نَيْلُ المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب

كتَاب الجهَاد
مصدر جاهَدَ جهاداً. هو لغةً: بذلُ الطاقةِ والوسْعِ. وشرعاً قتال الكفار.
(وهو فرضُ كفايةٍ) ومعنى فرض الكفاية أنه إذا أقام به من يكفي سقط عن سائِرِ الناس، وإن لم يقم به من يكفي أثم الناس كلهم.
(ويسنُّ) بتأكُّدٍ (مع قيام من يكفي به) لما روى أبو داود بإسناده عن أنس، قال. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ثلاثة من أصلِ الإِيمان: الكفُّ عمن قال لا إله إلا الله: لا يُكفِّرُهُ بِذنْبِ، ولا يُخْرِجُهُ عن الإِسلام بعملٍ. والجهادُ ماضٍ منذ بعثني الله تعالىَ إلى أن يقاتلَ آخرُ أمَّتي الدجالَ، لا يبطله جَوْرُ جائِرٍ، ولا عَدْلُ عادِلٍ، والإِيمانُ بالأقدار." (1)
(ولا يجب الجهاد إلا على ذكرٍ) فلا يجب على أنثى ولا خنثى مُشْكِلٍ، (حرٍّ) فلا يجب على عبدٍ، (مسلمٍ) لأن الإِسلام شرطٌ لوجوب سائر الفروع، (مكلفٍ) لأن التكليف شرط لوجوب سائر الفروع؛ (صحيحٍ) بأن يكون سالماً من العمى والعَرَجِ والمَرَضِ، للآية
__________
(1) حديث "ثلاثة من أصل الإِيمان ... " رواه باللفظ المذكور في الشرح أبو داود (وابن ماجه؟) وفي ضعيف الجامع الصغير: هو حديث ضعيف.

(1/319)


الشريفة (1)، (واجدٍ من المال ما يكفيه ويكفي أهله في غيبته) لقوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ} (ويجد مع مسافةِ قصرٍ ما يحمله) ولا تعتبر الراحلة مع قرب المسافة، كالحج.
ويعتبر أن يكون ذلك فاضلاً عن قضاءِ دينِه، وأُجْرَةِ مسكَنِهِ، وحوائِجِهِ، كالحجّ.
(وسن تشييع الغازي، لا تلقِّيهِ) وذَكر الآجرّي استحباب تشييعِ الحاجِّ وَوَدَاعِهِ ومسألتِهِ أن يدعوَ له.
(وأفضلُ متطوَّع به) من العبادات (الجهادُ). قال أحمد: لا أعلم شيئاً من العَمَلِ بعد الفرائِضِ أفضلَ من الجهاد.
(وغزو البحر أفضل) من غزو البرّ، لأن شهادة البحر تكفِّر كل ذنب حتى الدين، (وتكفر الشهادة جميع الذنوب سوى الدين) قال في الفروع: قال شيخنا: وغيرَ مظالِمِ العبادِ، كقتلٍ، وظُلمٍ، وزكاة، وحج (2). وقال شيخنا: من اعتقدَ أن الحجَّ يُسْقِطُ ما وجب عليه من الصلاة والزكاة، فإنه يستتاب، فإن تابَ وإلا قُتِلَ.
ولا يسقُطُ حقُّ الآدميّ من دمٍ أو مالٍ أو عِرْضٍ بالحجِّ إجماعاً.
وتكفر طهارةٌ وصلاةٌ ورمضانُ وعرفةُ وعاشوراءُ الصغائر فقط.
(ولا يتطوع به) أي الجهاد (مدينٌ) آدمي (لا وفاء لَهُ) سواء كان الدين حالاً أو مؤجَّلاً (إلا بإذن غريمه) أو بدفعه له رهناً يمكن استيفاء الدين من ثمنه.
(ولا) يتطوع به (من أَحَدُ أبويه حرٌّ مسلم إلا بإذنه) لأن برّ الوالدين
__________
(1) وهي قوله تعالى {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} قيل إنها في التخلف عن الجهاد، وقد فُسرت بغير ذلك.
(2) في منار السبيل: وزكاة وحج أخرهما. وهذا أوضح، فإن الحج ليس من حقوق العباد.

(1/320)


فرض عين، والجهاد فرضُ كفاية، وفرضُ العينِ يقدَّم. فأما إن كانا غير مسلمين فلا إذن لهما. وكذا إن كانا رقيقين، على الأصح. وكذا إن كانا مجنونين، لا رضا جدٍّ وجدةٍ.

[حكم الرباط]
(ويسن الرباط) في سبيل الله تعالى، (وهو لزوم الثَّغْر) والثغرُ كل مكان يخيفُ أهله العدو أو يخيفهم (للجهاد).
(وأقله) أي الرباط (ساعة) قال أحمد: يَوْمٌ رباطٌ، وليلةٌ رباطٌ، وساعةٌ رباط. (وتمامُهُ أربعونَ يوماً) روي عن ابن عمر: تمامُ الرباطِ أربعونَ يوماً. رواه أبو الشيخ في كتاب الثواب.
(وهو) أي الرباط (أفضلُ من المُقَام بمكة) والصلاة بها أفضل من الصلاة بالثغر.
(وأفضله ما كان أشدَّ خوفاً) لأن مقامه به أنفع.

[حكم الفرار من الزحف]
(ولا يجوز للمسلمين الفرار من) كفارٍ (مثليهم، ولو) كان الفار (واحداً من اثنين) كافرين، ولو مع ظن تلفٍ، إلا متحرفِينَ لقتالٍ، أو متحيِّزينَ إلى فئةٍ. (فإن زادوا) أي زاد الكفار (على مثليهم) أي على مثلي المسلمين (جاز) للمسلمين الفرار.

[الهجرة]
(والهجرةُ واجبةٌ) وهي الخروج من دار أهل الكفر إلى دار أهل الإسلام (على كل من عجز عن إظهار دينه بمحلٍّ يغلب فيه حكم الكفر أو البدع المضلة) كالرَّفْضِ والاعتزال، لأن القيام بأمر الدين واجب

(1/321)


على القادر، والهجرةُ من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ومحل الوجوب إن قدر (فإن قدر على إظهار دينه) في المحل الذي يغلبُ فيه حكم الكفر والبدع المضلة (فـ) الهجرة في حقه (مسنونة).

فصل [في الأسرى]
(والأسارى من الكفار على قسمين):
(قسمٌ يكون رقيقاً بمجرد السبْيِ، وهم النساء والصبيان) والمجانين، من كتابيٍّ وغيرهم.
(وقسمٌ: لا، وهم الرجال البالغون المقاتلون. والإِمام فيهم مخيَّرٌ) تخييرَ مصلحةٍ واجتهادٍ في الأصلح، لا تخييرَ شهوةٍ (بين قتلٍ) لعموم قوله تعالى: {اقْتُلوا اُلمْشْرِكِين}، (ورقٍّ) لأنه يجوز إقرارهم على كفرهم بالجزية، فبالرّق أولى، لأنه أبلغ في صَغَارِهِمْ، (وَمَنٍّ) لقوله تعالى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} (وفداءٍ بمالٍ) للآيةِ الشريفةِ أو بأسيرٍ مسلمٍ) لأنه - صلى الله عليه وسلم - فدى رجلينِ من أصحابِهِ برجلينِ من المشركِينَ، من بني عُقَيْل. رواه أحمد والترمذي.
(ويجب عليه فعلُ الأصلح) من هذه الأمور المذكورة.
(ولا يصحُّ بيع مستَرقٍّ منهم) أي من الأسارى (لكافرٍ) ولو كان المسَتَرقُّ كافراً على الأصحّ.
(وُيحْكَمُ بإسلامِ من لم يبلغ) من السبْيِ (من أولادِ الكفارِ عند وجودِ أحدِ ثلاثةِ أسبابِ):
(أحدها: أن يسَلم أحد أبويه خاصَّةً) أو اشتبَهَ ولدُ مسلمٍ بولدِ

(1/322)


كافرٍ، فَيُحْكَم بإسلامِ ولدِ الكافر، ولا يُقْرَعُ، لئلا يقع ولد المسلم للكافر.
(الثاني: أن يُعْدَمَ أحدهما بدارنا) كزنا ذمِّيَّةٍ ولو بكافرٍ، فتأتيَ بولد، فالولد مسلم، نصًّا.
(الثالث: أن يسبيه مسلمٌ منفرداً عن أحَدِ أبويِهِ) لأنّ الدينَ إنما يثبتُ له تبعاً، وقد انقطعتْ تبعيته لأبويه لانقطاعِهِ عنهما، وإخراجِه عن دارِهِمَا، ومصيرِه إلى دار الإِسلام تبعاً لسابيه المسلم، فكان تابعاً له في دينه.
(فإن سباه ذمّيٌّ فعلى دينه.) قال في الإِنصاف: لو سبى ذميّ حربيًّا تَبعَ سابِيَهُ حيث يتبعُ المُسْلِمَ، على الصحيح من المذهب (أو سُبِيَ) حال كونه (مع أبويه، فعلى دينهما) وملكُ السابي له لا يمنع اتباعَة لأبويْهِ في الدينِ، بدَليل، ما لو ولد في ملكه من عبده وأمته الكافرين.

فصل [السلب للقاتل]
(ومن قتلَ قتيلاً) أو أثْخَنَهُ (في حالةِ الحربِ فَلَهُ) أي المسلمِ (سَلَبُهُ) وكذا لو قَطَعَ مسلم من أهل الجهاد أربعةَ كافرٍ (1) فإنه يستحق سَلَبَهُ دون قاتِلهِ، لأن القَاطِعَ هو الذي كفى المسلمين شره.
(وهو) أي السَّلَبُ (ما) كان (عليه) أي على الكافر المقتول (من ثيابٍ وحليٍّ وسلاحٍ، وكذا دابَتُهُ التي قاتَلَ عليها وما) أي والذي (عليها)
__________
(1) أربعةَ كافرٍ: أي أطرافه الأربعة، يديه ورجليه.

(1/323)


أي فيكون له ما كان لابِسَهُ من ثيابٍ وعمامةٍ وقلنْسوَةٍ ومِنْطِقَةٍ ودرعٍ ومِغْفَرٍ وبَيْضَةٍ وَتَاجٍ وَأَسْوِرَةٍ ورانٍ وخفٍّ، (وأما نفقته) أي المقتول (ورحلُهُ وخيمَتُه وجَنِيبُهُ) لدابتِهِ التي لم يكن راكبَها حال القتال (فغنيمةٌ.)
ويجوز سَلْبُ القتلى وتركُهْمُ عراةً.
تنبيه: يكره التلثُّم في القتال على أنفٍ لا لُبْسُ عمامةٍ كريشِ نَعامً.

[قسمة الغنائم]
(وتقسم الغنيمة بين الغانمين) الذين شهدوا الوقعة (فيعطى لهم أربعةُ أخماسِها: للراجِلِ) ولو كان كافراً (سهمٌ، وللفارِسِ على فرسٍ هجينٍ) وهو ما أبوه فقط عربيٌّ، أو مقرفٍ، وهو ما أمُّه فقط عربية، أو بِرْذَوْنٍ، وهو ما أبواه نبطيان (سهمان؛ و) للفارِسِ (على فرسٍ عربيٍّ) ويسمى العتيقَ (ثلاثةُ أَسهم).
(ولا يُسْهَمُ لغير الخيلِ) كالفِيَلَةِ والبِغالِ. (ولا يُسْهَمُ إلاَّ لمن) اجتمعت (فيه أربعة شروط): الأول: (البلوغ، و) الثاني: (العقل، و) الثالث: (الحرّية؛ و) الرابع: (الذكورة).
(فإن اختل شرط) من هذه الشروط الأربعة (رُضِخَ له ولم يُسْهَمْ).
فيرضَخُ لمميزٍ، وقِنٍّ، وخنثى، وامرأةٍ، على ما يراه الإِمام. إلا أنّه لا يبلُغُ به لراجلٍ سهمَ الراجلِ، ولا لفارسٍ سهمَ الفارسِ.
(ويقسم الخمس الباقي خمسةَ أسهمٍ):
(سهم لله تعالى ولرسولهِ) - صلى الله عليه وسلم -، وذكر اسمُهُ تعالى تبركاً لأن الدنيا والآخرةَ له سبحانه وتعالى، (يُصْرَفُ مَصْرِفُ الفيء) أي في مصالح المسلمين.

(1/324)


(وسهمٌ لذوي القربى، وهم بنو هاشمٍ وبنو المطلبِ) أبنا عبدِ منافٍ، دونَ غيرِهْم من بني عبد منافٍ (حيثُ كانوا) أي يجبُ تعميمُهم حَسَبَ الإِمكان، ويجب تفرقته بينهم (للذَّكَرِ مثلَ حظ الأنْثَيَيْنِ) غنيهم وفقيرُهم فيه سواءٌ، جاهدُوا أوْ لا.
(وسهمٌ لفقراءِ اليتامى، وهم) أي واليتامى (من لا أبَ له، ولم يبلغ) الحُلُمَ، لقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُتمْ بَعْد الاحتلام" (1) واعتُبر فيهم الفقر لأن ذا الأبِ لا يستحق، والمال أنفع من وجود الأب.
(وسهمٌ للمساكين) وهم أَهل الحاجةِ، فيدخل في عمومهم الفقراءُ، فالفقراءُ والمساكينُ صنفانِ في الزكاة، وصنف واحدٌ هنا وفي سائِرِ الأحكام.
ويعمُّ به جميعَهم في جميع البلاد، كسهمِ ذوي القربى واليتامى.
(وسهمٌ لأبناء السبيل) وتقدم ذكرهم في باب الزكاة.

فصل يذكر فيه أموالُ الفيءِ ومصارفُها
(والفيء هو ما أُخِذَ من مال الكفار بحق من غيرِ قتالٍ، كالجزيةِ، والخراجِ، وعُشْرِ التجارة من الحربيّ، ونصفِ العشر من الذّمّيّ، وما تركوه) أي الكفار للمسلمين (فزعاً) من المسلمين، (أو) تُرِكَ (عن ميِّتٍ ولا وارثَ له) يستغرق.
(ومصرفه) أي مصرف ما ذكر من المال ومصرف خُمْسِ خُمْسِ الغنيمة (في مصالحِ المسلمين.) وذكر أحمد الفيءَ فقال فيه: لكلِّ
__________
(1) حديث "لا يُتْم بعد احتلام" رواه أبو داود (الفتح الكبير) قال في الإِرواء (ح 1244): هو صحيح.

(1/325)


المسلمينَ، وبين الغنيّ والفقيرِ. (ويُبْدَأ بالأهمِّ فالأهم، من سدِّ ثغرٍ) بمن فيه كفاية، وهم أهل القوّة من الرجال الذين لهم مَنَعةٌ، (وكفايةُ أهلِهِ) أي القيام بكفاية أهل الثغورِ، (وحاجةُ من يَدْفَعُ عن المسلمينَ) من السلاحِ والخَيْلِ، (وعمارَةِ القناطَر)، أي الجسور، وإصلاح الطرق، والمساجد، (ورزق القضاة) والأئمةِ والمؤذنينِ (والفقهاءِ وغير ذلك) ممن يحتاجُ إليه المسلمون. (فإنْ فَضَل شيء) عن المصالح (قُسِمَ بين أحرارِ المسلمين، غنيِّهم وفقيرِهم) للآية، ولأنه مالٌ فَضَل عن حاجتهم، فَيُقْسَمُ بينهم، وَيسْتَوُونَ فيه، كالميراث.
(وبيتُ المالِ ملكٌ للمسلمين، يَضْمَنُه متلفه، ويحرم الأخذ منه بلا إذن الإِمام) لأنّ تعيينَ مصارفه وترتيبَها يرجع فيه إلى الإِمام، فافتقر الأخذ منه إلى إذنه.

(1/326)


باب يذكر فيه جُملَة مِن أحكَامِ (عقد الذمّة)
ويجب إذا اجتمعت شروطه.
(لا تعقد) أي لا يصح عقد الذمة (إلا لأهلِ الكتاب) اليهودِ والنصارى على خلافِ طوائِفِهم (أو لمن له شُبْهَةُ كتابٍ) يعني أنه يصحّ عقد الذمة أيضاً لمن له شبهة كتاب (كالمجوسِ) فإنه يُرْوى أنه كان لهم كتاب، فرفع، فصار لهم بذلك شبهة كتاب.
(ويجب على الإِمام عقدُها) أي الذمة (حيث أَمِنَ مكرَهمْ، والتزموا لنا بأربعة أحكام):
(أحَدُها: أن يعطُوا الجزيةَ عن يدٍ وهم صاغرون) بأن يُمْتَهَنُونَ (1) عند أخذها، ويطالُ قيامهم، وتُجَرُّ أيديهم عند ذلك، وجوباً.
(الثاني: أن لا يذكروا دين الإِسلام إلاَّ بالخير.) ويأتي أنّ من ذكر دين الإِسلام بعد عقدها بسوءٍ ينتقض عهده.
(الثالث: أن لا يفعلوا ما فيه ضررٌ على المسلمين.)
(الرابع: أن تجري عليهم أحكامُ الإِسلام في) ضمانِ (نفسٍ ومالٍ وعرضٍ و) في (إقامةِ حدٍّ فيما يحرّمونه) أي يعتقدون تحريمه (كالزَّنا، لا
__________
(1) كذا في الأصول، بإثبات النون. وله وجه في اللغة.

(1/327)


فيما يحلّونه) أي يعتقدون حله (كـ) شرب (الخمر).
(ولا تُؤْخَذُ الجزيةُ من امرأةٍ) لأن الجزيةَ بدلٌ من القتلِ، وقتل المرأةِ والصبيِّ ممتنع.
(و) لا تؤخذ الجزية من (خنثى) لأن الأصل براءة ذمتها منها، فإن بان الخنثى رجلاً أخذت منه للمستقبل من الزمان دون ما مضى.
(و) لا جزية على صبيٍّ , و) لا (مجنون، و) لا قِنٍّ، و) لا (زَمِنٍ، و) لا (أعمى، و) لا (شيخٍ فانٍ، و) لا (راهبٍ بصومعةٍ،) لأنهم لا يُقْتَلُونَ، فلا تجب عليهم الجزية.
والراهب يؤخذ مما بيده ما يزيد على بُلْغَتِهِ، فلا يبقى بيده إلا بُلْغَتُهُ فقط.
(ومن أَسْلَمَ منهم،) أي ممن تؤخذ منه (بعد الحول، سقطت عنه الجزية) نصّ عليه. ويدل له قوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وروى ابنُ عباسِ، رضي الله تعالى عنهما، عن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليسَ على المسلمَ جِزْيَةٌ" رواه الخلال (1).

فصل [في أحكام أهل الذمة]
(ويحرم قتلُ أهلِ الذمة، وأخذ مالِهِم، ويجبُ على الإِمامُ حفظهم) أي حفظُ أهل الذمة (ومَنْعُ من يؤذيهم) من المسلمين.
(وُيمْنَعُونَ من رُكُوبِ الخيلِ) بإكافٍ أو غيرِه، ومن ركوبِ غيرِ خيلٍ بِسُرُجٍ، (وحملِ السلاحِ) ومن ثِقافٍ، ورمي ولعب بدبوس ورمح.
__________
(1) حديث "ليس على المسلم جزية" الذي رواه الخلال: قال أحمد: ليس يرويه غير جرير (المغني 8/ 511) وأخرجه أحمد وأبو داود وهو ضعيف (الإِرواء ح 1257)

(1/328)


(و) يُمنعون (من إحداث الكنائس) والبيع، ومحلٍّ يجتمعون فيه لصلاة (ومن بناءِ ما انهدم منها) أي الكنائس والبيع.
(و) يُمنعون (من إظهار المنكر) كنكاحِ المحارم، (والعيد، و) إظهار الصليب، و) يمنعون من (ضربِ الناقوسِ) وهو خَشَبةٌ طويلة يضرب بها النصارى إعلاماً للدخول في صلاتهم. ونَقَسَ نَقْساً -من باب قتل- فَعَلَ ذلك، قاله في المصباح، وإظهار الخمر (ومن الجهرِ بِكتابِهم، ومن الأكل والشرب نهارَ رَمضان، ومن شُرْبِ الخمر، وأكل الخِنْزير.
ويمنعون من قراءة القرآن، و) يمنعون من (شراءِ المُصْحَفِ وكُتُبِ الفقهِ والحديث).
(و) يمنعون (من تَعْلِيَة البناء على المسلمين) ولو رضي جاره المسلم بتعليته عليه، لما رُوِيَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الإِسلامُ يَعْلو ولا يعلى عليه" (1) ويضمن ما تلف بِه قبل نقضه، لتعديه.

[الغيار]
(ويلزمهم التمييزُ عنّا بلبسهم) فيلبَسُ اليهودي ثوباً عَسَليًّا، ويشدّ خرقةً على قلنسوته وعمامته، ويلبَسُ النصرانيّ زُنَّاراً فوق ثيابِهِ.
(ويكره لنا التشبُّه بهم)؛ قال في الإِقناع: والتشبه بهم مَنْهِيٌّ عنه، إجماعاً، وتجب عقوبةُ فاعله. وقال: ولما صارت العمامةُ الصفراءُ والزرقاءُ والحمراءُ من شعارِهِم حَرُمَ على المسلم لبسها، انتهى.
(ويحرم القيام لهم) أي لأهل الذمة، (وتصديرهم في المجالِسِ) إلا إن رُجِي إسلامُهمْ. اختاره الشيخ.
__________
(1) حديث "الإِسلام يعلو ولا يعلى عليه" ذكره في الفتح الكبير بلفظ "الإِسلام يعلو ولا يعلى" وقال: رواه الدارقطني والبيهقي والضياء من حديث عائذ بن عمرو مرفوعاً.

(1/329)


(و) يحرم أيضاً (بُداءَتُهُمْ بالسلام، وبكيفَ أصبحت، أو) بكيف (أمسيت، أو كيف أنت، أو) كيف (حالك).
(وتحرم تَهْنِئَتُهُمْ، وتعزيتهم، وعيادتهم) وشهادةُ أعيادهم. (ومن سلم على ذمّيّ) لا يعلم أنه ذمّيّ (ثم عَلِمَهُ يسن قوله) له: (رُدَّ عَلَيّ سَلاَمي. وإن سلم الذمّيّ) على المسلم (لزم ردّه، فيقال) له: (وعليكم).
(وإن شَمَّتَ كافرٌ مسلمًا أجابه) المسلم بيهديك الله.
(وتكره مصافحته) أي أن يصافِحَ مُسْلِمٌ ذِمياً.

فصل [فيما ينتقض به عهد الذمّي]
(ومن أبى من أهل الذمة بذل الجزية، أو أبى الصغار، أو أبى التزام حكمنا) إذا حكم عليه بشيءٍ، سواءٌ شُرِطَ عليهم ذلك، أوْ لا، لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} قيل: الصغار: التزامُ أحكامِ الإِسلام، (أو زَنَى بمسلمةٍ، أو أصابها باسم نكاحٍ) نصاً، (أو قَطَعَ الطريقَ) لأنه لم يَفِ بمقتضى الذّمّة (أو ذَكَرَ اللهَ تعالى أو رسولَه) أي رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - (بسوءٍ) ونحوه (أو تعدَّى على مسلمٍ بقتل أو فتنةٍ عن دينه، انتقضَ عهده) لأن هذا ضررٌ يعمُّ المسلمين، أشبهَ ما لو قاتَلَهُمْ، لا بِقَذْفِهِ مسلماً، ولا بإيذائه بسحرٍ في تصرفه، ولا إن أظهر منكراً، أو رفع صوته بكتابه.
(ويخيَّر الإِمام فيه،) ولو قال: تُبْتُ، (كالأسير) الحربيّ. وتقدم حكمه (وماله فيءٌ) لأن المال لا حرمةَ له في نفسه، إنما هو تابع للمالك حقيقةً، وقد انتقض عهد المالك في نفسه، فكذا في مالِهِ.

(1/330)


(و) من انتقض عهده فـ (لا ينتقضُ عهد نسائِهِ وأولادِهِ) بنقض عهده.
(فإن أَسْلَمَ حَرُمَ قَتْلُهُ ولو كان سب النبيّ - صلى الله عليه وسلم -).

(1/331)