نَيْلُ
المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب كتَاب البَيع
وهو مبادلة عين ماليّةٍ، أو منفعةٍ مباحةٍ مطلقاً، بإحداهما، أو بمالٍ في
الذمّة، للمِلْكِ على التأبيد، غيرَ رِباً وقرضٍ.
و (ينعقد) البيع بشروطه الآتية (لا) إذا كان (هزلاً) لأن حقيقته لم تُرَدْ
وُيقبَل قول البائِعِ أَن البيعَ وَقَعَ هزْلاً أو تلجئةً، بيمينه، مع
القرينة الدالة على ذلك (بالقولِ الدالِّ على البيع والشراء.)
وصيغتُهُ القوليةُ غير منحصرةٍ في لفظٍ بعينِهِ، بل هي كلُّ ما أدّى معنى
البيع.
(و) ينعقد البيع (بالمعاطاةِ)، فينعقد البيع بها، بالقليل والكثير. ومن صور
بيع المعاطاة (كأعطنيَ بهذا الدرهم خبزاً، فيعطيه البائع ما يرضيه) وهو
ساكت. أو يقولَ البائعُ: خذْ هذا بدرهمٍ، فيأخذه وهو ساكتٌ، ومن المعاطاة
لو ساوَمَهُ سلعةً بثمنٍ فيقول: خذها، أو: هيَ لك، أو أعطيتُكَها، ونحو
ذلكَ مما يدلّ على بيعٍ وشراءٍ.
[شروط البيع]
(وشروطه) التي تتوقف صحته عليها (سبعة):
(أحدها: الرضا) به من المتبايعين، وهو أن يأتيا به اختياراً، ما لم
(1/332)
يكن بيعَ تلجِئَةٍ، أو أمانةٍ، بأن يُظْهرا
بيعاً لم يريداه باطناً، بل أظهراه خوفاً من ظالمٍ ونحوه، ودفعاً له.
فالبَيعُ باطلٌ وإن لم يقولا في العقد: تَلْجِئَةً، (فلا يصحّ بيع المكرَهِ
بغيرِ حقٍّ) كالذي يستولي على ملكِ رجلٍ بلا حقٍّ فيطلبه، فيجحده إياه، حتى
يبيعَه. أما إن أُكرِه بحقّ، كالذي يُكْرِهُهُ الحاكم على بيع مالِهِ
لوفاءِ دينِهِ فبيعه صحيح.
(الثاني) من شروط البيع: (الرُّشْدُ، فلا يصح بيع) المجنونِ والسكرانِ
والنائمِ والمُبَرْسَمِ و (المميّز (1)، والسفيه، ما لم يأذن وليُّهما) ولو
في الكثير. ويحرم إذنه لهما لغيرِ مصلحةٍ. ولا يصح منهما قَبُولُ هَبِةٍ
ووصيَّةٍ بلا إذن وليٍّ.
(الثالث: كون المبيع مالاً) والمال ما يباحُ نفعه في جميع الأحوال (فلا يصح
بيع الخمر) ولو كانا ذميّيْنِ؛ (والكلبِ) ولو كان مباحَ الاقتناء؛
(والميتة) ولو لمضطر إلا سمكاً وجراداً وجُنْدُباً، لحِلِّ أكلها.
(الرابع: أن يكون المبيع مِلْكاً للبائع) وقت العقد، وكذا الثَّمَنُ (أو
مأذوناً له) أي لبائِعِه (فيه.) أي في بيعه من مالكِهِ، أو من الشارع،
كالأب يتصرف في مال ولده الصغير، وكالحاكِم يتصرّفُ في مال اليتيم والغائب،
(وقْتَ العقد) ولو ظنّ المالك، أو المأذون له، عدم الملك والإِذنِ له في
بيعه، لأنّ الاعتبار في المعاملاتِ بما في نفس الأمر لا بما في ظن المكلف،
(فلا يصحّ بيعُ الفضوليِّ) ولا شراؤه (ولو أجيزَ) تصرَّفُهُ (بَعْدُ) أي
بعد العقد.
(الخامسُ: القدرة على تسليمه) أي تسليمِ المبيع لأن ما لا يقدر على تسليمه
شبيه بالمعدوم، (فلا يصح بيع) العبد (الآبِقِ، و) الجَمَلِ (الشارِدِ)،
سواء عَلِمَ مَكانَه أو جهلَهُ، (ولو) كان بيع الآبِقِ والشارِدِ (لقادر
__________
(1) لو قال "والصغير" مع قوله "والمميّز" لكان أولى، لأن الكبير مميز.
(1/333)
على تحصيلهما)، ولا سمكٍ بماءٍ إلا
مرئيًّاً بِمَحوزٍ يسهل أخذه منه، ولا طائر بمكان يصعب أخذه منه.
(السادس: معرفة الثمن والمثمن) للمتعاقدين (إما بالوصف) والبيع بالوصف
مخصوص بما يجوز السلم فيه (أو المشاهدةِ) له (حال العقد أو قبله) أي العقد
(بيسير) يعني إذا سبقت الرؤية العقد بزمن لا تتغيَّر العينُ فيه تغييراً
ظاهراً، فالعقد صحيح.
(السابع: أن يكون منجَّزاً) فـ (لا) يصح البيع ولا الشراء (معلَّقاً:
كبعتُك إذا جاء رأسُ الشَّهْر، أو بعتك إن رضي زيدٌ.) ووجهُ عدم انعقاده
كونه عقد معاوضة. ومقتضى عقد المعاوضة نقلُ الملك حالَ العقدِ، والشرط
يمنعه.
(ويصح بعتُ وقبلتُ إن شاء الله) تعالى. وهو المذهب.
(ومن باع معلوما ًومجهولاً لم يتعذر علمه) صفقةً واحدة (صحّ في المعلوم
بقسطِهِ) من الثمن. (وإن تعذرت معرفة المجهول ولم يبيِّن ثمن المعلوم)،
كقوله: بعتك هذِهِ الفرس، وما في بطن هذه الفرس الأخرى (فـ) البيع (باطل)
لأن المجهول لا يصح بَيْعُهُ، لجهالته، والمعلوم مجهول الثمن، ولا سبيل إلى
معرفته، لأن معرفته إنما تكون بتقسيط الثمن عليهما، والمجهول لا يمكن
تقويمه، فيتعذر التقسيط.
فصل [في موانع صحة البيع]
1 - (ويحرم ولا يصحُّ بيعٌ ولا شراءٌ في المسجد) قليلاً كان البيع أو
كثيراً.
2 - (و) يحرم (لا) يصح بيعٌ ولا شراءٌ (ممن تلزمه الجمعة بعد
(1/334)
ندائها الذي عند المنبر) عَقِبَ جلوس
الإِمام على المنبر، لأنه الذي كان على عهد النبيّ - صلى الله عليه وسلم -،
لقوله تعالى: {وَذَرُوا البَيْعَ}
تنبيه: قال المنقّح: أو قبله لمن منزلُهُ بعيدٌ بحيث إنه لا يدركها، انتهى.
ويستثنى من ذلك مسائلُ أشير إليها: إلاَّ من حاجةٍ كمضطرٍّ إلى طعامٍ أو
شرابٍ، وعريانٍ وجد سترةً، وككفنٍ ومؤنةِ تجهيزٍ لميتٍ خيف فسادُهُ
بتأخُّرِهِ، َ أو وجودِ أبيه ونحوِه يُبَاعُ مع من لو تَرَكَه لذهب به،
ومركوبٍ لعاجزٍ عن المشي إلى موضع الجمعة، أو ضريرٍ عدم قائداً (1) ونحوه.
3 - (وكذا) أي وكالبيع والشراء بعد نداء الجمعة الذي عند المنبر (لو تضايق
وقتُ) الصلاةِ (المكتوبةِ) لوجودِ المعنى الذي مُنِع المكلَّفُ من أجلِهِ
البيعَ والشراءَ بعد نداءِ الجمعةِ.
وعلم من قوله: "بيعٌ ولا شراءٌ" أنه لو كان أحد المتعاقدين تلزمه الصلاة،
والآخر لا تلزمه، كالعبدِ والمرأةِ إذا باعا أو اشتريا ممن تلزمه الجمعة،
بعد ندائها، أنه لا يصح البيع في الأصحّ. وكذا إذا وُجِدَ الإِيجابُ قبل
النداء والقبولُ بعدَهُ.
ويصح إمضاء بيعٍ وبقيةِ العقود، كقرضٍ، ورهنٍ، وضمانٍ، ونكاحٍ.
4 - (ولا) يصحّ (بيع العِنَبِ أو العصير لمتخذه خمراً)؛ ولا مأكولٍ ومشروبِ
ومشمومٍ وقدحٍ لمن يشرب عليهِ أو بِهِ مُسْكِراً؛ (و) لا يصح (بيع البيَضِ
والجوزِ ونحوهما) كالبُنْدقِ (للقمار؛ ولا) يصحّ (بيع السلاح) ونحوه كالترس
والدِّرع (في الفتنة، أو لأهل الحرب، أو قُطاع الطريق)
__________
(1) يعني اذا أشترى عبداً يقوده إلى المسجد.
(1/335)
إذا علم البائع ذلكَ من مُشْتَرِيه، ولو
بقرائن، لقوله تعالى: {وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
ولا يصحُّ بيع أَمَةٍ أو غلامٍ لمن عُرِفَ بِوَطءِ دُبُرٍ أو غناءٍ.
5 - (ولا) يصح (بيع قنٍّ) ذكرٍ أو أنثى (مسلمٍ لكافرٍ) ولو وكيلَ مسلمٍ (لا
يعتَقُ عليه) أي على الكافر، لأنّه يُمْنَعُ من استدامةِ ملكهِ عليه، فمنع
ابتداؤُه، كالنكاح.
أما إذا كان العبدُ المسلمُ يعتَق على الكافر بالقرابة فإنه يصحّ شراؤه له
على الأصح، لأن ملكه لا يستقر عليه، وإنما يعتَقُ بمجرّد ذلك في الحال،
ويزول الملك عنه بالكلّيّةِ، ويحصل له من نفعٍ الحريّةِ أضعافُ ما حصل له
من الإِهانَةِ بالرّقّ في لحظةٍ يسيرةٍ.
فإن مَلَكَ الكافرُ رقيقاً مسلماً بإرثٍ أو غيرِهِ أُجْبِرَ على إزالةِ
ملكِهِ عنه، ولا تكفي مكاتبته ولا بَيْعُه بخيارٍ.
6 - (ولا) يصحُّ (بيعٌ) بالتنوين (على بيع المسلم) زمنَ الخِيَارَيْنِ
(كقولِهِ لمن اشترى شيئاً بعشرةٍ: أُعطيك مثلَهُ بتسعةٍ)، أو: أنا أعطيكَ
خيراً منها بثمنها، أو يعرضُ عليه سلعةً يرغب فيها المشتري ليفسخَ البيعَ
ويعقِدَ معه.
(ولا) يصح أيضاً (شراءٌ عليه) أي على شراء المسلمِ (كقولِهِ لمن باعَ شيئاً
بتسعةٍ: عندي فيه عشرة.)
وكذا اقتراضُهُ على اقتراضِهِ، بأن يعقد القرضِ مَعَة، فيقول له آخر:
أقرضني ذلك، قبل تقبيضِهِ للأول، فيفسخه ويدفعه للثاني.
وكذا اتّهابُهُ على اتّهابِهِ، وطلبُ عَمَلِهِ في الولاياتِ بعد طَلَبِ
غَيْرِه، ونحو ذلك.
وكذا المساقاةُ والمزارعةُ والجُعَالَةُ ونحو ذلك، كفُها كالبيعِ، فتحرم
ولا تصحّ إذا سَبَقَتْ للغيرِ، قياساً على البيع، لما في ذلك من الإِيذاء.
(1/336)
(وأما السَّوْمُ على سومِ المسلمِ مع
الرِّضا الصريح) من البائع فحرامٌ، وهو أن يتساوَمَا في غيرِ المنادَاةِ،
حتى يَحْصُلَ الرضا من البائع.
فأما المزايَدَة في المناداة فجائزةٌ.
وعلم مما تقدّم أن السومَ على سومِ المسلم مع عدم رضا البائع لا يحرم.
7 - (و) أما (بيع المصحف) فحرامٌ ولو في دينٍ لأنَ في بيعهِ ابتذالاً له،
وتركاً لتعظيمِهِ.
ولا يصحّ لكافرٍ.
8 - (و) أما بيع (الأمة التي يطؤُهَا قبل استبرائِهَا فحرام.
ويصحّ العقد) في السومِ على السوم، وفي بيع المصحف إذا كان المشتري مسلماً،
وفي بيع الأمة التي يطؤها قبل استبرائها.
[حكم المقبوض بعقد فاسد]
(ولا يصح التصرّف) ببيعٍ وهبة وغيرهما (في المقبوضِ بعقدٍ فاسدٍ).
(وُيضمَن هو وزيادتُه، كمغصوبٍ) إذا تلف، أو أتلفه، ما لم يدخل في ملك
القابض، كالمقبوض عَلى وجه السوم. فإن كان مثليًّا ضمنه بمثله، أو
متقوِّماً فبقيمته. لكن لو اشترى ثمرةَ شجرةٍ شراءً فاسداً، وخلّى البائع
بينَه وبَيْنَهُ (1) على شجرِهِ لم يضمنه بذلك، لعدم ثبوت يده عليه. ذكر
بعض أصحابنا أنه محل وفاقٍ. قاله ابن رجبٍ في "القواعد."
__________
(1) (ب، ص): "وبينها" والتصويب من "ف".
(1/337)
باب مُضَاف إلى (الشرُوط في البَيع)
والشروط جمع شَرْطٍ، والشرط في البيع والإِجارة والشركةِ: إلزامُ أحد
المتعاقدين الآخَرَ، بسبب العقد، ما له فيه غَرَضٌ صحيح.
وتُعْتَبَرُ مقارنتُهُ للعقد.
(وهي) أي الشروط في البيع (قسمان): الأوَّل: (صحيحٌ لازمٌ) ليس لمن
اشْتُرِطَ عليه فكُّه. (و) الثاني: (فاسدٌ مُبْطِلٌ للبيعِ) من أصله.
[الشروط الصحيحة]
(فالصحيح) ثلاثة أنواع:
الأول: ما يقتضيه العقدُ، كشرطِ تقابضٍ وحُلولِ ثَمَنٍ، وتصرُّفِ كل فيما
يصير إليه، من ثمنٍ ومُثْمَنٍ، وردِّهِ بعيبِ قديمٍ. ولم يذكر المؤلّف
-رحمه الله تعالى- هذا النوع، لأنه لا أثر لَه.
الثاني: (كشرطِ تأجيلِ) كلِّ (الثمن، أو) تأجيلِ (بعضِهِ) أي بعضِ الثمن
إلى أجل معلوم، (أو) شرط (رهنٍ أو ضمينٍ معيَّنٍ) أي: الرهنِ والضمينِ.
وشَمَل هذا ما لو اشْتَرَطَ رهنَ المبيعِ على ثمنِهِ، وهو كذلك في المنصوص.
فلو قال بائعٌ: بعتك هذا بكذا، على أن تَرْهَنَنِيهِ على ثمنه، فقال:
اشتريتُ ورهنتُك على الثمن، صحَّ الشراء والرهن؛ (أو
(1/338)
شَرَطَ) المشتري على البائع (صفةً في
المبيع، كـ) كونِ (العبدِ) المبيعِ (كاتباً،) أو فحلاً، أو خصياً، (أو
صانعاً) في صنعةٍ معينةٍ، (أو مسلماً، و) كونَ (الأَمَةِ بكراً، أو)
الأَمةِ (تحيضُ، والدابَّةِ هِمْلَاجَةً) بكسر الهاءِ -والهَمْلَجَةُ
مِشْيَةٌ سهلة في سرعةٍ- (أو) اشترط الدابّةَ (لبوناً) أي ذات لَبَنٍ، أو
غزيرةَ اللبن، لا أنها تُحْلَبُ في كلِّ يومٍ كَذَا، (أو حامِلاً،) لا أنها
تَلِدُ في وقتِ كذا، (والفَهْدِ) صَيُوداً، (أو البازي صَيوداً،) أي
معلماً، والأرضِ خراجُها كَذَا في كلِّ سنةٍ، والطيرِ مُصَوِّتاً، أو
يبيضُ، أو يجيءُ من مسافةٍ معلومةٍ؛ لأن في اشتراطِ هذهِ الصفاتِ كلِّها
قصداً صحيحاً، وتختلف الرَّغَبَاتُ باختلافِهَا، فلو لم يصحّ اشتراطُ ذلكَ
لفاتَتِ الحِكْمَةُ، التي شرع لأجلِها البيع، فلهذا يصحّ الشرطُ. وكذا لو
شَرَط أن الطائر يصيحُ في أوقاتٍ معلومةٍ، كعندَ الصباحِ أو عند المساءِ،
لا أن يوقظه للصلاةِ، أو أنه يصيح عند أوقاتِ الصلواتِ.
(فإن وُجِدَ المشروطُ) بأن حصل لمن اشتَرَطَ شَرْطُه (لزم البيعُ) أي صار
لازماً.
(وإلا) بأن لم يحصل له شرطه (فللمشتري الفسخُ، أو أرشُ فقدِ الصِّفَةِ) أي
فسخُ البيع لفقد الشرط (1). لكن إذا شَرَطَ أن الأمةَ تحيضُ، فلم تَحِضْ،
قال ابن شهاب: فإن كانت صغيرة، فليس بعيبٍ، فإنه يرجى زواله، بخلاف
الكبيرة.
النوع الثالث، من الشرط الصحيح: ما أشار إليه بقوله: (ويصحّ أن يَشْرُط
البائع على المشتري منفعةَ ما باعَهُ) غيرَ وطءٍ ودواعيهِ، كتقبيلٍ ونحوه،
فإنّ هذا لا يصحُّ استثناؤه بلا خلاف، (مدة معلومة) نفعاً معلوماً (كسكنى
الدار) المبتاعةِ (شهراً،) أو أقلَّ منه، أو أكثر، (وحملانِ
__________
(1) هذا تفسير للفسخ. أما الأرش ففرق ما بين قيمة المبيع بصفته وقيمته
بدونها.
(1/339)
الدابةِ،) بعيراً أو غيرَه (إلى محلٍّ
معين.) وكاستثناءِ خدمةِ العبدِ المبيع مدةً معلومة.
وللبائع أجرة (1) ما استثناهُ من النفع، وإعارَتهُ لمن يقوم مقامَه،
كالعينِ المؤجَرَةِ، لأن لمستأجرها إجارَتَها وإعارَتَها، لا لمن هو أكثرُ
منه ضرراً.
وإن تلفتِ العينُ المستثنى نفعُها قبل استيفاءِ بائعٍ للنَّفع، بفعل مشترٍ
أو تفريطِهِ، لزمه أجرةُ مثلِهِ، لا إن تلف المبيعُ بغير فعلِ المشتري أو
تفريطه.
(و) يصح (أن يشترط، المشتري على البائع) نفسِهِ (حملَ ما باعه) من حطبِ
وغيره إلى محلِّ كذا، فلو شَرَطَ الحملَ إلى منزله، والبائع لا يعرفه، لَم
يصحّ الشرط، كما لو استأجره لذلك ابتداء. قاله في شرح المنتهى. قال في شرح
الإِقناع بعد ذلك: وظاهِرُهُ صحةُ البيع، وعليه فيثبت له الخيار؛
(أو تكسيرَهُ أو خياطتَهُ) بصفةٍ معينةٍ، (أو تفصيلَهُ.)
وإن أقام البائع مُقَامَه من يعمل العمل فله ذلك، لأنه بمنزلة الأجيرِ
المشترك.
وإن أراد بذلَ العِوَضِ عن ذلك العمل لم يلزم المشتريَ قبوله، وله طلبه
بالعمل، لأنه ألزم نفسه له به.
وإن أراد المشتري أخذ العِوَضِ عن العمل، وأبى البائع، لم يلزم البائعَ
بذلُه.
فإن تراضيا على ذلك جاز.
وإن تعذَّر العمل بتلف المبيع قَبْلَهُ رجع المشتري بعوضِ النفعِ
__________
(1) (ب، ص): "أجرة" والتصويب من (ف).
(1/340)
المشروطِ عليه. وإن تعذر بمرضٍ أقيم مقامه
من يعمل، والأجرةُ على البائِع، كالإِجارة.
فصل [في الشروط الفاسدة المبطلة للعقد]
(والفاسد المبطلُ) للعقد من أصلِهِ (كشرْطِ بيعٍ آخَرَ) كأن يقول: بعتك هذه
الفرسَ على أن تبيعني هذا الثوبَ؛ (أو) شَرْطِ (سَلَفٍ) كبعتك على أن
تُسْلِمَني كذا في كذا؛ (أو) شرْطِ (قرضٍ) كبعتك (1) على أن تقرِضَني كذا؛
(أو) شرْطِ (إجارةٍ) كبعتك على أن تُؤْجِرَني دارَك بكذا؛ (أو) شرْطِ
(شركةٍ) كبعتك على أن تشاركني في فرسك؛ (أو) شرط (صرفٍ للثمنِ) كبعتك هذا
بعشرة دنانيرَ، على أن تَصْرِفَها لي بدراهم؛ أو شرْطِ صرفِ غيرِ الثمن،
كبعتك هذا بكذا على أن تَصْرِفَ لي مائة دينار بدراهم.
(وهو) أي وهذا النوع: هو (بيعتان في بيعةٍ المنهيّ عنه) (2) قال أحمد رحمه
الله: والنهيُ يقتضي الفساد.
(وكذا كلّ ما كان في معنى ذلك، مثل أن) يقول: بعتك على أن (تزوّجني ابنتك،
أو على أن أزوجك ابنتي، أو لتنفق على عبدي أو دابتي) أو على حصّتي من ذلك
قرضاً أو مجّاناً: مقيسٌ على كلامِ أحمدَ، وليس هو مقولَهُ. قال ابن مسعود:
"صَفْقَتَانِ في صفقةٍ ربا" (3)
__________
(1) (ب، ص) سقط منهما قوله "كبعتك".
(2) يشير إلى الحديث "نهى عن بيعتين في بيعة" رواه الترمذي والنسائي من
حديث أبي هريرة مرفوعاً. (الفتح الكبير) وقال الترمذي: حسن صحيح (الإِرواء
ح 1307)
(3) قول ابن مسعودٍ "صفقتانِ في صفقةٍ رباً" صحيح عنه. أخرجه ابن أبي شيبة
وأحمد وابن حبان (الإِرواء ح 1307)
(1/341)
ولأنه شرْطُ عقدٍ في عقدٍ، فلم يصحّ، كنكاح
الشِّغار.
[الشروط التي تبطل ويصح العقد]
تنبيه: لو شرط المشتري على البائع أنه إذا نفَقَ (1) المبيع وإلاَّ ردَّه،
أو شَرَطَ البائع على المشتري أن لا يبيعَ المبيعَ، أو لا يَهَبَهُ، أو لا
يُعْتِقَهُ، أو إن أعتقه فالولاءُ له، أو شَرَطَ البائعُ على المشتري أن
يفعلَ ذلكَ، أو شرَط عليه وَقْفَ المبيع، فالشرطُ باطلٌ، والبيع صحيحٌ، إلا
شَرْطَ العتقِ، فإنّه صحيحٌ، وُيجْبَرُ المشتري على العتقِ إن أباه. فإن
امتنع المشتري من العتقِ أعتقه حاكم عليه.
(ومن باع ما) أي شيئاً (يُذْرَع) كأرضٍ وثوبٍ (على أنه عشرةٌ) من الأذرع أو
الأشْبارِ، (فَبَانَ) المبيعُ (أكثرَ) من عشرة، (أو أقلَّ) منها، (صحَّ
البيع، ولكلٍّ) من البائع والمشتري (الفسخُ) إلا أنّ المشتري إذا أُعْطِيَ
الزائدَ بلا عِوَضٍ فلا فَسْخَ له، لأن البائع زادَهُ خيراً.
وإن اتّفقا على إمضائِهِ لمشترٍ بِعِوَضٍ جاز.
وإن بان أقلَّ فالبيعُ صحيحٌ والنقصُ على البائعِ. ولمشترٍ الفسخ. وله
إمضاءُ البيعِ بقسطِهِ من الثمن برضا البائع، وإلا فله الفسخُ.
وإن بَذَلَ مشترٍ جميعَ الثمنِ لم يملك البائع الفسخَ. وإن اتفقا على
تعويضِهِ عنه جاز.
وإن باعَ صُبْرَةً على أنها عشرة أَقْفِزَةٍ، أو زُبْرَةَ حديدٍ على أنها
عشرة أرطالٍ فبانت أَحَدَ عَشَرَ فالبيع صحيح. والزائذ للبائعِ مُشَاعاً.
ولا خيار لمشترٍ. وإن بانت تسعةً فالبيع صحيحٌ وينقصُ من الثمن بقدره، ولا
خِيَارَ له.
__________
(1) في الأصول "أنفق" وما أثبتناه الصواب كما في شرح المنتهى.
(1/342)
باب الِخيَار
يُذكر فيهِ أقسام الِخيَار في البَيع
وهو طَلَبُ خيرِ الأمرين من فسخٍ وإمضاءٍ.
(وأقسامه) أي أقسام الخيار في البيع (سبعة):
(أحدها: خيار المجلس) بكسر اللام. والمراد به مكان التبايع.
(ويثبت) خيار المجلس (للمتعاقدين) في بيعٍ، وصلحٍ بمعنى بيعٍ، وإجارةٍ، وما
قَبْضُهُ شَرْطٌ لصحته: كصرْفٍ، وسَلَمٍ، وبيعِ ربويٍّ بجنسه.
وابتداءُ خيارِ المجلس (من حينِ العقدِ،) ويستمرّ (إلى أن يتفرّقا) عرفاً
بأبدانهما، فلو حُجِزَ بينهما بحاجزٍ، كحائطٍ ونحوِهِ، أو ناما، لم يُعَدّ
تفرقاً لبقائهما بأبدانِهِماَ بمحلِّ العقد. وخيارهما بحاله، ولو طالت
المدة، (من غير إكراه) لهما أو لأحدهما على التفرق، أو فَزَعٍ من سَبُعٍ أو
ظالمٍ خشياه فهربا، أو أحدُهما فزعاً منه، أو سيلٍ، أو نارٍ، أو نحو ذلك.
ويستثنى من خيار المجلس ما أشار إليه بقوله: (ما لم يتبايعا على أنْ لا
خيار لهما) يعني أن البيع لازمٌ بمجرد العقد، (أو يُسْقِطَاهُ بعد العقد)
وقبل التفرّق.
(وإن أسقطه) أي أسقط خيار المجلس (أحدهما) أي أحدُ المتعاقدين (بَقِيَ
خيارُ الآخر) لأنه لم يوجد منه ما يُبْطِل خيارَه.
(وينقطع الخيارُ) أي خيارُ المجلس (بموتِ أحدِهما) أي أحد
(1/343)
المتعاقدين، لأن الموتَ أعظم الفرْقتين،
(لا بجنونِهِ) في المجلس، لعدم التفرق. (وهو على خيارِهِ إذا أفاق) من
جنونه. ولا يثبت الخيار لوليه. وإن خَرِسَ قامت إشارته مقامَ نُطْقِهِ.
(وتحرُم الفرقة من المجلس خَشْيَةَ الاستقالة) يعني أنه يحرم على أحد
المتبايعين أن يفارق صاحبه خشيةَ أن يفسخَ البيع في المجلس.
(الثاني) من أقسام الخيار (خيار الشرط: وهو أن يشرطا) أي العاقدان (أو
أحدهما الخيار) في صُلْبِ العقد، أو بعده في المجلس (إلى مدة معلومة) لا
مجهولةٍ، كالحصادِ ونحوه، فإنه يصحّ البيع ويبطل الخيار. (فيصحُّ) الشرط
ويثبُتُ الخيار. وبهذا قال أبو يوسف ومحمدٌ وابنُ المنْذِرِ.
وحيثُ عُلِمَ الأمَدُ فإنه يصحّ (وإن طالت) المدّة، ولو فيما يفسُدُ قبل
انتهاءِ الأمد، كالبطّيخ، فيباع ويحفَظ ثمنُه إلى الأمد.
ولا يصحّ شرطُ الخيارِ في عقدٍ حيلةً (1) ليربَحَ في قرضٍ، فيحرُمُ ولا
يصحُّ البيع.
(لكن يَحْرُمُ تصرّفهما) أي البائعين، مع خيارِهِما (في الثمن والمثمن في
مدة الخيار): أما تحريمُ تصرف البائعِ في المبيعِ فلكونِه لا يملكه، وأما
تحريم تصرُّف المشتري فيه فلكون المبيعِ لم تنقَطِعْ عُلَقُ البائع عنه.
فإن كان الخيارُ لمشترٍ وحدَه، وتصرَّف في المبيع، نَفَذَ تصرُّفه وبَطَلَ
خيارُه.
__________
(1) وصفة الحيلة أن يكون غرض عمروٍ أن يستقرض من زيدٍ ألف دينارٍ لسنة،
فيبيعه بيتاً بألف دينارٍ مقبوضة ويجعلا الخيار بينهما إلى سنة. فإذا قارب
انتهاءُ السنة أبطلا البيع بحجّة الخيار، واسترجع المشتري الألف وردّ
البيت. فيكون زيد قد ربح عن القرض سكنى الدار سنةً.
(1/344)
(وينتقل المِلْكُ) في المبيع إلى المشتري
(من حينِ العقد) سواءٌ جَعَلا الخيارَ لهما أو لأحدهما، (فما حصَل في تلك
المدةِ من النَّماءِ المنفصِلِ) كالكسب والأجرة (فللمنتقِل له) أي للمتشري،
أَمْضَيا العقد، أو فَسَخَاه.
والنماء المتَّصل تابعٌ للمبيع، والحمل الموجود وقتَ العقدِ مبيع. (ولو
أنَّ الشرْطَ للآخر) أي للبائع (فقط).
(ولا يفتقِرُ فسخُ من يملكُهُ) أي الفسخ، من بائعٍ ومشترٍ (إلىٍ حضورِ
صاحبه) أي البائعِ الآخر (ولا) يفتقر (إلى رضاه) لأن الفسخَ حلُّ عقدٍ
جُعِلَ إليه، فجاز مع غيبةِ صاحبه وسخطه، كالطلاق.
(فإن مضى زمنُ الخيار) المشتَرَطِ، (ولم يُفْسخِ) البيعُ بِفَسخِ من جُعِلَ
له، (صار) البيعُ (لازماً) لأنه لو لم يلزم لأفضى إلى بقاء الخيار أكثرَ من
مدَّتِهِ المشترطة، وهو لا يثبتُ إلا بالشّرط.
(ويسقط الخيارُ بالقول).
(و) يسقط الخيار أيضاً (بالفِعْلِ. كتصرّف المشتري في المبيع) مع شرط
الخيار له زَمَنَه (بوقفٍ أو هبةٍ أو سومٍ) أي سومِ المشتري للمبيع بأن
عَرَضه للبيع، (أو لمسٍ) للأمة المبتاعة (لشهوةٍ،) وكذا إن كان الخيار
لهما، أو للبائع وحده، وتصرَّف المشتري بالعتق.
(وينفذ تصرُّفُه) بالبيع والهبةِ (إن كان الخيار له) أي للمشتري (فقط) أي
دون البائع.
(الثالث) من أقسام الخيار في البيع: (خيار الغَبْنِ) الخارجِ عن العادة،
نصًّا. (وهو أن يبيعَ ما) أي شيئاً (يساوي عشرةً بثمانية، أو يشتري ما) أي
شيئاً (يساوي ثمانيةً بعشرةٍ).
(فيثبتُ الخيارُ) لمن غُبِنَ بين الفسخِ والإِمساك.
(1/345)
وهو على التراخي: لا يسقط إلا بما يدل على
الرضا.
(ولا أرشَ مع الإِمساك) للمبيع، لأن الشارعَ لم يجعل له ذلك. ومثلُ البيعِ
في ثبوتِ خيارِ الغبنِ إجارةٌ.
(الرابع) من أقسام الخيار في البيع: (خيار التدليس) ويثبتُ للمشتري.
(وهو أن يدلّس البائع على المشتري ما يزيدُ به الثمنُ،) وإن لم يكن عيباً،
(كَتَصْرِيَةِ اللبَن) أي جمعِهِ (في الضَّرْعِ) أي ضرع بهيمةِ الأنعامِ
(وتحمير الوجْهِ، وتسويدِ الشَّعْر) من الرقيقِ، وتجعيدِهِ، وجمعِ ماء
الرَّحى (1)، وإرسالِهِ عند عرضها (فيحرُم) التدليس، ككَتْمِ عيبٍ، للغرور.
والعقدُ صحيح.
ولا أرشَ فيه، بل إذا أمسَك فمجّاناً في غير الكتمانِ.
(ويثبت للمشتري) بالتدليس (الخيارُ) بين الإِمساكِ والردّ (حتى، ولو حَصَلَ
التدليسُ من البائع) في المبيع (بلا قصدٍ) من أحدٍ، لأنَ عدم القصدِ لا
أثَرَ لَهُ في إزالةِ ضررِ المشتري.
وإن دلس البائع المبيعَ بما لا يزيدُ به الثمنُ، كتسبيطِ الشَّعَر، أو
عَلِمَ المشتري بالتدليس، لم يكنْ له خِيَار، كما لو اشترى معيباً يعلم
عيبه.
(الخامس) من أقسام الخيار في البيع: (خيار العيب،) وما بمعناه (فإذا وجد
المشتري بما اشتراهُ عيباً يجهلُهُ، خُيِّر بين ردّ المبيع) على البائِعِ
بلا نزاعٍ في ملكه، لأن مطلق العقد يقتضي السلامة، وحيث
__________
(1) (ب، ص): "وجميع ما استرخى" بدل "وجمع ماء الرحى" والتصويب من "ف"
والكتب الأخرى.
(1/346)
ظهر معيباً ثبت له خيارُ الرد استدراكاً
لما فاته، وإزالةً لما يلحقه من الضرر في بقائِهِ في ملكه ناقصاً عن حقه،
(بنمائه المتَّصِل) لا المنفصل، كثمرةِ شجرةٍ، ووَلَدِ بهيمةٍ.
(وعليه) أي على المشتري (أجرةُ الردّ) لأنه، باختيارِ الردّ، انتقل ملك
المبيع عنه إلى بائعٍ فَعَلِقَ بالمشتري حقُّ التَّوْفية.
(ويرجع بالثمن كاملاً) على البائع. قال الإِمام أحمد رحمه الله تعالى، في
رجلٍ اشترى عبداً، فأبَقَ، فأقام بينةً أن إباقه كان موجوداً في يد البائع:
يَرْجِعُ بجميعِ الثمن، لأنه غرَّ المشتري، وَيتْبَعُ البائعُ عبدَهُ.
(وبين إمساكِهِ ويأخذ الأرش) وذلك لأن المتبايعين تراضَيَا على أن العِوَضِ
في مقابلةِ المعوض، فكل جزءٍ من العوض يقابله جزءٌ من المعوّض. ومع العيب
فاتَ جزءٌ منه، فله الرجوع ببدله، وهو الأرش.
تنبيه: الأرشُ قَسْطُ ما بين قيمتِه صحيحاً ومعيباً من ثمنه، فيقوَّم
المبيع صحيحاً، ثم معيباً، ويؤخذ قسط ما بينهما من الثمن، كما إذا قُوِّمَ
صحيحاً بعشرة، ومعيباً بثمانية، والثمن خمسة عشر، مَثَلاً، فالنقص خُمْسُ
القيمة، فيرجع بخمس الثمن، وهو ثلاثة.
ومحل أَخْذِ الأرش ما لم يُفْضِ إلى ربا، كشراء حليّ فضةٍ بزنته دراهم، أو
شراءِ قفيزٍ مما يجري فيه رباً بمثله، ويَجِدَهُ معيباً، فإنه يمسك، أو
يردّ مجاناً.
(ويتعيّن الأرش مع تَلَفِ المبيع عند المشتري) قال في الإِقناع وشرحه:
فَصْلٌ وإن أعتقَ المشتري العبدَ، أو عَتَق عليه، أو قُتِلَ، أو استَوْلَدَ
الأمةَ، أو تلف المبيعُ، ولو بفعلِه، أي المشتري، كأكلِهِ ونحوِه، أو
باعَهُ، أو وهَبَهُ، أو رَهَنَهُ، أو وَقَفَه، غير عالمٍ بعيبه، ثم علم،
تعيَّنَ الأرش (ما لم يكن البائع عَلِمَ بالعيبِ، وكتَمَهُ تدليساً على
المشتري،
(1/347)
فيحرم) على البائع الكَتْمُ، لأنه غَرَرٌ،
(ويذهب على البائع) إن تلف بغير فعل المشتري (1)، كما لو مات.
(ويرجع) المشتري (على البائع) بجميع ما دفعه له.
(وخيار العيب على التراخي) لأنه خيارٌ شُرِعَ لدفع ضررٍ متحقَّقٍ، فلم يبطل
بالتأخير الخالي عن الرضا به، كخيار القِصَاصِ. (ولا يسقط طَلَبُ المشتري
به (إلاَّ إن وجد من المشتري ما يدلّ على رضاه، كتصرفه) فيه عالماً بعيبِه،
بإجارةٍ، أو إعارة، أو نحو ذلك، (واستعمالِهِ لغير تجربةٍ) كالوطء، والحمل
على الدابة.
(ولا يفتقر الفسخُ إلى حضورِ البائعِ) ولا رضاه (ولا) يفتقر الفسخ (لحكم
حاكمٍ) لأنه رفع عقد مستحق له فلم يفتقر إلى رضا صاحبه ولا لحضوره ولا
لحكمِ حاكمٍ، كالطلاق.
(والمبيع بعد الفسخ أمانةٌ بيد المشتري) صرّح بهِ أبو الخطاب في انتصاره،
والقاضي، وابن عقيل، وذلك لأنه حَصَل في يده بغير تعدٍّ. لكن إن قَصَّر في
ردِّه حتى تلف، ضمنه، لأنّ ذلك تفريطٌ منه، كما لو أطَارتِ الريحُ إلى
دارِهِ ثوباً، فقصَّر في رده، حتى تلف.
(وإن اختلفا) أي البائع والمشتري في معيبٍ، (عند من حدث العيب، مع
الاحتمال) لوجوده عند البائع وحدوثه عند المشتري، كالإِباق (ولا بيّنَةً)
لواحدٍ منهما بدعواه (فـ) القول (قول المشتري، بيمينه) لأنّ الأصل عدمُ
القبضِ في الجزءِ الفائِتِ، فكانَ القولُ قولَ من ينفيه، كما لو اختلفا في
قبض المبيعِ، فيحلف على البتّ أنَّه اشتراهُ وبه العيبُ، أو أنَّه ما
حَدَثَ عنده. فإن خرج عن يده لم يجز له الحَلِفُ على البَتّ.
__________
(1) أي في حالة التلف خاصة، وهي المذكورة في المتن، دون سائر الحالات التي
ذكرها الشارح.
(1/348)
(وإن لم يحتمِلُ) العيبُ (إلاّ قولَ
أحدِهما) كالإِصبع الزائدة، والجُرْحِ الطريّ الذي لا يحتمل أن يكون قبل
العقد (قُبِلَ) قول المشتري في المثال الأول، والبائِع في المثال الثاني
(بلا يمين) لعدمِ الحاجة إلى استحلافه.
تنبيه: يقبل قول البائعِ، بيمينِه، أن المبيعَ المعيبَ ليسَ المردودَ، إلا
في خيارِ شرطٍ، فقولُ مشترٍ، بيمينه.
(السادس) من أقسام الخيار: (خيارُ الخُلْفِ في الصِّفَةِ) من إضافة الشيء
إلى سببه.
(فإن وَجَدَ المشتري ما وُصِفَ له أو تَقَدَّمَتْ رؤيته قبل العِقد بزمنٍ
يسير) لا يتغير فيه المبيع في العادةِ (متغيِّراً) تغيراً ظاهراً (فله
الفسخ،) لأن وجودهُ متغيراً بمنزلةِ العيب.
(ويحلف) المشتري (إن اختلفا) في وجودِ التغيُّر لأنّ الأصل براءة ذمته من
الثمن.
ولا يسقط حق المشتري من الفسخِ إلا بما يدلُّ على الرضا بتغيرِهِ من سومٍ
أو غيره.
(السابع) من أقسام الخيار: (خيار الخُلْفِ في قدر الثمن: فإذا اختلفا) أو
ورثَتهما (في قدره) أي الثمن، بأن قال بائع: بعتكه بمائةٍ، وقال مشترٍ، بل
بثمانين، ولا بيّنة لأحدهما، أو لكلّ منهما بينة بما قاله، (وحلف البائع)
أولاً، ويبدأ بالنفي، فيحلف: (ما بِعْتُهُ بكذا،) ثم الإٍثباتِ: (وإنما
بعته بكذا. ثم) يحلف (المشتري: ما اشتريتُهُ بكذا، وإنما اشتريته بكذا.)
وإنما بدأ بالنفي لأن الأصل في اليمين أنها للنفي.
ثم بعد التحالُفِ إن رضي أحدهما بقولِ الآخرِ، أو لم يتحالفا، بل نَكَلَ
أحدهما عن اليمين، وحلف الآخر أُقِرَّ العقد في الصورتين.
(1/349)
(ويتفاسخان) أي إن لم يرض أحدهما بقول
الآخر، بعد التحالف.
وينفسخ بفسخ أحدِهما بعد التحالف ظاهراً وباطناً.
قال المنقِّح: فإن نَكَلَا صرفهما الحاكم.
وكذا إذا اختلف المتوَاجران في قدر الأجرة.
فصل [في التصرف في المبيع قبل قبضه]
(ويملك المشتري المبيعَ مطلقاً) سواء كان مكيلاً أو موزوناً أو معدوداً أو
مذروعاً أوْ لا، (بمجرَّدِ العقدِ) إن لم يكن فيه خيار (1).
(ويصح تصرفه فيه قبل قبضِهِ) ببيعٍ وهبةٍ ووقفٍ وإجارةٍ وعتقٍ ونحو ذلك،
إلا المبيعَ بصفةٍ أو رؤيةٍ متقدمة.
(وإن تلف) المبيع بغير كيلٍ ونحوه (فمن ضمانِهِ) أي المشتري، تمكّن المشتري
من قبضِهِ أوْ لا، إلا أنْ يمنعه منه بائعٌ، أو كان ثمراً على شجرٍ، أو
بصفةٍ أو برؤيةٍ متقدمة، فإنه يكون من ضمان بائع، و (إلاَّ المبيعُ بكيلٍ
أو وزنٍ أو عدٍّ أو ذرعٍ فـ) إنه يكون (من ضمانِ بائِعِهِ)، مع كونِهِ دخل
في ملك المشتري من حين العقد (حتى يقبضَهُ مشتريهِ).
(ولا يصحُّ تصرفه فيه ببيعٍ) ولو لبائعه (أو هبةٍ) ولو بلا عوضٍ، (أو رهنٍ)
ولو قَبَّض ثمنه (قبل قبضِهِ).
(وإن تلف) ما اشتري بكيلٍ أو وزنٍ أو عد أو ذرْعٍ (بآفةٍ سماويّةٍ)
وهي ما لا صنع للآدمي فيها (قبل قبضِهِ انفسخَ العقدُ) أي عقدُ المبيع.
ويخيَّرُ مشترٍ إنْ بقي شيءٌ، في أخْذِهِ بقسطِهِ من الثمن.
__________
(1) وكذلك إن كان فيه خيار كما تقدم في أثناء الكلام في خيار الشرط. فتقييد
الشارح نص المتن بذلك مشكل. لكن انتفاء الخيار أو انتهاؤه شرط لزوم.
(1/350)
(و) إن تلف ما بِيعَ بكيلٍ أو وزنٍ أو عدٍّ
أو ذَرْعٍ (بفعل بائعٍ أو) بفعلِ (أجنبيٍّ خُيِّر المشتري بين الفسخ) أي
فسخ عقد البيع (ويرجعُ) المشتري على البائع (بالثمن) كاملاً، لأنّ التلفَ
والعيبَ حصلَ في يدِهِ فضمنه، (أو الإِمضاء (1). ويطالَب من أتلفه ببدلِهِ)
أي بمثلِ مثليٍّ، وهو المكيلُ والموزونُ، وقيمةِ متقوِّمٍ، وهو المذروع
والمعدود.
(والثمن) الذي ليس في الذمّةِ (كالمُثْمَن في جميعِ ما تقدّم) من الأحكام.
فصل [فيما يحصل به القبض]
(ويحصل قبض المكيلِ بالكيلِ، والموزونِ بالوزنِ، والمعدودِ بالعدّ،
والمذروعِ بالذَّرع) لما روى عثمانُ مرفوعاً، قال: "إذا بِعْتَ فَكِلْ،
وإذا ابتعتَ فاكتَلْ" رواه الإِمام (2). وظاهره أنه لا يُشَتَرَطُ نقلُه.
وهو كذلك، على المذهب. وإنما يصحُّ الكيلُ والوزنُ والذَّرْعُ (بشرطِ حضورِ
المستحِقِّ أو نائِبِهِ) أي نائبِ المستحقِّ للكيلِ، أو الوزْنِ، أو
العدِّ، أو الذَّرْعِ، لقيام الوكيلِ مقام المُوَكّل.
فإن ادّعى القابضُ بعد ذلك نقصانَ ما اكتالَهُ، أو اتَّزنَهُ، أو عدَّه أو
ذَرَعه، أو ادعى أنهما غلطا فيه، أو ادعى البائعُ زيادةً لم يقبل قولُهُما،
لأنّ الظاهر خلافه.
__________
(1) لو قال "والإمضاء" لكان هو الصواب، لأن "بَيْنَ" تضاف إلى شيئين،
فيتعين عطف ثانيهما بالواو.
(2) حديث "إذا بعتَ فَكِلْ ... " رواه الإِمام أحمد. ورواه البخاري تعليقاً
(منار السبيل) وهو صحيح. ورواه أيضاً الدارقطني: (الإِرواء)
(1/351)
(وأجرة الكيَّال) لمكيلٍ، (والوزَّانِ)
لموزونٍ، (والعدّادِ) لمعدودٍ، (والذرّاعِ) لمذروعٍ، (والنَقَّادِ)
لِمَنْقُودٍ، ونحوهم، كمصفّي المبيع من غَلًته، (على الباذِلِ) لِذلك، لأنه
تعلَّقَ به حقُّ التوفية. نصّ عليه.
(وأُجْرَةُ النَّقْلِ على القابِضِ).
(ولا يضمن ناقِدٌ حاذِقٌ أمينٌ خطأً) وُجِدَ منه، في المنصوص، سواءٌ كان
متبرّعاً أو بأجرة.
[الإِقالة]
(وتُسنُّ الإِقالة للنادِمِ، مِن بائعٍ ومشترٍ) لما روى ابن ماجَهْ عن أبي
هريرة مرفوعاً، قال: "من أقالَ مسلماً أقال الله عثرته يوم القيامة" ورواه
أبو داود، وليس فيه ذكر يوم القيامة (1).
وليس بيعاً، بل فسخٌ. فتصحّ قبل قبضِ مكيلٍ ونحوِهِ، وبعدَ نداءِ جمعةٍ،
ومن مضارِبٍ وشريكٍ ولو بلا إذنٍ، ومن مفلسٍ بعد حجرٍ لمصلحةٍ، وبلا شروطِ
بيعٍ، وبلفظِ صلحٍ وبيعٍ، وبما يدلُّ على معاطاةٍ.
ولا خيار فيها، ولا شفعة، ولا يحنث بها من حلف لا يبيع.
__________
(1) حديث "من أقال مسلماً .. " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه من حديث أبي
هريرة دون قوله "يوم القيامة" وصححه الحاكم وأقره الذهبي والمنذري. وأخرجه
الطبراني في مختصر مكارم الأخلاق وابن حبان كلاهما بلفظ "من أقال نادماً
أقال الله عثرته يوم القيامة" ورجاله ثقات.
(1/352)
باب أحكام الرّبَا [وَالصَّرف]
وهو من الكبائر.
(يجري الربا في كل مكيلٍ وموزونٍ) لا معدودٍ ومذروعٍ (ولو لم يؤكل)
كأُشْنَانٍ. (فالمكيلُ كسائِرِ الحبوبِ) من برٍّ وشعيرٍ وذُرَةٍ ودُخْنٍ
وأَرُزٍّ وعَدَسٍ وَحَبٍّ فجلٍ وقطنٍ وكتانٍ، (والأبازيرِ والمائعاتِ) من
لبنٍ وخَلٍّ وزيتٍ وشَيْرَجٍ وسائر الأدهان، كلها مكيلة، (لكِنِ الماءُ ليس
بربويٍّ.) قال في الإِقناع: سوى ماءٍ فإنه لا ربا فيه بحالٍ، ولو قيل هو
مكيل، لعدمِ تَمَوُّلِهِ عادةً. انتهى، (ومن الثمارِ كالتَّمرِ والزبيبِ
والفُسْتُقِ والبُنْدُقِ واللوزِ والبُطْمِ والزَّعْرُورِ والعُنَّابِ
والمشمشِ والزيتونِ والملحِ.)
ويجوز التعامُلُ بكيلٍ لم يُعْهَدْ.
(و) من (الموزونِ كالذهبِ والفضةِ والنحاسِ والرصاصِ والحديدِ وغزلِ
الكتّانِ والقطنِ والحريرِ والشَّعَرِ والعِنَبِ والشَّمْعِ والزعفرانِ
والخبزِ والجبنِ) والوَرْسِ والعُصْفرِ والزجاجِ والطين الأرْمَنِيّ، الذي
يؤكلُ دواءً، واللحمِ والشحمِ والزُّبْدِ.
(وما عدا ذلك فمعدودٌ).
(ولا يجري فيه) أي المعدودُ (الربا ولو مطعوماً، كالبطيخِ والقِثّاءِ
والخِيار والجَوْزِ والبَيْضِ والرُّمانِ) والسفَرْجَلِ والثيابِ والحيوانِ
والبُقولِ
(1/353)
والتُّفاحِ والكُمَّثْرى والخَوْخِ
والإِجَّاصِ، وكلَّ فاكهةٍ رطبة. ذكره القاضي.
(ولا) يجري الرِّبا (فيما أخرجته الصناعَة) لارتفاعِ سعره بها (عن الوزن،
كالثيابِ) فإنها كانت قطناً (والسلاحِ، والفُلُوسِ، والأواني) من النحاسِ،
والحديدِ (غيرَ الذهبِ والفضةِ). قال المنقّح في حواشي التنقيح: الذي يظهر
أن محل ما لا يوزن لصناعتِهِ في غير الذهبِ والفضّةِ، فأما الذهبُ والفضةُ
فلا يصحّ فيهما مطلقاً. ولهذا لم نَرَهمْ مثلوا بهما وإنما يمثلون بالنحاس
والرصاص والحديد ونحوها.
(فصل)
(فإذا بيع المكيلُ بجنسِهِ) أي بمكيلٍ (كتمرٍ بتمرٍ أو) بيع الموزون بجنسه
أي بموزونٍ (كذهبٍ بذهبٍ) وفضةٍ بفضةٍ وبُرٍّ ببر وشعيرٍ بشعيرٍ (صح) ذلك
(بشرطين):
الشرط الأول: (المماثلة في القدر) كدرهم فضةٍ بمثله، ومدِّ بُرٍّ بمدِّ
برٍّ، ومدّ شعيرٍ بمدِّ شعير.
(و) الشرط الثاني: (القبضُ قبل التفرق) من المجلس.
(وإذا بيع) المكيلُ أو الموزون (بغير جنسه، كذهبٍ بفضةٍ، وبُرٍّ بشعير صح)
ذلك (بشرط) واحد، وهو (القبض قبل التفرق) من المجلس، (وجاز التفاضل.) فيصح
بيع مُدَّ من الشعير، بخمسة أمدادٍ من الحنطة، بشرط القبض قبل التفرّق.
(وإن بيعَ المكيلُ بالموزونِ، كبُرٍّ بذهبٍ مثلاً، جاز التفاضل والتفرق قبل
القبض).
(ولا يصحّ بيعُ المكيلِ) أي ما أصله الكيلُ، كالبر، والشعير، والتمر،
والملح، (بجنسه وزناً) كرطل بُرٍّ برطل برٍّ. (ولا) يصح بيع
(1/354)
(الموزونِ) أي ما أصله الوزن، كالفضة،
والنحاس، والرصاص، (بجنسه كيلاً،) إلا أذا علم مساواتَهُ، أي المكيلِ الذي
بيعَ وزناً، أو الموزونِ الذي بيع كيلاً، في معياره الشرعي. فَلَوْ كِيلَ
المكيلُ، أو وُزِنَ الموزون، فكان سواءً، صحَّ.
(ويصح بيع اللحم بمثله) أي بوزنه من جنسه، كلحم بقرٍ بمثله، رطَبْاً بمثله،
أو يابساً بمثله (إذا نُزِعَ عظمه) لأنه إذا لم يُنْزَعْ عظمه أدّى إلى
الجهلِ بالتساوي. فإذا نُزِعَ صح البيع، كالذهب بالذهب، مِثْلاً بمثلٍ.
(و) يصح بيع لحم (بحيوانٍ من غير جنسه) أي مأكولٍ، كقطعةٍ من لحمِ ضأنٍ أو
بقرٍ بحمامةٍ، كغير مأكول.
(ويصح بيع دقيقِ ربويٍّ) كدقيق برٍّ (بدقيقِهِ) مثلاً بمثل (إذا استويا) أي
الدقيقان (نعومةً،) لأنهما تساويا حالَ العقدِ على وجهٍ لا ينفرد أحدهما
بالنقصان، فجاز، (أو) استويا (خشونةً، ورَطْبِهِ بِرَطْبِهِ) كالعِنَبِ
بالعنبِ، والرُّطَبِ بالرُّطَبِ؛ (ويابسهِ بيابسهِ) كالزبيب بالزبيب،
والتمر بالتمر؛ (وعصيرِه بعصيرِه) كماءِ عنبِ بماء عنبٍ؛ (ومطبوخِهِ
بمطبوخِهِ) أي يصح بيع مطبوخ جنسٍ ربوِيٍّ بمَطبوخِهِ، كسمنٍ بقريٍّ بسمنٍ
بقريٍّ مِثْلاً بمثلٍ (إذا استويا نشافاً أو رطوبةً).
(ولا يصح بيع فرعٍ. بأصلِهِ كزيتٍ بزيتونٍ، وشَيْرَجٍ بِسِمْسِمٍ، وجبنٍ
بلبنٍ، وخبزٍ بعجينٍ، وزَلَابِيَةٍ (1) بِقمْحٍ).
(ولا) يصح (بيع الحب المشتدّ) في سُنْبُلِهِ من بُرٍّ أو شعيرٍ
__________
(1) الزلابية حلوى تصنع من عجين يقلى قطعاً صغاراً في زيت، ثم يغمر في ماء
غُلي فيه سكّر.
(1/355)
(بجنسِهِ) لأن التساويَ مجهولٌ، والجهل
بالتساوي كالعلم بالتفاضل (1)، وتسمى المحاقلة.
(ويصحّ) بيع الحب المشتدّ في سنبِلهِ (بـ) حبِّ (غيرِ جنسِهِ) كما لو كان
أحدهما برًّا والآخَرُ شعيراً، لأن اشتراط التساوي منتفٍ مع الجنسين.
(ولا يصحّ بيع ربويٍّ بجنسِهِ، ومعهما) أي الثمن والمثمن (أو مع أحدِهِما
من غيرِ جنسِهما) وذلك (كمدِّ عجوةٍ ودرهمٍ بمثلهما) أي بمدّ عجوةٍ ودرهم
(أو دينار ودرهم بدينارٍ) حسماً لمادة الربا.
(ويصحّ) لو قال: (أعطني بنصفِ هذا الدرهم فضةً وبـ (النصف (الآخر فلوساً)
أو حاجةً غيرَ الفُلوس؛ أو قال: أعطني بالدرهم نصفاً وفلوساً؛ أو دفع إليه
درهمين، وقال: بعني بهذا الدرهم فلوساً، وأعطني بالآخر نصفين، ففعل صح.
(ويصح صرف الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، متماثلاً وزناً لا عدًّا) وإنما
يصحّ صرف الذهب بالفضة وعكسه (بشرط القبض قبل التفرّق).
(و) يصح (أن يعوِّض أحدَ النقدينِ عن الآخرِ بسعرِ يومهِ) قال في المنتهى:
ويصح اقتضاءُ نقدٍ من آخر، إن أُحضِرَ أحدُهما، أو كان أمانةً والآخر
مستقراً في الذمة، بسعر يومه.
وقال: ومن عليه دينارٌ، فقضاه دراهم متفرقةً، كلَّ نَقْدَةٍ بحسابها منه،
صحّ. وإلا فلا. انتهى.
__________
(1) "الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل" قاعدة في باب الربا واسعة، فلا يجوز
بيع صبرة قمح بصبرة قمح وكلاهما أو أحداهما مجهولة الكيل.
(1/356)
باب في أحكام (بَيْع الأصُول وَ) أحكام
بَيْع (الثمار)
والأصول هنا أرضٌ ودورٌ وبساتينُ ومَعَاصِرُ وطواحينُ ونحوُها. والثمار جمع
ثَمَرٍ كجبلٍ وجبال، وواحد الثَّمَرِ ثَمَرَة، وجمع الثمارِ ثُمُرٌ ككتابٍ
وكُتُب، وجمع الثُّمُرِ أثمار كعنق وأعناق، فهو رابعُ جمع.
(من باع، أو وَهَبَ، أو رهَن، أو وَقَفَ داراً، أو أقرّ أو وصّى بها،
تناول) ذلك (أرضَها) بمعدِنِها الجامد، لأنه كأجزائها، (و) تناول البيعُ
(بناءَها) وسقْفَها ودرَجَها، لأن ذلك داخل في مسمَّاها، (و) تناول البيع
(فِنَاءَها) بكسر الفاء، وهو ما اتسع أمامها (إن كان) لها فناء، إذ غالب
الدورِ ليس لها فناء، (و) تناول البيع ما كان (متّصلاً بها) أي الدار
(لمصلحتها، كالسلالِيمِ) من خشبِ، جَمْع سُلَّمٍ بضم السين وفتح اللام
المشدّدة، وهو المِرْقاة، ولفظه مأخَوذ من السلامة. وشَرْطُ دخولِها أن
تكون مسمرَّة، (والرفوفَ المسمَّرَةَ، والأبوابَ المنصوبة) وحَلَقَهَا،
ورحىً منصوبة (والخوابيَ المدفونةَ) لأن ذلك كله متصلٌ بها لمصلحتها، أشبه
الحيطان. وعلم مما ذكر أن السلاليمَ والرفوفَ إذا لم تكن مسمّرة، والبابَ
إذا لم يكن منصوباً، والخوابي إذا لم تكن مدفونةً، لا تدخل، لأنه منفصلٌ
عنها، أَشْبَهَ الطعامَ في الدار، (و) تناول البيع (ما فيها) أي الدار (من
شجرٍ) مغروسٍ (وَعُرُشٍ) جمعُ عَرِيشٍ، وهو الظُّلَّة لأنهما
(1/357)
متصلان بها، (لا كنزاً وحَجَراً مدفونين)
لأنهما مَوْدُوعان فيها للنقل عنها، أشبها الفُرُشَ والستور.
(ولا) يدخل (منفصلٌ عنها كحَبْلٍ ودلْوٍ وبَكَرَةٍ) وقُفْلٍ (وفُرُشٍ) لأن
اللفظ لا يشمله، ولا هو من مصلحتها، (ومفتاحٍ) للدار، وحَجَرِ رحىً فوقاني.
(وإن كان المباع (1) ونحوه) أي كالموقوفِ والموهوبِ والمرهونِ والمقرّ بِهِ
والموصى به (أرضاً دَخَلَ ما فيها من غِراسٍ وبناءٍ) ولو لم يقل: بحقوقها،
لأنهما من حقوقها. وما كان كذلك فيدخلُ فيها بالإِطلاق.
(لا) يدخل في بيع الأرضِ ونحوِها مما ذكر (ما فيها من زرعٍ لا يُحْصَد إلا
مرّة، كَبُرٍّ وشعيرٍ وبصلٍ) وسمسمٍ وأرزٍّ وفجلٍ وثومٍ ولفتٍ وجزرٍ
(ونحوه. ويُبَقَّى) في الأرض (للبائع إلى أولِ وقتِ أخذِهِ) وإن كان بقاؤه
أنفع له، كالثمرة (بلا أجرةٍ) على بائعٍ، لأن المنفعة حصلت مستثناةً له.
(ما لم يشترطه) أي الزرعَ (المشتري) أو نحوُه (لنفسِهِ) ولا يضر جهلُهُ في
مبيعٍ إذا شَرَطَه له، ولا عدم كماله لكونه دَخَل تبعاً للأرض.
(وإن كان) ما في الأرض من الزرع (يجزُّ مرةً بعد أخرى، كَرَطْبَةٍ) بفتح
الراء، وهي الفَضَّةُ (2)، فإذا يَبسَتْ فهي قَتٌّ، (وبُقُولٍ) كنَعْنَاعٍ
وهِنْدَبَاء (أو تتكرَّرُ ثمرتُهُ كقِثَّاءٍ وباذنجانٍ) أَو يتكرَّر أخذ
زَهَرِهِ كوردٍ وياسمينٍ.
(فالأصول) من جميع ذلك في مبيع (للمشتري) لأن ذلك يراد للبقاءِ، أشبهَ
الشجَرَ. (والجزّة الظاهرةُ) وقتَ البيع (واللَّقْطَةُ الأولى) وزهرٌ
تفتَحَ وقتَ بيعٍ (للبائعِ) لأنه يُجْنى مع بقاءِ أصلِهِ، أشبَهَ ثَمَرَ
الشجرِ المؤَبَّر.
__________
(1) كذا في الأصول، والصواب "المبيع".
(2) كذا بالأصل وفي اللسان (الفصفصة)
(1/358)
(وعليه) أي على البائع (قطعُها) أي الأشياء
التي قلنا: إنها له (في الحال) أي على الفور.
فصل [في بيع الثمار]
(وإذا بِيعَ شجرُ النخْلِ بعد تشقَّق طِلْعِهِ) بكسر الطاء (1) غلاف
العنقود (فالثمر للبائعِ) ما لم يشترطْهُ المشتري، (متروكاً) في رؤوس النخل
(إلى أول وقتِ أَخْذِهِ.) قال في شرح المنتهى: وأمّا كوْنُ الثمرةِ تترك في
رؤوس النخلِ إلى الجَذَاذِ لأن (2) النقلَ والتفريغَ للمبيعِ على حسب
العُرفِ والعادة، كما لو باع داراً فيها طعامٌ، لم يجب نقلُه إلا على
حَسَبِ العادة في ذلك، وهو أن ينقُلَهُ نهاراً شيئاً بعد شيء، ولا يلزمه
النَّقْلُ ليلاً، ولا جَمْعُ دوابِّ البلد لنقله. كذلك ههنا: تفريغُ
النَّخْلِ من الثمرةِ في أوان تفريغِها، وهو أوَانُ جذاذِها.
إذا تقرَّرَ هذا فالمرجعُ في جَذِّهِ إلى ما جرتْ به العادة، فإذا كان
المبيعُ نخلاً فحين تتناهى حلاوةُ ثمرهِ. انتهى. فإن جرتْ عادةٌ بأخِذِهِ
بُسْراً، أو كان بُسْرُهُ خيراً من رُطَبِه جَذَّهُ حين تستحكم حلاوةُ
بُسْرِهِ.
(وكذا) الحكم (إنْ بِيعَ شجرُ ما ظَهرَ) من ثمرةٍ لا قشر عليها، ولا نَوْرَ
لها (من عنبٍ وتينٍ وتوتٍ) وجُمَّيْزٍ، أو يظهر في قشرِهِ ويبقى فيه إلى
حين الأكل، (و) ذلك (كرمِّانٍ) ومَوْزٍ، أو يظهر في قشرين (و) ذلك كـ
(جَوْزٍ، أو ظهر من نَوْرِهِ) أي وكالطَّلْعِ إذا تشقَّق في الحكم ما ظهر
__________
(1) كذا في الأصول. ولكن ضبطه في لسان العرب بفتح الطاء. فلعل ما في الشرح
سبق قلم.
(2) الفاء في جواب (أمّا) واجبة، فصوابه (فلأنّ).
(1/359)
من نورِهِ مما له نَوْرٌ يتناثر (كمشمشٍ)
بكسر ميميه (وتفاحٍ وسفرجلٍ ولَوْزٍ) وخَوْخٍ وإجَّاصٍ، (أو خَرَجِ من
أكمامهِ) جمع كِمٍّ بكسر الكاف، وهو الغلاف (كوَرْدٍ) وياسمينٍ ونرْجِسٍ
وبَنَفْسَجٍ وقطْنٍ يحمِل في كل سنة.
(وما بِيعَ قبل ذلك) أي قبل تشقُّقِ الطلع ونحوه (فللمشتري) والمتّهب كورق
الشجر، لأنه من أجزائِها خُلقَ لمصلحتها.
وأن تشقّق أو ظهر بعضُ ثمرِهِ، أو بعض طلعٍ، ولو من نوعٍ، فللبائعِ،
وغيرُهُ للمشتري.
(ولا تدخل الأرض تبعاً للشَّجَرِ) إذا باع الشجرَ، (فإذا باد) الشجرُ (فلا
يملكُ غَرْسَ مكانِه) أي إذا اشترى شخصٌ شَجَراً، ثم قَلَعَهُ فلا يملك
غَرْسَ شيءٍ مكانه.
فصل [في بيع الثمار بعد بدوِّ صلاحها]
(ولا يصحّ بيع الثمرة قبل بُدُوِّ صلاحها لغيرِ مالِك الأصل، ولا) يصحُّ
(بيعُ الزرعِ قبل اشتدادِ حبِّهِ لغير مالك الأرض) إلا بشرْطِ القطْعِ في
الحال، في الثمرة والزرعِ إن كان منتفعاً به حين العقد، فإن لم يُنْتَفَعْ
بها، كثمرةِ الجوْز وزرعِ التُّرْمُسِ، لم يصحّ، لعدم النفع بالمبيع، ولم
يكن مشاعاً (1)، بأن يشتري نصفَ الثمر قبل بُدُوِّ صلاحها مشاعاً، أو نصْفَ
الزرعِ قبل اشتداد حبِّه مُشَاعاً، فلا يصح الشراءُ بشرطِ القطعَ.
(وصلاحُ بعض ثمرةِ شجرةٍ صلاحٌ لجميع) أشجارِ (نوعِهِا الذي
__________
(1) عبارة "ولم يكن مشاعاً" معطوفة على قوله "إن كان منتفعاً به" فهو شرط
ثانٍ لجواز هذا البيع. لأن حقه المشاع لا يمكن قطعه إلا بقطع ملك غيره، فلم
يصحّ اشتراطه.
(1/360)
بالبستان) الواحد، لأن اعتبارَ الصلاح في
الجميعِ يَشُقُّ، وكالشجرةِ الواحدة.
(فصلاحُ البَلَحِ أن يحمر أو يصفرّ، و) صلاح (العِنَبَ أن يَتَمَوَّهَ
بالماء الحلو، و) صلاحُ (بقية الفواكه) كالرمّان والمشمش والخوخ والجوز
والسفرجل (طِيبُ أكلِهَا وظهورُ نضجها. و) صلاح (ما يظهر فَماً بعد فَمٍ)
أي بعد لقطه (1) (كالقِثّاءِ والخِيارِ أن يؤكل عادة.) والصلاح في الحبّ أن
يشتد أو يبيض.
(وما تلف من الثمرة) إذا كانت باقيةً على أصولِها -سوى يسيرٍ لا ينضبط
لقلته- بجائحةٍ سماويةٍ، وهي ما لا صُنْعَ لآدميٍّ، فيها ولو بعد قبضٍ
(قبلَ أخْذِها فمن ضمان البائع) لأن التخليةَ في ذلك ليست بقبضٍ تامٍّ، لأن
على البائع المؤنة إلى تتمة صلاحِهِ، فوجب كونه من ضمانِ بائعٍ (ما لم
تُبَعْ مع أصلها) لحصولِ القبضِ التامّ، وانقطاع عُلَقِ البائع عنه (أو
يؤخِّرِ المشتري أَخذَهَا عن عادتِهِ) لتفريطِ المشتري. وإن تَعَيَّبَت
الثمرة بالجائحة في وقتٍ يكون تلفها بالجائحةِ من ضمانِ بائعٍ خُيرَ مشترٍ
بين فسخِ بيعٍ، وإمضاءٍ وأَخْذِ أرْشٍ.
وإن تلف ما ضُمِنَ بالجائحةِ بِصُنْعِ آدميٍّ خُير مشترٍ بين فسخِ بيعٍ
ومطالبةِ بائعٍ بما قَبَضَهُ من الثمن، أو إمضاءٍ ومطالبةِ مُتْلِفٍ،
كالمكيلِ إذا أتلفه آدميٌّ قبل القبض.
__________
(1) عبارة "بعد لقطه" ساقطة من (ف).
(1/361)
باب السّلم
هو في الشرع عقدٌ على شيءٍ يصح بيعُهُ، موصوفاً في ذمةٍ، لجائزِ التصرُّفِ،
بثمنٍ مقبوضٍ بمجلسِ العقد.
وهو جائز بالإِجماع. وسنده من الكتاب قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى
فَاكْتُبُوهُ}.
(ينعقد) السلم (بكلّ ما يدلّ عليه) من الألفاظ، كأسلمتك وأسلفتك. و) يصح
السلم (بلفظ البيع) كابتعتُ منك قمحاً صفته كذا، وكيله كذا، إلى كذا، لأنه
نوع منه.
(وشروطه) أي شروطُ صحتِهِ (سبعة)، تأتي مفصلة:
(أحدها) (1): (انضباط صفات المسلَم فيه) لأن ما لا يمكن ضبطُ صفاتِه يختلف
كثيراً، فيفضي إلى المنازَعَةِ والمشاقَقَةِ المطلوبِ شرعاً عدمهما، وذلك
(كالمكيلِ) من حبوبٍ وغيرِها، كأدْهانٍ وألبان، (والموْزونِ) من الأخبازِ،
واللحوم النيِّئةِ، َ ولو مع عَظْمِهَا إنْ عيَّن موضع القطع، كلحم فخِذٍ
وجَنْبِ وغير ذلك. ويعتبر قوله: بقر، أو غنم، أو معز، جَذَعٌ أو ثَنِيّ،
ذكرٌ أو أنثى، خَصِيّ أو غيره، رضيعٌ أو فطيمٌ،
__________
(1) (ب، ص): "أحدها أن يكون السلم فيه مما يمكن انضباط صفات المسلم فيه"
فحذفنا كما
في (ف).
(1/362)
معلوفَةٌ أو راعية، سمينٌ أو هزيلٌ، لأن
الثمن يختلف باختلاف هذه الأشياء. ولا يصحّ في اللحم المطبوخ. (والمذروعِ)
من الثيابِ والخيوطِ؛ (والمعدود من الحيوانات، ولو كان) الحيوان (آدمياً)،
إلا في أمةٍ وولدِهَا، أو في حاملٍ. (فلا يصحُّ في المعدودِ من الفواكِهِ)
لأنها تختلفُ بالصغر والكبر.
(ولا) يصحّ السلَم (فيما لا ينضبط، كالبقولِ) لأنها تختلفُ، ولا يمكن
تقديرها بالحُزَم؛ (والجلودِ) لأنها تختلف، ولا يمكن ذَرْعُها؛ (والرؤوسِ
والأكارع) لأن أكثر ذلك العظامُ والمشافرُ، واللحمُ فيه قليلٌ، وليس
بموزونٍ؛ (والبيضِ) والجَوْزِ والرُّمَّانِ، لأَنَّ ذلك يختلف، (والأواني
المختلفة رؤوساً وأوساطاً كالقماقم) جمع قمقمٍ بضم القافين (ونحوها)
كالأسطال الضيقةِ الرؤوس.
(الثاني: ذكر جنسِهِ) أي المسلمِ فيه، فيقول مثلاً: تمرٌ؛ (و) ذِكْر
(نوعِهِ) فيقول: بَرْنيٌّ، أو مَعْقِلِيٌّ، ويكون ذكر نوعِهِ وجنسِهِ
(بالصفاتِ التي يختلف بها الثمن غالباً) كالحداثةِ والقِدَمِ، والجودةِ
والرداءَةِ، فيصفُ البُرَّ بأربَعَةِ أوصافٍ: بالنوع فيقول: سَلْمُونيّ؛
والبلدِ، فيقول: حورانيّ، أو بِقاعيّ، أو بُحَيْرِي؛ وصغار الحبّ أو كباره؛
وحديثٌ أو عتيقٌ.
وإن كان النوعُ الواحد يختلف لونُه ذَكَرَه.
(ويجوز) لربّ السلم (أن يأخُذَ دونَ ما وُصِفَ له) لأن الحق له، وقد رضِيَ
بدونه (و) يجوز له أخذه (من غير نوعِهِ من جنسِهِ) لأن النوعين مع الاتّحاد
في الجنس كالشيءِ الواحِدِ، بدليلِ تحريم التفاضل.
(الثالث: معرفة قدره) أي المسلم فيه، (بمعيارِهِ الشرعيّ) أي بالكيلِ في
المكيل، وبالوزنِ في الموزون، وبالذرع في المذروع. (فلا يصحّ) أن يُسْلِمَ
(في مكيلٍ وزناً، ولا في موزونٍ كيلاً) نصّ عليه، لأنه
(1/363)
بيعٌ بشرطِ معرفةِ قدرِه، فلم يجزْ بغيرِ
ما هو مقدر بِهِ في الَأصْلِ، كبيعِ الربويّات بعضاً ببعضٍ. ولأنه قدّرَ
المسلَمَ فيه بغير ما هو مقدَّر به في الأصل. ولا يصح شَرطُ صنجةٍ أي
العيارِ الذي يوزن به، أو مِكْيالٍ (1) أو ذِرَاعٍ لا عُرْفَ له.
(الرابع: أن يكون في الذّمة) فلا يصح في عينِ شجرةٍ نابتةٍ ونحوِها، لأنه
ربّما تَلِفَ المُعَيَّن قبل أوانِ تسليمِهِ، ولم يذكرْ بعضُهمْ قوله: "أن
يكون في الذمة" استغناءً عنه بذكر الأجل، لأن المؤجَّل لا يكون إلا في
الذّمّةُ. وأن يكون (إلى أجلٍ معلومٍ)، نصًّا، (له) أي الأجَل (وَقْعٌ في
العادةِ) لأن الأجَلِ إنما اعتُبِر ليتحقَّق الرفْقُ الذي شُرِعَ من أجلِهِ
السلَم، فلا يحصل ذلك بالمدَّةِ التي لا وَقْعَ لها في الثمن.
والأجلِ الذي له وقع في الثمن (كشهر) ونحوِهِ. في الكافي. أو نصفِهِ. ومن
أسلم لمجهولٍ، كحَصَادٍ، وجَذَاذٍ، ونحوهما، أو ربيعٍ أو جمَادى أو
النَّفْرِ، لم يصحّ.
(الخامس: أن يكونَ مما يُوْجَد غالباً عند حلول الأجَلِ) لوجوب تسليمِهِ
إذَنْ. ولو كان معدوماً عند العِقد، كالسَّلَمِ في العِنَبِ والرُّطَبِ
زَمَنَ الشتاءِ في الصيف. فلو عَكَسَ ذلكَ لم يصحَّ، لأنه لا يمكن تسليمه
غالباً عند وجوبه، أشْبَهَ بيعَ الآبق، بل أولى.
(السادس: معرفةُ قدرِ رأسِ مالِ السلم، وانضباطُه) كالمسلَمِ فيه، لأنه قد
يتأخَّرُ تسليمُ المعقودِ عليه، ولا يُؤْمَن انفساخهُ، فوجَبَ معرفةُ رأسِ
مالِهِ ليردَّ بَدَلَهُ، كالقرض.
(فـ) على هذا (لا تكفي مشاهَدَتُهُ).
(ولا يصحُّ بما لا ينضَبِطُ) كجوهرٍ ونحوِهِ، فإن فَعَلَا فباطلٌ.
__________
(1) في الأصول: "أو مكيل" والتصويب من شرح المنتهى 1/ 318.
(1/364)
(السابع: أن يَقْبضَهُ) أي رأس مال السلم
(قبل التفرق من مجلس العقد) استنبطه الشافعيّ رحمه الله تعالى من قوله -
صلى الله عليه وسلم -: "مَنْ أسلَفَ فليُسْلِفْ" (1) أي فليُعْطِ. لأنّه لا
يقَعُ اسمُ السلفِ فيه، حتى يعطِيَهُ ما أسلف قبل أن يفارقَ منْ أسلفه
انتهى، وحَذَراً أن يصيرَ بيعَ دينٍ بدينٍ، فيدخُل تحتَ النهيِ؛ أو ما في
معنى القبضِ، كما لو كانَ عند المسلَم إليه أمانةٌ أو عينٌ مغصوبةٌ،
فيجعلها ربُّها رأسَ مالِ السلم، فيصحُّ، لأنه في معنى القبض؛ لا ما في
ذمَّتِهِ، فإنْ قَبَضَ بعض رأسِ مالِ السَّلَمِ، ثم افترقَا، بطل فيما لم
يُقْبَضْ.
(ولا يُشترط ذكْرُ مكانِ الوفاءِ) في عقدِ السلمِ، لعدمِ ذكرِهِ في الحديث،
(لأنه) أي الوفاء (يجبُ بمكانِ العَقْدِ،) وشَرْطُهُ فيه مؤكِّد، (ما لم
يُعْقَدُ ببرّيَّةٍ ونحوِهَا) كعلى جبلٍ غير مسكونٍ، أو في دارِ حربٍ، أو
في سفينةٍ (فيشتَرَطُ) ذِكْرُ مكانِ الوَفَاءِ.
(ولا يصحُّ أَخذ رهنٍ أو كفيلٍ بمسلمٍ فيه) لأن الرهنَ إنما يجوزُ بشيءٍ
يمكنُ استيفاؤه من ثَمَنِ الرَّهْنِ، والضمانُ يقيم ما في ذمة الضامنِ
مقامَ ما في ذمةِ المضمون عنه، فيكون في حكم المعوَّض والبَدَلِ عنه،
وكلاهما لا يجوز (2).
(وإن تعذَّر حصوله) أي المسلم فيه، أو بعضهِ، بأن لم يوجد، (خُيِّرَ ربُّ
السَّلَمِ) فيه (بين صبرٍ) إلى أن يوجد فيطالِبَ بِهِ (أو فسخٍ).
(ويرجعُ إنْ فَسَخَ برأسِ مالِهِ) إن كان موجوداً بعينه، (أو بَدَلِهِ إن
تعذَّرَ) لتعذُّرِ رده.
__________
(1) حديث "من أسلف فليسلفْ في كيل معلومٍ أو وزن معلوم إلى أجلِ معلوم"
متفق عليه من حديث ابن عباس مرفوعاً.
(2) وفي رواية أخرى: يجوز أخذ الرهن والكفيل به، وبه فسّر ابن عباس قوله
تعالى: {إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ .... } إلى قوله: {فَرِهَانٌ
مَقْبُوضَةٌ} (المغني 4/ 308)
(1/365)
وَعِوَضُهُ مِثْلُ مِثْلِيٍّ وقيمةُ
متقوَّم.
(ومن أراد قضاءَ دينٍ عن غيرِهِ، فأبى ربُّهُ) أي ربُّ الدين قبضَهُ من
غيرِ المدينِ (لم يُلْزَمْ بقبوله.)
(1/366)
باب القرض
هو في اللغة القطعُ، وشرعاً دفع مالٍ إرفاقاً لمن ينتفع به ويردّ بدلَه.
قال في غاية المنتهى: والصدقة أفضلُ منه.
(يصح) القرضُ (بكلِّ عينٍ يصحُّ بيعُها) من مكيلٍ وموزونٍ وغيرِه، كالحيوان
(إلا بني آدم) الاختيارُ للقاضي، لأنه لم يُنْقَلْ قرضُهم.
(ويشترط عِلْم قدْرِه) أي المال المقرض، بقدْرٍ معروفٍ، (ووصفِهِ) كسائرِ
عقودِ المعاوَضَاتِ.
(و) يشترط (كون المقرِضِ يصحّ تبرعه) لأنه عقدٌ على مالٍ، فلا يصحّ إلا من
جائز التصرف.
(ويتم العقد) أي عقد القرض (بالقبولِ) لَه.
(ويُمْلَكُ) المالُ المقرَضُ، (ويَلْزَمُ) العقد (بالقبضِ) لأنه عقدٌ يقف
التصرف فيه على القبضِ، فوَقَفَ المِلك عليه، كالهبة، (فلا يملِكُ المقرِض
استرجاعَه) لأنه قد لزم من جهته فلا يَمْلِك الرجوعَ فيه، كالبيع، لكونه
أزالَ ملكه عنه بعقدٍ لازمٍ من غيرِ خيارٍ، (ويثبت له البدَلُ حالاًّ) لأنه
يوجِبُ ردَّ المثل في المثليات فأوجبه حالاً، كالإِتلاف. فعلى هذا لو
أقرضَه تفاريق، ثم طالبه بها جملة، كان له ذلك، لأن الجميع حالٌّ، أشبهَ،
ما لو باعه بيوعاً حالّةً متفرقة، ثم طالبه بثمنها جملة.
(1/367)
(فإن كان) المُقْرَض (متقوماً) كالكتبِ
(فـ) يَرُدُّ (قيمتَهُ وَقْتَ القَرْضِ) لأن قيمتها تختلف في الزمن اليسير،
باعتبارِ قِلَّة الراغِبِ وكثرته، فتنقص فينْضَرُّ المقرِض، أو تزيد زيادة
كثيرة فينضرّ المقترض.
(وإنْ كان) المقرَضُ (مثليًّا) مكيلاً أو موزوناً (فـ) يرد (مثله) وقت
القرض (1) سواء زادت قيمته، أي المثل عن وقتِ القرضِ، أو نقصت (ما لم يكن
المُقْرَضُ (معيباً أو فلوساً ونحوها) كالدراهم المكسّرة (فيحرِّمها
السلطان) ولو لم يتفق الناسُ على تركِ المعاملةِ بها (فله القيمةُ) أي
قيمةُ ما أَقْرَضَهُ.
(ويجوز شرطُ رَهْنٍ وضمينٍ فيهِ) أي في القَرْضِ.
(ويجوز قَرْضُ الماءِ) حال كونه (كيلاً) كغيرِهِ من المكيلات.
(و) يجوز قرض (الخبز) عدداً (والخميرِ عدداً، وردُّه عدداً بلا قَصْدِ
زيادة) ولا جَوْدَةٍ، ولا شرطِهِمَا. فإنْ قَصدَ الزِياده؛ أو الجودةَ أو
شَرَطَهمَا حَرُمَ لأنه يجرّ نفعاً.
(وكلُّ قَرْضٍ جَرَّ نَفْعاً فَحَرَامٌ كأنْ يُسْكِنَهُ داره) مجاناً أو
رخيصاً، (أو يعيرَهُ دابتَهُ، أو يَقْضِيَهُ خيراً منه) أو ينتفعَ بالرهنِ،
أو يزارِعَه على ضَيْعَةٍ، أو أن يستعمله في صنعته، ويعطيه أنْقَصَ من
أُجْرَةِ المِثْلِ، ونحو ذلك من كل ما فيهِ جَرُّ منفعةٍ، فلا يجوز.
(وإن فعل ذلك) أو شيئاً منه (بلا شرطٍ) بعد الوفاءِ، ولا مواطَأَةٍ، (أو
قضى) المقترض (خيراً منه،) أو أكثَرَ مما اقترضُهُ (بلا مواطأةٍ، جازَ) قال
في الفصول: وأما الذهب والفِضة فيعفى فيهما عن الرُّجحَانِ في القضاءِ، إذا
كان يسيراً. انتهى، أو أهدى له هديّةً بعد الوفاءِ، أوْ عُلِمُ منه
الزيادة، لشُهْرَةِ سخائِهِ وكَرَمِهِ، جاز ذلك.
__________
(1) (ب، ص) سقط منهما "وقت القرض" وهو ثابت في (ف).
(1/368)
(ومتى بَذَلَ المقترضُ) أو الغاصبُ (ما
عليه بغير بلد القرض) أو الغصب (ولا مَؤْنَةَ لحملِهِ) إليه (لزمَ رَبَّهُ)
أي المقرِضَ أو المغصوب منه (قبوله مع أَمْنِ البلدِ والطريق) لأنه لا ضرر
عليه إذَنْ.
(1/369)
باب الرّهن
وهو لغةً: الثبوت والدوام، وشرعاً: تَوْثِقَةُ دينٍ بعينٍ يمكنُ أخذه، أو
بعضه، منها، أو من ثمنها.
ولا يصحّ بدون إيجابٍ وقبولٍ أو ما يدلّ عليهما كالمعاطاة.
(يصح بشروطٍ خمسة):
<رأس>الأوّل</رأس>: (كونه منجَّزاً) فلا يصحّ معلَّقاً.
(و) الثاني: (كونه) أي الرهن (مع الحقِّ أو بعدهُ)، فمعَ الدينِ كأن يقول:
بعتُك هذا بعشرةٍ إلى شهرٍ تَرْهَنُنِي بها عبدَكَ فلاناً. فيقول: اشتريتُ
ورهنتُ. فيصح.
وأما بعده فيصحّ بالإِجماع، وسنده قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى
سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} فجعله بدلاً من
الكتابة. فيكون في محلِّها، ومحلُّها بعد ثبوتِ الحقّ.
وعُلِمَ من هذا أنه لا يصحّ قبل الدين. نصّ عليه الإِمام.
(و) الثالث: (كونه) أي الراهن (ممن يصحّ بيعه) لأنه نوع تصرّفٍ في المالِ،
فلم يصحّ من محجورٍ عليه، من غير إذنٍ، كالبيع.
(و) الرابع: (كونه) أي الرهن (ملكَهُ) أي الراهن (أو مأذوناً له في
(1/370)
رَهْنِهِ)، كما لو كان مالكاً لمنافِعِهِ
بإجارةٍ، أو إعارةٍ، أو أَذِنَ له مؤجرٌ أو معيرٌ في رهنه.
(و) الخامس: (كونه) أي الرهن (معلوماً جنسُهُ وقدره وصفته) وبدينٍ واجبِ أو
مآلُهُ إليه. فيصح بعين مضمونةٍ كالمغصوبِ والعواري والمقبوضِ علَى وَجْهِ
السَّوْمِ، والمقبوضِ بعقدٍ فاسدٍ، وبنفعِ إجارةٍ في ذمّةٍ، كخياطةٍ،
وبناءِ دارٍ، وحملِ شيءٍ معلومٍ إلى موضعٍ معين.
ولا يصح الرهن على جُعْلٍ قبل تمام عملٍ.
[ما يصح رهنه]
(وكل ما صحّ بيعُهُ صحَّ رهنُهُ إلا المصحف) نَقَلَ الجماعة عن الإِمام
أحمدَ رحمه الله تعالى: لا أُرْخِصُ في رهن المصحفِ، لأنه وسيلةٌ إلى بيعه،
وهو محرم.
(وما لا يصح بيعُهُ) كالخمرِ وأمِّ الوَلَدِ، والآبقِ، والمجهولِ
والرَّهْنِ (لا يصحُّ رهنُهُ) لأن القصد من الرهن استيفاءُ الدَّيْنِ من
ثمنِهِ عند التعذُّر، وما لا يصحّ بيعه لا يمكن فيه ذلك (إلا الثمرةَ قبلَ
بدوِّ صلاحِها و) إلاَّ (الزرعَ قبلَ اشتدادِ حبَّهِ) لأنَّ النهيَ عن
بيعهما إنما شُرِعَ لِعَدَمِ الأمْنِ من العاهةِ، ولهذا أَمَرَ بوضعِ
الجوائِحِ، وذلك مفقودٌ هنا، وتقدير تلفها لا يفوِّتُ حق المرتهن من
الدَّين لتعلقِهِ بِذمَّةِ الراهِنِ، (و) إلاَّ (القِنِّ) ذكراً أو أنثى
(دونَ رَحمِهِ المَحْرَمِ) كولدٍ دون والدِهِ، وأخٍ دون أخيه، لأن النهي عن
بيع ذلك إنما هو لأجْلِ التفريقِ بين ذوي الرحم المحرم، وذلك مفقود هنا،
فإنه إذا استُحِقَّ بيعُ الرهن يباعان معاً، وُيخَصُّ المرتهن بما يَخُصُّ
المرهونَ من ثمنهما.
وفي كيفية ذلك ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يقال: كم قيمةُ المرهون؟ فيقال مثلاً: مائة، ومع ولده
(1/371)
أو والده أو أخيه الذي لم يُرْهَنْ: مائة
وخمسون. فيكونُ للمرتهنِ ثلثا ثَمَنِهِمَا. وقدّمه في الرعاية الكبرى.
الثاني: أن يقوّم غير المرهون مفرداً، كأن يكون الولدُ غير المرهونِ قيمتُه
عشرونَ، وقيمته هو وأبوه مائة وعشرون، فيكون للمرتَهِنِ خمسةُ أسداس.
الثالث: أن يقوَّمَ المرهون مع قريبه، فإن كان أُمًّا قُوِّمتْ ولها ولد،
ثم يقوّمِ الولد مع أُمِّهِ، فإن التفريق ممتنع. قال في التلخيص: هذا هو
الصحيح عندي إذا كان المرتَهِنُ يعلم أنَّ لها ولداً. قال في الرعاية
الكبرى: وهو أولى.
(ولا يصحّ رهن مال اليتيمِ للفاسقِ) ويحرم على الوليّ رهنُهُ، لما فيه من
التعريضِ للهلاك، لأنّ الفاسق قد يجحده، أو يفرّط فيه، فيضيع.
ومثله مكاتَبٌ وقِنٌّ مأذونٌ له في التجارة، لاشتراط وجود المصلحة.
فصل
(وللراهن الرجوعُ في الرهنِ ما لم يقبضْه المرتهنُ) أو وكيلهُ، أوْ مَنِ
اتفق الراهن والمرتهن أن يكون بيده.
وليس له قبضُهُ إلا بإذن الراهن. فإن قَبَضَهُ بغير إذنِهِ لم يثبُتْ حكمه،
وكان بمنزلةِ من لم يقبضْ، لفساد القبضِ.
(فإن قبضه) بإذنه (لَزِمَ، ولم يصحّ تصرفه فيه) ببيع أو هَبةٍ أو وقفٍ أو
رهنٍ أو جعلِهِ صَدَاقاً أو عِوَضاً عن خُلْعٍ، ونحو ذلك (بلا إذن المرتهن،
إلا بالعتق) أي عتق الراهنِ الرهنَ المقبوضَ، سواءٌ كان
(1/372)
الراهنُ موسراً أو معسراً، نصًّا. ويحرم.
(وعليه) أي الراهن، إن كان موسراً (قيمتهُ تكونُ رهناً مكانه) لأنَّهُ
أَبْطَلَ حقَّ المرتهن من الوثيقة بغير إذنه، فتلزَمُهُ قيمته، كما لو
أَبْطَلَها أَجنبيٌّ.
قال في شرح المنتهى: ومحلُّ هذا إذا كانَ الدينُ مؤجَّلاً، إما لو كان
حالاًّ، أو حلَّ، طولب بالدين خاصةً، لأنَّ ذمَّتَهُ تبرأُ بِهِ من
الحقَّيْنِ معاً.
ومتى أيسَرَ معسِرٌ بقيمتِهِ قبل حلول الدين أُخِذَتْ منه القيمةُ، وجعلت
رهناً مكانه.
(وكسْبُ الرهن،) ومَهْرُ المرهونة حيث وَجَبَ، وأرش جنايةٍ عليه،
(ونماؤُهُ) أي الرهنِ، المتصلُ كالسِّمَنِ والتعلم، والمنفصل ولو صوفاً
ولَبَناً وورقَ شجرٍ مقصوداً (رهنٌ) كالأَصْلِ، يُبَاعُ معه في وفاء الدين.
أما كون النماء يتبعُ الرهنَ، فلأنه حكمٌ ثبت في العين بعقد المالك، فيدخل
فيهِ النماءُ والمنافع، كالملك بالبيعِ وغيرِهِ، وأما كون أرشِ الجنايةِ
عليهِ يتبعُهُ فلأنه بدل جزءٍ، فكان من الرهن، كقيمته إذا أتلفه إنسان.
صفة الرهن بيد المرتهن
(وهو) أي الرهن (أمانةٌ بيد المرتَهِنِ) ولو قبل عقدِ الرهنِ، كبَعْدَ
وفاءٍ أو إبراءٍ، (لا يضمنه إلا بالتفريط) أو التعدّي.
(ويقبل قوله) في عَدَمِ التعدي والتفريط، (بيمينه في تلفه، وأنّه لم يفرط)
ولم يتعد.
وإن ادّعى التلفَ بحادثٍ ظاهرٍ قبل قولُهُ فيهِ ببينةٍ تشهد بالحادث. ثم
يقبل قوله (في تلفه) به بدونها.
(وإن تلف بعض الرهنِ) وبقي بعضه (فباقيه رهنٌ بجميع الحق)
(1/373)
لأن الحقَّ كله متعلق بجميعِ أجزاءِ
الرهنِ، ولو كان الرهنُ عينينِ تلفتْ إحداهما.
(ولا ينفكّ منه) أي الرهن (شيءٌ حتى يقضيَ الدينَ كلَّهُ) لأن حقّ الوثيقةِ
تعلقَ بجميعِ الرهنِ فيصير محبوساً بكل جزء منه، لا ينفك منه شيءٌ حتى
يُقْضَى جميعه، ولو كان مما يُقْسَمُ قسمةَ إجبارٍ. ومن قضى غريمَهُ، أو
أسقطَ عنه بعضَ دينٍ له، وببعضِهِ رهنٌ أو كفيلٌ، وقع عما نواه.
(وإذا حل أجلُ الدَّيْنِ، وكان الراهِنُ قد شرط للمرتهن أنه إن لم يأتِهِ
بحقه عند الحلول وإلا فالرهن له) أي للمرتهن (لم يصحّ الشرط بل يلزمُهُ) أي
الراهنَ (الوفاءُ) لما عليه من الدين (أو يأذنَ للمرتهن) الراهنُ (في بيعِ
الرهْنِ، أو يبيعَهُ هو) أي الراهن (بنفسه، ليوفيه) أي المرتهنَ (حقَّه).
(فإن أبى) الراهنُ كلاًّ من بيعِ الرهنِ، ووفاءِ الدين (حُبِسَ أو عُزِّرَ)
بالبناء للمفعول فيهما، أي حَبَسَهُ الحاكم أو عزَّرَهُ حتى يفعل ما أمره
به، لأن هذا شأن الحاكم.
(فإن أصرّ) على الامتناع (باعَهُ) أي الرهن (الحاكِمُ) نصًّا بنفسِهِ أو
أمينِهِ لأنه تعيَّنَ طريقاً إلى أداء الواجِبِ، فوجَبَ فِعْلُهُ ووفاءُ
دينِهِ. قال في شرح المنتهى: وظاهر ما تقدم أنه ليس للمرتهن بيعُهُ بغير
إذن ربِّهِ أو الحاكم. وهو المذهب. انتهى.
فصل [في انتفاع المرتهن بالرهن]
(وللمرتهن ركوب الرهنِ) إذا كان فرساً أو ناقةً أو نحوهما. (و) له (حلبه،)
واسترضاعُ أمته (بقدر نفقته بلا إذن الراهنِ، ولو) كان الراهنُ (حاضراً)
لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الظَّهْرُ يُركب بنفقتِهِ إذا كان مرهوناً،
ولَبَنُ الدّرِّ
(1/374)
يُشرَب بنفقته إذا كان مرهوناً، وعلى الذي
يركَبُ وَيشْرَبُ النفقةُ"، رواه البخاري. لا يقالُ: المرادُ به أن الراهن
ينفِقُ وينتفع، لأنه مدفوع بما روي "إذا كانَتْ الدابَّةُ مرهونةً فعلى
المرتهن عَلَفُها" (1) فجعل المرتهنَ هو المنفقَ، فيكون هو المنتفِع.
وقوله: بنفقته، أي بسببها، إذ الانتفاع عِوَضُ النفقةِ، وذلك إنما يتأتَّى
في المرتهن، أما الراهن فإنفاقه وانتفاعه بسبب الملك.
ويكون المرتهن متحرّياً للعدلِ. وسواءٌ أنفق المرتهن مع تعذّر النفقةِ من
الراهِنِ بِسبَبِ غَيْبَةٍ، أو امتناعٍ، أو مع القدرة على أخذِ النفقةِ
منه، أو استئذانِهِ. ويرجع مرتهنٌ بفضلِ نفقتِهِ على راهن.
(وله) أي المرتهن (الانتفاعُ به) أي بالمرهونِ (مجاناً) أي من غير مقابل
(بإذنِ راهنٍ) ما لم يكن الدَّيْن قرضاً. قاله في المنتهى، (لكن يصيرُ)
الرهن بعد أن كان أمانةً (مضموناً عليه بالانتفاعِ) أي انتفاع المرتهن به،
لأنه صار عاريةً، وهي مضمونة. قال البهوتى في شرحه (2) ظاهره لا يصير
مضموناً عليه قبل الانتفاع به.
(ومُؤْنَةُ الرهنِ، وأجرةُ مخزنِهِ) إن احتاج إلى خَزْنٍ؛ (وأجرة ردِّه من
إباقِهِ) أو شروده لو كان قِنًّا أو حيواناً فأبق أو شَرَدَ (على مالِكِهِ)
كَكَفَنِهِ لو مات، فإن تعذر بِيعَ بقدر حاجته، أو بيع كلُّه إن خيف
استِغْراقُهُ.
(وإن أنفق المرتهن على الرهن) ليرجع (بلا إذن الراهن، مع قدرته على
استئذانه فمتبرِّعٌ) لأنه مفرّط، حيث لم يستأذِنِ المالكَ، إذ الرجوعُ فيه
معنى المعاوضةِ، فافتقر إلى الإِذن والرضا كسائر المعاوضات.
__________
(1) حديث "إذا كانت الدابة مرهونة .... " ذكره في المغني، ولم ينسبه إلى
شيء من كتب الحديث. ولم نجده في كنز العمال وغيره.
(2) في (ف) هنا زيادة "على المنتهى".
(1/375)
فصل
(من قَبَضَ العينَ لحظِّ نفسِهِ كمرتهنٍ وأجيرٍ ومستأجرٍ ومشترٍ وبائعٍ
وغاصبٍ وملتقطٍ ومقترضٍ ومضاربٍ، وادعى) كلٌّ (الرد للمالك، فأنكره) أي
أنكَر المالكُ الردِّ (لم يُقْبَلْ قوله) أي قول قابضِ العينِ لحظِّ نفسِهِ
(إلا) أن يُثْبِتَ الردّ (ببيّنةٍ) تشهَدُ له به.
(وكذا) في الحكم (مُودَعٌ) ادعى ردّ الوديعة، (ووكيلٌ) ادعى الردّ إلى
موكِّلِهِ، (ووصي ودَلاَّلٌ) إذ كان الدلال (بِجُعْلٍ، إذا ادعى) المودَعُ
والوكيلُ والدلّالُ بجعلٍ (الردّ، و) إن كان الدلال (بلا جُعْلٍ فيقبل قوله
بيمينه).
(1/376)
باب الضَّمَان وَالكفَالَة
الضمان التزامُ إنسانٍ يصحّ تبرّعه، أو التزامُ مفلِسٍ، برضاهما، ما وَجَب
أو يَجِبُ على غيرهما مع بقائِهِ على المضمون عنه.
(يصحّان) أي الضمانُ والكفالة (تنجيزاً) كَأَنَا ضامن أو كفيل الآن (و)
يصحّان (تعليقاً) كإنْ أعطيتَهُ كَذَا فَأنَا ضامنٌ لك ما عليه، أو أنا
كافل لك بَدَلَهُ، (و) يصحّان (توقيتاً) كإذا جاءَ رأسُ الشهرِ فأنَا
ضامنٌ، أو كفيلٌ.
ويشترط صدورهما (ممن يصحّ تبرُّعُهُ) فلا يصح من صغيرٍ دون التمييز، ولا من
مجنونٍ بلا خلاف، ولا من سفيهٍ.
ويصحّ الضمان بأنا ضمينٌ، وكفيلٌ، وقَبِيلٌ، وحَمِيلٌ، وصبيرٌ، وزعيمٌ.
وقال الشيخ: قياس المذهب: يصح بكل لفظٍ فُهِمَ منه الضمان عُرْفاً.
(ولربّ الحقِّ مطالبةُ الضامنِ والمضمونِ معاً) في الحياةِ والموتِ لثبوتهِ
في ذمتهما، (أو) يطالبَ (أيَّهما شاءَ،) فلا يبرأُ المضمونُ عنه بمجرّد
الضمان، كما يبرأُ المُحيلُ، بل يثبت الحق في ذمتهما جميعاً، (لكن لو
ضَمِنَ) شخصٌ (ديناً حالاًّ إلى أجلٍ معلومٍ صحّ) الضمان،
(1/377)
(ولم يطالِبْ) ربُّ الحق (الضامنَ قبل
مضيِّهِ) أي الأجل المعلومِ، قال الإِمامُ أحمدُ في رجلٍ ضَمِنَ ما على
فلانٍ أن يؤدِّيَه حقه في ثلاث سنين: فهو عليه، ويؤديهِ كما ضَمِنَ.
فإن قيل: عندكم الحالُّ لا يؤجَّل، فكيف يؤجَّل على الضامن؟ أم كيف يثبتُ
في ذمة الضامِنِ على غيرِ الوصفِ الذي يتصف به في ذمة المضمون عنه؟
فالجواب: أن الحق يتأجّل في ابتداءِ ثبوتِهِ إذا كان ثبوتُهُ بعقدٍ، ولم
يكن على الضامِنِ حالًّا ثم تأجَّل، ويجوز تَخَالُفُ ما في الذمّتين،
بدليلِ ما لو ماتَ المضمونُ عنه والدينُ مؤجَّلٌ.
إذا ثبتَ هذا، وكان الدينُ مؤجَّلاً إلى شهرٍ فضمنه إلى شهرين، لم يطالَبْ
إلى مضيِّهما.
(ويصحّ ضمانُ عُهْدَةِ الثَّمَنِ والمُثْمَنِ) إن ظهر به عيبٌ أو خَرَج
مستحقًا، (والمقبوضِ على وجهِ السَّوْمِ) وذلك أن يساوِمَ إنساناً على
عينٍ، ويقْطعَ ثمنَها، أو أجْرَتَها، أو لم يقطعه، ثم يأخذَها ليريَها
أهلَهُ، إن رَضُوا أخذها وإلاَّ ردّها، فيصح ضمانُهُ لأنه مضمونٌ مطلقاً.
وإن أخذ إنسان شيئاً بإذن ربّه ليريَهُ أهلَهُ فإن رضُوا به أخذه وإلاَّ
رَدَّهُ من غير مساومةٍ ولا قطعِ ثمنٍ فلا يَضْمَنُهُ إذا تلف بغير تعدٍّ
ولا تفريطٍ، ولا يصح ضمانُهُ، بل يصحّ ضمانُ التعدي فيه.
(و) يصح ضمانُ (العينِ المضمونةِ كالغصب والعارية) لأنها مضمونةٌ على من هي
في يدهِ، كالحقوقِ الثابتةِ في الذمّةِ، وضمانُها في الحقيقة ضمانُ
استنقاذِهَا وردِّها، أو قيمَتِها، عند تلفِها، فهي كَعُهْدَة المبيع.
ولا يصح ضمانُ غير المضمونةِ، كالوديعةِ ونحوها) كالعينِ المؤجَرَةِ، ومالِ
الشركةِ، والمضاربةِ، والعينِ المدفوعةِ إلى الخيّاطِ، أو
(1/378)
القصّار، بل التعدِّي فيها، (ولا دَيْنِ
الكتابة) لأنه ليس بلازمٍ، ولا مآلُهُ اللزومُ، لأن المكاتَب له تعجيز
نفسِهِ والامتناعُ من الأداء (ولا بعضِ دينٍ لم يقدّر)، كما لا يصحّ ضمانُ
"أحدِ هذين الدَّيْنَينِ" ولم يفسّره، لجهالته حالاً ومآلاً.
(وإن قضى الضامنُ ما على المدينِ، ونوى الرجوعَ عليه رَجَعَ) على مضمونٍ
عنهُ، وإن لم ينوِ الرجوعَ لم يرجعْ، (ولو لم يأذنْ له) أي لِلضَّامِن
(المدينُ في الضمانِ والقضاءِ.)
(وإذا رجعَ الضامنُ رجَعَ بالأقلِّ مما قضى. ولو قيمةَ عرضٍ عَوَّضَهُ به،
أو قَدْرِ الدين.
(وكذا) أي وكضامنٍ في هذه الأحكام كفيلٌ (وكلُّ من أدّى عن غيرِه ديناً
واجباً) لا زكاةً ونحوَها مما يفتقِرُ إلى نيّةٍ لعدم إجزائه.
(وإن برئَ المديون) بإبراءٍ، أو حَوَالَةٍ، أو قضاءٍ (برئ ضامنُهُ) لأنه
تَبَعٌ له، والضمان وثيقةٌ، فإذا برئ الأصيل زالت الوثيقة كالرهن.
(ولا عكسَ)، أي ولا يبرأ المديونُ ببراءةِ الضامنِ لأن الأصيل لا يبرأ
ببراءةِ التَّبَعِ، ولأنه وثيقةٌ انحلّتْ من غير استيفاءِ الدين منها، فلا
تبرأ ذمّة الأصل، كالرهن إذا انفسخ من غير استيفاءٍ.
(ولو ضَمِنَ اثنان) فأكثر (واحداً، وقال كلُّ) واحدٍ: (ضمنتُ لك الدينَ،
كانَ لربِّهِ) أي الدين (طلبُ كلِّ واحدٍ بالدين كلِّه) لأنهما اشتركا في
الضمان، وكلُّ واحدٍ منهما ضامنٌ الدين منفرداً، وله مطالبتهما معاً بالدين
كلِّه.
(وإن قالا: ضمنّا لكَ الدين، فـ) هو (بينهما بالحِصَصِ) أي: نصفين. فكل
واحد منهما ضامنٌ للنِّصفِ، لأن مقتضى الشركة التسوية.
(1/379)
فصل [في
الكفالة بالبدن]
(والكَفَالَةُ هي أن يلتزمَ) الرشيدُ (بإحضارِ بَدَنِ من عليه حقٌّ ماليٌّ)
يصح ضمانُهُ، معلوماً كان الدينُ أو مجهولاً، من كلِّ من يلزَمُهُ الحضورُ
إلى مجلس الحُكْمِ، فلا تصح كفالة الابن لأبيه (إلى ربِّهِ) أي الدين.
وتنعقد بألفاظِ الضمانِ، نحو: أنا ضمينٌ ببدنِهِ، أو زعيمٌ به.
وإن ضمن معرفَتَهُ أُخِذَ بِهِ. ومعناه أني أُعَرِّفك من هو، وأين هو. كأنه
قال: ضمنتُ لكَ حضورَه.
ولا تصح ببدنِ من عليهِ حَدٌّ للهِ تعالى كحد الزنا، أو لآدميٍّ كالقَذْفِ
أو القِصَاصِ.
(ويعتبر) لصحة الكفالة (رضا الكفيلِ) لأنه لا يلزمَهُ الحقّ ابتداءً إلا
برضاه، (لا المكفولِ) لأنها وثيقةٌ لا قبضَ فيها، فصحَّتْ من غير رضاه،
كالشاهد، (ولا) رضا (المكفولِ له.)
وتصح حالَّةً ومؤجلة، كالضمان، والثمن في البيع.
تتمّة: إذا قال شخص لآخر: اضمَنْ عن فلانٍ، أو اكفلْ عنه، ففعل، كان
الضمانُ والكفالة لازِمَيْنِ للمباشِرِ دون الآمرِ، لأنه كفَلَ باختيارِ
نفسِهِ، وإنما الأمر للإرشادِ، فلا يلزم به شيءٌ.
[التزامات الكفيل]
(ومتى سلم الكفيلُ المكفولَ) به (لربِّ الحقِّ بمحلِّ العقدِ)، وقد حلَّ
الأجَلُ، أوْ لَا، ولا ضرر في قبضه، مثلَ أن يكونَ في يومِ مجلِسِ
الحُكْمِ، وليس ثَمَّ حائِلَةٌ ظالمة (أو سلم المكفولُ نفسَه، أو ماتَ، برئ
الكفيلُ) قال الفتوحي في شرحه: ولو قالَ في الكفالَةِ: إن عَجَزْتَ عن
إحضارِهِ، أو متى عجزْتَ عن إحضارِهِ، كان عليَّ القيامُ بما أقرَّ بِهِ،
(1/380)
قال ابن نصر الله: لم يبرأُ بموت المكفولِ،
ويلزمه ما عليه. قال: وقد وَقَعَتْ هذه المسألة، وأفتيتُ فيها بلزوم المال.
(وإن تعذر على الكفيلِ إحضار المكفولِ) مع حياتِهِ بأن توارى، أو غابَ،
ومضى زمنٌ يمكن ردُّه فيه، أو مضى زمنٌ عيَّنَهُ لِإحضارِهِ (ضَمِنَ جميع
ما عليهِ) للمكفولِ له، نصًّا.
(ومن كفله اثنان، فسلّمه أحدُهُما لم يبرأ الآخر) بذلك، لأن إحدى الوثيقتين
انحلَّتْ من غير استيفاءٍ، فلم تنحلَّ الأخرى، كما لو أبرأ أحدَهُما.
(وإن سلَّم) المكفولُ (نفسَهُ بَرئَا) لأنه أدّى ما يلزم الكفيليِن لأجله،
وهو إحضارُ نفسِهِ فبرئت ذمتهما.
(1/381)
باب الحَوَالة
وهي انتقالُ مالٍ من ذمّةٍ إلى ذمّةٍ.
وتصحُّ بلفظهَا، وبمعناها الخاصّ، كقول مدينٍ لربّ الدين: أَتبَعْتُكَ
بدينِكَ على زيدٍ، ونحو ذلك.
(وشروطها) أي شروطُ صحة الحَوَالة (خمسة):
(أحدها: اتفاقُ الدينين): الدينِ المحالِ به للدين المحالِ عليه (في
الجنسِ)، كأن يحيلَ من عليه ذهبٌ بذهبٍ، ومن عليه فضة بفضة. فلو أحالَ من
عليهِ ذهبٌ بفضةٍ، أو بالعكس، َ لم يصح؛ (والصِّفَةِ) فلو أحال من عليه
صحاحٌ بِمكسَّرةٍ، أو من عليه دراهِمُ غُورِيةٌ بدراهمَ سليمانيّة، لم يصح:
(والحلولِ والأجلِ،) فإن كان أحدهما حالاًّ والآخر مؤجّلاً، أو أحدُهما إلى
شهرٍ والآخرُ إلى شهرين، لم تصحّ الحوالة.
(الثاني: علم قَدْرِ كل من الدينين،) فلا يصحُّ في المجهولِ.
(الثالث: استقرارُ المالِ المحالِ عليه) فلا تصحّ على مالِ سَلَمٍ، أو
رَأسِه، بعد فسخٍ، أو صداقٍ قبل دخولٍ، أو مالِ كتابةٍ، (لا) استقرارُ
المالِ (المحالِ به) فإن أحال المكاتَبُ سيّدَه بدينِ الكتابةِ، أو الزوجُ
امرأتَهُ قبلَ الدُّخول، أو المشتري البائِعَ بثمن المبيع في مدة الخيارين،
صحّ.
(1/382)
(الرابع: كونه) أي المال المحال عليه (يصحّ
السَّلَمُ فيه) من مثليٍّ كمكيلٍ أو موزونٍ موصوفين، أو معدودٍ ومذروعٍ
ينضبطان بالصفة.
(الخامس: رضا المُحِيلِ) لأن الحقَّ عليه، فلا يلزمه أداؤه من جهة الدين
على المحال عليه (لا) رضا (المحتال إن كان المحالُ عليه مليًّا) فيجب على
من أُحِيلَ على مليٍّ أن يحتالَ، فإن امتنعَ المحتالُ أُجْبِرَ على اتباعه،
ولو ميتاً (و) المليء الذي يجبر المحتال على اتباعه (وهو من له القدرةُ على
الوفَاءِ، وليس مماطِلاً، ويمكن حضوره لمجلسِ الحُكْمِ) فلا يلزمه أن يحتال
على والده، ولا يصحّ أن يحيل ربَّ الدينِ على أبيه.
(فمتى توفّرت الشروطُ) الخمسةُ المذكورة (برئَ المحيلُ من الدينِ بمجرّدِ
الحوالةِ، [ولو] أفلسَ المحالُ عليهِ بعد ذلكَ، أو مات،) أو جَحَدَ الدين.
(ومتى لم تتوفر الشروط) المذكورة (لم تصحّ الحوالة، وإنما تكون وكالةً.)
(والحوالة على مَا لَهُ في الديوَانِ إذنٌ له في الاستيفاء. وللمحتالِ
الرجوعُ ومطالبةُ محيلِهِ.
وإحالةُ من لا دينَ عليه وكالةٌ له في طلبِهِ وقبضه، ومن لا دينَ عليه على
مثله وكالَةٌ في اقتراض. وكذا مدينٌ على. بريءٍ ربويٍّ (1)، فلا يصارفه.
__________
(1) قوله "ربوي" ساقط من (ف).
(1/383)
باب الصُّلْح
الصلحُ: التوفيق.
ويكون أنواعاً خمسة:
أحدها: بين مسلمِينَ وأهلِ حرب.
الثاني: بين أهل عدلٍ وأهل بغي.
الثالث: بين زوجينِ خيفَ شقاقٌ بينهما، أو خافَتْ إعراضهُ (1).
والرابع: بين متخاصِمَيْنِ في غير مالٍ.
الخامس: صلحٌ بالمال. وهو فيه، أي المال، معاقَدَة يُتَوَصَّل بها إلى
موافقةٍ بين مختلفَيْنِ.
(يصح) الصلح (ممن يصحّ تبرّعُهُ مع الإِقرار والإِنكار،) ولا يصحُّ ممن لا
يصح تبرُّعُه كمكاتَبٍ، وقِنٍّ مأذونٍ له في تجارةٍ، ووليٍّ لصغيرٍ أو
سفيهٍ.
(فإذا أقرّ) المدعى عليه (للمدعي بدينٍ) معلومٍ في ذمته (أو) أقرّ (بعينٍ)
تحت يده (ثم صالَحَهُ على بعضِ الدَّيْنِ) كنصفِهِ أو ثلثه أو نحوِهِما
(أو) صالَحَهُ (على بعضِ العينِ المدَّعاةِ فهو) أي ما صدر (هبةٌ
__________
(1) سقط من (ف): عبارة "خافت إعراضه" وفي شرح المنتهى "أو خافت الزوجة
إعراض الزوج عنها".
(1/384)
يصحُّ بلفظِها) أي الهبة، لأنَّ الإِنسانَ
لا يُمنَعُ من إسقاطِ بعض حقِّهِ، أو هبتِهِ؛ (لا) يصحّ (بلفظ الصلح) لأنه
هضمٌ للحقّ.
(وإن صالحه على عينٍ غير المدَّعاةِ)؛ كما لو اعترفَ له بعينٍ في يده، أو
دينٍ في ذمته، ثم يعوِّضُه فيه ما يجوز تعويضُهُ عنه (فهو بَيْعٌ يصحُّ
بلفظِ الصُّلح، وتثبُتُ فيه أحكامُ البيعِ) من العلم به وسائر شروط البيع،
(فلو صالحهُ عن الدينِ بعينٍ، واتفقا في علة الربا، اشتُرِطَ قبضُ العِوَضِ
في المجلس). (فإذا) أقر له بذهبٍ فصالحه عنه بفضةٍ، أو عَكَسَ، فتكونُ هذه
المصالحة صَرْفاً، لأنهَا بيعُ أحد النقدين بالآخر. فيُشترَطَ لها ما يشترط
للصرف، من التقابُضِ بالمجلسِ. وكذا لو أقرّ له بقمحٍ وعوَّضه عنه شعيراً،
أو نحوَهما مما لا يباع به نسيئةً.
(و) إن كان الصلحْ (بشيءٍ في الذمّةِ) فإنه (يبطل بالتفرُّقِ قبل القبضِ)
لأنه إذا حصل التفرّق قبل القبضِ كان كلُّ واحدٍ من العِوَضَيْنِ ديناً،
لأن مَحلَّهُ الذمة، فيصيرُ بيعَ دينٍ بدينٍ، وهو منهيٌّ عنه شرعاً.
(وإن صالَحَ عن عيبٍ في المبيعِ) بشيءٍ معين، كدينارٍ، أو منفعةٍ كسكنى
دارٍ معيَنةٍ، (صحّ) الصلح، لأنه يجوز أخذ العوضِ عن عيبِ المبيعِ (فلو زال
العيب سريعاً) بأن كان المبيعُ مريضاً فعوفي (أو لم يكن) كما لو كان ببطنِ
الأمة نفخةٌ، فظنَّ أنها حامل، ثم بانَ لهما الحالُ، (رجَعَ بما دفعه).
(ويصحّ الصلح عما) أيْ مجهولٍ (تعذَّر علمُه من دينٍ،) كما لو كان بين
شخصينِ معاملةٌ وحسابٌ قد مضى عليهِ زمن طويل، ولا عِلْمَ لكلِّ واحدٍ
منهما بما عليه لصاحِبِه، (أو) تعذَّرَ علمه من (عينٍ)، نَقَلَ عبدُ الله:
إذا اختلَطَ قفيزُ حنطةٍ بقفيزِ شعيرٍ وطُحِنَا، فإن عُرِفَتْ قيمةُ دقيقِ
الحنطةِ أو دقيقِ الشعيرِ، بيعَ هذا وأُعْطِيَ كلُ واحدٍ منهما قيمةَ
مالِهِ، إلا
(1/385)
أن يصطلحا على شيء. ويصح بمالٍ معلومٍ
نقداً أو نسيئةً.
تتمة: قال في الإِقناع: فإن أمكن معرفتُهُ ولم تتعذّر، كتركةٍ موجودةٍ صولح
بعضُ الورثةِ عن ميراثِهِ منها، لم يصحَّ الصلح (1).
(و) من قال لغريمه (أَقِرَّ لي بديني، وأعطيكَ منه كذا) أو أقرّ لي بديني
وخذ منه مائةً، (فأقرّ، لزمه الدينُ) كله (ولم يلزمه أن يعطيه.)
فصل [في الصلح على الإِنكار]
(وإذا أنكر) المدعى عليه (دعوى المدعي، أو سَكَتَ وهو) أي المدعى عليه
(يجهله) أي المدعى به، (ثم صالحه) على نقدٍ أو نسيئةٍ (صحَّ الصلح وكان)
الصلح (إبراءاً في حقّه) أي المدعى عليه، لأنه إنما بَذَل مالَ الصُّلْحِ
ليدفَعَ عن نفسِهِ الخُصُومَةَ، لا في مقابلة حقٍّ ثبت عليه، فلا شفعة فيه
إن كان شقصاً من عقارٍ، ولا يستحقُّ المدعى عليه لعيبٍ وجَدَه فيما ادُّعي
عليه به شيئاً، (وبيعاً في حقّ المدعي) فله ردّ المصَالَحِ به عما ادّعاه،
بعيبٍ فيهِ، ويثبت فيما إذا صالَحَهُ بشقصٍ مشفوعٍ الشفعةُ، إلا إذا صالَح
ببعضِ عينٍ مدعًى بها، فهو فيه كالمنكر.
(ومن علم بكذب نفسه) منهما (فالصلح باطلٌ في حقه) لأنه إن كان المدعي فإن
الصلح مبنيٌّ على دعواه الباطلة، وإن كان المدعى عليه فإنه مبنيٌّ على
جَحْدِ المدعى عليه حقَّ المدَّعي.
(وما أخذه) المدعي العالمُ بكذبِ نفسِهِ من المال المصالَح بِهِ، أو المدعى
عليه مما انتقصه من الحق يجحده (فحرام) على كلٍّ منهما،
__________
(1) هذا الذي قطع في الإقناع من عدم صحته، خلاف المشهور، والمشهور أنه يصح
لقطع النزاع، كالبراءة من مجهول (ش المنتهى).
(1/386)
لأنه أَكْلُ مالِ الغيرِ بالباطِلِ،
المنهيُّ عَنه.
(ومن قال) لآخر: (صالِحْني عن الملك الذي تَدّعيه، لم يكنْ مقراً) به، أي
لم يكن القائلُ مقراً بالملك للمَقُول له، لاحتمال إرادة صيانَةِ نفسِهِ عن
التبذّل، أو حضورِ مجلسِ الحُكْمِ بذلك، فإنّ ذوي المروءاتِ يصعُبُ عليهم
ذلك، ويرون رفع ضررها عنهم من أَعْظَمِ مصالحِهِمْ.
(وإن صالح أجنبيٌّ عن منكرٍ للدعوى صحّ الصلحُ، أَذِنَ المنكِرُ له،) أي
للمصالِحِ بالصلحِ (أوْ لا،) أي أو لم يأذن له، (لكنْ لا يرجعُ) المصالِحُ
(عليه) أي على المنكِرِ (بدونِ إِذنِهِ) لأنه أدّى عنه ما لا يَلْزَمُهُ
أداؤُه، فكان متبرّعاً، كما لو تصدق عنه.
قال في شرح المنتهى: وعُلِمَ مما تقدّم أن المنكِرَ إذا أذن للأجنبيِّ في
الصُّلْحِ، أو في الأداءِ، له الرجوع إذا أدَّى بنيته. أما الرجوعُ مع
الإِذْنِ في الأداءِ فظاهر، وأما مع الإذْن ِفي الصلح فقط فلأنه يجب عليه
الأداء بعقد (1) الصلح، فإذا أدى فقد أدّى واجباً عن غيرِهِ، محتسباً
بالرجوع، فكان له الرجوعُ على أصحّ الروايتين. انتهى.
(ومن صالَحَ) آخرَ (عن دارٍ ونحوِها) كعبدٍ وثوبٍ بعوضٍ (فبانَ العِوَضُ)
المصالَح به (مستَحَقًّا)، أو كان قنًّا فبانَ حُرًّا (رجَعَ بالدار) أي
المصالَحِ عنها، أو بالعَبْدِ أو بالثَّوْبِ المصالَحِ عَنْهُ إن كان
باقياً، أو بقيمتِهِ إن كان تالفاً. ومحل ذلك إن كان الصلحُ (مع الإِقرار)
من المصالِحِ. لأن الصلح إذَنْ بيعٌ في الحقيقة. فإذا تبيّن أن العِوَضَ
كان مستحقّا أو حراً كان البيع فاسداً، فرجع فيما كان له، (و) رَجَعَ
(بالدَّعْوى) أي إلى دعواه قبل الصلح. وفي الرعاية: أو قيمةِ المصالَح
__________
(1) في (ف): "بقصد الصلح".
(1/387)
بِهِ المستَحَقِّ لغير المدعى عليه، (مع
الإِنكار) متعلِّق برَجَعَ، وكذا قوله: وبالدعوى. وجه المذهبِ أن الصلح لما
تبيَّنَ فساده بخروجِ المُصَالَحِ به غيرَ مالٍ، كما لو صالَحَ بعصير فبان
خمْراً، وبقنّ فبان حرًّا، أو غيرَ مستَحَقٍّ للمدعى عليه، كما لو بان أنه
غصَبَه أو نحو ذلك، حُكِم ببطلانِ عقدِ الصلح. وحيثُ بَطَل عادَ الأمرُ إلى
ما كان عليه قبلَهُ، فيرجع المدعي فيما كان له، وهو الدَّعْوى.
[الصلح عما ليس بمال]
(ولا يصحّ الصلحُ عن خيارٍ) في بيعٍ أو إجارةٍ، لأن الخيار لم يُشْرَعْ
لاستفادةِ مالٍ، وإنما شُرِعَ للنظر في الأحظّ، فلم يصح الاعتياضُ عنه،
(أو شفعةٍ) بأن صالَحَ المشتري صاحِبَ الشفعةِ، لأنها تثبت لإِزالة
الضَّررِ، فإذا رضي بالعوض تبيَّنَ أن لا ضَرَرَ، فلا استحقاقَ، فيبطل
العوضُ، لبطلان معوَّضِهِ، (أو حدِّ قذفٍ) أي صالح قاذفٌ مقذوفاً عن حدِّ
قذفٍ. (وتسقطُ جميعُها) أي الشفعةُ والخيارُ وحدُّ القذفِ لرضا مستحقها
بتركها؛ (ولا شارباً أو سارقاً) أو زانياً (ليطلّقها) ولا يرفعه إلى
السلطان؛ (أو شاهداً ليكتم شهادتَهُ) عليه، أو صالحه على أن لا يشهد عليه
بالزور، لم يصحّ، لأنه صلح على حرامٍ أو تركِ واجبٍ.
فصل [في أحكام الجوار]
(ويحرم على الشخصِ أن يُجْريَ ماءً في أرض غيرِهِ، أو سطحِهِ) أي سطح غيره
(بلا إذنه) أي إذن صاحبِ الأرضِ، أو السطح، لتضرره أو تضرُّرِ أرضِهِ،
وكزرعِهِ بلا إذنه، بجامعِ أنّ كلا منهما استعمالٌ لمالِ
(1/388)
الغيرِ بغير إذنِهِ. وفي رواية: إن دَعَتْ
ضرورةٌ، قيل: أو حاجةٌ، (ويصحَّ الصلحُ على ذلك بعوضٍ) لأن ذلك إما بيعٌ أو
إجارةٌ، وكل منهما جائز.
(ومن له حقُّ ماءٍ يجري على سطحِ جارِهِ لم يجزْ لجارِهِ تعليةُ سطحِهِ
ليمنعَ جَرْيَ الماء،) لِإبطال حقِّهِ بذلك، أو ليكثُرَ ضَرَرُهُ.
(وحَرُمَ على الجارِ أن يُحْدِثَ بملكه ما) أي شيئاً (يضرّ بجاره، كحمّامٍ)
يتأذّى جاره بدخانِهِ، أو يضرُّ ماؤه حائِطَهُ، (وكنيفٍ) يتأذى جاره
بريحِهِ، أو يصلُ إلى بئرِهِ، (ورَحًى) يهتزّ بها حائِطُهُ، (وتَنُّورٍ)
يتعدَّى دخانُهُ إليه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرَرَ ولا
ضِرارَ" (1) وهذا إضرارٌ بجاره. (وله) أي للجارِ (مَنْعُه) أي منعُ جارِهِ
(من ذلك،) بخلاف طبخٍ وخَبْزٍ فيه.
(ويحرم) على الإِنسان (التصرُّفُ في جدارِ جارٍ) أو جدارٍ (مشَترَكٍ) بين
المتصرّف وبين غيره (بفتح رَوْزَنَةٍ) الروزنة الكُوَّةُ والكوة الخرق في
الحائط، (أو) بفتح (طاقٍ) قال في القاموس: الطاقُ ما عُطِفَ من البنيان (2)
انتهى. قال في شرح المنتهى: قلت: ومن ذلك طاقُ القِبْلَةِ، (أو بضربِ وتدٍ
ونحوِهِ) كجعل رفٍّ فيه، (إلا بإذنِهِ) أي الشريك، (وكذا) في الحكمِ إلا ما
يُستثنى (وضعُ خَشَبِ) على جدارِ جارِهِ أو المشتَرَكِ (إلا أن لا يُمْكِنَ
تسقيفٌ إلاَّ به) فيجوز بَلا ضَرَرٍ.
(ويُجْبَر الجارُ إن أبى.)
وجدارُ مسجدٍ كجدارِ دارٍ، نصًّا.
قال في شرح المنتهى: فَرْعٌ: من وجد بناءَهُ أو خشبه على حائطِ
__________
(1) حديث "لا ضرر ولا ضرار" أخرجه مالك في الموطأ مرسلاً. وأخرجه الحاكم
والبيهقي من حديث أبي سعيد الخدري، وابن ماجه من حديث بن عباس وعبادة ابن
الصامت. كذا في الأشباه والنظائر للسيوطي ص 83. وفي (الإرواء ح 896): وهو
صحيح.
(2) النص في القاموس واللسان. والمراد بالعطف الانحناء كجزءٍ من دائرة. وفي
اللسان أيضاً "الطاق عقد البناء حيث كان."
(1/389)
جارِهِ أو مشتركٍ، ولم يعلمْ سبَبَه، فمتى
زالَ فله إعادتُه، لأن الظاهر أن هذا الوَضْعَ بحق، فلا يزولُ هذا الظاهرُ
حتَّى يُعْلَم خلافُه.
وكذلك لو وجد مسيلَ مائِهِ في أرضِ غيرِهِ، أو مجرى مائِهِ على سطحِ غيره.
(وله) أي للِإنسان (أن يسند قماشَهُ) ويستند (ويجلس (1) في ظل حائطِ غيرِه)
من غير إذنِهِ، (وينظرَ في ضوءِ سراجِهِ) أي الغير (من غير إذنِهِ) أي
مالِكِ الحائِط والسراجِ.
[المرافق العامة والمشتركة]
(وحَرُمَ أن يتصرَّفَ) الإِنسان (في طريقٍ نافذٍ بما يضرُّ المارَّ كإخراجِ
دُكانٍ) بضم داله (ودَكَّةٍ) بفتحها، قال في القاموس (2): والدكة بالفتح
والدكان بالضم بناءٌ سُطِّح أعْلَاهُ للمقْعَدِ. وقال في موضع آخر
والدُّكَّانُ كرمّانٍ، الحانوتُ، معرّب. (وجَنَاحٍ) وهو الروشَنُ على
أطرافِ خشبٍ مدفونةٍ في الحائِطِ، (وساباطٍ) وهو سقيفةٌ بين حائطينِ تحتَها
طريقٌ (وميزَابٍ) ولو أذِنَ الإِمامُ بذلك للضَّرَرِ، (ويضمن ما تلف به) من
نفسٍ أو مالٍ أو طرفٍ لتعدّيه به.
(ويحرم التصرّف بذلك في ملك غيرِهِ أو هوائِهِ) أي هواءِ غيره إلا بإذنِهِ،
(أو) في (دربٍ غير نافذٍ إلا بإذن أهلِهِ) أي أهلِ الدربِ الذي هو غيرُ
نافذٍ، إذا فَعَلَهُ فيه. أما كون فِعْلِ ذلك لا يجوزُ في ملك غيره أو
هوائِه فلأنّهُ نوعُ تصرفٍ في ملك الغير، يتضرّر به، فلم يجز إلا بإذن
مالكه. وأما كونُ فعلِ ذلكَ لا يجوزُ في دربٍ غيرِ نافذٍ إلا بإذن أهله
فلأن الدَّرْبَ ملكٌ لقومٍ معيّنين، فلم يجز إلا بإذنهم، لأن الحقَّ لهم.
__________
(1) "يجلس" سقط من (ب، ص) وهو ثابت في (ف) ومنار السبيل.
(2) ليس في القاموس هذا القول. فلعل الشارح نقله من غِيره فوهم.
(1/390)
(ويجبر الشريك على العمارة مع شريكه في
المِلْكِ) المشترك، (والوقْفِ) المشترك. فإن انهدم حائطهُما أو سقفهُما
فطلب أحدهما صاحِبَه ببنائِهِ معه، أجبر.
فإن امتنع أخذ الحاكم من مالِهِ النَّقْدِ، وأنفق عليه. فإن لم يكن له عين
مالٍ وكان له متاعٌ باعَهُ، وأنفق منه على حصَّته مع الشريك، فإن لم يكن
للمتنع نقدٌ ولا عَرْض اقترض الحاكم عليه، وأنفق على حصَّته.
وإن أنفقَ الشريكُ بإذن شريكه، أو إذن حاكم، أو بنيّةِ رجوعٍ، رَجَعَ بما
أنفق على حصة الشريك، وكان بينَ الشريكين كما كان قبل انهدامِهِ.
(وإن هدم الشريكُ البناءَ) المشترك بين الهادم وغيره، (وكان) هدمه له (لخوف
سقوطه) أي البناء، (فلا شيء) أي لا ضمانَ (عليهِ) لأنه مُحْسِنٌ، (وإلا)
بأن هدم الشريك البناءَ المشتركَ لغيرِ خوف سقوطه (لزمه إعادته) كما كان،
لأنه متعد.
(وإن أهمل الشريك بناء حائِط بستانٍ اتَّفقَا عليه) أي على البناءِ، (فما
تلف من ثمرتِهِ) أي البستان (بسبب إهمالِهِ ضمن) الشريك المهمِل (وحصةَ
شريكه) منه. قال في الإِقناع وشرحه: ولو اتّفقا، أي الشريكان، على بناء
حائِط بستانٍ فبنى أحدُهما وأهمَلَ الآخر، فما تلف من الثَّمَرَةِ بسبب
إهمالِ الآخرِ ضمنه، أي ضمن نصيبَ شريكِهِ منه الذي أهْمَل. قاله الشيخ.
انتهى.
(1/391)
|