نَيْلُ المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب

كتَاب الحَجِّ
بفتح الحاءِ لا بكسرها في الأشهر (1)

[حكم الحج]
(وهو واجبٌ مع العمرة في العُمْرِ مَرّةً) واحدة على الفور (وشرط الوجوب خمسَةُ أشياء،) وهي تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسمٌ يُشتَرَطُ للوجوبَ والصحّةِ، وهو (الإِسلام، والعَقْلُ)، وقسم يشترط للوجوب والإجزاءِ دون الصحّة (و) هو (البلوغُ وكمال الحريّة،) وقسمُ يشتَرَطُ للوجوب دونَ الإِجزاءِ، وهو الاستطاعة. وسيأتي بيانها إن شاء الله تعالى (2). (لكن يصحّان) أي الحجُ والعمرة (من الصغير والرقيق) وكذا المكاتَبُ، والمُدَبَّرُ، وأُمُّ الولَدِ، والمعتَقُ بعضُه، والمعلَّقُ عِتْقُهُ على صفة.
(ولا يُجْزِيانِ) أي حجُّ الرقيقِ والصغيرِ وعمرتهُما (عن حجّة الإسلام وعمرتِهِ).
(فإنْ بلَغَ الصغيرُ) عاقلاً (أو عتقَ الرقيقُ) كله (قبل الوقوف) بعرفة (أو بعدَهُ) أي عتقُ بعد الدَّفْعِ من عَرَفَةَ، (فإن عادَ) إلى عرفة (فوقَفَ)
__________
(1) و (الحِجُّ) بكسر الحاء: لغة مشهورة أيضاً، وقرئ بها في مواضع منها قوله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}.
(2) وشرط سادس في حق المرأة، وهو المحرم. وسيأتي قريباً.

(1/287)


وكان وقوفه الذي عاد إليه (في وقته، أجزأه عن حجة الإسلام، ما لم يكن أحْرَمَ مُفْرِداً أو قارناً وسعى بعد طواف القدوم).
(وكذلك تجزئ العمرةُ إن بَلَغ أو عتقَ قَبْل طوافها) قال في شرح الإقناع: أي الشروع فيهِ.
(الخامس) الذي هو شرطٌ لوجوبِ الحجِّ والعمرةِ دون الإِجزاء: (الاستطاعةُ) للآية.
ولا تبطل الاستطاعة بجنونٍ، فَيُحَجُّ عنه.
(وهي مِلْكُ زادٍ) يحتاجه في سفره، (و) ملك وعائِهِ، وملك (راحلةٍ) لركوبِهِ بآلةٍ لها (تصلُحُ) الراحلةُ وآلَتُها (لمثله.)
ومحلُّ من يشترط له الراحلةُ إذا كان في مسافة قصر عن مكة، لا في دونِها، إلا لعاجزٍ.
ولا يلزَمُهُ السعيُ حبواً ولو أمْكَنَهُ.
وأما الزادُ فيعتبر، قَرُبَتِ المسافَةُ أو بَعُدَتْ مع الحاجة إليه (أو مَلَكَ ما يقدر به على تحصيل ذلك) أي الزاد والراحلة، من نقدٍ أو عَرْضٍ. وإنما تكون استطاعة (بشرطِ كونهِ) أي الزاد والراحلة الصالحان لمثله وآلتهما (فاضلاً عما يحتاجه من كُتُبٍ) فإن استغنى بإحدى نسختين من كتابِ باع الأخرى، (ومسكنٍ) يصلح لمثلِهِ، (وخادم) لأنه من الحوائج الأصليّةِ بدليلِ أن المفلسَ يُقَدَّمُ بِهِ على غرمائِهِ (وأن يكون فاضلاً) أيضاً (عن مُؤْنَتِهِ ومؤنة عياله على الدوامِ) من أجورِ عقارٍ، أو ربحِ بضاعةٍ، أو صناعةٍ، أو عطاءٍ من ديوان، ونحوها. ولا يصير مستطيعاً ببذلِ غيرِهِ له زاداً وراحلةً، ولو كان أبَاهُ أو ابنَه.
ومنها (1) سعة وقت.
__________
(1) أي: من الاستطاعة سعة الوقت للحج أو العمرة.

(1/288)


(فمن كملت له هذه الشروط) المذكورة (لزمه السعيُ فوراً) فيأثَمُ إن أخَّرَهُ بلا عذرٍ. وإنّما يلزمه السعيُ إذا كملت له الشروطِ (إن كان في الطريق أمنٌ) ولو غيرَ الطريقِ المعتادِ بحيث يمكن سلوكهُ حَسَبَ ما جرتْ به العادةُ، برًّا كان أو بحراً.
ويشتَرَطُ أن لا يكون في الطريق خَفَارَةٌ (1) فإن كانت يسيرة لزمه. قاله الموفق والمجد.
ويشترط أن يوجد فيه العَلفُ على المعتادِ فلا يلزَمُة حملُ ذلك لكل سفره.
(فإن عَجَز عن السعيِ) من كملتْ له هذه الشروط المذكورة (لعذرٍ ككبرٍ أو مرضٍ لا يرجى برؤُهُ) كزمانةٍ ونحوها (لزمه) فوراً (أن يقيمَ نائباً حرًّا ولو) كان النائب (امرأةً) عن رجلٍ، ولا كراهة (يحجُّ ويعتمر عنه.)
ويكون ابتداءُ سيرِ النائبِ (من بلده) أي بلد المستنيب أو من الموضع الذي أيسر فيه. (ويجزئه) أي المستنيب (ذلك) أي الحج والعمرة (ما لم يَزُلِ العذر قبل إحرام نائِبِهِ) فإنه لاَ يجزئه، للقدرةِ على المبدَلِ، وهو حجّه بنفسه (2) قبل الشروَع في البدل، وهو حجة النائب.
وليس لمن يرجى زوال عِلَّتِهِ أن يستنيبَ. فإن فَعَلَ لم يجزه. (فلو مات) من لزمه حج أو عمرة (قبل أن يستنيبَ) فرَّط أو لا (وَجَبَ أن يُدْفَعَ من) أصلِ (تركتِهِ لمن يحجُّ ويعتمرُ عنه) من حيثُ وَجَبَا.
(ولا يصحُّ ممن لم يحجَّ عن نفسِهِ حجٌّ عن غيرِهِ.) فإن فَعَلَ انصرفَ إلى حجَّة الإِسلام.
__________
(1) الخفارة لم تفسرها بهذا الاستعمال كتب اللغة فلعلها استعملت له متأخرة وفي المغني (3/ 219) "وإن كان في الطريق عدو يطلب خفارة .... " فيظهر أن المراد بها ما يطلبه من المارة المتغلّبون على الطرق، من اللصوص وأشباه اللصوص.
(2) "وهو حجه بنفسه" ساقط من (ف).

(1/289)


(وتزيدُ الأنثى) على الرجل (شرطاً سادساً) للحجِّ والعُمْرَةِ (وهو أن تَجِدَ لَها زوجاً أو مَحْرَماً) وهو من تَحْرُمُ عليه على التأبيد بنسب، كالأب والابنِ، أو سببٍ مباحٍ، كابن زوجها أو أبيه، (مكلَّفاً) فلا يكون الصبيُّ ولا المجنون مَحْرَماً.
وشُرِطَ كونُه مسلماً ذكراً ولو عبداً.
(و) يُشترط أن (تقدِرَ على أُجرتِهِ و) تقدر (على الزادِ والرَّاحلةِ لَهَا ولَهُ) صالحيْنِ لهما.
(فإن حجت بلا مَحْرمٍ حَرُمَ) عليها ذلك (وأجْزَأ) حجُّها، كمن حج وقد تركَ حقاً يلزمه من ديَنٍ أو غيره.

(1/290)


باب الإحْرَام
(وهو) أي الإِحرام (واجبٌ من الميقاتِ).
ومَنْ منزلُه دون الميقات فميقاتُهُ منزلُه) لحجٍّ وعمرة.
وُيحْرِمُ مَنْ بمكةَ لحجٍّ منها، ويصحّ من الحلِّ ولا دَمَ عليه، ولعمرةٍ من الحلّ، ويصح من مكةَ وعليه دم.
(ولا ينعقد الإِحرامُ مع وجودِ المجنون أو الإِغماء أو السكْر) لعدم أهليته للنية.
(وإذا انعقد) الإحرام (لم يبطلْ إلا بالردّة) لا بجنونٍ وإغماءٍ وسكرٍ وموتٍ، (لكن يَفْسُدُ) الإِحرام (بالوطءِ في الفرْجِ قبل التحلُّلِ الأول) ويأتي، (ولا يبْطُلُ، بل يلزمه إتمامه والقضاءُ.) على الفور، ولو نذراً أو نفلاً إن كانَا مكلَّفين، وإلا بعده بعد حجة الإِسلام على الفور (1). حيث لا عذر في التأخير.
(ويخيَّر من يريدُ الإِحرام بين) ثلاثة أشياء: (أن ينوي التمتعَ، وهو أفضل) الثلاثة؛ (أو ينويَ الإِفراد) وهو يلي التمتع في الأفضلية؛ (أو)
__________
(1) أي وإن لم يكن من أفسد نسكه بالوطء مكلّفاً، كصغيرة، فتقضي على الفور، أي في السنة التالية في الحج مثلاً. لكن إن بلغت في تلك السنة، فإنها تحج أولاً حجة الإسلام ثم تتبعها بحجة القضاء.

(1/291)


ينوي (القرآن) وهو يلي الإِفراد في الفضل.
(فالتمتع): أي كيفيته (هو أن يُحْرِمَ بالعمرةِ في أشهر الحج) وهي شوّالٌ، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، لأن العبرة (1) عنده في الشهر الذي يهل بها فيه لا الشهر الذي يحل منها فيه (2)، (ثم بعد فراغِهِ) أي تحلُّلِهِ (منها) أي العمرة (يُحرِم بالحجّ في عامه).
(والإِفراد) أي كيفيته: (هو أن يحرم بالحجِّ ثم بعد فراغِهِ منه) أي من الحج (يحرم بالعمرة).
و (القران) أي كيفيته: (هو أن يحرم بالحجِّ والعمرةِ معاً) أي في مرَّةٍ واحدة (أو يحرِمَ بالعمرة) أولاً (ثم يُدخِلَ الحج عليها) أي على العمرةِ.
ويشترط لصحة إدخال الحج على العمرة أن يكون ذلك (قبل الشروعِ في طوافِها) أي طوافِ العمرة. ولا يشترط للِإدخال كونُ ذلك في أشهرِ الحج ولا كونُ ذلكَ قبل طوافِهَا وسعْيها لمن معه هدي. قال في المنتهى: ويصح ممن معه هديٌ ولو بعد سعيها.
(فإن أحرم بهِ) أي بالحجّ (ثم) أحرمَ (بها) أي العمرة (لم يصحّ) إحرامُهُ بها.
(ومن أحرَمَ وأطْلَقَ) بأن نوى نفسَ الإِحرام ولم يعيِّنْ نُسُكاً (صحَّ إحرامُه وصَرَفَه) أي الإِحرامَ (لما شاءَ) من الأنساك بالنيّة لا باللفظ. (وما عملَ قبلُ فلغوٌ) أي قبل التعيين.
والأوْلى صرفه إلى العمرة، (لكن السنَّةُ لمن أرادَ نسكاً) من حجٍّ أو عمرةٍ أو قرانٍ (أن يعيِّنَهُ) ويلفِظَ به.
__________
(1) (ب، ص) "لأن العمرة"، والتصويب من (ف) ونبه عليه عبد الغني.
(2) حاصل هذه العبارة أنه لو أحرم بالعمرة في رمضان، وتحلل منها في شوال، لم يصرْ متمتعاً لأن العبرة بالشهر الذي يُهِلُّ بها فيه الخ (عبد الغني).

(1/292)


ولم يذكروا مثلَ هذا في الصلاةِ لِقَصِر مدَّتها وتيسُّرِها في العادة. (وأن يشتَرِطَ فيقول: اللَّهُمَّ إني أريدُ النُّسُكَ الفلانيّ، فيسِّرْهُ لي، وتقبله مني، وإنْ حَبَسَنِي حابسٌ فَمَحِلِّي حيثُ حَبَسَني).
ويستفيد بذلك قائله أنَّه متى حُبِسَ بمرضٍ أو عدوٍّ أو غيرِ ذلك حلّ ولا شيءَ عليهِ، إلا أن يكونَ مَعَهُ هدي فيلزَمُه نحره.

(1/293)


باب مَحْظورات الإِحرَام
أي ما يمتنع على المحرم فِعلُها شرعاً.
(وهي) أي محظورات الإِحرام (سبعة أشياء) قال في الإِقناع والمنتهى: تسعة (1):
(أحدها: تعمُّد لبس المخيطِ على الرَّجُل) قلَّ أو كَثُر، في بدنِهِ أو بعضِه مما عُمِلَ على قدرِهِ، من قميصٍ وعمامةٍ وسراويلَ وبُرْنُسٍ ونحوها، ولو دِرْعاً منسوجاً أو لِبْداً معقوداً (حتى الخَفَّيْنِ) أو إحداهما. قال القاضي: ولو كانَ غيرَ معتادٍ، كجَوْرَبٍ في كفٍّ، وخفٍّ في رأسٍ، فعليه الفدية.
(الثاني) من المحظورات: (تعمد تغطيةِ الرأسِ) والأذنان منه (من الرجل) فإن غطاهُ أو بعضَه بملاصقٍ معتادٍ كعمامةٍ وخرقةٍ (ولو) كانت التغطيةُ (بطين) أو نورَةٍ أو حِنَّاءٍ (أو) سَتَرَهُ بغيرِ لاصقٍ كـ (استظلالٍ بمحملٍ) وهَوْدَجٍ وعمارية ومحارة (2)، فإن فعل حرم وفَدَى، لا إن حَمَل على رأسِهِ شيئاً، أو نصب حيالَه شيئاً، أو استظلّ بخيمةٍ أو شجرةٍ أو بيت.
__________
(1) أي بجعل قصّ الأظفار محظوراً مستقلاً. وجعل المباشرة محظوراً مستقلاً كذلك فليس ما في المتن ناقصاً عما في المنتهى (عبد الغني).
(2) العمارية نوع من السفن والمحارة قال في القاموس شبه الهودج.

(1/294)


(و) من محظورات الإِحرام (تغطيةُ الوجهِ من الأنثى) ببُرْقُعٍ أو نقابٍ أو غيره، (لكن تَسْدِلُ) الثوبَ من فوق رأسها (على وجهها،) ولو مسَّ الثوبُ وجهها (للحاجَةِ.) والحاجَةُ كمرورِ الرجالِ قريباً منها. قال في الإِقناع: فإن غطتْهُ لغيرِ حاجة فَدَتْ.
ويحرم عليها ما يَحرم على الرجلِ، إلاَّ لُبْسَ المخيطِ، وتظليلَ المحملِ، ونحوه.
(الثالث) من المحظورات: (قَصْدُ شمِّ الطيب) فإن لم يقصد شمَّه، كالجالِسِ عند العطّارِ لحاجةٍ، وداخلِ السوقِ، أو داخلِ الكعبةِ ليتبرَّك بها، ومن شرى طيباً لنفسِهِ أو للتجارة، ولا يمسُّه، فغير ممنوعٍ لأنّه لا يمكنه الاحتراز منه، (ومسُّ ما يعلَقُ) بالممسوسِ كماءِ وردٍ، (واستعمالُهُ) أي استعمالُ المُحْرِمِ الطيبَ (في أكلٍ أو شربٍ) أو ادِّهانٍ، أو اكتِحالٍ أو آسْتِعَاطٍ أو احتِقانٍ (بحيث يَظْهَرُ طعمه أو ريحه) فيما أكله أو شربه أو ادَّهَنَ به أو اكتحل به أو استَعَط به أو احتقن به.
(فمن لبس أو تطيّب أو غطّى رأسَه ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً فلا شيء عليه).
(ومتى زال عذره) المسقط للفديةِ، بأن ذكر الناسي، أو عَلِمَ الجاهل، أو زال الإِكراه (أزاله) أي أزال اسْتِدَامَةَ ذلك المحظور، بأن ينزِعَ ما لبسه، أو يغسلَ الطيبَ، أو يزيل ما على رأسه (في الحال) ومن لم يجد ماء لغسل طيبٍ مَسَحَه بخرقة أو نحوها، أو حكَّه بتراب ونحوه حسب الإِمكان.
وله غَسْله بيده، وبمائع.
(وإلا) بأن أَخّرَهُ لغير عذرٍ (فَدَى) لأن ذلك استدامةُ محظورٍ من غير عذر.

(1/295)


(الرابع) من المحظوراتِ: (إزالةُ الشَّعر من جميعِ البدن) بحلقٍ أو غيره (ولو من الأنْفِ) فإن كان له عذرٌ من مرضٍ أو قملٍ أو قروحٍ أو صُدَاعٍ أو شدةِ حرٍّ لكثرته مما يتضرر بإبقاء الشعر، أزالَة وفَدَى.
(و) من المحظوراتِ (تقليمُ الأظفار) من يدٍ أو رِجْلٍ بلا عذرٍ، فإن كان لعذرٍ، كما لو كُسِرَ ظُفْرُهُ فأزالَهُ فلا يفدي.
(الخامس) من المحظورات: (قتل الصيْدِ البرَيِّ) فيباح -لا بالحَرَم- صيدُ ما يعيش في الماءِ، كالسمكِ. ولو عاش في برٍّ أيضاً كسُلَحْفَاةٍ وسَرطَانٍ. وأما طير الماء فهو بَرِّيّ، (الوحْشيِّ) فلا تأثير لحَرَمٍ ولا إحرامِ في تحريم حيوانٍ انسيٍّ، كبهيمة الأنعام، والخيل، والدجاج (المأكولَ) وكذا المتولد منه ومن غيره، والاعتبارُ بأصله، فحمامٌ وبطٌّ وحشيٌّ، ولو استأنس.
(و) يَحْرُم على المُحْرِم (الدلالةُ عليه) أي الصيد والإشارة (والإِعانة على قتله) ولو بإعارَةِ سَلاحٍ ليقتله، أو يذبَحَهُ، سواء كان معه ما يقتلُهُ بهِ أوْ لا (وإفسادُ بيضِهِ، وقتل الجراد) لأنه طيرٌ برّيٌّ أشبه العصافير، (والقملِ) لأنه يَتَرَفَّهُ بإزالَتِهِ، كإزالةِ الشَعَرِ. قالَ في الإقناع: ويحرم على المحرِمِ، لا على الحلال ولو في الحَرَمِ، قتلُ قملٍ وصئبانِهِ من رَأسِهِ وبَدَنِهِ، ولو بزئبقٍ ونحوه.
و (لا) يحرم قتل (البراغيث) والطَّبُّوعِ (1) (بل يسن قتلُ كل مؤذٍ مطلقاً) مع وجودِ أذًى وبدونِهِ كالأسَدِ والنَّمِرِ والذئب والفَهْدِ والبازي والصقر والحيةِ والعقرب والزَّنْبورِ والبَقِّ والبعوض.
(السادس) من المحظورات: (عقد النكاح) فلا يتزوّج، ولا يزوّج غيره بولايةٍ ولا وكالةٍ، ولا يَقْبَل له النكاحَ وكيلُه الحلالُ، ولا تُزَوَّجُ
__________
(1) الطَّمُّوعُ كَتَنُّورٍ دُوَيْبَّةٌ ذات سمٍّ، أو من جنْسِ القِردان، لعضّته ألمٌ شديد (القاموس).

(1/296)


المحرمة (ولا يصحُّ) النكاحُ في ذلك كله.
(السابع) من المحظورات: (الوطءُ في الفرج) وطئاً يوجب الغسلَ، ولو كان المجامع ساهياً أو جاهلاً أو مكرَهَاً، نصاً، أو نائمةً (ودواعيه).
(و) من المحظورات (المباشرة) أي مباشرة الرجل المرأة (دون الفرج) لما في ذلك من اللذة واستدعاء الشهوةِ المنافي ذلك للِإحرام، ولا يُفْسِدُ النسك، (والاستمناءُ).
(وفي جميعِ المحظوراتِ) المتقدمةِ (الفديةُ إلا قتلَ القملِ وعقْدَ النكاحِ) لأنه عقْدٌ فَسَدَ لأجل الإِحرام فلم تجبْ بهِ فديةٌ.
ولا فرق فيه بين الإِحرام الصحيَح والفاسِدِ. قالَه في الشرح.
(وفي البيضِ والجرادِ قيمتُهُ مكانه) أي مكانَ الإِتلافِ. ولا يضمَنُ البيضَ المَذِرَ، ولا ما فيه فرخٌ ميّتٌ سوى بيضِ النَّعَامِ، فإن لِقِشْرِهِ قيمةً، فيضمنه بقيمته.
(وفي الشَّعْرَةِ) الواحدةِ (أو الظُّفْرِ) الواحِدِ (إطعامُ مسكينٍ). وفي قص بعض الظفر ما في جميعه، وكذا قطعُ بعضِ الشعرة. (وفي الاثنين) من ظفرين أو شعرتين (إطعام اثنينِ) أي مسكينين.
(والضرورات تبيح للمُحْرِمِ المحظورَاتِ، ويفدي.)

(1/297)


باب الفديَة
أي هذا بابٌ يُذْكَر فيه أقسامُ الفديةِ، وقدرُ ما يَجِبُ، ومستحقُّه.
(وهي ما) أي دمٌ أو صومٌ أو إطعامٌ (يجبُ بسبب الإِحرام) كدمِ تمتّعٍ، ودمِ قرانٍ، وما وَجبَ لِتَرْكِ واجبٍ، أو إحصَارٍ (1)، أو لفعلٍ محظور (أو) بسببِ (الحرمِ) المكّيّ، كالواجبِ في صيدِهِ ونباتِهِ.
وله تقديمها على المحظورِ إذا احتاج إلى فعلِهِ لعذرٍ، كاحتياجٍ لحلقٍ ولبسٍ وطيبٍ.
(وهي) أي الفدية (قسمان) في التحقيق: (قسمٌ على التخيير، وقسمٌ على الترتيب).
(فقسم التخيير: كفدية اللُّبسِ والطيب وتغطيةِ الرأس) من الذكر والوجهِ من الأنثى (وإزالةِ أكثرَ من شعرتينِ، أو) تقليمِ أكثرَ (من ظفرين، والإِمناءِ بنظرةٍ، والمباشرةِ بغير إنزال منيّ، يخير) المخرِجُ في فديةِ اللُّبسِ والطيبِ وتغطيةِ الرأسِ وإزالة أكثرَ من شعرتين أو ظفرين والإِمناء بنظرة (2) (بين ذبح شاةٍ، أو صيامِ ثلاثةِ أيامٍ، أو إطعام ستة مساكينٍ،
__________
(1) المعروف أن دم التمتع والقران والإحصار وجزاء الصيد لم يرد تسميته فدية بل هو هدي.
(2) تكرار لا داعي له.

(1/298)


لكل مسكينٍ) منهم (مُدُّ بُرٍّ) فقط، (أو نصفُ صاعٍ من غيرِه) أي من تمر أو شعيرٍ.
(ومن التخييرِ جزاءُ الصَّيدِ، يخيَّر فيهِ) من وجبت عليه الفديةُ (بينَ) ذبحِ (المثلِ) للصيدِ (من النَّعَمِ، أو تقويمِ المثليّ بمحل التلفِ) أي تلفِ الصيدِ أو بِقُرْبِ محلّ التلف (ويشتري بقيمَتِهِ طعاماً يجزئ إخراجه (في الفُطْرَةِ) كواجبٍ في كفارةٍ، (فيطعمُ كل مسكينٍ مُدَّ بُرٍّ أوْ) يطعم كل مسكينٍ (نصفَ صَاعٍ من غيره) أي غيرِ البُرّ، (أو يصومُ عن طعامِ كلِّ مسكينِ يوماً) والأصل في ذلك قوله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} الآية.

[هدي التمتع والقران والإِحصار]
(وقسم الترتيب: كدمِ المُتْعةِ) وهو دم نُسُكٍ, لا جُبْرَانٍ. يجب بسبعة شروط:
أحدها: أن لا يكون من حاضري المسجدِ الحرامِ، وهم أهلُ مكةَ، والحَرَمِ، ومن كانَ دونَ مسافَةِ قصر.
الثاني: أن يعتمر في أشْهُرِ الحجِّ. والاعتبارُ بالشَّهْرِ الذي أحرم فيه.
الثالث: أن يحجَّ من عامِهِ.
الرابع: أن لا يسافر بين الحجِّ والعمرةِ مسافةَ قصرٍ. (1)
الخامس: أن يُحلَّ من العمْرة قبل إحرامه بالحج.
السادس: أن يحرم بالعمرةِ من الميقاتِ، أو من مسافة قصرٍ فأكثر عن مكة.
__________
(1) أي من سافر من مكة بعد أن أحلَّ من عمرته مسافة قصرٍ ثمَّ عاد محرماً للحجِّ فليس بمتمتع، ولا دم عليه. وقيل متمتعٌ إلا إذا خَرَجَ من الميقاتِ كمن سافر إلى المدينة، قبل الحج، ثم رجع محرماً به.

(1/299)


السابع: أن ينوي التمتُّعَ في ابتداءِ العمرةِ، أو أثنائها. ولا يعتبر كون النسكين عن واحد.
(و) دمِ (القِرانِ، و) (1) دمِ (تركِ الواجِبِ) كتركِ الإِحرام من الميقات، (و) دم (الإِحصارِ، والوطءِ ونحوه).
(فيجبُ على متمتِّعٍ) استوفى الشروط السبعة (وقارنٍ، وتاركِ واجبٍ: دمٌ. فإنْ عَدِمَه) أي عَدِمَ المتمتِّع والقارن الهديَ (أوْ) عدم (ثَمَنَه صامَ ثلاثة أيامٍ في الحجِّ) قيل: معناه في أَشهُرِ الحجّ، وقيل في وقْتِ الحج.
(والأفْضَل كون آخِرِها) أي آخر الثلاثةِ أيام (يومَ عَرَفَة.)
ووقتُ وجوبِ صومِ الأيام الثلاثة وقت وجوبِ الهديِ.
(وتصح أيامَ التشريقِ) لقولِ ابن عمر وعائشة رضي الله تعالى عنهما: "لم يُرَخَّصْ في أيام التَّشْريقِ أنْ يُصَمْنَ إِلا لَمِنْ لم يِجَدِ الَهدْي" رواه البخاري. (و) صامَ (سَبعةً إذا رجعَ إلى أهلهِ.)
وإن صام السبعةَ قبل أن يرجعَ إلى أهلِهِ بعد إحرامٍ بحجٍّ أجزأ، لكن لا يصحُّ أيامَ منًى لبقاء أيَّامِ الحجِّ.
(ويجب على محصَرٍ دمٌ) ينحره بنيّةِ التحلُّلِ وجوباً مكانَهُ. (فإن لم يجدْ) هدياً (صامَ عشرةَ أيامِ) بنيّة التحلل، (ثم حلّ.)
وليس له التحلُّل قبل ذَلك.
(ويجب على من وطئَ في الحجِّ قبل التحلُّلِ الأول، أو أنزل منِيًّا بمباشرةٍ، أو استمناءٍ، أو تقبيلٍ، أو لمس بشهوةٍ، أو تكرارِ نظرٍ، بَدَنَةٌ، فإن لم يجدها) أي البدنَةَ (صام عشرةَ أيامٍ: ثلاثة أيامٍ في الحج، وسبعةً إذا رجعَ) من أفعالِ الحجّ، كدم المتعة، لقضاء الصحابةِ رضي الله عنهم.
__________
(1) معطوف على (دم المتعة) الذي في المتن قبل أسطر.

(1/300)


(و) يجب في الوطء (في العمرة إذا أفسدها قبل تمام السعي شاةٌ.)
ولا يفسِدُها الوطء بعد الفراغِ من السعيِ وقبل حلقٍ، كما لو وطئ في الحجّ بعد التحلل الأول.
ويجب المضيّ في فاسدها والقضاءُ فوراً.
(والتحلُّلُ الأوّلُ) من الحجّ (يحصلُ باثنين من) ثلاثة: (رمىٌ وحلقٌ وطوافٌ).
(ويحل له) بالتحلل الأول (كل شيءٍ إلا النساء، و) التحلُّل الثاني (يحصلُ بما بقي، مع السعي إن لم يكن سعى قبل.)

فصل [في جزاء الصيد]
(والصيد الذي له مِثْلٌ من النَّعَم) يجب فيه ذلك المثل، وذلك (كالنعامَةِ، وفيها بدنة) رُوِيَ ذلكَ عن عمر وعثمان وعليّ وزيد وابن عباس ومعاوية.
(وفي حمارِ الوحش) بقرة (و) في (بقرِه بقرةٌ) روي ذلك عن ابن مسعود.
(وفي الضَّبُعِ كبشٌ) قال الإِمام: حكَم فيها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشٍ.
(وفي الغزال شاةٌ) روي ذلك عن عليَ وابن عمر.
(وفي الوَبْرِ) وهو دُويبَةٌ كَحْلاَءُ دونَ السِّنَّورِ لا ذَنَبَ لها: جَدْيٌ.
(و) في (الضبّ جدي له نصف سنة).
(وفي اليربوعِ جَفْرَةٌ لها أربعة أشهر).

(1/301)


(وفي الأرنب عَنَاقٌ) وهي الأنثى من أولاد المعزِ (دون الجفرة).
(وفي الحَمَاَم) أي في كلِّ واحدةٍ من حمام (وهو) أي الحمام (كل ما عَبَّ الماَءَ) أي وضع منقارَهُ فيه وكَرَعَ، وهَدَرَ (كالقَطَا والوَرَشَانِ (1) والفواخِتِ شاةٌ).
وما لا مثل له) وهو سائر الطير ولو أكبر من الحمام (كالأوزِّ) بفتحِ الهمزة والواوِ وتشديدِ الزاي (والحُبارى والحَجَل) والكبير من طيرِ الماءِ (والكُرْكِيّ فـ) تجب (فيه قيمته مكانَه.)

فصل [في صيد الحرم ونباته]
(ويحرم صيدُ حرم مكةَ. وحكمهُ صيدِ الإِحرام) فيَحْرُمُ على المُحِلِّ، إجماعاً. فمن أتلف فيه شيئاً، ولو كان المتلف كافراً أو صغيراً أو عبداً، فعليه ما على المحرِم.
ولا يلزمُ المحرمَ جزاءان.
(ويحرمُ قطعُ شجرِهِ) حتى ما فيه مضرةٌ كعَوْسَجٍ وشوكٍ وسواكٍ ونحوِهِ، إلا اليابِسَ وما زال بفعلِ غيرِ آدميٍّ، أو انكَسَرَ ولم يَبِنْ، وإلاَّ الإِذْخِرَ والكمأةَ والفَقْعَ، وإلا الثَّمَرَة، وإلا ما زرعَه آدميٌّ من بقلٍ ورياحينَ، وشجرٍ غُرِسَ من غيرِ شَجَرِ الحَرَمِ، فيباح أخذه والانتفاعُ به.
(و) يحرم قطع (حشيشِهِ).
(والمُحِلُّ والمحرم في ذلك سواء، فيضمَنُ الشجرةَ الصغيرة عرفاً) إن قُلِعَتْ أو كسرت (بِشَاةٍ، و) يضمَنُ (ما فوقَها) من الوسْطى والكُبْرى
__________
(1) في الأصول (الورش)، والتصويب من شرح المنتهى. والوَرَشانُ طائرٌ يسمى أيضاً "ساقَ حُرٍّ" ولحمه أخفّ من لحم الحمام (قاموس).

(1/302)


(ببقرة، و) يضمن (الحشيشَ والوَرَقَ بقيمتِهِ) وُيضمنُ غصنٌ بما نقصَ.
فإن استُخلِفَ شيءٌ منها سقَطَ ضمانُهُ.
ويحرُمُ صيدُ حَرَمِ المدينةِ وحشيشُهُ وشجرهُ إِلاَّ لحاجةٍ. ولا جزاءَ فيما حرم من ذلك.
(ويجُزِئ عن البدنةِ بقرة، كعكسه) أي كما تجزئ البقرة عن البدنة (1).
(ويجزئ عن سبع شِيَاه بدنة أو بقرةٍ، والمراد بالدم الواجب) حيث أطلق (ما يجزئ في الأضحية) وهو (جَدَع ضأنٍ أو ثني مَعْزٍ)، ويأتي (أو سُبْعُ بدنةٍ أو سُبْعُ بقرةٍ، فإن ذبح إحداهما فأفضل، وتجب كلها.)
__________
(1) في (ب، ص) زيادةٌ هنا "تجزئ البدنة عن البقرة" فحذفنا تبعاً لِـ (ف).

(1/303)


باب أركَانِ الحجِّ وَوَاجبَاتِه
(أركانِ الحجِّ أربعة):
(الأول: الإحرام).
(وهو مجرّد النية) أي نية النُّسُكِ، وإن لم يتجرّدْ من ثيابِهِ المحرَّمة على المحرم. (فمن تركه) أي الإِحرامَ بالنية (لم ينعقدْ حجُّه).
(الثاني) من أركان الحج: (الوقُوف بعَرَفَةَ.)
وكلها موقف إلاَّ بطنَ عُرَنَة.
(ووقته) أي الوقوف (من طلوعِ فجر يومِ عرفةَ) واختار الشيخُ وغيره وحكى إجماعاً: من زوال يوم عرفة (إلى طلوعِ فجرِ يومِ النحر).
فمن حصل في هذا الوقتِ بعرفةَ لحظةٌ واحدةٌ، وهو أهلٌ) للوقوف بأن يكون مسلماً عاقلاً محرماً بالحج (ولو مارًّا) بها، (أو نائماً، أو حائضاً، أو جاهلاً أنها عَرَفَةُ صحَّ حجُّه) وأجزأه عن حجَّة الإِسلام، إن كان حرًّا بالغاً، وإلاَّ فَنَفْلٌ. (لا) يصحّ الوقوفُ (إن كان سَكْرانَ) لعدم عقله (أو مجنوناً أو مغمًى عليه.) إلا أن يفيقوا وهم بها قبل خروج وقت الوقوف. وكذا لو أفاقوا بعد الدَّفْعِ منها وعادوا فوقفوا بها في الوقت.
(ولو وقَفَ الناسُ كلُّهم أو) وقف الناس كلهم (إلا قليلاً في اليوم

(1/304)


الثامِن، أو) وقف الناس كلهم، أو كلهم إلاَّ قليلاً، في اليوم (العاشِرِ خطأٌ) فيهما لا عمداً (أجزأهم) الوقوف.
(الثالث) من أركان الحج: (طوافُ الإِفاضةِ) ويسمى طوافَ الزيارةِ، والصَّدَرِ، لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}.
وهو الطوافُ الواجبُ الذي به تمامُ الحجّ.
(وأول وقتِهِ) أي طواف الإِفاضة (من نصفِ ليلةِ النَّحْرِ لمنْ وقفَ، وإلا) بأن لم يكن وَقَفَ (فـ) أوله في حقه (بعد الوقوف).
(ولا حدَّ لآخِرِهِ.)
والأفضل يوم النحر.
(الرابع) من أركان الحج: (السعيُ بين الصفا والمروة).

[واجبات الحج]
(وواجباته) أي الحج (سبعة: الأوّل: الإِحرامُ من الميقات) المعتبر؛ (و) الثاني: (الوقوفُ) بعرفة (إلى الغروبِ لمن وقَفَ نهاراً؛ و) الثالثُ: (المبيت ليلَة النحر بمزدَلِفَةَ إلى بعدِ نصفِ الليل) إن وافاها قبله؛ (و) الرابع: (المبيت بمنًى لياليَ) أيام (التشريق؛ و) الخامس: (رميُ الجمار مرتَّباً) بأن يرميَ أوَّلاً التي تلي مسجد الخَيْفِ، ثم الوسطى، ثم العقبة. فإن نَكَّسَهَ لم يُجْزِهِ؛ (و) السادس: (الحلقُ أو التقصيرُ؛ و) السابع: (طوافُ الوداع.) قال الشيخ: وطواف الوداع ليسَ من الحجّ، وإنما هو لكلِّ من أراد الخروجَ من مكةَ.
والرَّمَلُ والاضطباعُ ونحوهما سُنَنٌ للحجّ.

[أركان العمرة]
(وأركانُ العمرة ثلاثة): الأول: (الإِحرام؛ و) الثاني: (الطواف؛

(1/305)


و): الثالث: (السعي) بين الصفا والمروة.
(وواجبُها) أي العمرة (شيئان): الأول: (الإِحرام بها من الحلّ.
و) الثاني: (الحلقُ أو التقصير) فمن أتى بواحدٍ منهما فقد أتى بالواجب. (والمسنون كالمبيتِ بمنًى ليلةَ عرفةَ؛ وطوافِ القدومِ) للمُفْرِدِ والقارِنِ وهو تحيَّةُ الكعبة؛ (والرّمَلُ في الثلاثةِ الأشواط (1) الأوَلِ منه) أي من طواف القدومِ لغير راكبِ، وحاملِ معذورٍ، ونساءٍ، ومحرمِ من مكةَ أو مِنْ قُرْبِها فلا يسنُّ؛ (والاضطباعُ فيه) أي في طوافِ القدومَ، فيجعلُ وَسَطَ الرداءِ تحت عاتِقِهِ الأيمنِ، وطرفيه على عاتقه الأيسرِ؛ (وتجرد الرجل من المخيطِ عند) إرادة (الإِحرام).
(و) يسن لمريد الإِحرامِ (لُبْسُ إزَارٍ أو رداءٍ أبيضَيْنِ) لحديثِ "خيرُ ثيابِكُمُ البياض" (2) (نظيفين) جديدين أو غسيلين، فالرداء على كتفيه، والإِزار في وسطه.
ويجوز في ثوبٍ واحدٍ.
(و) تسن (التلبية.) وابتداؤها (من حين الإِحرام.) ويسنُّ ذكرُ نُسُكِهِ فيها، والإِكثار منها (إلى أول الرمي) أيْ رميِ جمرة العقبة.
(فمن تَرَكَ ركناً) من الأركان المتقدمة، أو ترك النية لركن كطوافٍ وسعيٍ (لم يتم حجُّه إلا به) (3) لكن لا ينعقد نسكٌ بلا إحرامٍ
__________
(1) (ب، ص): أشواطٍ. والصواب ما أثبتناه.
(2) حديث "خير ثيابكم البياض. ألبسوها أحياءكم. وكفنوا فيها موتاكم" رواه الدارقطني في الأفراد من حديث أنس. وابن ماجه والطبراني في الكبير والحاكم من حديث ابن عباس (الفتح الكبير) وهو صحيح (صحيح الجامع الصغير).
(3) أما الوقوف بعرفة فليس يشترط فيه، بل لو حصل فيها نائماً أجزأه. وتقدم قريباً. ولعل الطواف والسعي كذلك. والأصح عند الشافعية أن أفعال الحج لا يشترط لكل منها النية اكتفاء بالنية عند عقد الإحرام لأن الحج عبادة واحدة مكونة من أفعال، فيكفي فيه نِية واحدة، كالصلاة. وانظر (الأشباه والنظائر ص 27)

(1/306)


حجاً كان أو عمرةً. (ومن ترك واجباً) لحج أو عمرة ولو سهواً (فعليه دم وحجه صحيح ومن ترك مسنوناً فلا شيء عليه) ويكره أن يقال حجة الوداع.

فصل [في شروط الطواف]
(وشروط صحة الطوافِ أحد عشَر) شيئاً:
الأول: (النية) كسائر العبادات؛ (و) الثاني: (الإِسلام؛ و) الثالث (العقل؛ و) الرابع: (دخول وقته) وتقدم؛ (و) الخامس: (ستر العورة) كما تقدم؛ (و) السادس: (اجتناب النجاسة) لأنه صلاة؛ (و) السابع (الطهارة من الحدث) لا لطفلٍ دون التمييز، والطهارةُ من الخَبَثِ, فتشترط. قال في شرح الإِقناع: وظاهره حتى للطفل، (و) الثامن (تكميل السبعة؛ و) التاسع: (جعل البيتِ عن يساره؛ و) العاشر (كونه ماشياً مع القدرة) على المشي؛ (و) الحادي عشر: (الموالاةُ فيستأنِفُهُ لحدثٍ فيه. وكذا لقَطعٍ طويلٍ، وإن كان) القطعُ (يسيراً، أو أُقيمت الصلاة، أو حضَرَ جنازةً صلى وبَنَى من الحَجَرِ الأسود).

[سنن الطواف]
(وسننه) أي الطواف، عشرة: (استلام الركن اليماني بيده اليمنى، وكذا) يسن استلام (الحجر الأسود، وتقبيله،) والاضطباع، والرَّمَلُ والمشيُ في موضعِهِ (1) (والدعاء، والذكر، والدُنُّو من البيت،) فلو طاف
__________
(1) وموضع الرمل في الأشواط الثلاثة الأولى فيما عد ما بين الركن اليماني والركن الأسود، والمشي فيما سوى ذلك.

(1/307)


في المسجدِ، وكان بعيداً عن البيت، صحّ. فإن طافَ خارجَ المسجدِ لم يصحّ، (والركعتان بعده) أي بعد الطواف.

فصل [في شروط السعي]
(شروط صحة السعي ثمانية): الأول: (النية) لحديث إنما الأعمال بالنيات؛ (و) الثاني: (الإِسلام؛ و) الثالث: (العقل؛ و) الرابع: (الموالاة) والمرأة لا تَرْقى الصفا ولا المروة، ولا تسعى شديداً، (و) الخامس: (المشيُ مع القدرة؛ و) السادس: (كونه بعد الطواف، ولو) كان الطوافُ الذي تقدَّم عليه (مسنوناً، كطوافِ القدوم؛ و) السابع: (تكميل السبع؛ و) الثامن: (استيعاب ما بين الصفا والمروة) فإن لم يَرْقَهمَا ألصَقَ عَقِبَ رجليه بأسفلِ الصَفَا، وأصابِعَهما بأسفل المروة، ثم ينقلب إلى الصفا، فيمشي في موضعِ مَشْيِهِ، ويسعى في موضع سعيه (1)، إلى الصَّفَا، يفعل ذلك سبعاً، يحتسب بالذهاب سعيةً، وبالرجوع سعيةً، يفتَتِح بالصَّفَا، ويختتم بالمروة.
(وإن بدأ بالمروة لم يَعْتَدَّ بذلك الشوطِ) لمخالفته قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خذوا عني مناسككم" (2).

[سنن السعي]
(وسننه) أي السعي (الطهارة، وستر العورة، والموالاة بينه وبين الطواف).
__________
(1) يسعى بين الميلين الأخضرين في الأشواط كلها، ويمشي في ما سوى ذلك.
(2) حديث "خذوا عني مناسككم" رواه مسلم (كتاب الحج ح/ 310) وأحمد.

(1/308)


(وسُنَّ أن يشرب من ماء زمزمَ لما أحبَّ) لحديث جابر مرفوعاً "ماءُ زمزمَ لما شرِبَ له" رواه ابن ماجة (1). ويتضلع منه، زاد في التَّبصرة: (وَيرشُّ على بدنِهِ وثَوْبِهِ، ويقول: "بسم الله اللهمَّ اجعلهُ لَنَا عِلْماً نافِعاً ورزقاً واسعاً وَرِيًّا) بفتح الراء وكسرها (وشِبَعاً) بكسر الشين، وفتح الباء وكسرها وسكونها (وشفاءً من كل داء، واغسلْ به قلبي، واملأهُ من خشيَتِكَ) زاد بعضهم "وحكمتك".
(تسنُّ زيارة قبرِ النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبرِ صاحبيهِ رضوانُ الله وسلامُهُ عليهمَا) بعد الفراغ من الحجِّ، قال ابن نَصْرِ الله: لازمُ استحبابِ زيارةِ قبر النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - استحبابُ شَدَّ الرحال إليها، لأن زيارتَهُ للحاج بعد حجِّه لا تمكن بدون شدَّ الرحال، فهو كالتصريح باستحباب شد الرحال لزيارته - صلى الله عليه وسلم - (2).
(وتستحب الصلاة بمسجده - صلى الله عليه وسلم -، وهي) فيه (بألفِ صلاةٍ. وفي المسجدِ الحرامِ بمائة ألفِ) صلاةٍ. (وفي المسجد الأقصى بخمسمائة) صلاةٍ.
__________
(1) حديث "ماء زمزم لما شرب له" رواه أيضاً أحمد (منار السبيل) وهو صحيح كما في (الإِرواء ح 1123).
(2) شرع لنا في ديننا شد الرجال إلى مساجد معينة، لا إلى القبور. لكن من شدّ الرحل لمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وحصل هناك، سُنَّ له زيارة قبْره - صلى الله عليه وسلم - وقبري صاحبيه الإمامين الجليلبن وقبور الصحابة رضوان الله عليهم.

(1/309)


باب الفوَات وَالإِحصَار
[الفوات] سَبْقٌ لا يُدْرَكُ. (والإِحصار) الحبس.
(من طلع عليه فجرُ يوم النحرِ ولم يقف بعرَفةَ لعذرٍ حصرٍ أو غيرِه فاتَهُ الحجَّ) في ذلك العام، لانقضاءِ زمنِ الوقوفِ، وسقط عنه توابع الوقوف، كمبيتٍ بمزدلفة، ومنًى، ورمي جمار، (وانقلبَ إحرامُه عمرةُ)، فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصِّر، سواء كان قارناً أو غيرَهُ، إن لم يَخْتَرِ البقاءَ على إحرامه، ليحُجَّ من قابِلٍ. (ولا تجزئ) هذه العمرة التي انقلب إحرامه إليها (عن عمرةِ الإِسلام، فيتحلّلُ بها، وعليه دمٌ) إن لم يكن اشتَرَطَ أوّلاً، هدْيُ شاةٍ أو سُبْعُ بَدَنَةٍ، (و) عليه (القَضَاءُ) ولو كان الحج الفائت نَفْلاً (في) العام (القابل) لأن الحج يلزم بالشروعِ فيهِ، فيصير كالنذر، بخلافِ سائر التطوعاتِ (لكنْ لو صُدَّ عن الوقوفِ، فتحلَّلَ قبل فواتِهِ، فلا قضاء) عليه. (ومن حُصِرَ عن البَيْتِ، ولو) كان الحَصْرُ (بعد الوقوفِ) أو مُنِعَ من دخولِ الحَرَمِ ظلماً، أو جنَّ، أو أُغميَ عليهِ، ولم يكَنْ له طريقٌ آمِن إلى الحجّ، وفات الحجُّ (ذبح هَدْياً) أي شاة أو سبع بدنة (بنية التحلُّل) أي ينوي به التحلل، وجوباً، (فإن لم يجد) المحصَرُ هدياً (صامَ عشَرَةَ أيامٍ بِنِيَّتِهِ) أي نية التحلل، (وقد حَلَّ،) ولا إطعام فيه.

(1/310)


(ومن حُصِرَ عن طوافِ الأفاضَةِ فقط وقد رمى وحَلَق لم يتحلل حتى يطوف) للِإفاضَةِ بفعل الطوافِ، لأن إحرامَهُ إنما هو عن النساءِ، والشرعُ إنما ورد بالتحلل من الإحرام التامَ الذي يحرِّم جميع محظوراتِهِ. ومتى زال الحصْرُ أتى بالطوافِ، وقد تمَّ حجُّهُ.
(ومن شَرَط في ابتداء إحرامِه أن "مَحِلِّي حيثُ حَبَسْتَنِي" أو قال) في ابتداء إحرامه: "إن مرضتُ أو عَجَزْتُ أو ذهبتْ نفقتي فلي أن أَحلَّ" كان له أن يتحلّل) إذا وجد الشرط (متى شاءَ، من غير شيءٍ، ولا قضاءَ عليه) لأنه إذا شرط شرطاً كان إحرامه الذي فعلَهُ إلى حينِ وجود الشرطِ، فصار بمنزلة من أكْمَلَ أفعالَ الحجّ.

(1/311)


باب الأضْحيَة
(وهي سنة مؤكّدة، وتجب الأضحية بالنذر،) كقوله: هذه صدقة. قال في الموجز والتبصرة: إذا أوجبَها بلفظِ الذَّبْحِ كـ"للهِ عليَّ ذبحها" لزمه، وتفريقُها على الفقراء.
(و) تتعين (بقوله: هذه أضحية) فتصير واجبةً بذلك، كما يعتَقُ العبدُ بقول سيده: هذا حرٌّ، لوضْعِ هذه الصيغة له شرعاً (أو لله).
ولو أوجَبَها ناقصةً نقصاً يمنع الإِجزاءَ لزمه ذبحُها ولم تجزِهِ عن الأضحية الشرعية. ولكن يُثَابُ على ما يتصدقُ به منها.
(والأفضل) في الأضحية (الإِبلُ، فالبقر، فالغنم) إن أُخْرِجَ كاملاً، ثم يلي ذلك شَرِكَة في بدنةٍ أو بقرةٍ.
(ولا تجزئ) الأضحية (من غير هذه الثلاثة،) ولا الوحشيُّ، ولا مَنْ أَحَدُ أَبَوَيْهِ وحشيٌّ.
(وتجزئ الشاةُ عن واحدٍ وعن أهل بيته وعياله) قال صالح (1): قلت لأبي: يضحَّى بالشاةِ عن أهلِ البيت (2)؟ قال: نعم، لا بأس، "قد ذبحَ النبي - صلى الله عليه وسلم - كبشين، فقال: بسْمِ اللهِ. اللهُمَّ هذا عن مَحَّمدٍ وأهلِ
__________
(1) هو صالح ابن الإِمام أحمد.
(2) (ب، ص): "عن المبيت" والتصويب من (ف).

(1/312)


بيته. وقربَ الآخَرَ وقال: بسم الله. اللهم هذا منكَ ولكَ، عَمنْ وَحَّدكَ من أمتي" (1) (وتجزئ البدنة والبقرة عن سبعةٍ) في قول أكثر أهل العلم، وُيعْتَبَرُ ذبحها عنهم (2).
(وأقل سنَّ ما يجزئ من الضأنِ مَا لَهُ نصفُ سنةٍ) وُيسمَّى جَذعاً. قال الخِرَقيُّ: سمعت أبي يقول: سألت بعض أهل البادية: كيفَ يعرفونَ الضأنَ إذا أجذع؟ قالوا: لا تزال الصوفةُ قائمةً على ظهرِهِ ما دام حَمَلاً، فإذا نامَتِ الصُّوفَةُ على ظَهْرِهِ عُلِمَ أنه قد أجذع؛ (ومن المعز ما له سنةٌ) كاملة لأنه قبل ذلك لا يُلْقِحُ؛ (ومن البقرِ والجاموسِ ما له سَنَتانِ؛ ومن الإِبل ما له خمسُ سنينَ) كواملُ.
(وتجزئ الجَمَّاءُ) في الأضحية، والهدي، وهي التي لم يخلق لها قرن، (والبتراءُ،) وهي التي لا ذَنَبَ لها خِلْقَةً، أو مقطوعاً، (والخَصِيُّ) وهو ما قطعت خصيتاه، أو سُلَّتَا أو رُضَّتَا.
(و) تجزئ (الحامل) من الثلاثَةِ، كالحائِل. (وما خلق بلا أُذُنٍ، أو ذَهَبَ نصفُ أَلْيَتِهِ أو أذنه.)
وتكره معيبةُ أذنٍ بخرْقٍ، أو شَقٍّ، أو قطعٍ لنصفٍ أو أقلّ. وكذا قرن.
و (لا) تجزئ (بيَنة المرض، ولا) تجزئ (بيّنة العَوَرِ بأن انخسفت عينُها، ولا قائمةُ العينينِ مع ذهاب أبصارِهما) لأن العمى يمنَعُ مَشْيَها مع رفقتها، ويمنع مشاركَتَها في العَلَف، (ولا عجفاءُ وهي الهزيلة التي لا مُخَّ فيها، ولا) تجزئ (عرجاء، وهي التي لا تُطِيقُ مشياً مع صحيحةٍ،
__________
(1) حديث "ذبح بكبشين وقال ... الخ" أصله في الصحيحين من حديث أنس. وأما بهذا اللفظ فلم نره بين الروايات التي جمعها في (إرواء الغليل).
(2) أى ما لا تجزئ عنهم جميعاً في النسك حاى ينوي عن كل منهم. ولو أراد بعضهم اللحم وبعضهم النسك فلكل ما نوى.

(1/313)


ولا) تجزئ (هَتْماءُ، وهي التي ذهبتْ ثناياها من أصلِها،) ذكره جماعةٌ. وقال في التلخيص: وهو قياس المذهب (ولا عَصْمَاءُ، وهي ما انكسر غلافُ قرنِها) قاله في المستوعِبِ والتلخيص، (ولا خصيٌّ مجبوبٌ، ولا عضباءُ، وهي ما ذهب أكثر أذنِها أو قرنِها) لأن الأكثر كالكل.

فصل
(ويسن نحر الإِبلِ قائمةً) معقولةً يَدًها اليُسْرى، فيطعُنُها بالحربةِ في الوَهْدَةِ التي بين أصل العنق والصدر.
(و) يسن (ذَبْحُ البقَرَ والغَنَم على جنبها الأيسرِ موجَّهة لِلقْبلَةِ) قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}.
(ويسمِّي حينَ يحرّكُ يده بالفِعْلِ) وجوباً. ويأتي حكم ما إذا نسي في الذّكاة (1) (ويكبِّر) استحباباً (ويقول: اللهُمَّ هذا مِنْكَ ولَكَ) فإن اقتصر على التسمية تَرَكَ الأفضلَ، وأجْزَأ.
(وأول وقت الذبح) لأضحيةٍ وهديِ تطوّعٍ ونذْرٍ ودمِ متعةٍ وقرانٍ (من بعد أسبق صلاةِ العيدِ بالبلد) لمن صلَّى، (أو) من بعد (قَدْرِها) أي قدرِ الصلاة (لمن لم يصلِّ، فلا تجزئ قبل ذلك).
(ويستمرّ وقت الذبح نهاراً وليلاً إلى آخر ثاني أيامِ التشريق).
(فإن فاتَ الوقتُ) أي وَقْتُ الذبح على من عليهِ واجبٌ (قضى الواجبَ) وفَعَلَ كالأدَاءِ. (وسقط التطوُّع) بخروج وقتِ الذبح، لأن المحصِّل للفضيلةِ الزمانُ وقد فاتَ. فلو ذبحَهُ وتصدق به كان لحماً تصدق به، لا أضحيةً في الأصحِّ.
__________
(1) (ب، ص): الزكاة، وهو خطأ مطبعيّ.

(1/314)


(وسن له) أي للمهدي (الأكلُ من هدي التطوّعِ) لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} وأقلُ أحوالِ الأمْرِ الاستحبابِ، والمستحب أن يأكل اليَسِيرَ.
(و) له الأكل (من أضحيتِهِ)، وله التزود والأكل كثيراً (ولو واجبةً.)
ولا يأكل من هديٍ واجبِ، ولو كان إيجابهُ بِنَذْرٍ أو تعيينٍ، (ويجوزُ) الأكلُ (من) دمِ (المتعةِ وَالقِرانِ).
(ويجب) على المضحي (أن يتصدقَ بأقلِّ ما يَقَعُ عليه اسمُ اللَّحْمِ) فإن أكلها كلَّها ضمن أقلَّ ما يقع عليه اسم اللحم، بمثلِهِ لَحْماً.
(ويعتبر تمليكُ الفقيرِ، فلا يكفي إطعامُهُ) كالواجِبِ في الكفارة، ومن مات بعد ذبحِهَا قامَ وارِثُهُ مقامَهُ في الأكْلِ والصَّدَقَةِ والإِهداء.
(والسنة أن يأكُلَ من أُضْحِيَتِهِ ثُلُثَها، ويهديَ ثلثها، ويتصدق بثلثها) نصّ عليه، لقول ابن عمر: الهدايَا والضحايَا ثُلُثٌ لَكَ، وثُلُثٌ لأهلك، وثلثٌ للمساكين، لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} فالقانع السائِلِ، والمعتَرُّ الذي يعتريك، أي يعترضُ لك لتطعمه ولا يسأَلُ. وقال إبراهيم وقتادة: القانِعُ الجالِسُ في بيتِهِ المتعفّف، يقْنَعُ بما يُعطى ولا يَسْألُ، والمعْتَرّ السائل.
(ويحرُمُ بيعُ شيءٍ منها) أي الذبيحة، هدياً كانت أو أضحيةً، ولو كانت تطوُّعاً، لأنها تعيّنَتْ بالذبح (حتَّى) إنه يحرم عليه أن يبيع شيئاً (من شعرها وجلدها) وجُلها، بل ينتفع بذلك، أو يتصدَّق به.
(ولا يعطِي الجزارَ بأجْرَتِهِ منها شيئاً) للخَبَرِ، ولأنَهُ بيعٌ لبعْضِ لحمِها، ولا يصح. (وله إعطاؤُه) منها (صدقةً وهديةً) لأنه في ذلك كغيرِهِ، بل هو أولى، لأنه باشَرَهَا وتاقَتْ نَفْسُهُ إليها.

(1/315)


(وإذا دخل العَشْرُ حَرُمَ على من يضحِّي أو يضحَّى عنه أخذُ شيءٍ من شعرِهِ أو ظفرِهِ أو بشرتِهِ، إلى الذبح) ويزول التحريمُ بذبح الَأوَّل لمن يضحّي بِأعْدادٍ.
تنبيه: لا يمتنع عليه النِّساءُ والطيبُ واللِّباس.
(وَيسَنُّ الحلقُ بعدَه) أي الذبح.
فإنْ أَخذَ شيئاً من شعره أو ظفره أو بشرته تابَ إلى الله تعالى، لوجوب التوبة من كل ذنب. قال في شرح الإِقناع: قلت: وهذا إذا كان لغير ضرورة، وإلا فلا إثم، كالمحرِمِ وأولى. انتهى. ولا فدية معه.

فصل (في العقيقة)
فسّرها إمامُنا رضي الله تعالى عنه، ورضي عنّا بِه، بأنها الذبحُ نفسه. انتهى.
(وهي) التي تذبح عن المولود (سنةٌ) مؤكَّدة (في حقِّ الأب) فلا يعقُّ غيره (ولو) كان الأب (معسراً) غنيًّا كان الولَدُ أو فقيراً.
(و) المسنون ذبحُه (عن الغلامِ شاتان) مُتَقارِبتَانِ سِنًّا وشَبَهاً، فإن تعذّرتا فواحدة. فإن لم يكن عند الأب شيء اقترض وعقّ، قال أحمد: أرجو أن يخلف الله عليه لأنه أحيا سنة. قال الشيخ: محله لمن له وفاء.
ولا يعقُّ عن نفسه إذا كبر.
(وعن الجارية شاة) لأنها على النصف من أحكام الذكر.
(ولا تجزئ بدَنَة ولا بقرة إلا كاملة) فلا يجزئ فيها شِرْك. وينويها عقيقة.

(1/316)


(والسنة ذبحها في سابعِ يومِ ولادته) لحديث سمرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل غلامٍ رهينةٌ بعقيقته، تذبح عنه يوم سابعه، ويسمى فيه، وُيحْلَق رأسِه" رواه آهل السنن كلهم. وقال الترمذي حسن صحيح. قال في المستوعِبِ، "عيون المسائل: ضحوَة النهار.
ويجوز قبل السابع.
(فإن فَاتَ ففي أربعة عشر، فإن فات ففي إحدى وعشرين).
(ولا تعتبر الأسابيع بعد ذلك) بل يفعل في كل وقتٍ لأن هذا قضاء، فلم يتوقف كالأضحية.
(وكره لطخُهُ) أي المولود (من دمها.) وإن لطخ رأسَهُ بزعفرانٍ فلا بأس. وقال ابن القيم: سنّة.
وينزِعها أعضاءً، ولا يكسر عظمَها.
وطبخُها أفضل من إخراج لحمها نيئاً، فتطبخ بماءٍ وملحٍ، ثم يطعَمُ منها الأولادُ والمساكينُ والجيرانُ.
(ويسن الأذانُ في أذن المولود اليمنى) ذكراً كان أو أنثى (حين يولد، والإِقامةُ في) أذنه (اليسرى) عن الحسن بن علي مرفوعاً "من ولد له مولودٌ، فأذَّنَ في أذنه اليمنى، وأقام في أذنه اليسرى، دُفِعَتْ عنه أم الصبيان" (1).
ويحنك بتمرةٍ، بأن تُمْضَغَ ويدلك بها داخلُ فمِهِ، ويفتح فمه حتى ينزل إلى جوفه منها شيء.
(وسن أن يُحْلَقَ رأسُ الغلام في اليوم السابع) من ولادته (ويتصدق بوزنه فضة) ولا يحلق رأس الجارية.
__________
(1) حديث "من ولد له مولود فأذن في أذنه ... " رواه ابن السني، كما في منار السبيل. قال في الإِرواء (ح 1174): حديث موضوع فيه يحيى بن العلاء قال فيه أحمد: كذاب يضع الأحاديث.

(1/317)


(ويسمّى) المولود (فيه.)
والتسمية للأب، فلا يسميه غيره مع وجوده.
ويسن أن يحسّن اسمه.
(وأحب الأسماء) إلى الله تعالى (عبد الله، وعبد الرحمن،) وكل ما أضيف إلى الله تعالى، كعبد الرحيم، وعبد القادر.
وتجوز التسمية بأكثر من اسمٍ واحدٍ، والاقتصار على واحد أولى.
(وتحرم التسمية بعبد غير الله، كعبد النبي، وعبد المسيح) وعبدِ الكعبة. وأما قوله عليه الصلاة والسلام: أنا ابن عبدِ المطلب، فليس من باب إنشاء التسمية، بل من باب الإِخبار بالاسم الذي عرف به المسمَّى، والإِخبارُ بمثل ذلك على وجهِ تعريفِ المسمَّى لا يحرم. فباب الإِخبار أوسع من باب الإِنشاء.
(وتكره) التسمية (بحربٍ، ويَسَارٍ، ومُبارَكٍ، ومُفْلِحٍ، وخيرٍ، وسرورٍ، ونعمةٍ،) ونجيحٍ، وبَرَكَةَ، ورباحٍ، وكذا ما فيه تزكية كالتقيّ والزكيّ (لا بأسماءِ الملائكة،) فلا تكره التسمية بأسمائهم، (و) كذلك التسمية بأسماء (الأنبياء) كإبراهيم، ونوحٍ، ومحمد، وصالح، عليهم السلام.
(وإن اتفق وقتُ عقيقةٍ وأضحيةٍ أجزأتْ إحداهما عن الأخرى) مقتضاه إجزاء إحداهما عن الأخرى وإن لم ينوها. وعبارة الإِقناع: ولو اجتمع عقيقةٌ وأضحيةٌ، ونوى بالأضحية عنهما، أجزأت عنهما، نصاً. قال ابن القيم في كتابه "تحفة الودود في أحكام المولود": كما لو صلى ركعتين، ينوي بهما تحية المسجد وسنة المكتوبة، أو صلى بعد الطواف فرضاً أو سنَّةً مكتوبةً وقع عنه وعن ركعتي الطواف. وكذلك لو ذبح المتمتع والقارن شاةً يوم النحر أجزأُ عن دمِ المتعة وعن الأضحيةِ. انتهى.

(1/318)