نَيْلُ
المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب كتَاب الحَجْر
الحَجْرُ في اللغة التضييق. وفي الشرع (هو منعُ المالكِ من التصرّف في
مالِهِ) والأَصل في مشروعيته قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السَّفَهَاءَ
أمْوالَكُمْ} أي: أموالَهم، لكن أُضِيفَ إلى الأوْليَاءِ لأنهم قائمون
عليها، مُدَبّرون لها، وقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} الآية. وإذا
ثبَتَ الحجْرُ على هذينِ ثبتَ على المجنونِ من بابِ أوْلى.
(وهو) أي الحجر (نوعان):
(الأول: الحقّ) أي لحظّ (الغير) أي غيرِ المحجورِ عليه (كالحجْرِ على
مُفْلِسٍ) لحق الغرماءِ؛ (وراهنٍ) لحقّ المرتهن حيث لزم الرهن؛ (و) على
(مريضٍ) مرضَ الموتِ المخوفَ فيما زاد على الثلثِ من مالِهِ، لحقّ الورثة؛
(و) على (قِنٍّ ومكاتَبٍ) لحق السيّد؛ (و) على (مرتدٍّ) لحقّ المسلمين، لأن
تَرِكَتَهُ فيءٌ، فربما تصرّف فيها يقصِدُ به إتلافَها ليفوِّتها على
المسلمين، (و) على (مُشْتَرٍ) في المبيع إذا كان شِقْصاً مشفوعاً، (بعد طلب
الشفيعِ) لَهُ، لحقّ الشفيع.
(الثاني:) الحجر على الإِنسان (لحظّ نفسِهِ) وذلك (كالحجر على صغيرٍ
ومجنونٍ وسفيهٍ) وقول الفقهاء في هذا الضرب: "لحظّ نفسِهِ" لأن المصلحةَ
تعودُ هنا على المحجور عليه.
(1/392)
ثم الحجرُ على هؤلاءِ كلِّهمْ بأن
يُمنَعُوا من التصرُّف في أموالِهِمْ وذِمَمِهِم، ولا يصحّ إلا بإذن
الوليّ، لأنه بدونه يفضي إلى ضَيَاع مالهم.
[الحجر على المدين]
(ولا يطالَبُ المدين، ولا يحجر عليه، بدينٍ لم يحلّ) أما كونه لا يطالَبُ،
فلأنَ من شرطِ صحة المطالبة لزومُ الأداء، وهو لا يلزم أداؤه قبل الأجل؛
وأما كونُه لا يُحجَر عليه من أجل ذلك، فلأنَّ المطالبة إذا لم تُستَحقَّ
لم يستحق عليه حجر، قال في الفروع. وفي إنظار المُعْسِرِ فضلٌ عظيمٌ، وأبلغ
الأخبار عن بُرَيْدةَ مرفوعاً "من أَنْظَرَ مُعْسِراً فله بكل يومٍ مثلُه
صدقةً قبل أن يحلّ الدينُ، فإذا حلَّ الدينُ فأنظره فله بكل يومٍ مثليه
صدقةً." (1) رواه أحمد رضي الله عنه (لكن لو أراد) من عليه الدينُ (سَفراً
طويلاً) فوق مسافة القصر -عند الموفّق وابن أخيه وجماعةٍ، قال في الإِنصاف:
ولعلَّه أولى، ولم يقيّدْه به في التنقيح والمنتهى- يحلّ الدينُ المؤجّلُ
قبل فراغِهِ، أو بعده، مخوفاً كان أو غيره، وليس به رهن يفي ولا كفيل مليء
(فلغريمِهِ مَنْعُه) من السفر لأن عليه ضرراً في تأخيرِ حقِّهِ عن محله في
غير جهاد متعيّنٍ (حتى يُوَثِّقَهُ برهنٍ يُحرِزُ أو كفيلٍ مليء) فإذا
وثَّقه بأحَدِهِما لم يمنعه، لانتفاءِ الضرر، فلو أراد المدين وضامِنُه
معاً السَّفَرَ فله منعُهما، وله منعُ أيِّهما شَاءَ، ولا يملكُ تحليلَهُ
إن أَحْرَم.
(ولا يحلُّ دينٌ مؤجَّلٌ بجنونٍ، ولا) يحلُّ دينٌ مؤجل (بموتٍ إن وثَّقَ
ورثتُهُ) أو غيرهم (بما تقدم،) يعني برهنٍ يُحْرِزُ أو كفيلٍ مليء.
(ويجب على مدينٍ قادرٍ وفاءُ دينٍ حال فوراً بطلب ربه) لقوله - صلى الله
عليه وسلم -:
__________
(1) حديث "من أنظر معسراً ... الخ" كذا بلفظ "مثليه .. " رواه أحمد وابن
ماجه والحاكم من حديث بريدة مرفوعاً (الفتح الكبير) وهو صحيح على شرط مسلم
(الإرواء ح 1438)
(1/393)
"مطلُ الغنِيِّ ظُلمٌ" (1) وبالطلب يتحقق
المطل
(وإن مَطَلَهُ) أي مَطَل المدينُ ربَّ الدين (حتى شكاه) ربُّ الدين (وَجَبَ
على الحاكِمِ) العالِمِ بحالِهِ والجاهِلِ بحالِهِ (أَمْرُهُ بوفائِهِ.)
وما غَرِمَ بسببِ مَطْلِهِ فِعلى مُماطِلٍ (2).
(فإن أَبَى) أي إذا أمر الحاكِمُ من عليهِ الدين بوفائِهِ بِطلبِ غريمِهِ
فأبى (حَبَسَهُ.) قال في المغني: إذا امتنع الموسرُ من قضاءِ الدينِ
فلغريمِهِ ملازَمَتُه، ومطالبته، والإغلاظ عليه بالقول، فيقول: يا ظالمُ.
يا معتدي. (ولا يخرجه (3) حتى يتبين) له (أمره) أي أنه معسرٌ، -أو يبرأُ
المدينُ من غريمِهِ بوفاءٍ أو إبراءٍ، أو يَرْضى غريمُه بإخراجِهِ.
(فإن كان ذو عُسْرَةٍ وجبت تَخلِيَتُهُ، وحرُمت مطالبته، و) حرم (الحجر
عليه ما دام معسراً،) ولو قال غريمُهُ: لا أرضى.
(وإن سأل غرماء من) أي: مدينٍ (له مالٌ لا يفي بدينه) الحالِّ، أو سأل
بعضُهم (الحاكمَ الحجرَ عليهِ) أي على المدين، (لزمه) أي الحاكِمَ
(إجابتهُم) أي إجابةُ الغرماءِ أو بعضِهم، وحجَرَ عليه. قال في شرح
المنتهى: وظاهرُ ما تقدم أنه لا بد من سؤالِ من له حقٌّ الحاكمَ في الحجر،
وحكمِ الحاكمِ، وهو المذهب.
(وسنّ إظهارُ حجرِ) الفَلَس والسَّفَهِ ليعلم الناس بحالِهِمَا فلا
يعاملوهما إلاَّ على بصيرة.
__________
(1) حديث "مطل الغنيّ ظلمٌ" رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن من حديث أبي
هريرة مرفوعاً.
(2) أي كرسوم محكمة، وأجرة محام، ونحو ذلك.
(3) أي من الحبس.
(1/394)
فصل [في آثار
الحجر]
(وفائدة الحجر (1) أحكامٌ أربعةٌ):
(أحدها: تعلُّق حق الغرماءِ بالمالِ) لأنه لو لم يكن كذلك لما كان في الحجر
عليه فائدةٌ، ولأنّه يباعُ في ديونِهِمْ فكانت حقوقُهُمْ متعلقةً به،
كالرهن.
إذا ثبت هذا (فلا يصحّ تصرّفه فيه بشيءٍ) حتى ما يتجدد له (2) من ماله من
أرشِ جنايةٍ وإرْثٍ ونحوهما، كوصيةٍ، وصدقة، وهبة؛ (ولو بالعتقِ) والوقفِ.
(وإن تصرّف في ذمّتِهِ بشراءٍ أو إقرارٍ صح) لأنّه أهلٌ للتصرّف، والحجرُ
متعلقٌ بمالِهِ لا بذمّتِهِ، فوجب صحّةُ تصرفه في ذمته، عملاً بأهليّتِهِ
السالمةِ عن معارَضَةِ الحَجْر، (وطولِبَ به) أي بثمنِ مبيعٍ أو إقرارٍ
(بَعْدَ فكِّ الحَجْرِ عنه) لأنه حقٌّ عليه.
وإن جنى على أحدٍ شاركَ مجنيٌّ عليه الغرماءَ.
(الثاني): من الأحكام المتعلقة بالحجر: (إنَّ من وجد عَيْنَ ما باعَهُ)
للمفلِسِ، (أو أقرضَهُ) إياهُ، أو أعطاه له رأسَ مالِ سَلَمٍ، أو آجَرَهُ،
ولو نفسَه (3)، ولم يمض من مدتها زمنٌ له أجرة أو نحو ذلك (فهو) أي واجدُ
العين التي باعها أو أقرضها أو أعطاها له رأس مال سلم (أحقُّ بها،) أي
بعينِ مالِهِ من غيرِهِ.
__________
(1) أي على المفلس خاصة.
(2) ظاهره أنه يحجر عليه حتى في ما لا يباعُ في وفاء دينه كمسكنه وخادمه
وآلة حرفته.
(3) أي لو كان الغريم آجر نفسه للمفلِسِ، فهو أحق بنفسه، إذا تمت الشروط
ولم يعمل له من العمل شيئاً (ش المنتهى).
(1/395)
1 - (بشرط كونِهِ لا يعلَمُ بالحَجْرِ.)
فهذا شرط لمن فعل ما ذُكِرَ بعد الحجر.
2 - (و) بشرط (أن يكون المفلِسُ حياً) إلى حين أخَذِ المبيع، فإذا ماتَ
المشتريْ فالبائع أُسْوَةُ الغرماءِ، سواءٌ بفلَسِهِ قبل الموت فَحُجِرَ
عليه ثم مات، أو مات فتبيّنَ فلسه، لأن الملك انتقل عن المفلِسِ إلى
الورثة، أشبه ما لو باعَهُ.
3 - (وأن يكون عوضُ العين كله باقياً في ذمته،) فإن أدّى بعض الثمنِ أو
الأجرة أو القرض أو السلم، أو أُبْرِئَ منه، فهو أسوة الغرماء في الباقي.
4 - (وأن تكون) العين (كلها) باقيةً (في ملكِهِ،) فإن تلف جزء منها، كبعضِ
أطرافِ العبدِ، أو ذهبتْ عينُهُ، أو جرح، أو وُطِئَتِ البِكْرُ، أو تَلِفُ
بعضُ الثوب، أو انهدم بعضُ الدارِ، ونحوه، لم يكن للبائِع الرجوعُ في
العينِ، َ ويكون أسوة الغُرَماءِ. وإن باع المشتري بعض المبيع، أو وَهَبه،
أو وقَفَهُ، فَكَتَلَفِهِ.
5 - (وأن تكون) السلعة (بحالها) حين انتقلتْ عَنْهُ، بأن لم تَنْقُصْ من
ماليتها لذهابِ صفةٍ مع بقاءِ عِيِنها (ولم تتغير صفتُها بما يُزِيلُ
اسمها) كنسجِ غزلٍ، وخبزِ دقيقٍ، وجعلِ دُهْن صابوناً، وجعل شريطٍ إبَراً؛
(ولم تزد زيادةً متصلَةً) كسمن، وكبر، وتعلُّم صنعةٍ تزيد بها القيمة،
ككتابةٍ وحدادةٍ وقِصَارَةٍ (1)، (ولم تختلط بغير متميز) عنها، كما لو كانت
زيتاً فخلطه بزيتٍ، أو قمحاً فخلطه بقمح، ونحو ذلك.
6 - (ولم يتعلق بها حقٌّ للغير) كرهن ونحوه.
__________
(1) القصارة تبييض الثياب. وفي بلادنا (فلسطين) القصارة: تلبيس جدران
المنازل وسقوفها وتبييضها.
(1/396)
(فمتى وجد شيء من ذلك) بأن فُقِدَ شرط من
هذه الشروط المذكورة (امتنعَ الرجوع) بعين المال.
(الثالث) من الأحكام المتعلّقة بحجر المفلس: (يلزم الحاكم قَسْمُ مالِهِ)
أي مال المفلس (الذي من جنسِ الدينِ) الذي عليه.
(و) يلزم الحاكم (بيعُ ما ليسَ من جنسِهِ) -أي الدين- في سوقِهِ، أو
غيرِهِ، بثمنِ مثلِهِ المستقرّ، أو أكثرَ من ثمنِ المثلِ إن حَصَل راغبٌ.
ولا يحتاجُ الحاكم إلى استئذانِ المفلِسِ في البيع، لكن يستحب أن
يُحْضِرَهُ أو وكيلَه، (ويقسمه) أي الثمنَ، أو المالَ الذي من جنس الدين،
فوراً. أمّا كونُ الحاكِمِ يَلْزَمُهُ قَسْم مالِ المفلس الذي من جنس الدين
الذي عليه، على غرمائِهِ، فلأنّ هذا هو جلُّ المقصودِ من الحجر الذي طلبه
منه الغرماء أو بعضهُم، وأما كونُهُ يلزَمُ ذلك على الفور، فلأنَّ تأخيرهُ
مطلٌ، وفيه ظلمٌ لهم. ويكون قَسْمُهُ (على الغرماءِ بِقَدْرِ ديونهم) لأن
فيه تسويةً بينَهُمْ، ومراعاةً لِكَمّيّةِ حقوقهم، فلو قضى الحاكم أو
المفلسُ بعضَهُمْ لم يصحّ لأنهم شركاؤُهُ، فلم يجز اختصاصُهُ دونَهمْ. (ولا
يلزمهم) أي الغرماءَ (بيانُ أن لا غريمَ سواهُمْ) بخلافِ الوَرَثَةِ. ذكره
في "الترغيب" و"الفصول" وغيرهما، لئلا يأخذ أحدهم ما لا حقّ له فيه.
(ثم) بعد القسمة (إن ظَهَر ربُّ دينٍ حالٍّ) لم تُنْقَضِ القسمة. و (رجع
على كل غريمٍ بِقسطِهِ،) لأنه لو كان حاضراً شاركهم، فكذا إذا ظهر.
(ويجب) على الحاكم أو أمينِهِ (أن يتركَ له) أي للمفلسِ منْ مالِهِ (ما
يحتاجُهُ من مسكنٍ وخادمٍ) صالحينِ لمثله، لأن ذلك مما لا غِنى له عنه، فلم
يُبَعْ في دينه، ما لم يكونَا عينَ مالِ غريمٍ، فإنه إن شاء أخَذَهما،
ويُشْتَرَى له أو يتركُ له بَدَلُهما.
(1/397)
(و) يجبُ أن يُتْرَكَ للمفلِسِ أيضاً إن
كان تاجراً (ما) أيْ شيئاً من ماله (يتّجر به، أو آلة حرفةٍ) فلا يبيعُها
لدعاءِ حاجته إليها، كثيابِهِ ومسكنِهِ.
(ويجب له) أيضاً أي للمفلس (ولعيالِهِ أدنى نفقةِ مثلِهِمْ من مأكَلٍ
ومشْرَبٍ وكسوةٍ) من مالِهِ حتى يُقْسَمَ، وأجرةُ كيَّالٍ ووزّانٍ وحمّالٍ
وحافظٍ لم يتبرع من المال.
(الرابع) من الأحكام المتعلقةِ بالحجر: (انقطاع الطلبِ عنه) أي عن المفلسِ
لقوله تعالى: {وَإنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} ولأن
قوله تعالى "فنظرة" خبَرٌ بمعنى الأمر، أي انظروه إلى يَسَارِه، (فمن
أقرضه) أي فمن أقرضَ المفلسَ شيئاً، (أو باعة شيئاً، عالماً بحجره، لم
يملكْ طلَبَهُ حتى ينفكَّ حجرُه) لتعلُّقِ حق الغرماءِ حالةَ الحجْرِ
بعَيْنِ مالِ المفلس.
لكن إذا وجَد البائعُ أو المقرضُ أعيانَ مالِهِما فلهما أخذها.
فصل [في الحجر على السفيه والصغير والمجنون]
(ومن دَفَعَ ماله) بعقدٍ كبيعٍ ورهنٍ أو لا كعارية ووديعةٍ (1) (إلى محجورٍ
عليه لحظّ نفسِهِ كـ (صغيرٍ أو مجنونٍ أو سفيهٍ، فأتلفَهُ، لم يضمنْهُ)
لأنه سلَّطَهُ عليه برضاه. ويضمنُ إتلافَ ما لم يُدْفَعْ إليه.
(ومن أخذ من أحدهم) أي من الصغيرِ والسفيهِ والمجنونِ (مالاً ضَمِنَهُ) أي
الآخذُ (حتى يأخُذَهُ وليُّه. لا) يضمنه (إن أخذه منه ليحفظَهُ. وتَلِفَ
ولم يُفَرِّط) أي الآخذُ، لأنه إن فَرَّطَ فقد ضمن، لتفريطه، (كمن
__________
(1) هذا التمثيل مشكل، فإن العارية والوديعة عقدان.
(1/398)
أخذَ مغصوباً) من غاصبِهِ (ليحفظَهُ لربّه)
لأن في ذلك إعانةً على ردّ الحقِّ إلى مستحقِّه.
(ومن بلغ) من ذكرٍ أو أنثى حالَ كونِهِ (رشيداً، أو بلغ مجنوناً ثم عَقَلَ
ورَشَدَ انفكَّ الحجرُ عنه) بلا حكمِ حاكمٍ بفكِّهِ.
أما كونُه ينفكّ عن الأوَّل، فلقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى
حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ}، ولأنَّ الحَجْرَ عليه إنما كان لعجزِهِ
عن التصرّف في مالِهِ على وجهِ المصلحةِ، حفظاً له، وببلوغِهِ رشيداً
يقدِرُ على ذلك، فيزول الحجرُ بزوالِ سبَبِهِ.
وأما كونُهُ ينفكُّ عن الثاني فلأنَّ الحجرَ عليه لجنونِهِ فإذا زالَ وجب
زوالُ الحجرِ لزوالَ علَّتَهُ.
(ودُفِعَ إليهِ) أي إلى من قلنا ينفكّ الحجر عنه (مالُهُ) لقوله تعالى.
{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}
ينفكُّ الحجرُ عنهما (قبل ذلك) أي البلوغِ والعقلِ مع الرُّشْدِ (بحالٍ)
ولو صارا شَيْخَيْنِ.
[علامات البلوغ]
(وبلوغُ الذَّكَر) يحصُل (بـ) واحدٍ من (ثلاثةِ أشياء.):
أشار للأوّل بقوله: (إما بالإِمْنَاءِ) أي بإنزالِ المنيّ يَقَظَةً أو
مناماً، باحتلامٍ أو جِماعٍ أو غير ذلك.
وًأشار للثاني بقوله: (أو بتمامِ خمسَ عشْرَةَ سنةً) أي استكمالِها.
وأشار للثالث بقوله: أو نباتِ شعرٍ خشِنٍ) وهو الذي استُحِقَّ أخذُه
بالموسى (حول قُبُلِهِ) دون الزَّغَبِ الضعيف، لأنه ينبت للصغير.
(وبلوغ الأنثى) يحصل (بذلك) الذي يحصل به البلوغ لِلذَّكَرِ، (و) تزيد عليه
(بالحيضِ.)
(1/399)
وحملُها دليل إنزالِهَا.
(والرُّشْدُ إصلاحُ المالِ وصونُهُ عما لا فائِدَةَ فيه.)
ولا يعطى مالَهُ حتى يُختبر. ويحل الاختبار قبل بلوغٍ بلائقٍ به. ويؤنَسَ
رُشْدُهُ.
فصل [في الولاية]
(وولاية المملوكِ لمالِكِهِ،) لأنه مالُه، (ولو) كان السيدُ (فاسقاً).
(وولايةُ الصغيرِ والبالغِ بسفهٍ أو جنونٍ لأبيه) بشرطِ أن يكونَ بالغاً،
لأنَّ الولدَ قَدْ يُلْحَقُ بمن لم يثبتْ بلوغُهُ. ومن لم يثبت بلوغُهُ لم
ينفكَّ عنهُ الحجْرُ، فلا يكون وليًّا.
(فإن لم يكن) له أب (فوصيّه) أي وصيُّ الأبِ إن عدمِ، لأنه نائبُ الأبِ،
ولو بجُعْل وثَمَّ متبرِّعٌ.
(ثم) بعد الأبِ ووصيِّه تكون الولايةُ على الصغيرِ وعلى من بلغَ مجنوناً أو
عاقلاً ثم جُنَّ (الحاكمُ) لأنَّ الولايةَ انقَطَعَتْ من جهة الأبِ، فتكونُ
للحاكِمِ، كولايَةِ النكاح، لأنّه وليُّ من لا وليَّ له (فإن عدم الحاكم
فأمينٌ يقومُ مقامَهُ) أي مقامَ الحاكِمِ. اختاره الشيخُ تقيُّ الدين، وقال
في حاكم عاجز: كالعَدَمِ.
(وشُرِطَ في الوليّ الرشد) لأنّ غَيرَ الرشيدِ محجورٌ عليه؛ (والعدالةُ ولو
ظاهراً) فلا يحتاجُ الحاكم إلى تعديلِ الأبِ أو وصيَّهِ في ثبوتِ
ولايَتهِمَا.
وليست الحريّةُ شرطاً فتثبت الولايَةُ للمكاتب على ولده الذي معه في
الكتابة، لكن لا تثبتُ له الولاية على ابنه الحرّ.
(1/400)
(والجدُّ) لا ولايةَ له لأنه لا يدلي
بنفسه، وإنما يدلي بالأب، فهو كالأخَ.
(والأمّ وسائرُ العصباتِ لا ولايةَ لهم) لأن المال محل الخيانة، ومن عَدا
المذكورِينَ أوّلاً قاصرٌ عنهم غير مأمونٍ على المال، (إلا بالوصية.)
(ويحرم على وليِّ الصغيرِ والمجنونِ والسفيهِ أن يتصرّف في مالِهِمْ إلا
بما فيه حظٌّ ومصلحةٌ) فإن تبرّعَ وليُّ الصغيرِ والمجنونِ بهبةٍ أو صدقةٍ،
أو حابى بأن اشترى لِمَوْلِيِّهِ بزائدٍ، أو باعَ بنقصانٍ، أو زادَ في
الإِنفاق عليهما على نفقتهِما بالمعروفِ، ضَمِنَ الزائِدَ، لأنه مفرّطٌ
فيه.
(وتصرُّف الثلاثةِ) السفيهِ والصغيرِ والمجنونِ (ببيعٍ أو هبةٍ أو شراءٍ أو
عتقٍ أو وقفٍ أو إقرارٍ غيرُ صحيحٍ.)
ويصحّ إقرارُ مأذونٍ له، ولو صغيراً، في قدر ما أُذِنَ فيه فقط.
وتصح معامَلَةُ قِنٍّ لم يثبتْ كونُهُ مأذوناً له، (لكنِ السفيهُ إن أقرّ
بحدٍّ) أي بما يوجبُ الحدَّ كالقذفِ والزِّنا، (أو) أقرّ (بنسبٍ أو طلاقٍ
أو قِصاصٍ صحّ) إقراره بذلك (وأُخِذَ به في الحالِ) قال ابن المنذر: وهو
إجماعُ من نحفَظُ عنه، لأنه غيرُ متَّهمٍ في نفسِهِ، الحجْرُ إنما يتعلق
بمالِهِ (1)، ولا يجب فيما إذا أقرَّ بقصاصٍ مالٌ عفي عليه (2).
(وإن أقر بمالٍ) كالقرضِ وجنايةِ الخطأِ والإِتلاف (أُخِذَ به،) أي بإقراره
فلا يلزَمُ إلا (بعد فك الحجرِ عنه) لأنا لو قبَلناه في الحالِ لزالَ معنى
الحجرِ.
__________
(1) في الأصول "يتعلّق في ماله" والصواب "بماله".
(2) في (ب، ص): "مال عُفِيَ عنه" والصواب "عليه" كما في (ف). وإنما لم يجب
المال لأن إقراره بالجناية قد يكون مواطأة مع المجني عليه أو وليه ليعفو
عنه ويأخذ المال. ولذا فلو ثبتت الجناية بالبينة وجب المال بالعفو.
(1/401)
فصل [في تصرفات
الولي]
(وللوليّ) أي ولي الصغيرِ والسفيهِ والمجنونِ غيرَ حاكِمٍ وأمينِهِ (معَ
الحاجَةِ أن يأكلَ من مالِ موليِّه) لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا
فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} قال في شرح المنتهى: وظاهره أنه لا يحلّ له
أن يأكل شيئاً مع غناه، لقوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا
فَلْيَسْتَعْفِفْ}.
وعنه: لا يجوز.
وعلى المذهب إنّما يباحُ له أن يأكل (الأقلَّ من أُجْرَةِ مثلِهِ
وكفايتِهِ) يعني أنه لو كانت أجرة مثله عشرةَ دراهمَ في كلِّ شهرٍ، ويكفيه
ثمانية، أو كانت أجرةُ مثلِهِ ثمانية، ولا يكفيه إلا عشرة، ليس له أن يأكل
في الصورتين إلا ثمانية.
ولا يلزَمُهُ عِوَضُ ما أكله إذا أَيْسَرَ.
(و) للولي الأكل من مالِ الصَّغيرِ والسَّفيهِ والمجنونِ (مع عَدَمِ
الحاجةِ) مع فَرْضِ الحاكمِ (يأكلُ ما فَرَضَ له الحاكِمُ.)
ويأكلُ ناظرُ وقفٍ بمعروفٍ، نصًّا، إذا لم يشتَرِطْ الواقفْ له شيئاً.
وظاهره: ولو لم يكن محتاجاً. قاله في القواعد. وقال الشيخ: له أَخْذُ
أُجْرَةِ عمله مع فقرِهِ.
(وللزوجةِ وكلِّ متصرِّفٍ في بيتٍ) كأجيرٍ (أن يتصدَّق) منه (بلا إذنِ
صاحِبِهِ بما لا يضرُّ، كرغيفٍ ونحوِهِ) كبيضةٍ، لأنه مما جَرَتِ العادة
بالمسامحة فيه، (إلا أن يمنعه) أي التصدقِ الزوجُ (1) (أو يكونَ بخيلاً)
فتشكّ في رضاه (فيحرُمُ) عليها الصدقةُ بشيء من مالِهِ، كصدقةِ الرّجُلِ
بطعامِ المرْأةِ.
__________
(1) لو قال "صاحب البيت" بدل "الزوج" لكان أولى ليشمل كل الصور.
(1/402)
باب الوكَالَة
بفتح الواو وكسرها اسمُ مصدرٍ بمعنى التوكيل.
(وهي) لغةً التفويض، وشرعاً (استنابَةُ) إنسانٍ (جائِزِ التصرفِ مثلَهُ)
أي: إنسان (1) جائز التصرّف (فيما) أي: قولٍ أو فعلٍ (تدخُلُه النيابة،)
فالقولُ (كعقدٍ) كبيعٍ ونكاحٍ وشركةٍ ومضاربةٍ ومساقاةٍ ومزارَعةٍ؛ (وفسخٍ)
كفسخ أحد الزوجين لعيبٍ، بصاحبه (وطلاقٍ) لأن التوكيلَ إذا جاز في عقد
النكاح جازَ في حلِّهِ بطريقِ الأولى؛ (ورجعةٍ) لأن التوكيلَ حيثُ ملَكَ به
الأقوى، وهو إنشاء النكاحِ، مَلَكَ به الأضْعَفَ وهو تجديده بالرجعة من باب
أولى، (وكتابةٍ، وتدبيرٍ، وصُلْحٍ) لأنه عقدٌ على مالٍ، أشبهَ البيعَ،
(وتفرِقَةِ صدقةٍ، و) تفرقة (نذرٍ، و) تفرقة (كفارةٍ، وفعل حجٍّ، و) فعل
(عمرةٍ) وتدخلُ ركعتَا الطوافِ فيها تبعاً.
و (لا) تصحُّ الوكالةُ (فيما لا تدخله النيابَةُ كصلاةٍ وصومٍ وحَلِفٍ
وطهارةٍ من حَدَثٍ) أصغرَ أو أكبرَ وشهادةٍ واغتنامٍ وقَسْمٍ لزوجاتِ
ولعَانٍ وإيلاءٍ وقَسَامَةٍ ودفعَ جزيةٍ.
(وتصح الوكالة منجَّزَةً،) كأنْتَ وكيلي الآن، (ومعلَّقةً،) كإذا جاء
__________
(1) كذا في الأصول. وكان يلزمه أن ينصب، لأن ما بعد (أي) التفسيربة بدل أو
عطف بيان. كما في المغني لابن هشام (1/ 71)
(1/403)
المحرّم فقد وكلتك، (ومؤقتة،) كأنت وكيلي
في شراءِ كذا وقتَ كذا.
(وتنعقد) الوكالة (بكلِّ ما دلَّ عليها من قولِ) كبع عبدي هذا، أو
كاتِبْهُ، أو أعتِقْهُ، أو دَبِّرهُ، أو: فَوَّضْتُ إليكَ أمره، أو أقمتك
مقامي، أو جعلتُكَ نائباً عني في ذلك، لأنه لفظٌ دل على الإِذن، فصحّ،
كلفظها الصريح، (وفعلٍ) قال في الفروع: ودلَّ كلام القاضي على انعقادِهَا
بفعل دالٍّ، كبيعٍ (1). وهو ظاهرُ كلامِ الشيخ فيمن دَفَع ثوبَهُ إلى
قصّارٍ أو خياط. وهو أظْهَرُ، كالقبول.
ويصح قبولٌ بكل قولٍ أو فعلٍ دال عليهِ، ولو متراخياً.
(وشُرِطَ) لصحة الوكالة (تعيينُ الوكيلِ) قال القاضي وأصحابُهُ: بأن يقولَ:
وكّلتُ فلاناً في كذا (لا عِلْمُه بها) أي لا يشتَرَطُ لصحةِ التصرفِ
بالوكالةِ علمُ الوكيلِ بالوكالةِ، فلو باعَ إنسانٌ عبدَ زيدٍ على أنه
فضوليٌّ، فبانَ أن سيده وكّله في بيعِهِ قبلَ البيع صحّ، لأن العبْرَةَ بما
في نفسِ الأَمْرِ، لا بما في ظنّ المكلف.
وله التصرُّفُ بِخَبَرِ من ظَنَّ صدقَهُ.
ويضمن ما ترتَّبَ على تصرفه إن أنكر زيدٌ التوكيل.
(وتصح) الوكالة في (بيع مالِهِ) أي مال الموكّل (كلِّهِ) لأنه يتصرَّف في
مالِهِ فلا غَرَرَ، (أو) يوكِّلَه أن يبيعَ (ما شاءَ) الوكيلُ (منه) أي من
مال الموكِّل، لأن التوكيلَ إذا جاز في الجميع، ففي بعضه أولى.
(و) تصح الوكالة (بالمطالبَةِ بحقوقِهِ كلِّها، وبالإِبراءِ منها كلِّها،
أو ما شاءَ منها) قال في الفروع: وظاهرُ كلامهم في "بعْ من مالي ما شئت" له
بيع كلِّ مالِهِ.
(ولا تصحُّ) الوكالةُ (إن قال) الموكل لوكيله: (وكلتك في كلِّ قليلٍ
__________
(1) في الأصول "بفعل دالٍّ على البيع" والتصويب من شرح المنتهى.
(1/404)
وكثير) قاله الأزْجِي، لأنه يدخل فيه كلُّ
شيءٍ من هِبَةِ مالِهِ، وطلاقِ نسائِهِ، وإعتاقِ رقيقِهِ، فيعظم الغَرَرُ
والضرر.
(وتسمَّى) هذه [الوكالةُ] الوكالَةَ (المفوَّضَةَ).
(وللوكيل أن يوكِّل فيما يعجز عنه) مثلُهُ، لكثرته، وفيما لا يتولّى مثلُهُ
بنفسِهِ، كالأعمال الدنيّة في حقّ أشرافِ الناسِ المترفِّعين عن فعلِها في
العادَةِ، لأن الإِذن إنما ينصرف إلى ما جرت به العادة.
و (لا) يملكُ الوكيلُ (أن يعقدَ مع فقيرٍ أو قاطِعِ طريق) إلاَّ أن يأمره
الموكِّل، لأن في ذلك -مع عدم إذن الموكل- تفريطاً، (أو يبيعَ مؤجّلاً، أو
بمنفعةٍ، أو عَرْضٍ.) أما كونه لا يصحّ إذا باعَ مؤجَّلاً فلأن الموكِّل
إذا باع بنفسِهِ، وأطلق انصرف إلى الحلول، فكذا إذا أطلق الوكالة. وأما
كونُه لا يصحُّ بمنفعةٍ أو عرْض فلأن الإِطلاق محمولٌ على العرف، والعرْفُ
يقتضي أن الثمن إنما يكونُ من النقدين. قال المجد في شرحه: فإن وكله أن
يشتري له طعاماً لم يجز له غيرُ شراءِ الحِنْطَةِ، حملاً على العُرْفِ (1)،
ذكره القاضي وابن عقيل (أو بغيرِ نقدِ البلد)، أو بنقدٍ غيرِ غالبه إن جمع
نقوداً، أو بغير الأصلحِ من نقودهِ إن تساوتْ رواجاً، (إلا بإذن موكّله.)
وإن وكّل عبدَ غيرِهِ، ولو في شراءِ نفسِهِ من سيِّدِهِ، صحّ ذلك إن أذن
فيه سيده، وإلا فلا، فيما لا يملكه العبد.
__________
(1) أي عرف زمانهم ومكانهم. ولو كله في شراء طعامٍ عندنا بالكويت في هذا
الزمان انصرف إلى الجاهز. فلو اشترى حنطة لم يجز.
(1/405)
فصل [فيما تبطل
به الوكالة]
(والوكالةُ والشرِكةُ والمساقاةُ والمزارَعَةُ والوديعةُ والجُعَالَة عقودٌ
جائزة من الطرفين) لأن غاية ما في كل منها إذْنٌ وبذْلُ نفعٍ، وكلاهما
جائز، (لكلٍّ من المتعاقدَينِ فسخُها) أي هذه العقود، كفسخ الإِذن في أكلِ
طعامِهِ.
(وتبطُلُ كلها) أي العقود المذكورة (بموتِ أحدِهِما أو جنونِهِ) جنوناً
مُطْبِقاً، (وبالحجرِ) عليه (لسَفَهٍ) لأن كلاًّ من هذه العقود المذكورة
يعتمد الحياةَ، والعقلَ، وعدم الحجر. فإن انتفى ذلك انتفت صحّتُها لانتفاء
ما تعتمد عليه، وهو أهليَّةُ التصرف. والمراد ببطلانها بالحجر للسفه (حيثُ
اعتُبر) لها (الرُّشْدُ) بأن كان في شيء لا يتصرَّفُ في مثله السفيهُ. أما
إن كانت في شيء يسيرٍ يتصرَّف في مثله السفيه بدون إذنِ وليِّهِ، أو كانت
الوكالة في طلاقٍ، أو رجعةٍ، أو في تملًّكِ مُبَاحٍ كاستقاء (1) ماءٍ
واحتطابِ، فإنها تصح (2).
(وتبطل الوكالة بَطرُوِّ فسقٍ لموكّلٍ ووكيلٍ فيما ينافيه) الفسق فقط
(كإيجاب النكاح) لخروجِهِ عن أهليةِ التصرّف، بخلافِ الوكيلِ في قبولِهِ،
أو في بيعٍ أو شراءٍ فلا ينعزل بفسقِ موكِّله.
(و) تبطل الوكالة أيضاً (بِفَلَسِ موكلٍ فيما حُجِرَ عليه فيه) بأن كانت
الوكالة في أعيان مالِهِ، لانقِطاعِ تصرّفه فيه.
(و) تبطل الوكالة أيضاً (بِرَدّتِهْ) أي الموكل، لامتناعه من التصرُّفِ في
مالِهِ ما دام مرتدًّا. ولا تبطل بردّةِ وكيلٍ إلا فيما ينافيها.
__________
(1) في (ب، ص) "كاستسقاء" والتصويب من (ف).
(2) أي تبقى على صحتها. وكان الصواب أن يقول: فإنها لا تبطل (عبد الغني).
(1/406)
(و) تبطل الوكالة أيضاً (بتدبيرِهِ) أي
تدبيرِ السيدِ (أو كتابتِهِ قِنًّا وُكِّل في عتقِهِ) لدلالَةِ ذلك على
الرجوعِ عن الوكالة في العتق.
(و) تبطل الوكالة أيضاً (بوطئِهِ) أي الموكِّل لا قبلتِهِ (زوجةً وكَّل في
طلاقِهَا) لدلالَةِ وطئِهِ على رغبتِهِ فيها، واختيارِهِ إمساكها.
وكذلك لو وَطِئَها بعد طلاقِهَا رجعياً كان ارتجاعاً لها.
(و) تبطل الوكالة أيضاً (بما يدلّ على الرجوعِ من أحدِهِما) أي الوكيل
والموكِّل. ومن صور دلالة رجوع الوكيل ما إذا قبل الوكالة من مالِكِ عبدٍ
في عتقِهِ، وكان قد وكّله إنسان في شرائه؛ فإن قبولَ الوكالة في عتقِهِ
يدلَّ على رجوعه عن الوكالة الأولى في شرائه.
(وينعزل الوكيل بموتِ موكِّلِهِ وبعزلِهِ له) أي للوكيل (ولو لم يعلمْ)
كشريكٍ، ومضارِبٍ، لا مودِعٍ (1).
(ويكون ما بيده بعد العزل أمانَةً) لا يضمنه إذا تلف بغيرِ تَعَدٍّ منه ولا
تفريطٍ، حيث لم يتصرف. وأما ما تلف بتصرّفه فيضمنه. وكذلك عقودُ الأمانات
كلُّها كالوديعةِ والرهنِ إذا انتهت أو انفسخت.
فصل [في ضمان الوكيل إذا خالف]
(وإن باع الوكيلُ بأنقصَ من ثمن المثلِ، أو) بأنقص (مِمّا قدره له موكله،
أو اشترى بأزيد) من ثمنِ المثلِ (أو بأكثر مما قدره له، صحّ) البيعُ
والشراءُ (وضمن في البيع كلَّ النقص، وفي الشراء كل الزائد) عنٍ مقدَّرِهِ
وما لا يُتَغَابَنُ بمثلِهِ عادةً، كأن يعطى لوكيله ثوباً ثمن مثله مائةُ
__________
(1) فإن المودَعَ لا ينعزل قبل علمه بموت المودِع أو بعزله له.
(1/407)
درهمٍ ليبيعه له، ولم يقدِّر له الثمن،
فيبيعه بثمانين، والحال أن مثل الثوب قد يبيعُهُ غيره بخمسةٍ وتسعين
درهماً. فهذه الخمسةُ التي نقصت عن ثمن مثلِهِ مما يتغابَنُ الناس بمثله في
العادة. فلو أن الوكيل باعَ بمثلِ هذا النقصِ لم يضمن شيئاً لأن التحرز عن
مثل هذا عَسِرٌ. لكنه لو باع بنقص لا يُتَغَابَنُ بمثله بين التجارِ، وهو
عشرون من مائةٍ، فيضمنُ جميع هذا النقص.
(و) من قال لوكيله عن شيء (بعه لزيدٍ، فباعه لغيره) أي غير زيد (لم يصحّ)
البيع، قال في المغني: بغير خلاف علمناه، سواءٌ قدَّر له الثمنَ، أو لم
يقدِّر، لأنه قد يكون له غرضٌ في تمليكِهِ إياه (1) دون غيره.
(ومن أُمِر) من قِبَلِ مالكٍ (بدفعِ شيءٍ) كثوبِ (إلى) قَصَّارٍ أو خيّاطٍ
(معيّنٍ) بتعيين الآمر (ليصنعه) بأن يقصُرَهُ أو يخيطه (فَدَفَعَ) المأمورُ
الثوبَ إلى من أُمِرَ بدفعه له (ونسيه) فضاع الثوب (لم يضمن) لأنه إنما فعل
ما أمر به، ولم يتعدّ ولم يفرط.
(وإن أطلق المالك) الإِذن، بأن دفعه إليه، وقال: ادفعه إلى من يقصُرُه أو
يخيطُه، (فدفعه) الوكيل (إلى من) أي إلى إنسانٍ (لا يعرفه) أي لا يعرف
عينَهُ، كما لو ناوله إياه من وراء سُتْرَةٍ، ولا يعرفُ اْسمَهُ، بأن لم
يسأل عنه، ولا دكانَه بأن دفعه بمحلٍّ غير دكانِهِ ولم يسألْ عنه، فضاع
الثوب (ضمنه) الوكيل لتفريطه.
(والوكيل أمينٌ لا يضمنُ ما تَلِفَ بيده بلا تفريطٍ) لأنه نائبٌ للمالِكِ
في اليَدِ والتصرّف، فكان الهلاكُ في يده كالهلاكِ في يد المالكِ،
كالمودَعَ.
__________
(1) فإن دلت قرينة على أنه لا غرض له في ذلك يصحّ البيع (عبد الغني).
(1/408)
وكذا حُكْمِ كل من بيده شيء لغيرِهِ على
سبيل الأمانة، كالوصيّ ونحوه.
وكلامه شاملٌ للوكيل المتبرّعِ، والوكيل بِجُعْلٍ، لأنه (1) لا فرق بين تلف
العينِ الموكل فيها، وبين تلف ثمنها، لأنه أمين.
(ويصدَّق) الوكيل (بيمينه في التلف) أي تلف العين أو الثمن، (و) يقبل قوله
بيمينه (أنه لم يفرِّط،) ولا يكلَّف على ذلك بينةً، لأنّ هذا مما يتعذّر
إقامةُ البينة عليه، ولأنه لو كُلِّف ذلك لامتنع الناسُ من الدخولِ في
الأماناتِ، مع الحاجة إلى ذلك. ومحلُّ هذا إن ادعى التلف بسبب خفيٍّ
كالسرقة ونحوها. وإن ادعاه بسببٍ ظاهرٍ، كحريقٍ ونهبٍ ونحوهما، لا يقبل إلا
ببيّنَةٍ تشهد بالحادث. ويقبل قوله في التلف به بيمينه.
(و) يقبل قول وكيلٍ (أنه) أي موكله (أذنَ له في البيع مؤجَّلاً، أو بغير
نقد البلد) أو بِعرْضٍ (2)، كالخياط إذا قال: أذنتَ لي في تفصيلِهِ
قَبَاءً، وقال المالك: لا بل قميصاً.
ولو باع الوكيل السلعة، وقال: بذلك أمرتني، فقال المالك: بل أمرتُكَ
برهنها، صُدِّق رَبُّها، فاتَتْ أو لم تَفُتْ، لأن الاختلاف هنا في جنس
التصرُّف.
(وإن ادعى) الوكيل (الردّ إلى ورثة الموكل مطلقاً) لم يظهر لي معنى قوله
مطلقاً (3) (أو) ادعى الرد (له) أي الموكل (وكان بجعلٍ لم يُقْبَلْ) منه
دعوى الرد.
__________
(1) عبارة "لأنه" في الأصول. وهي مشكلة، والمقام يقتضي "وأنه لا فرق" (عبد
الغنى).
(2) في (ب، ص): "أو بعوض"، وفي (ف): "أي بعوض" , وكلاهما مشكل، والتصويب من
شرح المنتهى 2/ 316
(3) على هامش بعض النسخ معزوًّا للشارح ما نصّه: ثم ظهِر لي المراد: سواء
كان بجعلٍ أوْ لا. اهـ. وهو ظاهر من قوله أوله: كان بجعل. فلَا غبار عليه
(عبد الغنى).
(1/409)
قال في شرح المنتهى: وجُمْلَةُ الأمناءِ
على ضربين:
أحدهما: من قَبَضَ المالَ لنفع مالكِهِ لا غير، كالمودَع، والوكيل
المتبرِّع، فيُقْبَل قوله في الردّ، لأنه لو كُلِّف البينةَ عليهِ لامتنَعَ
الناس من دخولهم في الأماناتِ، مع الحاجَةِ، فيلحقهم الضررُ بذلك.
الضربُ الثاني: من ينتفِع بقبضِ الأمانة، كالوكيل بِجُعْلٍ، والمضارِبِ،
والمرتَهِنِ ونحوهم، فلا يقبل قولهم في الردّ على الأصحّ. نص عليه الإِمام
في المضارب، في رواية ابن منصور.
(ومن عليه حقٌّ) لآدميٍّ (فادّعى إنسانٌ أنه وكيلٌ ربِّهِ في قبضِهِ،) أو
وصيُّهُ، أو أنه أحيل به، (فصدّقه،) أي صدق مدَّعِيَ الوكالةِ أو الوصيّة
أو الحوالة، (لم يلزمه) أي من عليه الحقّ (دفعُهُ إليه) أي إلى المدعي لأنه
لا يبرأُ بهذا الدفع، لجواز أن ينكرَ ربُّ الحق الوكالَة أو الحوالةَ، أو
يظهر حَيًّا في مسألةِ دعوى الوصية، فيرجع على الدافع.
(فإن ادّعى) المطالِبُ (موتَهُ) أي موتَ ربِّ الحق، (وأنه وارثه،) ولا
وارثَ له غيره، (لزمه) أي لزمَ من عليهِ الحقُّ (دفعهُ) لمدعي الإِرث لربِّ
الحق، مع تصديقٍ منه على ذلك.
(وإن كذّبه) أي كذب من بيده العينُ المدّعِيَ (حلفَ أنه لا يعلم أنه وارثه،
ولم يدفعه) لأن من لزمه الدفعُ مع الإِقرار، لزمته اليمينُ مع الإِنكار.
وصفتها أن يحلفَ أنه لا يعلم صحة ما قاله، لأنّ اليمينَ هنا على نفيِ فعل
الغير، فكانت على نفي العلم (1).
__________
(1) كذا الصواب. وفي (ف): فكانت مقدَّمة على نفي العلم.
(1/410)
|