نَيْلُ
المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب كتَاب الشَّركَة
وفيها لغات: فتح الشين مع كسر الراء، وسكونُها، وكسرُ الشين مع سكونِ الراء
(1).
وهي جائزة بالإِجماع.
الشركة قسمان:
القسم الأول: اجتماعٌ في استحقاقٍ، وهو أنواع:
الأول: أن يكون في المنافِعِ والرقابِ، كما لو ورث اثنانِ أو جماعة عبداً
أو داراً.
النوع الثاني: أن تكون في الرقاب فقط، كما لو ورث جماعةٌ عبداً أو نحوَه
موصًّى بنفعه.
النوع الثالث: أن تكون في المنافع دون الأعيان، كما لو وصّى لاثنينِ أو
أكثر بمنفعةِ عبدٍ أو نحوه.
النوع الرابع: أن تكون في حقوق الرقاب، كما لو قذف جماعةً يُتَصَوَّرُ
زناهم عادةً بكلمةٍ واحدةٍ، فإن طَلَبُوا كلُّهُمْ وجب لهم حدٌّ واحد.
__________
(1) الأصل "شرِكة" أما "شرْكهَ وشِرْكة" فنوعان من التخفيف والإِتباع
يجريان في ما كان على وزن فَعِلٍ: كفَخِذٍ وفَخْذٍ وفِخْذ.
(1/411)
[القسم] الثاني: الشركة في التصرف (وهي
خمسةُ أنواعٍ، كلها جائزةٌ ممن يجوز تصرفه).
(أحدها: شركة العنان). ولا خلاف في جوازِها، وإنما الخلاف في بعضِ شروطِها.
وسميت بذلك، قيل: لأنهما يستويان في المال والتصرُّف، كالفارسين إذا استويا
في السير، فإن عِنانَ فرسيهما يكونان سواء، (وهي أن يشترك اثنان فأكثرُ في
مالٍ يتَّجِران فيه، ويكون الربحُ بينهما) أو بينهم (بحسب ما يتفقانِ) أو
يتفقون عليه.
(وشروطها) أي شركة العِنان (أربعة):
(الأول: أن يكون رأسُ المال من النقدين المضروبين، الذهبِ والفضةِ، ولو لم
يتفق الجنس) فيجوز أن يدفع واحدٌ ذهباً والآخرُ فضةً.
(الثاني: أن يكون كلٌّ من المالين) المعقودِ عليهما (معلوماً) فلا تصحّ على
مجهولَيْنِ، للغرَرِ.
فإن اشتركا في مالٍ مختلِطٍ بينهما شائعاً صح عقد الشركة، إن عَلِمَا قدر
ما لكلٍّ منهما فيه.
(الثالث: حُضُور المالين) فلا تصحُّ على غائبٍ، ولا على مالٍ في الذمّة.
(ولا يشترط) لصحة الشركة (خَلْطُهما،) ولا أن تكونَ أيدي الشريكين عليهما،
(ولا) يشترط (الإِذن في التصرف).
(الرابع: أن يشترطا) أي الشريكان (لكل واحدٍ منهما جزءاً) مشاعاً (معلوماً
من الربح) ولو متفاضلاً لتفاوتهم في قوّة الحِذْقِ، (سواءٌ شَرَطا لكل واحد
منهما) ربحاً (على قَدْرِ ماله، أو أقلَّ، أو أكثر لأن الربح مستَحَقٌّ
بالعمل، وقد يتفاضلان فيه.
(1/412)
(فمتى فُقِدَ شرط) من هذه الشروط الأربعة
المذكورة (فهي فاسدة).
(وحيث فَسَدتِ) الشركة (فالربحُ على قدر المالين) في شركة عِنَانٍ
وَوُجوهٍ، لأن الربحِ استُحِقَّ بالمالين، فقُسِمَ على قدرهما. وأجرةُ ما
يتقبّلان في شركة أبدانٍ بالسوية، (لا على ما شَرَطَا) لفساد الشركة (لكن
يرجعُ كل) واحد (منها على صاحِبِه بأجرة نصفِ عمله) لأنَّه عَمِلَ في نصيب
شريكِهِ بعقد يبتغي به الفضْلَ في ثاني الحالِ، فوجب أن (1) يقابل العمل
فيه عوضاً، كالمضاربة.
وكيفيّة ذلك أن يقالَ بالنظر لأحدهما: كم يساوي عملُه؟ فيقال: عشرة، مثلاً.
فيرجعُ بخمسة. ويقال عن الآخر: كم يساوي عملُه؟ فيقال: عشرون فيرجع بعشرة.
ويقاصُّ منها بالخمسة التي استحقها على شريكه. يبقى عليه خمسة.
(وكل عقدٍ لا ضمانَ في صحيحِه لا ضمانَ في فاسِدِه، إلا بالتعدي أو
التفريط، كالشركةِ والمضاربةِ والوكالةِ والوديعةِ والرهنِ والهبةِ)
والصدقة.
وكل عقدٍ لازمٍ يجب الضمانُ في صحيحِهِ يجب الضمانُ في فاسِده, كبيعٍ
وإجارةٍ ونكاحٍ وقرضٍ. ومعنى ذلك أن العقد الصحيح إذا لم يكن موجباً
للضمانِ فالفاسد من جنسِهِ كذلك. وإن كان موجِباً له مع الصحّة فكذلك مع
الفساد.
(ولكل من الشريكين) أو الشركاءِ (أن يبيعَ) مال الشركة، (ويشتريَ، ويأخذَ)
ثمناً ومُثْمَناً، (ويعطي) ثمناً ومثمناً، (ويطالبَ) بالدين، (ويخاصمَ)
فيه، لأن من مَلَكَ قبْضَ شيء مَلَكَ المطالبةَ به
__________
(1) (ب، ص) "فوجب أن العوض يقابل العمل فيه عوضاً" والتصحيح من (ف).
(1/413)
والمخاصمةَ فيه، بدليلِ ما لو وَكَّله في
قبضِ دينِهِ، ويحيلَ ويحتالَ، ويردَّ بعيبٍ للحظّ، ولو رضي شريكُهُ به،
ويُقِرَّ به، ويقابلَ، وُيؤْجِرَ ويستأجر، (ويفَعلَ كل ما فيه حظٌّ للشركة)
كحبسِ غريمٍ ولو أبى الآخر، ويودِعَ لحاجةٍ، ويسافرَ مع أمنٍ.
فصل [في شركة المضاربة]
(الثاني) من الأنواع الخمسة: (المضاربةُ) وهذه تسميةُ أهلِ العِراقِ،
مأخوذةٌ من الضّرب في الأرض، وهو السفر فيها للتجارة.
وأهل الحجاز يسمونها قِرَاضاً، مأخوذة من قَرَضَ الفأرُ الثوبَ، إذا قطعه،
فكأنّ رب المال قَطَع للعامل من مالِهِ قطعة وسلّمها إليه.
(وهي) شرعاً (أن يدفع) إنسانٌ (من ماله إلى إنسانٍ آخر) شيئاً، أو يكونَ له
تحت يده على سبيلِ الوديعةِ أو الغصبِ مالٌ، ويأذنَ له (ليتّجِرَ فيه،
ويكونَ الربحُ بينهما بحسَبِ ما يتفقان) عليه.
(وشروطها) أي المضاربة (ثلاثة):
(أحدها: أن يكون رأسُ المالِ من النقدين) الذَّهب والفضة (المضروبين)، فلا
تصحُّ شركةٌ ولا مضاربةٌ بِنُقْرَةٍ، وهي الفضّة التي لم تُضْرَبْ، ولا
بمغشوشةٍ غشًّا كثيراً، ولا بفلوسٍ ولو نافقةً.
(الثاني: أن يكون) رأس المال (معيناً،) فلا يصحّ أن يقول: ضارِبْ بما في
أَحدِ هذين الكيسين، سواءٌ تساوى ما فيهما أو اختلف، وسواءٌ عَلِما ما
فيهما أو جهلاه، لأنها عقدٌ تمنع صحَّتَهُ الجهالةُ، فلم تَجُزْ على غيرِ
معيّن، كالبيع، (معلوماً) قدرُه، فلا يصحُّ أن يقول: ضاربْ بهذِهِ
الصُّبْرَهِ من الدنانير والدراهم، لأنه لا بدّ من الرجوعِ إلى
(1/414)
رأس المال عند المفاضَلَة، ليعْلَمَ الربح،
ولا يمكن ذلك مع الجهل.
(ولا يُعتَبر) لصحّة المضاربة (قبضُه) أي العامل لرأسِ المال (بالمجلِسِ،
ولا القَبُول) منه، بأن يقول: قبلتُ. فلو أحضر ربُّ المالِ المالَ، وقال
له: اتَّجِرْ به، ولك ثلث ربحِهِ، مثلاً، واشترى العاملُ به عَرْضاً في
المجلس قبل قبضِهِ وقولِهِ قبلتُ، صحَّت المضاربةُ والشراءُ. ولهذا قال في
المنتهى: فتكفي مباشرتهُ.
(الثالث: أن يُشْتَرَط للعامل جزء معلومٌ من الربح) أي ربحِ المالِ،
كثلثِهِ أو ربعِهِ أو خمسهِ أو سدسِهِ أو سبعِهِ.
(فإن فُقِدَ شرطٌ) من هذه الشروط الثلاثةِ (فهي فاسدة).
(ويكون للعاملِ) في المضاربةِ الفاسدةِ (أجرةُ مثلِهِ) نصّ عليه، (وما
حَصَل من خسارةٍ) في المال (أو ربحٍ، فللمالِكِ) لأنَّهُ نماء مِلْكِهِ.
تنبيه: قال الفتوحي في شرح المنتهى: فأما إن رضي المضاربُ بأن يعملَ بغيرِ
عوضٍ، مثلَ أن يقول: قارضْتُك والربحُ كله لي، ودَخَلَ على ذلك، فلا شيءَ
له، لأنه متبرِّعٌ بعمله، فأشبه ما لو أعانه، أو توكَّل له بغير جُعْلٍ.
انتهى.
[تصرفات المضارب]
(وليس للعاملِ شراءُ من) أي شراءُ رقيق (يعتق على ربّ المال) بغير إذنٍ في
ذلك، لأن عليهِ فيه ضرراً، ولأنّ المقصودَ من المضاربة الربحُ حقيقةً أو
مظنَّة، وهما منتفيان هنا.
فإن اشتراه بإذن رب المال صحّ وعتق، وتنفسخُ المضاربة في قدْرِ ثمنِه، لأنه
قد تَلِفَ، ويكون محسوباً على ربّ المال، وإن كان ثمنه كلَّ المالِ انفسخت
كلُّها. وإن كان في المالِ ربح رجَع العامل بحصته منه، (فإن فَعَلَ) بأن
اشتراه بغير إذن ربّ المالِ صَحَّ الشراء، (وعتَقَ) على ربِّ
(1/415)
المال، لأن القولَ بصحةِ الشراء يوجب عتقه،
وإذا صحّ الشراء (و) عتَقَ (ضَمِنَ ثمنه) الذي اشتراه به، لأن التفريطَ منه
حَصَل بالشِّراء، (ولو لم يعلم) أنه يعتق على رب المال، لأن مالَ المضاربةِ
تَلِفَ بسببه، ولا فرق في الإِتلافِ الموجِبِ للضمانِ بين العلم والجهل.
[نفقة المضارب]
(ولا نفقةَ للعامل) في مضاربةٍ، لأنه دَخَل على أن له في الربح جزءاً، فلا
يستحقُّ غيره، إذ لو استحقها لأفضى إلى اختصاصِهِ به حيث لم يربح سوى
النفقة، (إلا بشرطٍ) فقط، نصَّ عليه، كوكيلٍ.
(فإن شُرِطَتْ) محدودةً فهي أولى. قال الإمام أحمد: أحبُّ إليّ أن يَشْرُطَ
نفقة محدودةً، لأن في تقديرِهَا قطعاً للمنازعة.
وإن شُرِطَتْ (مطلقَةً، واختلفا،) بأن تشاحَّا فيها (مثله نفقة مثلِهِ
عرفاً من طعامٍ وكسوةٍ،) لأنّ إطلاق النفقةِ يقتضي جميعَ ما هو من ضروراته
المعتادة، فكان له النفقةُ والكسوةُ، كالزوجةِ وسائرِ من تجب نفقتُهُ على
غيره.
(ويملك العامل حصَّتَهُ) المشروطةَ له (من الربحِ بـ) مجرّد (ظهورِهِ قبل
القسمة) قال أبو الخطاب: روايةً واحدة (كالمالِكِ) أي كربّ المال، وكما
يملك المُسَاقِي حصَّتَهُ بظهورِهَا، لأنّ الشرط صحيح فيثبُتُ مقتضاه، وهو
أن يكونَ له جزءٌ من الربحِ، فإذا وجد يجب أن يملكه بحكم الشرط، قياساً على
كلِّ شرط صحيحٍ في عقد.
و (لا) يملك (الأخْذَ منه إلا بإذنٍ) من ربِّ المال، لأن نصيبه مشاع.
وليس له أن يقاسِمَ نفسه.
وتحرم قسمتُهُ والعِقدُ باقٍ إلا باتفاقِهما على ذلك.
(وحيث فُسِخَتِ) المضاربة (والمال عَرْضٌ، فرضي ربُّه بأَخذِهِ
(1/416)
قَوَّمَهُ) أي مالَ المضاربة، (ودفع للعامل
حصَّتَهُ) من الربح الذي ظهر بتقويمِ المالِ، (وإن لم يرضَ) ربُّ المال
بأخذ العَرْضِ (فعلى العامل بيعه وقبضُ ثمنِه) لأن عليه ردَّ المال ناضًّا،
كما أخذَهُ منه ذهباً أو فضّة.
[اختلاف المضارب ورب المال]
(والعامل) في المضاربة (أمين) في مالِهَا لأنه يتصرّف في مال لا يختصُّ
بنفعِهِ -متعلّق بتصرّف- (1) بإذن مالِكِهِ، فكان أميناً، كالوكيل. وفارق
المستعيرَ، فإنه يختصّ بنفع العين المعارة (يُصَدَّقُ بيمينه في قدر رأسِ
المال،) سواء كان ربحٌ أم لا، لأن رب المال يدّعي عليه قبض شيءٍ وهو ينكره
(2). والقولُ قولُ المنكِر.
(و) يصدّق العاملُ بيمينه أيضاً (في) قدر (الربح) نقله ابن منصور (وعدمه،
وفي الهلاكِ والخسرانِ) لأن تأمينه يقتضي ذلك.
ومحلّ ذلك إن لم تكن لربّ المال بينةٌ تشهدُ بخلاف ما ذكره العامل (حتى) و
(لو أقر) عاملٌ (بالربح) بأن قال: رِبْحُ المالِ ألفٌ، ثم ادعى تلفاً أو
خسارةً قُبِلَ قَوْلُه في ذلك. لا غلطاً أو كذباً أو نسياناً أو اقتراضاً
تمَّم به رأسَ المالِ، بعد إقراره برأسِ المال لربِّه.
(ويقبل قول المالِك) بعد ربحٍ حصل في المال (في قدرِ ما شَرَط للعاملِ) فلو
قال: شَرَطْتَ لي نصفَ الربح، وقال المالك: بل ثلثَهُ، فالقول قولُ المالك.
نصّ عليه.
__________
(1) هذه العبارة المعترضة ساقطة من (ف).
(2) في (ب، ص) هنا زيادة "بيمينه" فحذفناها تبعاً لـ (ف).
(1/417)
فصل [في شركة
الوجوه]
(الثالث) من الأنواع الخمسة (شركة الوجوهِ، وهي أن يشترك اثنان لا مالَ
لهما في ربحِ ما يشتريانِه من الناس في ذِمَمِهِما) بجاهَيْهما.
ولا يُشترط لصحتها ذكرُ صِنْفِ ما يشتريانِهِ، ولا قدرِه، ولا مدةِ الشركة،
فلو قال أحدهما للآخر: ما اشتريتَ من شيءٍ فبيننا، وقال الآخر كذلك، صح
العقد.
(ويكون المِلْكُ) لما يشتريانِهِ بجاهيهمَا كما شَرَطا، (و) يكونُ (الربحُ
بينهما كما شَرَطَا) من تساوٍ وتفاضُلٍ، لأن أحدهما قد يكون أوثَقَ عندِ
التّجارِ، وأبْصَرَ بالتجارة من الآخر، فيجوزُ له أن يشترط زيادةً في الربح
في مقابلةِ زيادةِ أوْثَقِيَّتِهِ وزيادة إبصاره (1) بالتجارة.
(والخسارةُ) أي الخسرانُ الحاصلُ بتلفٍ، أو بيعٍ بنقصانٍ عما اشترياهُ، أو
غيرِ ذلك (على قَدْرِ الملك) في المشتَرَى، فعلى من يملكُ فيه الثلثينِ
ثلثا الوَضِيعَةِ، وعلى من يملكُ فيه الثلثَ ثلثُ الوضيعة، ونحو ذلك، سواءٌ
كان الربحُ بينهما كذلك أو لم يكن، لأن الخسارةَ عبارة عن نقصانِ المالِ،
وهو مختصٌّ بِملاَّكه، فيوزّع بينهما على قدرِ حِصَصِهِما.
وتصرُّفُهما كتصرُّف شريكي عِنَان.
[شركة الأبدان]
(الرابع) من الأنواعِ الخمسةِ: (شركة الأبْدانِ. وهي) نوعان:
أحدهما: (أن يشتركا فيما يتملَّكان بأبدانِهِما من المباحِ،
__________
(1) كذا في الأصول، والأولى "زيادة بَصَره" فإن "أبصر" المتقدم أفعل تفضيل
من "بَصُر" فمصدره البَصَر لا الإبصار.
(1/418)
كالاحتشاشِ والاحتطابِ والاصطِيادِ)
والتلصُّص على دار الحرب.
وأشار للثاني بقوله: (أو يشتركا فيما يتقبّلان في ذِمَمِهِمَا من العَمَل،)
كنسجٍ وقِصَارةٍ وخِياطةٍ.
ويطالَبانِ بما يتقبّله أحدُهما، ويلزمهما عمله.
ولكلِّ طلبُ أجرةٍ.
وتلفُها بلا تفريطٍ بيد أحدهما مضمونة (1) عليهما.
[شركة المفاوضة]
(الخامس) من الأنواع الخمسة: شركة (المفاوضة، وهي أن يفوّض كل) من الشريكين
(إلى صاحبه شراءً وبيعاً في الذمّة، ومضاربةً، وتوكيلاً، ومسافرةً بالمال،
وارتهاناً،) وضمانَ ما يرى من الأعمال (2). وهي الجمعُ بين عنانٍ ووجوهٍ
وأبدانٍ ومضاربةٍ.
(ويصِح دفعُ دابّةٍ أو) دفعُ (عبدٍ) أو دفع آنيةٍ كقِرْبَةٍ وقِدْرٍ وآلةٍ
كمحراثٍ ونوْرَجٍ (3) ومُنْخُلٍ وغِربال (لمن يعمل به) أي بالمدفوعِ (بجزءٍ
من أجرته.) نقل أحمدُ بن سعيد عن أحمدَ فيمن دفع عبدَه إلى رجلٍ ليكتسب
عليه، ويكونُ له ثلث ذلك أو ربعُه، فجائز.
(ومثلُهُ) في الصحة (خياطةُ ثوبِ ونسجُ غزلٍ وحصادُ زرعٍ، ورضاعُ قِنٍّ)
مدةً معلومهُ، (واستيفاءُ مالٍ،) وبناءُ دارٍ، ونَجْرُ بابٍ، وطحْنُ قمحٍ
(بجزءٍ مشاع مِنْهُ). قال في المغني: وإن دفع ثوبه إلى خَياطٍ ليفعله
قمصاناً ليبيعَها، وله نصف ربحِها بحقّ عملِهِ، جاز. نص عليه. لكن لو دفع
إليه الثوبَ ونحوه بالثلثِ أو الربعِ، وجعلَ له مَعَ ذلكَ درهماً أو
__________
(1) عبارة شرح المنتهى "وتلفها بلا تفريط بيد أحدهما عليهما" وهو الصواب،
فليس ثمة ضمان.
(2) الضمان هنا بمعنى تقبّل العمل.
(3) النَّوْرَجُ آلة تستعمل في دِياسِ الحصيد، تجرّها الدواب، ثم يصفى
الحبّ بعد ذلك.
(1/419)
درهمينِ، لم يصحّ. وما روى الدارَقُطْنِيّ
عن النبي - صلى الله عليه وسلم -أنه "نَهى عن عسْبِ الفَحْلِ وعن قفيزِ
الطَّحَّانِ" (1) لا ينافي ذلك، لأنه إذا قدّر له قفيزاً لا يدري الباقي
بعد القفيز كم هو فتكون المنفعةُ مجهولةً.
(و) يصح (بيعُ) وإجارةُ (متاعٍ) وغزوٌ بدابةٍ مدةً (بجزءٍ) (2) معلوم (من
ربحِهِ) أي المتاع، وبجزءٍ من سهم الدابَّة.
(ويصح دفِع دابَّةٍ أو نَحْلٍ أو نحوهما) كعبدٍ وأَمَةٍ وطيرٍ (لمن يقومُ
بهما مدةً معلومةً) كسنةٍ ونحوها (بجزءٍ منهما) أي من عينهما كربعٍ وسدسٍ،
(والنَّماءُ) الحاصلُ منه (مِلْكٌ لهما) لأنه نَماءُ ملكهما، و (لا) يجوز
(إن كان بجزءٍ من النَّماءِ كالدّرّ والنَّسْلِ والصوف والعَسْل) والمِسْك
والزَّباد، لحصول نمائه بغير عملٍ منه، (وللعامل أجرهُ مثله) لأنه عمل
بعوضٍ لم يسلَّم له.
__________
(1) حديث "نهى عن عسب الفحل، وعن قفيز الطحّان" أخرج هذا الحديث بكامله
الدارقطني من حديث أبي سعيد، وأخرج أحمد والبخاري وأصحاب السنن أوله، من
حديث ابن عمر (الفتح الكبير).
(2) أي أن يكون الجزء المذكور أجرة القائم بالبيع والتأجير، لا ثمن العين
أو أجرتها.
(1/420)
باب المسَاقاة [وَالمزارعَة وَنحوهَما]
مفاعلة من "السقي"، لكونه كان أهمَّ أمرها بالحجاز.
(وهي دفع شجرٍ) مغروسٍ (لمن يقومُ بمصالحِهِ) أي الشجر من زِبَارٍ ورفاس
(1) وحَرْسٍ وتركيبٍ وغير ذلك (بجزءٍ من ثمره) النامي بعملِهِ المتكرِّرِ
كلَّ عامٍ، كالنخلِ واَلكَرْمِ والرمانِ والجَوْزِ والزيتونِ، فلا يصحّ على
القطن والمقَاثي (بشرط كون الشجرِ معلوماً) للمالِكِ والعامل برؤيةٍ أو
صفةٍ لا يُخْتَلَفُ معها، كالبيع، فلا تصحُّ على: أحد هذين الحائطين؛ (و)
بشرط (أن يكونَ له ثمرٌ يؤكل)، قال في الإِقناع: وقال الموفق: يصح على ما
لَهُ ورقٌ يُقْصَدُ، كتوتٍ، أوْ لَهُ زَهَرٌ يُقْصَدُ، كَوَرْدٍ ونحوه.
وعلى قياسه: شجرٌ له خَشَبٌ يُقْصَدُ، كحُورٍ وصَفْصَافٍ؛ انتهى.
ومقتضى ما في المتن أنها لا تتقيد بالنخل والكرم.
ومقتضاه أيضاً أنها لا تصحّ على ما لا ثَمَر له مأكول (2)
__________
(1) الزِّبار بكسر الزاي تخفيف شجر العنب من الأغصان الرديئة وبعض الجيدة،
بقطعها بمنجل ونحوه (شرح المنتهى) والرِّفَاسُ: رفع يد الدابة بربط رسغها
إلى كتفها أو ربط رجل البعير باركاً إلى وركيه. فيحتمل أن هذا نقل إلى
ترفيع أغصان الشجرة، أو أن في الكلمة تصحيفاً، وأنها "الرِّفاش" والرّفْش
هو اِلمعْزقة التي تعزق بها الأرض، أو تجرف بها الحبوب.
(2) كذا في الأصول. والأولى "مأكولاً" بالنّصب.
(1/421)
كالصفصاف والسرو (1)، ولو كان له زهرٌ
مقصود كالياسمينِ ونحوِهِ، وهو المذهب.
(وأن يُشترَط للعامل جزءٌ مشاعٌ معلومٌ من ثمره.) ويعتبر كون عاقِدَيْها
جائزي التصرّف.
والمناصبة والمغارسة: دفعُ الشجرِ بلا غرسٍ مع أرضِهِ لمن يغرِسُه ويعملُ
عليه حتى يثمرَ بجزءٍ مشاعٍ معلومٍ منه، أو من ثمره، أو منهما.
(والمزارعة: دفع الأرضِ والحبِّ لمن يزرعه ويقوم بمصالِحِه) أو مزروعٍ
ليعمل عليه، (بشرطِ كون البذرِ معلوماً جنسُه) كقمحٍ مثلاً (وقدرُه) أي
البذر، لأنها معاقَدَةٌ على عملٍ فلم تجز على غيرِ مقدَّرٍ كالإِجارةِ،
(ولو لم يؤكل) كَفُوَّةٍ (2) (وكونه) أي البذر (من ربّ الأرض، و) بشرط (أن
يُشْرَطَ للعاملِ جزءٌ مشاعٌ معلومٌ منه) أي مما يحصل من الغلة.
وإن تشارَطَا على أن يأخذَ رب الأرض مثلَ بذرِهِ مما يَخْرُج، ويقتسما
الباقي، لم يصح.
(ويصح كونُ الأرضِ والبذرِ والبقرِ من واحدٍ، والعملِ من آخرَ.)
ولا يصح كون بذرٍ من عاملٍ، أو منهما؛ ولا من أحدِهِما والأرض لهما.
وإن قال: اعملْ ولك الخمسان إن لزِمتْك خسارةٌ، وإلا فالربع، لم يصح.
(فإن فُقِدَ شرطٌ) من شروط المزارعة والمساقاة (فالمساقاةُ والمزارعةُ
فاسدةٌ).
__________
(1) في (ف): "الآس" بدل "السرو".
(2) الفُوَّة بالفاء نبات زراعي صبغي من الفصيلة الفوّيّة "لسان العرب
المحيط -معجم المصطلحات).
(1/422)
(والثمرةُ) فيما إذا فسدَتِ المساقاة،
(والزرعُ) فيما إذا فسدت المزارعة، (لِرَبِّهِ) أي لربّ البذرِ والشجرِ،
لأنّه عين ماله ينقَلِبُ من حالٍ إلى حالٍ، كالبيضَةِ إذا صارت فَرْخاً،
(وللعامل أجرة مِثْلِهِ) لأنه إنما بَذَلَ منافِعَه بعوضٍ، فلما لم
يُسَلَّمْ له رَجَعَ إلى بدله، وهو أجر المثل. هذا إن كان البذْرُ من رب
الأرض. وإن كان ربُّ البذر هو العاملَ فعليهِ أُجْرَةُ مثلِ الأرض، لأنّ
ربَّها إنما بَذَلَها بعوضٍ، فلمّا لم يسلَّمْ له رَجَعَ بعوَضِ منافعها
الفائتة بزرعها، وهو أجرة المثل.
تنبيه: يصح توقيت المساقاة.
(ولا شيء له) أي العامل (إن فَسَخَ أو هَرَبَ قبل ظهور الثمرة) لأنه رضي
بإسقاطِ حقِّهِ فصارَ كعاملِ المضاربةِ إذا فَسَخَ قبل ظهورِ الربحِ،
وعامِلِ الجُعَالَةِ إذا فَسَخ قبل تمامِ عمله.
وللعامل إن مات أو فَسَخَ ربُّ المساقاةِ قبل ظهورِ الثمرةِ وبعد الشُّروعِ
في العَمَلِ أجْرُ عمله.
وإن بانَ الشجر مستَحَقًا فله أجر مثله على الغاصب. (وإن فُسِخَ) عقدُ
المساقاة بفسخِ أحدهما أو غيرِ ذلك (بعد ظهورِها) أي الثمرةِ، في الشجر
المساقى عليه، (فالثمرةُ بينهما على ما شَرَطا. وعلى العاملِ تمامُ العملِ)
كما يلزم المضاربَ بيعُ العُروضِ إذا فُسِخَت المضاربة بعد ظهورِ الربح
(مما فيه نموٌّ) أي زيادةٌ (أو صلاحٌ لِلثمرةِ) من سقيٍ وإصلاحِ طريقٍ
وتشميسٍ وإصلاح محل ٍّوتلقيحٍ وقطعِ حشيشٍ يضرّ.
(والجذاذ) أي قطعُ الثمر من الشجر (عليهما) أي على ربِّ المال والعامِلِ
(بقدر حصَّتيهِما) نصًّا، ويصحّ شرطه على عاملٍ. (ويتبعان) أي يتبعُ كل
منهما (العُرْفَ في الكُلَفِ السلطانيّةِ) التي للسلطانِ عادةٌ بأخذها (ما
لم يكن شرطٌ فَيُتَّبَع) الشرطُ، فما عُرِفَ أَخْذُهُ من ربّ المالِ كان
(1/423)
عليه، وما عُرِفَ أخْذُه من العامِلِ كان
عليه. ذكَرَه الشيخ تقيّ الدين. قال: وما طُلِبَ من قريةٍ مِنْ وظائِفَ
سلطانيّةٍ ونحوِها فعلى قدر الأموال. وإن وُضِعَتْ على الزرْعِ فعلى ربِّه،
أو على العَقَارِ فعلى ربِّه، ما لم يشترطْهُ على مستأجِرٍ. وإن وُضِعَ
مطلقاً فالعادةُ. ذكره في الفروع.
(1/424)
باب الإجَارَة
مشتقة من الأجْرِ. وهو العِوَضُ. ومنه سمي الثَّوَابُ أجراً. وهي عقدٌ على
منفعةٍ مباحةٍ معلومةٍ مدةً معلومةً، من عينٍ معيَّنَةٍ أو موصوفةٍ في
الذّمةِ؛ أو عملٍ معلومٍ بعوضٍ معلومٍ، والانتفاع تابع.
وهي، والمساقاة، والمزارعة، والعرايا، والشفعة، والكتابة، والسَّلَمُ،
ونحوها، من الرُّخَص المستقرّ حكمها على خلاف القياس.
وأركانُها ثلاثة: العاقدان، والعوضان، والصيغة.
(وشروطها) أي شروط صحتها (ثلاثة):
الأول: (معرفة المنفعة) لأنها هي المعقودُ عليها. فاشتُرِطَ العلم بها،
كالبيع.
(و) الثاني: (معرفة الأجرة) لأنه عوضٌ في عقدِ معاوَضَةٍ، فوجَبَ أن يكون
معلوماً كالثمن.
(و) الثالث: (كون النفع مباحاً،) فلا تصحّ الإِجارةُ على الزّنا والزَّمْر
والغناء والنِّياحَةِ، (يُسْتَوفى دون الأجْزَاءِ) فلا تصحّ إجارةُ ما لا
ينتفَعُ بِهِ مع بقاءِ عينِهِ، كالمطعومِ والمشروبِ ونحوِهِ، (فتصحّ إجارة
كلِّ ما أمكن الانتفاعُ بهِ مع بقاءِ عينِه) كالدور والحوانيت (إذا قُدِّرت
منفعَتُهُ) أي المؤجَر (بالعملِ كركوبِ الدابَّةِ لمحلٍّ معيَّنٍ، أو
قُدِّرَتْ) المنفعة
(1/425)
(بالأمَدِ وإن طال) الأمد (حيث كان يغلِبُ
على الظنّ بقاءُ العين) إلى انقضاءِ مدة الإِجارة.
(فصل) [في أنواع الإِجارة]
(والإِجارة) حيث أطلقت (ضربان):
(الأول): أن تقع (على) منفعةِ (عينٍ،) ولها صورتان: إحداهما: أن تكونَ إلى
أمدٍ معلومٍ، والأخرى أن تكون لعملٍ معلوم. وستأتيان.
ثم العين تارةً تكون معينةً، كاستأجرت منكَ هذا العبد ليخدمني سنةً بكذا،
أو ليخيط لي هذا الثوبَ بكذا، وتارةً تكون موصوفةً في الذمّة، كاستأجرت
منكَ بعيراً صفته كذا وكذا، لأركبه سنةً بكذا وكذا، أو إلى بلدِ كذا بكذا.
ولكل من القسمين شروط.
وبدأ بالموصوفة فقال: (فإن كانت موصوفةً) أي غير مُشَخَّصَةٍ (اشتُرِط)
فيها (استقصاء صفات السَّلَمِ) لأن الأغراض تختلف باختلاف الصِّفاتِ، فلو
لم توصفْ بصفاتِ السلَم أدى ذلك إلى التنازع، فإذا استُقْصِيَتْ صفات
السلَم كان ذلك أَقْطَعَ للنزاعِ، وأَبْعَدَ من الغَرَرِ (وكيفية السير من
هْمِلاجٍ) بكسر الهاء. والَهمْلَجَة مِشْيَةٌ معروفة، (وغيرِهِ) أي وغيرِ
هملاجٍ و (لا) يشترط ذكر (الذكورة والأنوثة والنوع) فلا يشترط إن كانَ
فرساً أن يقول: عربياً أو بِرْذَوْناً، ولا أن يقول حِجْراً أو حصاناً. وإن
كان جَمَلاً لم يُشترَطْ أن يقول: بُخْتِياً أو من العِرَاب، لأن التفاوتَ
بين ذلك يسير.
ويشترط مع ذلك ذِكْرُ توابع الراكِبِ العرفية، كزادٍ وأثاثٍ ونحوه.
(1/426)
وإن اكتراها كل يومٍ أو شهرٍ بدرهمٍ صح.
(وإن كانت) العينُ المؤجرة (معيَّنةً اشتُرِطَ) لصحة إجارتها (معرفتُها
والقدرةُ على تسليمِها) فلا يصحُّ استئجارُ ديكٍ ليوقظه.
(و) شُرِطَ (كون المؤجِرِ يملك نَفْعَها) بأن كانت المنفعةُ في تصرّفه؛
(وصحةُ بيعِها) فالكُوْبَةُ (1) لا يصحُّ بيعُها فلا تصح إجارتها (سوى
حُرٍّ، ووقْفٍ، وأُمِّ وَلَدٍ) فإنه لا يصحُّ أن يُبَاعُوا، ويصحّ أن
يُؤْجَرُوْا؛ (واشتمالُها) أي العين المؤجرةِ (على النفعِ المقصودِ منها،
فلا تصحُّ في) دابَّةٍ (زَمِنَةٍ لحملٍ، و) لا أرضٍ (سَبِخَةٍ لزَرْعٍ.)
الضرب (الثاني): من صنفي الإِجارة: أن يَقَعَ العَقْدُ (على منفعةٍ في
الذمّةِ، فيشترَطُ ضبطُها) أي المنفعة (بما) أي بوصفٍ (لا يختلِف) بهِ
العملُ (كخياطةِ ثوبِ بصفةِ كذا) يَذْكُر جِنْسَهُ وقدْرَه وصفةَ الخياطة،
(وبناء حائط يذكُرُ طوَلَه وعرضَه وسَمْكَهُ) بفتح السين وبسكون الميم، أي
ثخانَتَهُ، وهو في الحائِطِ بمنزلة العُمْقِ في غير المنتصب، قاله في
الحاشية. (و) يذْكر (آلَتُهُ) فيقول: من حجارةٍ أو آجرَ أو لَبِنٍ،
وبالطينِ أو الجِصِّ ونحوِهِ مما يختلف به الغَرَض.
فلو عمله ثم سقط فله الأُجْرَةُ، لأنه وفي بالعمل، إلا إن كانَ سقوطُه
بتفريطِهِ بأنْ بناهُ محلولاً أو نحوَه فعليه إعادتُهُ وغُرْمُ ما تَلِفَ.
فائدة: يصح الاستئجار لتطْيِينِ الأرض والسطحِ والحيطانِ وتجصيصِها. ولا
يصحُّ على عملٍ معيَّنٍ، لأن الطينَ يختلفُ في الرّقّةِ والغِلَظِ، والأرض
تختلف، منها العالي والنازل. وكذلك الحيطان والأسطحة. فلذلك لم تصح إلا على
مدّة.
وإن استأجره لضربِ لَبِنٍ احتاجَ إلى تعيين عددٍ، وذكرِ القالَب،
__________
(1) الكوبة بالضم النرد أو الشَّطرَنْجُ، والطَّبْلُ الصغير المخَصّر،
والفِهْر، والبَرْبَط (قاموس).
(1/427)
وموضِعِ الضرب، لأنه يختلف باعتبار الماء
والتراب.
فإن كان هناك قالبٌ معروف لا يختلف جاز. وإن قدَّره بالطولِ والعَرْضِ
والسَّمكِ جاز. ولا يكتفى بمشاهدة قالبِ الضرب إذا لم يكن معروفاً، لأنه قد
يتلف.
(و) يشترط أيضاً (أن لا يُجْمَعَ بين تقديرِ المدةِ والعمل كـ) قوله عن
ثوب: استأجرتُك (لتخيطه في يوم) لأنه قد يفرغ من العمل قبل انقضاءِ اليومِ،
فإن استُعمِل في بقيتِهِ فقد زاد على ما وقع عليه العقد، وإن لم يعمل كان
تاركاً للعمل في بعض زمنه، فيكون ذلك غَرَراً يمكن التحرّز منه، فلم يصحّ
العقد معه.
[الإِجارة على الطاعات]
(و) يشترط أيضاً (كون العمل) المعقود عليه (لا يُشترطُ أن يكون فاعِلُهُ
مسلماً، فلا تصح) الإِجارة (لأذانٍ وإقامةٍ وإمامةٍ وتعليمِ قرآنٍ وفقهٍ
وحديثٍ ونيابةٍ في حجٍّ وقضاءٍ. ولا يقع إلاَّ قربةً لفاعِلِهِ. ويحرُمُ
أخذ الأجرة عليه) لأنّ من شرط هذه الأفعالِ كونُها قربةً إلى الله تباركَ
وتعالى، فلم يَجُزْ أخذُ الأجرةِ عليها، كما لو استأجَر إنساناً يصلي
خلفَهُ الجمعةَ أو التراويح.
(وتجوز الجعالة) على ذلك، كأخذِهِ عليه بلا شرطٍ.
وكذا حكمُ رقيةٍ.
وتصح الإِجارة على تعليمِ الخطِّ والحسابِ والشّعرِ المباحِ، فإن نسيه في
المجلِسِ أعاد تعليمَهُ، وإلاَّ فَلَا.
(1/428)
فصل
(وللمستأجر) عيناً (استيفاء النفع) الذي وقع عليه عقد الإِجارة (بنفسِهِ،
وبمن يقوم مقامه) في الاستيفاء، ولو شَرَطَ المُتَواجِران أنّ المستأجِر
يستوفي المنفعة بنفسِهِ، لبطلان الشرط، (لكنْ بشرطِ كونه) أي القائم مقامِ
المستأجر (مثلَهُ) أي مثل المستأجِرِ (في الضَّرَرِ أو دونَهُ) فيه، فتعتبر
مماثلةُ راكب في طولٍ وقِصرٍ وغيرِه، لا في معرفة ركوبٍ.
فائدة: قال في الطُّرُقِ الحُكْميّة: وله ضَرْبُها إذا حَرَنَتْ في السير،
بغير إذنٍ. وله إيداعها في الخان إذا قَدِمَ بَلداً وأراد المضيّ في حاجةٍ،
بلا إذنٍ، وغَسْلُ الثوبِ المستأجر مدة معينة إذا اتَّسخ، بلا إذن. وله
هدْمُ الحائِطِ ليخرج السيلُ إذا خاف هَدْمَ الدارِ. وكذلك لو وقع الحريقُ
في الدارِ فبادرَ وهدَمَها على النارِ لئلا تسري، ولا يضمن. انتهى
ملخَّصاً.
[التزامات المؤجر]
(وعلى المُؤْجِرِ كلُّ ما جرتْ به العادة) والعُرْف أنه عليه (من آلةِ
المركوبِ) كزِمامِه ورَحْلِهِ وحِزَامِهِ، ليتمكن من التصرّف فيه به. قال
في المغني: والبُرَةِ التي في أنف البعيرِ إن كانت العادة جاريةً بينهم
بها، (و) على المؤْجِرِ (القَوْدُ) للمركوبِ (والسَّوْقُ والشَّيْلُ
والحطّ) ولزومُ الدابّة لنزولٍ للحاجَةٍ وواجبٍ كصلاةٍ مفروضةٍ، (وترميمُ
الدَّارِ) المؤْجَرَةِ (بإصلاح المنكسرْ وإقامة المائِلِ) من سقفٍ وبناءِ
حائطٍ وبلاطٍ وعملِ بابٍ (وتطيينِ السَّطح، وتنظيفِهِ من الثلج ونحوِهِ)
كإصلاح بِرْكَةٍ في الدار، أو أحواضٍ بالحمّام، وإصلاح مجاري المياه،
وسلاليم للأسطحة.
[التزامات المستأجر]
(وعلى المستأجِرِ المَحْمِلُ) قال في القاموس: والمَحْمِلُ كمَجْلِسٍ
(1/429)
شُقَّتَانِ على البعير يُحمَل فيهما
العَدِيلانِ، (والمِظَلَّةُ) قال في القاموسِ: والمظلة، بالكسر والفتح،
الكبير من الأخبية (1)، والوطاء فوق الرَّحْلِ، وحَبْلُ القِرَانِ بين
المحِمْلَيْنِ، والدَّليل (2).
(و) على مكترٍ حماماً أو داراً (تفريغُ البالوعةِ والكنيفِ، وكنْسُ
الدَّارِ من) القُمَامَةِ و (الزِّبْلِ ونحوِهِ) كالرمادِ (إن حصل
بفعْلِهِ) أي بفعل المكتري، كما لو طَرَحَ فيها جيفاً أو تراباً أو غيرهما.
فصل [فيما تنفسخ به الإِجارة]
(والإِجارة عقدٌ لازم) من الطرفين، ليس لواحدٍ منهما فسخُها بلا موجِبٍ،
لأنها عقد معاوضةٍ فكان لازماً، كالبيع. (لا تنفسخُ بموتِ المتعَاقدين،) أو
أحدِهِمَا، لأنها عقدٌ لازم. (ولا) تنفسخ الإِجارة (بتلفِ المحمولِ) أي
الراكب. قال الزركشيّ: هذا هو المنصوص. وعليه الأصحاب، إلاَّ أبا محمد،
يعني الموفّق. قال في الإِنصاف: والصحيحُ من المذهب أن الإِجارة لا تنفسخُ
بموتِ الراكبِ مطلقاً. قدّمه في الفروع. ومعنى قوله مطلقاً أي سواءٌ كان له
مَنْ يقوم مقامه في استيفاءِ المنفعةِ، أوْ لا، وسواء كان هو المكتري، كما
لو أكترى دابةً لركوب نفسه، فمات، أو غيرِهِ، كمن اكترى دابَّةً لركوبِ
عبدِهِ فماتْ العبْد، قال في الإِقناع وشرحه: ولا ينفسخ بموتِ راكبٍ ولو لم
يكنْ له من يقومُ
__________
(1) واضح أنه ليس المراد الخباء، بل هي شيء يتقي به الراكب أشعة الشمس. قال
في اللسان: المظلة البرْطُلَّة. قلت: والمظلة معروفة الآن وقد تسمى
الشمسيّة.
(2) أي لا يلزم ذلك المؤجر، بل إن أراده المستأجر فمن ماله، لأن ذلك من
مصلحته أشبه الزادَ وبُسُطَ الدار (منار السبيل).
(1/430)
مقامَهُ في استيفاءِ المنفعةِ، بأن لم يكن
له وارثٌ، أو كان غائباً كمن يموت بطريقِ مكَّة، لأن المعقودَ عليهِ إنما
هو منفعةُ الدابةِ دونَ الراكبِ، انتهى.
(ولا) تنفسخ الإِجارة (بوقْفِ العين المؤجرة، ولا بانتقال المِلْكِ فيها
بنحو هبةٍ وبيعٍ) وإرثٍ ووصيةٍ ونكاحٍ وخُلْعٍ وطلاقٍ وصُلحٍ.
(ولمشترٍ لم يعلم) أن المبيعَ مُؤْجَرٌ (الفسخ أو الإِمضاءً) أي الخيارُ
بين أن يفسخَ البَيْعَ أو يُمْضِيَهُ مجاناً.
(والأجرة) عن المدة التي المشتري مالك لها فيها (له) أي للمشتري.
(وتنفسخ) الإِجارة (بتلفِ كلِّ العين المؤجرةِ المعينةِ) كما لو استأجَر
عبداً فمات، أو داراً فانهدمت قبل مضيِّ شيء من المدّة، سواءٌ قبضها
المستأجر أم لا، لأن المنفعة زالتْ بتلفِ المعقودِ عليه، وقبضُها إنما يكون
باستيفائِها، أو التمكُّن منه، ولم يحصل من ذلك شيء، فانفسخ العقد.
(و) تنفسخ (بموت المرتِضعِ) المكترى لرضاعِهِ، وفيه التفصيل الجاري في
إجارةِ العينِ المعيّنة فيما إذا ماتَ قبلَ المدّة، وبعدَ مضيِّ زمنٍ منها
له أجرة.
(و) تنفسخ الإِجارة (بِهْدمِ الدارِ) المؤجّرة.
[الحكم عند تعذر استيفاء المنافع]
(ومتى تعذّر استيفاءُ النفعِ) من العين المؤْجَرَةِ (ولو) كان المتعذّر
(بعضَهُ) أي النفع (من جِهَةِ المؤجر) كما لو حَوّل مالكُ العين المستأجرة
مستأجِرَها منها قبل انقضاءِ مدة الإِجارة، من غير اختيارِ المستأجر، أو
امتنعَ من تسليمِ الدابة في أثناء المدّة، أو في أثناء المسافة، أو الأجيرُ
(1/431)
من تكميل العمل (فلا شيء له) على المستأجر،
حتى مما سَكَنَ قبل أن يحوّله المؤجر.
(و) إن كان تعذُّر النفعِ بالعينِ (من جهة المستأجِرِ فعليه جميع
الأجْرَةِ،) فإن لم يسْكُن مستأجرٌ، لعذرٍ أوْ لا، أو تحوّل في أثناءِ
المدّة، فعليه الأجرة.
(وإن تعذَّر) استيفاءُ النفعِ من العينِ المؤْجَرَةِ (بغير فعل أحدهما) أي
المؤجرِ والمستأجرِ، (كشرودِ) الدابة (المؤجَرَةِ، وهدْمِ الدارِ، وجب من
الأجرة بقدْرِ ما استوفى) من النفع قبل حصول ما ذكر.
(وإن هرَب المُؤْجِرُ وترك بهائمَهُ) التي أكراها، وله مالٌ، أَنفَقَ عليها
منه حاكمٌ.
وإن لم يكن له مال (وأنفَقَ عليها المستأجرُ بنيَةِ الرجوعِ رَجَعَ) على
مالِكِها، ولو لم يستأذِنْ حاكماً. قال في الإِقناع: ولا يُعتبر الإِشهاد
على نية الرجوع. صحّحه في القواعد.
وإذا رَجَع واختلفا فيما أنفق، وكان الحاكِمُ قَدَّر النفقة بالمعروف (1)
قُبِل قولُ المكتري في ذلك دون ما زاد، وإن لم يقدِّر له قُبِل قوله في قدر
النفقة بالمعروفِ. انتهى، (لأن النفقة على المؤْجِرِ، كالمُعِير) فإذا
انقضت الإِجارة باعَ البهائمَ حاكمٌ ووفَى المكتري ما أنفقَهُ عليها، لأن
في ذلك تخليصاً لذمة الغائبِ، وإيفاء لصاحبِ النفقة.
__________
(1) كلمة "بالمعروف" ساقطة من (ف) ولعل إسقاطها أولى، لأن تقدير الحاكم
مفترض فيه أن يكون بالمعروف، ولا يسأل عن ذلك. بخلاف ما في السطر التالي:
إثباتها أولى.
(1/432)
فصل [في الأجير
الخاص والأجير المشترك]
(والأجيرُ قسمان):
(خاصٌّ: وهو من قُدِّر نفعُه بالزمن) بأن استؤجر لخدمةٍ أو عملٍ في بناءٍ
أو خياطةٍ، يوماً، أو أسبوعاً، ونحوه.
(ومشتركٌ: وهو من قُدِّر نفعُه بالعمل) كخياطةِ ثوبِ، وبناءِ حائطٍ، وحمْلِ
شيءٍ إلى مكانٍ معينٍ، ويتقبَّلُ الأعمالَ للجماعة في وقتٍ واحدٍ.
(فالخاصّ لا يضمنُ ما تلفَ بيدهِ إلاَّ إن فرط) بأن يقصر في حفظِهِ،
فيضمنُه كغيرِ الأجير، أو يتعمد الإِتلافِ.
(و) الأجير (المشتَرَكُ يضمنُ ما تَلِفَ بفعلِهِ) أي بجنايةِ يدِه.
فالحائِك إذا أفسَدَ حِيَاكَتَهُ ضامِنٌ لما أفسد نَصَّ على هذه المسألة
(من تخريقٍ، و) كذا الخياطُ ضامِن لما أفسد في الثوبِ من (غلطٍ في تفصيلٍ)
ونحوِه، والطبّاخُ يضمنُ ما أتلفه أو أفسده من طبيخِهِ، والخبّاز لما أتلفه
أو أفسده من خُبْزِهِ، والملاَّحُ يضمن ما تلف من يده أو حَذْفِهِ أو ما
يعالج به السفينة، والجمال ضامِنٌ لما تلف بِقَوْده وَسَوْقِهِ،
(وبزَلَقِهِ) أو عثرته، (وبسقوطِه عن دابتِهِ،) ويضمن أيضاً ما حصَلَ من
نقصٍ بخطئه في فعلِهِ، كما لو أمره أن يصبغ ثوبه أحمرَ فصَبَغه أسود، وكما
لو أمَرَ الخيّاط بتفصيلِهِ قميصَ رجلٍ ففصّله قميصَ امرأةٍ. (و) يضمن
أيضاً ما تلف (بانقطاعِ حبلِهِ) الذي يشدّ به حِمْلَهُ.
و (لا) ضمان عليه في (ما تلف بِحرْزِه) أي منه، بنحو سَرِقَةٍ، (أو) تلف
بغير فعله إن لم يفرّط).
ولا أجرة له فيما عمله وتلف قبل تسليمه لربِّه، سواءٌ عمله في بيت المستأجر
أو في بيتِهِ.
(1/433)
فائدة: إذا استأجَرَ إنسانٌ قصّاباً
ليذبَحَ له شاةٍ مثلاً، فَذَبَحها ولم يسمِّ عمداً ضمنها، فإن تَرَكَهَا
سهواً حلَّتْ، ولا ضمان.
[ضمان الطبيب ونحوه]
(ولا يضمنُ حجامٌ وختانٌ وبَيْطَارٌ) وطبيبٌ ونحوهم (خاصًّا كان أو
مشْتَرَكاً.) ذكر في المتن لعدم الضمان شرطين: أشار للأول بقوله: (إن كان
حاذقاً) في الصنعة، (ولم تَجْنِ يَدُهُ) فإذا جَنَتْ يده ولو خطأً، مثل أن
يجاوز قطع الخِتَانِ إلى الحَشَفَةِ أو إلى بعضِها، أو قطع في غيرِ محلِّ
القطع، وأشباهِ ذلك، ضَمِنَ.
وأشار للشرط الثاني بقوله: (وَأَذِنَ فيه مكلّفٌ أو وليّه) أي وليّ غيرِ
المكلّف (1) فإن خَتَنَ صغيراً بغير إذن وليِّه ضَمِن سرايته، أو قَطَعَ
سِلْعَةً (2) من مكلف بغير إذنه ضمن السراية.
ولا ضمانَ على راعٍ فيما تلف من الماشية إذا (لم يتعدّ أو يفرِّط) في
حفظِها، فإنْ فرّط (بنومِ، أو غيبتها عنه) أو أسْرَفَ في ضربها، أو ضَرَبها
في غيرِ موضِعِ الضربِ، أو من غيرِ حاجةٍ إليه، أو سلَكَ بها موضعاً تتعرض
فيه للتلف، وما أشبه ذلك، ضَمِنَ الراعي التالفَ. قال في المبدع: بغير
خلافٍ.
وإذا اختلفا في التعدِّي وعدمِه فقولُ الراعي بيمينه.
وإذا اختلفا في كونِهِ تعدّياً رُجِعَ إلى أهلِ الخِبْرةِ.
(ولا يصحّ أن يرعاها بجزءٍ من نمائِها) بل بجزءٍ منها مدّةً معلومة.
__________
(1) ففي عبارة المتن نظر، ولو قال "أو وليٌّ" لكان أحسن.
(2) السلعة زيادة في البدن كالغدة تتحرك إذا حُرِّكت (قاموس).
(1/434)
فصل
تجب أجرةٌ في إجارةِ عينٍ ولو مدّةً لا تلي العقدَ، أو إجارة ذمّةٍ، بعقدٍ،
سواء أشتَرَطَ فيه الحلول، أو أَطْلَقَ العقدَ، كما يجب للبائِع الثمنُ
بعقدِ البيعِ.
(وتستقرّ الأجرة) كاملةً (بفراغِ العَمَلِ) إن كانت العينُ بيد مستأجرٍ،
كطبّاخٍ استُؤْجِرَ لطبخِ شيءٍ في بيت المستأجِرِ فطبَخَهُ وفرغَ منه، وإلا
فَبِدَفْعِ غيرِ ما بيدِ مستأجرٍ معمولاً، كما لو اتفقا على أن الطَّبَّاخَ
يطبخ ما استُؤْجِر على طبخِهِ في دارِهِ فيستحقّ الأجرة عند دفعه إلى
المستأجر.
(و) تستقرُّ الأجرة كاملةً في ذمة المستأجرِ أيضاً فيما إذا كانت الإِجارة
على مدّةٍ (بانتهاءِ المدة) حيثُ سلِّمَتْ إليه العينُ التي وقعت الإِجارة
عليها، ولا حاجِزَ له عن الانتفاع، ولو لم ينتفع.
(وكذا) تستقرّ الأجرة أيضاً (ببذلِ تسليمِ العينِ) المعيّنة لعملٍ في
الذمّة، (إذا مضتْ مدّةٌ يمكنُ استيفاءُ المنفعةِ فيها، ولم تُسْتَوْفَ)
كما لو قال: اكتريتُ منكَ هذه الدابَّةَ لأركبها إلى بلدِ كذا، ذهابا
ًوإياباً، بكذا، وسلمها إليه المؤجر، ومضتْ مدَّةٌ يمكنُ فيها ذهابُه إلى
ذلك البلد ورجوعه على العادة، ولم يفعلْ. نَقَلَ ذلكَ في المغني عن
الأصحاب.
(ويصحّ شرطُ تعجيلِ الأُجرة) على محلّ استحقاقِها، كما لو أَجَرهُ دارَهْ
سنة خمسٍ في سنة ثلاثٍ، وشرَطَ عليه تعجيلَ الأجرة في يومِ العقدِ؛
(وتأخيرِها) كما لو شرط المستأجرْ على المؤجِرِ أن لا تحلّ عليه الأجرةُ
إلا عند ابتداءِ سنة سبعٍ.
(وإن اختلافا) أي المؤجِرُ والمستأجِرُ (في قدْرِها) أي الأُجرة، ولا
بيّنةَ لأحدهما، أو لهما بينة، (تحالفا) فيحلف المؤجِرُ: ما آجرتك بكذا،
(1/435)
وإنما آجرتك بكذا، ثم المستأجرُ: ما
استأجرتُ بكذا، وإنما استأجرتُ بكذا. فإن نَكَلَ أحدُهما لزمه ما قال صاحبه
بيمينه.
(و) إن لم يرض أحدهما بقول صاحبه (تفاسَخَا) بلا حكمِ حاكمٍ.
(فإن كان قد استوفى) المستأجرُ (ما لَهُ أجرةٌ فأجرةُ المثل) أي مثلِ تلك
العينِ في مدة الاستيفاءِ.
(والمستأجرُ أمينٌ لا يضمن) ما تلف (ولو شرَطَ على نفسِهِ الضمانَ، إلا)
بالتعدي أو (بالتفريط).
(وُيقْبَل قوله) بيمينه (في أنه لم يفرّط، أو) ادّعى المستأجر (أن ما
استأجَرَهُ) من دابّةٍ أو رقيقٍ (أبَقَ أو شَرَدَ، أو مرِض أو مات) وكانت
دعواه في المدة أو بعدَها، قُبِل قوله بيمينه، لأنه مؤتمن، والأصل عدم
الانتفاع.
(وإن شرط) مؤجر الدابّة (عليه) أي على مستأجِرِها (أن لا يسيرَ بها في
الليل، أو) شرط عليه أن لا يسير بها (وقت القائلة، أو) شرط عليه أن (لا
يتأخّر بها عن القافلة، ونحوَ ذلك مما فيه غرضٌ صحيح) للمؤجر، (فخالف) أي
خالف المستأجرُ ما شُرطَ عليه (ضمن) لمخالفته الشرط.
(ومتى انقضت مدَّةُ الإِجارة) الصحيحة (رَفَعَ المستأجِرُ يده) عن العين
المستأجَرَةِ، (ولم يلزمْهُ الردُّ، ولا مؤنته، كالمودَع) بخلاف العارِية.
وتكون بعد انقضاء مدة الإِجارة في يده أمانةً، وإن تلفت من غير تفريط فلا
ضمان عليه.
(1/436)
باب المُسَابقَة
وهي المجاراة بين الحيوان ونحوه، (وهي جائزة في السُّفُن والمزاريق والطيور
وغيرها) كالرماح والأحجار (وعلى الأقدامِ وبكلِّ الحيواناتِ) كالخيلِ
والإِبلِ والبغالِ والحميرِ والبقرِ والفِيَلة.
أما جواز المسابَقَةِ فقد أجمع عليه المسلمون في الجملة.
(لكن لا يجوزُ أخْذُ العِوَضِ إلا في مسابقة الخيلِ، والإِبل، والسِّهام)
أي النُّشّاب والنَّبْل.
إذا تقرّر هذا فإنما تصح المسابقة إذا كان فيها جُعْلٌ (بشروط خمسة):
(أحدها: تعيين المركوبَيْنِ) في المسابقة، (أو الرامِيَيْنِ) في المناضلة،
(بالرؤية) فيهما، سواءٌ كانا اثنين، أو جماعتين، لا الراكبين ولا القوسينِ.
الشرط (الثاني: اتحاد المركوبين) في المسابقة، (أو القوسَينِ) في المناضَلة
(بالنوع،) فلا يصح بين عربيٍّ وهجينٍ، ولا قوسٍ عربيٍّ وفارسيّ. والعربيّ
قوسُ النُّبْلِ، والفارسيّ قوس النشاب. قاله الأزهري. الشرط (الثالث: تحديد
المسافة) والغايةِ (بما جَرَتْ به العادة،) وذلك إمَّا بالمشاهدة، أو
بالذَّرْعِ، لأن الإصابة تختلف بالقرب والبعد.
(1/437)
وإما تقييدُ ذلك بما جَرَتْ به عادة
الرُّمَاةِ فلانّ المدى الذي تتعذر الإِصابة فيه غالباً، وهو ما زاد على
ثلثمائة ذراع، يفوتُ به الغرض المقصود بالرمي. وقد قيل: إنه ما رمى في
أربعمائة ذراعٍ إلا عُقْبَةُ بن عامرٍ الجُهَنِيُّ
الشرط (الرابع: علم العِوَضِ) لأنه مالٌ في عقدٍ، فوجب العلم به، كسائِرِ
العقود.
ويحصل علمه بالمشاهدة أو بالوصف المميِّز له. ويجوز أن يكون حالاًّ
ومؤجَّلاً، كالثمن في البيع؛ (وإباحتهُ) أي العوض، لأنه عوضٌ في عقدٍ،
فاشتُرِطت إباحته، كبقية العقود.
الشرط (الخامس: الخروج عن شَبَهِ القِمارِ) بكسر القاف (بأن يكون العِوَضُ
من واحدٍ، فإن أخرجَا معاً) بأن أخرج كل من المتسابقين شيئاً (لم يجزْ إلا
بِمُحَلِّلٍ لا يُخْرِجُ شيئاً (1) ولا يجوز) كون المحلِّل (أكثرَ من واحدٍ
يكافئُ مركوبُه مركوبيهما) في المسابقة، (أو رميُه رمْيَيْهِما) في
المناضلة.
(فإن سبقَا معاً) أي سبق المخرجانِ المحلِّل ولم يسبق أحدُهما الآخرَ
(أَحْرَزَا سَبَقَيْهِمَا) أي أحرزَ كلُّ واحد منهما ما أخرجَه، لأنه لا
سابقَ فيهما، ولا شيءَ للمحلِّل لأنه لم يسبق واحداً منهما، (ولم يأخذا
__________
(1) حقق ابن القيّم رحمه الله في كتابه المطبوع "الفروسية" أن هذا الشرط
ليس بصحيح شرعاً. وكلامه حق، لأن الحديث الذي احتُجَّ به لهذا الاشتراط
غيرِ صحيح، ولأن إخراج كل من المتسابقين جُعْلاً مساوياً لجُعْلِ صاحبه
أولى بالعدل. ولأنَّ السَّبَق لو كان مجرّد جُعْلِ لجاز في غير الثلاثة وهي
الخيل والإبل والسهام كما جاز فيها. والحديث المشار إليه هو ما أخرجه أبو
داود من حديث أبي هريرة ولفظه "من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يأمن يسبق
فليس قماراً. ومن أدخل فرساً بين فرسين وقد أمن أن يسبق فهو قمار" قال في
(الإِرواء: ح 1509): ضعيف. ورواه أيضاً ابن ماجه والدارقطني والحاكم. وانظر
كتاب الفروسية ص 34 - 60
(1/438)
من المحلِّل شيئاً) لأنه لم يشترط عليه لمن
سبقه شيئاً.
(وإن سبَق أحدُهما) أي أحدُ المخرِجَيْنِ صاحبَه، (أو سَبَقَ المحلّلُ أحرز
السَّبَقَيْنِ،) لأنهما قد جعلاه لمن سبق.
(والمسابقة جُعَالة لا يؤخذ بِعِوَضِها رَهْنٌ ولا كفيل) لأنه جُعْلٌ على
ما لا يتحقق القُدْرَةُ على تسليمِهِ، وهو السَّبْقُ والإِصابة، فلا يجوز
أخذ الرهن أو الكفيلِ به، كالجعل على ردّ الآبق (1).
(ولكلٍّ) من المتعاقدين (فسخُها ما لم يَظْهَرِ الفضلُ لصاحبه) فيُمتنع
عليه.
وتبطل بموت أحدِهما، أو أحدِ المركوبين.
ويحصل سَبْقٌ في خيلٍ متماثلتي العنقِ برأسٍ، وفي مختلفتيهما وإبلٍ بكَتِف.
__________
(1) هذا القول بعدم جواز أخذ الكفيل بالسبق فيه نظر، كيف وقد احتجوا على
صحة الجعالة والكفالة بما حكاه الله تعالى، من قول يوسف عليه السلام
{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} فهي كفالة في
جعالة. وفي شرح المنتهى مثل ما في كلام الشارح أعلاه. لكن في المغني 4/ 312
"كل ما جاز أخذ الرهن به جاز أخذ الضمين به إلا ثلاثة أشياء -ثم ذكر منها-:
ما لم يجب" وكان قد قال قبل (4/ 310) "ولا يجوز أخذ الرهن بالجعل في
الجعالة قبل العمل لأنه لم يجب" فأفاد جواز أخذ الكفيل بالسَّبَق دون أخذ
الرهن به. والله أعلم.
(1/439)
|