منار
السبيل في شرح الدليل
كتاب العتق
مدخل
مدخل
...
كتاب العتق:
"وهو من أعظم القرب" المندوب إليها إذا اقترنت
به النية المعبرة، لأن الله تعالى جعله كفارة
للقتل وغيره. وقال صلى الله عليه وسلم: "من
أعتق رقبةً مؤمنةً أعتق الله تعالى بكل إرب
منها إرباً منه من النار، حتى إنه ليعتق اليد
باليد، والرجل بالرجل، والفرج بالفرج" . متفق
عليه. ولما فيه من تخليص الآدمي المعصوم من
ضرر الرق، وملك نفسه، ومنافعه، وتكميل أحكامه،
وتمكينه من التصرف في نفسه، ومنافعه على حسب
اختياره، وأفضل الرقاب أنفسها عند أهلها،
وأغلاها ثمناً، نص عليه في رواية الجماعة.
"فيسن عتق رقيق له كعب" لانتفاعه به.
"ويكره إن كان لا قوة له، ولا كسب" لأنه يتضرر
بسقوط نفقته الواجبة بإعتاقه، فربما صار كلاً
على الناس، واحتاج إلى المسألة.
"أو يخاف منه الزنى أو الفساد" فيكره عتقه.
وكذا إن خيف ردته، ولحوقه بدار الحرب.
"ويحرم إن علم ذلك منه" لأنه وسيلة الحرام،
وإن أعتقه مع ذلك صح العتق، لصدوره من أهله في
محله.
"وهكذا الكتابة" في الحكم المذكور.
(2/107)
"ويحصل العتق
بالقول، وصريحه لفظ: العتق، والحرية، كيف
صرفا" لأن الشرع ورد بهما، فوجب اعتبارهما.
فمن قال لقنه: أنت حر، أو محرر، أو حررتك، أو
أنت عتيق، أو معتق: بفتح التاء، أو أعتقتك،
عتق وإن لم ينوه. قال أحمد في رجل لقي امرأة
في الطريق، فقال: تنحي يا حرة، فإذا هي
جاريته، قال: قد عتقت عليه. وقال في رجل قال
لخدم قيام في وليمة: مروا أنتم أحرار، وكان
فيهم أم ولده لم يعلم بها، قال: هذا به عندي
تعتق أم ولده.
"غير أمر، ومضارع، واسم فاعل" فمن قال لرقيقه:
حرره، أو أعتقه، أو: أحرره، أو: أو أعتقه، أو:
هذا محرر: بكسر الراء، أو: معتق: بكسر التاء،
لم يعتق بذلك، لأنه طلب، أو وعد، أو خبر عن
غيره، وليس واحد منها صالحاً للإنشاء ولا
إخباراً عن نفسه فيؤاخذ به.
ويقع العتق من الهازل، كالطلاق، لا من نائم
ومجنون ومغمى عليه ومبرسم، لعدم عقلهم ما
يقولون، وكذا حاك وفقيه يكرره. ولا يقع إن نوى
بالحرية عفته وكرم خلقه ونحوه، لأنه نوى
بكلامه ما يحتمله. قالت سبيعة ترثي عبد
المطلب:
ولا تسأما أن تبكيا كل ليلة ... ويوم على حر
كريم الشمائل
"وكنايته مع النية ستة عشر: خليتك، وأطلقتك،
وإلحق بأهلك، واذهب حيث شيء ت، ولا سبيل لي أو
لا سلطان، أو لا ملك، أو لا رق، أو لا خدمة لي
عليك، وفككت رقبتك، ووهبتك لله، وأنت لله،
ورفعت يدي عنك إلى الله، وأنت مولاي، أو
سائبة، أو ملكتك نفسك. وتزيد الأمة بـ: أنت
طالق، أو حرام" فلا يعتق بذلك حتى ينويه، لأنه
يحتمل
(2/108)
العتق وغيره،
أشبه كناية الطلاق فيه. وقال القاضي في قوله:
لا رق لي عليك، ولا ملك لي عليك، وأنت لله:
صريح. نص عليه أحمد في: أنت لله، لأن معناه:
أنت حر لله، واللفظان الأولان صريحان في نفي
الملك، والعتق من ضرورته. انتهى.
"ويعق حمل لم يستثن بعتق أمه" لأنه يتبعها في
البيع والهبة ففي العتق أولى، فإن استثني لم
يعتق، وبه قال ابن عمر وأبو هريرة. قال أحمد:
أذهب إلى حديث ابن عمر في العتق، ولا أذهب
إليه في البيع، ولحديث: "المسلمون على شروطهم"
.
"لا عكسه" أي: لا تعتق الأمة بعتق حملها، فيصح
عتقه دونها، نص عليه، لأن حكمه حكم الإنسان
المنفرد، ولأن الأصل لا يتبع الفرع.
"وإن قال لمن يمكن كونه أباه" من رقيقه: بأن
كان السيد ابن عشرين سنة مثلاً أو أقل،
والرقيق ابن ثلاثين فأكثر
"أنت أبي، أو قال لمن يمكن كونه ابنه: أنت
ابني، عتق" فيهما، وإن لم ينوه، ولو كان له
نسب معروف، لجواز كونه من وطء شبهة.
"لا إن لم يمكن" كونه أباه أو ابنه، لصغر أو
كبر.
"إلا بالنية" لتحقق كذبه، كقوله: أعتقتك، أو:
أنت حر منذ ألف سنة، لأن محال معلوم كذبه. ولا
يصح العتق إلا من جائز التصرف، لأنه تبرع في
الحياة، أشبه الهبة.
(2/109)
فصل ويحصل بالفعل:
"فمن مثل برقيقه فجدع أنفه أو أذنه ونحوهما"
كما لو خصاه.
"أو خرق أو حرق عضواً منه، أو استكرهه على
الفاحشة، أو وطئ من لا يوطأ مثلها لصغر،
فأفضاها" أي: خرق ما بين سبيليها.
"عتق في الجميع" نص عليه، بلا حكم حاكم، لحديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن زنباعاً أبا
روح وجد غلاماً له مع جاريته، فقطع ذكره، وجدع
أنفه، فأتى العبد النبي، صلى الله عليه وسلم،
فذكر له ذلك، فقال النبي، صلى الله عليه وسلم:
"ما حملك على ما فعلت؟" قال: فعل كذا كذا،
قال: "اذهب فأنت حر" . رواه أحمد وغيره. وروي
أن رجلاً أقعد أمة له في مقلى حار، فأحرق
عجزها، فأعتقها عمر، رضي الله عنه، وأوجعه
ضرباً. حكاه أحمد في رواية ابن منصور، وقال:
وكذلك أقول.
"ولا عتق بخدش، وضرب، ولعن" لأنه لا نص فيه،
ولا في معنى المنصوص عليه، ولا قياس يقتضيه،
"ويحصل بالملك، فمن ملك لذي رحم محرم من
النسب" كأبيه وجده وإن علا، وولده وولد ولده
وإن سفل، وأخيه وأخته وولدهما وإن نزل، وعمه
وعمته وخاله وخالته.
(2/110)
"عتق عليه ولو
حملاً" كمن اشترى زوجة ابنه أو أبيه أو أخيه
الحامل، لحديث الحسن عن سمرة مرفوعاً: "من ملك
ذا رحم محرم فهو حر" . رواه الخمسة وحسنه
الترمذي، وقال: العمل على هذا عند أهل العلم.
وأما حديث: "لا يجزئ ولد والده إلا أن يجده
مملوكاً فيشتريه فيعتقه" . رواه مسلم. فيحتمل
أنه أراد: فيعتقه بشرائه، كما يقال: ضربه
فقتله، والضرب: هو القتل. وسواء ملكه بشراء،
أو هبة، أو إرث، أو غنيمة أو غيرها، لعموم
الخبر. ولا يعتق ابن عمه بملكه، لأنه ليس
بمحرم ولا يعتق محرم من الرضاع، لأنه لا نص في
عتقهم، ولا هم في معنى المنصوص عليه. وكذا
الربيبة، وأم الزوجة وابنتها. قال الزهري: جرت
السنة بأنه يباع الأخ من الرضاعة، ومال معتق
غير مكاتب عتق بالأداء لسيده. روي عن ابن
مسعود، وأبي أيوب، وأنس. وروى الأثرم عن ابن
مسعود أنه قال لغلامه عمير: يا عمير إني أريد
أن أعتقك عتقاً هنيئاً، فأخبرني بمالك إني
سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول:
"أيما رجل أعتق عبده أو غلامه، فلم يخبره
بماله، فماله لسيده" . ولأن العبد وماله كانا
للسيد فأزال ملكه عن أحدهما فبقي في الآخر كما
لو باعه. وحديث ابن عمر مرفوعاً: "من أعتق
عبداً، وله مال فالمال للعبد" . رواه أحمد
وغيره. قال أحمد: يرويه عبد الله بن أبي جعفر
من أهل مصر، وهو ضيف الحديث، كان صاحب فقه،
فأما الحديث فليس فيه بالقوي.
"وإن ملك بعضه عتق البعض، والباقي بالسراية إن
كان موسراً، ويغرم حصة شريكه" لفعله سبب العتق
اختيارا منه وقصداً إليه فسرى
(2/111)
ولزمه الضمان.
وإن ملك بعضه بإرث لم يعتق عليه إلا ما ملك،
ولو كان موسراً، لأنه لم يتسبب إلى إعتاقه،
لحصول ملكه بدون فعله وقصده.
"وكذا حكم كل من أعتق حصته من مشترك" في أنه
يعتق عليه جميعه بالعتق والسراية إن كان
موسراً، وإلا عتق منه بقدر ما هو موسر به،
لحديث ابن عمر مرفوعاً: "من أعتق شركاً له في
عبد، فكان له ما يبلغ ثمن العبد، قوم عليه
قيمة عدل فأعطى شركاءه حصصهم، وعتق عليه العبد
وإلا فقد عتق عليه ما عتق" . رواه الجماعة
والدارقطنى، وزاد "ورق ما بقي" .
"فلو ادعى كل من موسرين أن شريكه أعتق نصيبه
عتق، لاعتراف كل بحريته" وصار كل مدعياً على
شريكه بنصيبه من قيمته، فإن كان لأحدهما بينة
حكم له بها.
"ويحلف كل لصاحبه" مع عدم البينة ويبرأ، فإن
نكل أحدهما قضي عليه للآخر، لي إن نكلا جميعاً
تساقط حقاهما لتماثلهما.
"وولاؤه لبيت المال" لأن أحدهما لا يدعيه،
أشبه المال الضائع.
"ما لم يعترف أحدهما بعتقه فيثبت له" ولاؤه.
"ويضمن حق شريكه" أي: قيمة حصته، لما تقدم.
(2/112)
فصل ويصح تعليق العتق بالصفة:
"كـ: إن فعلت كذا فأنت حر" لأنه عتق بصفة فيصح
كالتدبير.
"وله وقفه، وكذا بيعه ونحوه" كهبته والوصية
به.
"قبل وجود الصفة" ثم إن وجدت، وهو في ملك غير
المعلق لم يعتق، لحديث: "لا طلاق، ولا عتاق،
ولا بيع فيما لا يملك ابن آدم" . ولأنه لا ملك
له عليه فلا يقع عليه عتقه، كما لو نجزه.
"فإن عاد لملكه" ولو بعد وجودها حال زوال ملكه
عنه.
"عادت" الصفة.
"فمتى وجدت عتق" لأن التعليق والشرط وجدا في
ملكه، كما لو لم يتخللها زوال ملك.
"ولا يبطل" ولو أبطله ما دام ملكه عليه، لأنها
صفة لازمة ألزمها نفسه، فلا يملك إبطالها
بالقول كالنذر.
"إلا بموته" فيبطل به التعليق، لزوال ملكه
زوالاً غير قابل للعودة.
"فقوله: إن دخلت الدار بعد موتي فأنت حر، لغو"
لأنه إعتاق له بعد استقرار ملك غيره عليه فلم
يعتق، كما لو نجزه. وكقوله لعبد غيره: إن دخلت
الدار فأنت حر.
(2/113)
"ويصح: أنت حر
بعد موتي بشهر" ذكره القاضي وابن أبي موسى.
كما لو وصى بإعتاقه، أو بأن تباع سلعته ويتصدق
بثمنها.
"فلا يملك الوارث بيعه" قبل مضي الشهر، وكسبه
قبله للورثة ككسب أم الولد حياة سيدها.
"ويصح قوله: كل مملوك أملكه فهو حر، فكل من
ملكه عتق"
لإضافته العتق إلى حال يملك عتقه فيه، أشبه ما
لو كان التعليق وهو في ملكه، بخلاف: إن تزوجت
فلانة فهي طالق، لأن العتق مقصود من الملك،
والنكاح لا يقصد به الطلاق، وفرق أحمد بأن
الطلاق ليس لله تعالى، وليس فيه قربة إلى
الله.
"و: أول" قن أملكه.
"أو: آخر قن أملكه" حر.
"و: أول، أو آخر من يطلع من رقيقي حر، فلم
يملك" إلا واحداً،
"أو" لم.
"يطلع إلا واحد عتق" لأنه ليس من شرط الأول أن
يكون له ثان، ولا من شرط الآخر أن يكون قبله
أول. ولهذا من أسمائه تعالى: الأول، الآخر.
"ولو ملك اثنين معاً، أو طلعا معاً عتق واحد
بقرعة" نص عليه، لوجود الصفة فيهما. والمعلق
إنما أراد عتق واحد فقط، فيعين بالقرعة.
"ومثله الطلاق" إذا قال: أول امرأة لي تطلع
ونحوه طالق، فطلع اثنتان معاً طلق واحدة
بقرعة.
(2/114)
فصل وإن قال
لرقيقه:
"أنت حر، وعليك ألف عتق في الحال بلا شيء"
لأنه أعتقه بغير شرط، وجعل عليه عوضاً لم
يقبله، فعتق ولم يلزمه شيء.
و: أنت حر
"على ألف أو بألف، لا يعتق حتى يقبل" لأنه
أعتقه على عوض، فلا يعتق بدون قبوله. و على
تستعمل للشرط، والعوض، كقوله: {عَلَى أَنْ
تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} 1
وقوله: {...أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا
وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} 2.
"ويلزمه الألف، و: على أن تخدمني سنة، يعتق
بلا قبول، وتلزمه الخدمة" على الأصح.
"ويصح أن يعتقه، ويستثني خدمته مدة حياته، أو
مدة معلومة" لقول سفينة: أعتقتني أم سلمة
وشرطت علي أن أخدم النبي، صلى الله عليه وسلم،
ما عاش رواه أحمد وابن ماجه، ورواه أبو داود
بنحوه. وللسيد بيع الخدمة المستثناة من العبد
أو من غيره. نص عليه في رواية حرب.
ـــــــ
1 الكهف من الآية/ 66.
2 الكهف من الآية/ 94.
(2/115)
"ومن قال:
رقيقي حر أو زوجتي طالق، وله متعددة، ولم ينو
معيناً، عتق وطلق الكل، لأنه مفرد مضاف فيعم"
كل رقيق وكل زوجة. قال أحمد في رواية حرب: لو
كان له نسوة، فقال: امرأته طالق: أذهب إلى قول
ابن عباس: يقع عليهن الطلاق ليس هذا مثل قوله:
إحدى زوجاتي طالق. كقوله تعالى: {وَإِنْ
تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} 1
وقوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ
الرَّفَثُ...} 2. وحديث: "صلاة الجماعة تفضل
عن صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة" . وهذا شامل
لكل نعمة، وكل ليلة، وكل صلاة.
ـــــــ
1 إبراهيم من الآية/ 34.
2 البقرة من الآية/ 187.
(2/116)
باب التدبير:
"وهو: تعليق العتق بالموت، كقوله لرقيقه: إن
مت فأنت حر بعد موتي" سمي بذلك لأن الموت دبر
الحياة، وأجمعوا على صحة التدبير في الجملة،
وسنده حديث جابر: أن رجلاً أعتق مملوكاً عن
دبر فاحتاج، فقال رسول الله، صلى الله عليه
وسلم: "من يشتريه مني؟" فباعه من نعيم بن عبد
الله بثمانمائة درهم، فدفعها إليه، وقال: "أنت
أحوج منه" متفق عليه.
"ويعتبر كونه" أي: التدبير.
"ممن تصح وصيته" فيصح من محجور عليه لسفه،
وفلس ومميز يعقله.
(2/116)
"وكونه" أي:
التدبير، في الصحة والمرض.
"من الثلث" نص عليه، لأنه تبرع بعد الموت،
أشبه الوصية.
"وصريحه وكنايته كالعتق" و: أنت مدبر، أو: قد
دبرتك، لأن هذا اللفظ موضوع له، فكان صريحاً
فيه، كلفظ العتق في الإعتاق.
"ويصح مطلقاً، كـ: أنت مدبر. ومقيداً، كـ: إن
مت في عامي هذا، أو مرضي هذا فأنت مدبر" فيكون
ذلك جائزاً على ما قال، إن مات على الصفة التي
قالها عتق، وإلا فلا، لأنه تعليق على صفة،
فجاز مطلقاً ومقيداً، كتعليقه على دخول الدار.
"ومعلقاً، كـ، إذا قدم زيد فأنت مدبر" و: إن
شفى الله مريضي فأنت حر بعد موتي ونحوه. فإن
وجد الشرط في حياة سيده فهو مدبر، وإن لم يوجد
حتى مات سيده بطلت الصفة بالموت لأنه يزول به
الملك، ولم يوجد التدبير لعدم شرطه. قاله في
الكافي.
"ومؤقتاً، كـ: أنت مدبر اليوم أو سنة" فيكون
مدبراً تلك المدة، إن مات سيده فيها عتق، وإلا
فلا. ويجوز تدبير المكاتب، لا نعلم فيه
خلافاً. "ويجوز كتابة المدبر" رواه الأثرم عن
أبي هريرة وابن مسعود. وعن محمد بن قيس بن
الأحنف عن أبيه عن جده: أنه أعتق غلاماً له عن
دبر وكاتبه، فأدى بعضاً وبقي بعض، ومات مولاه
فأتوا ابن مسعود، فقال: ما أخذ فهو له، وما
بقي فلا شيء لكم رواه البخاري في تاريخه.
"ويصح بيع المدبر وهبته" لحديث جابر، وقد سبق،
ولأنه إما وصية أو تعليق على صفة، وأيهما كان
لم يمنع البيع، وما ذكر أن ابن
(2/117)
عمر روى أن
النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "لا يباع
المدبر ولا يشترى" فلم يصح. ويحتمل أنه أراد
بعد الموت. أو على الاستحباب، ولا يصح قياسه
على أم الولد، لأن عتقها بغير اختيار سيدها،
وليس بتبرع. ويكون من رأس المال.
وباعت عائشة، رضي الله عنها، مدبرة لها
سحرتها. فقد روى الدارقطني عن عمرة: أن عائشة
أصابها مرض، وأن بعض بني أخيها ذكروا شكواها
لرجل من الزط1 يتطبب، وأنه قال لهم: إنكم
لتذكرون امرأة مسحورة، سحرتها جارية لها، في
حجر الجارية الآن صبي قد بال في حجرها. فذكروا
ذلك لعائشة فقالت: ادعوا لي فلانة الجارية
لها، فقالوا: في حجرها فلان صبي لهم قد بال في
حجرها، فقالت: إيتوني بها، فأتيت بها، فقالت:
سحر تيني؟ قالت: نعم. قالت لمه؟ قالت: أردت أن
أعتق، وكانت عائشة أعتقتها عن دبر منها،
فقالت: إن لله علي أن لا تعتقي أبداً، أنظروا
أسوأ العرب ملكة فبيعوها منه، واشترت بثمنها
جارية فأعتقتها. ورواه مالك في الموطأ،
والحاكم وقال: صحيح. وعنه: لا يباع إلا في
الدين، أو حاجة صاحبه، لأن النبي، صلى الله
عليه وسلم، إنما باعه لحاجة صاحبه.
"فإن عاد لملكه عاد التدبير" لأنه علق عتقه
بصفة، فإذا باعه أو وهبه، ثم عاد إليه عادت
الصفة.
"ويبطل" التدبير
"بثلاثة أشياء:"
"1- بوقفه" لأن الوقف يجب أن يكون مستقراً.
ـــــــ
1 الزط: جنس من السودان الهنود.
(2/118)
"2- وبقتله
لسيده" لأنه استعجل ما أجل له، فعوقب بنقيض
قصده، كحرمان القاتل الميراث.
"3- بإيلاد الأمة" من سيدها، لأن مقتضى
التدبير العتق من الثلث، والإيلاد: العتق من
رأس المال، ولو لم يملك غيرها، فالإستيلاد
أقوى، فيبطل به الأضعف.
"وولد الأمة الذي يولد بعد التدبير كهي" أي:
بمنزلتها، سواء كانت حاملاً به حين التدبير،
أو حملت به بعده، لقول عمر وابنه وجابر: ولد
المدبرة بمنزلتها ولا يعلم لهم في الصحابة
مخالف. ولأن الأم استحقت الحرية بموت سيدها
فتبعها ولدها كأم الولد، بخلاف التعليق بصفة
في الحياة والوصية، لأن التدبير آكد من كل
منهما.
"وله وطؤها وإن لم يشترطه" حال تدبيرها، سواء
كان يطؤها قبل تدبيرها، أو لا. روي عن ابن
عمر: أنه دبر أمتين له وكان يطؤهما قال أحمد:
لا أعلم أحداً كره ذلك غير الزهري، ولعموم
قوله تعالى: {...أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُهُمْ} 1 وقياساً على أم الولد.
"و" له
"وطء بنتها إن جاز" بأن لم يكن وطئ أمها لتمام
ملكه فيها، واستحقاقها الحرية لا يزيد على
استحقاق أمها.
"ولو أسلم مدبر أو قن أو مكاتب لكافر ألزم
بإزالة ملكه عنه" لئلا يبقى ملك كافر على مسلم
مع إمكان بيعه، بخلاف أم الولد.
ـــــــ
1 المؤمنون من الآية/ 6.
(2/119)
"فإن أبى بيع
عليه" أي: باعه الحاكم إزالة لملكه عنه، لقوله
تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ
لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ
سَبِيلاً} 1.
ـــــــ
1 النساء من الآية/ 141.
(2/120)
باب الكتابة
مدخل
...
باب الكتابة:
تسن كتابة من علم فيه خير، لقوله تعالى:
{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ
خَيْراً} 1 يعني: كسباً وأمانة، في قول أهل
التفسير. وقال أحمد: الخير: صدق وصلاح ووفاء
بمال الكتابة. ونحوه قول: إبراهيم وعمرو بن
دينار وغيرهما. وعنه: أنها واجبة إذا دعا
العبد الذي فيه خير سيده إليها، لظاهر الآية.
ولأن عمر أجبر أنساً على كتابة سيرين والأول
أظهر. والآية محمولة على الندب، لحديث: "لا
يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس منه" . وقول
عمر يخالفه فعل أنس.
"وهي: بيع السيد رقيقه نفسه بمال" فلا تصح على
خنزير وخمر
"في ذمته" لا معين.
"مباح" فلا تصح على آنية.
"معلوم" لأنها بيع
"يصح السلم فيه" فلا تصح بجوهر ونحوه، لئلا
يفضي إلى التنازع.
"منجم" أي: مؤجل، لأن جعله حالاً يفضي إلى
العجز عن أدائه،
وفسخ العقد بذلك، فيفوت المقصود. قاله في
الكافي.
ـــــــ
1 النور من الآية/ 33.
(2/120)
"بنجمين
فصاعداً" أي: أكثر من نجمين، في قول أبي بكر،
وظاهر كلام الخرقي، لأن علياً، رضي الله عنه،
قال: الكتابة على نجمين، وإلا يتأمن الثاني
وقال ابن أبي موسى: يجوز جعل المال كله في نجم
واحد، لأنه عقد شرط فيه التأجيل، فجاز على نجم
واحد كالسلم. قاله في الكافي.
"يعلم قدر كل نجم" بما عقد عليه من دراهم أو
دنانير أو غيرهما.
"ومدته" لئلا يؤدي جهله إلى التنازع. ولا
يشترط تساوي الأنجم، فلو جعل نجم شهر أو آخر
سنة، أو جعل قسط أحدهما مائة والآخر خمسين
جاز، لأن القصد العلم بقدر الأجل وقسطه، وقد
حصل بذلك.
"ولا يشترط" للكتابة
"أجل له وقع في القدرة على الكسب" فيه، فيصح
توقيت النجمين بساعتين في ظاهر كلام كثير من
الأصحاب، ولكن العرف، والعادة، والمعنى: أنه
لا يصح، قياساً على السلم، لكن السلم أضيق.
قاله في تصحيح الفروع، وجزم في الإقناع بعدم
الصحة، قال: وصوبه في الإنصاف.
"فإن فقد شيء من هذا ففاسدة" ويأتي حكمها.
"والكتابة في الصحة والمرض من رأس المال"
لأنها معاوضة كالبيع والإجارة. قدمه في
الإقناع، واختار الموفق، وجمع أنها في المرض
المخوف من الثلث.
"ولا تصح إلا بالقول" لأن المعاطاة لا تمكن
فيها صريحاً.
(2/121)
"من جائز
التصرف" كالبيع.
"لكن لو كوتب المميز صح" لأنه يصح تصرفه وبيعه
بإذن سيده، فصحت كتابته كالمكلف. وإيجاب سيده
الكتابة له إذن له في قبولها.
"ومتى أدى المكاتب ما عليه لسيده" فقبضه منه
سيده أو وليه، إن كان محجوراً عليه عتق،
لمفهوم حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
مرفوعاً: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" .
رواه أبو داود. فدل بمفهومه على أنه إذا أدى
جميع كتابته لا يبقى عبداً.
"أو أبرأه منه عتق" لأنه لم يبق عليه شيء
منها.
"وما فضل بيده" بعد أدائه ما عليه من مال
الكتابة
"فله" أي: المكاتب، لأنه كان له قبل عتقه،
فبقي على ما كان.
"وإن أعتقه سيده وعليه شيء من مال الكتابة"
كان جميع ما معه لسيده، لأنه عتق بغير الأداء.
وتقدم الخبر فيه.
"أو مات قبل وفائها كان جميع ما معه لسيده" نص
عليه، لأنه مات وهو عبد، كما لو لم يخلف وفاء.
"ولو أخذ السيد حقه ظاهراً" أي: عملاً بالظاهر
في كون ما بيد الإنسان ملكه،
"ثم قال: هو حر، ثم بان العوض مستحقاً" أي:
مغصوباً ونحوه.
"لم يعتق" لفساد القبض. وإنما قال: هو حر،
اعتمادا على صحة القبض.
(2/122)
فصل ويملك المكاتب كسبه ونفعه:
"وكل تصرف يصلح ماله: كالبيع والشراء والإجارة
والاستدانة" لأن الكتابة وضعت لتحصيل العتق،
ولا يحصل العتق إلا بالأداء، ولا يمكنه الأداء
إلا بالتكسب، وهذه أقوى أسبابه. وفي بعض
الآثار: تسعة أعشار الرزق في التجارة. ولأنه
لما ملك الشراء بالنقد ملكه بالنسيئة. وتتعلق
استدانته بذمته، يتبع بها بعد عتقه، لأن ذمته
قابلة للاشتغال، ولأنه في يد نفسه، وليس من
سيده غرور، بخلاف العبد المأذون.
"والنفقة على نفسه" لأن هذا من أهم مصالحه.
"ومملوكه" وزوجته وولده التابع له في كتابته
من كسبه، لأن فيه مصلحة.
"لكن ملكه غير تام" لأنه في حكم المعسر.
"فلا يملك أن يكفر بمال، أو يسافر لجهاد، أو
يتزوج، أو يتسرى، أو يتبرع أو يقرض، أو يجابي،
أو يرهن، أو يضارب أو يبيع مؤجلاً، أو يزوج
رقيقه أو يحده أو يكاتبه، إلا بإذن سيده" في
الكل، لأن حق سيده لم ينقطع عنه، لأنه ربما
عجز فعاد إليه كل ما في ملكه. فإن أذن له
السيد في شيء من ذلك جاز، لأن المنع لحقه،
فإذا أذن زال المانع.
"والولاء" على من أعتقه المكاتب، أو كاتبه
بإذن سيده فأدى ما عليه.
(2/123)
"للسيد" لأن
المكاتب كوكيله في ذلك.
"وولد المكاتبة إذا وضعته بعدها" أي: بعد
كتابتها.
"يتبعها في العتق بالأداء أو الإبراء لا
بإعتاقها" بدون أداء أو إبراء، كما لو لم يكن
مكاتبة.
"ولا إن ماتت" قيل الأداء والإبراء، لبطلان
الكتابة بموتها.
"ويصح شرط وطء مكاتبته" نص عليه، لبقاء أصل
الملك، ولأن بضعها من جملة منافعها، فإذا
استثنى نفعه صح، كما لو استثنى منفعة أخرى.
"فإن وطئها بلا شرط عزر" إن علم التحريم،
لفعله ما لا يجوز له، ولا حد عليه لأنها
مملوكته.
"ولزمه المهر ولو مطاوعة" لأنه وطء شبهة،
ولأنه عوض منفعتها، فوجب لها، ولأن عدم منعها
من الوطء ليس إذناً فيه. ولهذا لو رأى مالك
مال من يتلفه، فلم يمنعه، لم يسقط عنه ضمانه.
"وتصير إن ولدت أم ولد" لأنها أمته ما بقي
عليها درهم.
"ثم إن أدت عتقت" وكسبها لها.
"وإلا فبموته" بكونها أم ولد، وما بيدها
لورثته، كما لو أعتقها قبل موته.
"ويصح نقل الملك في المكاتب" ذكراً كان أو
أنثى، لقول بريرة لعائشة: إني كاتبت أهلي على
تسع أواق، في كل عام أوقية، فأعينيني على
كتابتي. فقال النبي، صلى الله عليه وسلم،
لعائشة: "اشتريها"
(2/124)
متفق عليه.
وليس في القصة ما يدل على أنها عجزت، بل
استعانتها بها دليل بقاء كتابتها. وتقاس الهبة
والوصية ونحوهما على البيع.
"ولمشتر جهل الكتابة الرد أو الأرش" لأنها عيب
في الرقيق، لنقص قيمته بملكه نفعه وكسبه.
"وهو كالبائع في أنه إذا أدى ما عليه يعتق"
للزوم الكتابة. فلا تنفسخ بنقل الملك فيه.
"وله الولاء" إذا أدى إليه، وعتق لعتقه عليه
في ملكه. ويعود قناً بعجزه عن الأداء، لقيامه
مقام البائع.
"ويصح وقفه، فإذا أدى بطل الوقف" لأن الكتابة
لا تبطل به.
(2/125)
فصل والكتابة عقد لازم من الطرفين:
لأنها بيع.
"لا يدخلها خيار مطلقاً" لأن القصد منها تحصيل
العتق، فكأن السيد علق عتق المكاتب على أداء
مال الكتابة، ولأن الخيار شرع لاستدراك ما
يحصل للعاقدين من الغبن، والسيد والمكاتب دخلا
فيه راضيين بالغبن.
"ولا تنفسخ بموت السيد وجنونه، ولا بحجر عليه"
لسفه أو فلس كبقية العقود اللازمة.
"ويعتق بالأداء إلى من يقوم مقامة" أي: السيد
من وليه ووكيله، أو الحاكم مع غيبة سيده، أو
إلى وارثه إن مات. والولاء للسيد لا للوارث،
كما لو وصى بما عليه لشخص فأدى إليه.
(2/125)
"وإذا حل نجم،
فلم يؤده، فلسيده الفسخ" كما لو أعسر المشتري
بثمن المبيع قبل قبضه.
"ويلزم إنظاره ثلاثاً" إن استنظره.
"لبيع عرض، ولمال غائب دون مسافة قصر يرجو
قدومه" قصداً لحظ المكاتب والرفق به، مع عدم
الإضرار بالسيد.
"ويجب علي السيد أن يدفع للمكاتب ربع مال
الكتابة" لقوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ
اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} 1 وظاهر الأمر
الوجوب. وروى أبو بكر بإسناده عن علي مرفوعاً
في قوله تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ
اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} 1 ربع الكتابة وروي
موقوفاً على علي، رضي الله عنه، وقال علي:
الكتابة على نجمين والإيتاء من الثاني. ويخير
السيد بين وضعه عنه ودفعه إليه لأن الله نص
على الدفع إليه، فنبه به على الوضع لكونه
أنفع. فإن مات السيد بعد العتق وقبل الإيتاء
فذلك دين في تركته يحاص به الغرماء، لأنه حق
لآدمي فلم يسقط بالموت كسائر حقوقه.
"وللسيد الفسخ بعجزه عن ربعها" لحديث عمرو بن
شعيب عن أبيه عن جده مرفوعاً: "أيما عبد كوتب
على مائة أوقية فأداها، إلا عشر أوقيات فهو
رقيق" . رواه الخمسة إلا النسائي. وفي لفظ:
"المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" . رواه أبو
داود. وروى الأثرم عن عمر وابنه وعائشة وزيد
بن ثابت أنهم قالوا: "المكاتب عبد ما بقي عليه
درهم" ولأن الكتابة عوض عن المكاتب، فلا يعتق
قبل أداء جميعها. ويحمل
ـــــــ
1 النور من الآية/ 33.
(2/126)
حديث أم سلمة
مرفوعاً: "إذا كان لإحداكن مكاتب، وكان عنده
ما يؤدي، فلتحتجب منه" . صححه الترمذي على
الندب، جمعاً بينه وبين ما روى سعيد عن أبي
قلابة قال: كن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم
لا يحتجبن من مكاتب ما بقي عليه دينار.
"وللمكاتب ولو قادراً على التكسب تعجيز نفسه"
بترك التكسب، لأن دين الكتابة غير مستقر عليه،
ومعظم القصد بالكتابة تخليصه من الرق، فإذا لم
يرد ذلك لم يجبر عليه. فإن ملك ما يوفي
كتابته، لم يملك تعجيز نفسه، لتمكنه من
الأداء، وهو سبب الحرية التي هي حق لله عز
وجل، فلا يملك إبطالها مع حصول سببها بلا
كلفة، ويجبر على الأداء ليعتق به.
"ويصح فسخ الكتابة باتفاقهما" فيصح أن يتقايلا
أحكامها قياساً على البيع.
قاله في الكافي. وفي الفروع يتوجه أن لا يجوز
لحق الله تعالى.
(2/127)
فصل وإن اختلفا في الكتابة فقول المنكر:
بيمينه لأن الأصل عدمها.
"وفي قدر عوضها أو جنسه أو أجلها أو وفاء
مالها، فقول السيد" بيمينه -نص عليه- أشبه ما
لو اختلفا في أصلها، ولأن الأصل ملك السيد
للعبد وكسبه، فإذا حلف السيد ثبتت الكتابة بما
حلف عليه.
"والكتابة الفاسدة - كـ: على خمر، أو خنزير،
أو مجهول - يغلب فيها حكم الصفة في أنه إذا
أدى" ما سمي فيها.
(2/127)
"عتق" لأن
الكتابة جمعت معاوضة وصفة، فإذا بطلت
المعاوضة، بقيت الصفة، فعتق بها. قاله في
الكافي. وسواء صرح بالصفة بأن قال: إذا أديت
إلي ذلك فأنت حر، أو لا، لأنه مقتضى الكتابة،
فهو كالمصرح به، وكالكتابة الصحيحة. وإذا عتق
بالأداء لم يلزمه قيمة نفسه، ولم يرجع على
سيده بما أعطاه، لأنه عتق بالصفة، وما أخذه
السيد منه فهو من كسب عبده.
"لا إن أبرئ" العبد من العوض الفاسد، فإنه لا
يعتق لعدم صحة البراءة، لأن الفاسد لا يثبت في
الذمة.
"ولكل فسخها" لأنها عقد جائز، لأن الفاسد لا
يلزم حكمه، وسواء كان فيه صفة أو لم يكن، لأن
المقصود المعاوضة، فصارت الصفة مبنية عليها،
بخلاف الصفة المجردة. ويملك المكاتب في
الفاسدة التصرف في كسبه وأخذ الزكاة والصدقات
كالصحيحة، ولا يلزم السيد في الفاسدة أداء
ربعها ولا شيء منها، لأن العتق هنا بالصفة،
أشبه ما لو قال: إذا أديت إلي فأنت حر.
"وتنفسخ بموت السيد وجنونه والحجر عليه" لسفه
لأنها عقد جائز من الطرفين، فلا يؤول إلى
اللزوم، وأيضاً فالمغلب فيها حكم الصفة
المجردة، وهي تبطل بالموت.
(2/128)
باب أحكام أم الولد:
الأحكام: جمع حكم، وهو: خطاب الله تعالى
المفيد فائدة شرعية. ويجوز التسري بالإجماع،
لقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ} 1 وفعله عليه الصلاة والسلام.
"وهي: من ولدت من المالك ما فيه صورة، ولو
خفية" فلا تصير أم ولد بوضع نطفة أو علقة لا
تخطيط فيها، لأنه ليس بولد.
"وتعتق" أم الولد
"بموته" أي: سيدها.
"ولو لم يملك غيرها" لحديث ابن عباس مرفوعاً:
"من وطئ أمته فولدت فهي معتقة عن دبر منه" .
رواه أحمد وابن ماجه. وعنه أيضاً: قال ذكرت أم
إبراهيم عند رسول الله، صلى الله عليه وسلم،
فقال: "أعتقها ولدها" . رواه ابن ماجه،
والدارقطني. ولأنه إتلاف حصل بسبب الاستمتاع،
فحسب من رأس المال، كإتلاف ما يأكله.
"ومن ملك حاملاً فوطئها" قبل وضعها
"حرم بيع ذلك الولد" ولم يصح، ويلزمه عتقه. نص
عليه في رواية صالح وغيره، لأنه قد شرك فيه،
لأن الماء يزيد في الولد. وقد قال عمر: أبعد
ما اختلطت دماؤكم ودماؤهن، ولحومكم ولحومهن
ـــــــ
1 النساء من الآية/ 3.
(2/129)
بعتموهن؟! فعلل
بالاختلاط وقد وجد. قال الشيخ تقي الدين:
ويحكم بإسلامه، وأنه يسري كالعتق، أي: ولو
كانت كافرة حاملاً من كافر، فيحكم بإسلام
الحمل، لأن المسلم شرك فيه، فيسري إلى باقيه.
"ومن قال لأمته: أنت أم ولدي، أو: يدك أم
ولدي، صارت أم ولد" لأن إقراره بأن جزءاً منها
مستولد يلزمه الإقرار. باستيلادها، كقوله: يدك
حرة.
"وكذا لو قال لابنها: أنت ابني، أو يدك ابني،
ويثبت النسب" بهذا الإقرار.
"فإن مات ولم يبين هل حملت به في ملكه، أو غير
لم تصر أم ولد إلا بقرينة" كما لو كان ملكها
صغيرة.
"ولا يبطل إيلاد بحال ولو بقتلها لسيدها"
لعموم ما تقدم. ويملك الرجل استخدام أم ولده،
وإجارتها ووطأها، وتزويجها. وحكمها حكم الأمة
في صلاتها وغيرها، لأنها باقية على ملكه، إنما
تعتق بعد الموت لمفهوم قوله صلى الله عليه
وسلم: "فهي معتقة عن دبر منه" . وقوله: "معتقة
من بعده" فدل على أنها قبل ذلك باقية في الرق.
ولا يملك بيعها، ولا هبتها، ولا الوصية بها
ووقفها، لحديث ابن عمر مرفوعاً: نهى عن بيع
أمهات الأولاد، وقال: "لا يبعن، ولا يوهبن،
ولا يورثن، يستمتع منها السيد ما دام حياً،
فإذا مات فهي حرة" رواه الدارقطني، ورواه مالك
في الموطأ، والدارقطني من طريق آخر عن ابن عمر
عن عمر موقوفاً. ويروى منع بيع أمهات الأولاد
عن عمر وعثمان وعائشة.
(2/130)
قال في الفروع:
وحكى ابن عبد البر وأبو حامد الإسفرائيني وأبو
الوليد الباجي وابن بطال والبغوي: الإجماع على
أنه لا يجوز. انتهى. وقال ابن عقيل: يجوز
البيع، لأنه قول علي وغيره، وإجماع التابعين
لا يرفعه، وبه قال ابن عباس وابن الزبير. وأما
حديث جابر: بعنا أمهات الأولاد على عهد رسول
الله، صلى الله عليه وسلم، وعهد أبي بكر، فلما
كان عمر نهانا فانتهينا. رواه أبو داود. فليس
فيه تصريح بأنه كان بعلمه عليه الصلاة
والسلام، وعلم أبي بكر، وإلا لم تجز مخالفته،
ولم تجمع الصحابة بعد على مخالفتهما. قال في
المنتقى: قال بعض العلماء: إنما وجه هذا أن
يكون في ذلك مباحاً، ثم نهي عنه، ولم يظهر
النهي لمن باعها، ولا علم أبو بكر بمن باع في
زمانه، لقصر مدته واشتغاله بأهم أمور الدين.
ثم ظهر ذلك زمن عمر، فأظهر النهي والمنع. وهذا
مثل حديث جابر أيضا في المتعة، لامتناع النسخ
بعد وفاة رسول الله، صلى الله عليه وسلم.
انتهى. وقد جاء ما يدل على موافقة علي، رضي
الله عنه، على المنع، فروى سعيد بإسناده عن
عبيدة قال: خطب علي، رضي الله عنه، الناس،
فقال: شاورني عمر في أمهات الأولاد، فرأيت أنا
وعمر أن أعتقهن، فقضى به عمر حياته، وعثمان
حياته، فلما وليت رأيت أن أرقهن قال عبيدة:
فرأي عمر وعلي في الجماعة أحب إلينا من رأي
علي وحده. وروى عنه أنه قال: بعث علي إلي وإلى
شريح أن اقضوا كما كنتم تقضون، فإني أكره
الاختلاف. ذكره في الكافي.
"وولدها الحادث بعد إيلادها كهي" فيجوز فيه من
التصرفات ما يجوز فيها، ويمتنع فيه ما يمتنع
فيها، سواء عتقت بموت سيدها أو
(2/131)
ماتت قبله، لأن
الولد يتبع أمه حرية ورقاً. قال أحمد: قال ابن
عمر وابن عباس وغيرهما: ولدها بمنزلتها.
"لكن لا يعتق بإعتاقها" لأنها عتقت بغير السبب
الذي تبعها فيه، فبقي عتقه موقوفاً على موت
سيده،
"أو موتها قبل السيد، بل بموته" لما تقدم.
"وإن مات سيدها وهي حامل، فنفقتها مده حملها
من ماله" أي: نصيب الحمل الذي وقف له لملكه
له.
"وإلا فعلى وارثه" أي: وارث الحمل، لقوله
تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} 1.
"وكلما جنت أم الولد لزم السيد فداؤها بالأقل
من الأرش أو يوم الفداء" لأنها مملوكة له،
يملك كسبها أشبهت القن. قال في الشرح: وينبغي
أن تجب قيمتها معيبة بعيب الإستيلاد، لأن ذلك
ينقصها، فاعتبر كالمرض، وغيره من العيوب.
انتهى.
"وإن اجتمعت أروش قبل إعطاء شيء منها، تعلق
الجميع برقبتها، ولم يكن على السيد إلا الأقل
من أرش الجميع أو قيمتها" يشترك فيها أرباب
الجنايات،
"ويتحاصون بقدر حقوقهم" إن لم تف بجميعها، لأن
السيد لا يلزمه أكثر منه، كالجنايات على شخص
واحد.
"وإن أسلمت أم ولد لكافر منع من غشيانها، وحيل
بينه وبينها"
ـــــــ
1 البقرة من الآية/ 333.
(2/132)
لتحريمها عليه
بالإسلام، ولا تعتق به، بل يبقى ملكه عليها
على ما كان قبل إسلامها،
"وأجبر على نفقتها إن عدم كسبها" لأن نفقة
المملوك على سيده، فإن كان لها كسب فنققتها
فيه، لئلا يبقى له ولاية عليها بأخذ كسبها
والإنفاق عليها مما شاء.
"فإن أسلم حلت له" لزوال المانع وهو الكفر.
"وإن مات كافراً عتقت" بموته لعموم الأخبار.
(2/133)
|