حكماً، لتصدقه به، فلم يرجع بعوضه ولو نوى الرجوع، كالصدقة على مسكين، ولتفريطه بعدم الاستئذان. وإن أنفق بإذنه بنية الرجوع، رجع لأنه نائب، أشبه الوكيل، وإن تعذر استئذانه وأنفق بنية الرجوع، رجع، ولو لم يستأذن الحاكم، لاحتياجه لحراسة حقه. وكذا وديعة وعارية، ودواب مستأجرة هرب ربها، فله الرجوع، إذا أنفق على ذلك بنية الرجوع عند تعذر إذن مالكها.

(1/357)


فصل من قبض العين لحظ نفسه
[من قبض العين لحظ نفسه، كمرتهن وأجير ومستأجر ومشتر وبائع وغاصب، وملتقط، ومقترض، ومضارب، وادعى الرد للمالك فأنكره لم يقبل قوله إلا ببينة] وهو المشهور عن أحمد، وخرج أبو الخطاب، وأبو الحسين وجهاً بقبول قول المرتهن، ونحوه في الرد، لأنه أمين في الجملة، وكذا الخلاف في المستأجر. قاله في القواعد، وقدمه في الكافي.
[وكذا مودع، ووكيل، ووصى، ودلال بجعل إذا ادعى الرد] قال في القواعد: القسم الثالث: من قبض المال لمنفعة مشتركة بينه

(1/357)


وبين مالكه، كالمضارب، والشريك، والوكيل بجعل، والوصي كذلك. ففي قبول قولهم في الرد وجهان، لوجود المشائبتين في حقهم، أحدهما: عدم القبول. نص عليه في المضارب في رواية ابن منصور. وهو اختيار ابن حامد، وابن أبي موسى، والقاضي في المجرد، وابن عقيل، وغيرهم.
والثاني: قبول قولهم في ذلك. اختاره القاضي في خلافه، وابنه أبو الحسين، والشريف أبو جعفر، و أبو الخطاب في خلافه، ووجدت ذلك منصوصاً عن أحمد في المضارب أيضاً أن القول قوله بيمينه. انتهى.
[وبلا جعل يقبل قوله بيمينه] لأنه أمين قبض المال لمنفعة مالكه وحده. قال معناه في القواعد.

(1/358)


باب الضمان والكفالة
مدخل
...
باب الضمان والكفالة
الضمان جائز إجماعاً في الجملة، لقوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} 1 قال ابن عباس الزعيم: الكفيل ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم" رواه أبو داود والترمذي وحسنه.
[يصحان تنجيزاً] كأنا ضامن، أو كفيل الآن.
[وتعليقاً] كإن أعطيته كذا فأنا ضامن لك، أو كفيل به للآية السابقة.
[وتوقيتاً] كإذا جاء رأس الشهر فأنا ضامن لك، أو كفيل عند أبي الخطاب، والشريف أبي جعفر، وهو مذهب أبي حنيفة. وقال القاضي: لا يصح، لأنه إثبات حق لآدمي، فلم يجز ذلك فيه كالبيع، وهو مذهب الشافعي.
[ممن يصح تبرعه] لأنه إيجاب مال، فلم يصح إلا من جائز التصرف.
[ولرب الحق مطالبة الضمان والمضمون معاً أو أيهما شاء] لثبوت الحق في ذمتهما، وحكي عن مالك في إحدى الروايتين عنه: أنه لا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه، ولنا قوله صلى الله عليه وسلم "الزعيم غارم" قاله في الشرح.
[لكن لو ضمن ديناً حالاً إلى أجل معلوم صح، ولم يطالب الضان قبل مضيه] نص عليه: في رجل ضمن ما على فلان أن يؤديه حقه في
ـــــــ
1 يوسف/72.

(1/359)


ثلاث سنين فهو عليه، ويؤديه كما ضمن، ولحديث رواه ابن ماجة، عن ابن عباس معناه أن النبي صلى الله عليه وسلم، تحمل عشرة دنانير عن رجل قد لزمه غريمه إلى شهر، وقضاها عنه ولأنه مال لزم مؤجلاً بعقد فكان كما التزمه، كالثمن المؤجل، ولم يكن على الضامن حالاً، وتأجل، ويجوز تخالف ما في الذمتين.
[ويصح ضمان عهدة الثمن والمثمن] لدعاء الحاجة إليه: بأن يضمن الثمن إن استحق المبيع، أو رد بعيب، أو الأرش إن خرج معيباً، أو يضمن الثمن للبائع قبل تسليمه، أو إن ظهر به عيب. وممن أجاز ضمان العهدة في الجملة: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، قاله في الشرح.
[والمقبوض على وجه السوم] إن ساومه، وقطع ثمنه، أوساومه ولم يقطع ثمنه ليريه أهله إن رضوه، وإلا رده، لأنه مضمون على قابضه إذا تلف بيده، فيصح ضمانه، كعهدة المبيع.
[والعين المضمونة كالغصب والعارية] لأنها مضمونة على من هي بيده لو تلفت، فصح ضمانها، ومعنى ضمان غصب ونحوه: ضمان استنقاذه، والتزام تحصيله، أو قيمته عند تلفه، فهو كعهدة المبيع.
[ولا يصح ضمان غير المضمونة كالوديعة ونحوها] كالعين المؤجرة، ومال الشركة، لأنها غير مضمونة على صاحب اليد، فكذا على ضامنه إلا أن يضمن التعدي فيها، فيصح في ظاهر كلام أحمد، لأنها مع التعدي مضمونة كالغصب.
[ولا دين الكتابة] لأنه ليس بلازم، ولا مآله إلى اللزوم، لأنه يملك تعجيز نفسه.

(1/360)


[ولا بعض دين لم يقدر] لجهالته حالاً ومالاً. قال في الفروع: وصححه أبو الخطاب، ويفسره. انتهى. ويصح ضمان المعلوم، والمجهول قبل وجوبه وبعده، للآية. وحمل البعير يختلف، فهو غير معلوم، وقد ضمنه قبل وجوبه.
[وإن قضى الضامن ما على المدين، ونوى الرجوع عليه رجع، ولو لم يأذن له المدين في الضمان والقضاء] لأنه قضاء مبرئ من دين واجب لم يتبرع به، فكان من ضمان من هو عليه، كالحاكم إذا قضاه عنه عند امتناعه. وأما قضاء علي وأبي قتادة عن الميت، فكان تبرعاً لقصد براءة ذمته، ليصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم، مع علمهما أنه لم يترك وفاء، والكلام فيمن نوى الرجوع لا من تبرع.
[وكذا كل من أدى عن غيره دينأ واجباً] 1 فيرجع إن نوى الرجوع، وإلا فلا. إلا الزكاة، والكفارة ونحوهما مما يفتقر إلى نية، لأنها لا تجزئ بغير نية ممن هي عليه.
[وإن برئ المديون] بوفاء أو إبراء أو حوالة.
[برئ ضامنه] لأنه تبع له، والضمان وثيقة، فإذا برئ الأصل زالت الوثيقة كالرهن.
[ولا عكس] أي: لا يبرأ مدين ببراءة ضامن، لعدم تبعيته له.
[ولو ضمن اثنان واحداً، وقال كل: ضمنت لك الدين. كان لربه طلب كل واحد بالدين كله] لثبوته في ذمة المدين أصالة، وفي ذمة الضامنين تبعاً، كل واحد منهما ضامن الدين منفرداً، ويبرؤون بأداء
ـــــــ
1 إن لفظة [ديناً] سقطت من الأصل.

(1/361)


أحدهم وبإبراء المضمون عنه. قال مهنا: سألت أحمد عن رجل له على رجل ألف درهم، فأقام بها كفيلين: كل واحد منهما كفيل ضام، فأيهما شاء أخذه بحقه، فأحال رب المال رجلاً عليه بحقه، قال: يبرأ الكفيلان.
[وإن قالا: ضمنا لك الدين فبينهما بالحصص] أي نصفين، لأن مقتضى الشركة التسوية.

(1/362)


فصل الكفالة: التزام باحضار بدن
[والكفالة: هي أن يلتزم بإحضار بدن من عليه حق مالي إلى ربه] من دين، أوعارية، ونحوهما. قال في الشرح: وجملة ذلك: أن الكفالة بالنفس صحيحة في قول أكثر أهل العلم، لقوله تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ} 1 ولحديث "الزعيم غارم" تصح ببدن كل من يلزمه الحضور في مجلس الحكم، بلفظ: أنا كفيل بفلان، أو بنفسه، أو بدنه، أو وجهه، أو ضامن، أو زعيم، ونحوها. ولا تصح ببدن من عليه حد لله تعالى، أو لآدمي. قال في الشرح: وهو قول أكثر العلماء لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: "لا كفالة في حد" ولأن مبناه على الإسقاط، والدرء بالشبهة، فلا يدخله الإستيثاق، ولا يمكن استيفاؤه من غير الجاني.
[ويعتبر رضى الكفيل] لأنه لا يلزمه الحق ابتداء إلا برضاه.
ـــــــ
1 يوسف من الآية/66.

(1/362)


[لا المكفول، ولا المكفول له] كالضمان، لحديث جابر: أتي النبي صلى الله عليه وسلم برجل ليصلي عليه فقال: "أعليه دين" ؟ قلنا: ديناران. فانصرف فتحملهما أبو قتادة، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم رواه أحمد والبخاري بمعناه. فلم يعتبر الرضى المضمون له، ولا المضمون عنه، فكذا الكفالة.
[ومتى سلم الكفيل المكفول لرب الحق بمحل العقد] وقد حل الأجل، إن كانت الكفالة مؤجلة برئ الكفيل مطلقاً. نص عليه. أو سلمه قبل الأجل، ولا ضرر في قبضه برئ الكفيل، لأنه زاده خيراً بتعجيل حقه، فإن كان فيه ضرر لغيبة حجته، أو لم يكن يوم مجلس الحكم، أو الدين مؤجل لا يمكن استيفاؤه، أو كان ثم يد حائلة ظالمة ونحوه، لم يبرأ الكفيل، لأنه كلا تسليم.
[أو سلم المكفول نفسه] برئ الكفيل، لأن الأصيل أدى ما على الكفيل، كما لو قضى مضمون عنه الدين.
[أو مات] المكفول.
[برئ الكفيل] لسقوط الحضور عنه بموته، وكذا إن تلفت العين المكفولة بفعل الله، وبه قال الشافعي.
[وإن تعذر على الكفيل إحضار المكفول] مع حياته، أو امتنع الكفيل من إحضاره.
[ضمن جميع ما عليه] نص عليه، لحديث "الزعيم غارم" . ولأنها أحد نوعي الكفالة فوجب الغرم بها كالضمان، قاله في الكافي.
[ومن كفله اثنان فسلمه أحدهما لم يبرأ الآخر] لانحلال إحدى

(1/363)


الوثيقتين بلا استيفاء، فلا تنحل الأخرى، كما لو برئ أحدهما، أو انفك أحد الرهنين بلا قضاء.
[وإن سلم] المكفول.
[نفسه برئا] أي: الكفيلان، لأداء الأصيل ما عليهما.

(1/364)


باب الحوالة
مدخل
...
باب الحوالة
مشتقة من التحول، لأنها تحول الحق من ذمة المحيل إلى ذمة المحال عليه. وهي ثابتة بالسنة، والإجماع، لقوله صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم، وإذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع" متفق عليه. وفي لفظ "ومن أحيل بحقه على مليء فليحتل" وأجمعوا على جوازها في الجملة، وهي عقد إرفاق منفرد بنفسه ليست بيعاً، بدليل جوازها في الدين بالدين. وجوازالتفرق قبل القبض، واختصاصها بالجنس الواحد، واسم خاص فلا يدخلها خيار، لأنها ليست بيعاً، ولا في معناه، لكونها لم تبن على المغابنة، قاله في الكافي.
[وشروطها خمسة: أحدها: اتفاق الدينين] لأنها تحويل الحق، فيعتبر تحويله على صفته.
[في الجنس] فلو أحال عليه أحد النقدين بالآخر لم يصح.
[والصفة] فلو أحال عن المصرية بأميرية، أو عن المكسرة بصحاح لم يصح.
[والحلول والأجل] فإن كان أحدهما حالاً، والآخر مؤجلاً، أو أجل أحدهما مخالفاً لأجل الآخر لم يصح.

(1/364)


[الثاني: علم قدر كل من الدينين] لأنه يعتبر فيها التسليم، والتماثل. والجهالة تمنعهما.
[الثالث: استقرار المال المحال عليه] نص عليه، لأن مقتضاها إلزام المحال عليه بالدين مطلقاً، وما ليس بمستقر عرضة للسقوط، فلا تصح على مال كتابة، أو صداق قبل دخول، أو ثمن مدة خيار، أو جعل قبل العمل.
[لا المحال به] فإن أحال المكاتب سيده بدين الكتابة، أو الزوج امرأته بصداقها قبل الدخول، أو المشتري البائع بثمن المبيع في مدة الخيارين صح، لأن له تسليمه، وحوالته تقوم مقام تسليمه.
[الرابع: كونه يصح السلم فيه] لأن غيره لا يثبت في الذمة، وإنما تجب قيمتة بالإتلاف، ولا يتحرر المثل فيه.
[الخامس: رضى المحيل] لأن الحق عليه فلا يلزمه أداؤه منه جهة بعينها. قال في الشرح: ولا خلاف في هذا، ولا يعتبر رضى المحال عليه، لأن للمحيل أن يستوفي الحق بنفسه، وبوكيله، وقد أقام المحتال مقام نفسه في القبض، فلزم المحال عليه الدفع إليه.
[لا المحتال إن كان المحال عليه مليئاً] ويجبر على اتباعه. نص عليه، للخبر.
[وهو] أي: المليء.
[من له القدرة على الوفاء وليس مماطلاً، ويمكن حضوره لمجلس الحكم] نص أحمد في تفسير المليء: أن يكون مليئاً بماله وقوله، وبدنه، فلا

(1/365)


يلزم رب دين أن يحتال على والده، لأنه لا يمكنه إحضاره إلى مجلس الحكم.
[فمتى توفرت الشروط برئ المحيل من الدين بمجرد الحوالة] لأنه قد تحول من ذمته.
[أفلس المحال عليه بعد ذلك أو مات] فلا يرجع على المحيل، كما لو أبرأه، لأن الحوالة بمنزلة الإيفاء.
[ومتى لم تتوفر الشروط لم تصح الحوالة، وإنما تكون وكالة] قال في الشرح: وإذا لم يرض المحتال، ثم بان المحال عليه مفلساً، أو ميتاً رجع، بغير خلاف. انتهى. وإن رضي مع الجهل بحاله رجع، لأن الفلس عيب في المحال عليه، وإن شرط ملاءة المحال عليه فبان معسراً رجع، لحديث "المؤمنون على شروطهم" رواه أبو داود.

(1/366)


باب الصلح
مدخل
...
باب الصلح
وأحكام الصلح ثابتة بالإجماع لقوله تعالى: {وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} 1 وعن أبي هريرة مرفوعاً: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالاً، أو أحل حراماً" رواه أبو داود، والترمذي، والحاكم وصححاه.
[يصح ممن يصح تبرعه] لأ نه تبرع، فلم يصح إلا من جائز التصرف، ولا يصح من ولي يتيم، ومجنون وناظر وقف، لأنه تبرع ولا يملكونه إلا في حال الإ نكار وعدم البينة، لأن استيفاء البعض عند العجز أولى من تركه، قاله في الشرح.
[مع الإقرار والإنكار] على ما يأتي.
[فإذا أقر للمدعي بدين، أو عين، ثم صالح على بعض الدين، أو بعض العين المدعاة، فهو هبة يصح بلفظها] لأن الإنسان لا يمنع من إسقاط حقه، أو بعضه. قال أحمد: ولو شفع فيه شافع لم يأثم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كلم غرماء جابر فوضعوا عنه الشطر، وكلم كعب بن مالك فوضع عن غريمه الشطر.
[لا بلفظ الصلح] لأن معناه: صالحني عن المئة بخمسين - أي: بعني - وذلك غير جائز، لأنه رباً وهضم للحق، وأكل مال بالباطل، وإن منعه حقه بدونه، لم يصح لذلك.
ـــــــ
1 النساء من الآية/127.

(1/367)


[وإن صالحه على عين غير المدعاة، فهو بيع يصح بلفط الصلح] كسائر المعاوضات.
[وتثبت فيه أحكام البيع] على ما سبق.
[فلو صالحه عن الدين بعين، واتفقا في علة الربا، اشترط قبض العوض في المجلس، وبشئ في الذمة يبطل بالتفرق قبل القبض] لأ نه إذاً بيع دين بدين، وقد نهي عنه. قال في الكافي: وذلك ثلاثة أضرب. أحدها: أن يعترف له بنقد فيصالحه على نقد، فهذا صرف يعتبر له شروطه. الثاني: أن يعترف له بنقد فيصالحه على عرض أو بالعكس، فهذا بيع تثبت فيه أحكامه كلها. الثالث: أن يعترف له بنقد أو عرض، فيصالحه على منفعة كسكنى دار وخدمة، فهذه إجارة تثبت فيها أحكامها. انتهى.
[وإن صالح عن عيب في المبيع صح] الصلح لأنه يجوز أخذ العوض عنه.
[فلو زال العيب سريعاً] بلا كلفة، ولا تعطيل نفع على مشتر، كزوجة بانت ومريض عوفي، رجع بما دفعه، لحصول الجزء الفائت من المبيع بلا ضرر، فكأنه لم يكن.
[أو لم يكن] أي: العيب. كنفاخ بطن أمة ظنه حملاً، ثم ظهرالحال.
[رجع بما دفعه] لأنه تبين عدم استحقاقه.
[ويصح الصلح عما تعذر علمه من دين أو عين] كرجلين بينهما معاملة، وحساب مضى عليه زمن، ولا علم لواحد منهما بما عليه لصاحبه، لما

(1/368)


روى أحمد وأبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال لرجلين، اختصما في مواريث درست بينهما: استهما، وتوخيا الحق، وليحلل أحدكما صاحبه ولأنه إسقاط حق فصح فىالمجهول، للحاجة، ولئلا يفضي إلى ضياع المال، أو بقاء شغل الذمة، إذ لا طريق إلى التخلص إلا به، فأما ما تمكن معرفته فلا يجوز. قال الإمام أحمد: إذا صولحت امرأة من ثمنها لم يصح، واحتج بقول شريح: أيما امرأة صولحت من ثمنها، لم يتبين لها ما ترك زوجها، فهي الريبة كلها. وقال: وإن ورث قوم مالاً، ودوراً، وغير ذلك، فقال بعضهم نخرجك من الميراث بألف درهم أكره ذلك. ولا يشترى منها شئ وهي لا تعلم، لعلها تظن أنه قليل، وهو يعلم أنه كثير، إنما يصالح الرجل الرجل على الشئ لا يعرفه، أو يكون رجلاً يعلم ما له عند رجل، والآخر لا يعلمه فيصالحه، فأما إذا علم فلم يصالحه ؟! إنما يريد أن يهضم حقه، ويذهب به. قال معناه في الشرح و الكافي، وصححه في الإنصاف، وقطع به في الاقناع. قال في الفروع: وهو ظاهر نصوصه. انتهى. والمشهور أنه يصح لقطع النزاع، كبراءة من مجهول. قدمه في الفروع، وجزم به في التنقيح، وحكاه في التلخيص عن الأصحاب.
[وأقر لي بديني، وأعطيك منه كذا فأقر، لزمه الدين] لأنه لا عذر لمن أقر، ولأنه أقر بحق يحرم عليه إنكاره.
[ولم يلزمه أن يعطيه] لوجوب الاقرار عليه بلا عوض. قال في الشرح: وإن صالح عن المؤجل ببعضه حالاً لم يصح، كرهه ابن عمر، وقال: نهى عمر أن تباع العين بالدين وكرهه ابن المسيب والقاسم ومالك والشافعي وأبو حنيفة. وروي عن ابن عباس وابن سيرين

(1/369)


والنخعي: أنه لا بأس به. وعن الحسن وابن سيرين: أنهما كانا لا يريان بأساً بالعروض أن يأخذها عن حقه قيل محله. وإذا صالحه عن ألف حالة بنصفها مؤجلاً اختياراً منه صح الإسقاط ولم يلزم التأجيل، لأن الحال لا يتأجل. انتهى.

(1/370)


فصل اذا انكر دعوى المدعي
[وإذا أنكر دعوى المدعى، أو سكت وهو يجهله ثم صالحه صح الصلح] إذا كان المنكر معتقداً بطلان الدعوى، فيدفع المال افتداءً ليمينه، ودفعاً للخصومة عن نفسه، والمدعي يعتقد صحتها، فيأخذه عوضاً عن حقه الثابت له. قاله في الكافي. وبه قال مالك، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم "الصلح جائز بين المسلمين" .
[وكان إبراء في حقه] أي: المدعى عليه، لأنه ليس في مقابلة حق ثبت عليه.
[وبيعاً في حق المدعي] لأنه يعتقده عوضاً عن ماله، فلزمه حكم اعتقاده.
[ومن علم بكذب نفسه فالصلح باطل في حقه] أما المدعي: فلأن الصلح مبني على دعواه الباطلة، وأما المدعى عليه: فلأن الصلح مبني على جحده حق المدعي، ليأكل ما ينتقصه بالباطل.
[وما أخذ فحرام] لأنه أكل مال الغير بالباطل، لقوله صلى الله عليه وسلم: "إلا صلحاً حرم حلالاً، أو أحل حراماً" قال في الكافي: وهو في الظاهر صحيح، لأن ظاهر حال المسلمين الصحة والحق.
[ومن قال: صالحني عن الملك الذي تدعيه، لم يكن مقراً] له بالملك، لاحتمال إرادة صيانة نفسه عن التبذل، وحضور مجلس الحكم بذلك.

(1/370)


[وإن صالح أجنبي عن منكر للدعوى، صح الصلح، أذن له أو لا] لجواز قضائه عن غيره بإذنه وبغير إذنه، لفعل علي وأبي قتادة. وتقدم في الضمان.
[لكن لا يرجع عليه بدون إذنه] لأنه أدى عنه ما لا يلزمه فكان متبرعاً، فإن كان بإذنه رجع عليه لأنه وكيله، وقائم مقامه.
[ومن صالح عن دار ونحوها فبان العرض مستحقاً] لغير المصالح، أو بان القن حراً.
[رجع بالدار] المصالح عنها ونحوها إن بقيت، وببدلها إن تلفت إن كان الصلح.
[مع الإقرار] أي: إقرار المدعى عليه، لأنه بيع حقيقة، وقد تبين فساده، لفساد عوضه، فرجع فيما كان له.
[وبالدعوى مع الإنكار] أي: يرجع إلى دعواه قبل الصلح لفساده، فيعود الأمر إلى ما كان عليه قبله.
[ولا يصح الصلح عن خيار، أو شفعة، أو حد قذف] لأنها لم تشرع لاستفادة مال، بل الخيار للنظر في الأحظ، والشفعة لإزالة ضرر الشركة وحد القذف للزجر عن الوقوع في أعراض الناس.
[وتسقط جميعها] بالصلح لأنه رضي بتركها.
[ولا يصح] أن يصالح.
[شارباً أو سارقاً ليطلقه] لأنه لا يصح أخذ العوض في مقابلته.
[أو شاهداً ليكتم شهادته] لتحريم كتمانها إن صالحه، على أن لا يشهد عليه بحق لله تعالى، أو لآدمي، وكذا أن لا يشهد عليه بالزور، لأنه لا يقابل بعوض.

(1/371)


فصل: في تصرف الشخص في ملك غيره
[ويحرم على الشخص أن يجري ماء في أرض غيره] بلا إذنه، لأن فيه تصرفاً في أرض غيره بغير إذنه، فلم يجز، كالزرع فيها، وإن كانت له أرض لها ماء لا طريق له إلا في أرض جاره، وفي إجرائه ضرر بجاره، لم يجز إلا بإذنه، وإن لم يكن فيه ضرر ففيه روايتان. إحداهما: لا يجوز، لما تقدم. والثانية يجوز، لما روى أن الضحاك بن خليفة، ساق خليجاً1 من العريض، فأراد أن يمر به في أرض محمد بن مسلمة فأبى، فكلم فيه عمر، فدعا محمداً وأمره أن يخلي سبيله، فقال: لا والله. فقال له عمر: لم تمنع أخاك ما ينفعه، وهو لك نافع تسقي به أولاً وآخراً وهو لا يضرك ؟! فقال له محمد: لا والله، فقال عمر: والله ليمرن به ولو على بطنك، فأمره عمر أن يمر به، ففعل رواه مالك في الموطأ، وسعيد في سننه. ولأنه نفع لا ضرر فيه، أشبه الاستظلال بحائطه قاله في الكافي و الشرح وغيرهما، واختاره الشيخ تقي الدين.
[أوسطحه] أي: ويحرم أن يجري ماء في سطح غيره.
[بلا إذنه] لما تقدم.
[ويصح الصلح على ذلك بعوض] لأنه إما بيع، وإما إجارة فيصح، لدعاء الحاجة إليه.
ـــــــ
1 الخليج: هو النهر يؤخذ من النهر الكبير، والعريض: واد بالمدينة.

(1/372)


[ومن له حق ماء يجري على سطح جاره، لم يجز لجاره تعلية سطحه، ليمنع جري الماء] لأنه إبطال لحقه، أو تكثير لضرره.
[وحرم على الجار أن يحدث بملكه ما يضر بجاره: كحمام أو كنيف أو رحى أو تنور، وله منعه من ذلك] لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" رواه ابن ماجه. وأما دخان الطبخ والخبز، فإن ضرره يسير ولا يمكن التحرز منه، فتدخله المسامحة. قاله في الشرح.
وإن كان له سطح أعلى من سطح جاره، فليس له الصعود على وجه يشرف على جاره، إلا أن يبني سترة تستره، لأنه إضرار بجاره فمنع منه، ودل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "لو أن رجلاً اطلع إليك فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح" قاله في الشرح.
[ويحرم التصرف في جدار جار أو مشترك، بفتح روزنة1، أو طاق، أو ضرب وتد ونحوه، إلا بإذنه] لأنه تصرف في ملك غيره بما يضر به.
[وكذا وضع خشب] عليه إن كان يضر بالحائط أو يضعف عن حمله فلا يجوز، من غير خلاف. قاله في الشرح، لحديث "لا ضرر ولا ضرار" وإن كان لا يضر به، وبه غنى عنه، فقال أكثر أصحابنا: لا يجوز. وهو قول الشافعي، لأنه تصرف في ملك غيره بما يستغنى عنه، واختار ابن عقيل جوازه، للحديث. قاله في الكافي، و الشرح.
[إلا أن لا يمكن تسقيف إلا به] ولا ضرر فيجوز.
[ويجبر الجار إن أبى] لحديث أبي هريرة يرفعه: "لا يمنعن جار
ـــــــ
1 الروزنة: الكوة، وهي معربة كما في مختار الصحاح.

(1/373)


جاره أن يضع خشبةً على جداره" ، ثم يقول أبو هريرة: ما لي أراكم عنها معرضين ؟! والله لأرمين بها بين أكتافكم" متفق عليه.
[وله أن يسند قماشة، ويجلس في ظل حائط غيره] من غير إذنه، لأنه لا مضرة فيه، والتحرز منه يشق.
[وينظر في ضوء سراجه من غير إذنه] لما تقدم، ونص عليه في رواية جعفر، ونقل المروزي: يستأذنه أعجب إلي.
[وحرم أن يتصرف في طريق نافذ بما يضر المار، كإخراج دكان، ودكة] قال في القاموس: الدكة بالفتح والدكان بالضم: بناء يسطح أعلاه للمقعد، وفي موضع آخر الدكان: كرمان: الحانوت. قال في الشرح: وأما الدكان فلا يجوز بناؤه في الطريق. بغير خلاف علمناه، سواء أذن فيه الإمام، أو لم يأذن، لأنه بناء في ملك غيره بغير إذنه. انتهى. ولأنه إن لم يضر حالاً فقد يضر مآلاً. وليس للإمام أن يأذن إلا ما فيه مصلحة، لا سيما مع احتمال أن يضر، ويضمن مخرجه ما تلف به لتعديه.
[وجناح] وهو: الروشن على أطراف خشب، أو حجر مدفونة في الحائط.
[وساباط] وهو: المستوفي للطريق على جدارين.
[وميزاب] فيحرم إخراجها إلا بإذن الإمام أو نائبه، لأنه نائب المسلمين فإذنه كإذنهم.
[ويضمن ما تلف به] إن لم يكن أذن، لعدوانه، فإن كان فيه ضرر: بأن لم يمكن عبور محمل ونحوه من تحته، لم يجز وضعه ولا إذنه

(1/374)


فيه، فإن كان الطريق منخفضاً وقت وضعه، ثم ارتفع لطول الزمن، فحصل به ضرر وجبت إزالته. ذكره الشيخ تقي الدين. وقال مالك والشافعي: يجوز إخراج الميزاب إلى الطريق الأعظم، لحديث عمر لما اجتاز على دار العباس، وقد نصب ميزاباً إلى الطريق، فقلعه عمر، فقال العباس: تقلعه وقد نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يده ؟! فقال عمر: والله لا تنصبه إلا على ظهري، فانحنى حتى صعد على ظهره فنصبه ولأن الناس يعملون ذلك في جميع بلاد الإسلام من غير نكير، قاله في المغني، و الشرح. وقال في القواعد: اختاره طائفة من المتأخرين. قال الشيخ تقي الدين: إخراج الميازيب إلى الدرب هو السنة، واختاره.
[ويحرم التصرف بذلك في ملك غيره، أوهوائه، أودرب غير نافذ إلا بإذن أهله] أن المنع لحق المستحق فإذا رضي بإسقاطه جاز. قال في الشرح: فإن صالح عن ذلك بعوض جاز في أحد الوجهين.
[ويجبر الشريك على العمارة مع شريكه في الملك والوقف] إذا انهدم جدارهما المشترك، أو سقفهما، أو خيف ضرره بسقوطه فطلب أحدهما الآخر أن يعمره معه. نص عليه. نقله الجماعة. قال في الفروع: واختاره أصحابنا، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار" ولأنه إنفاق على ملك مشترك يزيل الضرر عنهما، فأجبر عليه. وعنه: لا يجبر. اختاره الشارح، وأبو محمد الجوزي، وغيرهما، لأنه إنفاق على ملك لا يجب لو انفرد به، فلم يجب مع الإشتراك كزرع الأرض. وإن لم يكن بين ملكيهما حائط فطلب أحدهما البناء بين ملكيهما لم يجبر الآخر، رواية واحدة. وليس له البناء إلا في ملكه. قاله في

(1/375)


الشرح. وإن كان بينهما نهر أو بئر أو دولاب، فاحتاج إلى عمارة ففي إجبار الممتنع روايتان.
[وإن هدم الشريك البناء، وكان لخوف سقوطه فلا شئ عليه] لأنه محسن، ولوجوب هدمه إذاً.
[وإلا لزمه إعادته] لتعديه على حصة شريكه، ولا يخرج من عهدة ذلك إلا بإعادته.
[وإن أهمل شريك بناء حائط بستان اتفقا عليه، فما تلف من ثمرته بسبب إهماله ضمن حصة شريكه] قاله الشيخ تقي الدين. وغيره.

(1/376)