نَيْلُ المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب

كتَاب الغصب
(وهو) أي الغصب (الاستيلاءُ) أي استيلاءُ غير حربيٍّ، بفعلٍ يُعَدّ استيلاءً (عرفاً، على حق الغير، عدواناً) بغير حقٍّ على سبيل الظلم (1) وهو محرّم إجماعاً.
وسنده قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ}، وقوله تعالى: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} والغصب من الباطل.
(ويلزم الغاصبَ رد مَا غَصَبَهُ بنَمائِهِ) المتصِلِ والمنفصل، كالولد، والسِّمَنِ، (ولو غَرِم على ردِّه أضعافَ قيمتِهِ) أي قيمةِ المغصوب، لكونِهِ بنى عليهِ، بأن يكونَ غَصَبَ حجَراً، أو خشباً قيمتهُ درهمٌ فبنى عليه بناءً، ويحتاجُ في إخراجِهِ إلى غُرُمِ خمسة دراهم، أو بُعْدٍ، بأن حَمَل مغصوباً قيمته درهمٌ إلى بلد بعيدة بحيث تكون أجرةُ حَمْلِهِ في ردّه إلى البلدِ المغصوبِ منهُ أضعافَ قيمَتِهِ، أو خَلْطٍ بمتميِّزٍ ونحوه.
(وإن سمَّرَ) الغاصب (بالمسامِير) المغصوبةِ (باباً) أو غيره (قَلَعَها)
__________
(1) حديث "ليس لعرقٍ ظالِم حق" رواه الترمذي وحسنه (منار السبيل 1/ 434).

(1/444)


وجوباً (وردّها) ولا أثر لضرِرِه، لأنه حصل بتعدّيهِ، كما لو غَصَبَ فصيلاً، وأدخله دارَهُ فَكَبِرَ، وصار لا يمكن إخراجه لضيق بابها عليه، فإنه يُنْقَضُ مجاناً وُيخْرَجُ الفصيل. (وإن زَرَع) الغاصبُ (الأرضَ) المغصوبة ثم ردَّها وقد حَصَدَ زرعه (فليس لربّها) أي الأرض (بعد حصدِهِ) الزرع (إلاَّ الأجرة) أي أجرةً المثلِ عن الأرضِ إلى حينِ تسليم الغاصبِ لها، يعني أنه لا يكونُ لربّ الأرضِ حقٌّ في زرعِ الغاصبِ بعد حصادِهِ بتملَّكٍ ولا غيرِهِ، لأنه انفصل عن ملكه. (وقَبْلَ الحَصْدِ) أي حصد الزرع (يخيَّرُ) مالكُ الأرض (بينَ تركِهِ) أي تَرْكِ الزَرْع في أرضِهِ إلى الحصاد (بأجرته) أي أجرة المثل، (أو تملُّكِهِ) أي الزرع (بنفقتِهِ، وهي مثل البَذْرِ، وعِوَضُ لواحِقِهِ) من حرثٍ وسقيٍ ونحوِهما. وعنه: بقيمتِهِ زرعاً فله أُجْرَةُ أرضِهِ إلى تسليمه.
(وإن غَرَسَ) الغاصب (أو بني في الأرض أُلْزِمَ بقلعِ غرسِهِ أو بنائِهِ،) وتسويتها، وأرشِ نقصِها، وأجرتِها إلى وقت تسليمها، (حتى ولو كان) الغاصب (أحد الشريكينِ) في الأرض، أو لم يغصبْها الغارسُ أو الباني فيها، (وفَعَلَهُ) أي الغرسَ أو البناءَ (بغير إذنِ شريكه.) أما كونُ الغاصبِ يؤخذ بقلعِ غرسِهِ أو بنائِهِ إذا طولبَ بذلك من قِبَلِ ربّ الأرضِ فلما رُوِيَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لَيْسَ لِعِرْقٍ ظالمٍ حقٌّ" رواه الترمذي.

فصل [ضمان المغصوب]
(وعلى الغاصبِ أرشُ نقصِ المغصوب) ولو رائحةَ مِسْكٍ ونحوه، سواء نقص بيد الغاصبِ أو غيرِه. فيقوَّمُ صحيحاً وناقصاً، ويغرم الغاصبُ

(1/445)


ما بينهما، لأنّه ضمانُ مالٍ من غير جنايةٍ، فكان الواجبُ ما نقص.
(و) يضمن الغاصب (أجرتَهُ) أي المغصوب (مدّةَ مُقَامِهِ بيده) أي الغاصب. قال في الإِقناع: وإن كان للمغصوبِ منفعة تصحّ إجارتُها فعلى الغاصبِ أجرةُ مثله مدة مقامه في يده، استوفى المنافعَ، أو تركَها تذهب.
(فإن تلف) المغصوب بأن كان حيواناً فماتَ، أو متاعاً فاحترق، ونحوَه، وشَمَلَ كلامه لو غصبَهُ مريضاً فمات في يده بذلك المرض، ضَمِنَهُ، كما جزم به الحارثي، واقتصر عليه في الإِنصاف، أو أتلفَهُ الغاصبُ أو غيره ولو بلا غصبٍ (ضمن) الغاصبُ أو من تلفَ بيدِه (المثليَّ) وهو كلُّ مكيلٍ أو موزونٍ لا صناعةَ فيه مباحةً يصح السَّلَمُ فيه (بمثله). فإن أعْوَزَ المثلُ فقيمة مثلِهِ يوم إعوازِهِ فإن قدر على المثل [قبل دفع القيمة] (1) لا بعدَ أَخْذِها، وَجَب.
ويضمن الغاصب (المتقوِّمَ) التالفَ، وهو كل ما ليس مكيلاً ولا موزوناً (بقيمتِهِ يومَ تلفِهِ في بلدِ غَصْبِهِ) من نقدِ موضعِ الضمانِ بمقتضى التعدّي.
(ويضمن) الغاصبُ (مصاغاً) تالفاً إذا كان (مباحاً) كحليّ النساء المتخذ (من ذهبِ أو فضةٍ بالأكثرِ من قيمتِهِ أو وزنِهِ) فإن زادت قيمتُه على وزنِهِ أَخَذ القيمةَ لأجل الصناعة، وإن زاد الوزنُ على القيمةِ أخذ به. (و) يضمنُ المصاغَ (المحرَّمَ) الصناعةِ (بوزنِهِ) من جنسه.
(وُيقْبَل قول الغاصبِ) مع عدم البينةِ (في قيمةِ المغصوبِ) التالِف، بأن قال الغاصب: قيمته عشرة، وقال المالك: اثنا عشر، فقول الغاصب، لأنه غارم.
__________
(1) إضافة من شرح المنتهى 2/ 419.

(1/446)


(و) يقبل قول الغاصب (في قدره) أي المغصوب.
(وَيَضْمَنُ) أي الغاصبُ (جنايَتَهُ) أي جناية الرقيقِ المغصوبِ (وإتلافَهُ) أي قيمة ما يتلفه، ولو كانت الجنايةُ على ربِّه أو مالِهِ (بالأقلِّ من الأرشِ أو قيمتِهِ) أي أرش الجناية، أو قيمة العبد. كما يفديه سيده. (وإن أَطَعَمَ الغاصبُ ما غصَبَهُ) من خبزٍ أو لحمٍ أو غيرِهما أحداً (وحتّى ولو لمالكِهِ) أو قنِّهِ أو دابَّتِهِ، أو دَفَعَه الغاصبُ لمالكِهِ بقرضٍ أو شراءٍ أو هبةٍ أو صدقةٍ، أو أباحَهُ له (ولم يعلمْ) (1) المالكُ (لم يبرأِ الغاصب).
(وإن علم الآكلُ حقيقة الحال استقرَّ الضمانُ عليه) أي على آكلِهِ، لكونه أتلفَ مال غيرِهِ بغير إذنه عالماً من غير تغريرٍ.
وللمالكِ تضمينُ الغاصب له، لأنه حال بينه وبين مالِهِ، وتضمين آكلِهِ لأنه قَبضَهُ من يد ضامِنِهِ، وأتلفه بغير إذن مالكه.
وللغاصب إذا غرّمه المالك بدل الطعامِ الرجوعُ على الآكِلِ لاستقرار الضمان عليه.
(ومن اشترى أرضاً فغرَسَ) فيها (أو بني فيها فخرجت مستَحَقَّةً للغير) أي تبيّن أنه ليس لبائِعِها ولايةُ بيعها (وقُلِعَ غرسُهُ) أي غَرْسُ المشتري (أو بناؤه) لكونه وُضِعَ بغير حقٍّ (رجع) المشتري (على البائع بجميع ما غَرِمه) بسبب ذلك، من ثمنٍ أقبضَه، وأجرة غارسٍ وبانٍ، وثمن مُؤَنٍ مستهلكةٍ، وأرشِ نقصٍ بقلعٍ، ونحو ذلك، لأنه ببيعه إياها غرَّه وأوهَمَهُ أنها ملكُهُ، وكان ذلك سبباً في بنائه وغَرْسِهِ، فرجع عليه بما غَرِمَهُ. قال الفتوحي: وعُلِمَ من ذلك أن لمستحقِّ الأرض قلعَ الغِراس والبناء، من غير ضمانِ، لأنه وُضِعَ في ملكه بغير إذنه، فكان له قلعه مجاناً، كغرس الغاصب.
__________
(1) (ب، ص): "ولو لم يعلم" والصواب بحذف "لو" كما في (ف).

(1/447)


فصل [في الإِتلافات]
(ومن أتْلَفَ ولو سهواً مالاً) محترماً (لغيرهِ) أي لغير المتلف، بلا إذنِهِ، وكان المتلِف مكلفاً ملتزِماً، والمال لمعصومٍ غيرِ ابنِهِ (ضمنه،) أي ضمنَ ما أتلفه.
(وإن أُكرِه) شخصٌ (على الإِتلاف) أي إتلافِ مالِ غيره المضمون، (ضمن من أكرهَهُ) ولو على إتلاف مالِ نفسِهِ.
(وإن فَتَح) إنسان (قفصاً عن طائرٍ أو حل قِنًّا) من قيدٍ (أو أسيراً أو حيواناً مربوطاً، فذهبَ، أو حلّ) إنسان (وِكاءَ زِقٍّ فيه) شيء (مائعٌ) أو جامدٌ، فأذابَتُه الشمس، أو بَقيَ بعد حلَّه فألقته ريحٌ (فاندفَقَ) وخرج منه شيء، أو لم يزل يميلُ شيئاً فشيئاً حتى سقط فاندَفق، أو خرج ما فيه قليلاً قليلاً (ضمنه) أي ضمن المتعدي بفتحِ القفصِ أو حلَّ ما تقدم.
(ولو بقي الحيوانُ) الذي حله، (أو الطائرُ) الذي فتح عنه القفص، واقفين بعد ذلك (حتى نفرّهما آخر) فذهبا (ضمِن المنفِّر) أي اختص ضمانُهما بالمنفِّر، لأن سببه أخصُّ، فاختصّ الضمان به، كدافعِ الواقع في البئرِ مع حافِرِها.
(ومن أوقفَ دابَّةً) له أو لغيره (بطريقٍ، ولو) كان الطريق (واسعاً)، نصًّا، أو ربطها به، (أو تركَ) إنسانٌ (بها) أي بطريقٍ، ولو واسعاً (نحو طينٍ أو خشبةٍ) كعمودٍ أو حجرٍ أو كيسِ دراهِمَ، أو أسند خشبةً إلى حائط (ضمن) ذلك الإِنسانُ (ما تلِفَ بذلك) أي بسبب فعلِهِ،، لأنه مُتَعَدٍّ بذلك. (لكن لو كانت الدابَّةُ بطريق واسعٍ فضربَها) إنسان (فرفسته، فلا ضمان) على واضِعِها، لعدم حاجة الضَّارِبِ إلى ضربها. قال في الإِقناع: ومن

(1/448)


ضرب دابَّةً مربوطةً في طريقٍ ضيَقٍ، فرفستْهُ، فمات، ضمنه صاحبها. ذكره في "الفنون" انتهى.
(ومن اقتنى كلباً عقوراً) ولو لصيدٍ أو ماشيةٍ، (أو) اقتنى كلباً (أسودَ بَهِيماً، أو) اقتنى (أسداً أو ذئباً) أو نَمِراً، أو هرًّا تأكل الطيور وتَقْلِبُ القدورَ عادةً، (أو جارحاً، فأتلفَ شيئاً ضمنه) المقتني، لأنه المتسبّب في ذلك. وعُلِمَ مما تقدم أنه لو حصل شيء من ذلك في بيتِ إنسانٍ من غيرِ اقتنائِهِ ولا اختياره، فأفسدَ شيئاً، لم يضمنْهُ، لأنه لم يحصل الإِفساد بسببه.
قال في الشرح: فإذا اقتنى حماماً أو غيرَه، من الطَّير فأرسله نهاراً، فَلَقَطَ حبًّا، لم يضمنه، لأن العادة إرساله، انتهى (لا إن دخل دارَ ربَّه) أي ربِّ الأسدِ والنّمرِ ونحوه (بلا إذنه) فإنه لا يضمن.
(ومن أجَّجَ ناراً،) أي أوقدها حتى صارت تلتهب، (بملكِهِ)، أو سقى ملكَهُ (فتعدَّتِ النّارُ) أو الماءُ (إلى ملكِ غيرِهِ بتفريطِهِ ضَمِنَ) بأن أجّج ناراً تسري في العادة لكثرتها، أو في ريحٍ شديدة تحملها، أو فتحَ ماء كثيراً يتعدى مثله، أو ترك النارَ مؤجَّجَةً ونام، و (لا) يضمن (إن طَرَتْ ريح (1)).
(ومن اضطجع في مسجدٍ، أو) جَلَسَ، أو اضطجع (في طريقٍ) واسعٍ، فعثر به حيوان لم يضمن ما تلفَ بِهِ، (أو وضعَ حجراً بطينٍ في الطريقِ ليطأ عليه الناس، لم يضمن) لأنَّ في هذا ونحوِهِ نفعاً للمسلمين.
__________
(1) طرت: أي طرأت بعد اشعال النار.

(1/449)


فصل [ضمان ما تتلفه البهائم]
(ولا يضمنُ ربُّ بهيمةٍ غير ضارِيةٍ ما أتلفْتهُ نهاراً من الأمْوالِ والأبدانِ) إذا لم تكنْ يَدُهُ عليها، فإن كانت، ضمن.
(ويضمن راكبٌ) لدابةٍ (وسائقٌ وقائدٌ) لها (قادرٌ على التصرف فيها) جنايةَ يدِها، وفَمِها، ووطءٍ بِرِجْلِها، لا ما نَفَحَتْ بها من غير سببٍ، ما لم يكْبَحْهَا زيادةً على العادة، أو يضربْ وجهَهَا.
(وإن تعدَّد راكب) على الدَّابةَ بأن كان عليها اثنان أو ثلاثة (ضَمِنَ الأوّل) ما يضمنُهُ الراكب المنفرد، لأنه المتصرف فيها القادر على كفِّها. (أو مَنْ خَلْفَهُ إن انفرد بتدبيرِها) لصغر الراكبِ، أو مَرَضِهِ، أو عماه، ونحوه.
(وإن اشتركا) أي الراكبان (في تدبيرِها، أو لم يكن) معها (إلا قائد وسائق، اشتركا في الضّمان) لأنّ كل واحدٍ من الراكبين المشترِكين في تدبيرها، أو من السائِقِ والقائِدِ، لو انفردَ ضَمِنَ، فإذا اجتمعا ضَمِنَا. ويشارك راكب معهما أو معد أحدهما.
وإبلٌ وبِغَالٌ مُقَطّرةٌ كواحدةٍ، على قائِدِها الضمانُ.
ويشارك سائق في أوّلها في جميعها، وفي آخرها في الأخيرةِ فقط، وفيما بينهما فيما باشَرَ سَوْقَهُ وما بعده.
(ويضمن ربّها) أي الدابة (ما أتلفْته) من زرعٍ وشجرٍ وخَرْقِ ثوبٍ، أو نَقَصَتْهُ بمضْغُها إياه، أو وطئِها عليه، ونحوه، (ليلاً) فقط، لأنّ العَادة من أهل المواشي إرسالُها نهاراً للرعي، وحفظُها ليلاً. وعادةُ أهلِ الحوائِطِ حفظها نهاراً فإذا أفسدتْ شيئاً ليلاً كان من ضمان من هي بيده. ومحلّ ذلك (إن كان بتفريطِهِ) في حفظِها، بتركه في وقت عادته،

(1/450)


لا إن أفسدت شيئاً نهاراً، إلا غاصباً، لتعديه.
(وكذا) يضمن (مستعيرُها، ومستأجِرُها، ومن يحفظها).

[دفع الصائل (الدفاع المشروع) وإتلاف المحرمات]
(ومن قَتَلَ) حيواناً (صائلاً) أي واثباً (عليه، ولو) كان الصائلُ (آدميًّا) صغيراً أو كبيراً، عاقلاً أو مجنوناً، حراً أو عبداً، حال كون القاتِلِ (دافعاً عن نفسِهِ) أي نفسِ القاتل، (أو مالِهِ)، ومحلّ عدم الضمان في الصائل إذا لم يندفعَ بغيرِ القتل، (أو أتلفَ) إنسانٌ، ولو صغيراً، بكسرٍ أو حَرْقٍ أو غيرهما (مزماراً أو آلةَ لهوٍ) كطُنبورٍ وعودٍ ودُفٍّ بصُنُوجٍ أو حِلَقٍ أو أتْلَفَ نَرْداً أو شَطْرَنجاً، أو صَليباً (أو كَسَرَ إناءَ فِضَّةٍ، أوَ إناءَ ذهبٍ أو) كَسَرَ أو شَقَّ إناءً (فيهِ خمرٌ مأمورٌ بإراقتها) وهي ما عدا خَمْرَ الخلاّلِ أو خمرَ الذمّيّ المستترة (1)، فإن إناءها غيرُ مضمونٍ، سواءٌ قَدِرَ على إراقتها بدونه أو لا (2)، (أو كَسَرَ حُلِيًّا محرَّماً) على ذَكَرٍ لم يستعمله ولم يتخذه مالكه يصلح للنساء (3). وأما إذا أتلفه فقد تقدَّم أن محرّم الصناعة يضمن بمثلِهِ وزناً (أو أتلف آلة سحرٍ، أو) آلة (تعزيمٍ، أو تنجيمٍ، أو صُوَرَ خيالٍ، أو أتلفَ كُتباً مبتدَعَةً مُضِلَّةً) أو كتُبَ أكاذيبَ أو سخائِفَ لأهل الضلالِ، والبَطالَة، أو كُتُبَ كفرٍ، (أو أتلفَ كتباً فيها أحاديثٌ رديئةٌ (4) لم يضمن في الجميع) "أي لم يضمن المتلف ما أتلفه من ذلك" (5)، قال في شرح المنتهى: وظاهره ولو كان معها غيرها.
__________
(1) وفي المغني: ولو غير مستترة لم يضمن أيضاً.
(2) لحديث أبي طلحة "وأمر الذين كانوا معه أن يمضوا ويعاونوني أن آتي الأسواق كلها فلا أجِدُ فيها زقّ خمرٍ إلا شققته، ففعلتُ، فلم أجد زفًّا إلا شققته" رواه أحمد (ش المنتهى).
(3) أي فلا يضمن.
(4) أي أحاديث موضوعة (عبد الغني) والمراد ما يروج على الناس. أما الكتب التي فيها بيان الوضع في الأحاديث فليست مرادة.
(5) ما بين القوسين مقدم في (ف) بعد نصّ المتن هنا، ومؤخر في (ب، ص). ولم نجد العبارة =

(1/451)


باب الشّفعَة
وهي شرعاً استحقاقُ الشريكِ انتزاعَ حصةِ شريكِه ممن انتقلت إليه بعوضٍ ماليٍّ إن كان المنتقَل إليه مثل الشريكِ أو دونه (1).
(لا شفعة لكافرٍ على مسلمٍ). (وتثبث) الشفعة (للشريك فيما انتقل عنه مِلْك شريكِهِ بشروطٍ خمسة):
(أحدها: كونه) أي الشِّقْصُ المنتقِلُ عن الشريك (مبيعاً) لأن الشفيع يأخذه بمثل الثَّمن الذي انتقل به، ولا يمكن هذا في غير المبيع، وإنما أُلْحِقَ بالبيع الصلحُ بمعناه، والصلحُ عن الجناياتِ الموجبةِ للمالِ، والهبةُ المشروطُ فيها ثوابٌ معلوم، لأن ذلك كلّه بيعٌ في الحقيقة، لكن بألفاظٍ أُخَر، (فلا شفعةَ فيما انتقل ملكُه عنه بغير بيعٍ) كصداق، وعوضِ خلعٍ، وصلحٍ عن قَوَدٍ، ولا فيما أخذه أجرةً، أو ثمناً في سَلَم، أو عوضاً في كتابة.
(الثانى) من شروط الشفعة: (كونه) أي الشقص المبيع (مشاعاً) أي غير مُفْرَزٍ، وكونه (من عقارٍ) ينقسم إجباراً على من لم يطلب القِسْمة
__________
= في شرح المنتهى، فتقديمها هو الصواب.
(1) أي مثله في الدين بأن كانا مسلمين أو كافرين، أو دونه بأن كان من انتقلت إليه كافراً والمنتزع مسلماً.

(1/452)


ممن له فيه جزء (فلا شفعةَ للجارِ) في مقسومٍ محدودٍ، ولا فيما لا تجب قسمته، كحمامٍ صغيرٍ، وبئرٍ وطريقٍ وعِرَاصٍ ضيقة، (ولا فيما ليس بعقارٍ كشجر) وحيوان (وبناء مفردٍ وجوهرٍ وسيفٍ وسكينٍ وزرعٍ وثمرٍ) وكل منقولٍ (1) (ويؤخذ الغراس والبناء تبعاً للأرض)، قال في "المغني": بغير خلافٍ في المذهب، ولا يعرف فيه بين من أثبت الشفعة خلاف.
(الثالث) من شروط الأخذ بالشفعة: (طلَبُ الشفعةِ ساعةَ يعلم) بالبيع، وإلاّ بطلَتْ (فإن أخر) الشفيعُ (الطلبَ لغير عذرٍ سقطت،) ولعذرٍ كشدةِ جوعٍ وعطش حتى يأكل أو يشرب، أو لطهارةٍ، أو إغلاقِ باب، أو لِيخرجَ من حمامٍ، أو ليقضيَ حاجَتَهُ، أو ليؤذِّنَ أو يقيم، أو ليشهدَ الصلاةَ في جماعةٍ يخافُ فَوْتها، ونحوه، إلا أن يكون المشتري حاضراً عنده في هذه الأحوال إلا الصلاةَ، أو أخَّر الطلبَ والإشهادَ عليه عجزاً، كمريضٍ ومحبوسٍ ظلماً، أو لإظهار زيادة ثمنٍ، أو نقصِ مبيعٍ، أو هبةٍ، أو أنَّ المشتريَ غيرُه، أو لتكذيبِ مُخْبِرٍ لا يُقْبَلُ خبرُه، فعلى شفعته، لأنه إما معذورٌ وإما غيرُ عالم بالحالِ على وجهِهِ، كما لو لم يعلمْ مطلقاً.
وتَسقط إن كذَّبَ مخبراً مقبولاً.
(والجهلُ بالحكمِ عذرٌ)، قال في الإقناع: فإن أخَّر الطلب مع إمكانه ولو جهلاً باستحقاقه أو جهلاً بأن التأخير مسقط لها ومثله لا يجهله وسقطت (2).
__________
(1) ولكن ليس ذلك متفقاً عليه، بل في المذهب أقوال تثبت الشفعة في ما لا ينقسم إجباراً وفي الغراس والبناء ولو بيع منفرداً. وعنه في كل مال حاشاً منقولاً ينقسم وأثبتها ابن تيمية. للجار مع الشركة في الطريق (عبد الغني - بتصرف).
(2) فتحصل في شرح عبارة المتن أنه إذا أخر الطلب جهلاً بأن التأخير يسقط الشفعة -ومثله يجهله- لم تسقط، لأن الجهل مما يعذر به، أشبه ما لو تركها لعدم علمه بها (منار السبيل).

(1/453)


(الرابع) من شروط الأخذ بالشفعة: (أخذُ جميع) الشقصِ (المبيعِ) لئلا ينضرَّ المشتري بتبعيضِ الصفقةِ في حقّهِ بأخذ بعض المبيع، (فـ) لهذَا (إن طلب) الشفيعُ (أخذَ البعضِ) أي بعض الشقصِ المبيع دون باقيهِ (مع بقاءِ الكلِّ) أي كل المبيع (سقطتْ) شفعتُهُ. وإن تلف بعضُه أخذَ باقيه بحصّته من ثمنه.
(والشفعة بين الشفعاءِ على قدر أملاكهم) لأن ذلك حق يستفاد بسبب الملك فكان على قدر الأملاك، كالغلّة، فدارٌ بين ثلاثةٍ: نصف، وثلث، وسدس، فباع رب الثلث، فالمسألة من ستة: الثلث يقسم على أربعة: لصاحبِ النصف ثلاثةٌ، ولصاحب السدس واحد.
(الخامس) من شروط الأخذ بالشفعة: (سَبْقُ ملكِ الشفيع لرقبة العقارِ) أي سبق ملكِهِ لجزءٍ من رقبةِ ما مِنْهُ الشقصُ المبيعُ على زمنِ البيع، لأن الشفعة ثبتت لدفعِ الضرر عن الشريك، فإذا لم يكن له مِلِكٌ سابقٌ (1) فلا ضرر عليه، (فلا شفعةَ لأحدِ اثنينِ اشتَرَيَا عقاراً معاً) أي صفقةً، على الآخر، لأنه لا مَزِيَّة لأحدهما على الآخر، لاستوائهما في البيع في زمنٍ واحدٍ، لأن شرط الأخذ سَبْقُ الملك، وهو معدوم هنا.
(وتصرُّف المشتري) في الشقصِ المشفوعِ (بعد أخذِ) أي طلبِ (الشفيعِ بالشفعة باطل) لانتقال الملك إلى الشفيع بالطلب في الأَصحّ.
(و) تصرّف المشتري في الشقص (قبله) أي قبل الطلبِ، بوقفٍ، أو هِبَةٍ، أو صدقة، أو بما لا تجب به شفعةٌ ابتداءٌ، كجعله مهراً، أو عوضاً في خلع، أو صلحاً عن دم عمدٍ (صحيحٌ) مسقطٌ للشفعة. (ويلزم الشفيعَ أن يدفعَ للمشتري الثمنَ الذي وقع عليه العقد، فإن كان) الثمن (مثليًّا) فيُدْفَعُ له (مثله أو) كان الثمن (متقوّماً فـ) يدفع (قيمتَهُ) والمراد به قيمتُهُ وقتَ الشراءِ، لأنه وقتُ استحقاقِ الأخذ. (فإن جُهِلَ الثمن) أو

(1/454)


قدرُه، كما لو كان صُبْرَةَ نقدٍ فتلفت، أو اختلطت بما لا تتميّز عنه (و) الحال أنه (لا حيلةَ) في ذلك على إسقاط الشفعة (سقطت الشفعة،) كما لو علم قدرَ الثمنِ عند الشراءِ ثم نسي، لأن الشفعة لا تُستحَقُّ بغير بدل (1) ذلك، ولا يمكن أن يدفع إليه ما لا يدّعيه.
فإن اتّهَمَهُ حلَّفه.
(وكذا) تسقط الشفعة (إن عجز الشفيع ولو عن بعض الثمن،) لأن في أخذِهِ بدونِ دفع جميع الثمن إضراراً بالمشتري، ولا يُزال الضرر بالضرر، (وانتُظِرَ ثلاثةَ أيام، ولم يأتِ به) أي بلياليهن. قال في الإنصاف: على الصحيح من المذهب، حتى يثبت عجزُه. نص عليه.
__________
(1) في (ب، ص): "لا تستحق بغير ذلك". وفي (ف): "لا تستحق لا تختلف بغير بدل" والتصويب من شرح المنتهى.

(1/455)


باب يذكر فيهِ أحكَام (الوَديعَة)
وهي فَعِيلَةُ من وَدَعَ الشيءَ، إذا تركه، لأنها تكون متروكةً عند المودَعَ.
(يشترط لصحتها كونُها من جائزِ التصرُّفِ لمثله) أي: جائِز التصرف، (فلو أُودَعَ) إنسانٌ جائزُ التصرُّفِ (مالَه لصغيرٍ أو مجنونٍ أو سفيهٍ (1)) أو قنٍ (فأتلفه) الصغيرُ أو المجنونُ أو السفيهُ أو القنُّ (فلا ضمانَ) عليهم، ولا على أوليائِهمْ، ولو فرّطوا، لأن المالك هو المفرِّطُ في مالِهِ بتسليمِه إلى أحد هؤلاءِ. هذا في مسألة التلف. وأما مسألة الإتلاف، فإنه يُضْمَنُ ما أتْلَفَ مكلف غيرُ حرٍّ في رقبته.
(وإن أودعَهُ) أي أودع جائِزَ التصرف (أحدُهم) فاعلُ أوْدع، شيئاً (صار) المودَعُ (ضامناً).
(ولا يبرأ إلا بردّه) أيْ رَدِّ المودَعِ الشيءَ (لوليّهِ) الناظرِ في مالِهِ، كما لو كان عليه له دينٌ في الذمة.
ويضمنها إن تلفَتْ، ما لم يكن الصغيرُ مأذوناً له في الإيداع، أو يخفْ هلاكَها معه إن لم يأخذها منه.
__________
(1) إلحاق السفيه بالرشيد في هذا أقرب إلى الصواب (عبد الغني).

(1/456)


[حفظ الوديعة]
(ويلزمُ المودَعَ) بفتح الدال (حفظُ الوديعةِ في حرز مثلها) عرفاً، لأن الله تعالى قال: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهلِهَا} ولا يمكن أَداؤُها إلا بحفظِها. وحِرْزُها كحرزِ سَرقَةٍ. (بنفسِهِ، أو بمن يقوم مقامه كزوجته وعبده) وخازنِهِ.
(وإن دفعها المودَعُ (لعذرٍ) كمنْ حَضَرَهُ الموتُ، أو أراد سفراً وليس السفر حفظاً لها، (إلى أجنبيٍّ) ثقةٍ، فتلفتْ، (لم يضمن) لأنه لم يتعد، ولم يفرِّط. وإن لم يكن له عذرٌ حين دفعها إلى الأجنبيِّ ضمن.
(وإن نهاه مالكُها عن إخراجِهِا من الحرْزِ، فأخرجها) المودَعُ منه (لطَرَيَانِ) أي حصول (شيءٍ الغالبُ منه الهلاكُ) كالنهب، والحريق، فتلفت في المحلِّ المنقول إليه (لم يضمن) المودَعُ بنقلها شيئاً إن وضعها في حرز مثلِها أو فوقه.
فإن تعذّر عليه إحرازها بمثل الحرز الأول، فأحرزها في دونهِ، لم يضمنها. (وإن تركها) مع غِشْيانِ ما الغالبُ منهُ الهلاكُ بالمكان الذي هي به (ولم يخرجها، أو أخرجها) منه (لغير خوفٍ،) -ويحرمان (1) - فتلفت بالأمر المخوف أو غيره (ضمِن).
(فإن قال له) مالكها: (لا تخرجْها ولو خفت عليها، فحصل خوفٌ وأخرجَهَا) خوفاً عليها، (أوْ لا) أي: أو لم يخرجها مع حصول الخوف، فتلفت مع إخراجها أو وتركها، (لم يضمن) لنهي (2) مالِكِها عن إخراجها
__________
(1) أي يحرم كلا الأمرين: تركها بالحرز مع الخوف عليها فيه لحريق ونحوه، وإخراجها منه بدون الأمر المخوف.
(2) في الأصول: "لأن نهي مالكها ... الخ" ولا يستقيم ذلك. فصححناها هكذا. ولأنه إن أخرجها فقد زاد صاحبها خيراً.

(1/457)


معَ خوفِ الهلاكِ فيه، فيكون مأذوناً في تركها في تلك الحالِ، فلم يضمنْ، لامتثالِهِ أمْرَ صاحِبها.
(وإن ألقاها عند هجومِ ناهبٍ ونحوِهِ) كقطّاع الطريقِ (إخفاءً لها لم يضمن) لأن هذا عادةُ الناسِ في حَفظ أموالهم.
(وإن لم يعلفْ) أو يَسْقِ المودَعُ (البهيمةَ) المودَعَة (حتى ماتتْ) جوعاً أو عطَشاً (ضمنها،) لأن العَلْفَ من كمال الحفظ الذي التزمه بالاستيداع، لا إن نهاه مالِكُها عن علْفها فتركه حتى ماتت، فإنه لا ضمانَ عليه لمالكها. ويحرُمُ ترك عَلْفِها مطلقاً.

فصل
(وإذا أرادَ المودَع السفر) أو لم يُرِدْ سفراً، وخاف عليها عنده من غرَقٍ أو نهبٍ أو نحوِهما (ردّ الوديعةَ، إلى مالِكِها، أو إلى من يحفظُ مَالَه) أي مال مالِكِها (عادةٌ، أو إلى وكيله) أي وكيلِ مالِكِها إن كان.
(فإن تعذَّرَ) بأن لم يجد الذي عنده الوديعةُ مالِكَها ولا وكيلَه، (ولم يخف عليها مَعَهُ في السًفَر سافَرَ بها، ولا ضمان).
(فإن خافَ عليها دَفَعَها للحاكم) المأمونِ.
(فإن تعذَّر) الحاكم (فلِثقةٍ) أي فليدفعها لثقةٍ.
(ولا يضمنُ مسافرٌ أُودِعَ) في سفره وديعةً، (فسافَرَ بها، فتلفت بالسَّفَر) لأن إيداعَ المالكِ في هذهِ الحالةِ يقتضي الإِذن في السفر بالوديعة.
(وإن تعدّى المودَعُ في الوديعةِ بأن) كانتْ دابّةً فـ (ركبها لا لِسَقْيِها، أو) كانت ثياباً فـ (لبسها لا لخوفٍ من عِثٍّ) -جمعُ عُثَّة بضمّ العين المهملة، سُوسَةٌ تَلْحَسُ الصوف- ويضمن إن لم ينشرها، (أو أخرجَ

(1/458)


الدراهمَ) المودعَةَ (لينفقها، أو لينظُرُ إليها، ثم ردّها) إلى وعائها ولو بنيّةِ الأمانة، أو كَسَرَ خَتْمَها، (أو حلَّ كيسَها فقط) أي من غير إخراجٍ لها، (حرُمَ عليه) ذلك (وصار ضامناً، ووجب عليه ردُّها فوراً، ولا تعودُ أمانَةٌ بغير عقدٍ متجدَّدٍ). قال ابن رجب في القاعدة الخامسة والأربعين: "إذا تعدَّى في الوديعةِ بطلتْ، ولم يجزْ له الإمساكُ ووجب الرد على الفورِ". ولأنّها أمانةٌ محصنةٌ، وقد زالتْ بالتعدِّي، فلا تعودُ بدون عقدٍ متجدّدٍ.
(وصحّ) قول المالكِ للمودَعِ: (كلّما خُنْتَ ثم عُدْتَ إلى الأمانة فأنت أمين.)

فصل
(والمودَعُ أمينٌ) لأنّ الله تعالى سماها أمانةً بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} (لا يضمن إلا إن تعدَّى أو فرَّطَ أو خانَ) في الوديعة.
(ويُقْبَلُ قوله) أي المودع (بيمينهِ في عدم ذلك) أي عدمِ التعدي والتفريطِ والخيانةِ.
(و) يقبل قوله بيمينه (في أنها تلفت، أو أنكَ أذنْتَ لي في دفعها لفلانٍ وفَعَلْتُ) أي ودفعتُها إليه، مع إنكار المالك الإِذن في دفعها. نصَّ عليه أحمد. وهو من المفردات. ووجهُ ذلك أنه ادّعى دفعاً يبرأُ به من الوديعة، فكان القولُ قولَه فيه، كما لو ادعى ردَّها على مالكها.
(وإن ادّعى الردَّ بعد مَطْلِهِ) أي تأخير دفعها إلى مستحِقِّها (بلا عذرٍ، أو ادّعى ورثتُهُ) أي ورثةُ المودَع (الردّ) ولو لمالكٍ (لم يقبلْ إلا ببيّنةٍ) أمّا كون ورثة المودَع لا يقبلُ قولُهُمْ في الدفع إلى المالِكِ ولا إلى غيرِه إلا ببيّنةٍ فلأنهم غير مؤتمنين عليها من قبل مالِكِها.

(1/459)


(وكذا كلُّ أمينٍ).
(وحيث أخَّر ردَّها) أي الأمانة، أو أخّر مالاً أُمِرَ بدفعِهِ (بعد طلبٍ) من مستحقِّه، (بلا عذرٍ) في التأخير، (ولم يكنْ لحملها مؤنةٌ ضمن) المؤخِّرُ لكونهِ أَمْسَكَ مال غيرِهِ بغير إذنِهِ بفعلٍ محرّمٍ، أشبَهَ الغاصبَ.
ويُمْهَلُ لأكلٍ، ونومٍ، وهضمِ طعامٍ، ونحوه.
(وإن أُكْرِهَ) مودَعٌ (على دَفْعِها) أًي الوديعة، (لغيرِ رَبِّها، لم يضمن) كما لو غُلِبَ على أخذِها منهُ قهراً، لأن الإكراه عذرٌ يبيح له دفعها. (وإن قال) شخص عن آخر: (له عندي ألفُ وديعةً، ثم قال) المُقِرّ: (قَبَضَهَا) مني، (أو تلفَتْ قبل ذلك، أو) قال: (ظننتُها) أي الألف (باقيةً ثم علمتُ تَلَفَها، صُدِّقَ بيمينه،) لأنها إذا ثبتت الوديعة ثبتت أحكامُها. (ولا ضمان).
(وإن قال: قبضتُ منه ألفاً وديعةً، فتلفت) الألفُ، (فقال) المُقَرُّ له: (بل) قبضتَها مني (غصباً، أو) قبضتها مني (عاريةً، ضَمِنَ) ما أقرّ به.

(1/460)


باب إحيَاء الموَات
وهو مشتقٌّ من الموت.
والموَات في اصطلاح الفقهاء (هي الأرضُ الخرابُ الدارِسَةُ التي لم يَجْرِ عليها ملكٌ لأَحدٍ، ولم يوجد فيها أَثرُ عمارة، أو وُجِدَ فيها أثر مِلكٍ وعمارةٍ). قال في "المغني": بغير خلافٍ بين القائلين بالإحياء. انتهى.
وإن تردّد في جَرَيَانِ الملك عليهِ، أو كان به أثَرُ ملكٍ غير جاهليٍّ (كالِخرَب التي ذهبت أنهارُها واندرَسَتْ آثارُها ولم يُعْلَم لها مالك) أي لم يعلمَ أنها الآن مملوكة لأحد، أو كان بها أثرُ مِلْكٍ جاهليٍّ قديمٍ، أو أَثرُ ملكٍ جاهليٍّ قريبٍ.
(فمن أحيا شيئاً من ذلك، ولو كان) المحيي للأرضِ (ذمِّيًّا، أو) كان الإحياءُ (بلا إذنِ الإمامِ، ملكه.) وحيثُ قلنا بملك المحيي لما أحياهُ فإنه يملكه (بما فيه من معدنٍ جامدٍ) باطنٍ (كذهبٍ وفضّةٍ وحديدٍ) ونُحاسٍ ورصاصٍ، (و) من معدنٍ جامدٍ ظاهرٍ كـ (كحُلٍ) وزَرْنِيخٍ وكِبريتٍ، لأنه مَلَكَ الأرضَ بجميع أجزائِها وطبقاتها، وهذا منها، فدخل في ملكه على سبيل التبعية. ويفارقُ الكنزَ، فإنه لا يملك ما فيها من كنزٍ، لأنه مَوْدُوعٌ فيها، وليس من أَجْزَائِها.

(1/461)


(ولا خراجَ عليه) أي على من أحيا أرضاً عَنْوَةً (إلا إن كَانَ المُحْيي (ذميّاً،) فعليه الخراج، لأنها للمسلمين، فلا تُقَرُّ في يد غيرِهِمْ بدونِ خراجٍ، كغيرِ المَوَاتِ.
فأمَّا غَيْرُ العنوةِ، وهي أرضُ الصُّلحِ، وما أسلَمَ أهله عليه، إذا أحيا الذِّمِّيُّ فيه مواتاً فكالمسلم.
و (لا) يدخل في مِلكِ المحيي (ما فيه) أي ما في المُحْيا (من معدِنٍ جارٍ، كنفطٍ وقارٍ) وملحٍ بل يكون أحقَّ به.
(ومن حفرَ بئراً بالسابلة ليرتَفِقَ بها كالسفارة) والمنتجعين يحفرون البئر (لشربِهِمْ و) شربِ (دوابّهم، فهم) أي المحتفرون (أحقُّ بمائها) أي ماءِ البئرِ التي احتفروها (ما أَقاموا) أي مدة إقامتهم عليها، يعني أنّهم لا يملكونها. ووجهه أنهم جازِمُونَ بانتقالِهِمْ عنها وتركِهَا لمن ينزل منزلتهم. بخلاف الحافِرِ للتملُّك.
(وبعد رحيلهم) أي رحيلِ الحافرين لها (تكونُ) البئرُ (سبيلاً للمسلمين،) لأنه ليس أحدٌ ممن لم يحفرْها أولى بها من الآخر.
(فإن عادوا) أي الحافرونَ لها (كانوا أحقّ بها من غيرِهِمْ) لأنهم لم يحفِرُوها إلا من أجلِ أنفسهم، ومن عادَتِهِمُ الرحيلُ والرجوعُ، فلم تَزُلْ أحقّيتهم بذلك.

فصل [فيما يحصل به الإِحياء]
(ويحصل إحياءُ الأرض المواتِ إما بحائطٍ منيعٍ) سواءٌ أرادَها للبناء، أو للزرع، أو حظيرة للغنمِ أو للخشب، أو غيرها. نص عليها. والمراد بالحائط المنيع أن يمنع ما وراءه. ولا يعتبر مع ذلك تَسْقِيفٌ.

(1/462)


(أو إجراء ماءٍ) بأن يسوق إليها ماءً من بئرٍ أو نهرٍ (لا تُزْرَعُ إلا به) أي بالماء المسوق إليها، أو مَنْع ماءٍ لا تزرع معه، (أو غَرْس شَجَرٍ) في الأرض الموات، كما لو كانت لا تَصْلُحُ للغراسِ، لكثرةِ أحجارها، أو نحوها فينقّيها ويغرسها، (أو حَفْر بئرٍ) أو نهرٍ (فيها).
(فإن تحجّر مواتاً، بأن أدار حولَهُ أحجاراً،) أو تُرَاباً، أو شوكاً، أو حائطاً غيرَ منيع، (أو حَفَرَ بئراً لم يَصِلْ ماءَها (1)، أو سقى (2) شجراً مباحاً كزيتونٍ، ونحوِهِ، أو أصلحه ولم يُرَكِّبْهُ) (3) كما لو حَرَثَ الأرْضَ، أو خَنْدقَ حولَها، أو أقْطَعَهُ له الإِمامُ ليُحيِيَهُ فلم يُحْيِه، (لم يملكه) بذلك، لأنّ الملك إنما يكونُ بالإِحياء، ولم يوجد، (لكنه أحقُّ به من غيرِهِ. و) كذا (وارثُهُ بعده) يعني أنه يكون أحقّ به من غيره.
(فإن أعطاهُ) أي المحيي المحيا (لأحدٍ) غيرِهِ (كان له) أي إذا نَزَلَ شخصٌ عن أرضٍ خراجيةٍ (4) لآخَرَ فيكونُ المنزولُ له أحقّ بها وَوَرَثَتُهُ من بعده، وليس للِإمام أخذُها منه.
وكذا النزولُ عن الوظائِفِ (5) إذا كان المنزولُ له أهلاً.
(ومن سَبَقَ إلى مباحٍ) فأخذه (فهو له، كصيدٍ، وعَنْبَرٍ، ولؤلؤٍ،
__________
(1) في الأصول ومنار السبيل: "ماؤها". والتصويب من شرح المنتهى.
(2) في الأصول ومنار السبيل وشرح المنتهى: سقى. قال الحجاوي: قوله "سقى" كذا مكتوب في نسخ التنقيح وكل من نقل عنه. وهو تصحيف وغلط من الكاتب وصوابه "شَفَّى" أي قطع من الشجر الأغصان الكبيرة القديمة ليستخلف أغصانا جديدة (عبد الغني).
(3) التركيب بلسان أهل فلسطين وبلاد الشام التطعيم، بأن يدخل برعمًا من شجرة تحت لحاء غُصن من شجرة أخرى، فينبت ويكون له ثمر. وذلك كتركيب التفاح على السفرجل، والمشمش على اللوز. وقد يكون التطعيم بطرق أخرى.
(4) هذه مسألة أخرى غير المذكورة في المتن. فإن المذكور فيه: الأرض المحياة وليس عليها خراج. ولذلك لا يصح أن يجعلها تفسيراً لمسألة المتن. ومع هذا فإن ما ذكره في مسألة الأرض الخراجية صحيح. وانظر شرح المنتهى.
(5) هذا في النزول عن الوظائف الموقوف عليها. لا في الوظائف الرسمية ونحوها.

(1/463)


ومرجانٍ، وحَطَبٍ، وثَمَرٍ) ومِسْكٍ وعَسَلِ نحلٍ، وطَرْفَاءٍ، وقَصَبٍ، وغير ذلك من النبات (ومَنْبُوذٍ رَغْبَةً عنه) كعظْم به شيءٌ من لحم رُغِبَ عنه، ونثَارٍ في عرس، ونحوه، وما يتركه الحصَّادُ من الزرع.
(والمِلْكُ مقصورٌ فيه على القدْرِ المأخوذ) فلا يملِك ما لا يحوزه، ولا يمنَعُ غيرَهُ منه.
وإن سبق إليه اثنان قُسِمَ بينهما.

(1/464)


باب الجُعَالَة
بتثليث الجيم.
(وهي الجعالةُ شرعاً (جَعْلُ) أي تسميةُ (مالٍ معلومٍ) إن كان من مالِ مسلمٍ لا إن كان من مال حربيٍّ، فإنه لا يشترطَ فيه العلم، (لمن) متعلقٌ بجعلٍ (يَعْمَلُ له) أي للجاعل (عملاً مباحاً، ولو) كان العملُ (مجهولاً) كمن خاط لي ثوباً فله كذا، أو مدة ولو مجهولة (1) (كقوله: من ردَّ لُقَطَتي، أو: بني لي هذا الحائط، أو: أذَنَ بهذا المسجد، شهراً (2)، فله كذا) أو: من فَعَله ممن لي عليهم الدينُ، فهو بريء من كذا؛ (فمن فعل العَمَل) المجعولَ عليه الجُعْلُ (بعد أن بَلَغَهُ الجعل استحقَّه كله) لأن العقد استقرَّ بتمام العملِ، فاستَحَقَّ ما جُعِلَ، له كالربح في المضاربة.
(وإن بَلَغَهُ) الجَعْلُ (في أثناءِ العمل استحق حِصَّة تَمَامهِ) أي إن أتمه بنيّةِ الجُعْل فإنه يستحق من الجعل بقِسْطِ ما بقي من العمل فقط، لأن عَمَلَهُ قبل بلوغِهِ الجعلُ وقع غير مأذونٍ فيهِ، فلم يستحقّ عنه عِوَضاً، لأنه بَذَلَ منافعه متبرعاً.
__________
(1) في شرح المنتهى "أو لمن يعمل له مدة ولو مجهولة" فاختصار الشارح مُخِلٌّ.
(2) أي تصح الجعالة في هذه، ولكن لا يصح أخذ الأجرة عليها لأنها لا تقع إلا قُرْبَةً.

(1/465)


(و) إن بَلَغَهُ الجَعْلُ (بعد فرِاغ العمل لم يستحقّ) العاملُ (شيئاً).
(وإن فَسَخَ الجاعلُ) بعد شروعِ عاملٍ في العملِ، (قبل تمامِ العمل، لَزِمَهُ) أي الجاعل (أجرةُ المِثْلِ)، لأنَّه عَمِلَ بعوضٍ، فلم يسلّمْ له، فكان له أجرة مثله.
وعُلِمَ مما تقدّم أنه إذا عمل شيئاً بعد الفسخ أنه لا أُجرة له، لأنه عملٌ غير مأذونٍ فيه. (وإن فَسَخَ العامِلُ) قبل تمام العمل (فلا شيءَ له،) لأنه أسقط حقّ نفسِهِ، حيثُ لم يأتِ بما شُرِطَ عليه، كعاملِ المضاربة.
(ومَنْ عَمِلَ) مِنْ مُعِدٍّ لآخذ الأجرةِ، كالملاّح والمُكارِي والحجّام والقصّار والخيّاط والدلاّل والكيّال والوزّان (لغيرِهِ عملاً) مما ذُكِرَ ونحوِهِ (بإذنه) أي بإذن ربه (من غير) تقديرِ (أجرةٍ أو جُعَالَةٍ فله) أي العامل (أجرةُ المثل،) لدلالة العُرْفِ على ذلك.
(و) من عمل لغيره عملاً (بغيرِ إذنه فلا شيءَ له) لأنه بَذَلَ منفعته من غير عِوَضٍ، فلم يستحقه، ولئلا يلزم الإِنسانَ ما لم يلتزمْهُ ولم تطبْ نفسه به، (إلاَّ في مسألتين):
(إحداهما: أن يُخَلِّصَ متاعَ غيرِهِ) ولو قناً (من مَهْلَكَةِ) بحرٍ أو فلاةٍ يُظَنُ هلاكُه في تركِهِ، (فله أجرةُ مثله).
(الثانية: أن يردّ رقيقاً آبقاً) من قنٍّ، أو مدبرٍ، أو أمِّ وَلَدٍ إن لم يكن الرادُّ الإِمام، (لسيّدِهِ، فله ما قدّرَهُ الشارع) في ردّه، (وهو) أي ما قدره له الشارع (دينارٌ أو اثنا عَشَرَ درهماً) سواء ردّه من داخل المِصْرِ، أو خارجِهِ، قربت المسافةُ أو بَعُدَتْ، وسواءٌ كان يساوي المقدارَ أوْ لا، وسواء كان الرادُّ زوجاً للرقيق، أو ذا رَحِمٍ.
وإن مات السيّد قبل وصولِ المدبّر وأمّ الولد عَتَقَا، ولا شيءَ لرادِّهِمَا.

(1/466)


باب اللُقَطَة
وهي مال أو مختصٌّ، كخمرة الخلاّل، ضائعٌ أو ما في معناه، كالمتروكِ قصداً، كالمالِ المدفونِ لغير حربيٌّ.
ومن أُخِذَ متاعهُ وتُرِكَ بَدَله فلقطة.
(وهي) أي اللقطة (ثلاثة أقسامٍ): قسم يجوز التقاطه وُيمْلَكُ به، وقسْم لا يجوزُ التقاطه، ولا يُمْلَك بتعريفه، وقسم يجوز التقاطه، ويُمْلَكُ بتعريفه.
(أحدها: ما لا تَتْبَعُه هِمَّةُ أوساطِ الناسِ) يعني ما لا يَهُمُّونَ في طلبه. قال في القاموس: والهِمَّة، بالكسر وتُفْتَح، ما همّ به من أمرٍ ليُفْعَل. انتهى. وذلك (كسوطٍ) وهو الذي يُضْرَبُ به، وفي شرح المهذّب: هو فوقَ القضيبِ ودونَ العَصَا. (ورغيفٍ) وتمرة، وكلَّ ما لا خَطَرَ له، كخرقةٍ وحبلٍ لا تتبعه الهمَّة، (ونحوهما) كشِسْعٍ (1)، (فهذا يُمْلَكُ بالالتقاط) ويباحُ الانتفاعُ به، لما رَوَى جابرٌ قال: "رخص النبيّ - صلى الله عليه وسلم - في العَصَا والسَّوطِ والحَبْلِ يلتَقِطُهُ الرجل ينتفع به." (2) رواه أبو داود.
__________
(1) أي شِسْعُ النعلِ، وهي الخيط الذي تربط به.
(2) حديث "رخَّصَ في العصا والسوط ... " قال في (الإِرواء ح 1559): قال البيهقي: في رفع هذا الحديث شك، وفي إسناده ضعف. اهـ.

(1/467)


(ولا يلزم تعريفه).
(لكن إن وَجَدَ ربَّه) الذي سقط منه (دَفَعَهُ) له وجوباً (إن كان) ما التقطه (باقياً، وإلا) بأن تلف (لم يلزَمْهُ) أي الملتقطَ (شيءٌ).
(ومن ترك دابَّته تَرْكَ إياسٍ بمَهْلَكَةٍ أو فلاةٍ لانقطاعها) بعجْزِها عن المشي، (أو بعجزِهِ) أي مالكها (عن عَلْفِهَا) بأن لم يجد ما يعلِفُها، فترَكَها (ملكها آخذُها) قال في "المغني": ومن تَرَكَ دابَّةً بمهلكةٍ فأخَذَها إنسانٌ فأطعمها وسقاها وخلّصها مَلَكَها، وبه قال الليْثُ والحسنُ بن صالحٍ وإسحاق، إلاَّ أن يكون تَرَكَها ليرجِعَ إليها، وضلَّت عنه. (وكذا) أي وكالقول فيما تقدم من كون آخِذِه يملكُه بأَخذه يقال فيـ (ــما يلقى في البحر) من سفينةٍ (خوفاً من الغرق) أي من أجل ذلك، لأن هذا مالٌ ألقاه صاحبه، فيما يتلَفُ بتركِهِ فيه اختياراً منه، فَمَلَكَهُ من أخَذَهُ، كالذي ألقاه رغبةً عنه.
والقسم (الثاني)، من أقسام اللقطة، وهو الذي لا يجوز التقاطُهُ، ولا يُملك بتعريفِهِ (الضوالّ التي تمتنع عن صغارِ السباع) كالأسَد الصّغير، والذئبِ وابن آوى: وامتناعُها إما لكِبَرِ جُثَّتها (كالإبل والبَقَر، والخيل، والبغالِ، والحمير الأهلية (1)، و) إما لسرعةِ عَدْوِها أي ركضها (كالظباء،) وإما لطيرانها كالطير، وإما بِنَابِها كفهد. (فـ) غير الآبق (2) (يحرم التقاطها) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن ضالة الإِبل: "مالَكَ وَلَها؟ دَعْها، فإنَّ معَها حذاءها" أي أخفافَهَا "وسقاءَهَا" أي فمها "تَرِدُ الماءَ، وتأكُلُ الشَّجَرَ، حتّى يَجِدَها رَبها" (3).
__________
(1) الحمير الأهلية لا تمتَنع من الذئب ونحو ولا تصبر على الظمأ كما تصبر الإبل. ولذلك مال الشيخ في المغني إلى أنه يجوز التقاطها.
(2) في (ب، ص): "فغير الإبل" والتصويب من (ف) وشرح المنتهى. أما العبد الآبق فقد تقدم في الجعالة حكم ردّه إلي صاحبه.
(3) حديث "ما لك ولها ... " متفق عليه. وتفسير الشارح "سقاءها" بفمها، فيه نظر، والأولى =

(1/468)


(وتُضْمَنُ، كالغصب،) ولو كان الملتقطُ لها الإِمامُ أو نائِبُهُ إذا أخذَها على سبيلِ الالتقاط، لا على سبيل الحفظ. (ولا يزول الضَّمانُ) أي ضمان ما حَرُمَ التقاطه، عن آخِذِهِ (إلا بدفعها للِإمام أو نائبِهِ) لأن للِإمام النَّظَرَ في ضوالِّ الناس، فيقومُ مقامَ المالِكِ، (أو يردَّها) أي اللقطةَ المذكورة (إلى مكانها بإذنه) أي الإِمام أو نائِبِهِ.
(ومن كَتَم شيئاً منها) أي مما لا يجوز التقاطه، عن ربِّه، ثم أقرَّ بِهِ (أو قامت به بينة، فتلف، لزمه قيمتُهُ) أي المتلقطَ الذي لا يجوز التقاطه (مَرتَيْنِ) لربَهِ. قال في المحرر: ومن التقطَهُ وكَتَمَهُ حتى تلف، ضمنه بقيمته مَرَّتَيْنِ.
(وإن تَبعَ شيءٌ منها) أي من الضوالَّ المذكورة (دوابَّهُ فَطَرَدهُ) فلا ضمانَ عليه، (أو دَخَلَ) شيءٌ (منها دارَهُ فأخرج، لم يضمنه حيث لم يأخذه) ولم تَثْبُتْ يَدُهُ عليه.
القسم (الثالث) من أقسام اللَّقطة، وهو ما يجوز التقاطُهُ ويملك بتعريفِه المعتبر شرعاً (كالذَّهَبِ والفضَّةِ والمتاعِ) كالثِّيابِ والفُرُشِ والأواني وآلاتِ الحِرَفِ ونحوِهَا (وما لا يمتنع من صغارِ السِّباع كالغَنَمِ والفُصْلانِ) بضمّ الفاء وكسرها، جمع فَصِيلٍ، وهو ولد الناقةِ إذا فُصِلَ عن أُمهِ (والعجاجيل) جمع عِجْلٍ (1)، وهوَ وَلَدُ البقرة (والإِوَزّ والدجاج) والخشبةِ الصغيرة، وقطعة الحديد، والنحاس، والرصاص، والزّقِّ من الدُّهن أو العَسَل، والغِرَارَة من الحبّ (2) أو الورق، أو الكتُبُ، وما جرى مجرى ذلك، والمريضِ من الإِبل ونحوها كالصغير (فهذه يجوز التقاطُها
__________
= تفسيرُهُ بعظم بطونها، فإن الإبل تخزن من الماء ببطونها ما يكفيها أياماً.
(1) يقال: عِجْلٌ، ويقال: عِجَّوْلٌ، ومن هنا جاء جمعه عجاجيل.
(2) الغرارِةُ الجوالق (قاموس) يعني الكيس الذي توضع فيه الأمتعة.

(1/469)


لمن وَثقَ من نفسِهِ الأمانَةَ والقُدْرَةَ على تعريفها) ولا فرق في ذلك بين الإِمام وغيره.
(والأفضلُ) للِإنسانِ (مَعَ ذلك) أي مع الأمانة والقدرة على تعريفها (تركُها) ولو وجَدَهَا بِمَضْيَعَةٍ، لأن في الالتقاط تعريضاً لِنفسِهِ لأكل الحرام، وتضييعِ الواجبِ من تعريفِها وأداءِ الأمانة فيها، فكان تركُ ذلكَ أولى وأَسْلَمَ، كوِلَايَةِ مالِ اليتيم (1).
(فإن أخذها) أي اللقطةَ الملتقِطُ (ثم ردّها إلى موضِعِها) فتلفتْ (ضَمِنَ) فرط أو لم يفرّط، إلا أن يكون ردها إلى موضِعِها بإذن الإِمام أو نائِبِه، فلا يضمنها.

فصل
(وهذا القسم الأخيرُ) من أقسامِ اللَّقَطَةِ المتقدمِ ذكرُها (ثلاثةُ أنواعٍ): (أحدها: ما التقطه من حيوانٍ) مأكول كالفصيلِ والشاةِ والدجاجةِ، (فليزمه) أي الملتقطَ (خيرُ ثلاثة أمورٍ: أكلُهُ بقيمتِهِ) في الحالِ، والأصل في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - لما سُئِلَ عن الشاة فقال: "خذها فإنما هيَ لَكَ أو لأخيكَ أو للذَئب" فَجَعَلها له في الحال، لأنه سوّى بينه وبين الذئب، والذئب لا يستأني بأكلها، ولأن في أكلِ الحيوان إغناءً من الإِنفاق عليه، وحِرَاسةً لماليّتِهِ على صاحِبِه، فإنه إذا جاء يأخذ قيمته بكمالها، (أو
__________
(1) وفي المذهب قول آخر، فقد ذهب أبو الخطّاب إلى أنه إذا وجدها بمضيعةٍ وأمن نفسه عليها فالأفضل أخذها. وهذا قول الشافعي. وله قول آخر: يجب أخذها (المغني 5/ 631) قلت: هذا أولى، كولاية مال اليتيم. فإن ترك مال اليتيم بدون ولاية إضاعة له، وقد ورد في كافل اليتيم ما ورد من الفضل.

(1/470)


بيعُهُ) أي الحيوان (وحفظُ ثمنه) ولو لم يأذن في ذلك الإِمام، لأنه إذا جاز أكلُهُ بغير إذنه فبيعُهُ أولى (أو حفظهُ وينفِقُ عليه) الملتقط (من مالِهِ) لما في ذلك من حفظِهِ على مالِكِهِ عيناً ومالاً.
فإن ترك الإِنفاقَ عليه حتى تلف ضمنه، لأنه مفرّط.
(وله) أي للملتقط (الرجوعُ) على مالِكِهِ إن وجده (بما أنفقَ إن نَوَاهُ) أي الرجوعُ، وإلاَّ فلا، (فإن استوتْ الأمورُ الثلاثة) في نظر الملتقط فلم يظهر له أن أَحَدَها أحظّ (خُير) بين الثلاثةِ لجوازِ كلٍّ منها، وعَدَمِ ظهورِ الأحظّ في أحدها.
(الثاني): ما التُقِطَ (مما يُخْشى فسادُهُ) بتبقيته، كالبطيخ والخضراوات ونحوِهَا. (فيلزمه) أي الملتقط (فعلُ الأصلح من بيعِهِ) بقيمَتِهِ وحفْظِ ثمنه من غير إذنِ حاكمٍ لأنه مال أبيح للملتقط أكله، فأُبيحَ له بيعُه. وعنه يبيعُ اليسيرَ كمالِهِ، ويرفَعُ الكثيرَ للحاكم، (أو أكلِهِ بقيمته) لأن في كل منهما حفظاً لماليته على مالكِهِ، ويحفَظُ صفاتِهِ في الصورتين، ليدفع لمن وَصَفَهُ ثمنه أو قيمتَهُ (أو تجفيفِ ما) أي شيء (يجَفَفُ) كالعنب والرُّطَبِ، لأن ذلك أمانةٌ بيده، وفعل الأحظِّ في الأمانة متعيّنٌ. وإن احتاجَ في تجفيفِهِ إلى غرامةٍ باعَ بعضَهُ في ذلك.
(فإن استوت الثلاثَةُ) في نظر الملتقط (خُيِّر) بينها فأيَّها فعل جاز له. وإن تَرَكَه حتى تلف ضمنه، لأنه فرّط في حفظ ما بيده أمانةً، كالوديعة. قال في "المغني": ويقتضي قول أصحابِنَا أن العُروضَ لا تُمْلَكُ بالتعريف أنّ هذا كلَّه لا يجوزُ له أكلُهُ، لكن يخير بين الصدقةِ بِهِ وبين بيعه.
(الثالث: باقي المال) أي ما عدا الضَّرْبَينِ المذكورين من المالِ، كالأثمانِ والمتاع ونحوها، (ويلزمه) أي الملتقط (التعريفُ في الجميع)

(1/471)


من حيوانٍ وغيره، سواءٌ أراد الملتقطُ تملّكها أو حفظَها لصاحبها (فوراً) لظاهر الأمر، إذ مقتضاهُ الفورُ، ولأن صاحبها يطلبها عَقِبَ ضياعِهَا، فإذا عُرِّفت إذًا كان أقربَ إلى وصولها إليه (نهاراً) لأن النهارَ مجمعُ الناس وملتقاهم، (أولَ كل يومٍ) قبل اشتغالِ الناس في معايِشِهِمْ، (مدَّةَ أسبوع) أي سبعةَ أيام، لأن الطلب فيه أكثر.
(ثم) يعرفها بعد الأسبوع (عادةً) أي بالنظر إلى عادةِ الناس في ذلكَ. (مدَّةَ حولٍ) كامل.
وأول الحول من الالتقاط.
(وتعريفها) أي صفته (بأن يناديَ عليها في الأسواق) عند اجتماع الناس (وأبوابِ المساجِدِ) أوقاتَ الصلواتِ، وكُرِهَ داخِلَها: (مَنْ ضاعَ منه شيء أو نفقة؟) قال في المحرر: ولا يَصِفُها، بل يقول: من ضاع منه شيء أو نفقة؟ وفي المغني: السادس (1) في كيفية التعريف: وهو أن يذكُرَ جنسَها لا غُير، فيقول: من ضاعَ منه ذهبٌ، أو فضةٌ، أو دنانيرُ، أو دراهم، أو ثيابٌ، ونحو ذلك. انتهى. لكن اتفقوا على أنه لا يصفها.
(وأجرة المنادي على الملتقط) نصّ عليه، لأنه سببٌ في العمل، فكانت أجرته عليه، كما لو اكترى شخصاً يقلع له مباحاً.
وإن أخّر التعريفَ عن حولِ التعريفِ أو بعضَه لغيرِ عذر أَثِمَ، ولم يملكها بالتعريف بعد الحول، كالتقاطِها بنيّةِ التملّك، أو لم يُرِدْ تعريفاً.
وليس خوفُهُ أن يأخُذَها سلطانٌ جائِرٌ أو يطالِبَهُ بأكثر عذراً في تركِ تعريفها حتى يملكها بدونه.
(فإذا عرّفها حولاً) كاملاً (ولم تعرف) فيه، وهي مما يجوز
__________
(1) السادس: أي من فصول صاحب المغني (3/ 634) في التعريف، فكان الأولى ترك نقل هذه اللفظة.

(1/472)


التقاطه، (دخلتْ في ملكِهِ قهراً عليه) غنيًّا كان الملتقط أو فقيراً.
ولقطة الحرم كلُقَطَةِ الحلّ (1).
(فيتصرّف فيها بما شاء بشرط ضمانِها) لربِّها إذا جاء ووصفها.

فصل
(ويحرم تصرُّفه) أي الملتقط (فيها) أي في اللقطة بعد التعريف (حتى يَعْرِفَ وِعَاءَهَا) وهو كيسُها ونحوُه، كالخرقة التي تكون مشدودةً فيها، أو القِدْرِ أو الزّقِّ الذي يكون فيه المائع، واللُّفافةِ التي تكون فيها الثياب، (و) حتى يَعْرِفَ (وِكَاءَهَا) أي اللقطة (وهو ما يُشَدُّ به الوعاء أي الكيس أو الزقُّ ونحوُهما، هل هو سَيْرٌ أو خيط؟ وهل هو من إبريسَم أو كتّان؟ (و) حتى يعرِفَ (عِفَاصَها) بكسر العين المهملة (وهو صِفَةُ الشّدّ) هل هو عقدة أو عقدتانٍ وأُنشُوطَةٌ أو غيرها، والأُنشُوطة قال في القاموس: كأنْبُوبة، عقدةٌ يسهل انحلالها كعقدة التَّكَّة، انتهى، (و) حتى (يعرف قَدْرَها) بالعدّ والوزنِ أو الكيلِ بمعيارِها الشرعي (وجِنسَها وصفتها) التي تتميّز بها من الجنس، وهي نوعُها ولونُها، والأصل في ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث زيد بن خالد: "إعرِفْ عِفَاصَها وَوِكَاءها ثم كُلْها" رواه والترمذي (2).
(ومتى وَصَفَها) أي اللقطة (طالِبُها) أي مدعي ضَيَاعِها، بصفتها التي أُمِرَ الملتقط أن يعرفَها (يوماً من الدَّهْر) في حول التعريفِ أو بعدَهُ
__________
(1) أي فيجوز التقاطها، وتُملَك بالتعريف. وهو مذهب أبي حنيفة ومالك. وعن أحمد رواية أخرى: لا يجوز التقاط لقطة الحرم للتملّك وإنما يجوز حفظها لصاحبها، فإن التقطها عرّفها أبداً حتى يأتي صاحبها، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "ولا تحلّ ساقطتها إلا لمنشدٍ". متفق عليه. ولأنه - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن لقطة الحاج" رواه أبو داود.
(2) حديث "اعرف عفاصها ... " متفق عليه من حديث زيد بن خالد مرفوعاً.

(1/473)


(لزم) الملتقِطَ (دفعُها) أي اللقطة (إليه، بنمائِهِا المتّصل، وأما) النماء (المنفصل بعد حولِ التعريفِ فـ) إنه يكون مِلكاً (لواجِدِها)، لأنه مَلَكَ اللقطة بانفصال الحول، فنماؤها إذن نماء ملكه.
(وإن تلفت) اللقطة (أو نقصت) أو ضاعت (في حول التعريف) بيد الملتقط (ولم يفرّط لم يضمن) لأنها أمانة بيده، فلم تُضمَن بغير تفريطٍ، كالوديعة.
(و) إن تلفت (بعد الحول) أي حول التعريف، فإنه (يَضمَنُ) الملتقطُ اللقطة (مطلقاً) أي سواءٌ فرّط أو لم يفرّط، لأنها دخلت في مِلْكِهِ، فكان تَلَفُها من ماله. قال في المغني: وتُمْلَكُ اللقطة ملكاً مُراعًى يزول بمجيء صاحبها، ويَضْمَنُ له بدلَها إن تعذّر ردّها.
(وإن أدركها ربُّها بعدَ الحولِ مبيعةً أو موهوبةً) بعد الحول والتعريف، وهي بيد من انتقلت إليه (لم يكنْ له) أي لربّها (إلا البَدَل) لأن تصرُّف الملتَقِطِ وَقَعَ صحيحاً لكونها صارت في ملكه.
(ومن وجد في حيوانٍ نقداً) كما لو اشترى إنسان شاةً، فذبحها، فوجد في بطنها دنانيرَ أو دراهم (أو درةً) (1) أو عَنْبَرةً (فلقطة لواجِدِهِ، يلزَمُهُ تعريفُهُ) ويُبْدَأ بالبائع، لاحتمال أن يكون ذلك من مالِهِ، فإن لم يُعرَفْ كان لواجده.
(ومن استيقظ من نومٍ أو إغماءٍ فوجَدَ في ثوبِهِ) أو كيسِهِ (مالاً) دراهمَ أو غيرَها (لا يدري مَنْ صَرَّهُ) له أو وضَعَهُ له (فهو له.)
ولا تعريف عليه لأن قرينة الحال تقتضي تمليكه له.
(ولا يبرأ من أَخَذَ من نائِمٍ شيئاً إلّا بتسليمِهِ له بعد انتباهِهِ.) قال
__________
(1) أي درة مثقوبة أو اتصل بها ذهب أو معدن، لأن الظاهر حينئذ أنها مما فُقِد. أما لو وجد في بطن سمكة درة غير مثقوبة ولم يتصل بها ذهب أو نحوه فالظاهر أنها من المباح، وتعد لمن صاد السمكة (شرح المنتهى).

(1/474)


في الإِنصاف: وكذلك الساهي. انتهى. ووجه ذلك أن الأخذ في حالةٍ من هاتين الحالتين موجِبٌ لضمان المأخوذِ على آخذِهِ، لوجود التعدّي، لأنه إما سارقٌ أو غاصب، فلا يبرأ من عهدته إلاَّ بردِّه على مالِكِه في حالةٍ يصحّ قبضه له فيها. والله أعلم.

(1/475)


باب اللَّقيط
[اللقيط] فَعِيلٌ بمعنى المفعول، كقَتيلٍ وجَريحٍ وطَرِيحٍ.
(وهو) أي اللَّقيط شرعاً (طِفلٌ يوجدَ لا يعرف نَسَبُهُ، ولا) يُعْرَفُ (رقُه) طُرِحَ في شارِعٍ أو غيرِهِ، أو ضلّ ما بين ولادتِهِ إلى سنّ التمييز.
(والتقاطُهُ) أي اللقيط شرعاً (والإِنفاق عليهِ فَرْضُ كفاية) كإطعامِهِ إذا اضطُرَّ وإنجائِهِ من الغرق، فلو تَرَكَهُ جميعُ من رآه أَثِمَ الجميع. (وُيحْكَمُ بإسلامه وحُرِّيَتِهِ) إلا أن يوجد في بلد أهل الحرب، ولا مُسْلِمَ فيه، أو فيه مسلمٌ كتاجرٍ وأسيرٍ، فكافرٌ رقيق، لأن الدارَ لهم.
وإن كثر المسلمون فمسلمٌ، أو في بلد إسلامٍ كل أهله أهلُ ذمةٍ، فكافرٌ.
وإن كان بها مسلم يمكن كونه منه فمسلم.
(وُينْفَقُ عليه مما معه إن كان) معه شيء، لأن نفقته واجبة في مالِهِ.
وما وُجِدَ معه فهو له، لأن الطفل يَمْلِكُ، وله يَدٌ صحيحة، بدليل أنه يرث ويورث، ويصحّ أن يشتريَ له وليُّه ويبيع من ماله.
(فإن لم يكن) معه شيء (فـ) نفقته (من بيت المال، فإن) لم يكن بيتُ مالٍ، أو (تعذَّر) الأخذ منه (اقتَرَضَ عليه) أي على بيتِ المالِ

(1/476)


(الحاكمُ) قاله الحارثي. نقله عنه في الإنصاف. قال في شرح المنتهى: ظاهره ولو مع وجودِ متبرِّعٍ بها، لأنه أمكن الإِنفاق عليه بدون منَّةٍ تلحَقُهُ في المستقبل. أشبه الأخذ لها من بيت المال.
(فإن تعذر) الاقتراض عليه (فعلى من علم بحالِهِ) الإِنفاق عليه لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} ولأن في تركِ الإِنفاق عليه هلاكَهُ، وحفظُهُ من ذلك واجب، كإنقاذِهِ من الغرق.
ولا يرجعُ إذَنْ منفقٌ بما أَنفَقَ، لوجوبِهِ عليه. فهي فرضُ كفايةٍ.
(والأحقُّ بحضانتِهِ) أي اللَّقيط (واجدُهُ إن كان حرًّا) تامّ الحرية، لأن كلاً من القِنّ والمدبّر والمعلقِ عتقُهُ بِصَفَةٍ وأمِّ الولدِ منافِعُهُ مستحَقَّةٌ لسيّدهِ، فلا يُذْهِبُها في غيرِ نفعِهِ إلاَّ بإذنه. وكذلك المكاتَب. فإنه ليس له التبرّع بمالِهِ ولا بمنافِعِهِ إلا بإذنِ سيّده في ذلك. وكذلك المبعَّض، فإنه لا يتمكّن من استكمال الحضانة. (مكلفاً) لأنّ غيرَ المكلّف لا يلي أَمْرَ نفسِهِ، فلا يلي أمر غيره. (رشيداً) فلا يُقَرُّ في يد سفيهٍ. جَزَمَ به في الهداية والمهذّب والمستوعِب والتلخيص، وغيرهم. وفي المنتهى (أميناً عدلاً) لأن عمر رضي الله عنه أقرّ اللقيط في يد أبي جميلة، حين قال له عَرِيفُهُ إنه رجلٌ صالِحٌ، ولأنه سَبَقَ إليه، فكان أولى به.
(ولو) لم يُعْلَمْ باطنُ حالِهِ كفى كونه عدلاً (ظاهراً) (1) لأن هذا حكمُهُ حكم العدل باطناً وظاهراً في لَقطة المال، والولاية، والنكاح والشهادة فيه وفي أكثر الأحكام، ولأن الأصل في المسلمين العدالة. ولذلك قال عمر رضي الله عنه: المسلمون عدول بعضهم على بعض.
__________
(1) وهو المسمى مستور الحال. وشهادته في الأموال والحدود مردودة. لقوله تعالى {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}. وكذلك روايته. بخلاف ما ذكره الشارح هنا، فإن يقبل فيها.

(1/477)


فصل [في ميراث اللقيط]
(وميراثُ اللقيط وديته إن قُتِلَ لِبَيْتِ المال.) ومحلّ ذلك إن لم يكن له وارثٌ كغيرِ اللقيطِ، لأنه مسلم لا وارثَ له، فكان مالُه ودِيَتُه لبيت المال.
فإن كانت له زوجةٌ فلها الربع، والباقي لبيت المال. وإن كانت لقيطةٌ لها زوجٌ فله النصف، والباقي لبيت المال. وإن كان له بنتٌ أو ذو رحمٍ كبنت بنتٍ أو ابن بنتٍ أخَذَ جميعَ المالِ، لأن الردّ وذا الرحم مقدّم على بيت المال.
ويخيّر الإمامُ في عمدٍ بين أخذها والقِصَاصِ.
وإن قُطِعَ طَرَفُه عمداً انتُظِرَ بلوغُهُ ورُشْدُهُ، إلا أن يكون فقيراً فليزَمُ الإمامَ العفوُ على مالٍ ينفقُ عليهِ منه.

[ما يثبت به نسب اللقيط]
(وإن ادّعاه) أي ادعى أن اللقيطَ وَلَدُهُ (مَنْ) أي إنسان (يمكنُ كونُهُ) أي كون اللقيطِ (منه) أي المقرّ (من ذكرٍ أو أنثى، أُلحِقَ) أي اللقيطُ (بِهِ) أي بالمقرّ (ولو) كان اللقيطُ (ميتاً) لأن الإقرار بالنسب مصلحةٌ محضةٌ للقيط، لاتصالِ نسبِهِ، ولا مضرَّةَ على غيرِهِ فيه، فَقُبِلَ، كما لو أقَرَّ له بمال. وهذا بلا خلافٍ في المذهب، فيما إذا كان المِقرُّ رجلاً حراً مسلماً يمكِنُ كونُهُ منه. نص عليه أحمد في رواية جماعة.
(وثبت نسبُهُ) أي اللقيط بهذا الإِقرار (و) ثبت (إرثُهُ) أيضاً.
(وإن ادعاه) أي ادعى أن اللقيطَ ابن (اثنانِ) أي رجلانِ (فأكثر، معاً، قُدِّم) به (من له بينة) لأن البينة علامةٌ ظاهرةٌ واضحةٌ على إظهار الحقِّ لمن قامت له.
(فإن لم تكن) لواحدٍ منهم بينة أو أقَامَ كلٌّ واحدٍ منهم بيّنة بأنه

(1/478)


ولده (عُرِضَ) أي اللقيطِ مع كل مدّعٍ موجود، أو أقاربِهِ إن ماتَ، (على القَافَةِ).
والقَافَةُ قومٌ يعرفون الأنساب (1) بالشَّبَهِ. ولا يختص ذلك بقبيلةٍ معيّنةٍ، بل من عُرِفَتْ منه المَعْرِفَةُ بذلك، وتكرَّرَتْ منه الإصَابَةُ فهو قائف. قال في المغني: وقيل: أكثرُ ما يكونُ ذلك في بني مُدْلِجٍ رَهْطٍ مُجَزَّزٍ (بجيم وزايين).
(فإن ألحقته) القافَةُ بواحدٍ لحقه.
وإن ألحقته (بالجميعِ لَحِقَهُمْ) قال في المغني: هذا قولُ أنسٍ وعطاءٍ ويزيدَ بن عبد الملك والأوزاعي والليثِ والشافعي وأبي ثور.
(وإن ادَّعاه أكثرُ من واحدٍ وأشكلَ أمرُهُ) على القافة بأن قالوا: لم يظهرْ لنا شيءٌ أو قالوا: أشكَلَ علينا حالُهُ، أو نحو ذلك، بأن اختلف قائفان فيه أو اثنان أو ثلاثة (ضاعَ نَسَبُهُ) في هذه الصور كلها في الأصحّ، لأنه لا دليل، ولا مرجَّح لبعض من يدّعيه، أشْبَهَ من لم يُدَّعَ نسبه.
ويؤخذ باثنينِ خالفَهُما ثالثٌ، كبيطارَيْنِ وطبيبين خالفَهُمَا طبيبٌ في عيب.
(ويكفي) في ذلك (قائفٌ واحد) لأنه حَكَمٌ ويكفي في الحكم قولُ واحدٍ.
(وهو كالحاكم فيكفي مجرّد خَبَرِهِ (2). ومتى حكَم الحاكمُ حُكماً لم يُنْقَضْ بمخالفة غيرِهِ له، وكذلك لو ألحقَتْهُ بواحدٍ، ثم عادت فألحقته بغيره (3).
__________
(1) في (ب، ص): الإنسان، والتصويب من (ف) وشرح المنتهى.
(2) أي لأنه ينفذ ما يقوله، بخلاف الشاهد.
(3) في الأصول هنا زيادة "كذلك" ولا داعي لتكرارها فحذفناها. وهي في المغني 5/ 700 "لذلك" والسياق يقتضيها، أما هنا فلا.

(1/479)


وإن أقام الآخرُ بيِّنَةً أنه ولده حُكِمَ له به، وسقط قول القائف، لأنه بدل، فيسقط بوجودِ الأصل، كالتيمم مع الماء، قاله في المغني. (بشرط كونِهِ) أي القائف (مكلَّفاً ذكَراً) لأن القِيافَةَ حُكْمٌ، مستندُها النظر والاستدلال، فاعتُبرت الذكررة فيه، كالقضاء (1) (عَدْلاً) لأن الفاسق لا يقبل قولُه.
وعُلِمَ من اشتراطِ عدالتِهِ اشتراطُ إسلامه، لأن العدل لا يكون إلاَّ مسلماً. (حرًّا) قال في المغني: لأن قوله حُكْمٌ، والحكم تعتبر له هذه الشروط. انتهى (مجرّباً في الإِصابة) لأنه أمرٌ عِلْمِيٌّ فلا بدّ من العلم بعلمه له، وذلك لا يُعرَف بغير التجربة له فيه.
قال القاضي في كيفيّة التجربة: هو أن يُتْرَكَ اللقيطُ مع عشرةٍ من الرجال غيرِ من يدَّعيه، فإن ألحقه بواحدٍ منهم سقط قولُه، لأنه تبَيَّن خطَؤُهُ، وإن لم يُلْحِقُهُ بواحدٍ منهم أريناه إيّاه مع عشرين، فيهم مدّعيه، فإن ألَحَقَهُ به لَحِقَهُ.
(تم الجزء الأول ويليه الجزء الثاني أوله كتاب الوقف)
__________
(1) وهو المذهب. وقيل: هي شهادة، وعليه: فلا بد من اثنين، ولا تشترط حريتهما، ويشترط لفظ "أشهد".

(1/480)