نَيْلُ المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب

باب الهِبَة
(وهي) شرعاً (التبرّع) بالمالِ المعلومِ أو المجهولِ الذي تعذّر علمُه، بشرط أن يكونَ المال موجوداً مقدوراً على تسليمه (في حال الحياةِ) بلا عوضٍ. فمن قَصَدَ بإعطائِهِ ثوابَ الآخِرَةِ فقط، فصدَقةٌ؛ أو إكراماً أو تودّداً ونحوَهُ، فهديةٌ؛ وإلاّ فهبة وعطيّة ونِحْلَةٌ.
ويعمُّ جميعَها لفظُ العطيّة.
(وهي) أي الهبة (مستحبّة) إذا قَصَد بها وجهَ الله تعالى، كالهِبَةِ لِلعلماءِ والفقراءِ والصالحينَ وما قَصَد به صلةَ الرّحم، لا مباهاةً ورياءً وسمعةً فَتُكره، (منعقدةٌ بكلِّ قولٍ) يدلّ على الهبة (أو فعلٍ يدلّ عليها) وقبضُها كبيعٍ. ولا يصح القبض إلا بإذن واهب.
(وشروطها ثمانية):
الأول: (كونها من جائزِ التصرف) وهو الحرّ المكلّف الرشيد.
(و) الثاني: (كونه مختاراً)، فلا تصح من مكرهٍ، (غيرِ هازِلٍ) فلا تصح منه.
(و) الثالث: (كون الموهوب يصحّ بيعُه) قال الفتوحي وعلم من هذا أن كل ما لا يصحُّ بيعُه لاَ تصحّ هبته، وهو المذهب. واختاره القاضي. وقدّمه في الفروع.

(2/28)


(و) الرابع: (كون الموهوبِ له يصحّ تملكه).
(و) الخامس: (كونه يَقْبَل ما وُهِبَ له بقولٍ أو فعلٍ يدل عليه، قبل تشاغُلِهما بما يقطع البيع عرفاً).
(و) السادس: (كون الهبة منجَّزةً) فلا تصح موَقَّتةً (1)، كقوله: وهبتُك هذا شهراً، أو سنةً، أو نحو ذلك، لأنه تعليقٌ لانتهاءِ الهبة، فلا تصحّ معه كالبيع.
(و) السابع: (كونها) أي الهبة (غير مؤقّتة) بل لا بد من تنجينرها.
(لكن لو وقتت بعمر أحدهما) أي الواهب أو الموهوب له، كأَعْمَرْتُكَ هذه الدارَ، أو الفرَسَ، أو الأَمَةَ، أي جَعلتها لك عُمْرَكَ، أو حياتَكَ، أو عمري، أو حياتي، أو ما بقيتُ، أو أعطيتُكها (2) (لزمت) أي الهبة (ولغا التوقيت.) وتكون لمعطًى له ولورثته من بعده إن كانوا كتصريحه (3)، وإلا فلبيت المال.
(و) الثامن: (كونها) أي الهبة (بغير عوض).
__________
(1) قوله: فلا تصحُّ مؤقتةُ: مقتضى سابقِهِ ولاحقِهِ أن يُقال "فلا تصح معلقةً، كوهبتك كذا إذا هلّ الهلال. وحرر الحكم. اهـ. (مصحح الطبعة البولاقية).
(2) أي أعطيتها لك عمرك أو عمري .. الخ.
وفي الحديث النبوي تسمية هذا النوع من الهبة "العُمْرى". ومنها نوع يسمَّى "الرُّقبي" وهو أن يقول الواهب "هي لك فإن متَّ قبلي رجعتْ إليّ، وإن متُّ قبلك فهي لك". وسميت الرقبى لأن كلّ منهما يرقب موت صاحبه. ليَستقرّ ملكها له. وقد تسمى المراقبة. قال في (كـ): يبطل شرط رجوعها إلى الواهب لأن الموهوب له إذا مَلَكَ العين لم ينتقل عنه بالشرط ولأنه شرط شرطاً ينافي مقتضى العقد، فصحّ العقد وبطل الشرط، كشرطه في البيع أن لا يبيع. اهـ.
ونص الحديث المشار إليه أول هذا التعليق "امسكوا عليكم أموالكم ولا تفسدوها، فإنه من أعْمَرَ عُمْرى فهي للّذي أُعْمِرَها حيًّا وميتاً ولعقبه" رواه أحمد ومسلم.
(3) عبارة "كتصريحه" ساقطة من (ب، ص)، وثابتة في (ف) والمنتهى. قال في شرح المنتهى: أي المُعْمِر بأن العمرى بعد موتِ معْمَرٍ لورثته سواء كانت عقاراً أو حيواناً. أو غيرهما - اهـ.

(2/29)


(فإن كانت) الهبةُ (بعوضٍ معلومٍ فبيعٌ) لأنه تمليكٌ بعوضٍ معلومٍ أشْبَهَ البيع (1)، وشاركَهُ في الحكم، فيثبت فيها الخيارُ والشفعة.
(و) إن كانت (بعوضٍ مجهولٍ فباطلة) لأنه عوض مجهول في معاوضةٍ فلم يصح العقد معه، كالبيع.
وحكمها حينئذ حكم البيع الفاسد، فيردّها الموهوبُ له بزيادتها مطلقاً، لأنها نماءُ ملكِ الواهبِ، وإن كانتْ تالفةً ردّ قيمتها.
وإن اختلفا في شرطِ عوضٍ فقولُ منكِرٍ بيمينه.
(ومن أهدى ليُهدى له أكثرُ، فلا بأسَ) به لغير النبي - صلى الله عليه وسلم - (2).
(ويكره ردّ الهبة وإن قلَّتْ) أي كانت قليلة (بل السنّة أن يكافِئَ) المهدي له (أو يدعو له).
(وإن علم) من أَتَتْهُ الهديةُ (أنه) أي المهدي إنما (أهدى له حياءً وجبَ الردُّ) أي ردُّ الهدية إليه. نَقَل هذه المسألة ابنُ مفلحٍ في "الآداب" عن ابن الجوزي.

فصل
(وتُمْلَك الهبة بـ) مجرَّد العقد، وهو الإِيجاب والقبول، فيصح تصرفٌ قبل القبض (3).
(وتلزَمُ بالقبض) يعني أن الهبة لا تلزَمُ بدونِ قبضٍ بإذنِ واهبٍ، (بشرط أن يكونَ القبضُ بإذن الواهب) فيه، لأنه قبضٌ غيرُ مستحَقٍّ على
__________
(1) عبارة الشارح "أشبه البيع" فيها نظر، إذ قد حكم بأنها بيعٌ، فكيف يقول بعد: أشبه البيع.
(2) أما هو فلا، لقول الله تعالى {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} ولما فيه من الحرص (ش المنتهى).
(3) قال في شرح المنتهى (2/ 519): على المذهب، وفيه نظر، إذ المبيعُ بخيارٍ لا يصح التصرف فيه زمنه، فها هنا أولى، ولعدم تمام الملك.

(2/30)


الواهِبِ، فلم يصحّ بغير إذنه، كأصلِ العقد، وكالرّهن. وهذا على المذهب وهو أنّ الهبة لا تلزم إلا بالقبض.
(فقبض ما وُهِبَ بكيلٍ أو وزنٍ أو عَدٍّ أو ذرْعٍ بذلك. وقبضُ الصُّبْرَةِ وما يُنقَل بالنقل) كالخَشَب والأحْجَارِ. (وقبض ما يتناول بالتناول. وقبض غيرِ ذلك) كالدور والدكاكيَن (بالتَّخْلِية).
(ويَقْبَلُ ويقْبِضُ لصغيرٍ ومجنونٍ) وُهِبَ لهما شيء (وليهما)، لأنه قبولٌ لمال المحجور عليه، فيه حظّ، فكان إلى الوليّ، كالبيع والشراء. والوليُّ الأبُ، أو وصيُّه، أو الحاكم، أو أمينُهُ.
وعند عدم الأوْلياءِ يقبِضُ له من يليه، من أمٍّ وقريبٍ وغيرِهما. نصًّا. قاله في الإِقناع. لكن يصحّ من الصغيرِ والمجنونِ قبضُ المأكول الذي يُدْفَعُ مثلُه للصغير.
(ويصحّ أن يهبَ) الإنسان (شيئاً) من دارٍ أو عبد ونحوهما، (ويستثنيَ نفعَهُ مدة معلومةً) كالبيع والعتق.
(و) يصح (إن يَهَبَ) أمةً (حاملاً ويستثنيَ حملَها) كالعتق.
(وإن وهبَهُ وشَرَط الرجوعَ متى شاءَ لزمت) الهبة (ولغا الشرط).
(وإن وهبَ ديْنَهُ لمدينهِ) صحّ، (أو أبْرَأهُ منه) صحّ؛ (أو تَرَكَهُ له،) أو أحلَّهُ منه، أو أسْقَطَهُ عنه، أو ملَّكَهُ له، أو تصدَّقَ بهِ عليه، أو عفا عنه (صحّ، ولزم بمجرَّده،) وبرئتْ ذمَّتُه، (ولو قبْل حُلولهِ) أي الدين، لأنّ تأجيلَهُ لا يمنع ثبوتَهُ في الذِّمَّة.

[الإِبراء]
(وتصح البَرَاءَةُ) من الحقّ (ولو) كان الحقُّ (مجهولاً) لهما، أو لأحدهما، وسواء جَهِلَا قدرَهُ، أو صفتَهُ، أو هَمُا، ولو لم يتعذّر علمه. لكن لو جهِلَهُ ربُّه، وعَلِمَهُ من عليه الحقّ وكتَمه خوفاً من أنه لو أعلمه لم

(2/31)


يبرئْهُ، لم يصح إبراؤُه. قاله في الإِقناع.
(ولا تصحّ هبة الدين لغير من هو) أي الدين (عليه) لأن الهبة تقتضي وجودَ معيَّنٍ، وهو منتفٍ هنا (إلا إن كان ضامناً) فإنها تصحّ.

فصل [في الرجوع في الهبة]
(ولكل واهبٍ) أباً كانَ أو غيرَه (أن يرجع في هبتِهِ قبل إقباضها) لأن عقد الهبةِ لمَ يتمّ، فلا يدخُلُ تحت المنع، قال الحارثي: وعتقُ الموهوبِ وبيعُه وهِبَتُه قبل القبض رجوع، لحصول المنافاة (مع الكراهة) خروجاً من خلاف من قال أنّ الهبة تلزم بالعقد.
(ولا يصح الرجوع) للأب فيما وهبه لابنه (إلاَّ بالقول) كأن يقول: قد رَجَعْتُ في هبتي، أو: ارتجعتُها، أو رددتُها.
(وبعد إقْباضِها يحرم) الرجوعُ، (ولا يصحّ)، لأنها صارت لازمةً، فتصرُّف الواهِب فيها بعده تصرُّفٌ في ملك الغير بغير مسوِّغ شرعيّ، (ما لم يكن) الواهبَ (أباً فإنَّ له أن يرجع) فيما وَهَبَهُ لابنه (بشروط أربعة):
الشرط الأول: (أن لا يُسْقِطَ) أي الأب (حقَّه من الرجوع) فإن أسقطه سقط.
(و) الثاني: (إن لا تزيد زيادةً متّصلة) بالعين الموهوبة، كالسِّمَنِ، والكِبَرِ، والحَمْلِ، وتعلُّم الصنْعَةِ.
(و) الثالث: (أن تكون) العين الموهوبة (باقيةً في ملكه،) فإن تلفت فلا رجوع في قيمتها.
وإن استَوْلَدَ الأمة، أو كانَ وَهَبَها له للاستِعْفَافِ لم يملك الرجوع.

(2/32)


(و) الرابع: (أن لا يرهنها) الابنُ فإن رهنها فلا رجوع لأبيه، لتعلُّق حقٍّ المرتهن.
وكذلك إذا أفلسَ الابنُ فلا رجوعَ للأب، لتعلُّق حق الغرماء بالعين.
(وللأب الحرّ أن يتملَّك من مال ولده ما شاء)، مع حاجة الأب وعدمها، في صِغَرِ الوَلَدِ وكِبَرِهِ، وسُخْطِهِ ورضاه، وبِعِلْمِهِ وبغيرِه، دون أُمٍّ وَجَدٍّ، وغيرِهما، (بشروطٍ خمسة).
الأول: (أن لا يضرَّه) بأن يكونَ فاضلاً عن حاجةِ الوَلَدِ، فليسَ له أن يتملَّك سُريَّتَهُ وإن لم تكن أمَّ ولدٍ، ولا آلةَ حِرْفةٍ يكتَسِبُ بها، ورأسَ مالِ تجارةٍ.
(و) الثاني: (أن لا يكون) التملك (في مرضِ موت أحدِهما) أي الأب أو الولد، لأنه بالمرض قد إنعقد السبب القاطِعُ للتملُّك.
(و) الثالث: (أن لا يعطيه) أي الأب (لولدٍ آخر) فلا يتملك من مال ولده زيدٍ ليعطيه لولده عمرٍو.
(و) الرابع: (أن يكون التملك بالقبضِ) لما يتملَّكُه (مع القولِ) أي قوله تملكْتُهُ أو نحوه (أو النيَّة) لأن القبض أعمُّ من أن يكون للتَملُّكِ وغيرِهِ، فاعتُبِر القولُ أو النيّة ليتعيّن وجه القبض.
(و) الخامس: (أن يكون ما يتملّكُهُ) الأب (عيناً موجودةً، فلا يصحّ أن يتملّك) دينَ ابنِهِ لأنه لا يملك التصرف فيه قبل قبضه، ولا أن يتملَّكَ (ما في ذمَّتِهِ من دينِ وَلَدِهِ)، ولا إبراءُ غريمِ وَلَدِهِ، (ولا) يملكُ الأبُ (أن يبرئَ نفسَهُ) من دينِ وَلَدِهِ.
زاد في الإِقناع شرطاً سادساً: وهو أن لا يكون الأبُ كافراً والابنُ مسلماً، لا سيَّما إذا كان الابن كافراً ثم أسلم. قاله الشيخ.

(2/33)


وقال: الأشبه أن الأب المسلم ليس له أن يأخُذَ من مال ولدِهِ الكافرِ شيئاً.
(وليس لولَدِهِ أن يطالِبَهُ) أي الأبَ (بما في ذمَّته من الدَّين) من قرضٍ، أو ثمنِ مبيعٍ، أو قيمةِ مُتْلَفٍ، أو أرش جناية، (بل إذا مات) الأب، ووجد الولد عين ماله الذي أقرضه لأبيه. أو باعه، أو غصَبَهُ منه، بعد موتِهِ (أَخَذَه) أي ما وجده (من تركتِهِ) إن لم يكن انتَقَدَ (1) ثمنَهُ. ولا يكون ميراثاً بل هو له دون سائر الورثة (من رأسِ المال.)

فصل [في قسمة المال بين الورثة في الحياة]
(ويباح للِإنسان) من ذكرٍ أو أنثى (أن يقسم مالَهُ بين ورثَتِهِ) على قدرِ فريضة الله تعالى، ولو أمكنَ أن يولَدَ له (في حال حياتِهِ).
(ويعطي من حَدَثَ) له بعد قسمةِ مالٍ (حصّته وجوباً) ليحصُلَ التعديل.

[التسوية بين الأولاد في العطية]
(ويجب عليه التسويةُ بينهم على قدْرِ إرثهم) منه، إلاَّ في نفقةٍ وكُسْوَةٍ فتجب الكفاية.
(فإن زوّج أحدَهُم، أو خصَّه بلا إذن البقية، حَرُم عليهِ،) وله التخصيص بإذن الباقي منهم. نصّ أحمد في رواية صالحٍ وعبدِ الله وحَنْبَل، فيمن له أولادٌ، زوَّج بعضَ بناتِهِ فجهّزها وأعطاها. قال: يُعطي
__________
(1) كذا الصواب، كما في شرح المنتهى، وفي الأصول "أنقد" ولعله تصحيف إذ لا يقال "أنقدته" بل "نَقَدْتُهُ" ومطاوِعه "انتَقَدَ".

(2/34)


جميعَ وَلدِهِ مثل ما أعطاها، (ولزمه أن يعطيَهم) أي الباقي من عندِهِ، أو يرجعَ فيما خصّ به بعضَهم، ويعطي الباقي، (حتى يستووا) بمن خصّصَهُ أو فضلَه. قال في "الاختيارات": وينبغي أن يكون على الفور.
(فإن مات) المزوِّج أو المخصِّص (قبل التسوية بينهم،) أي بين ورثتِهِ (وليس التخصيصُ بمرضِ موتهِ المخوفِ ثبتَ) أي استقرَّ الملك (للآخذ).
(وإن كان بمرضِ موتهِ لم يثبتْ له شيء زائدٌ عنهم) أي عن باقي الورثة (إلا بإجازتهم) لأنّ حكمه كالوصيّة.
والتسوية هنا القسمة، لِلذكرِ مثلُ حظِّ الأنثيين.
والرجوعُ المذكور يختص بالأب دون الأُمِّ وغيرها.
تنبيه: تحرُمُ الشهادةُ على التَّخصيصِ والتفضيلِ، تحمُّلاً وأداءً، إن عَلِمَ الشاهدُ بذلك.
وكذا كلُّ عقدٍ مختلفٍ فيه فاسدٍ عند الشاهِدِ، كبيعِ غيرِ مرئيٍّ ولا موصوفٍ.
(ما لم يكنْ وقفاً، فـ) إنه (يصحُّ بالثلث، كالأجنبيِّ) قال في الإِقناع وشرحه: ولا يصحّ وقفُ مريضٍ على أجنبيٍّ أو على وارثٍ بزيادةٍ على الثلث، أي ثُلُث مالِهِ، كالعطيّة في المرض، والوصيّة. انتهى.

فصل [في تبرعات المريض]
(والمرضُ غيرُ المخوفِ كالصُّداعِ) وهو وجع الرأسِ، (ووجعِ الضِّرسِ) والرَّمَدِ والجَرَب والحُمَّى اليسيرةِ كساعةٍ ونحوِها (تبرُّعُ صاحِبِهِ نافذٌ في جميع مالِهِ كتبرّع الصحيح) لأنّ مثل هذه الأمور لا يُخافَ منها

(2/35)


في العادةِ، وكما لو كان مريضاً فَبَرَأ (حتى ولو صار) هذا (مخوفاً، وماتَ منه بعدَ ذلك).
(والمرضُ المخوف كالبِرسَام) بكسر الموحدة. وهو بخارٌ يرتقي إلى الرأسِ، فيختلّ العقلُ به. وقالَ عياضٌ: هو وَرَمٌ في الدِّماغِ يتغيّر منه عقلُ الإنسان ويهذي، (وذاتِ الجنب) قروحٌ بباطنِ الجنبِ، (والرعافِ الدائمِ) لأنه يصفّي الدم فتذهبُ القوة، (والقيامِ المتدارِكِ) وهو الإِسهالُ الذي لا يستمْسِك. ومن المخوفِ أيضاً الإِسهال الذي مَعَهُ دَمٌ، لأن ذلك يضعف القوّة، والفالج.
(وكذلك) أي وأُلحِقَ بالمريض مرضَ الموتِ المخوفَ ثمانية:
أشار إلى الأول منها بقوله: (من) كان (بين الصفّين وقت الحرب) وكلٌّ من الطائفتين مكافِئ، أو كانَ من المقهورة.
وأشار للثاني بقوله: (أو كان باللُّجَّةِ) بضم. اللام، أي لجة البحر، (وقتَ الهَيَجَانِ) أي ثَوَرَانِ البحر بسبب هبوب الريح العاصف، لأن الله تعالى وَصَفَ من في هذه الحالة بشدّة الخوف. قال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ}.
وَأشَارَ إلى الثالث بقوله: (أو وقع الطاعونُ) قال أبو السعادات: هو المرض العامّ والوباءُ الذي يفسُدُ له الهواء، فتفسُد به الأمزِجة والأبدانُ. وقال عياض: هو قروحٌ تخرج من المغابِنِ وغيرِها، لا يلبث صاحِبُها، وتعُمُّ إذا ظهرت. وفي شرح مسلم: وأما الطاعونُ فوبَاءٌ معروف، وهو بُثَرٌ ووَرَمٌ مؤلمٌ جداً يخرجُ مع لَهَبٍ، ويسودُّ ما حولَهُ،

(2/36)


ويخضرّ ويحمرّ حمرةً بنفسجيةً. ويحصُل معه خَفَقَانُ القلبِ (ببلدِهِ) أي بلدِ المعطي.
وأشار للرابع بقوله: (أو قُدِّم للقتلِ) سواءٌ أريد قتلُهُ لقصاصٍ أو غيرِهِ، لأن التهديدَ بالقَتْلِ جُعِلَ إكراهاً يمنع وقوعَ الطلاق، وصحةَ البيعِ. ولولا الخوفُ لم تثبت هذه الأحكام.
وأشار للخامس بقوله: (أو حُبِسَ له) أي للقتلِ. قال في الإِنصاف: حكم من حُبِسَ للقتل حكم من قُدمَ لِيقتَصَّ منه. انتهى.
وأشار للسّادسِ بقوله: (أو جُرِحَ جُرْحاً مُوحِياً) أي مُهْلِكاً، مع ثَباتِ عقلِهِ، لأنه مع عدم ثباتِ عقله لا حُكْمَ لعطيتِهِ، بل ولا لكلامه. وحيث كان عقلُهُ ثابتاً كانَ حُكمْهُ حكمُ المريِضِ.
والسابع: من أُسِرَ عند مَنْ عادَتُهُ القتل.
والثامن: الحامل عند الطَّلْقِ مَعَ ألَمٍ حتى تنجو من نفاسها.
(فكلّ من أصابه شيءٌ من ذلك، ثمّ تبرَّعَ وماتَ نَفَذَ تبرّعه بالثلث) أي ثلث ماله عند الموتِ، لا عند العطية (فقط، للأجنبيِّ، فقط، وإن لم يمت) من مرضِهِ المخوف (فـ) تصرّفه (كـ) تصرُّف (الصحيح.)

(2/37)