نَيْلُ المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب

كتَاب العَاريَة
بتخفيفِ الياء وتشديدِها: العَيْنُ المأخوذةُ للانتفاعِ بها بلا عِوَض.
(وهي مستحبّة) لكونها من البرّ والمعروف، (منعقدةٌ بكل قولٍ أو فعلٍ يدل عليها) كأعرتُك هذه الدابَّة لتركبها إلى كذا، أو خُذْها تحتك، أو استرحْ عليها، ونحو ذلك، وبدفعه دابتَه لرفيقِهِ عند تعبِهِ، وتغطيتِهِ بكسائه إذا بَرَد، ونحو ذلك.
وإنما تصحّ (بشروطٍ ثلاثةٍ):
الأول: (كونُ العينِ منتفعاً بها مع بقائِها) كالدورِ والرقيقِ والدوابّ واللباس والأواني، بخلافِ ما لا يُنْتَفَع بها إلا مع تَلَفِ عينها، كالأطعمةِ والأشربةِ ونحوِها. لكن إن أعطاها بلفظِ الإِعارةِ، فقال ابن عقيل: احتملَ أن يكون إباحةَ الانتفاعِ بها على وجهِ الإتلاف. ذكره عنه المَجْدُ في "شرح الهداية" واقتصر عليه.
(و) الشرط الثاني: (كون النفع) في العين المعارة الذي أباحه له المعير (مباحاً) شرعاً للمستعير، لأن الإِعارة إنما تبيح له ما أباحَهُ الشارع، فلا يصحّ أن يستعير إناءً من أحدِ النَّقْدَين ليشرب فيه ولا حُلِيًّا محرماً على رجلٍ ليلبسه.
(و) الشرط الثالث: (كون المعير أهلاً للتبرّع) شرعاً لأن الإِعارة

(1/440)


نوعٌ من التبرّع، لكونهِ منه ما هو إباحةَ عينٍ، كالإِذنِ في أكلِ طعامٍ، والإِعارةُ إباحةُ منفعةٍ.
والشرط الرابع: كون المستعيرِ أهلاً للتبرُّع له بتلك العينِ المعارة، بأن يكونَ يصحُّ منه قبولُ هبة تلك العين المعارة. زاد هذا الشرطَ في المنتهى.
(وللمعيرِ الرجوعُ في عاريتِه أيَّ وقت شاءَ)، ولو قَبْلَ أَمدٍ عَيَّنَهُ (ما لم يضرَّ بالمستعيرِ، فمن أعارَ سفينةً لحملٍ، أو أرضاً لدفن) ميتٍ (أو زَرْعٍ، لم يرجع حتى تُرسِيَ السفينة،) وله الرجوع قبل دخولها البحر (ويبلى الميتُ) ويصير رميماً. قاله ابن البنّاء. لما فيهِ من هَتْكِ حرمته. وقال المَجْدُ في شرحه: بأن يصير رميماً ولم يبقَ شيء من العظام في الموضع المستعار، وعبارةُ المقنع وتبعها في المنتهى وغيره: حتى يبلى. قال في المبدع: وقال ابن البنّاء: لا يرجعُ حتى يصيرَ رميماً. ومقتضاه أنهما قولان. ولعل الخلاف لفظيٌّ كما يعلم من كتب اللغة. قال في الصَّحاح: والرميم البالي. وقال ابن الجوزي: يُخْرِج عظامَه، ويأخُذُ أرْضَهُ، ولا أجرة له. (ويُحْصَدَ الزرع) عند أوانِهِ. فإن بَذَلَ له المعيرُ قيمةَ الزرع ليملكَه لم يكنْ له ذلك، نصًّا، لأن له وقتاً ينتهي إليه، إلا أن يُحْصَدَ قَصِيلاً، فإن على المستعيرِ قَطْعَهُ في وقتٍ جرت العادةُ بقطعِهِ فيه، لعدم الضَّرَرِ إذَنْ.
(ولا أجرةَ له منذُ رَجَعَ إلاَّ في الزرع) فإن له أجرةَ مثلِ الأرض المعُارَةَ من حينِ رَجَعَ إلى حين الحصاد، لوجوب تَبْقِيَتهِ في أرض المعير إلى أوانِ حَصَادهِ قهراً عليه.

(1/441)


فصل
(والمستعير في) حكم (استيفاءِ النَّفْعِ) من العين المعارَةِ، بنفسِهِ وبمن يقوم مقامه، فإذا استعارَ أرضاً للزرعِ فله أن يباشِرَ زرعها بنفسِهِ، أو بمن يقومُ مقامَه، وكذا إذا استأجرها لبناءٍ (كالمستأجِرِ) لأنه مَلَكَ التصرّف فيها بإذن مالِكِها، فوجب أن يملكَ ما يقتضيه الإِذْنُ، كالمستأجر فعلى هذا إذا أعاره أرضاً لِغَرْسٍ وبناءٍ فله أن يزرع فيها ما شاء، وإن استعارها لغرسٍ أو بناءٍ فليس له الآخر، لأن ضررهما مختلف (إلا أنه) أي المستعير (لا يعير) ما استعاره (ولا يؤجِر) لأنه لا يملك منافِعَهُ، فلا يصحّ أن يُبيحَها أو يبيعَها (إلا بإذن المالك) فإن أعار أو آجَرَ فعليه أُجْرَةُ مثلِها لربِّها، إن لم يكن المستعير الثاني عالماً بالحال، فتكون عليه، أو آجَرَ بغير إذنِهِ فتلفت العين عند الثاني ضمَّنَ المالكُ أَيَّهما شاء.

[ضمان العارية]
(وإذا قبضَ المستعيرُ العاريّة فهي مضمونةٌ عليه بمثل مثليٍّ) يعني أن العاريّة إذا كانت من ذواتِ الأمثال، كما لو استعارَ صَنْجَةً من نحاسٍ لا صِناعةَ فيها، ليزن بها، فتلفتْ، فإنه يضمنها بمثلِ وزنِها من نوعها، (وقيمةِ متقوِّمٍ يوم تَلَفٍ) لأن قيمتَها بَدَلٌ عنها، فوجَبَ عند تلفِها، كما يجبُ عند إتلافها، ولأنه يومٌ يتحقَّقُ فيه فواتُها فوجبَ اعتبار الضَّمانِ به، ويلغو شرطُ عدم ضمانِها، كشرطِ ضمانِ أمانةٍ كوديعةٍ (فرَّط أوْ لا، لكن لا ضمانَ في أربعِ مسائلَ إلاَّ بالتفريط):
الأولى: (فيما إذا كانتِ العاريّة وقْفاً ككتبِ علمٍ) وأدراعٍ موقوفةٍ على الغُزاةِ إذا استعارَها لينظرَ فيها، أو ليلبِسَها عند قتالِ الكفّار (وسلاحٍ) كسيفٍ ورمحٍ.
(و) الثانية: (فيما إذا أعارَها المستأجِرُ.)

(1/442)


والثالثة: ما أشار إليها بقوله: (أو بَلِيَتْ فيما أعيرَتْ له) باستعمالٍ بمعروفٍ، كما لو تَلِفَ الثوبُ المستعارُ بِلُبْسِهِ، أو ذَهَبَ خَمَلُ المِنْشَفَة أو القَطِيفة.
والرابعة: ما أشار إليها بقوله: (أو أركبَ) إنسانٌ (دابتَه) إنساناً (منقطعاً لله تعالى، فتلفت) الدابة (تحته،) أي تَحْتَ المنقطع، (لم يضمن) تَلَفَها، لأنها بيد صاحِبِها، لكون الراكِبِ لم ينفردْ بحفظِها، أَشْبَهَ ما لو غطَّى ضيفَهُ بلحافٍ، فَحُرِقَ عليه، فإنه لا يضمنه، كرديفِ رَبِّها، أي كما لو أردَفَ إنساناً خلفه على دابّتِهِ، فتلفتْ تحتهما.
(ومن استعارَ لِيَرْهَنَ فالمرتَهِنُ أمينٌ) لا يضمن إلا بالتعدّي أو التفريطِ. (ويضمنُ) العينَ (المستعيرُ) سواء تلفتْ تحت يدِهِ أو تحت يَدِ المرتهن.
(ومن سلّم لشريكه الدابةَ) المشتركَةَ (ولم يستعملها) فتلفتْ بلا تفريطٍ لم يضمنْ، (أو استعمَلها) الشريكُ (في مقابَلةِ عَلَفِها بإذنِ شريكِه وتلفت بلا تفريطٍ) أو تعدٍّ بأن ساقَها فَوْقَ العادةِ ونحوه (لم يضمنْ) قال في شرح الإِقناع: وإنْ سلَّمها إليه لركوبِهَا لمصلحته، وقضاءِ حوائِجِهِ عليها، فعارية. انتهى.

(1/443)