نَيْلُ المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب

نَيْلُ المَآرِب
بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب
للشَّيخِ عَبد القَادِرْ بْن عُمَر الشَّيْبَانِي
المشهُور بابْن أبى تغلب
عَلى مذهَب الإمَام المبجّل أحمَد بْن حنبَل - رضي الله عنه -
الجُزءُ الثَّانِي
حَقَّقَهُ
الدكتور محمد سُليمان عبد الله الأشقر
مكتبة الفلاح

(/)


جميع الحقوق محفوظة
الطبعة الأولى
1403 هـ - 1983 م

مكتبة الفلاح - الكويت
ص. ب 4848 - الكويت - شارع بيروت - عمارة الحساوي
مقابل بريد حولي - تليفون 547784

(2/2)


نَيْلُ المَآرِب
بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب

(2/3)


بسم الله الرحمن الرحيم

(2/4)


كتَاب الوَقف
وهو مصدر وَقَفَ الإِنسان الشيءَ يَقِفُهُ بمعنى حَبَسَهُ وأحْبَسَه، ولا يقال أوقفه إلا في لغة شاذة عكس أحْبَسَه (1).
وهو مما اختصّ به المسلمون. قال الشافعي: ولم تحبّس أهلُ الجاهلية.
ثم الوقف شرعاً تحبيس مالكٍ مطلقِ التصرف مالَهُ المنتَفَعَ به، مع بقاءِ عينه، بقطع تصرفِهِ وغيرِه في رقبته بنوعٍ من أنواع التصرفات، تحبيساً يصرفُ رَيْعَه إلى جهةِ بِرٍّ، تقرباً إلى الله سبحانَه وتعالى (2).
و (يحصل) الوقف حكماً (بأحد أمرين):
الأول: (بالفعل، مع دليلٍ يدل عليه) أي على الوقف عرفاً، كما يحصل ذلك بالقول لاشتراكِهِما في الدلالة عليه، في أصح الروايتين، (كأن يبني) إنسانٌ (بنياناً على هيئة المسجد، ويأذَن إذناً عامًّا) أي لمن
__________
(1) أي فإن "أحْبَستُهُ" لغة جيدة كحَبَستُهُ. بخلاف "أوقفته" فإنها لغة رديئة، وقد نص على رداءتها في لسان العرب. ولذلك فعبارة الشارح هنا محررة متقنة. أما ما قال شارح المنتهى "أوقفه لغة شاذة كأحبَسَهُ" ففي قوله لظر. ويقال "حبّستُهُ" أيضاً.
(2) أخذ التقرب إلى الله تعالى في مفهوم "الوقف" فيه نظر , فإنه قد يقف على أولاده مثلا أو على أجنبيٍّ، ولا يقصد التقرب، بل التودّد أو مصلحة أخرى أو رياء. (شرح المنتهى - بتصرف).

(2/9)


شاءَ الصلاةَ فيه من المسلمين، (بالصلاةِ فيه) حتى لو كان المكانُ المأذونُ في الصلاة فيه أسفَلَ بيتِهِ، أو عُلْوَهُ أو وسطه، فإنه يصح وإن لم يذكر استطراقاً، ويَسْتَطْرِقُ، (أو يجعلَ أرضَهُ) مهيَّأة لأن تكونَ (مقبَرَةً ويأذنَ إذناً عامًّا بالدفنِ فيها،) لأنَّ الإذنَ الخاصَّ قد يقعُ على غيرِ الموقوفِ، فلا يفيدُ دلالةَ الوقفِ. قاله الحارثي.
(و) الثاني: (بالقول) روايةً واحدة.
والإشارةُ المفهمِةُ من الأخرس كالقول.
(وله) أي للوقف باللفظ (صريحٌ وكناية).
(فصريحُهُ) ثلاثةُ ألفاظٍ (1) (وقفتُ وحبستُ وسبَّلْتُ.)
فمن أتى بكلمةٍ من هذه الكلمات صحّ بها الوقفُ، لعدم احتمالِ غيرِهِ، بعُرْفِ الاستعمالِ المنضمِّ إليه عُرْفُ الشرع، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن شئت حبَّسْتَ أصْلَها وسبَّلْتَ ثَمَرَتها" (2) فصارت هذه الألفاظُ في الوقفِ صريحةً فيه، كلفظ التطليق في الطلاق.
(وكنايَتُهُ) أي الوقف، ثلاثة ألفاظٍ: (تصدّقْتُ، وحرَّمْتُ، وأبَّدْتُ.)
وإنما كانت هذه الألفاظُ كنايةً، لعدم خَلَاصِ كلّ لفظٍ منها عن اشتراكٍ، فإن الصدقة تُسْتَعْمَلُ في الزكاة، وهي ظاهرةٌ في صدقة
__________
(1) في (ب، ص): هنا عبارة زائدة "كلفظ المطلّق في الطلاق وهي ساقطة من (ف) فحذفناها لذلك، ولإغناء ما يأتي بعد ثلاثة أسطر عنها. ولعلها من تكرار النُّسّاخ.
(2) حديث "إن شئت حبست أصلها ... " قاله النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمر. وهو متفق عليه. ونصه بتمامه: عن ابن عمر قال "أصاب عمر أرضاً بخيبر؛ فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يستأمره فيها. فقال: يا رسول الله إني أصبتُ مالاً بخيبر لم أُصب مالاً أنْفَسَ عندي منه، فما تأمرني فيه؟ فقال: إن شئتَ حبَّستَ أصلها وتصدقتَ بها، غير أنه لا يباعُ أصلها ولا يوهب ولا يورث. قال فتصدّق بها عمر في الفقراء، وفي القربى، والرقاب، وفي سبيل الله، وابن السبيل، والضيف، لا جناح على من وَلِيَها أن يأكل منها بالمعروف، أو يطعم صديقاً، غير متمول فيه."

(2/10)


التطوعِ، والتحريم صريحٌ في الظهار، والتأبيد يستعمل في كل ما يراد تأبيده من وقف وغيره. (فلا بد فيها) أي الكناية (من نيّة الوقف) فمتى أتى مالِكٌ بأحد هذه الكناياتِ الثلاثِ، واعترفَ أنه نوى بها الوقْفَ، لزم في الحكم، لأنها بالنيّة صارتْ ظاهرة فيه.
وإن قال: ما أردتُ بها الوقف، قُبِلَ قوله، لأنه أعلم بما في ضميرِهِ، لعدم الاطلاع على ما في الضمائر (ما لم يقل) الواقف بلفظٍ من ألفاظ الكناية بلا نيّةٍ، تصدَّقْتُ بداري (على قبيلة كذا أو) على (طائفة كذا)، أو يقرِنِ الكنايةَ بأحدِ الألفاظِ الخمسةِ: كتصدّقْتُ. صدقةً موقوفةً، أو تصدقت صدقَةً محبَّسَةً، أو تصدقت صدقة مسبّلةً، أو تصدقت صدقةً محرَّمةً، أو تصدقتُ صدقةً مؤبّدةً. أو قرنَ الكنايَةَ بحكمِ الوقفْ، كألّا تُباعَ، أو لا توهبَ، أو لا تورثَ، لأنّ ذلك كله لا يُستَعْمَل في سوى الوقف، فانتفت الشركة.

فصل [في شروط صحة الوقف]
(وشروط الوقف) المعتبرةُ له (سبعة):
(أحدها: كونُه) أي الواقف (من مالكٍ) فلا يصحّ أن يقف الإِنسان ملك غيره بغيرِ إذنِهِ، (جائزِ التصرُّفِ) فلا يصحّ من محجورٍ عليه، ولا من مجنون، (أو من يقوم مقامَهُ) أي مقامَ جائِزِ التصرّف كوكيله فيه.
(الثاني) من شروط صحة الوقف: (كونُ الموقوفِ عيناً يصح بيعُها) فلا يصحُّ وقفُ أمِّ ولدٍ، وكلبٍ، ومرهونٍ. (وُينتَفَعُ بها) ما يعد انتفاعاً مباحاً، مع بقاء عينِها، فلا يصحّ وقفُ مطعومٍ ومشروبٍ غيرِ الماءِ، ولا

(2/11)


وقفُ دهنٍ وشمعٍ) لشعل (وأثمانٍ (1) وقناديلِ نقدٍ (2) على المساجِدِ ولا على غيرها) قال في الإِقناع: ولو وقف قنديلَ نقدٍ على مسجدٍ أو نحوِهِ لم يصحّ وقفُه، وهو باق على ملك صاحبِهِ، فيزكّيه.
ولو تصدق بدهنٍ على مسجدٍ ليوقَدَ فيه جاز، وهو من باب الوقف. قاله الشيخ.
(الثالث) من شروط صحة الوقف: (كونُهُ على جهة بِرٍّ) وهو اسم جامعٌ للخير، وأصلُه طاعةُ الله تعالى. والمراد اشتراطُ معنَى القُرْبة في الصَّرْفِ إلى الموقوفِ عليه، لأن الوقف قُرْبَةٌ وصدقة، فلا بد من وجودِهَا فيما لأجله الوقف، إذ هو المقصود (وقربةٍ كالمساكين، والمساجد، والقناطر، والأقارب،) لأنه شُرِعَ لتحصيلِ الثَّواب، فإذا لم يكن على برٍّ لم يحصل (3) المقصود الذي شُرِع من أجله، َ (فلا يصحُّ) الوقف (على الكنائِسِ) جمع كنيسةٍ. قال في القاموس: الكنيسة معبد اليهودِ أو النصارى أو الكُفَّار. انتهى، (ولا على اليهودِ والنصارى، ولا) يصح الوقف أيضاً (على جنسِ الأغنياءِ أو الفسّاق) أو قطّاع الطريق، ولا على التنوير على القبرِ، وتبخيرِهِ، ولا على من يقيم عنده أو يخدمه، أو يزوره. قاله في الرعاية.
(أما لو وقفَ على ذمّيٍّ) معيّنٍ (أو فاسقٍ) معينٍ (أو غنيّ معيّن صحّ).
وإن وقَف على غيره واستثنى غلّته، أو بعضَها، له أو لولده، أو الأكلَ منه، أو الانتفاعَ لنفسه أو لأهله، أو أنه يطعم صديقَهُ مدّةَ حياتِهِ أو مدةً معينةً صح.
__________
(1) فلو وقف ألف دينارٍ يستقرض منها الناس المحتاجون، ويردونها ثم يستقرضها غيرهم وهكذا، لم تخرج عن ملك صاحبها. ويظهر أثر ذلك في وجوب الزكاة فيها.
(2) أي مصنوعة من ذهب أو فضة. وإنما لم يصح وقفها لعدم كون الانتفاع بها مباحاً.
(3) في (ف): "لم يحصل الثواب المقصود".

(2/12)


(الرابع) من شروط صحة الوقف: (كونه على معيّن) من جهة أو شخص (غَيْرَ نفسِه) عند الأكثر، وينصرف إلى من بَعْدَهُ في الحال. وعنه: يصح. قال المنقّح في التنقيح: اختاره جماعة، وعليه العملُ. وهو أظهر، (يصحّ أن يَمْلِكَ فلا يصح الوقفُ على) شيءٍ (مجهولٍ، كرجلٍ،) لصدقه على كل رجلٍ (ومسجدٍ) لصدقه على كل مسجد. قال في الإِنصاف عن كون الوقفِ لا يصح (1) على رجل ومسجد: بلا نزاع. انتهى (أو على) مبهمٍ، كقوله: وقفت داري على (أحد هذين) الرجلين، أو على أحد ابنيّ هذين، أو على أحدِ هذين المسجدين، أو على إحدى هاتين القبيلتين، لتردده، كما لو قال: بعتك أحدَ هذين الثوبينِ، أو وهبتك أحدَهما.
(ولا يصحّ) الوقف (على نفسه، ولا) يصحّ الوقف (على من لا يملك، كالرقيق)، وأم الولد، (ولو) كان الرقيق (مكاتباً).
(ولا) يصحُّ الوقف على (الملائكة، والجن، والبهائم، والأموات).
(ولا) يصح الوقف (على الحمل استقلالاً بل) يصح الوقفُ عليه (تبعاً.)
فإن قيل: قد جوّزتُم الوقفَ على المساجد والسقاياتِ وأشباهِها، وهي لا تملِكُ؟ قلنا: الوقفُ هناك على المسلمين، إلاَّ أنه عُيِّن في نفعٍ خاص لهم.
(الخامس) من شروط صحة الوقف: (كونُ الوقفِ منجزاً) أي غير معلقٍ أو مؤقّتٍ أو مشروطٍ فيه الخيارُ أو نحوه، كأن يبيعَهُ أو يَهَبَهُ أو يحوِّلَهُ عن جِهَتِهِ متى شاء، (فلا يصح تعليقُه) على شرطِ الخيارِ، سواء
__________
(1) (ب، ص): يصح و (ف): "لا يصح" وهو الصواب كما لا يخفى.

(2/13)


كان التعليقُ لابتدائِهِ، كقوله: إذا قدمَ زيدٌ، أو وُلِدَ لي ولد، أو جاءَ رمضانُ، فداري وقف على كذا؛ أو كان التعليقُ لانتهائِهِ، كقوله: داري وقفٌ على كذا إلى أن يحضرَ زيدٌ، أو يولَدَ لي ولد، أو نحو ذلك، (إلاَّ) إن علّق الوقفَ (بموتهِ) بأن قال: هو وقفٌ بعد موتي، فإنه يصحّ، (فيلزم) الوقف (من حين الوقفيّة) أي من حين قوله: هو وقفٌ بعد موتي (إن خَرَج من الثُّلث) أي ثلثِ مالِ الواقفِ، لأنه في حكم الوصيّة. فإن خَرَجَ من الثلث لم يكن لأحدٍ من الورثةِ، ولا من غيرهم، رد شيءٍ منه. وإن زاد على الثُّلُثِ لزم الوقفُ منة في قدرِ الثُّلُثِ، ووُقِفَ الزائِدُ على إجازة الورثة.
(السادس) من شروط صحة الوقف: (أن لا يشرُط فيه)، أي الوقف، (ما) أي شيءٍ (ينافيه) أي الوقف، (كقوله)، أي الواقف: (وقفتُ على كذا) أي هذا الجملَ مثلاً (على أن أبيعَه، أو) على أن (أهَبَهُ متى شئتُ، أو) قال: وقفت هذا الجملَ (بشرطِ الخيارِ لي) مدةً معلومةً أو مجهولةً، (أو) قال: وقفتُ هذا الكرمَ على المساكينِ (بشرطِ أن أحوِّلَهُ) أي الوقف (من جهةٍ إلى جهة) كمِنْ جهةِ المساكينِ إلى جهَةِ أبناءِ السبيل.
(السابع) من شروط صحة الوقف: (أن يقفه على التأبيد، فلا يصحّ: وقفتُهُ شهراً) أو يوماً، أو سنةً (أو إلى سنةٍ أو نحوها) كإلي شهر.
(ولا يُشترط) لصحةِ الوقفِ (تعيينُ الجهةِ) الموقوفِ عليها، (فلو قال: وقفتُ كذا) كداري أو بستاني، (وسكتَ،) ولم يعيّن جهةً (صحّ) الوقفُ (وكانَ) الموقوفُ (لورثَتِهِ) أي الواقف (من النسبِ) يقتسمونه (على قدرِ إرْثِهِمْ مِنْهُ) ويقعُ الحجْبُ بينهم، كالميراث (1).
__________
(1) (ف) ليس فيها " كالميراث".

(2/14)


فصل
(ويلزم الوقفَ بمجرّدِهِ) أي بمجرّد اللفظ، كالعتق.
ولا يُشتَرط للزومِهِ إخراجُه عن يد الواقفِ، ولا فيما على شخصٍ معينٍ قَبَولُه للوقفِ.
ولا يَبْطُلَ بردّه.
(ويملكه) أي يملك غلَّتَهُ (الموقوفُ عليهِ) بمجرد الوقفِ. (فَيَنظُرُ فيهِ هو) أي الموقوفُ عليه إن كان أهلاً للنظر (أو وليُّه) إن كان الموقوفُ عليه صغيراً أو مجنوناً أو سفيهاً (ما لم يشرُط الواقف ناظراً، فيتعيّن) الناظر الذي عيّنه الواقف.
(ويتعيّن صرفه) أي الوقف (إلى الجهةِ التي وُقِفَ عليها في الحال) فلو سبّل ماءً للشُّرب لم يَجُزِ الوضوءُ به. قال الشيخ تقي الدين: يصح تغييرُ شرطِ الواقفِ إلى ما هو أصلَحُ منه، وإن اختلفَ باختلافِ الأزمان، حتى لو وقف على الفقهاءِ والصوفيةِ، واحتاجَ الناسُ إلى الجهاد، يُصْرَفُ للجند. انتهى. (ما لم يستثنِ الواقفُ منفعتَه) أي منفعة ما وقفه (أو غلَّتهُ له أو لولده) أي ولد الواقف، أو لأهلِهِ (أو لصديقِهِ مدةَ حياتِهِ، أو مدةً معلومةٍ، فيعُمَل بذلك.) فلو مات من استثنى نفعَ ما وقَفَهُ مدة معيّنةً في أثنائها، فلورثتِهِ. ويصحّ إجارة المدةِ المستثنى نفعُها من الموقوفِ عليه وغيرِه.
(وحيثُ انقطعتِ الجهةُ والواقفُ حيٌّ بأن وقَفَ على أولادهِ وأولادِ زيدٍ فقط، فانقرضوا في حياته، (رَجَعَ) الوقفُ (إليه) أي إلى الواقِفِ (وَقْفاً) عليه. قال ابن الزاغوني في الواضح: الخلافُ في الرجوع إلى الأقارب، أو إلى بيتِ المال، أو إلى المساكين، مختصٌّ بما إذا مات الواقفُ، أمّا إن كان حيًّا، فانقطعت الجهة، فهل يعود الوقْفُ إلى مِلكِهِ،

(2/15)


أو إلى عصبتِهِ؟ فيه روايتان. انتهى وجزم في المنتهى والإِقناع بما في المتن.
(ومن وقَفَ على الفقراءِ فافتقَرَ، تناوَل منه.) قال في شرح المنتهى: والمراد بقوله: تناوَلَ منه. جوازُ التناوُلِ منه، لا تعيُّنُهُ. ووجهُ ذلك وجودُ الوصفِ الذي هو الفقر فيه.
(ولا يصح عتقُ الرقيق الموقوفِ بحالٍ) لأنه تعلَّقَ به حقّ من يؤولُ الوقفُ إليه، ولأن الوقفَ عِقدٌ لازمٌ لا يمكن إبطاله، وفي القولِ بنفوذِ عتقِهِ إبطالٌ له.
وإن كان بعضُهُ غيرَ موقوفٍ، فأعتقَه مالِكهُ صح فيه، ولم يَسْرِ إلى الموقوفِ، لأنه إذا لم يعتق بالمباشرة، فعدَمُ عتقِهِ بالسرايةِ من باب أولى.
(لكن لو وَطِئَ الأمَةَ الموقوفةَ عليه حَرُمَ) لأن ملكه لها ناقص، ولا يُؤْمَنُ حَبَلُها فتنقص، أو تتلف، أو تخرجُ من الوقف بأن تصير أمّ ولد.
(فإن حملت) منه (صارت أمّ ولد) له (تعتُقُ بموتهِ،) وولدُه حرٌّ، للشبهة، وعليه قيمته تُصْرَفُ في مثلِهِ لأنها بدل عن الوقف. (وتجب قيمتُها في تركتِهِ) لأنه أتلَفَها على من بعده من البطون (يُشترى بها) أي بقيمتها الواجبة باستيلادِهَا، وبقيمةٍ وجَبَتْ بتلفها أو بعضها، (مثلُها) يكون وقفاً مكانَها، أو شقصُ أمةٍ يصير وقفاً بالشراء.

فصل [في مصرف الوقف]
(وُيرْجَعُ) بالبناء للمفعول (في مصرِفِ الوقْفِ) عند التنازُعِ في

(2/16)


شيء من أمره (إلى شرطِ الواقف) كقوله: شرطْتُ لزيدٍ كذا، ولعمرٍو كذا، لأن عُمَرَ رضي الله عنه شَرَط في وقْفِهِ شروطاً (1)، ولو لم يجِب اتباعُ شَرْطِهِ لم يكن في اشتراطِهِ فائدة، ولأن الزبير وَقَفَ على وَلَدِهِ، وجَعَل للمردودةِ من بنأتِهِ أن تسكن، غير مُضِرَّةٍ ولا مُضرًّا بها، فإذا استغنتْ بزوجٍ فلا حقّ لها فيه (2). ولأن الوقفَ متلقًّى من جهته، فاتُّبِعَ شرطُه. ونصُّه كنصّ الشارع.
(فإن جُهِل) شرط الواقفِ كما لو قامت بيّنة بالوقفِ دون شَرطِه (عُمِلَ بالعادةِ الجاريةِ) المستمرّة إن كانت.
(فإن لم تكن) عادةٌ جارية (فبالعُرْفِ) المستمرّ في الوقف، في مقادير الصَّرْف، كفقهاء المدارس لأن الغالب وقوعُ الشرط على وَقْفِهِ.
(فإن لم يكنِ) عرف (فالتساوي بين المستحقّين،) لأن التشريك ثابتٌ، والتفضيلُ لم يثبت.
فإن لم تُعرف أربابُ الوقفِ جُعِل كوقفٍ مطلقٍ لم يذكر مصرِفُه. ذكره في التلخيصِ.
(وُيرجَعُ إلى شرطِه) أي الواقف (في الترتيب بين البطون) كجعل استحقاقِ بطنٍ مرتَّباً على الآخر كأن يقفَ على أولاده ثم أولادِهم، (أو الاشتراك) كأن يقف على أولاده وأولادهم.
(و) يُرْجَعُ إلى شرطه (في إيجارِ الوقفِ وعدمه،) أي عدم الإِيجار، (وفي قدر مدة الإِيجارِ، فلا يزادُ) في الإِجارة (على ما قدّر) الواقف، فإذا شرط أن لا يؤجر أكثر من سنةٍ لم تَجُزِ الزيادة عليها، لكن عند الضرورة يُزَادُ بحسبها.
__________
(1) قصة وقف عمر - رضي الله عنه - رواها الشيخان وقد تقدمت بنصّها قريباً.
(2) في الأصول "أن ابن الزبير" والتصويب من كتب الحديث. والقصة المذكورة صحيحة أخرجها البيهقي والدارمي وأخرجه البخاري تعليقاً (الإِرواء ح 1596).

(2/17)


(ونصُّ الواقف كنص الشارع، يجبُ العملُ بجميعِ ما شَرَطَه ما لم يُفْضِ) العمل بشرطِهِ (إلى الإِخلال بالمقصود) الشرعي، (فَيُعْمَل به) أي بشرطِهِ (فيما إذا شَرَط أن لا ينزلَ في الوقفِ فاسقٌ) ولا مبتدعٌ، (ولا شرّيرٌ). قال الشيخ: الجهاتُ الدينيّة مثل الخوانك (1) والمدارِسِ وغيرها لا يجوز أن ينزل فيها فاسقٌ، سواء كان فسقُهُ بظلمِهِ الخلقَ وتعدّيه عليهم، بقولهِ وفعلِهِ من نحو سبٍّ أو ضربٍ، أو كان فسقُهُ بتعدّيه حدودَ الله تعالى، يعني ولو لم يَشرطه الواقفَ، وهو صحيح. قاله في الإِقناع وشرحه، (ولا ذو جاهٍ).
(وإن خصّصَ) الواقفُ (مقبرةً) أو رباطاً (أو مدرسةً: أو إمامتَها بأهل مذهبٍ، أو) بأهلِ (بلدٍ، أو) بأهل (2) (قبيلةٍ، تخصّصتْ) بهم. قال في الإِنصاف: ولو خصص المدرسة بأهل مذهبٍ أو قبيلةٍ تخصصت. وكذلك الرّباط والخانْكَاهُ.
والمقبرة كذلك.
وهو المذهب. جَزَمَ به في التلخيص وغيره.
(لا المصلين بها) يعني لو خصص واقفُ المَدرسةِ المصلين بها بذي مذهبٍ، بأن قال: ليصليَ فيهِ الحنابلةُ أو الحنفية أو المالكيةُ أو الشافعيةُ فقَط، لم تختص بأهلِ ذلك المذهب على الصحيح.
(ولا) يُعْمَلُ بشرطه (إن شَرَط عدم استحقاق من ارتَكَبَ طريق الصلاح.) قال الشيخ: إذا اشتَرَطَ استحقاق رَيْعِ الوقف للعُزُوبَة فالمتأهِّل أحقًّ من المتعزِّب إذا استويا في سائر الصفات. وقال: إذا وقف على الفقراءِ فأقاربُ الواقِفِ الفقراءُ أحَقُّ من الفقراءِ الأجانب مع
__________
(1) الخوانك جمع خانكاهْ، ويقال أيضاً: خانقاهْ. وهو مجتمع المتصوفة.
(2) لا يقال "أهل قبيلة كذا" فكان ينبغي أن لا يزيدها على المتن.

(2/18)


التساوي في الحاجة، وإذا قُدِّر وجودُ فقيرٍ مضطرٍّ كان دفع ضرورته واجباً. وإذا لم تندفع ضرورتُه إلا بتشقيصِ كفايةِ أقارب الواقفِ من غير ضرورةٍ تَحْصُل لهم تعيَّنَ ذلك.

فصل [في ناظر الوقف]
(وُيرْجَعُ) بالبناء للمفعولِ (إلى شرطِهِ) أي الواقف (في الناظر) (1) في الوقف، سواء شَرَطَهُ لنفسه، أو للموقوفِ عليه، أو لغيرهما، إمّا بالتعيينِ، كَفُلانٍ، أو بالوصف، كالأرْشَد أو الأعلم أو الأكبر.
فمن وُجِدَ فيه الشرْطُ ثبت له النظر، عملاً بالشرط.
(ويشترط في الناظر خمسةُ أشياءَ):
الأول: (الإِسلام) قَطَع في الإِنصاف والتنقيح باشتراط الإِسلام في الناظر، من غير تفصيلٍ فيه (2). قال في المغني: ومتى كان النَّظَر للموقوفِ عليه، إما بِجَعْلِ الواقِفِ ذلك له، أو لكونهِ أحقَّ بذلك، رجلاً كان أو امرأة، عدلاً كانَ أو فاسقاً، لأنه ينظُرُ لنفسه، فكان له ذلك في هذه الأحوال، كالمُطْلَق (3). انتهى. وجَزَمَ في المنتهى بما في المتن ولم يقيد.
__________
(1) في الأصول كلها والمتن المطبوع مفرداً: "ويرجع في شرطه إلى الناظر" والتصويب من شرح المنتهى ففي العبارة في الأصل انقلاب واضح. وهو انقلاب في المتن، فكان على الشارح التنبيه إليه.
(2) فصل في الإِقناع فقال "إن كان الموقوف عليه مسلماً أو كان للجهة كمسجدٍ. فإن كان الوقف على كافرٍ معين جاز شرط النظر فيه لكافِرٍ" وصاحب المنتهى وإن إطلق، فإن شارحه قيّد مطلقه.
(3) في (ف): "كالطلاق" وهو خطأ ولعل الناسخ لها ظنها "المطلق" فكتبها بالمعنى. والمراد بالملك المُطْلَق ما عدا الموقوف. ويجوز أن يقال في مقابل الوقف "الطِّلْق".

(2/19)


(و) الثاني: (التكليف) لأن غير المكلف لا ينظر في ملكِهِ المُطْلَق (1)، ففي الوقف أولى.
فإن لم يشترِطِ الواقفُ ناظراً، وكان الموقوفُ عليه صغيراً أو مجنوناً قام وليُّه في المالِ مقامَهُ في النظر، إلى أن يصير أهلاً.
(و) الثالث: (الكفايةُ لِلتَصرفِ).
(و) الرابع: (الخِبْرَةُ به) أي بالتصرف.
(و) الخامس: (القوة عليه،) لأن مراعاةَ حِفْظِ الوقفِ مطلوبةٌ شرعاً. فإن لم يكن الناظر متَّصِفاً بهذه الصفات لم يمكنه مراعاةُ حفظِ الوقف.
(فإن كان) الناظرُ المشروطُ له النظرُ من الواقِفِ، أو ممن وقف عليه الوقفُ (ضعيفاً ضُمَّ إليه قويٌ أمين) يَنْحَفِظُ به الوقفُ، ولم تُزَلْ يده، لأنه أمكن الجمع بين الحقّين.
(ولا تشترط الذُّكورةُ ولا العدالة) في الناظِرِ (حيث كانَ) النظرُ (بِجَعْلِ الواقِفِ له).
(فإن كانَ) نصْبُ الناظِرِ (من غيرِهِ) أي غير الواقف (فلا بدّ فيه من العدالة).
(فإن لم يشترط الواقف ناظراً فالنظر للموقوفِ عليه مطلقاً) أي سواء كان عدلاً أو فاسقاً (حيثُ كان) آدمياً معيناً كزيدٍ أو جمعاً (محصوراً) كأولادهِ، وأولادِ أولادهِ، كلُّ واحدٍ منهم ينظرُ على حِصته، كالملْكِ المُطْلَق.
(وإلا) بأن كان الموقوفُ عليهِ غيرَ محصورٍ، كالوقفِ على جهةٍ لا
__________
(1) في (ف): "كالطلاق"

(2/20)


تنحصر، كالفقراء، والمساكين، والعلماء، والقُرَّاءِ، أو على مسجدٍ، أو مدرسةٍ، أو رِباطٍ، أو قنطرة، ونحو ذلك (فـ) نَظَرهُ (للحاكمِ) أو نائبه (1).
(ولا نَظَرَ لحاكمٍ مع ناظرٍ خاصٍّ) قال في الفروع: ولا نَظَرَ لغيرِهِ معه. أطْلَقَهُ الأصحاب، (لكنْ له) أي للحاكم (أن يَعْتَرِضَ عليه) أي على الناظر الخاصّ (إن فَعَلَ ما لا يَسُوغُ) فِعْلُه، أي لا يجوز.
وله ضَمُّ أمينٍ مع تفريطِهِ، أو تُهْمَتِهِ، ليحصل المقصود.
ولا اعتراضَ لأهْلِ الوَقْفِ على ناظرٍ أمينٍ.

[تصرفات ناظر الوقف]
(ووظيفة الناظِرِ حفظ الوقْفِ، وعمارَتُهُ، وإيجارُه، وزَرْعُهُ، والمخاصَمَة فيهِ، وتحصيلُ رَيْعِهِ) من أجرةٍ أو زرعٍ أو ثمرٍ، (والاجتهادُ في تنميته، وصَرْفُ الرَّيْعِ في جهاتِهِ من عمارةٍ وإصلاحٍ وإعطاءِ المستحقّين) وشراءِ طعامٍ أو شرابٍ شَرَطَه الواقِف، لأنّ الناظرَ هو الذي يلي الوقفَ وحفظَه وحفظَ رَيْعِهِ وتنفيذَ شرطِ واقِفِه.
(وإن آجَرَهُ) أي آجر الناظرُ الوقفَ (بأنقصَ) من أجرةِ المثلِ (صحّ) العقد (وضَمِنَ النَّقْصَ) إن كان المستحق غيرَهُ، لأنه متصرِّفٌ في مالِ غيرِهِ على وجهِ الحفظِ، فضَمِنَ ما نَقَصَه بعقدِهِ، كالوكيلِ إذا آجَرَ بأنْقَصَ من أجرةِ المثل، أو باعَ بدونِ ثمنِ المثلِ.
ولا بدّ في النقص المضمونِ أن يكون أكثر مما لا يُتغابَنُ (2) به في العادة، كما قيل في الوكيل.
(وله) أي لناظرِ الوقفِ (الأكلُ بمعروفٍ) نصًّا.
__________
(1) في (ف): "أو من يستنيبه الحاكم".
(2) صوابه "أكثر مما يتغابن" أي بإسقاط لا (عبد الغني).

(2/21)


وظاهرُهُ (ولو لم يكن محتاجاً) قاله في "القواعد". وقال الشيخ: له أخذُ أجرةِ عملِهِ مع فقرِهِ.
(وله) أي الناظر (التقريرُ في وظائِفِهِ) ذكروه في ناظِرِ المسجد. فيُنَصِّبُ من يقوم بوظائِفِه من إمامٍ ومؤذّنٍ وقيِّمٍ، وغيرهم.

[الوظائف الموقوف عليها]
(ومن قُرِّرَ) بالبناء للمفعول (في وظيفةٍ تقريراً على وَفْقِ الشرعِ حَرُمَ) على الناظِرِ وغيرِهِ (إخراجُهُ منها بلا مُوجِبِ شرعيٍّ) يقتضي ذلك.
فائدة: لو تصادقَ المستحقّونَ لوقفٍ علىَ شيءٍ من مصارِفِهِ ومقاديرِ استحقاقِهِمْ فيه ونحوِ ذلك، ثم ظَهَرَ كتابُ وقفٍ منافٍ لما وَقَعَ التصادق عليه، عُمِلَ بما في كتابِ الوقفِ ولَغَا التصادُقُ. أفتى بذلك ابن رجب.
(ومن نَزَلَ عن وظيفةٍ بيدِهِ لمن هو أهلٌ لها) أي للوظيفة (صح) النزولُ، (وكانَ) المنزولُ له (أحقَّ بها) من غيرِهِ (1). (وما يأخُذهُ الفقهاءُ من الوقف فكالرِّزقِ من بيت المال، لا كَجُعْلٍ ولا كأجْرَةٍ) في أصحّ الأقوال الثلاثة. ولذلك لا يشترط العلمُ بالقَدْر.
وينبني على هذا أن القائلَ بالمنعِ من أخذِ الأُجرةِ على نوعِ القُرَب لا يُمنَعُ من أخذ المشروطِ في الوقف. قاله الحارثي في الناظر. وقال الشيخ تقيّ الدين: وما يؤخذ من بيت المال فليس عوضاً وأجرةً، بل رِزْقٌ للإعانة على الطاعة. وكذلك المالُ الموقوفُ على أعمالِ البرّ، والموصى به، أو المنذورُ له ليس كالأُجرةِ والجُعْلِ -انتهى. قاله في شرحي الإِقناع والمنتهى. قلت: وعلى الأقوال الثلاثةِ، حيثُ كان
__________
(1) وقال الشيخ: بل لا يتعيَّن المنزول له، ويُوَلّي من له الولاية من يستحقها شرعاً (عبد الغني).

(2/22)


الاستحقاقُ بشرطٍ فلا بدّ من وجودهِ انتهى. يعني إذا لم يكن الوقفُ من بيتِ المال، فإن كان منه، كأوقافِ السَّلاطينِ من بيتِ المال فليس بوقفٍ حقيقيٍّ، بل كلُّ من جازَ لَهُ الأكلُ من بيتِ المالِ جازَ لَهُ الأكل منها، كما أفتى به صاحب المنتهى موافقةً للشيخ الرمليِّ وغيرِهِ في وقفِ جامِعِ [ابن] طولون ونحوه. انتهى.

فصل [في ألفاظ الواقف في الموقوف عليهم]
(ومن وَقَفَ على وَلَدِهِ) ثم المساكِين، (أو) وَقَفَ على (ولد غيرِه) كعلى وَلَدِ زيدٍ ثم المساكين، دخل الأولادُ (الموجودون) حالةَ الوقفِ (فَقَطْ) نصَّا (1)، (من ذكورٍ وإناثٍ) وخُنَاثى، لأنّ اللفظ شملهم (بالسويّة من غير تفضيلٍ) لأنه شرَّك بينهم، وإطلاق التشريك يقتضي التسوية، كما لو أقرَّ لهم بشيءٍ، وكولد الأمِّ في الميراث (2) (ودخل أولادُ الذُّكور خاصّةً) وُجِدُوا حالة الوقف أوْ لا.
(وإن قال): وقفت (على أولادي، دخل أولاده الموجودون) حال الوقف، (ومن يُوَلَد لهم)، أي لأولاده الموجودين، (لا) أولادُهُ (الحادِثون تبعاً) (3).
(و) لو قال: وقفت (على ولدي ومن يُولَد لي، دخلِ) أولادُهُ
__________
(1) وجزم في الإقناع بدخول من حدث من أولاده. اختاره ابن أبي موسى وغيره، ولأنه إذا دخل أولاد الموجودين، فأولاد الموقوف عليه أولى (شرح المنتهى).
(2) أي فإن الآية (فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث) شركت بينهم فسوّينا بينهم للذكر مثل حظ الأنثى.
(3) هذه المسألة هي عين المسألة السابقة، لا فرق بينهما، وقد سوّى الشّراح بين قول الواقف (على ولدي) وقوله (على أولادي). والتكرار في المتن، فكان على الشارح التنبيه إليه. وقوله "تبعاً" هنا لا موقع له. وليس هو في نسخة المتن المطبوع مفرداً.

(2/23)


(الموجودون و) أولادُه (الحادِثِونَ تبعاً) للموجودين.
(ومن وقف) شيئاً. على عَقِبِهِ، أو) وقفه على (نَسْلِهِ، أو) وقف على (وَلَدِ ولدِهِ، أو) وقف على (ذُرِّيَّتِهِ دخل الذكور والإِناث) من أولاده، (لا أولادُ الإِناث (1)، إلا بقرينةٍ،). كما لو قال: ومن ماتَ فنصيبُه لولَدِه، وكقوله: على أنّ لولَد البنات سهماً، ولولد الذُّكورِ سَهْمَانِ.
وعدم دخول ولد البنات في الصور المتقدّمة مع عدم القرينة. اختاره الأكثر. نقله في الفروع.
(ومن وقف) شيئاً (على بنيه، أو على بني فلان، فللذكور خاصّةً) لأن لفظ البنين وضع لذلك حقيقةً، لقوله تعالى: {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}.
ولا يدخل فيه الخُنْثَى لأنه لا يُعلم كونه ذَكَراً. وعلى هذا لو وقف على بناتِهِ اختصّ بهنّ، ولم يدخل فيه الذكورُ ولا الخناثى، لأنه لا يُعْلم كونهنّ إناثاً. ويصح على ولده ومن يولد له.
(ويكره هنا) أي في الوقف (أن يفضّل بعضَ أولاده على بعضٍ لغير سببٍ) شرعيّ، لأنه يؤدّي إلى التقاطع.
(والسنة أن لا يزادَ ذَكَرٌ على أنثى.) واختار الموفق، وتبعه في الشرح والمبدِعِ وغيرِهِ: يستحب أن يقسمه بينهم للذكر مثلُ حظّ الأنثَيَيْنِ على حسب قسمة الله تعالى الميراثَ، كالعطية. والذكر في مظنّة الحاجةِ غالباً بوجوب حقوقٍ تترتّبُ عليه، بخلاف الأنثى. (فإن كان لبعضهم) أي لبعضِ أولَادِهِ (عيالٌ أو بِهِ حاجَةٌ) كمسكنة (أو [كان] عاجزاً (2) عن التكسّب) كأعمى ونحوه، (أو خصّ) أو فضّل (المشتغلين
__________
(1) ومن هنا كانت هذه وسيلة لحرمان أولاد الإِناث، إذ لو أُبقي المال ميراثاً لحصل لهم نصيب أمهاتهم غالباً. ولأجل ذلك كتب بعض القضاة في عصرنا الحاضر في رد هذا النوع من الوقف الأهلي لما رآه فيه من الحيف.
(2) في الأصول: "أو عاجزٌ" ولا يستقيم لغة، فصوبناه بإضافة ما بين المعقوفين.

(2/24)


بالعلم، أو خَصّ) أو فضّل (ذا الدينِ والصّلاحِ) دون الفسّاق، (فلا بأسَ بذلك.) (1) نص عليه. لأنه لِغَرَضٍ مقصودٍ شرعاً.

فصل [في نقض الوقف]
(والوقف عقدٌ لازم) بمجرّدِ القول، لأنه تبرّعٌ، يمنعُ البيعَ والهبةَ، فلزم بمجرَّدهِ، كالعتق. قال في التلخيص وغيره: وحكمه اللزوم في الحال، أخرجَه مُخْرَجَ الوصية أو لم يخرجه، حَكَم به حاكِمٌ أوْ لا، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يُبَاعُ أصْلُها، ولا يُوهَبُ، ولا يورث" (2) (لا يفسخ بإقالةٍ ولا غيرِها) لأنه عقدٌ يقتضي التأبيد، فكان من شأنه ذلك، (ولا يُوهَب، ولا يُرْهَنُ، ولا يُورَث، ولا يباع) أي يَحْرُم بيعه، ولا يصحّ. وكذا المُنَاقَلَةُ به (إلا أن تتعطّل منافعه) المقصودة منه (بخرابٍ أو غيرِهِ) بحيث لا يَرُدُّ شيئاً، أو يردّ شيئاً لا يُعَدُّ نفعاً، (ولم يوجد ما يُعمَّر به) بأن لا يكون في الوقف ما يعمّر به ذلك، (فيباغ.) قال في المغني: وإذا لم تتعطّل منافع الوقف بالكليّة لكن قَلَّتْ، وكان غيرُهُ أنْفَعَ منه وأكثر رداً على أهلِ الوَقْفِ لم يَجُزْ بيعُه، لأن الأصل تحريم البيع، وإنما أبيح للضرورة، صيانةً لمقصودِ الوقف. انتهى.
(وُيصْرَفُ ثمنه في مثلِهِ، أو بعضِ مثلِه).
ويصحُّ بيع بعضِهِ لإِصلاح باقيه.
__________
(1) التفضيل لغرض مشروع رجحه صاحب المغني على الوجه الآخر، وهو عدم جواز التفضيل. وأعرض صاحب المنتهى وشارحه، فأطلقا وجوب التسوية، فلم يذكرا التفضيل أصلاً.
(2) حديث "لا يباع أصلها .. " تقدم في أول باب الوقف في حديث وقف عمر رضي الله عنه. وهو متفق عليه.

(2/25)


(وبمجرّدِ شراءِ البَدَلِ) أي بَدَلِ ما بيع من الوقف (يصير) البدلُ (وقفاً) كبدل أضحية، ورهنٍ أُتْلِفَ.
والاحتياط وَقْفُه لئلا ينقُضَه بعد ذلك من لا يرى وقفيّتَهُ بمجرّد الشراء.
ويبيعُهُ حاكم إن كان على سبيلِ الخيرات، وإلا فناظِرُهُ الخاصّ.
والأحوط إذن حاكمٍ له.
(وكذا) في الحكم المذكور (حُكْمُ المسْجدِ لو ضاق على أهله) المصلّين به، وتعذّر توسيعه، (أو خَرِبَتْ مَحِلَّتُهُ) أي الناحية التي بها المسجد (أو استقذَرَ موضعُهُ.)
ويصح بيع شجرة يَبِسَتْ، وجذعٍ انكسر، أو بَلِيَ، أو خيف الكسر أو الهدم.
(ويجوز نقل آلَتِهِ) أي المسجد الذي يجوز بيعه لخرابِه، أو خراب محلته، أو استقذار محلِّهِ، (و) نقلُ (حجارته لمسجدٍ آخر احتاجَ إليهاَ) واحتج الإِمام بأن ابن مسعودٍ رضي الله عنه قد حوّل مَسْجِدَ الجامِعِ من التَّمارِينَ أي بالكوفة.
(وذلك) أي نقل آلته ونقضه إلى مثله (أولى من بيعه) لبقاءِ الانتفاع من غير خَلَلٍ فيه. قال في شرح الإقناع: وعُلِمَ من قوله: "إلى مثله" أي آخر، أنّه لا يعمَّر بآلاتِ المسجِدِ مدرسةٌ، ولا رباطٌ، ولا بئرٌ، ولا حوضٌ، ولا قنطَرَةٌ. وكذا آلاتُ كل واحدٍ من هذه الأمكنة لا يعمّر بها ما عداه، لأن جَعْلَهَا في مثل العين ممكن، فتعيَّنَ، لما تقدم. قاله الحارثي.
(ويجوز نقض منارة المسجد، وجعلها في حائِطِهِ لتحصينه.) نصّ عليه في رواية محمد بن الحكم.

(2/26)


ويجوز اختصار (1) آنيةٍ موقوفةٍ وإنفاقُ الفَضْلِ على الإِصلاح.
(ومن وقف) شيئاً (على ثغرٍ فاختلّ) الثغر الموقوف عليه (صُرِفَ) ما كان يصرف له (في ثغرٍ مثلِهِ.) قال في الفروع: ذكره الشيخ انتهى. قال في التنقيح: (وعلى قياسه) أي قياسِ الثَّغْرِ (مسجدٌ ورباطٌ ونحوهما) كسقايةٍ، ونصَّ فيمن وقف على قنطرةٍ، فانحرف الماء: يُرْصَدُ، لعلّه يرجع.
(ويحرم حفر البئر) بالمساجد، (وغَرْسُ الشجر بالمساجد.) قال في الإِنصاف: هذا المذهب. انتهى.
فإن فَعَلَ طُمَّتْ وقُلِعَتْ، فإن لم تُقْلع فثمرتها لمساكينه.
(ولعلّ هذا) أي تحريم حفر البئر بالمسجد (حيث لم يكن فيه) أي الحفر (مصلحة). قال في الإِقناع: ويتوجّه جوَاز حفر بئرٍ إن كان فيه مصلحة، ولم يحصل به ضيق. قال في الرعاية: لم يكره أحمد حفْرَهَا فيه.
__________
(1) كذا في الأصول وشرح المنتهى. ولم يتضح لي المراد باختصار الآنية.

(2/27)