منار
السبيل في شرح الدليل
كتاب الشهادات
مدخل
مدخل
...
كتاب الشهادات:
أجمعوا على قبول الشهادة في الجملة، لقوله
تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ} الآية1 وقوله: {وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ...} 2 وقوله:
{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ...} 1
وحديث: "شاهداك أو يمينه" ولدعاء الحاجة إليها
لحصول التجاحد. قال شريح: القضاء جمر، فنحه
عنك بعودين - يعني: الشاهدين - وإنما الخصم
داء، والشهود شفاء، فأفرغ الشفاء على الداء.
"تحمل الشهادة في حقوق الآدميين فرض كفاية"
لقوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا
مَا دُعُوا...} 1 قال ابن عباس وقتادة
والربيع: المراد به: التحمل للشهادة وإثباتها
عند الحاكم.
"وأداؤها فرض عين" لقوله تعالى: {وَلا
تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا
فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ...} 3 وإن كان
الحاكم غير عدل: لم يلزمه الأداء. قال أحمد في
رواية ابن الحكم: كيف أشهد عند رجل ليس عدلا
لا يشهد؟. وقال في رواية ابنه عبد الله: أخاف
أن يسعه أن لا يشهد عن الجهمية. وعن أبي هريرة
مرفوعا: "يكون في آخر الزمان
ـــــــ
1 البقرة من الآية/282.
2 الطلاق من الآية/2.
3 البقرة من الآية/283.
(2/481)
أمراء ظلمة،
ووزراء فسقة، وقضاة خونة، وفقهاء كذبة، فمن
أدرك منكم ذلك الزمان فلا يكونن لهم كاتبا،
ولا عريفا، ولا شرطيا" رواه الطبراني.
"ومتى تحملها وجبت كتابتها" لئلا ينساها.
"ويحرم أخذ أجرة وجعل عليها" ولو لم تتعين
عليه في الأصح، لأنها فرض كفاية، ومن قام به
فقد قام بفرض، ولا يجوز أخذ الأجرة ولا الجعل
عليه: كصلاة الجنازة.
"لكن إن عجز عن المشي" إلى محلها،
"أو تأذى به: فله أخذ أجرة مركوب" لأنه لا
يلزمه أن يضر نفسه لنفع غيره، لحديث "لا ضرر
ولا ضرار" .
"ويحرم كتم الشهادة" للآية.
"ولا ضمان" لأنه لا تلازم بين التحريم
والضمان.
"ويجب الإشهاد في عقد النكاح خاصة" لأنه شرط
فيه فلا ينعقد بدونها.
"ويسن في كل عقد سواه" من بيع وإجارة وصلح
وغيره، لقوله: {وَأَشْهِدُوا إِذَا
تَبَايَعْتُمْ} 1 وحمل على الاستحباب، لقوله
تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} 2
"ويحرم أن يشهد إلا بما يعلمه" لقوله تعالى:
{إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ
يَعْلَمُونَ} 3 قال المفسرون: هو ما شهد به عن
بصيرة وإيقان.
ـــــــ
1 البقرة من الآية/282.
2 البقرة من الآية/283.
3 الزخرف من الآية/86.
(2/482)
وقال ابن عباس
سئل النبي، صلى الله عليه وسلم، عن الشهادة،
فقال: "ترى الشمس؟" قال: "على مثلها فاشهد، أو
دع" رواه الخلال.
"والعلم إما برؤية أو سماع" فالرؤية تختص
بالفعل: كقتل، وسرقة، وغصب، وعيوب مرئية في
نحو مبيع ونحوها.
والسماع ضربان:
ا - سماع من مشهود عليه: كعتق وطلاق وإقرار
ونحوها، فيلزمه الشهادة بما سمع من قائل عرفه
يقينا، كما في الكافي.
2- وسماع بالاستفاضة بأن يشتهر المشهود به بين
الناس، فيتسامعون به بإخبار بعضهم بعضا. قال
في الشرح: وأجمعوا على صحة الشهادة بالاستفاضة
على النسب، واختلفوا فيما سواه، فقال أصحابنا
تجوز في تسعة أشياء: النكاح، والملك المطلق،
والوقف، ومصرفه، والموت، والعتق، والولاء،
والولاية، والعزل. وقال أبو حنيفة: لا تقبل
إلا في النكاح، والموت.
ولنا: أن هذه تتعذر الشهادة عليها غالبا
بمشاهدتها، أو مشاهدة أسبابها فجازت كالنسب.
قال مالك: ليس عندنا من يشهد على أجناس أصحاب
رسول الله، صلى الله عليه وسلم، إلا بالسماع،
وقال: السماع في الأجناس، والولاء جائز. قيل
لأحمد: أتشهد أن فلانة امرأة فلان، ولم تشهد؟
قال: نعم إذا كان مستفيضا: فأشهد أن فاطمة بنت
رسول الله، وأن خديجة وعائشة زوجتاه، وكل أحد
يشهد بذلك من غير
(2/483)
مشاهدة. ولا
تقبل الاستفاضة إلا من عدد يقع العلم بخبرهم.
وقيل: تسمع من عدلين. وهو قول المتأخرين من
الشافعية. انتهى. وقال الشيخ تقي الدين: أو
ممن تطمئن إليه النفس ولو واحدا.
"ومن رأى شيئا بيد إنسان يتصرف فيه مدة طويلة:
كتصرف الملاك من نقض وبناء وإجارة وإعارة: فله
أن يشهد له بالملك" في قول ابن حامد، لأن
تصرفه فيه على هذا الوجه بلا منازع دليل صحة
الملك فجرت مجرى الاستفاضة.
"والورع أن يشهد باليد والتصرف" لأنه أحوط
خصوصا في هذه الأزمنة، ولأن اليد قد تكون عن
غصب وتوكيل وإجارة وعارية، فلم تختص في الملك،
فلم تجز الشهادة به مع الاحتمال. قاله في
الكافي.
(2/484)
فصل وإن شهدا أنه طلق من نسائه:
"واحدة، ونسيا عينها لم تقبل" شهادتهما، لأنهم
شهدا بغير معين فلا يمكن العمل بها، كقولهما:
إحدى هاتين الأمتين عتيقة.
"ولو شهد أحدهما أنه أقر له بألف، والآخر أنه
أقر له بألفين: كملت بالألف" لاتفاقهما عليه.
"وله" أي: المشهود له
"أن يحلف على الألف الآخر ويستحقه" حيث لم
يختلف السبب، ولا الصفة.
"وإن شهدا أن عليه ألفا لزيد، وقال أحدهما:
قضاه بعضه: بطلت
(2/484)
شهادته" نص
عليه، لأن قوله: قضاه بعضه، يناقض شهادته عليه
بالألف فأفسدها.
"وإن شهدا أنه أقرضه ألفا ثم قال أحدهما: قضاه
نصفه: صحت شهادتهما" لأنه رجوع عن الشهادة
بخمس مائة، وإقرار بغلط نفسه أشبه ما لو قال:
بألف بل بخمسمائة، ولأنه لا تناقض في كلامه،
ولا اختلاف.
"ولا يحل لمن" تحمل شهادة بحق
"وأخبره عدل باقتضاء الحق أن يشهد به" نص
عليه.
"ولو شهد اثنان في جمع من الناس على واحد منهم
أنه طلق أو أعتق، أو شهدا على خطيب أنه قال،
أو فعل على المنبر في الخطبة شيئا، ولم يشهد
به أحد غيرهما: قبلت شهادتهما" لكمال النصاب.
(2/485)
باب شروط من تقبل شهادته
مدخل
...
باب شروط من تقبل شهادته:
"وهي ستة"
"1- البلوغ: فلا شهادة لصغير، ولو اتصف
بالعدالة" لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} 1 والصبي ليس
من رجالنا. وعنه: تقبل شهادتهم في الجراح
خاصة، إذا شهدوا قبل الافتراق عن الحال التي
تجارحوا عليها، لأنه قول ابن الزبير. قاله في
الكافي. وقال في الشرح: قال إبراهيم: كانوا
يجيزون شهادة بعضهم على بعض.
"2- العقل: فلا شهادة لمعتوه ومجنون" وسكران
ومبرسم2،
ـــــــ
1 البقرة من الآية/282.
2 البرسام: هو التهاب الحجاب الذي بين الكبد
والقلب.
(2/485)
لأن قولهم على
أنفسهم لا يقبل، فعلى غيرهم أولى، وتقبل ممن
يخنق أحيانا - نص عليه - إذا تحمل وأدى في حال
إفاقته، لأنها شهادة من عاقل.
"3- النطق: فلا شهادة لأخرس" بإشارته، لأن
الشهادة يعتبر لها اليقين. وإنما اكتفي بإشارة
الأخرس في أحكامه المختصة به، كنكاحه وطلاقه
للضرورة، وهي هنا معدومة.
"إلا إن أداها بخطه" فتقبل، لدلالة الخط على
الألفاظ.
"4- الحفظ: فلا شهادة لمغفل، ومعروف بكثرة غلط
وسهو" لأنه لا تحصل الثقة بقوله، لاحتمال أن
يكون ذلك من غلطه. وتقبل شهادة من يقل ذلك
منه، لأنه لا يسلم منه أحد.
"5- الإسلام: فلا شهادة لكافر ولو على مثله"
لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ
مِنْكُمْ} 1 وقال: {...مِمَّنْ تَرْضَوْنَ
مِنَ الشُّهَدَاءِ...} 2 والكافر ليس بعدل،
ولا مرضي، ولا هو منا. وروى حنبل: تقبل شهادة
بعضهم على بعض، واختاره الشيخ تقي الدين،
لحديث جابر أنه، صلى الله عليه وسلم، أجاز
شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض رواه ابن ماجه
من رواية مجالد، وهو ضعيف. ويحتمل أن المراد
اليمين، لأنها تسمى شهادة، قال تعالى:
{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ
بِاللَّهِ...} 3 إلا أن شهادة أهل الكتاب تقبل
في الوصية في السفر
ـــــــ
1 الطلاق: من الآية2.
2 البقرة: من الآية/282.
3 النور: من الآية/6.
(2/486)
إذا لم يكن
غيرهم، ويستحلف مع شهادته بعد العصر، لخبر أبي
موسى1 رواه أبو داود وغيره، وقضى به أبو موسى،
وكذا قضى به ابن مسعود في زمن عثمان. قال ابن
المنذر: وبهذا قال أكابر الماضين.
"6- العدالة" وهي: استواء أحواله في دينه،
وقيل: من لم تظهر منه ريبة. ذكره في الشرح.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "لا
تجوز شهادة خائن، ولا خائنة، ولا ذي غمر على
أخيه" 2 رواه أحمد وأبو داود.
"ويعتبر لها شيئان:"
"1- الصلاح في الدين، وهو: أداء الفرائض
برواتبها" نقل أبو طالب: الوتر: سنة سنها
النبي، صلى الله عليه وسلم. فمن ترك سنة من
سننه، فهو رجل سوء، فلا تقبل شهادة من داوم
على ترك الرواتب، فإن تهاونه بها يدل على عدم
محافظته على أسباب دينه، وربما جر إلى التهاون
بالفرائض. وكذا ما وجب من صوم وزكاة وحج،
"واجتناب المحرم: بأن لا يأتي كبيرة، ولا يدمن
على صغيرة"
ـــــــ
1 ونصه: عن الشعبي أن رجلا من المسلمين حضرته
الوفاة بدقوقاء، ولم يجد أحدا من المسلمين
يشهد على وصيته، فقدما الكوفة، فأتيا أبا موسى
الأشعري، فأحبراه، وقدما بتركته ووصيته. فقال
أبو موسى: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على
عهد رسول الله، فأحلفهما بعد العصر بالله
إنهما ما خانا، ولا كذبا، ولا بدلا، ولا كتما،
ولا غيرا، وإنهما لوصية الرجل وتركته. فأمضى
شهادتهما.
2 الغمر: بكسر العين: الحفد وزنا ومعنى. قال
في اللسان: وفي حديث الشهادة "ولا ذي غمر على
أخيه" أي: ضغن وحقد.
(2/487)
لقوله تعالى:
{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ
فَتَبَيَّنُوا...} 1 وقال في القاذف: {وَلا
تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً...} 2
ويقاس عليه كل مرتكب كبيرة، لأنه لا يؤمن من
مثله شهادة الزور. واعتبر في الصغائر الكثرة،
لأن الحكم للأغلب بدليل قوله تعالى: {فَمَنْ
ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ} 3 ولا يقدح فيه فعل صغيرة
نادرا، لأن أحدا لا يسلم منها، ولهذا يروى
مرفوعا:
"إن تغفر اللهم تغفر جما ... وأي عبد لك لا
ألما؟"
والكبيرة: ما فيه حد في الدنيا، أو وعيد في
الآخرة. نص عليه. وقال الشيخ تقي الدين: أو
لعنة، أو غضب، أو نفي الإيمان. انتهى.
والصغيرة: ما دون ذلك.
2-"استعمال المروءة" الإنسانية
"بفعل ما يجمله ويزينه" عادة كالسخاء وحسن
الخلق، وحسن المجاورة ونحوها،
"وترك ما يدنسه ويشينه" من الأمور الدنية
المزرية به.
"فلا شهادة، لمتمسخر" أي: مستهزئ
"ورقاص، ومشعبذ" والشعبذة: خفة في اليدين
كالسحر.
"ولاعب بشطرنج ونحوه" كنرد، ولو خلا من
القمار، لحديث أبي موسى مرفوعا: "من لعب
بالنردشير فقد عصى الله ورسوله" رواه أبو
داود. وعن واثلة بن الأسقع مرفوعا: "إن لله عز
وجل في كل يوم
ـــــــ
1 الحجرات: من الآية/6.
2 النور: من الآية/4.
3 الأعراف: من الآية/8.
(2/488)
ثلاثمائة وستين
نظرة، ليس لصاحب الشاه منها نصيب" رواه أبو
بكر. ومر علي، رضي الله عنه، على قوم يلعبون
بالشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل التي أنتم
لها عاكفون؟! والنرد أشد من الشطرنج. نص عليه
أحمد، للاتفاق عليه، وثبوت الخبر فيه.
"ولا لمن يمد رجليه بحضرة الناس، أو يكشف من
بدنه ما جرت العادة بتغطيته، ولا لمن يحكي
المضحكات، ولا لمن يأكل بالسوق، ويغتفر اليسير
كاللقمة والتفاحة" ولا لمغن وطفيلي، ومتزي بزي
يسخر منه، وأشباه ذلك مما يأنف منه أهل
المروءات، لأنه لا يأنف من الكذب بدليل ما روى
أبو مسعود البدري مرفوعا: "إن مما أدرك الناس
من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما
شئت" رواه البخاري.
(2/489)
فصل ومتى وجد الشرط...إلخ
...
فصل ومتى وجد الشرط...
"بأن بلغ الصغير، وعقل المجنون، وأسلم الكافر،
وتاب الفاسق: قبلت الشهادة بمجرد ذلك" لزوال
المانع.
"ولا تشترط الحرية، فتقبل شهادة العبد والأمة
في كل ما تقبل فيه شهادة الحر والحرة" لعموم
الآيات والأخبار، والعبد داخل فيها، فإنه من
رجالنا، وتقبل روايته، وفتواه، وأخباره
الدينية فقبلت شهادته، لأنه عدل غير متهم،
فأشبه الحر. وتقدم حديث عقبة بن الحارث في
الرضاع.
ولا تقبل شهادته في الحد، لأنه يدرأ بالشبهات،
وفي شهادة العبد شبهة، لوقوع الخلاف فيها.
قاله في الكافي.
(2/489)
"ولا يشترط كون
الصناعة غير دنية" فتقبل شهادة حجام وحداد
وزبال وكناس وقراد ودباب ونحوهم، إذا حسنت
طريقتهم في دينهم، لقوله تعالى: {...إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} 1،
وتقبل شهادة ولد الزنى في قول الأكثر. قاله في
الشرح. وتقبل شهادة بدوي على قروي، لأنه مسلم
عدل. وحديث أبي هريرة مرفوعا: -"لا تجوز شهادة
بدوي على صاحب قرية" - محمول على من لم تعرف
عدالته من أهل البدو.
"ولا كونه بصيرا: فتقبل شهادة الأعمى بما سمعه
حيث تيقن الصوت، وبما رآه قبل عماه" لعموم
الآيات، ولأنه عدل مقبول الرواية فقبلت
شهادته، كالبصير.
ـــــــ
1 الحجرات: من الآية/13.
(2/490)
باب موانع الشهادة:
"وهي ستة:"
"1- كون الشاهد أو بعضه ملكا لمن يشهد له" لأن
القن يتبسط في مال سيده، وتجب نفقته عليه،
كالأب مع ابنه.
"وكذا لو كان زوجا له" لتبسط كل منهما في مال
الآخر، وإضافته إليه، واتساعه بسعته، وتقدم
قول عمر لعبد الله بن عمرو بن الحضرمي في حد
السرقة.
"ولو في الماضي" بأن يشهد أحد الزوجين للآخر
بعد طلاق بائن أو خلع: فلا تقبل، لتمكنه من
بينونتها للشهادة، ثم يعيدها.
(2/490)
"أو كان من
فروعه، وإن سفلوا من ولد البنين والبنات، أو
من أصوله، وإن علوا" فلا تقبل شهادة بعضهم
لبعض، للتهمة بقوة القرابة. وعن عائشة مرفوعا:
"لا تجوز شهادة خائن ولا خائنة، ولا ذي غمر
على أخيه، ولا ظنين في قرابة ولا ولاء" ورواه
الخلال بنحوه من حديث عمر وأبي هريرة، ورواه
أحمد وأبو داود بنحوه من حديث عمرو بن شعيب.
والظنين: المتهم، وكل من الوالدين والأولاد
متهم في حق الآخر، لأنه يميل إليه بطبعه،
ولهذا قال النبي، صلى الله عليه وسلم "فاطمة
بضعة مني يريبني ما رابها" .
"وتقبل" شهادة الشخص
"لباقي أقاربه: كأخيه" لعموم الآيات، ولأنه
عدل غير متهم. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم
على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة.
"وكل من لا تقبل" شهادته
"له فإنها تقبل عليه" لعدم التهمة فيها. قال
الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ
شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ
أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} 1
2-"كونه يجر بها نفعا لنفسه: فلا تقبل شهادته
لرقيقه" ولو مأذونا له،
"ومكاتبه" لأنه رقيقه، لحديث: "المكاتب عبد ما
بقي عليه درهم"
"ولا لمورثه بجرح قبل اندماله" لأنه قد يسري
إلى نفسه فتجب الدية للشاهد بشهادته، فكأنه
شهد لنفسه.
"ولا لشريكه فيما هو شريك فيه" لاتهامه. قال
في الشرح: لا نعلم فيه خلافا.
ـــــــ
1 النساء: من الآية/135.
(2/491)
"ولا لمستأجره
فيما استأجره فيه" نص عليه. كمن نوزع في ثوب
استأجر أجيرا لخياطته ونحوها فلا تقبل للتهمة
فيه.
"3- أن يدفع بها ضررا عن نفسه: فلا تقبل شهادة
العاقلة بجرح شهود قتل الخطأ" وشبه العمد،
لأنهم متهمون في دفع الدية عن أنفسهم، ولو كان
الشاهد فقيرا أو عبدا، لجواز أن يوسر أو يموت
من هو أقرب منه.
"ولا شهادة الغرماء بجرح شهود دين على مفلس"
أو ميت تضيق تركته عن ديونهم، لما في ذلك من
توفير المال عليهم. قال الزهري: مضت السنة في
الإسلام أن لا تجوز شهادة خصم، ولا ظنين. وهو:
المتهم. قاله في الشرح.
"ولا شهادة الضامن لمن ضمنه بقضاء الحق أو
الإبراء منه" لأنه متهم بقصد دفع الضمان عن
نفسه.
"وكل من لا تقبل شهادته له تقبل شهادته بجرح
شاهد عليه" كسيد يشهد بجرح شاهد على قنه
ومكاتبه، لأنه متهم بدفع الضرر عن نفسه.
"4- العداوة لغير الله تعالى: كفرحه بمساءته،
وغمه لفرحه، وطلبه له الشر، فلا تقبل شهادته
على عدوه" في قول أكثر أهل العلم، لحديث "ولا
ذي غمر على أخيه" قاله في الشرح. ولأنه يتهم
بإرادة الضرر بعدوه.
"إلا في عقد النكاح" فتقبل شهادته فيه، لأن
القصد إعلانه ولا تهمة.
"5- العصبية: فلا شهادة لمن عرف بها، كتعصب
جماعة على جماعة، وإن لم تبلغ رتبة العداوة"
لما تقدم.
(2/492)
"6- أن ترد
شهادته لفسقه، ثم يتوب ويعيدها" فلا تقبل
للتهمة في أنه إنما تاب لتقبل شهادته لإزالة
العار الذي لحقه بردها، ولأنه ردت بالاجتهاد
فقبولها نقص لذلك الاجتهاد.
"أو يشهد لمورثه بجرح قبل برئه" فترد شهادته،
"ثم يبرأ ويعيدها، أو ترد لدفع ضرر، أو جلب
نفع، أو عداوة، أو ملك، أو زوجية، ثم يزول
ذلك" المانع.
"وتعاد" الشهادة، فلا تقبل في الجميع لأنها
ردت للتهمة، فلا تقبل إذا أعيدت، كالمردود
للفسق.
"بخلاف ما لو شهد، وهو كافر أو غير مكلف أو
أخرس ثم زال ذلك" المانع بأن أسلم الكافر، أو
كلف غير المكلف، أو نطق الأخرس،
"وأعادوها" فإنها تقبل، لأن ردها لهذه الموانع
لا غضاضة فيه، ولا تهمة، بخلاف ما قبلها.
(2/493)
باب أقسام المشهود به
مدخل
...
باب أقسام المشهود به:
"وهو ستة:"
"1- الزنى: فلابد من أربعة رجال" وأجمعوا على
اشتراط عدالتهم باطنا وظاهرا. قاله في الشرح.
"يشهدون به" أي: الزنى أو اللواط،
"وأنهم رأوا ذكره في فرجها" لئلا يعتقد الشاهد
ما ليس بزنى زنى، ويقال: زنت العين واليد
والرجل ولأن أبا بكرة، ونافع بن الحارث،
(2/493)
وشبل بن معبد
شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنى عند عمر بن
الخطاب، رضي الله عنه، ولما لم يصرح زياد بذلك
بل قال: رأيت أمرا قبيحا: فرح عمر، وحمد الله،
ولم يقم الحد عليه، وكان بمحضر من الصحابة،
ولم ينكر.
"أو يشهدون أنه أقر أربعا" لقوله تعالى:
{لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا
بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ
هُمُ الْكَاذِبُونَ} 1 وقوله:
{فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً
مِنْكُمْ...} 2 وقوله، صلى الله عليه وسلم،
لهلال بن أمية "أربعة شهداء، وإلا حد في
ظهرك...." . الحديث، رواه النسائي.
"2- إذا ادعى من عرف بغنى أنه فقير ليأخذ من
الزكاة: فلا بد من ثلاثة رجال" يشهدون له،
لقوله، صلى الله عليه وسلم، في حديث قبيصة
"ورجل أصابته فاقة حتى يقول ثلاثة من ذوي
الحجى من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة" الحديث،
رواه أحمد ومسلم وأبو داود والنسائي.
"3- القود والإعسار، وما يوجب الحد والتعزير:
فلا بد من رجلين" لأنه يحتاط فيه، ويسقط
بالشبهة، فلا تقبل فيه شهادة النساء، لنقصهن،
لما روي عن الزهرى قال جرت السنة من عهد رسول
الله، صلى الله عليه وسلم، أن لا تقبل شهادة
النساء في الحدود قاله في الكافي.
"ومثله: النكاح والرجعة، والخلع والطلاق،
والنسب والولاء،
ـــــــ
1 النور من الآية: 13.
2 النساء: من الآية: 15.
(2/494)
والتوكيل في
غير المال" فلا بد من شهادة رجلين، لقوله
تعالى في الرجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ
مِنْكُمْ...} 1 فنقيس عليه سائر ما ذكرنا،
لأنه ليس بمال، ولا المقصود منه المال، أشبه
العقوبات. قاله في الكافي.
"4- المال وما يقصد به المال: كالقرض. والرهن
والوديعة، والعتق والتدبير، والوقف والبيع،
وجناية الخطأ" ونحوها.
"فيكفي فيه رجلان، أو رجل وامرأتان" لقوله
تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ
فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ
مِنَ الشُّهَدَاءِ...} 2 نص على المداينة،
وقسنا عليه سائر ما ذكرنا قاله في الكافي.
ولأن المال يدخله البذل والإباحة، وتكثر فيه
المعاملة، ويطلع عليه الرجال والنساء فوسع
الشرع باب ثبوته.
"أو رجل ويمين" لحديث ابن عباس أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد
رواه أحمد والترمذي وابن ماجه. ولأحمد في
رواية إنما ذلك في الأموال ورواه أيضا عن جابر
مرفوعا. وهذا الحديث يروى عن ثمانية: عن علي،
وابن عباس، وأبي هريرة، وجابر، وعبد الله بن
عمر، وأبي، وزيد بن ثابت، وسعد بن عبادة وقضى
به علي بالعراق رواه أحمد والدارقطني، ولأن
اليمين تشرع في حق من ظهر صدقه.
"لا امرأتان ويمين" وكذا لو شهد أربع نسوة،
لأن النساء لا تقبل شهادتهن في ذلك منفردات.
ـــــــ
1 الطلاق: من الآية/2.
2 البقرة: من الآية/282.
(2/495)
"ولو كان
لجماعة حق بشاهد واحد فأقاموه: فمن حلف أخذ
نصيبه" لكمال النصاب من جهته،
"ولا يشاركه من لم يحلف" لأنه لا حق له فيه
قبل حلفه.
"5- داء دابة وموضحة ونحوهما: فيقبل قول طبيب
وبيطار واحد، لعدم غيره في معرفته" لأنه مما
يعسر عليه إشهاد اثنين، وإن أمكن إشهادهما لم
يكتف بدونهما، لأنه الأصل قاله في الكافي.
"وإن اختلف اثنان قدم قول المثبت" لأنه يشهد
بزيادة لم يدركها النافي.
"6- ما لا يطلع عليه الرجال غالبا: كعيوب
النساء تحت الثياب والرضاعة، والبكارة.
والثيوبة. والحيض، وكذا جراحة وغيرها في حمام
وعرس ونحوهما مما لا يحضره الرجال فيكفي فيه
امرأة عدل" نص عليه. قال في الشرح: ولا نعلم
خلافا في قبول النساء المنفردات في الجملة.
انتهى. ولحديث عقبة بن الحارث، وتقدم في
الرضاع. وعن حذيفة أن النبي صلى الله عليه
وسلم أجاز شهادة القابلة وحدها ذكره الفقهاء
في كتبهم، لأنه معنى يثبت بقول النساء
المنفردات: فلا يشترط فيه العدد، كالرواية
والأخبار الدينية.
"والأحوط اثنتان" لأن الرجال أكمل منهن، ولا
يقبل منهم إلا اثنان فالنساء أولى، فإذا شهد
الرجل الواحد بما تقبل فيه شهادة المرأة
الواحدة، فقال أبو الخطاب: يكتفى به، لأنه
أكمل منها، قاله في الكافي.
(2/496)
فصل لو شهد بقتل العمد رجل وامرأتان:
"لم يثبت شيء" أي: لا قصاص، ولا دية، لأن
العمد يوجب القصاص، والمال بدل عنه، فإن لم
يثبت الأصل لم يجب بدله، وإن قلنا: موجبه أحد
شيئين: لم يتعين أحدهما إلا بالاختيار، فلو
أوجبنا الدية وحدها. أوجبنا معينا. قاله في
الكافي.
"وإن شهدوا بسرقة: ثبت المال" لكمال نصابه.
"دون القطع" لأنه حد، فلا يثبت إلا برجلين،
والسرقة توجب المال والقطع، وقصور البينة عن
أحدهما لا يمنع ثبوت الآخر.
"ومن حلف بالطلاق: أنه ما سرق، أو ما غصب
ونحوه" نحو ما باع، أو ما اشترى أو وهب.
"فثبت فعله" المحلوف أنه ما فعله.
"برجل وامرأتين أو رجل ويمين: ثبت المال"
لكمال نصابه.
"ولم تطلق" زوجته، لأن الطلاق لا يثبت بذلك.
(2/497)
باب الشهادة على الشهادة والرجوع عن الشهادة
وصفة أدائها
مدخل
...
باب الشهادة على الشهادة والرجوع عن الشهادة
وصفة أدائها:
قال أبو عبيد: أجمعت العلماء من أهل الحجاز
والعراق على إمضاء الشهادة على الشهادة في
الأموال، ولدعاء الحاجة إليها، لأنها وثيقة
مستدامة لحفظ الأموال، وربما مات المقر فتعذر
الرجوع إلى إقراره،
(2/497)
وربما مات شاهد
الأصل أو غاب أو مرض، أو نسي فتضيع الحقوق:
فاستدرك ذلك بتجويز الشهادة على الشهادة،
فتدوم الوثيقة.
"الشهادة على الشهادة" أي: صورة تحملها.
"أن يقول: أشهد يا فلان على شهادتي: إني أشهد
أن فلان بن فلان أشهدني على نفسه بكذا، أو:
شهدت عليه، أو: أقر عندي بكذا" أي: لا بد أن
يسترعيه شاهد الأصل للشهادة. نص عليه.
"ويصح أن يشهد على شهادة الرجلين رجل
وامرأتان، ورجل وامرأتان على مثلهم، وامرأة
على امرأة فيما تقبل فيه المرأة" كالشهادة
بنفس الحق. ولأن الفرع بدل الأصل فاكتفي بمثل
عددهم، كأخبار الديانات. وقال ابن بطة: لا بد
من أربعة: على كل واحد اثنين، وقال الإمام
أحمد: شاهد على شاهد يجوز، لم يزل الناس على
هذا: شريح، فمن دونه، إلا أن أبا حنيفة أنكره،
قاله في الشرح.
"وشروطها أربعة:"
"1- أن تكون في حقوق الآدميين" كالأموال: فلا
تقبل في حد لله تعالى، لأن مبناه على الستر،
والدرء بالشبهات، والشهادة على الشهادة لا
تخلو من شبهة، لتطرق احتمال الغلط والسهو. قال
في الكافي: وظاهر كلام أحمد أنها لا تقبل في
قصاص، ولا حد قذف لأنه عقوبة، فأشبه سائر
الحدود، ونص على قبولها في الطلاق لأنه لا
يدرأ بالشبهات. انتهى.
"2-تعذر شهود الأصل بمرض أو خوف أو غيبة مسافة
قصر" لأن من دونها في حكم الحاضر، ذكره أبو
الخطاب. ولأن شهادة
(2/498)
الأصل أقوى
منها، لأنها تثبت نفس الحق، وهذه لا تثبته،
وإنما تثبت الشهادة عليه، ولأن سماع القاضي
منهما متيقن، وصدق شاهدي الفرع عليهما مظنون:
فلم يقبل الأذى مع القدرة على الأقوى. قاله في
الكافي.
"ويدوم تعذرهم إلى صدور الحكم، فمتى أمكنت
شهادة الأصل" قبل الحكم:
"وقف الحكم على سماعها" لزوال الشرط، كما لو
كانوا حاضرين، و لأنه قدر على الأصل قبل العمل
بالبدل، فأشبه المتيمم يقدر على الماء.
3-"دوام عدالة الأصل والفرع إلى صدور الحكم،
فمتى حدث من أحدهم ما يمنعه قبله" أي: الحكم
من نحو فسق، أو جنون
"وقف" الحكم، لأنه ينبني على الشهادتين معا،
فإذا فقد شرط الشهادة لم يجز الحكم بها.
4-"ثبوت عدالة الجميع" لما تقدم.
"ويصح من الفرع أن يعدل الأصل" بغير خلاف
نعلمه. قاله في الشرح، لأن شهادتهما بالحق
مقبولة، فكذلك في العدالة.
"لا تعديل شاهد لرفيقه" لأنه يؤدي إلى انحصار
الشهادة في أحدهما.
"وإن قال شهود الأصل بعد الحكم بشهادة الفرع:
ما أشهدناهم بشيء. لم يضمن الفريقان شيئا"
لأنه لم يثبت كذب شاهدي الفرع، ولا رجوع شاهدي
الأصل، لأن الرجوع إنما يكون بعد الشهادة،
وهما أنكرا أصل الشهادة.
(2/499)
فصل لا تقبل الشهادة إلا بأشهد أو شهدت
...
فصل ولا تقبل الشهادة إلا بأشهد أو شهدت:
"فلا يكفي: أنا شاهد" بكذا، لأنه إخبار عما
اتصف به، كقوله: أنا متحمل شهادة على فلان
بكذا،
"ولا أعلم، أو أتحقق، أو أعرف أو أتيقن" لأنه
لم يأت بالفعل المشتق من لفظ الشهادة.
"أو: أشهد بما وضعت به خطي" لما فيه من
الإجمال، والإبهام وفي النكت: القول بالصحة
أولى.
"لكن لو قال من تقدمه غيره بالشهادة بذلك:
أشهد، أو كذلك أشهد: صح" لاتضاح معناه. وعنه:
تصح الشهادة، ويحكم بها بدون فعلها المشتق
منها. اختاره الشيخ تقي الدين، وقال: لا يعرف
عن صحابي، ولا تابعي اشتراط لفظ الشهادة، وفي
الكتاب والسنة إطلاق لفظ الشهادة على الخبر
المجرد. ذكره في الإنصاف.
"وإن رجع شهود المال أو العتق بعد حكم الحاكم:
لم ينقض" الحكم، لتمامه ووجوب المشهود للمحكوم
له، ورجوعهم لا ينقض الحكم، لأنهم إن قالوا
عمدنا: فقد شهدوا على أنفسهم بالفسق، فهما
متهمان بإرادة نقض الحكم، وإن قالوا: أخطأنا:
لم يلزم نقضه أيضا لجواز خطئهم في قولهم
الثاني بأن اشتبه عليهم الحال.
"ويضمنون" بدل ما شهدوا به من المال، وقيمة ما
شهدوا بعتقه،
(2/500)
لأنهم أخرجوه
من يد مالكه بغير حق، وحالوا بينه وبينه، كما
لو أتلفوه أو غصبوه، وشهادة الزور من أكبر
الكبائر.
"وإذا علم الحاكم بشاهد زور بإقراره، أو تبين
كذبه يقينا: عزره ولو تاب" كمن تاب من حد بعد
رفعه لحاكم.
"بما يراه" من ضرب أو حبس ونحوهما،
"ما لم يخالف نصا" كحلق لحية، أو قطع طرف، أو
أخذ مال،
"وطيف به في المواضع التي يشتهر فيها، فيقال:
إنا وجدناه شاهد زور فاجتنبوه" ونحوه. ولا
يعزر شاهد بتعارض البينة، ولا بغلطه في
شهادته، لأن الغلط قد يعرض للصادق العدل.
(2/501)
باب اليمين في الدعاوى
مدخل
...
باب اليمين في الدعاوى:
"البينة على المدعي، واليمين على من أنكر" هذه
قطعة من حديث خرجه النووي عن ابن عباس. ويشهد
له ما تقدم. وقال ابن المنذر: أجمع أهل العلم
على أن المبينة على المدعي، واليمين على
المدعى عليه.
"ولا يمين على من منكر ادعي عليه بحق لله
تعالى: كالحد" بلا خلاف. قاله في الشرح، لأنه
لو أقر به، ثم رجع: قبل منه، وخلي سبيله بلا
يمين، ولأنه يستحب ستره، والتعريض للمقر به
ليرجع.
"ولو قذفا. والتعزير، والعبادة، وإخراج
الصدقة، والكفارة، والنذر" لأنه حق لله تعالى،
أشبه الحد. وقال أحمد: لا يستحلف الناس على
صدقاتهم. وقال أيضا: لم أسمع ممن مضى جواز
الأيمان إلا في الأموال خاصة.
(2/501)
"ولا على شاهد
أنكر شهادته، وحاكم أنكر حكمه" لأن ذلك لا
يقضى فيه بالنكول، فلا فائدة بإيجاب اليمين،
فيه.
"ويحلف المنكر في كل حق آدمي يقصد منه المال:
كالديون، والجنايات، والإتلاف" لعموم الخبر،
وهو ظاهر في القصاص، لقوله: "لو يعطى الناس
بدعواهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم" .
"فإن نكل عن اليمين قضى عليه بالحق" لما تقدم
عن عثمان، رضي الله عنه.
"وإذا حلف على نفي فعل نفسه، أو نفي دين عليه:
حلف على البت" أي: القطع، لحديث ابن عباس أن
النبي، صلى الله عليه وسلم، استحلف رجلا،
فقال: "قل: والله الذي لا إله إلا هو ما له
عندي شيء " رواه أبو داود. ولأن له طريقا إلى
العلم به، فلزمه القطع بنفيه.
"وإن حلف على نفي دعوى على غيره: كمورثه
ورقيقه وموليه: حلف على نفي العلم" نص عليه
أحمد، وذكر حديث النسائي عن القاسم بن عبد
الرحمن عن النبي، صلى الله عليه وسلم: "لا
تضطروا الناس في أيمانهم أن يحلفوا على ما لا
يعلمون" وفي حديث الحضرمي "ولكن أحلفه: والله
ما يعلم أنها أرضي اغتصبنيها أبوه" رواه أبو
داود. ولأنه لا يمكنه الإحاطة بفعل غيره، فلم
يكلف ذلك، بخلاف فعل نفسه. وعنه: اليمين كلها
على نفي العلم. وبه قال: الشعبي والنخعي. ذكره
في الشرح.
"ومن أقام شاهدا بما عداه: حلف معه على البت"
فيما يقبل فيه الشاهد واليمين.
(2/502)
"ومن توجه عليه
حلف لجماعة: حلف لكل واحد يمينا" لأن حق كل
منهم غير حق البقية، وهو منكر للجميع.
"ما لم يرضوا بواحدة" فيكتفى بها، لأن الحق
لهم، وقد رضوا بإسقاطه فسقط.
(2/503)
فصل واليمين المشروعة التي يبرأ بها المطلوب
هي:
اليمين بالله تعالى لقوله عز وجل:
{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا
نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً} 1 وقوله:
{فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا
أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا} 2 وقوله:
{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ} 3 قال بعض المفسرين: من أقسم
بالله فقد أقسم بالله جهد اليمين واستحلف
النبي، صلى الله عليه وسلم، ركانة بن عبد يزيد
في الطلاق: "والله ما أردت إلا واحدة" ؟ فقال:
والله ما أردت إلا واحدة وقال عثمان لابن عمر
تحلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه.
وسواء كان الحالف مسلما أو كافرا، عدلا أو
فاسقا، لأن النبي، صلى الله عليه وسلم، لما
قال للحضرمي: "فلك يمينه" فقال: إنه رجل فاجر
لا يبالي على ما حلف عليه، قال: "ليس لك إلا
ذلك" وقال الأشعث بن قيس: كان بيني وبين رجل
من اليهود أرض فجحدني، فقدمته إلى
ـــــــ
1 المائدة: من الآية/106.
2 المائدة: من الآية/107.
3 الأنعام: من الآية/109.
(2/503)
النبي، صلى
الله عليه وسلم، فقال لي: "هل لك بينة؟" فقال:
لا، قال لليهودي "احلف ثلاثا" ، قلت: إذا يحلف
فيذهب بمالي. فأنزل الله تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً...} 1 إلى
آخر الآية رواه أبو داود. وأين حلف، ومتى حلف
أجزأ وحلف عمر في حكومته لأبي في النخل في
مجلس زيد، فلم ينكره أحد.
"وللحاكم تغليظ اليمين فيما له خطر، كجناية لا
توجب قودا وعتق، ومال كثير قدر نصاب الزكاة"
لا فيما دون ذلك، لأنه يسير.
"فتغليظ يمين المسلم أن يقول: والله الذي لا
إله إلا هو عالم الغيب والشهادة، الرحمن
الرحيم، الطالب الغائب، الضار النافع، الذي
يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور" لحديث ابن
عباس السابق. وقال الشافعي: رأيتهم يؤكدون
اليمين بالمصحف، ورأيت ابن مارن قاضي صنعاء
يغلظ اليمين به. قال ابن المنذر: لا نترك سنة
النبي، صلى الله عليه وسلم، لفعل ابن مارن ولا
غيره.
"ويقول اليهودي: والله الذي أنزل التوراة على
موسى، وفلق له البحر، وأنجاه من فرعون وملئه،
ويقول النصراني: والله الذي أنزل الإنجيل على
عيسى، وجعله يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه
والأبرص" لحديث أبي هريرة قال: قال رسول الله،
صلى الله عليه وسلم، - يعني: لليهود - "نشدتكم
بالله الذي أنزل التوراة على موسى: ما تجدون
في التوراة على من زنى؟" رواه أبو داود.
وتغليظها في الزمان: أن يحلف بعد العصر، لقوله
تعالى:
ـــــــ
1 آل عمران: من الآية/77.
(2/504)
|