نَيْلُ
المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب كتَاب يذكر فيه مَسَائل مِن أحكَام
(الوَصَايَا)
والوصيّة لغة عبارة عن الأمر، لقوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ
بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ}، وشرعاً الأمْر بالتصرُّف بعد الموت، وبمالٍ التبرع
به بعد الموت. (تصح الوصية من كل) إنسان (عاقل لم يعاين الموتَ).
فائدة: قال في الكافي (1): قال في الفروع: وفاقاً للشافعي. قال: لأنه لا
قول له. والوصيةُ قول.
ولنا خلافٌ: هل تُقْبَلُ التوبةُ ما لم يعايِنِ المَلَكَ، أو ما دام
مكلفاً، أو ما لم يُغَرْغِر؟ فيه أقوال، (ولو) كان الموصي (مميِّزاً)
والمراد يعقِل الوصيةَ، لأنها تصرُّفٌ تمحَّضَ نفعاً للصغير، فصحَّ منه،
كالإِسلام، والصلاة، (أو سفيهاً) بمالٍ، فإنها تصحُّ لأنها تمحَّضتْ نفعاً
له من غيرِ ضرَرٍ، فصحّتْ منه كعباداته.
(فتسنُّ) الوصية (بِخُمْسِ) مالِ (مَنْ تَرَكَ خيراً، وهو) أي الخيرُ
(المالُ الكثيرُ عُرفاً) قال في الإِنصاف: يعني في عرف الناسِ، على الصحيح
من المذهب. انتهى. فعلى هذا لا يتقدَّر بِشَيءٍ.
(وتُكْرَهُ) الوصية (لفقير) أي منه إذا كان (له ورثةٌ). قال في الفروع:
__________
(1) (ب، ص) ليس فيهما عبارة "فائدة" وهي ثابتة في (ف) فأثبتناها، لأن ذكر
خلاف باقي الأئمة غير معتمد في هذا الشرح.
(2/38)
وتُكره لفقيرٍ. قال جماعة: له وارثٌ محتاج.
وتصح ممن لا وارِثَ له بجميع مالِهِ.
(وتُباح له) أي للفقير (إن كانُوا) أي ورثته (أغنياءَ).
(وتجب) الوصية (على من عليه حقٌّ بلا بينّة).
(وتحرم) الوصية (على من له وارث) غيرُ زوجٍ أو زوجةٍ (1) (بزائدٍ على
الثلث) لأجنبيٍّ، (ولوارثٍ بشيءٍ) مطلقاً. ولا فرق في ذلك بين وجودِ
الوصيةِ في حال صحة الموصِي أو مرضه.
(وتصحُّ) هذه الوصيةُ المحرمة (وتَقِفُ على إجازةِ الورثة،) لأن المنع من
ذلك إنما هو لحق الورثة، فإذا رَضُوا بإسقاطِهِ جاز.
(والاعتبار بِكَوْنِ من وُصِّيَ) له وصيةٌ، (أو وُهِبَ له) من قبل مريضٍ
هبةٌ (وارثاً أوْ لا عند الموت) أي موت الموصي. فمن أوصى لأحَدِ إخوته، ثم
حَدَثَ له ولد، صحت الوصيَّةُ للموصى له لِإنه عند الموت ليس بوارثٍ.
ومن أوصى لأخِيهِ بشيءٍ، وللموصي ولد، فماتَ قبله، وُقِفَتْ على إجازة
بقيّة الورثة.
(و) الاعتبار (بالإِجازة) للوصيةِ من قبل الورثة (أو الردّ) منهم (بعده) أي
بعد الموت. وما قَبْلَ ذلك من ردٍّ أو إجازةٍ لا عبرة به. قال في الإِنصاف:
فهذا المذهب. (فإن امتنعَ الموصى له بعد موتِ الموصي من القبول ومن الردّ،
حُكِمَ عَليهِ بالردّ وسَقَطَ حقُّه) من الوصية.
__________
(1) أما من كان له زوج أو زوجة، فلأنهما لا يرد عليهما، لا تمتنع الوصية
بما زاد عن فرضها. حتى لو أوصت امرأة بكل مالها، ورد زوجها الوصية، بطلت في
حقه وهو الثلث، لأن له نصف الثلثين وللموصى له الباقي وهو الثلثان. وإن كان
الوصي رجلاً لا يرثه غير زوجته، فردت الوصية، بطلت في السدس لأن لها ربع
الثلثين (ش المنتهى 540/ 2).
(2/39)
(وإن قَبِل) الموصى له الوصيّةَ (ثم ردّ)
الوصيةَ، (لَزِمَتْ، ولم يصحَّ الرد،) سواء قبضها أو لم يقبضها، وسواء كانت
مكيلاً أو موزوناً أو غيرَهما. ووجهُ ذلك أنّ الموصى به دخل في ملك الموصى
له بمجرّدِ قَبوله للوصية، فلم يَمْلِكْ ردَّه، كردِّهِ لسائر أملاكه.
(وتدخل في ملكه) قهراً عليه (من حينِ قبوله، فما حَدَثَ من نماءٍ منفصلٍ
قبل ذلك) أي قبل القبول (فـ) هو (للورثة).
(وتبطل الوصية بـ) وجودِ واحدٍ من (خمسةِ أشياء):
الأول: ما أشار إليه بقوله: (برجوعِ الموصي بقولٍ) كقوله: رجعتُ في
وصيَّتي، أو قال: أبطلتُها، أو قال: رَددْتُها، أو: غيَّرتُها، أو:
فسخْتُها؛ (أو فعلٍ يدلّ عليه) أي على الرجوع، كما إذا باع ما وصَّى به، أو
وَهَبَهُ، أو رهنَهُ، أو عرَضَهُ لهما، أو وصّى ببيعِهِ أو عتقِه أو هبتِه,
أو كاتَبَهُ، أو دَبَّرَه، أو خَلَطَهُ بما لا يتميّز، أو طَحَن الحنطة، أو
خَبَزَ الدقيقَ، أو نَسَجَ الغَزْلَ، أو ضَرَبَ النُّقْرَة (1) دراهمَ، أو
ذَبَحَ الشاةَ.
الثاني: ما أشار إليه بقوله: (وبموتٍ) أي وتبطلُ الوصية بموتِ (الموصى له
قبل) موتِ (الموصي.)
الثالث: ما أشار إليه بقوله: (وبقتلِهِ) أي الموصى له (للموصي.)
الرابع: ما أشار إليه بقوله: (وبرده) أي ردّ الموصى له (للوصيةِ) بعد موت
الموصي.
الخامس: ما أشار إليه بقوله: (وبتلف العينِ المعيَّنَةِ الموصى بها.)
__________
(1) النُّقرة القطعة المذابة من الذهب أو الفضة (قاموس).
(2/40)
باب حُكمُ (المُوصَى لَه)
(تصح الوصية) من كل من تصحّ وصيّتُهُ (لكل من يصحّ تمليكُهُ) من مسلمٍ،
وكافرٍ، قال في التنقيح: مطلقاً إن كان معيَّناً، وإلاَّ فلا، قطع به
الحارثيّ وغيره. انتهى. (ولو مرتداً، أو حربياً، أو) كان الموصى له (لا
يملِكُ كحَمْلِ) فرسِ زيدٍ (وبهيمةِ) عمرٍو، ولو لم يقبلْ زيدٌ وعمروٌ ما
وُصِّيَ به لفرسِهِ.
(وُيصرَفُ) أي الموصى به (في عَلَفِهَا،) أي الفرس، أو البهيمة، لأن الوصية
له، فأُمِرَ بصرْفِ المالِ في مصلَحَتِهِ.
فإن ماتت الفرسُ فالباقي للورثة، كما لو ردّ الموصى له.
(وتصحُّ) الوصية (للمساجِدِ) وتصرف في مصالِحِها عملاً بالعُرْف.
ويصرِفُه الناظرُ إلى الأهمّ فالأهمّ والأصلح باجتهاده؛ (والقناطِرِ
ونحوها) كالثغور.
(و) تصحُّ الوصية (للهِ ورسولهِ) - صلى الله عليه وسلم -، (وتصرَفُ) هذه
الوصية (في المصالح العامة) يعني مصرفَ الفيء.
(وإن أوصى بإحراقِ ثلثِ مالِهِ، صحَّ وصُرِفَ في تجميرٍ) أي تبخيرِ
(الكَعْبَةِ، وتنوير المساجد).
(و) إن أوصى (بدفنِهِ) أي ثلثِ مالِهِ (في التراب، صُرِفَ في تكفينِ
الموتى).
(2/41)
(و) إن أوصى (برمْيِهِ) أي ثلث ماله (في
الماءِ صرِفَ في عملِ سفنٍ للجهاد).
(ولا تصحّ) الوصيةُ (لكنيسةٍ أو بيتِ نارٍ) ولمكانٍ من أماكِنِ الكفرِ،
سواءٌ كانت الوصِيَّةُ ببنائِهِما، أو بشيء يُنْفَقُ عليهما، لأن ذلك
معصية، فلم تصحّ الوصيةُ بها، كما لو أوصى بعبده أو أَمَتِهِ للفُجُورِ، أو
بشراءِ خمرٍ يُتَصَدَّقُ بها على أهل الذمّة، (أو كُتُبِ التوراةِ
والإِنجيل) يعني أنه لا تصحُّ الوصية بذلك، لأنهما منسوخانِ، وفيهما
تبديلٌ، والاشتغالُ بهما غيرُ جائزٍ، (أو مَلَكٍ) بفتح اللام، أحدِ
الملائكة، (أو ميِّتٍ) يعني أن الوصيَّةَ لا تصلُحُ للمَلَكِ، ولا
للميِّتِ، لأنهما لا يملكان، أشبهَ ما لو أوصى لحَجَرٍ أو نحوه من
الجمادات، (أو جِنِّيٍّ).
(ولا) تصح الوصية (لمبهمٍ، كأحدِ هذين، فلو وصى بثلث مالِهِ لمن تصحُّ له
الوصية ولمن لا تصحّ، كان الكلُّ لمن تصحُّ له) كمن وصَّى لزيدٍ ولجبريلَ
عليه السلام بثُلُثِ مالِهِ، أو لزيدٍ ولحائطٍ، فلزيدٍ الثلث، لأن من
شَرَّكَهُ معه لا يملك، فلم يصحّ التشريك.
ولو وصى لزيدٍ ولرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلثِ مالِهِ، قُسِمَ
بينَهما نصفَيْنِ. ويصرف ما لِرسول الله - صلى الله عليه وسلم - المصالح
العامة، كما لو وصّى لله تعالى ولزيدٍ.
(لكن لو وصّى لحيٍّ وميِّتٍ) يُعْلَم موتَه أوْ لا، (كان للحيِّ النصفُ
فقط) من الوصيّة لأنه أضاف الوصيّةَ إليهما، فإذا لم يكن أحدهما محلاً
للتمليك بطلت الوصية في نصيبه دون نصيب الحيّ، لخلوِّه من المُعَارِض.
(2/42)
فصل [في ألفاظ
الوصية في حق الموصى لهم]
(وإذا أوصى) إنسانٌ (لأهل سِكَّتِهِ) بكسر السين (فـ) الموصى به (لأهل
زُقَاقِهِ) بضمِ الزاي، أي زقاق الموصي، وهو درْبُهُ، والدَّرْبُ في الأصل
بابُ السِّكةِ الواسِعُ. قاله في القاموس. (حال الوصيّة) (1).
(و) إن أوصى إنسانٌ بشيءٍ (لجيرانِهِ تناوَلَ أربعينَ داراً من كلِّ جانبٍ)
قال في الإِنصاف: هذا المذهب. نص عليه. وعليه أكثر الأصحاب. انتهى.
وُيقْسَمُ المالُ على عَدَدِ الدُّور. وكلُّ حِصَّةِ دارٍ تقْسَم على
سُكَّانِها.
وجيرانُ المسجِدِ من يسمعون النداء.
(والصبيّ، والصغيرُ، والغلامُ، واليافعُ، واليتيمُ، من لم يبلغْ) قال في
شرح المنتهى: يعني أن هذه الألفاظ تطلق على الولَدِ من حينِ ولادتِهِ إلى
حين بلوغِهِ، بخلاف "الطفل"، فإنه يطلق إلى حينِ تمييزه فقط. فهذه الأسماء
أعمُّ من لفظ "الطفل" قال في فتح البِاري: في حديث "علّموا الصبيَّ الصلاةَ
بن سبعٍ" يُؤْخَذُ من إطلاق الصبيّ على ابن سبعٍ الردُّ على من زعم أنه لا
يسمى "صبيًّا" إلا إن كان رضيعاً، ثم يقال له: "غلامٌ" إلى أن يصير ابنَ
سبعِ سنين، ثم يصير يافِعاً إلى عشرٍ. ويوافق الحديثَ قولُ الجوهريّ:
الصبيُّ الغلام. انتهى.
(والمميّزُ مَنْ بلغ سبعاً) أي تمّ له سبع سنين.
__________
(1) أي أهل سِكّتِهِ التي كان منزله فيها عندما أوصى. فلو أوصى ثم انتقل
إلى منزل في سكةٍ أخرى ومات به، فالموصى به لأهل سكة المنزل الأول. قال في
شرح المنتهى: لأنه قد يلحظ أعيان سكانها الموجودين.
(2/43)
(والطِّفْلُ من دونَ سبعٍ) يعني أنه لو
وصّى بشيءٍ للأطفال من بني فلان، أو نحو ذلك، كان لمن لم يميِّز منهم. قال
في البدر المنير: الطِّفْلُ الوَلَدُ الصغيرُ من الإِنسانِ والدوابّ.
(والمراهِقُ من قارَبَ البلوغَ) قال في القاموس: راهَقَ الغلامُ: قارَبَ
الحُلُم. انتهى.
(والشابُّ والفتى من البلوغِ إلى ثلاثينَ) سنةً.
(والكَهْلُ من الثلاثين إلى الخمسين) قال في القاموس: والكَهْلُ من
وَخَطَهُ الشَّيْبُ ورأيْتَ له بَجَالةً، أو مَنْ جاوز الثلاثينَ، أو
أربعاً وثلاثينَ، إلى إحدفى وخمسين. انتهى.
(والشَّيْخُ من الخمسين إلى السبعين) سنة.
(ثم بعدَ ذلك هَرِمٌ) إلى آخِرِ عُمْرِهِ.
ومن أوصى بشئٍ "لَهِرِمٍ" (1) من بني فلان لم يتناولْ مَنْ سِنُّهُ دون
السبعين.
وهكذا الحكم فيما إذا أوصى لشبابِهِمْ، أو كُهُولهِمْ، أو شُيُوخِهِم. فإن
الوصية لا تتناول من هو دون ذلك، ولا من هو أعلى.
(والأيِّمُ والعَزَبُ من لا زوجَ لَهُ من رَجُلٍ أو امرأةٍ) قال في
الإِنصاف: قال الشارح: ذكره أصحابنا. انتهى. ووجهه أن "الأيِّم" يقعُ في
اللغة على الذَّكر كما يقع على الأنثى. قال تعالى: {وَأَنْكِحُوا
الْأَيَامَى مِنْكُمْ} وكذا "العزب" يقال: رجلٌ عَزَبٌ وامرأةٌ عَزَبٌ. قال
ثعلب: وإنما سُمِّيَ العَزَبُ عزباً لانفراده. وكل شيء انفردَ فهو عَزَبٌ.
وذكر أنه لا يقال: أعزب. ورُدَّ عليه بأنها لُغَةٌ. حكاها الأزهريّ عن أبي
حاتم.
__________
(1) "لهرمٍ" هكذا في (ف) وهو مراد الشارح كما لا يخفى من سياق كلامه، أما
(ب، ص) ففيهما "لِهِمٍّ" وقد سبق تفسير الهرم. أما الهِمُّ والهِمَّةُ فهو
الشيخ الفاني كما في القاموس.
(2/44)
(والبِكْرُ من لم يتزوَّج) من رجلٍ
وامرأةٍ.
(و) يقال: (رجلٌ ثيِّبٌ وامرأة ثيِّبَةٌ إذا كانا قد تزوَّجا. والثيُّوبَةُ
زوالُ البَكَارَةِ) بالوطءِ (ولو من غير زوجٍ) كسيدٍ، ووطءِ شبهة، وَزِناً.
(والأرامل) النساءُ (التي فارقَهُنَّ أزواجهن بموتٍ أو حياةٍ) لأنه المعروف
بين الناس. قال جرير:
هذي الأرامِلُ قَدْ قَضَّيتَ حاجَتَها ... فَمَنْ لحاجةِ هذا الأرْمَلِ
الذَكَرِ
فأطلق الأول حيث أراد به الإِناث، لأنه موضوعٌ له، ووصَفَهُ في الثاني
بالذَّكَرِ، لأَنه لو أطلقه لم يفهم.
(والرَّهْطُ (1) ما دون العَشَرةِ من الرجالِ خاصةً) لغةً، لا واحِدَ له من
لفظه. والجمع رهوط وأرهاط وأرهط وأراهيط (2). قال في "كشف المُشْكِل"
الرهط: ما بين الثلاثة إلى العشرة. وكذا قال: "النَّفَرُ"، من ثلاثةٍ إلى
عشرة (3).
قال في الفروع: و"العلماء" حَمَلَةُ الشرع.
__________
(1) في القاموس: رهط الرجل قومه وقبيلته، ومن ثلاثة إلى عشرة. قُلْتُ
والتفسير الأول أولى مما اقتصر عليه في المتن وأقرّه الشارح، لأنه الأحرى
بأن يرد في نصوص الوصايا.
(2) ليس الأول وهو "رهوط" في القاموس، وهو صحيح.
(3) هذا الفصل يوحي بأنه يرجع في تفسير الألفاظ في نصوص الوصايا إلى كتب
اللغة، وليس كذلك دائماً، بل الواجب البحثُ عن مراد الموصي خاصة، لأنه
بكلامه يعبِّر عن مراده. فإن لم يعرف مراده عيناً يُرجع إلى أعرافه. ثم
أعرافِ بلده وقومه، ثم إلى اللغة. ويأتي نظيرٌ لهذا الفصل في باب جامع
الإِيمان.
(2/45)
باب أحكام (الموصى
به)
وهو آخر أركان الوصية الأربعة، وهي: موصٍ، وصِيغَةٌ، وموصى له، وموصىً به.
(تصح الوصية حتى بما لا يصحّ بيعه) بعجز الموصي عن تسليمِهِ (كالآبِقِ) من
الرقيق، (والشارد) من الدوابّ، (والطيرِ بالهواء، والحَمْلِ بالبطن،
واللَّبَنِ بالضَّرْعِ) لأن الوصية أُجريتْ مجرى الميراث، وهذا يورث، فيوصى
به.
وللموصى له السعي في تحصيله، فإِن قدر عليه أخذه إذا خرج من الثلث.
ولا فرق في الحمل بين أن يكون حمْلَ أَمةٍ أو حمْلَ بهيمةٍ مملوكةٍ، لأن
الغرر لا يمنع الصحة، فجرى مجرى إعتاقِهِ. ويعتبر وجوده في الأمة بما يعتبر
به وجود الحمل الموصى له. وإن كان حمل بهيمةٍ اعتُبِر وجودُه بما يثبت به
وجوده في سائر الأحكام.
(و) تصحُّ الوصية (بـ) الشيء (المعدومِ، كـ) وصيتِهِ (بما تحمل أمتُهُ)
أبداً، أو مدّةً معلومة (أو) بما تحمل (شَجَرَتُهُ أبداً أو مدَّة معلومة)
كسنة وسنتين. ونحو ذلك.
ولا يلزَمُ الوارِثَ السقي لأنه لا يَضْمَنُ تسليمَهَا، بخلاف مشْترٍ.
(2/46)
(فإن حَصَل شيء) من نماءٍ في ملكِهِ مما
أُوصِيَ به (فـ) هو (للموصى له، إلا حملَ الأمة) الموصى له به، (فـ) تكون
له (قيمتُهُ) يعطيها مالكُ الأمة للموصى له (يوم وضعِهِ) لحُرمَةِ التفريق
بين ذوي الأرحام في الملك.
(وتصح) الوصية أيضاً (بغير مالٍ، ككلبٍ مباحِ النفعِ) وهو كلبُ صيدٍ
وماشيةٍ وزرعٍ، وجَرْوِهِ، لما يباح اقتناؤهَ له، غيرَ أسودَ بهيمٍ، (و) كـ
(زيتٍ متنجّسٍ) لغير مسجدٍ لأن فيه نفعاً مباحاً، وهو جواز الاستصباح به.
وللموصى له بالكلبِ والزيتِ ثلُثُهُما، ولو كثر المال، إن لم تُجِز الورثة
الوصية في جميعه (1).
(وتصحّ) الوصيةُ (بالمنفعةِ المفهكةِ) عن الرقبة (كخدمةِ عبدٍ، وأجرَةِ
دارٍ ونحوهما) كأجرة دابة.
(وتصحُّ) الوصية (بالمبهم، كثوبِ،) فإنه يشمل المنسوج من الصوف والقطن
والكَتَّانِ والحرير، والمصبوغَ، والكبيرَ والصغيرَ، ونسجَ كلَّ بلدٍ، لأن
غاية ذلك أنه مجهول (ويعطى) أي يعطي الورثةُ الموصى له بثوبٍ (ما يَقَعُ
عليه الاسم) أي اسم الثوب، لأنه اليقين.
(فإن اختلف الاسمُ) أي اسم الموصى به (بالعُرفِ والحقيقةِ) اللغويّة
(غُلِّبَتْ) بالتضعيف والبناء للمفعول، يعني أنه يعمل بمقتضى (الحقيقة) (2)
مع مخالفة العرف لها، لأنها الأصل. ولهذا يحمل عليها كلام الله سبحانه
وتعالى وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم -.
(فـ) على هذا (الشاةُ والبعيرُ والثورُ اسم للذَّكَرِ والأنثى (3) من صغيرٍ
__________
(1) لأنّ الكلب والمتنجس ليس بمالٍ، ولا يقابَلُ شيء من ماله، فكأنه جنس
مستقلٌّ والمال جنسٌ آخر، فيعتبر بنفسه كما لو لم يكن له مال سواه (ش
المنتهى - بتصرف).
(2) هذا المذهب. وقيل يغلَّب العرف، كالأيمان، وهو قول صاحب المغني وهو
أولى.
(3) هذا وهم من المؤلف تبع فيه المنتهى وشرحه، ولم ينبه عليه الشارح،
فالثور في اللغة =
(2/47)
وكبيرٍ،) ويتناول لفظ الشاة الضأن.
(والحِصَانُ) بكسِرِ الحاءِ المهملة، (والجَمَلُ) بفتح الميم وسكونها
(والحمار والبَغْلُ والعبد اسمٌ للذكر خاصة) فلو وكَّلَه في شراءِ عبدٍ لم
يكن له شراءُ أَمَةٍ، فلا تنصرف الوصية بذلك إلا إلى الذكر.
(والحِجْرُ) بكسر الحاء وسكون الجيم وآخره راء (والأتَان) الحِمَارَةُ قال
في القاموس: والأتانَةُ قليلة (1). انتهى.
(والناقة والبقرة اسم للأنثى) (2) قاله في الإِنصاف.
(والفرس والرقيق اسم لهما) أي للذكر والأنثى، ويكونان للخُنثى أيضاً.
(والنَّعْجَةُ اسم للأنثى من الضَّأن. والكبشُ اسمِ للذكر الكبيرِ منه) أي
الضأن.
(والتيس اسمٌ للذكر الكبير من المعْز).
(والدابّة عرفاً اسم للذَّكَرِ والأنثى من الخيلِ والبغالِ والحميرِ) لأن
ذلك هو المتعارف. قال الحارثي: والقائلون بالحقيقة لم يقولوا هاهنا بالأعمّ
لأنهم لَحَظوا غلبةَ استعماله أي العرف (3) في الأجناس الثلاثة بحيث صارت
الحقيقةُ مهجورةً.
__________
= اسم للذكر من البقر خاصة، لا يكون للأنثى، كذا في اللسان والقاموس
والزاهر للأزهري. ولو مثلوا بـ (البقرة) لكان صوابا، فإن البقرة للذكر
والأنثى، بمنزلة (الشاة) في الغنم. أما التمثيل بـ (البعير) لما يكون للذكر
والأنثى فصحيح، وإن كان الغالب استعماله للذكر خاصة ولذا نقل في الزاهر عن
الشافعي رضي الله عنه أن الموصي "لو قال: أعطوه ثوراً أو بعيراً" لم يكن
لهم أن يعطوه ناقة ولا بقرة.
ووهم أيضاً في أن البعير يكون للصغير، ففي لسان العرب: البعير الجمل
البازل، وقيل الجذع.
(1) ليست الحجر الحمارة كما يدل عليه كلامه، بل هي أنثى الخيل خاصة، كما في
اللسان وش المنتهى.
(2) تقدّم ما فيه.
(3) عبارة "أي العرف" ساقطة من (ف).
(2/48)
باب المُوُصَى إليه
هو المأذون له في التصرُّفِ بعد الموت، في المالِ وغيرِهِ مما للوليِّ
التصرفُ فيه حال الحياةِ، مما تدخله النيابة.
(تصحّ وصيةُ المسلمِ إلى كلِّ مسلمٍ، مكلَّفٍ، رشيدٍ, عَدْلٍ) إجماعاً
(ولو) كان الموصى إليه عدلاً (ظاهراً، أو أعمى، أو امرأةً) أو أمَّ ولدٍ،
أو عدوَّ الطفلِ الموصَّى عليهِ (1)، ولو عاجزاً، وُيضَمّ إليه قويٌّ أمينٌ
معاون. ولا تُزَالُ يده عن المالِ، ولا نَظَرُهُ عنه. وهكذا إن كان قوياً
فحدث به ضعف. (أو رقيقاً) أو مُبَعَّضاً، (لكن لا يَقْبَلُ) الرقيقُ وأمُّ
الولد والمبعَّضُ (إلا بإذن سيّده) الذي يملكه أو بعضَهُ.
(وتصحُّ) الوصيّة (من كافرٍ إلى) كافرٍ (عدْلٍ في دينه) لأنه يلي على غيره
بالنسبة (2)، فيلي بالوصية.
(ويعتبر وجودُ هذه الصفات) المذكورة (عند الوصيةِ والموتِ) أي حال صدور
الوصيةِ، وحالَ صدور (3) موتِ الموصي في الأصحّ، لأنها
__________
(1) كذا في (ب، ص)، وفي (ف): "عبد الطفل" ولعله أولى. وليس النصّ في شرح
المنتهى، ولم نجده في غير هذا المكان.
(2) كذا في (ب، ص)، وهي في (ف) "بالنَّسَبيّة" وكلاهما صواب.
(3) كذا في الأصول، والأولى حذف "صدور" الثانية.
(2/49)
شروطٌ للعقد، فاعتُبرت حال وجودهِ، ولأنّ
الموصى إليه، يملك التصرّف بالإِيصاء بعد الموت فاعتُبر وجودُها عنده.
(وللموصى إليه أن يَقْبَلَ وأن يَعْزِلَ نفسَه متى شاء) مع القدرة والعجز،
في حياة الموصي، وبعد موته، وحُضورِه وغَيبتِه.
وللموصي عزلُهُ متى شاء.
(وتصح الوصية معلَّقَةً، كإذا بَلَغَ، أو: حَضَرَ، أو: رَشَدَ، أو: تابَ من
فِسْقِهِ) كما لو أوصى إلى مجنون ليكون وصياً إذا عَقَل. وتُسَمَّى
الوَصِيَّةَ لِمُنْتَظَرٍ. (أو إن ماتَ زيدٌ فعمروٌ وصيٌّ (مكانه).
(وتصح) الوصية (مؤقَّتَةً، كزيدٌ وصيٌّ سنةً، ثم عمرٌو) وصيٌّ بعْدَ السنة.
قال في الإِنصاف: لخبر الصحيحين "أميركم زيدٌ، فإنْ قُتِلَ فَجَعْفَرٌ، فإن
قُتِلَ فعبد الله بن رَوَاحة" (1) والوصيَّةُ كالتأمير.
(وليس للوصيّ أن يوصي) لأحدٍ بعد موتهِ (إلاَّ إن جُعِلَ له ذلك) من قبل
مُوصيه.
(ولا نَظَرَ للحاكِمِ مع الوصى الخاصّ إن كان) الوصي (كفؤاً).
فصل
(ولا تصحّ الوصية) إلى الموصى إليه (إلاَّ) في تصرفٍ (في شيءٍ معلومٍ)
ليعلم الموصى إليه ما وصى به إليه، ليتصرف فيه كما أمره، (يملكَ الموصِي
فعلَه) أي فعلَ ذلك التصرف، لأنه أصيلٌ، والوصيُّ فرع عنه، فلا يملك
الفَرْعُ ما لا يملكُهُ الأصل، (كقضاءِ الدَّينِ، وتفريق الوصية، وردِّ
الحقوق،) كالأمانَةِ والغصب (إلى أهلها، والنَّظَرِ في أمرِ غيرِ مكلَّفٍ،)
وتزويج مَوْليَّاتِهِ.
__________
(1) قاله - صلى الله عليه وسلم - للذين أرسلهم في غزو مؤتة.
(2/50)
ويقوم الوصيُّ فيه مقامَهُ في الإِجبار.
(لا) تصحُّ الوصية (باستيفاءِ الدين مع رُشْدِ وارثِهِ) لأنّ المالَ انتقل
عن الميت إلى من لا ولاية له عليه، فلا يَصحُّ استيفاء مالِ غيره ممن هو
مطلق التصرف، كما لو لم يكن وارثاً.
(ومن وُصِّيَ في شيء لم يصر وصيًّا في غيره) لأنه استَفَادَ التصرُّف
بالإِذن من جهته، فكانَ مقصوراً على ما أذن فيه، كالوكيل.
(وإن صرف أجنبي) أي من ليس بوارث ولا وصيّ، الشيءَ (الموصى به لمعيَّنٍ في
جهتِهِ لم يضمنه،) لأن التصرف قد صادَفَ مستحقَّهُ، أشبهَ ما لو دفع وديعةً
لربِّها من غير إذن المودَع. وظاهره ولو مع غيبة الورَثَةِ. ونقل ابن هانئ
فيمن وصَّى بدفْع مَهْرِ امرأتِهِ لم يدفعه مع غيبة الورثة.
(وإذا قال له) أي: إذا قال إنسانٌ لوصيِّه: (ضع ثلثَ مالي حيث شئت، أو:
أعطِهِ) لمن شئتَ، (أو: تصدقْ به على من شئتَ، لم يَجُزْ له أخذه،) لأنه
تمليك مَلَكَهُ بالإِذن، فلا يكون قابلاً له، كالوكيل.
(ولا) يجوز له أيضاً (دفْعُهُ إلى أقاربه) أي أقارب الوصيّ (الوارثينَ،)
سواء كانوا أغنياء أو فقراء.
(ولا) يجوز للوصيّ أيضاً دفعه (إلى ورثة الموصي). قال في الإِنصاف: ذكره
المَجْدُ في شرح الهداية. ونص عليه. قال في شرح المنتهى: ولعلَّ وجه ذلك
أنه وَصَّى بإخراجه، فلا يرجع إلى ورثته (ومن مات ببرية) بفتح الباء وهي
الصحراء، أو ضدّ الرِّيفيَّة. قاله في القاموس، (ونحوِها) كالجزائر التي لا
عُمْرَانَ بها، (و) الحالةُ أنه (لا حاكم) حاضرٌ موته (ولا وصيّ) أي ولم
يوص إلى أحد (فلكلِّ مسلم) حَضَرَهُ (أخذُ تركته، وبيعُ ما يراه) منها،
كشيءٍ يسرع إليه الفساد، لأن
(2/51)
ذلك موضع ضرورةٍ لحفظِ مال المسلم عليه، إذ
في تركه إتلافٌ له (1)، وذلك لا يجوز. نصَّ أحمد على ذلك، قال: وأمّا
الجواري فأُحِبُّ أن يتولّى بيعهن حاكم من الحكام، (وتجهيزُهُ) أي يجهِّزُ
الميِّتَ حاضِرُهُ (منها) أي من تركت (إن كانَتْ) أي إن كان له تركة،
(وإلا) أي إن لم يكن له تركة (جَهَّزَهُ) حاضِرُهُ (من عندِهِ، وله الرجوعُ
بما غَرِمَهُ) على تركته حيث كانت، فإن لم تكن فعلى من تلزَمُهُ نفقتُه إن
لم يتركْ شيئاً (إن نوى الرجوع) أو كان الميتُ ببلدٍ، ولم يوجدْ معه ما
يجهَّزُ به، واستأذَنَ إنسانٌ حاكماً في تجهيزِهِ، فإن له الرجوعَ بذلك على
تركته حيث كانتْ، أو على من تلزمه نفقته.
__________
(1) أي تعريض له للتلف، وليس المراد حقيقة الإِتلاف الذي هو سبب الضمان.
(2/52)
|