نَيْلُ
المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب باب النّكاح
وهو حقيقة في العقد، مجازٌ في الوطء. والأشهر: مشترك.
واعلم أن الناس في النكاحِ على ثلاثة أقسامٍ:
أحدها: ما أشار إليه بقوله: (يسنّ لذي شهوةٍ لا يخافُ الزّنا) من الرّجالِ
والنساء، ولو فقيراً عاجزاً عن الإِنفاق. نصّ عليه.
واشتغالُ ذي الشَّهْوَةِ بالنِّكاحِ أفضلُ له من التخلي لنوافل العبادات.
القسم الثاني: ما أشار إليه بقوله: (ويجبُ على من يخافُه) أي الزِّنا بتركِ
النكاحِ ولو ظنًّا، من رجلٍ أو امرأةٍ. ويقدَّمُ حينئذٍ على حجٍّ واجبٍ
زاحَمَهُ، لخشيةِ الوقوعِ في المحذور بتأخُّرِهِ، بخلافِ الحجّ.
ولا يُكْتَفَى بمرةٍ، بل يكونُ في مجموع العمر.
القسم الثالث: ما أشار إليه بقوله: (ويباحُ) النكاحُ (لمن لا شهوةَ له)
أصلاً كالعِنِّينِ، أو كانتْ له شهوةٌ وذهبتْ لعارضٍ كالمرضِ والكِبَرِ،
لأن العِلَّةَ التي يجب لها النكاحُ، أو يستحبُّ، وهو خوفُ الزنا، أو وجودُ
الشهوة، غير موجودةٍ فيه، ولأنّ المقصودَ من النكاح الولدُ وتكثيرُ النسلِ،
وذلك فيمنْ لا شهوةَ له غير موجودٍ، فلا ينصرفُ إليه الخطاب به، إلا
(2/136)
أنه يكون مباحاً في حقِّهِ، كسائِرِ
المباحاتِ، لعدمِ مَنْعِ الشرعِ منه.
(ويحرُمُ) النكاحُ (بدارِ الحَرْبِ لغيرِ ضرورةٍ)
ويجوزُ بدارِ الحرب لضرورةٍ، لغير أسيرٍ، ويعزِلُ وجوباً، إن حَرُمَ
نكاحُهُ، وإلا اسُتحِبَّ. قال في المغني في آخر الجهاد: وأما الأسيرُ
فظاهِرُ كلامِ الإِمامِ أحمد: لا يحلُّ له التزويجُ ما دامَ أسيراً.
(ويسنُّ نكاحُ ذاتِ الدِّينِ الولودِ).
ويعرَفُ كونُ البكرِ ولوداً بكونها من نساءٍ يُعْرَفْنَ بكثرةِ الأولاد.
(البكر) إلا أن تكون مصلحتُهُ في نكاحَ الثيّبِ أرجحَ، فيقدّمها على البكر.
(الحسيبة) وهي النسيبة، أي طيِّبَةُ الأصْلِ ليكون ولدها نجيباً.
من بيت معروف بالدين والصلاح.
(الأجنبية) فإنّ ولدها يكون أنجبَ، ولأنه لا يؤمن طلاقُها فيفضي مع
القرابةِ إلى قطيعةِ الرَّحِمِ المأمورِ بصلتِها، والعداوةِ.
ويسنُّ له أيضاً أن يختارَ الجميلةَ (1).
[أحكام النظر]
(ويجبُ غضُّ البَصَر عن كلِّ ما حرَّم اللهُ تعالى) أخرج الشيخانِ وغيرُهما
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال:
"كُتِبَ على ابن آدمَ حظُّهُ من الزِّنا، مُدْرِكٌ ذلك لا مَحَالَةَ:
العينانِ زناهُمَا النَّظر، والأُذنانِ زناهما الاستماع، واللسانُ زناهُ
الكلام، واليد زناها البطش، والرِّجْلُ زناها الخُطا، والقلبُ يَهْوى.
الحديث" (2) (فلا ينظر)
__________
(1) اختيار الجميلة مسنون لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "خير النساء
التي تسرُّهُ إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا في ماله
بما يكره" رواه أحمد والنسائي.
(2) تمامه: "والنفس تمنّى وتشتهي ويصدّق الفرجُ ذلك أو يكذِّبه." وهو متفق
عليه من طريق =
(2/137)
الإنسان (ألا ما) أي الذي (وَرَدَ الشرعُ
بجوازِه).
(والنظرُ) من حيثُ هو (ثمانيةُ أقسام):
(الأول: نظرُ الرجلِ البالغِ ولو) كان الرجل (مجبوباً) قالَ الأثرمُ:
استعظمَ الإِمامُ أحمد رضي الله تعالى عنه إدخالَ الخِصْيانِ على النساء.
قال ابن عقيل: لا يباح خلوةُ النساء بالصبيانِ ولا بالمجبوبين، لأن العضوَ
وإن تعطَّلَ أو عُدِمَ فشهوةُ الرجالِ لا تزولُ من قلوبِهِمْ، ولا يُؤْمَنُ
التمتُّع بالقُبْلَةِ وغيرها، فهو كفَحْلٍ. ولذلك لا تباحُ خلوةُ الفحلِ
بالرَّتْقاءِ من النساء، (للحرةِ البالغةِ) احترزَ به عن الرقيقةِ
(الأجنبيةِ لغير حاجةٍ، فلا يجوز لهُ) أي للرَّجُلِ (نظرُ شيءٍ منها، حتى
شعرِها المتصل،) أما الشعرُ المنفصلُ من الأجنبيةِ فيجوزُ لمسُهُ
والنَّظَرُ إليه، وإن كان من محلِّ العورَةِ لزَوَالِ حُرْمَتِهِ
بالانفصال.
(الثاني: نظره) أي الرجل (لمن) لامرأةٍ (لا تشتهى، كعجوزٍ، وقبيحةٍ،)
وبرزَةٍ (1)، ومريضةٍ لا يرجى برؤها، (فيجوزُ) نظره (لوجهِهَا خاصّةً).
(الثالثُ: نظرُهُ) أي الرجلِ المرأةَ (للشهادةِ عليها) تحمُّلاً وأداءً (أو
لمعاملتها، فيجوزُ لوجهها) قال أحمد رضي الله تعالى عنه: لا يشهد على
امرأةٍ إلا أن يكون يعرفُها بعينها، (وكذا) له أن ينظرَ إلى (كفَّيْها)
أيْضاً (لحاجةٍ) روي كراهةُ ذلك عن أحمد في حقّ الشابة.
(الرابع: نظره) أي الرجل (لحرةٍ بالغةٍ يخطبُها) إذا غَلَبَ على ظنِّه
إجابَتُهُ (فيجوز) أي يباحُ له، على الصحيح. قاله في شرح المنتهى.
__________
= ابن عباس عن أبي هريرة مرفوعاً.
(1) قال في القاموس: امرأة بَرْزَةٌ: بارزة المحاسن، أو متجاهرة كَهْلَةٌ
جليلة تَبْرُز للقوم يجلسون إليها ويتحدثون وهي عفيفة. اهـ. قلت المعنى
الثاني هو المراد.
(2/138)
وقال في الإِقناع: يسن (للوجهِ والرقبة
واليدِ والقدم) ويكرِّرُ النظرَ، ويتأمَّلُ المحاسِنَ، ولو بلا إذنٍ، إن
أَمِنَ ثَوَران الشهوةِ، َ من غير خلوة.
(الخامس: نظره) أي الرجل (إلى ذواتِ محارِمهِ) (1) وهنَّ من تحرم عليه
أبداً، بنسب، كأخته وعمَّتِهِ وخالتِهِ، أو سببِ مباحٍ، كأختِهِ من رضاعٍ،
وأمِّ زوجتِهِ، وربيبةٍ دخلَ بأمّها، وحليلةِ أبٍ أَو ابنٍ.
تنبيه: يحرم على زانٍ النظرُ إلى أمِّ المزنيِّ بها وابنتها، لأن
تحريمَهُنَّ بسببٍ محرّمٍ، وكذا المحرَّمةُ باللّعان على الملاعِنِ وبنتُ
الموطوءة بشبهةٍ، وأمُّها.
(أو لبنتِ تسعٍ) قال في المنتهى: وبنتُ تسعٍ مَعَ رجل كمحرم انتهى، لأن
عورتَها مخالِفَةٌ لِعورةِ البالغةِ؛ (أو أَمةٍ لا يملكها) سواء كانت
مُسْتَامَةً أوْ لا، (أو يملكُ بعضَها، أو كان لا شهوةَ له، كعنِّينٍ
وكبيرٍ) ومخنَّثٍ أي شديد التأنيث في الخلقةِ، حتى يشبهُ المرأةَ في
الليِّنِ والكلام والنَّغْمَةِ والنظرِ والعقلِ، فإذا كان كذلك لم يكن له
في النساءِ أَرَبٌ، أَي حاجة؛ (أو كان مميِّزاً وله شهوةٌ) قال في الإِقناع
وشرحه: والمميِّزُ ذو الشهوة كذي رحمِ مَحْرَمٍ؛ (أو) كان (رقيقاً غيرَ
مُبَعَّضٍ، ومشتركٍ ونظر لسيدته؛)
(فـ) إنه (يجوز) له (2) أن ينظر إلى ستة أعضاء: (للوجه، والرقبة، واليد،
والقدم، والرأس، والساق).
(السادس: نظره) أي الرجلِ المرأةَ (للمداواة، فيجوزُ) له النظر (للمواضِعِ
التي يحتاج إليها) ولمسُها حتى الفرج، وظاهِرُهُ ولو ذميّاً. قاله في
المبدع. وليكن ذلك مع حضور محرمٍ أو زوجٍ، ويستُرُ منها ما عدا
__________
(1) يقال: هي مَحْرَمٌ لك، ويقال: ذات مَحْرَمٍ، ويقال للرجل: هو مَحْرَمٌ
لها، كما يقال أيضاً: هو ذو مَحْرَم. وشرط التأبيد خَرَجَ به أختُ زوجتك،
والمرأة المزوّجة والمعتدة.
(2) أي لكل واحد من المذكورين في هذا النوع الخامس.
(2/139)
الحاجة: ومِثْل الطبيب من يلي خدمةَ مريضٍ
أو مريضةٍ في وضوءٍ واستنجاءٍ وغيرِهما، وكَتخليصِهَا من غَرَقٍ وحَرَقٍ
ونحوِهِما. وكذا لو حَلَقَ عانَةَ من لا يُحْسِنُ حَلْقَ عانتِهِ أيضاً.
(السابعُ: نظره) أي الرجل (لأمتِهِ المحرمةِ) كالمُزَوَّجَةِ، (و) نظره
(لحرةٍ مميِّزةٍ دون تسع) سنين، (ونظر المرأة للمرأةِ) ولو كافرةٌ (1) مع
مسلمةٍ (و) نظر المرأةِ (للرجلِ الأجنبيّ، ونظر المميّز الذي لا شهوةَ له
للمرأة، ونظرُ الرجل للرجلِ ولو أمردَ، فيجوز إلى ما عدا ما بين السُّرَّةِ
والركبة).
(الثامن: نظره) أي الرجل (لزوجتِهِ وأَمتِهِ المباحة له) دون المحرَّمة
عليهِ لكونها وثنيَّةً أو مزوجةً (ولو) كان نظره لهما (لشهوةٍ ونظرُ مَنْ
دونَ سبعٍ، فيجوز لكلٍّ نظرُ جميعِ بدنِ الآخر) ولمسه بلا كراهةٍ حتى
الفرج، لأن الفرج محلُّ الاستمتاع، فجاز النظرُ إليه كبقيّةِ البدن.
والسنة أن لا ينظرُ كلٌّ منهما إلى فرج الآخر (2).
قال القاضي: يجوز تقبيلُ فرجِ المرأةِ قبلَ الجماع، وُيكْرَهُ بعده.
وكذا سيدٌ مَعَ أمتِهِ.
فصل
(ويحرمُ النظرُ لشهوةٍ) ومعنى الشهوةِ التلذُّذُ بالنظر إلى الشيء (أو مع
خوفِ ثورانها) أي الشهوةِ. فإنه يحرم النظرُ في هاتين الحالتين (إلى أحدٍ
ممن ذكَرْنا) من ذكرٍ أو أنثى غير زوجتِهِ أو سُرِّيَّتِهِ.
__________
(1) رأى بعض المفسرين أن قوله تعالى "أو نسائهن" يعني نساء المسلمات. فبنى
على هذا بعض العلماء أن الكافرة لا تنظر من المسلمة إلا ما ينظره الأجنبي.
وهو رواية عن أحمد. وما في المتن أولى وهو المذهب، والمراد بنسائهن جملة
النساء كما في (المغني 6/ 563)
(2) لم يثبت في النهي عن ذلك أو كراهته حديث، فلا يكون سنّة.
(2/140)
[لمس الأجنبية
والخلوة بها]
(ولمسٌ كنظرٍ وأوْلى).
(ويحرُمُ التلذُّذُ بصوتِ الأجنبيّةِ) مع أنه ليسَ بعورةٍ (ولو بقراءةٍ)
قاله في الفروع. وقال الإِمام أحمد في رواية مُهَنَّا: ينبغي للمرأةِ أن
تخفِضَ صوتَها إذا كانت في قراءتها إذا قرأتْ بالليل.
(وتحرُمُ خلوةُ رجلٍ غيرِ محرمٍ بالنساءِ، وعكسه) أي يحرمُ خلوةُ امرأةٍ
غيرِ محرمٍ بالرّجال.
[الخِطبة]
(ويحرُمُ التصريحُ) وهو ما لا يحتمل غيرَ النكاح (بخطبةِ المعتدَّةِ
البائِنِ) (1) كقوله: إني أريدُ أن أتزوّجَك، أو: إذا انقضَتْ عدَّتُكِ
تزوَّجتُكِ، وزوّجيني نفسك، (لا التعريضُ) أي لا يحرمُ التعريضُ (2) في
عدّةِ وفاةٍ (إلا بخِطبةِ الرجعيّة) فإنه يحرُمُ، لأنها في حكم الزوجات،
أشبَهَ (3) التي في صلب النكاح. (وحرم خِطبةٌ) بكسر الخاء المعجمة (على
خِطبةِ مسلمٍ أجيبَ) ولو كانت إجابتُهُ تعرِيضاً، إن علم الثاني بإجابةِ
الأوّل. وإن لم يعلم الثاني بإجابةِ الأول، أو تركَ الأول، أو أَذِنَ
الأوّلُ، جاز للثاني أن يخطبَ.
والتعويلُ في ردٍّ وإجابةٍ على وليٍّ يُجْبِر، والَّا فعلَيْها.
(ويصح العقدُ) مع حرمةِ الخِطبة.
تنبيه: يسن أن يكونَ عقد النكاحِ مساءَ يوم الجمعة، وأن يخطُبَ قبلَه
بِخُطبةِ عبدِ الله بن مسعود (4)، وهي "إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه،
__________
(1) ومثلها المعتدة من وفاة.
(2) كان يقول لها: إني في مثلِك لراغبٌ. أو: عسى أن يقدّر لي زوجة صالحة.
(3) الصواب أن يقول: "أشبهت".
(4) هي ما روى الترمذيّ وصححه عن عبد الله بن مسعود، قال: "علّمنا رسول
الله - صلى الله عليه وسلم =
(2/141)
ونستعينُه، ونستغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من
شرورِ أنفسنا، وسيّئِات أعمالنا، من يَهْدِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومن
يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه
ورسولُه"، ويجزئ عن الخطبة أن يتشهد ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم
-.
__________
= التشهّد في الصلاة، والتشهّد في الحاجة: إن الحمد لله" الحديث، إلى أن
قال "ويقرأ ثلاث آيات" (شرح المنتهى 3/ 10).
(2/142)
باب (ركنيّ النكاح و) باب (1) (شرُوطه)
أي شروطِ النكاح.
أركانُ النكاحِ أجزاءُ ماهيّتِهِ. والماهيّةُ لا تتمُّ بدون جُزئِها. فكذا
الشيءُ لا يتمُّ بدون ركنِهِ.
(ركناهُ) أي النكاح، اثنان:
أحدهما: (الإِيجاب) وهو اللفظُ الصادرُ من الوليِّ أو مَنْ يقومُ مقامَهُ،
بلفظ النكاح، أو التزويجِ.
(و) الركن الثاني: (القبول) بلفظ: قبلتُ، أو رضيتُ هذا النكاحَ، أو قبلت أو
رضيتُ، فقط، أو تزوجتُها (مرتَّبَيْنِ) فلا يصحُّ النكاحُ إنْ تقدَّم قبولُ
على إيجابٍ.
وإن تراخى القبولُ عن الإِيجابِ حتى تفرّقا أو تشاغَلَا بما يقطعه عرفاً
بَطَل الإِيجابُ.
(ويصح النكاحُ هزلاً) أي يصح الإِيجابُ والقبولُ من هازلٍ.
(و) يصحُّ النكاحُ (بكلّ لسانٍ) بلفظٍ يؤدّي معناهما الخاصَّ (من
__________
(1) لم يحسن الشارح إذْ حَلَّ المتنَ بهذه الطريقة، إذ هو باب واحد، لا
بابان.
(2/143)
عاجزٍ عن) الإِتيان بهما بالـ (ـــعربي
(1)، لا) يصح إيجابٌ ولا قبولٌ (بالكتابة، ولا بالإِشارة) المفهومة (إلا من
أخرس) فيصحّانِ مِنْهُ بالإِشارةِ، نصَّ عليه. لأن النكاحَ معنًى لا
يستفادُ إلاَّ من جهته، فصحَّ بإشارتِهِ، كبيعه، وطلاقه.
[شروط صحة النكاح]
(وشروطُهُ) أي شروط صحّة النكاحِ (خمسةٌ) وَاحِدُها "شَرْطٌ" بإسكان الراء.
وهو: ما يلزَمُ من انتفائِهِ انتفاءُ المشروطِ، بمعنى أنه يلزم من عَدمِهِ
عدم صحة النكاح.
أحد الخمسة: (تعيينُ الزوجينِ) لأن النكاحَ عقدُ معاوضةٍ، أشبهَ تعيينَ
المبيعِ في البيعِ. ولأنَّ المقصودَ في النِّكاحِ التعيينُ، فلم يصحَّ
بدونِهِ.
إذا تقرر هذا (فلا يصحُّ) النكاح إن قال الوليُّ: (زوَّجتُك بنتي، وله)
بناتٌ (غيرها. ولا) يصحُّ النكاحُ إن قال: (قبلتُ نكاحَها) أي نكاح
مَوْليَّتِكَ فلانةَ (لابني، وله غيرُه، حَتى يُميّزَ كل منهما) أي من
الزوج والزوجة (باسمهِ) كفاطمة وأحمد، (أو صِفَتِه) التي لم يشاركْه فيها
غيرهُ من إخوته، كقوله: الكبرى، أو: الصغرى، أو: الوسطى، أو: البيضاء، أو:
الحمراء، أو: السوداء، أو: الكبير، أو: الصغير، أو: الأبيض، أو: الأسود.
[الرضا والإِجبار]
(الثاني): من شروطِ صحةِ النكاحِ (رِضَا زوجٍ مكلَّفٍ) وهو البالغ
__________
(1) اختار الموفق وجمع أن النكاح ينعقد بغير العربية لمن يحسنها، وقال
الشيخ [ابن تيمية] ينعقد بما عدّهُ الناسُ نكاحاً (عبد الغني) أي فما في
المتن من أن ذلك لا يصبح إن كان العاقد قادراً على التكلم بالعربية خلاف
المختار.
(2/144)
العاقل، (ولو) كانَ المكلَّفُ (رقيقاً) فلا
يملك سَيِّدُهُ إجبارَه، لأنه يملك الطلاقَ فلا يجبرُ على النكاحِ.
(فيُجْبِرُ الأَبُ، لا الجدُّ، غيرَ المكلَّفِ) من أولادهِ.
(فإن لم يكن أبٌ فوصيُّهُ) أي وصيُّ الأبِ، لقيامِهِ مقامَهُ.
(فإنْ لم يكن) للأب وصيٌّ (فالحاكِمُ) يزوِّج (لحاجةٍ، ولا يصحُّ من
غيرِهمْ أن يزوِّج غيرَ المكلفِ ولو رَضِي) لأنّ رضاهُ غيرُ معتبرٍ.
(ورِضا زوجةٍ حرَّةٍ عاقلةٍ ثيِّبٍ تَمَّ لها تسعُ سِنينَ) ولها إذنٌ صحيحٌ
معتبرٌ. فيشترط مع ثيوبتها. وُيسَنُّ مَعَ بَكارَتِها. قال في الإِنصاف:
للصغيرةِ بعد تسع سنين إذنٌ صحيحٌ معتبرٌ (فيجبرُ الأب) لا الجدُّ (ثيّباً
دون ذلك) أي دونَ من تمّ لها تسعُ سنينَ لأنّه لا إذن لها معتبر، (و) يجبر
الأبُ (بكراً، ولو) كانت (بالغةً) (1) لما روى ابنُ عباسٍ أن النبي - صلى
الله عليه وسلم - قال: "الأيِّمُ أحقُّ بِنَفْسِها من وليِّها، والبِكْرُ
تسْتأَذن (2)، وإذنُها صُماتها، أي سكوتُها" رواه أبو داود. فلما قسَم
النساءَ قسمينِ، وأثبَتَ الحقَّ لأحَدهما، دل على نفيه عن الآخر (3)، وهي
البكرُ، فيكون وليُّها
__________
(1) فإن عيّنتْ بنت تسعٍ فأكثر كُفْئاً، وعيَّنَ أبوها كفئاً غيره، قُدِّم
من عيَّنَتْه هي (ش. المنتهى).
هذا وإن في تزويج الرجل أبنته البكر البالغة جبراً عنها رواية أخرى بعدم
الجواز، موافقاً لمذهب أبي حنيفة، لما ثبت في الصحيحين أن النبى - صلى الله
عليه وسلم - قال "لا تنكح الأيّم حتى تُستَأمر ولا تنكح البكر حتى
تُستَأذن" متفق عليه، ولما روى أبو داود وغيره عن ابن عباس أن جارية بكراً
أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت أن أباها زوّجها وهي كارهة،
فخيّرها النبي - صلى الله عليه وسلم - (مغني 6/ 488) قلت: وظاهر حديث أبي
داود أن زواجها يكون موقوفاً على رضاها.
(2) كذا وصواب الرواية كما في شرح المنتهى "والبكر تستأمر" (عبد الغني) قلت
"تستأذن" كذا في كنز العمال 16/ 311).
(3) في هذا الاستدلال نظر، فإنك لو قلتَ "لستَ أحقَّ مني بكذا" لم يدلّ على
أني "لا حقَّ لي"، بل يحتمل ذلك، ويحتمل أن المراد أن لي حقّا مثل حقّك، أو
على الأقل دون حقك. فهو إذن نفى للأحقّيَّة، لا نفي لأصل الحقّ، بل الحق
للبكر ثابت. ورعاية ذلك =
(2/145)
أحقَّ منها بها. ودل الحديث على أن
الاستئمار هاهنا والاستئذانَ في حديثهم (1) مستحبٌّ غير واجبٍ، لما روى ابن
عمر، قال: "قال رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: آمِرُوا النساءَ في
بناتِهنّ" (2) رواه أبو داود.
(ولكل وليًّ تزويجُ يتيمةٍ بلغت تسعاً بإذنها) لأنها تصلُحُ بتمامِ التسعِ
سنينَ للنِّكاحِ، وتحتاجُ إليه، فأشبهت البالغة.
(لا مَنْ دونها) أي دون تسع سنين (بحالٍ) أي سواء أذِنَتْ أم لا (إلاَّ
وَصيَّ أبيها) قال في شرح المنتهى: فيجبُر الوصيُّ من يجبُرُهُ الموصِي
لَوْ كانَ حيًّا، من ذكرِ أو أنثى. انتهى.
(وإذنُ الثيّب) أي من صارت ثيّباً بوطءٍ في قُبُلٍ، ولو كانَ وطؤُها بزناً،
أو مَع عَوْدِ بَكَارَتِها بعد إزَالتها (الكلامُ) لقوله - صلى الله عليه
وسلم -: "الثيّبُ تُعْرِبُ عن نفسِها" (3) أي: تُبِينُ، ولأنَّ قوله - صلى
الله عليه وسلم -: "لا تنكح الأيّمُ حتى تُسْتَأْمَرَ، ولا تُنْكَحُ
البكْرُ حتى تُستَأذَنَ، وإذنها سكوتها" يدلُّ على أنه لا بد من نطقِ
الثيّبِ، َ لأنّه قسَمَ النساءَ قسمين، فجعل السكوتَ إذناً لأحدهما،
__________
= الحق واجبة، وإنما يكون باستئذانها عملاً بما صرّحت به السنة في روايات
كثيرة قد تبلغ التواتر. وانّما أكتفت السنة من البكر بالصمت دلالهَ على
الإِذن، لشدة حيائها، لا لأن رضاها غير معتبر. أما الثيب فإنها تستأمر أي
تشاور ويؤخذ رأيها صراحة والله أعلم.
(1) يعني حديث المخالفين القائلين بأن إنكاح البكر كالثيب لا يصح إلا
بإذنها. وهو حديث الصحيحين "لا تنكح البكر حتى تستأذن" (عبد الغني).
(2) حديث "آمِروا النساء في بناتهنّ" رواه أبو داود والبيهقي من حديث ابن
عمر. وهو ضعيف. (ضعيف الجامع الصغير).
والشارح ذكر هذا الحديث، مدلّلاً به على ما ذكر. ووجهه ان استثمار الأم ليس
بواجب اتفاقا بل هو مستحب، قالوا فكذلك استثمار المخطوبة نفسها ليس واجباً.
ولكن للآخرين أن يجيبوا بأن حديث (آمروا النساء .. " فيه أمر، فيمكن حمله
على الاستحباب دون الوجوب. أما حديث "لا تنكح البكر حتى تستأمر" فهو نفي أو
نهي ويدل على الفساد. ثم إن حديث "آمروا" ضعيف فلا تقوم به حجة أصلاً.
(3) حديث "الثيب تُعْرِب عن نفسها" رواه أحمد ومسلم من حديث عميرة الكندي.
(كنز العمال 16/ 312).
(2/146)
فوجب أن يكون الآخر بخلافِهِ، والموطوءة
بزناً ثيّبٌ موطوءة في القُبُل، لأنّه لو وصّى للثّيّب دخلتْ في الوصية،
ولو وصّى للأبكارِ لم تدخل.
(وإذنُ البِكْرِ) ولو وُطئت في دُبُر (الصُّماتُ) ولو ضحكَتْ أو بكتْ.
ونطقُها بالإِذن أبلغ من صماتها.
(وشُرِطَ في استئذانها) أي في استئذانِ من يشترط استئذانها (تسميةُ الزوجِ)
بحيت تكونُ تلك التسميةُ (على وجهٍ تقعِ به المعرفة) أي معرفتها، بأن يذكر
لها نسبُه ومنصِبُه ونحو ذلك، لتكون على بصيرةٍ في إذنها في تزويجه. قالَ
في الإِقناع وشرحه: ولا يشترط في استئذانٍ تسميةُ المهر.
(ويجبرُ السيّد، ولو كان فاسقاً، عبدَهُ غيرَ المكلّف) أي الصغير والمجنون،
لأن الإِنسان إذا ملَك تزويجَ ابنِه الصغيرِ والمجنونِ، فعبدُه الذي كذلك،
مع مِلكِه إياه، وتمامِ ولايتِهِ عليه، أوْلى.
(و) يجبر السيد أيضاً (أمتَه، ولو) كانت (مكلّفة) سواء كانت بكراً أو
ثيّباً، وسواءٌ كانت قِنًّا، أو مدبّرة، أو أمّ ولدٍ، لأن منافعها مملوكة
له، والنكاح عقد على منافعها، فأشبه عقد الإجارة، ولا فرقَ بين كونها
مباحةً أو محرّمةً عليه، كما لو كانت أمَّهُ أو أخته من رضاعٍ أو مجوسيّةً،
فإن له تزويجهما، وإن كانتا محرّمتين عليه، لأن منافعهما مملوكة له. وإنما
حَرُمتَا عليهِ لعارضٍ.
[الولي في النكاح]
(الثالث) من شروط صحة النكاح: (الوليُّ) إلاَّ على النبيّ - صلى الله عليه
وسلم - (1). (وشُرِط فيه) أي في ثبوتِ الولايةِ لهُ سبعة شروط على خلاف في
بعضها:
__________
(1) فقد كان له أن يتزوج المرأة بدون وليّ. وفي الحقيقة هو الولي، فلا
اختصاص، لقوله تعالى {النبي أولى بالمؤمين من أنفسهم}.
(2/147)
الأول: (ذكورية) لأن المرأة لا تثبُتُ لها
وِلايةٌ على نفسِها، فعلى غيرها أولى.
(و) الثاني: (عقل) لأن الولاية إنما ثبتت نظراً للمُوَلَّى عليه عند عجزِه
عن النظر لنفسه. ومن لا عقلَ له لا يمكنه النظر، ولا يلي نفسه، فغيرَهُ
أوْلى.
وسواء في ذلك من لا عقل له لصغرِهِ، أو ذَهب عقلُه بجنونٍ أو كبرٍ.
فأما الإِغماءُ فلا تزولُ الولاية به، لأنه يزولُ عن قربِ، فهو كالنومِ.
ولذلك لا تثبت الوَلاية على المغمى عليه. ويجوزُ علىَ الأنبياء عليهم
الصلاة والسلام.
ومن كان يُخْنَقُ في الأحيان لم تزل ولايته.
(و) الثالث: (بلوغ) لأن الولايةَ يعتبر لها كمالُ الحالِ، لأنها تفيد
التصرُّف في حق غيره، والصبيّ مولَّى عليه لقصوره، فلا تثبت له ولاية،
كالمرأة.
(و) الرابع: (حريّة) يعني كمالها لأن العبد والمبعّض لا يستقلان بالولاية
على أنفسِهما، فعلى غيرِهما أولى.
ويستثنى من ذلك صورةٌ، وهي أنّ المكاتَبَ يزوّج أمته. وتقدَّم.
(و) الخامس: (اتفاقُ دينٍ) أي اتفاق دين الوليّ والمولَّى عليها.
فلا يثبتُ لكافرٍ ولايةٌ على مسلمةٍ، ولا لنصرانيٍّ على مجوسيّة، ونحو ذلك.
ويستثنى من ذلك ثلاثُ صور: الأولى: أم ولد الكافر إذا أسلمت. الثانية: أمةٌ
كافرةٌ لمسلم. الثالثة: السلطان.
(و) السادس: (عدالةٌ) لأنها ولايةٌ نظرية، فلا يستبدّ بها الفاسقُ،
(2/148)
كولاية المال، لكن لا يشترَطُ كونُ الوليِّ
عدلاً باطناً وظاهراً، فلهذا قال: (ولو ظاهرةً) ويستثنى من ذلك صورتان:
الأولى منهما: السلطان. الثانية: السيّد، فلا يشترط فيهما لتزويجهما
العدالة.
(و) السابع: (رُشْدٌ. وهو) أي الرُّشْدُ هنا لتزويجهما (1) (معرفة الكفءِ
ومصالح النكاح) قال الشيخ تقي الدين: الرشدُ هنا هو المعرفةُ بالكفءِ
ومصالحِ النكاحِ، وليس هو حفظَ المال، فإنّ رُشْدَ كلِّ مقامٍ بحسبِهِ.
وظاهرُ ما تقدّم أنه لا يشترط في الولي كونُه بصيراً. وهو ذلك.
ولا يشترط في الوليّ أن يكون متكلماً إذا فُهِمَتْ إشارته.
[ترتيب الأولياء]
(والأحقُّ) من الأولياء (بتزويج الحرةِ أبوها) وإنما قيَّدَ بالحرّةِ لأنه
لا ولايةَ لأب (2) الأمة عليها اتفاقاً، لأن الأب أكمل نظراً وأشدُّ شفقةً،
فوجَبَ تقديمُهُ في الوِلايةِ (وإنْ عَلَا) يعني أنَّ الجدَّ أبا الأبِ وإن
علَتْ درجته أحقُّ بالولاية من الابنِ والأخ، لأن الجدَّ لَهُ إيلادٌ
وتعصيبٌ، فقُدِّم عليهما، كالأب. فعلى هذا يكون الجدُّ أولى من جميع
العصباتِ غيرَ الأب.
وإذا اجتمع أجدادٌ كان أَوْلاهُمْ أقربَهُمْ، كالجدّ مع الأب.
(فابنها) يعني أن ولايةَ الحرّةِ بعد جدها وإن علا لابنها (وإن نزل) يقدم
الأقرب فالأقرب.
(فالأخُ الشقيقُ، فالأخ للأب) لأن ولاية النكاحِ حقٌّ يستفاد بالتعصيبِ،
فقُدِّم فيه الأخُ من الأبوينِ.
__________
(1) (ب، ص): "لتزوُّجِهما" والتصويب من (ف). والضمير يرجع إلى الرجل
والمرأة.
(2) في الأصول "لأب الأمة" والأولى "لأبي الأمة".
(2/149)
(ثم الأقربُ فالأقربُ كالإِرث) وجملة ذلك
أنَ الولايةَ بعد الإِخوةِ تترتَّبُ على ترتيب الميراثِ، بالتعصيبِ،
فأحقُّهم بالميراثِ أحقُّهم بالولايةِ. فعلى هذاَ لا يلي بنو أبٍ أعلى مع
بني أبِ أقرب منه.
وعُلم مما تقدم أنه لا ولايةَ لغيرِ العصباتِ كَالأخِ من الأمِّ، والعمّ من
الأم، والخالِ، وأبي الأم، ونحوهِمْ. نص عليه.
ثم يلي نكاحَ الحرةِ عند عدم عصبة نسبٍ المولى المنعِمُ ثم عَصَبتُهُ
الأقربُ فالأقربُ.
(ثم السلطان) وهو الإمام الأعظم (أو نائبه) قال أحمد: والقاضي أحبُّ إليّ
من الأمير في هذا، ولو من بغاةٍ إذا استولوا على بلدٍ.
(فإن عدم الكل) أي عدم عصبةُ المرأةِ والولاءِ وعدم السلطانُ والقاضي من
المكان الذي بهِ المرأة (زوَّجَها ذو سلطانٍ في مكانِهَا) كعَضْلِ الوليِّ
(1) (فإن تعذَّر) ذو سلطانٍ في مكانِهَا (وكَّلَتْ مَن) أي رجلاً عدلاً في
ذلك المكان (يزوّجها)، فإن أحمد قال في دَهْقانِ قريةٍ، أي شيخها:
يُزَوِّجُ من لا وليّ لها إذا احتاط لها في الكفءِ والمهر إذا لم يكن في
الرُّسْتاقِ قاضٍ. انتهى.
(فلو زوّجَ) المرأةَ (الحاكمُ أو) زوَّجَها (الوليُّ الأبعد بلا عذرٍ
للأقرب) إليها منه (لم يصحَّ) النكاح لأنَّ الأبعَدَ والحاكِمَ لا ولايةَ
لهما مع من هو أحقُّ منهما، أشْبَهَ ما لو زوَّجَها أجنبيٌّ ليسَ بحاكِمٍ.
(ومن العُذْرِ غَيْبَةُ الوليّ فوق مسافةِ قَصْرٍ) لأنّ مَنْ دونَ ذلك في
حكم الحاضرِ، (أو تجهلَ المسافةُ) بأن لا يُعلَمَ أقريبٌ هو أم بعيد، (أو
يُجْهَلَ مكانُهُ مع قربِهِ، أو يَمْنَعْ من بلغتْ تسعاً كفؤاً رَضِيَتْ
به) ورضيتْ بما صَحَّ مهراً.
__________
(1) أي إن عَضَلها الأَولياء فأبوا تزويجها من الكفء، ولا إمام، زوّجها منه
سلطان المكان.
(2/150)
فصل [التوكيل في التزويج والإِيصاء به]
(ووكيلُ الولي) أي كلِّ وليٍّ (يقومُ مقامَهُ) غائباً وحاضراً، سواءٌ كان
مجبراً أو غيرَ مجبرٍ.
(ولهُ) أي للوليِّ إن لم يكن مجبِراً (أنْ يوكِّل بدونِ إذنِها) أي إذنِ
مَوْليتِهِ لأنَّه إذنٌ من الوليّ في التزويجِ، فلا يفتقِرُ إلى إذنِ
المرأةِ، ولا الإِشهادِ عليه، كإذنِ الحاكِمِ. ولأن الوليَّ ليس بوكيلِ
المرأةِ، بدليلِ أنها لا تملِكُ عزلَهُ من الوِلاية.
ويثبتُ لوكيلِ الوليّ ما للوليّ من إجبارٍ وغيره.
(لكن لا بدَّ من إذنِ) موليَّةٍ (غيرِ المُجْبَرَةِ للوكيلِ) أي وكيلِ
وليِّها، فلا يكفي إذنُها لوليها بتزويجٍ أو توكيلٍ في تزويجِها بلا
مراجعةِ وكيلِ غيرَ المجبَرَةِ (1). وإذنُ الموليّة غيرِ المجبَرَةِ لوكيلِ
وليِّها إنما يكون (بعد توكيلِهِ) أي توكيلِ وليّها لأنه قبل أن يوكّلَهُ
الوليُ أجنبيّ، وبعد توكيلِهِ وليّ.
(ويشترط في وكيلِ الوليّ ما يشترط فيه) أي في الوليّ من ذكوريّة وبلوغ
وغيرِهما، لأنها وِلاية، فلا يصحّ أن يباشرها غيرُ أهْلِها.
(ويصحُّ توكيلُ الفاسِقِ في القبولِ) للنكاحِ لأنه يصحُّ قبولُه النكاحَ
لنفسِهِ، فيصحُّ لغيرِهِ.
ومن نحو ذلك المسلمُ يوكِّلُ النصرانيَّ في قبولِ نكاحِ زوجَتِهِ
الكتابِيَّةِ، لصحّةِ قبوله لنفسِهِ. قاله في شرح المنتهى.
(ويصح التوكيلُ) أي توكيلُ الوليّ في إيجابِ النكاحِ توكيلاً
__________
(1) أي لا بدّ من مراجعةِ الوكيل المرأةَ غيرَ المُجْبَرَةِ ليصحّ تزويجه
لها، ولا يكفي مجرُّد توكيل الوليّ له، ولا أذنُها لوليَها بتزويجها أو
التوكيل فيه.
(2/151)
(مطلقاً، كـ) قوله لوكيله: (زوِّجْ من
شئتَ) روي أنَّ رجلاً من العرب (1) تَرَك ابنته عند عمر رضي الله عنه،
وقال: إذا وجدتَ كفؤاً، فزوَجْهُ ولو بشراكِ نعلِهِ، فزوَّجَها عثمانَ بن
عفانَ رضي الله عنه، فهي أمُّ عمرِو بن عُثمانَ. واشتُهِرَ ذلك فلم
يُنْكَرْ. ولأنه إذنٌ في النكاحِ، فجاز مطلقاً.
(ويتقيّد) أي هذا التوكيلُ المطلقُ (بالكفءِ).
ولا يملك بهِ أن يزوِّجَهَا من نفسِهِ من غيرِ إذن الموكِّل.
(و) يصحُّ توكيلُهُ توكيلاً (مقيَّداً كزوِّجْ زيداً) أو زوِّجْ هذا.
(ويشترط) لصحةِ النكاحِ معَ وجود التوكيلِ في الإيجاب والقبولِ أو في
أحدهما (قولُ الوليِّ) لوكيلِ زوجٍ، (أو) قولُ (وكيلِهِ) أي وكيلِ الوليّ
لوليّ زوجٍ: (زوَّجْت فلانةَ فلاناً، أو): زوجْتُ فلانَةَ (لفلانٍ).
(و) يشترط (قولُ وكيلِ الزوجِ: قبلتُهُ) أي قبلتُ النكاح (لموكِّلي فلانٍ،
أو): قبلتُهُ (لفلانٍ.) ولا يصحُّ إن لم يقل: لفلانٍ، في الأصحِّ.
(ووصيُّ الوليِّ) أباً كانَ الولي أو غيره (في النكاح) أي في إيجاب النكاح
(بمنزلتِهِ) أي بمنزلة الموصي إذا نص المُوَصِّي له عليه.
(فيجبُرُ) الوصيُّ (من يجبُرُهُ) الموصي لو كان حيًّا من (ذكر وأنثى) وقال
مالك: إن عينَ الأبُ الزوجَ ملَكَ إجبارها، صغيرةً كانت أو كبيرةً. وإن لم
يعيِّنِ الزوجَ وكانتْ ثيباً كبيرةً صحَّتِ الوصيّةُ واعتُبر إذنها. وإن
كانت صغيرة انتظرنا بلوغَها. فإذا أَذنَتْ جازَ أن يزوِّجها بإذنها (2).
ولنا أن من مَلَكَ التزويج إذا عُيِّن له الزوجُ مَلَكَهُ مع الإِطلاق.
(وإن استوى وليَّانِ فأكثرُ) لامرأةٍ (في درجةٍ) كإخوةٍ لها كلهم لأبوين،
أو كلُّهم لأبٍ، أو أعمامٍ كذلك، أو بني أخوة كذلك (صحَّ
__________
(1) هو عمرو بن حممة الدوسي. وقصته في كتاب "الأغاني" بطولها. انظر فهرسِ
الأغاني.
(2) هذا النص عن مالكٍ مأخوذ من المغني ط3 (6/ 464)، وهو مخالف لخطَّة
الشارح من عدم نقل الخلاف من خارج المذهب.
(2/152)
التزويجُ من كلِّ واحد) من المستويين، لأنّ
سبَبَ الولايةِ موجودٌ في كلِّ واحدٍ منهم (إن أذنتْ لهم) أي لكل واحد منهم
(فإن أذنَتْ لأحدهمْ تعيَّن) للتزويجِ من أذنَتْ له (ولم يصحَّ نكاحُ
غيرِهِ) أي لا يصحّ أن يزوِّجَهَا من لم تأذنْ له.
[توليّ طرفي العقد]
(ومن زَوَّجَ بحضرةِ شاهدَيْنِ عبدَهُ الصغيرَ بأَمَتِهِ) جاز أن يتولّى
طرفي العقد بلا نزاعٍ لأنه عقدٌ بحكمِ المِلْكِ لا بحكم الإِذن.
(أو زوّجَ ابنَهُ بنحو بنتِ أخيهِ) أو زوّجَ وصيٌّ في نكاحٍ صغيراً بصغيرةٍ
تحت حجرِهِ ونحوِهِ، صح أن يتولّى طرفي العقد.
(وكذا وليُّ امرأةٍ عاقلةٍ تحلُّ له، كابن عمٍّ ومولًى وحاكِمٍ، إذا أذنت
له في تزويجِها.
(أو وكّلَ الزوجُ الوليَّ) أي وليَّ المخطوبةِ في قبولِ نكاحِ الزوجِ من
نفسِ الوليّ، يعني فإنه للوليّ أن يتولّى طَرَفَي العقد، (أو عكسُهُ) وهو
أن يوكِّلَ الوليُّ الزوجَ في إيجاب النكاحِ لنفسه، فإذا فعل ذلك جازَ
للزوجِ أن يتولّى طرفي العقد.
(أو وكّلا) أي الوليُّ والزوج رجلاً (واحداً) بأن يوكِّلَهُ الوليُّ في
الإيجاب، ويوكّلَهُ الزَوْجُ في القبولِ فإذا فَعَلَ ذلكَ (صحَّ) للوكيل
عنهما (أن يتولّى طرفي العقد) قال في شرح المنتهى: ويمكن أن يقالَ: ونحو
النكاح من العقودِ، كما لو وكّلَ البائِعُ والمشتري واحداً، والمؤجِرُ
والمستأجِرُ واحداً، فإنه يجوز له أن يتولّى طرفي العقد.
ولا يشترَطُ فيمن يتولَّى طرفي العقدِ أن يأتي بالإيجابِ والقَبُولِ في
الأصح. (ويكفي) قوله: (زَوَّجْتُ فلاناً فلانَةَ) من غير أن يقول: قبلتُ له
نكاحَهَا، (أو) يقول: (تزوَّجْتُها) أي تزوجت فلانةَ (إن كان هو الزوجَ)
(2/153)
من غير أن يقولَ: ونكاحَهَا لنفسي (1).
ويستثنى من ذلك صورتانِ: إلا بنتَ عمِّهِ، وعتيقَتَه، المجنونتَيْنِ،
فيُشْتَرَطُ لصحّةِ النكاحِ، إذا أراد أن يتزوَّجَهُمَا، وليٌّ غيرُه أو
حاكم.
(ومن قال لأمتِهِ) التي يحلُّ له نكاحُها، لو كانت حرَّةً، من قنٍّ أو
مدبَّرةٍ أو مكاتَبَةٍ أو معلَّقٍ عتقُها بصفةٍ أو أمِّ ولدٍ: (أعتَقْتُكِ،
وجعلتُ عِتْقَكِ صداقَكِ) أو: جعَلتُ عتقَ أَمَتي صداقَها، أو: جعلتُ صداقَ
أمتي عِتْقَهَا، أو قال: أعتقتُها وجعلتُ عتقَها صداقَها، أو قال: أعتقتُها
على أنَّ عتقَها صداقُها، أو قال: أعتقتُكِ على أن أتزوجَكِ وعِتْقي
صداقُكِ، (عتقَتْ، وصارتْ زوجةً (2) إن توافرتْ شروط النكاح،) منها: أن
يكونَ الكلام متَّصِلاً، وأنْ يكونَ بحضرةِ شاهِدَيْنِ. فلو قال: أعتقتُكِ،
وسكتَ سكوتاً يمكنه الكلامُ فيه، أو تكلَّمَ بكلامٍ أجنبيٍّ، ثم قال:
وجعلتُ عتقَكِ صداقكِ، لم يصحّ النكاحُ، لأنها صارتْ بالعتق حرَّةً، فيحتاج
أن يتزوجها بِرِضاها بصداقٍ جديدٍ.
[الشهادة على النكاح]
(الرابع) منْ شروطِ صحةِ النكاح: (الشهادة) عليهِ، احتياطاً للنَّسَبِ خوفَ
الإِنكارِ، ولأنّ الغَرَضَ من الشَّهادةِ إعلانُ النكاحِ، وأن لا يكون
مستوراً. ولهذا يثْبُتُ بالتسامُعِ، (فلا ينعقِدُ) النكاحُ (إلا بشهادةِ
ذكرَيْنِ مكلفَيْنِ) أي بالغَين عاقِلَيْنِ، (ولو رقيقينِ، متكلمينِ
سميعينِ مسلمين،) ولو أنَّ الزوجةَ ذِمِّيَّة، (عدلين، ولو) كانت عدالتهما
(ظاهراً)
__________
(1) كذا في الأصول، وقال (عبد الغني): لعله: وقبلتُ نكاحها لنفسي.
(2) أي لأنه أعتقها عتقاً مشروطاً بأن يكون صداقاً، فتتوقف صحة العتق على
صحة النكاح. ولو قال: أعتقتك وزوجتك لزيد وجعلت عتقك صداقك صح كذلك.
(2/154)
لأن النكاح يكون في القُرى والبوادي وبين
عامَّة الناس ممن لا يعرفُ حقيقةَ العدالةِ، فاعتبار ذلك يشقُّ، فاكتُفِيَ
بظاهرِ الحالِ فيه، فلا يُنْقَضُ ولو بانا فاسقينِ (من غيرِ أصْلَيِ
الزوجينِ وفرعيهما) كأبي الزوجةِ، أو الزوج، أو أبنائهما، لأنهم لا تقبل
شهادتهم للزوجينِ، سواءٌ كانوا آباءهم أو أبناءهم.
(ولا يُشتَرط كون الشاهدين بصيرينِ، فيصحُّ ولو أنهما ضريران، أو عدُوَّا
الزوجين، أو أحدُهما، أو الوليّ.
(الخامس) من شروط صحة النكاح: (خلو الزوجين من الموانع) الآتية في باب
المحرَّمات (بأن لا يكونَ بهما) أي الزوجين، (أو بأحدهما، ما يمنعُ من
التزوّج، من نسبٍ أو سببٍ) كرضاعٍ، ومصاهرةٍ، أو اختلاف دين، بأن يكونَ
مسلماً وهي مجوسيّةٌ، أو كونها في عدة، أو أحدهما محرِماً.
[الكفاءة]
(والكفاءَةُ) في الزوجِ (ليستْ شرطاً لصحة النكاح) (1) بل شرطٌ لِلُزومِهِ.
قال في شرح الإِقناع: هذا المذهبُ عند أكثر المتأخّرين. قاله في المقنع
والشرح. وهي أصحّ. فهذا قولُ أكثرِ أهلِ العلم. فعلى هذا يصحُّ النكاحُ مع
فَقْدِها. وقدّم في المنتهى أن الكفاءَةَ شرطٌ للصحّة. قال في شرحه: وهي
المذهبُ عند أكثر المتقدمين (2) (لكن لمن زوجت بغير كفءٍ) بعد أن عُقِدَ
العقدُ (إن تفسخَ نكاحَها، ولو) كان الفسخ (متراخياً) لأنه خيارُ نقصٍ في
المعقود عليهِ، أشبهَ خيارَ العيبِ (ما لم ترضَ) أي
__________
(1) الماتن والشارح أحسنا صنعاً في هذه المسألة إذ خالفا ما قدّمه صاحب
المنتهى وشارحه من أن الكفاءة شرط للصحة.
(2) أما الكفاءة في الزوجة فليست شرطا للصحة ولا للّزوم اتفاقاً.
(2/155)
الزوجةُ (بقولٍ أو فعلٍ) كما لو مكَّنتهُ
عالمةً بأنّه غيرُ كفءٍ.
(وكذا) يكون (لأوليائِها) كلِّهم، القريبِ والبعيدِ، الفسخُ، حتى من
يَحْدُثُ منهم بعد العقد، لتساويهم في لحوق العارِ بفقدِ الكفاءة.
(ولو رضيْتْ، أو رضي بعضُهم، فلمن لم يرضَ الفسخُ.)
ويملكهُ الأبعدُ مع رضا الأقرب.
(ولو زالتِ الكفاءَةُ بعد العقدَ فلها) أي الزوجةِ (فقط الفسخ) دون
أوليائِها، كعتقِها تحتَ عبدٍ، ولأن حقّ الأولياءِ في ابتداءِ العقد، لا في
استدامته.
(والكفاءَةُ) لغةً المماثلةُ والمساواةُ (معتبرة في خَمسةِ أشياءَ) (1):
الأول: (الديانة) فلا يكون الفاجرُ، ولا الفاسقُ، كفؤاً لعفيفةٍ عدلٍ، لأنه
مردودُ الشهادةِ والروايةِ، وذلك نقصٌ في إنسانيتِهِ، فلا يكونُ كفؤاً
لِعدْلٍ.
(و) الثاني: (الصّناعَةُ) فلا يكونُ صاحبُ صناعةٍ دنيئةٍ، كالحجّام
والحائكِ والزبّالِ والنفاطِ، كفؤاً لبنتِ من هو صاحبُ صناعةٍ جليلةٍ،
كالتاجِرِ والبزّاز، وهو الذي يتّجر في القماش.
(و) الثالث: (الميسَرَةُ) بالمالِ، بِحَسب ما يجبُ لها من المهرِ والنفقةِ.
وقال ابنُ عقيلٍ: بحيثُ لا تتغيَّر عادَتُهَا عند أبيها في بيتِهِ. فلا
يكون المعسِرُ كفؤاً لموسرةٍ.
وليسَ مولَى القوم كفؤاً لهم (2).
__________
(1) وذكر القاضي في المجرّد أن الصناعة، واليسار والحريّة، لا يبطل فقدها
النكاح رواية واحدة. وأن في اعتبار الدين والمنصب روايتين.
وقال مالك: الكفاءة الدين فقط. أي لقوله تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ
اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} (المغني) قلت: وهو الأقرب إلى روح الإِسلام وهديه وما
جاء به من إبطال "عُبِّيَّةِ الجاهلية وتعاظمها بالآباء إنما هما اثنان:
مؤمن تقيّ، وفاجر شقيّ".
(2) في هذا نظر، فإن في شرح المنتهى أن موالي بني هاشم ليسوا أكفاء لهم،
وليس فيه =
(2/156)
(و) الرابع: (الحريّة) فلا يكون العبدُ
والمبعَّض كفؤاً لحرَّةٍ ولو عتيقة.
(و) الخامس: (النَّسَبُ) فلا يكون العجميّ، وهو من ليس من العَرَبِ كفؤاً
لعربيّة.
ويَحْرم على وليِّ المرأةِ تزويجُها بغير كفءٍ بغير رضاها. ويفسُقُ به
الولي.
__________
= تعرض لموالي غيرهم فَلِمَ عمَّمَ الشارح الحكم؟ وفي موالي بني هاشم رواية
أخرى أنهم أكفاء لهم.
(2/157)
باب المحَرَّمَات في النّكاح
المحرَّماتُ ضرْبان:
ضرْبٌ على الأبد (1)، وهن أقسام خمسة:
[محرمات النسب]
الأول (2): ما أشار إليه بقوله: (تحرُم أبداً الأمُّ) وهي الوالدة
(والجدَّةُ من كلِّ جهةٍ) أي لأبٍ أو لأمٍّ، وإن علتْ.
(والبنتُ، ولو) كانتْ (من زناً) أو شُبهةٍ. ويكفي في التحريم أن يعلم أنها
بنتُه ظاهراً، وإن كان النسبُ لغيرِهِ. (وبنت الولدِ) ذَكَراً كان أو
أُنثى، وإن سفل) (3).
(والأُختُ من كل جهةٍ) أي سواءٌ كانت شقيقةً أو لأبٍ أو لأمٍّ.
(وبنتُ ولدها) ذكراً كان أو أنثى.
(وبنت كلِّ أخٍ) أي سواءٌ كان شقيقاً أو لأبٍ أو لأمٍّ، (وبنتُ
__________
(1) مقابله المحرمات إلى أمَدٍ، وهنَّ ما يأتي في الفصل التالي من الجمع
بين الأختين وما بعده.
(2) وهذا الصنف من السبع المذكورات في قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ
أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ
وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ}.
(3) كذا في (ف)، أما (ب، ص) فالذي فيهما "وإن سفل أبوها." والحذف أولى
ليشمل بنت البنت.
(2/158)
ولدها) ذكراً كان أو أُنثى.
(والعمة) من كل جهة.
(والخالة) من كل جهة.
[محرمات الرضاع]
الثاني: من المحرّمات على الأبد ما أشار إليه بقوله (ويحْرُمُ بالرضاعِ)
ولو محرَّماً، كمن غصَب امرأةً على إرضاع طفلٍ (ما يحرُمُ بالنَّسب) يعني
أن كلّ امرأةٍ حرُمتْ من النَّسَبِ حَرُمَ مثلُها من الرضاعِ، حتى في
مصاهرةٍ، فتحرم زوجةُ أبيهِ وولدهِ من رضاعٍ، كَمِنْ نسبٍ (إلا) أنه لا
يحرُم على الرجل (أُمَّ أخيهِ) من رِضاعٍ، (و) إلا (أخْتَ ابنِهِ من
الرَّضاعِ، فتحلُّ كـ) ما تحلُّ (بنتُ عمَّتِهِ، و) بنتُ (عمِّه، وبنتُ
خالَتِهِ، و) بنتُ (خالِهِ).
[محرمات المصاهرة]
الثالث: من المحرّماتِ على الأبدِ ما أشار إليه بقوله: (ويحرُم أبداً
بالمصاهرةِ أربعٌ: ثلاثٌ) يحرُمْنَ (بمجرَّدِ العَقْدِ) قال في حاشية
الإِقناع: مقتضى كلامِ القاضِي في "المجرَّد": لا فرق في ذلك بين العقدِ
الصحيحِ والفاسدِ، فإنه قال: يَثْبُتُ بِهِ جميع أحكامِ النِّكاحِ إلا
الحِلِّ، والإحلالَ، والإِحصانَ، والإِرثَ، وتنصيفَ الصداقِ بالفُرْقة قبل
المسيس. وظاهرُ كلامِهِ في "التعليق" خلافُهُ (1). انتهى.
الأولى: (زوجةُ أبيهِ وإن علا).
(و) الثانية: (زوجةُ ابنِهِ وإن سفل).
(و) الثالثة: (أُمُّ زوجتِهِ) وإن عَلَتْ من نسبٍ أو رضاعٍ، لقوله
__________
(1) وهو أولى، لأن الفاسدَ ليس بمعتبر شرعاً، فكانه غير موجود.
(2/159)
تعالى: {وَأُمَّهَات نِسَائِكمْ} والمعقودُ
عليها من نسائِهِ. قال ابن عباس: "أبْهِمُوا ما أبْهَمَ القُرْآن" (1) أي
عَمِّموا حُكْمَها في كلِّ حالٍ ولا تَفْصِلوا بين المدخول بها وغيرها.
(فإن وَطِئها حَرُمَتْ عليه أيضاً بنتُها) فلا يُحَرِّم الربيبةَ إلا
الوطءُ دونَ العقدِ والخلوةِ والمباشرةِ دون الفرجِ، للآية، (و) حرمتْ عليه
أيضاً (بنتُ ابنها، [وبنت بنتها] وبغير العقد) فيما ذكر (لا حرمة إلا
بالوطءِ في قُبُلٍ) أصليّ (أو دبُرٍ) لأنه فرجِ يتعلَّق به التحريم، إذا
وُجِدَ في الزوجةِ أو الأَمَةِ (إن كان) الذي غيب ذكره الأصليّ (ابنَ عشرٍ
في بنتِ تسعٍ) فلو أدخل ابن ستّ سنينَ حشفته في فرج امرأةٍ، أو أدخل كبيرٌ
حشفته في فرج بنت سبع سنين، لم يؤثّر في تحريم المصاهرة.
أما ثبوتُ تحريمِ المصاهرةِ بالوطءِ الحلالِ فإجماعٌ وأما بوطء الشبهةِ
والزنا فعلى الصحيح من المذهب.
(وكانا) أي الواطئ والموطوءة (حيَّيْنِ) فلو أولجَ الرجلُ حشفته في فرجِ
ميتةٍ، أو أدخلت امرأةٌ حشفة ميّتٍ في فرجها لم يؤثّر في تحريم المصاهرة.
(ويحرم بوطء الذكر ما يحرم بوطء الأنثى) فلا تحلُّ لكلٍّ من لائطٍ وملوطٍ
به أمُّ الآخرِ ولا بنتهُ. ووجهه أنه وطءٌ في فرج فنَشَرَ الحُرمةَ كوطءِ
المرأة.
(ولا تحرُم أمُّ) زوجةِ أبيهِ (ولا بنتُ زوجةِ أبيه و) لا تحرُم أمُّ زوجةِ
ابنِه ولا بنتُ زوجة (ابنِهِ).
__________
(1) قول ابن عباس "ابهموا ما أبهم القرآن": لم نجده في كنز العمال. وفي
(الإِرواء ح 1878) ما حاصله: لم أقف على إسناده بهذا اللفظ. ورواه البيهقي
بلفظ "هي مبهمة، وكرهه" وسنده صحيح. وعزاه السيوطي في الدر المنثور إلى ابن
أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2/160)
فصل [الضرب الثاني: المحرّمات إلى أمَد]
(ويحرم الجمع بين الأختين) سواء كانتا من نسبِ أو من رضاعٍ حرّتينِ كانتَا
أو أمتينِ، أو حرةً وأَمَةً (1). وسواءٌ في هذا ماَ قبل الدخول أو بعده،
لعمومِ قولهِ تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأخْتَيْنِ}.
(و) يحرُم الجمعُ أيضاً (بين المرأةِ وعمَّتِها أو خالَتِها) وإن عَلَتا من
كلِّ جهةٍ، من نَسبٍ أو رضاعٍ، وبين خالَتَينِ، أو عمَّتين، أو عمةٍ
وخالةٍ.
وصورةُ الجمعِ بين خالتين أن يتزوَّج كلٌّ من رجلينِ بنتَ الآخرِ، تلد له
بنتاً فالمولودتان كل منهما خالة الأخرى.
وصورة الجمع بين العمَّتينِ أن يتزوَّجَ كلٌّ من رجلينِ أُمَّ الآخرِ، وتلد
بنتاً، فالمولودتان كلّ واحدة منهما عمَّةُ الآخرى.
وصورةُ الجمعِ بين العمَّةِ والخالةِ أن يتزوَّجَ الرجُلُ امرأةً، ويتزوج
ابنُه أمَّها، وتلد كل واحدة بنتاً فبنت الابن خالة بنتِ الأب وبنتُ الأب
عمَّةُ بنت الابن (2).
ويحرُمُ الجمع بين كلِّ امرأتين لو كانتْ إحداهما ذكراً، والأخرى أنثى، حرم
نكاحه لها لقرابةٍ أو رضاعٍ (3).
__________
(1) (ب، ص): "أو حُرَّة أو أمة" وهو تحريف ظاهر.
(2) هذه الصور ليست شيئاً زائداً على قوله "يحرم الجمع بين المرأة وعمتها
أو خالتها" لأن الصورة الأولى هي من الجمع بين المرأة وخالتها. والثانية من
الجمع بين المرأة وعمتها. والثالثة منهما باعتبارين. ففي قول الشارح "وبين
خالتين .. الخ " مؤاخذة، لأن العطف يقتضي المغايرة. ولو قال بدل ذلك "ومن
ذلك الجمع بين خالتين .. الخ" لكان هو الصواب. وهو تَبع في هذا شارح
المنتهى.
(3) هذه القاعدة لا تضيف شيئاً إلا حالهَ واحدة، وهي الجمع بين المرأة
وبنتها من نسب أو رضاع. وهي معلومة من تحريم المصاهرة، لأن بنت الزوجة
محرمة أبداً. وكذلك أمها. ولا يحرم الجمع بين زوجة رجلٍ وبنته من غيرها.
(2/161)
فمن تزوج نحو أختينِ في عقدٍ) واحدٍ (أو
عقدين معاً) أو تزوّج خمساً في نكاحٍ واحدٍ (لم يصح) في الجميع.
(وإن جُهِلَ) أسبقُهما فعليه فُرْقتهما بطلاقٍ، فإن لم يطلِّق (فسَخَهما
حاكمٌ) دخل بهما، أو بإحداهما، أو لم يدخلِ بواحدةٍ منهما، (و) عليه
(لإِحداهما نصفُ مهرِها بقرعةٍ) وإن كان دخل بإحداهما أُقرِع بينَهما. فإن
وقعت القرعة لغيرِ المُصَابةِ فلها نصفُ المهرِ، وللمُصَابةِ مهر المثل.
(وإن وقعَ العقدُ مُرتَّباً) واحداً بعد واحدٍ وعُلِمَ السابق (صحّ الأول
فقط) أي دون الثاني.
(ومن مَلَك أختينِ أو نحوَهما) كامرأةٍ وعمتِها أو خالَتِها في عقدٍ واحدٍ
(صحَّ) العقد قال في شرح الإِقناع: ولا نعلم خلافاً في ذلكَ. انتهى.
وكذا لو اشترى جاريةً ووطئَها حلّ له شراء أختِها وعمَّتِها وخالَتِها، كما
يحل له شراءُ المعتدَّةِ من غيرِهِ، والمزوَّجةِ، مع كونهما لا تَحِلاَّن
(1) له.
(وله أن يطأ أيتهما شاء) لأن الأخرى لم تصرْ فراشاً، كما لو كان في ملكه
إحداهما وَحْدَها.
(وتحرُمُ) عليه (الأخرى) أي التي لم يطأها (حتى يُحَرِّم الموطوءة) منهما
(بإخراج عن مِلْكِهِ) ولو ببيعٍ، لحاجةِ التفريق، لأنه يحرُم الجمعُ في
النِّكاحِ، ويحرم التفريقُ، فلا بد من تقدّم أحدهما (2). وكلام الصحابة
والفقهاء بعمومه يقتضي هذا. قاله الشيخ وابن رجب (أو تزويجٍ بعد
الاستبراءِ) قال في الإِقناع وشرحه: حتى يعلم بعد البيع ونحوِه أنَّها
ليستْ بحامِلٍ.
__________
(1) (ب، ص، ف): لا يحلاّن. قلت: علامة التأنيث هنا لازمة.
(2) يعني أن التفريق بين الأختين المملوكتين، بأن يبيع إحداهما ويبقي
الأخرى، أو يبيع كلا منهما لمشترٍ، محرم في الأصل، ولكن جاز هنا للحاجة،
للفرار من المحظور الآخر.
(2/162)
ولا يكفي استبراؤها بدون زوالِ الملكِ، ولا
تحريمها (1)، ولا زوالُ مِلكِهِ بدون استبرائِها، ولا كتابتُها، ولا
رهنُها، ولا يكفي بيعُها بشرطِ خيارٍ.
ومثلُه هِبتُها لمن يمْلِكُ استرجَاعَها منه، كهبتها لولَدِهِ.
فلو خالَفَ، ووَطِئَهما واحدةً بعد واحدةٍ، فوطءُ الثانيةِ محرَّمٌ لا حدَّ
فيه، ولَزِمَهُ أن يُمْسِكَ عنهما حتى يحرِّم إحداهما ويستبرئها.
فإن عادت لِملكِهِ، ولو قبلَ وطء الباقية، لم يُصِبْ واحدةً منهما حتى
يحرّم الأخرى.
قال ابن نصر الله: هذا إن لم يجبِ استبراءٌ. فإن وَجَبَ لم يلزمْهُ تركُ
أختِها فيه (2). وهو حسن. انتهى.
(ومن وطئ امرأةً بشبهةٍ أو زناً حرُم في زمنِ عدَّتِها نِكاحُ أُخْتِها)
وكذا عمتُها وخالتُها (و) كذا يحرم عليه (وطؤُها إن كانت زوجةً أو أمةً)
له. (وحرُم) عليه أيضاً (أن يزيدَ على ثلاثٍ غيرها) أي غير الموطوءة بشبهةٍ
أو زناً، (بعقدٍ) فإن كان معه ثلاثُ زوجاتٍ لم يحلَّ له أن يتزوَّج رابعةً
حتى تنقضي عدة موطوءته بشبهةٍ أو زناً (أو وطءٍ) يعني أنه لو كان معه أربع
زوجاتٍ، ووطئَ امرأةً بشبهةٍ أو زناً لم يحلَّ له أن يطأ أكثرَ من ثلاثٍ
منهن، حتّى تنقضيَ عدةُ موطوءته بالشبهة أو الزنا، لئلا يجتمع ماؤُه في
أكثَرَ من أربعِ نسوةٍ.
(وليسَ لحر جمْعُ أكثرَ من أربعٍ) أي يحرم عليه جمعُ أكثرَ من أربعِ
زوجاتٍ. وقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ
مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} أريدَ به التخيير بين اثنتين، وثلاثٍ،
وأربعٍ، كما قال
__________
(1) أي ولا يكفي تحريمها بالقول ولو بيمين.
(2) وذلك كما لو كان حرم الموطوءة بتزويجها، ثم طلّقها الزوج.
(2/163)
تعالى: {أُولي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثلَاثَ
وَرُبَاعَ} ولم يُردْ أنَّ لكلٍّ تسعةَ أجنحةٍ. ولو أراد ذلك لقال: تسعة،
ولم يكنْ للتطويل معنى. ومن قال غير ذلك فقد جَهِلَ اللغة العربيّةَ. (ولا
لعبدٍ) يعني: وليس لعبد (جَمْعُ أكثرَ من اثنتين) أي من زوجتينِ، وفاقاً
للشافعي.
(ولمنْ نصفُهُ حرٌّ فأكثرُ جمعُ ثلاثٍ) أيْ ثلاثِ زوجاتٍ.
(ومن طلَّقَ واحدةً من نهايةِ جمعِهِ) كالحرِّ يطلّق واحدةً من أربع،
والعبدِ يطلِّق واحدةً من اثنتين، والمبعَّضِ يطلِّق واحدةً من ثلاثٍ،
(حَرُمَ نكاحُه بَدَلَها حتى تنقضي عدَّتُها) نصّ عليه. لأن المعتدّة في
حكم الزَّوجَةِ، لأنَّ العدّةَ أثرٌ لِلنكاحِ، وهو باقٍ، فلو جازَ له أن
يتزوّج غيرها لكان جامعاً بين أكثرَ مما يُباحُ له.
(وإن ماتتْ) واحدةٌ من نهايةِ جمعِهِ (فلا) أي فلا يحرُم عليهِ أن يتزوَّج
بَدَلَها في الحالِ.
فلو قال: أخبرتْني بانقضاءِ عدَّتها في مدةٍ يمكن انقضاؤُها فيه،
فكذَّبتْهُ، لم يقبلْ قولُها عليه في عدم جوازِ نكاحِ غيرِها، فله نكاحُ
أختِها وبدلِها في الظاهر (1)، ولا تسقُط الكِسْوةُ والنفقةُ عنه بدعواه
إخبارَها بانقضاءِ عدّتها مع إنكارها.
فصل [في المحرمات إلى أمدٍ لعارضٍ يزول]
(وتحرم الزانيةُ على الزاني وغيرِهِ حتّى تتوب) بأن تراوَدَ على الزِّنا
__________
(1) أي في حكم القضاء. أما في الباطن، أي في ما بينه وبين الله تعالى، فإن
كان مصدّقا لها في قلبه حرم عليه نكاح أختها وبدلها.
(2/164)
فتمتنعَ (وتنقضيَ عدتُها) (1) فإنْ كانت
حاملاً من الزِّنا لم يحلَّ نكاحُها قبل الوَضْعِ، فإذا تابتْ وانقضتْ
عدّتُها حلَّ نكاحها للزاني وغيره.
(وتحرم) أيضاً على الرجلِ (مطلّقتُه ثلاثاً حتى يَنْكِحُ زوجاً غيرَه)
وتنقضيَ عدّتُها من الزوجِ الذي نكحَتْهُ.
(و) تحرُم (المُحْرِمَةُ حتى تحلّ من إحرامها) لما روى عثمان بن عفانَ رضيَ
اللهُ تعالى عنْهُ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يَنْكِحَ
المحرِم، ولا يُنْكِحُ، ولا يَخْطُب" رواه الجماعةُ إلا البخارىِّ.
(و) تحرُم (المسلمةُ على الكافِرِ) حتى يسلم، لقوله تعالى: {ولاَ تُنكِحُوا
المُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا}، وقولهِ تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ
مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَ إلَى الكُفّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لهمْ وَلَا
هُمْ يحِلّونَ لَهُنَّ}.
(و) تحرُمُ (الكافرةُ غير الكِتابِيّةِ على المسلم) ولو عبداً، فإن قيل:
قوله تعالى {وَلَا تَنْكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} عامٌّ،
فيقتضي التحريمَ مطلقاً؟ قلنا: يتخصّص بقوله تعالى {والمُحْصَنَاتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُم}.
(ولا يحلُّ لحرٍّ) مسلمٍ ولو خصيًّا أو مجبوباً (كاملِ الحريةِ نكاحُ أمةٍ)
مسلمةٍ، (ولو) كانتِ الأمَةُ (مبعَّضةً إلا إنْ عَدِمَ الطَوْلَ) أي المهر،
أي كانَ لا يجد طولاً لنِكاحِ حرّةٍ ولو كانت كِتابيّةً، بأن لا يكون معه
مالٌ حاضر يكفي لنكاحها، ولا يقدِرُ على ثمنِ أَمَةٍ ولو كتابيّةٍ، فتحلُّ
له إذَنْ (وَخَافَ العَنَتَ) أي عنَتَ العزوبةِ، إما لحاجةِ متعةٍ، وإما
لحاجةِ خِدْمةٍ، لكبرٍ أو سُقْمٍ، ونحوهما، نصًّا. والصبرُ عن نكاحِ
الأمَةِ خيرٌ وأفضل.
(ولا يكونُ ولدُ الأمة) الذي ليس بذي رحمٍ محرمٍ من مالِكِها (حرًّا
__________
(1) وهي عندهم كعدّة المطلقة.
(2/165)
إلاَّ باشتراطِ الحرّية) من الزوج على
مالِكِها، حريةَ ولدِها، لقول عمر رضي الله عنه: "مَقَاطِعُ الحقوقِ عندَ
الشُّروطِ" (1) ولأن هذا لا يمنع المقصودَ من النكاحِ، فكانَ لازماً، كشرْط
سيدِها زيادةً في مهرها، (أو الغرورِ) للزوج (2).
(وإن مَلَكَ أحدُ الزوجَيْنِ) الزوجَ (الآخرَ) بشراءٍ أو هبةٍ أو إرثٍ أو
نحوِ ذلك، أو مَلَكَ ولدُ أحدِ الزوجين الحرُّ الزوجَ الآخر، (أو) ملك
(بعضَهُ) أي بعضَ الزوجِ الآخر، (انفسَخَ) النكاحُ، قال في الفروع: وإن
ملكَ أحد الزوجينِ، -وعلى الأصح: أو ولدُه الحرُّ، وفي الأصَحّ: أو
مكاتَبة- الزوجَ الآخرَ أو بعضَه انفسَخَ النكاحُ. فلو بعثت إليه زوجَتُهُ
"حرُمْتُ عليكَ، ونكحتُ غيرَكَ، وعليكَ نفقتي، ونفقَةُ زوجِي" فقد مَلَكتْ
زوجَها، وتزوجَتْ ابنَ عمِها (3). انتهى.
(ومن جمع في عقدٍ) واحدٍ (بين مباحةٍ ومحرَّمةٍ) كأيِّمٍ ومزوّجةٍ (صحّ في
المباحَةِ) (4) وهي الأيّم في المثال، وبطل في المزوَّجةِ. وفارق العقدَ
على الأختينِ لأنّه لا مزيّةَ لِإحداهما على الأُخْرى، وهاهنا قد تعيّنت
التي بطل النكاحُ فيها.
__________
(1) قول عمر "مقاطع الحقوق عند الشروط" حديث صحيح، رواه ابن أبي شيبة
والبيهقي وسعيد بن منصور ولفظه عن عبد الرحمن بن غنم قال: كنت مع عمر حيث
تمسّ ركبتي ركبته، فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، تزوجت هذه، وشرطتُ
لها دارها، وإن أجمع لأمري أو لشأني أن أنتقل إلى أرض كذا وكذا، فقال: لها
شرطها. فقال الرجل: هلك الرجال إذ لا تشاء امرأة أن تطلق زوجها إلا طلقت.
فقال عمر: "المؤمنون على شروطهم عند مقاطع حقوقهم" (الإِرواء حٍ 1893)
(2) الغرور: أن يُغَرَّ الزوج فيوهَمَ بأنها حُرَّة، فإذا هي أمة. فيكون
ولدها منه حرًّا. ويفديه بقيمته يوم ولادته ويرجع به وبالمهر على من غره
منها. (شرح المنتهى 3/ 44)
(3) هذه من مسائل المعاياة. ومعنى قولها له "عليك نفقتي ونفقة زوجي" أنها
بعد أن ملكت زوجها العبد وانفسخ نكاحها واعتدت تزوجت غيره، وكلفته أن يعمل
ويؤدِّي إليها ما تنفقه على نفسها وعلى زوجها.
(4) وإن جمع في عقد واحد بين أمٍّ وابنتها صحّ في البنت، وبطل في الأم.
(2/166)
وللّتي صحّ نكاحُها من المسمّى لها
بِقِسْطِ مهر مثلِهَا منه.
(ومن حرُم نكاحها) كالمجوسيّة والوثنيّة والدُّرْزية ونحو ذلك (حَرُم
وطؤُها بالملْكِ) لأنّ النكاحَ إذا حرُم لكونِهِ طريقاً إلى الوطءِ
فلْيَحْرُمِ الوطءُ نفسه بالطريقِ الأولى (إلاَّ الأَمَةَ الكتابيَّةَ) إذا
حرُم لدخولها في عموم قوله سبحانه وتعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ
أَيْمانُكُمْ} ولأنّ نكاحَ الإِماء مِن أهلِ الكِتاب إنما حَرُمَ من أجلِ
إرقاقِ الولدِ وإبقائِه مع كافرةٍ، وهذا معدوم في وطئِهِنَّ بملكِ اليمين.
تتمة: لا يصحُّ نكاحُ خنثى مشكلٍ حتى يتبيّن أمره.
(2/167)
باب الشرُوط في النّكاح
والمراد بالشروطِ في النكاحِ ما يشترطُه أحدُ الزوجينِ على الآخَرِ مما
لَهُ فيه غرضٌ صحيح، وليس بمنافٍ لمقتضى النكاح.
ومحلُّ الصحيحِ منها صُلْبُ العقد. المنقح (1). وكذا لو اتفقا عليه قبله
(2). (وهي) أي الشروطُ في النكاح (قسمان):
أحدهما: (صحيحٌ لازمٌ للزوجِ، ليس له فكُّهُ) أي فكُّ ما اشترطَتْ عليهِ
زوجتُه من الشروطِ الصحيحةِ بدون إبانتها.
ويسن وفاءُ الزوجِ بالشرط. قال في الإِنصاف: وهو ظاهر كلامِ أحمد في رواية
عبدِ الله. ومال الشيخ تقي الدين إلى وجوب الوفاء. ومن أمثلة الشرط الصحيح
قوله (كزيادة مهرٍ) يعني كاشتراطِها على الزوج زيادةَ قدرٍ معيّنٍ على
مهرِها، (أو) اشتراطِ كون مهرِها من (نقدٍ معيّنٍ) فيتعيّن، كالثمن في
البيع، (أو) اشترطت عليه أن (لا يخرجَها من دارِها، أو بلدها، أو لا يتزوجَ
عليها،) أو لا يتسرّى، (أو لا يفرِّق بينها وبين أبويْها، أو) لا يفرق
بينها وبين (أولادها) وفي المستوعِب: (أو أنْ تُرْضِع ولدَها الصغير، أو
يطلق ضرَّتَها) (3) أو يبيعَ أمَتَهُ، لأنّ لها في ذلك قصداً
__________
(1) المنقّح: صاحب "تنقيح الإِرادات" وهو المرداوي صاحب "الإِنصاف".
(2) أما بعده فلا يلزم.
(3) الصحيح أن اشتراط طلاق ضرتها لا يلزم، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم
- أن تشترط المرأة طلاق أختها =
(2/168)
صحيحاً، كما لو شرطتْ أن لا يتزوَّج عليها.
وفي القاعدة الموفية للسبعين لابن رجب: لو شرطتْ عليه نفقةَ ولدها أو
كسوتَه، صحّ، وكانت من المهر، انتهى. قال ابن نصر الله: وظاهرُه أنه لا
يشترط مع ذلك تعيينُ مدّةٍ كنفقةِ الزوجة وكِسْوتها، فإنه ذَكرَها بعدها.
انتهى كلام ابن نصر اللُه.
(فمتى لم يفِ) للزوجةِ (بما شُرِطَ) عليه (كان لها الفسخُ) لأنّه شرطٌ
لازِم في عقدٍ، فيثبُتُ حقُّ الفسخِ بترك الوفاءِ، كالرَّهنِ والضمينِ في
البيع (على التراخي) لأنه خيارٌ ثبتَ لدفع الضررِ، فكان على التراخي،
تحصيلاً لمقصودها، كخيار القصاص.
تنبيه: إنما يثبتُ الخيارُ لها بفعلِ ما اشترطتْ عليهِ أن لا يفعلَهُ، لا
عزمِهِ على فعلِهِ، خلافاً للقاضي.
(ولا يَسْقُط) ملكها الفسخَ بعدم وفائِهِ بما اشترطتْه (إلاَّ بما يدلُّ
على رضاها، من قولٍ أو تمكينٍ) أي بأنْ تمكنه من نفسِها (مع العلم) أي مع
علمِها بعدمِ وفائِهِ لها بما اشترطتْ عليهِ، لا إن لم تعلم، لأن الاختيارَ
والاستمتاعَ والتمكينَ منه قبل العلم بعدم وفائه لا أثر له، لأنّ موجِبه لم
يثبت، فلا يكونُ له أثر، كالمُسْقِطِ للشفعةِ قبل البيع.
ومن شَرَط أن لا يخرجها من منزل أبويها، فمات أحدُهما. بَطَل الشرط.
(و) القسم الثاني من الشروط في النكاح: (الفاسدُ)، وهو (نوعان):
(نوع) منهما (يُبْطِلُ النكاحَ) من أصلِهِ، (وهو) أي النوع الذي يبطل
النكاح من أصلِهِ أحدُ ثلاثةِ أشياءَ: نكاحُ الشِّغارِ. مثاله (إن يزوّجه)
__________
= متفق عليه. (منار السبيل).
(2/169)
أي يزوّج رجلٌ رجلاً (مَوْليَّتهُ بشرط أن
يزوِّجَهُ الآخر موليَّتَهُ ولا مهرَ بينهما.)
قيل: إنما سمّي هذا النِّكاحُ شغاراً تشبيهاً في القُبْحِ بِرفْع الكلب
رجلَه ليبولَ. يقال: شَغَر الكلبُ إذا رَفَع رجلَه ليبول.
ولا تختلف الرواية عن أحمد أن نكاحَ الشّغارِ فاسد. رواه عنه جماعة؛ (أو
يجعلَ بُضْعَ كلِّ واحدةٍ منهما مع دراهمَ معلومةٍ مهراً للأخرى) قال في
الإِنصاف: لو جَعَلَ بُضْعَ كلَّ وحدةٍ ودراهمَ معلومةً مهراً للأخرى، لم
يصح، على الصحيح. وقيل يبطلُ الشرطُ وحدَه. انتهى.
فإن سمّوْا مهراً مستقلاً، غير قليلٍ (1)، ولا حيلةَ، صحّ النكاح.
وإن سمّوا لإِحداهما صحَّ نكاحُها فقط.
الثاني: من الثلاثة أشياء المبطلةِ للنكاح: نكاح المحلِّل، وهو ما أشار
إليه بقوله: (أو يتزوجَها) أي المطلقةَ ثلاثاً (بشرطِ أنه إذا أحلَّها
طلَّقها) أو: إذا أحلَّها فلا نكاحَ بينَهما. وهذا باطلٌ حرامٌ في قولِ
عامّةِ أهلِ العلم. منهم الحسنُ، والنخَعيّ، وقتادةُ، ومالكٌ، والليثُ،
والثوريُّ، وابنُ المبارك، والشافعيّ (2) (أو ينويَه) أي ينوي الزوجُ
التحليل (بقلبِهِ) ولم يذكرْه في العقدِ. يعني أنه متى نوى الزوجُ التحليلَ
من غيرِ شرطٍ في العقدِ فالنكاحُ باطِل أيضاً على الأصحّ. قال إسماعيل بن
سعيد (3): سألت أحمد عن الرجلِ يتزوجُ المرأةَ، وفي نفسِهِ أن يحلّلها
__________
(1) عبارة "غير قليل" ثابتة في (ف) وشرح المنتهى، وساقطة من (ب، ص).
(2) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لعنَ الله المحلِّل والمحَلَّل له"
رواه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح.
والخلاف في هذه المسألة محكيّ عن أبي حنيفة، فعنه ان النكاح صحيح ويبطل
الشرط (المغني 6/ 646)
(3) في (ف): إسماعيل بن سعْد. والذي في المطبوعين، أصح، كما في المغني
(647/ 6).
(2/170)
لزوجِها الأوّل، ولم تَعْلمِ المرأةُ بذلك؟
قال: هو محلِّلُ، إذا أراد بذلكَ الإِحْلالَ فهو ملعون (1). قال ابن مسعود:
المحلِّل والمحلَّلُ له ملعونَانِ على لسان محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -
(2). (أو يتفقَا عليه) أي على أنّه نكاحُ محلِّل (قبلَ العقد) ولم يُذْكَرْ
حالَ العقد. ومحلُّ ذلك إن لم يرْجِعْ عن هذا الاتفاقِ على أنه محلِّل حينَ
العقد. فإن رجَع عن ذلك ونَوَى عند العقد أنه نكاحُ رَغْبَةٍ، صحّ العقد،
لأنه خلاَ عن نيّةِ التَّحْليل وشرطِهِ، فصحّ، كما لو لم يتفقا عليه قبله.
الثالث من الثلاثةِ أشياءَ المبطلةِ للنكاح: المُتْعَةُ، وهو ما أشار إليه
بقوله (أو يتزوجها) أي يتزوجِ الرجُلُ المرأةَ (إلى مدةٍ، أو) يتزوجها و
(يشرُطَ طلاقَها في العقدِ) متعلق بشرط (بوقتِ كَذَا) كزوجتُك بنتي شهراً،
أو: سنةً، أو: إلى انقضاءِ الموسِمِ، أو: إلى قدومِ الحاج، أو: إلى قدوم
زيدٍ، فإن النكاحَ في هذه الصُّوَرِ باطل؛ (أو ينويَهُ) أي ينوي الزوجُ
طلَاقَها في وقتٍ (3) (بقلبِهِ، أو يتزوجِ الغريبُ بنيَّةِ طلاقِها إذا
خَرَجَ،) قال في الإِنصاف: لو نوى بقلبه فهو كما لو شرطه على الصحيح من
المذهب، نص عليه. وعليه الأصحاب (4) (أو يعلق نكاحها) على
__________
(1) وفي قول القاضي: نية التحليل من غير شرط لا تبطل النكاح، لأن العقد خلا
عن شرط يفسده، فأشبه ما لو نوى طلاقها لغير الإِحلال. وهو قول أبي حنيفة
والشافعي (المغني 6/ 647)
(2) قول ابن مسعود "المحلّل والمحلّل له ملعونان ... " رواه أحمد والنسائي
والترمذي وقال: حسن صحيح. وهو عندهم بلفظ "لعن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - المحلل والمحلل له".
(3) "في وقت" متعلق بـ (طلاقها)، أي: أن ينوي الزوج عند العقد أنه يطلقها
في وقت لاحقٍ. أما لو لم ينو ذلك عند العقد، بل حصلت النية في نفسه بعد
العقد فلا يبطل النكاح ولا تطلق، إلاَّ بأن يلفظ بالطلاق كما هو معلوم في
(باب الطلاق).
(4) لكن قال الموفق: إن تزوجها بغير شرط إلا أن في نية طلاقها بعد شهر، أو
إذا أنقضت حاجته في هذا البلد فالنكاح صحيح في قول عامة أهل العلم إلا
الأوزاعي. والصحيح أنه لا بأس به ولا تضر نيته. اهـ.
(2/171)
شرط مستقبل (1) غيرِ، زوّجتُ، وقبلتُ إن
شاء الله (كـ) قوله: (زوَّجتُكَ إذا جاءَ رأسُ الشّهر، أو: إن رَضِيتْ
أمُّها، أو: إن وضعتْ زوجتي ابنةً فقد زوَّجْتُكَها) فهذا كلّه باطلٌ من
أصله، لأنة عقدُ معاوَضَةٍ، فلا يصحُّ تعليقُه على شرطٍ مستقْبَلٍ، كالبيع،
ولأنّ ذلكَ وقفٌ للنكاح على شَرْطٍ، وهو لا يجوز.
ويصحُّ تعليق النكاحِ على ماضٍ وحاضرٍ، كإنْ كانتْ بنتي وكنتُ وليَّها أو
انقضَتْ عدَّتُها. والزوجُ والزوجةُ يعلمَانِ أنها بنتُه وأنه وليُّها
وأنَّ عدَّتَها انقضَتْ، أو: زوَّجْتُكها إن شئتَ، فقال: شئتُ، وقبلتُ،
ونحوه.
النوع (الثاني) من الشروط الفاسدة (2): وهو ما يصحّ مَعهُ النكاحُ و (لا
يُبْطِلُه، كأن يَشْرُطَ أن لا مهر لها، أو لا نفقةَ) لها، (أو أن يَقْسِم
لها أكثر من ضرّتها، أو) أن يقسِم لها (أقلَّ) من ضرّتها، أو أنْ يشتَرِطا
عَدَمَ الوطءِ، أو أن يشترطَ أحدُهما عدم الوطء (3)، أو نحو ذلك، (أو إن
فارقَها رجعَ عليها بما أنفقَ) أو [شَرَطَ] خياراً في عقدٍ، أو خياراً في
مهرٍ (4)، أو إن جاءها بالمهرِ في وقتِ كذا وإلاَّ فلا نِكاحَ بينهما، أو
شرطتْ عليه أن يسافرَ بها، ولو إلى بلدٍ معيّن، أو أن تستدْعيَه للجماعِ
عند إرادتِها أو أن لا تسلَّم نفسَها إلى مُدَّةِ كذَا ونحوه (فيصحّ
النكاحُ، دونَ الشرطِ.)
ومن طلَّق بشرطِ خيارٍ وَقَعَ طلاقُه.
__________
(1) كلمة "مستقبل" ساقطة من (ب، ص) وثابتة في (ف) وشرح المنتهى.
(2) تقدم مقابله وهو النوع الأول في ص 168).
(3) (ب، ص): "أو أن يشترطا أو أحدُهما عدم الوطء" وفيها تكرار لا معنى له.
فأثبتنا الصواب كما في (ف).
(4) وفي قول يصح النكاح ويثبت الخيار في الصداق، لأنه عقد منفرد يجري مجرى
الأثمان فيثبت فيه الخيار كالبياعات (مغني 6/ 552)
(2/172)
فصل
(وإن شرطها) أي شَرَطَ الزوج الزوجةَ (مسلمةَ) أو قال الوليُّ للزوج: زوجتك
هذه المسلمةَ أو ظنَّها الزوجُ مسلمةً ولم تُعْرَف بتقدُّمِ كفرٍ (فبانَتْ
كتابيةً، أو شَرَطَها) الزوجُ (بكراً أو جميلةً أو نسيبةً) أي ذاتَ نسبٍ
(أو شَرَطَ) الزوجُ في العقدِ (نفيَ عيبٍ) في الزوجةِ لا يُفْسَخُ به
النكاحُ كما لو شرطَها سميعةً أو بصيرةً أو طويلةً أو بيضاءَ (فبانَتْ
بخلافه فله) أي فللزوجِ (الخيارُ) في الأصحِّ، لأنه شرطَ صفةً مقصودةً
فبانتْ بخلافها، فثَبَت له الخيارُ، أشْبَهَ ما لو شَرَطَها حُرَّةً فبانتْ
أمةً.
وكذا لو شَرَطَها حسْنَاءَ فبانتْ شوهاءَ.
ولا يصحُّ فسخٌ في خيارِ الشرطِ (1) إلا بحكمِ الحاكِمِ. و (لا) يملكُ
الزوجُ الفسخَ (إن شرَطَها أدْنى فبانَتْ أعلى) كما إذا اشترطَها كتابيةً،
أو أمةً، فبانَت مسلمةً، أو بانتْ حرَّةً، أو ثيباً فبانَتْ بكراً.
(ومن تزوجت رجلاً على أنه حرٌّ) أو تظنه حرًّا (فبان عبداً فلها الخيارُ)
إن صحَّ النكاحُ بأنْ كَمُلتْ شروطُه، وكان بإذنِ سيِّدِهِ.
وإنْ كانتِ المرأةُ حرَّةً وقلنا: الكفاءَةُ شرطٌ للُّزوم، لا للصحّةِ، فإن
اختارَتْ الحرَّةُ الإِمضاءَ فلأوليائِها الأعتراضُ عليها لَعدمِ الكفاءَة،
وإن كانتْ أمةً فينبغي أن يكون لها الخيارُ أيضاً، لأنه لما ثبتَ الخيارُ
للعبدِ إذا غُرَّ بأمةٍ ثبَتَ للأمة إذا غُرَّتْ بعبدٍ.
(وإن شرطتِ) الزوجةُ (فيهِ) أي الزوجِ (صفةً) ككونهِ نسيباً، أو عفيفاً، أو
جميلاً، أو نحوَهُ (فبانَ أقلَّ) مما شرطتْهُ (فلا فسخَ لَها) لأنَّ
__________
(1) (ب، ص): "فسخ خيار الشرط" بإسقاط "في "وهي ثابتة في (ف).
(2/173)
ذلكَ ليس بمعتبرٍ في صحَّةِ النكاحِ،
أشْبَهَ ما لو شرطَتْهُ طويلاً أو قصيراً (1).
(وتملك الفسخَ منْ) أي أمةٌ أو مُبَضَّعة (عتقتْ كلُّها تحت رقيقٍ كلِّه،
بغيرِ حكمِ حاكمٍ) بلا نزاعٍ في المذهب. فإن لم تَعْتِقْ كلُّها تحتَ رقيقٍ
كلِّهِ فلا فسخَ. وكذلك إذا عتقَا معاً، فتقول: فسختُ نكاحي، أو: اخترتُ
نفسي. (فإنْ مكَنَتْهُ) أي مكَنَتْ المعتَقَةُ زوجَها العبدَ (مِن وَطْئِها
أو مباشَرَتِهَا أو) مكَّنَتْه مِنْ (قُبْلتها، ولو جهلَتْ عِتْقَها، أو)
جَهِلَتْ (مِلْكَ الفسخِ بَطَلَ خِيَارُها) (2) ويجوزُ للزوجِ وطؤُها بعد
عتْقِها، مع عدم علْمِها بالعتق.
ولَبنتِ تسعٍ أو دونَها إذا بلغتْها تامَّةً، والمجنونةِ إذا عقَلَتْ،
الخيارُ حينئِذٍ دونَ ولَيٍّ.
__________
(1) في هذا التعليل نظرٌ. إذ كيف يثبت الخيار به للرجل إذا شرط مثل ذلك ولا
يثبت للمرأة؟ وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم- "إن أحقَّ الشروط أن
توفوا به ما استحللتم به الفروج" والرجل يملك الطلاق إذا لم يرض بها، وهي
لا تملك الطلاق، فلو قيل بثبوت الخيار في جانبها، وعدم ثبوته في جانب الرجل
لكان له وجه.
(2) وفي قول آخر في المذهب، وهو أحد قولين للشافعي أيضاً: لها الخيار ما لم
تعلم، فإن جهلت العتق، أو جهلت أنَّ لها الخيار، فلها الخيار حين تعلم.
(2/174)
باب (حكم العيُوب في النّكاح)
(وأقسامها) أي أقسام العيوبِ (المثبِتةُ للخيارِ ثلاثةٌ): منها (قسمٌ
يختصُّ بالرجل،) ومنها قسمٌ يختصّ بالمرأة، ومنها قسمٌ مشتَركٌ بين الرّجلِ
والمرأة.
ويروى ثبوتُ الخيارِ لكلٍّ من الزوجينِ إذا وجدَ بالآخَر عيباً في الجملة
عن عمرَ بن الخطابِ، وابنهِ عبد اللهِ، وعبد اللهِ بن عباسٍ. وبه قال جابرُ
بنُ زيدٍ (1) والشافعيُّ وإسحاق.
(وهو) أي القسم المختصُّ بالرَّجلِ ثلاثةُ أشياءَ: أحدُها: (كونُهُ) أي
كونُ الرجلِ (قد قُطِعَ ذكَرُهُ) كلُّه أو بعضُه، ولم يبقَ منْهُ ما يمكن
به جماعٌ، ومتى ما ادَّعى الزوجُ إمكان الجماعِ بما بقي من ذكرِهِ،
وأنكرَتِ المرأةُ فإنه يقبل قولُها في عدم إمكانه.
الثاني: أشار إليه بقوله: (أو) قُطِعَتْ (خُصْيَتَاهُ) أو رُضَّتْ بيضتاهُ
أو سُلَّتَا، (أو) وجَدت زوجَها (أشلّ (2) فلها الفسخ في الحال.)
__________
(1) في المغني "جابر" دون أن يقيّده بابن زيد وهو عند الإطلاق ينصرف إلى
جابر بن عبد الله الصحابي، دون جابر بن زيد أبي الشعثاء من التابعين.
فليحرَّر.
(2) ليس ذكر الشلل في شرح المنتهى. ولم يذكروا في العيوب المجوزة للفسخ
-وهي محصورة عندهم- شلل الرجل. ولعلّ مراده شَلَلَ الذكر. فيكون قد جعله
مثل الجَبِّ، فأثبت الخيار به في الحال، بخلاف العنّة كما يأتي.
(2/175)
الثالث: ما أشار إليه بقوله: (وإن كان
عِنِّيناً) لا يمكنه الوطءُ، ولو لِكَبرٍ، أو مرَضٍ (1) -والعنِّينُ هو
العاجزُ عن إيلاجِ ذكرهِ في الفرْجِ، مأخوذٌ مِنْ عَنَّ يَعِنُّ إذا
اعتَرَضَ، لأنَّ ذكرَهُ يعَنُّ إذا أرادَ أن يولِجَهُ، أي يَعْتَرِضُ-
ويكونُ ثبوتُ العنَّةِ (بإقرارِهِ أو بَيِّنةٍ أو) عُدِمَ الإقْرارُ
والبيّنَةُ فـ (طَلَبَتْ يمينَهُ فَنكلَ) عن اليمينِ (ولم يدَّعِ وطأً)
سابقاً على دعواها (أُجِّلَ سنةً هلاليَّةً منذ تُرَافِعُهُ إلى الحاكِمِ
(2)،) لأنَّ هذا العجْزَ قد يكونُ لِعُنَّةٍ وقد يكون لمرضٍ (3)، فضُرِبَ
له سنَّةٌ لتمرَّ به الفصولُ الأربعة؛ فإن كان من يبَسٍ زالَ في فصل
الرطوبة، وإن كان من رطوبةٍ زالَ في فصل اليَبَسِ؛ وإن كان من بُرودةٍ زال
في فصل الحرارة، وإن كان من احتراقِ مزاجٍ زال في فصلِ الاعتدال.
(فإن مضتِ) الفصولُ الأربعةُ (ولم يطأهَا فلها الفسخُ) أي فسخُ نكاحِها
منه. وإن قال: وطئتُها، وأنكرتْ، وهي ثيّبٌ، فقولُها، إن كان دعواهُ
وطْأَها بعدَ ثبوتِ عُنَّتِهِ وتأجيلِهِ. وإن كانتْ بكراً، وثبتَتْ
عُنَّتُهُ وبكارتُها، أُجِّل سنةً، وعليهَا اليمينُ إن قال: أزَلتُها
وعادتْ.
القسم الثاني من العيوبِ المثبتة للخيارِ ما أشار إليه بقوله: (وقسم يختصُّ
بالأنثى، وهو) شيئان:
أحدهما: (كونُ فَرجِها مسدوداً لا يسلُكُه ذكر)، فإن كانَ بأصلِ الخلقة
فرتْقَاءُ، بالمد، وهو تلاحُمُ الشَّفْريْنِ، وإن لم يكنْ بأصلِ الخلقة
فقرْناءُ أو عَفْلَاءُ. والقَرَنُ لحمٌ زائد يسدُّ الفرْجَ، والعَفَلُ
وَرَمٌ يكونُ في اللَّحْمَةِ التي بين مسلَكَي المرأة، فيضيقُ فرجها فلا
يسلك فيه الذكر.
الشيء الثاني: من القسم المختص بالمرأة: ما أشار إليه بقوله:
__________
(1) أي مرض لا يرجى برؤه، كما في ش المنتهى. أما لمرضٍ عارضٍ فليس بعنّين.
(2) روي تأجيل العنينِ سنة عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود والمغيرة بن
شعبة.
(3) أي لمرضٍ عارضٍ.
(2/176)
(أوْ بِهِ) أي الفرج (بَخَرٌ) وهو نَتَنٌ
في الفرْجِ يثورُ عند الوطء، (أو) بالفرج (قروحٌ سَيَّالةٌ، أو كونُها
فَتْقَاءَ بانخراق ما بين سبيليها) أو ما بين مخرجِ بولٍ ومنيّ، (أو كونها
مستحاضَةً) في الأصح.
القسم الثالث من العيوب المثبتة للخيار في النكاح: ما أشار إليه بقوله:
(وقسمٌ مشتَرَكٌ) يعني بين الرجال والنساءِ (وهو الجنونُ ولو أحياناً) يعني
ولو كان يُخْنَقُ في الأحيان، (والجُذَامُ، والبَرَصُ، وبَخَرُ الفَم) وهو
نَتْنُهُ. قال في الفروع: قال بعض أصحابنا: يستعمل للبَخَرِ السِّواك،
ويأخُذُ في كل يومٍ ورقة آسٍ، مع زبيبٍ منزوعِ العَجَم بقدْر الجَوْزَة.
واستعمالُ الكَرْفَسِ ومضغُ النَّعنَاعِ جيّدٌ فيه. وإمساكُ الذَّهَب في
الفم يُزِيلُ البَخَر. (والباسُور، والناصُور) وهما داءان في المقعدة.
فالباسور منه ما هو ناتئٌ كالعَدَسِ، أو كالحمّص أو كالعنب، أو كالتُّوت.
ومنه ما هو داخلَ المقعدةِ، وينقسم كل من ذلك إلى ما يسيلُ وإلى ما لا
يسيل.
والناصور قروحٌ غائِرةٌ تحدث في المقعدة، يسيل منها صديد. (واستطلاق البولِ
أو) استطلاق (الغائط).
(فيفسخ بكل عيبٍ تقدَّم) سواءٌ كان مختصاً أو مشتركاً (لا بغيرِهِ) أي غيرِ
ما ذُكِرَ (كعرَجٍ، وعوَرٍ، وقطْعِ يدٍ ورجلٍ، وعمًى، وخَرَسٍ، أو طَرَشٍ،)
وقُراعٍ لا ريحَ له، وكونُ أحدهما عقيماً، أو نحيفاً جداً، أو سميناً جداً،
أو كسيحاً، لأن ذلكَ كلَّه لا يمنَعُ الاستمتاع، ولا يخشى تعدّيه. قال دي
شرح المقنع: ولا نعلم في هذا خلافاً بين أهلِ العلم، إلا الحسنَ، فإنه قال:
إذا وَجَد الآخَرَ عقيماً يخيَّر. وأحبَّ أحمدُ أن يبيِّن أمرَهُ.
(2/177)
فصل
(ولا يثبتُ الخيارُ في عيبِ زالَ بعدَ العقدِ، ولا لعالِمٍ به) أي بالعيب
(وقتَ العقدِ). قال في الفرَوع: ومتى زالَ العيبُ فلا فسخَ. وكذا إن عَلِم
حالَ العقدِ.
(والفسخُ على التراخي) لأنه خيارٌ ثبَتَ لدفعِ ضررٍ متحقّق، فكان على
التراخي، كخيارِ القصاص. (لا يسقطُ في العنَّةِ إلا بقولها): أسقطتُ حقّي
من الخيارِ بعنَّتِهِ، أو: (رضيتُ) به عنّيناً، (أو باعترافِهَا بوطْئِهِ
في قبُلُها) لا بتمكينها من الوطء، لأنه واجب عليها لتعلمَ أزالَتْ عنُّته
أمْ لا.
(ويسقطُ) خيارُ من له الخيار (في غير العنَّةِ) كخيار شرطٍ وخيار عيبٍ
(بالقولِ)، كقوله: أسقطْتُ الفسخَ، (و) يسقط (بما يدلُّ على الرِّضا منَ
وطءٍ) إذا كان الخيارُ للزوجِ لأنّه يدل على رغبته فيها، (أو تمكينٍ) من
وطءٍ إن كان الخيار لها، لأنَّه دليل على رغبتها فيه (مع العلم) بالعيبِ.
(ولا يصحُّ الفسخ هنا) أي في خيارِ العيبِ (وفي خيارِ الشرطِ بلا حكم
حاكمٍ)، فيفسخه الحاكم (1) أو يرده إلى من له الخيارُ فيفسخه.
ويصحُّ في غيبةِ زوجٍ. والأوْلى مع حضورِهِ.
والفسخُ لا ينقصُ عدد الطلاق.
وله رجْعتُها بنكاحٍ جديدٍ.
ويكون عقدُه على طلاقٍ ثلاثٍ حيث لم يسبق له طلاقٌ.
وكذا الفسخُ للِإعسارِ، وفسخُ الحاكم على المُؤْلي، ونحوهما.
__________
(1) أي لأنه فسخ مجتهد فيه، بخلاف خيار المعتقة، تحت عبدٍ مثلاً، فإنه متفق
عليه، فلا يفتقر إلى حكم حاكم به.
(2/178)
(فإن فُسِخَ) النكاحُ (قبل الدخول فلا
مهرَ) عليه، سواءٌ كانَ الفسخُ من الرَّجُلِ، أو من المرأةِ لأنّ الفسخَ
إذا كانَ منها فالفرقة من جهتها، فيسقُطُ مهرُها، كما لو فسخَتْ نكاحها
برضاعِ زوجةٍ له أخرى. وإن كان منْه فإنما فسخ بعيبٍ بها دلَّسَتْهُ
بالإِخفاءِ، فصارَ الفسْخُ كأنّه منها.
فإن قيل: فهلا جعلتمْ فسخَها لعُنَّتِهِ كأنّه منه، لحصولهِ بتدليسِهِ؟
قلنا: العوضُ من الزوجِ في مقابَلةِ منافِعِها، فإذا اختارت فسخَ العقدِ مع
سلامةِ ما عُقِد عليه، رجَعَ العِوَضُ إلى العاقِدِ مَعَها، وليس من جهتها
عوضٌ في مقابَلَةِ منافعِ الزوج. وإنما ثبت لها الخيارُ لأجْلِ ضررٍ
يلحقها، لا لتعذُّر ما استحقَّتْ عليهِ في مقابَلَتِهِ عوضاً، فافترقا.
(وبعدَ الدُّخولِ أو الخلوةِ يستقرّ المسمَّى) في العقدِ، كما لو طرأ
العيبُ، لأنَّه يجب بالعقد، ويستقرُّ بالدخول، فلم يسقُطْ بحادثٍ بعده.
ولذلك لا يسقط بِرِدَّتِها.
(ويرجعُ) الزوجُ (به) أي بنظير المسمَّى الذي وجب عليه (على المُغِرِّ) (1)
وهو من عَلِمَ بالعيب وكتمَه، من زوجةٍ عاقلةٍ، ووليّ، ووكيلٍ. وذلك لأنه
غرَّه في النكاحِ بمَا يُثبِت الخيارَ، فكان المهرُ عليه، كما لو غرَّه
بحرّيةِ أمةٍ.
وإذا ثبت ذلك فإن كان الوليُّ عَلِمَ غَرِمَ، وإن لم يكنْ علمَ فالتغريرُ
من المرأةِ، فيرجع عليها بجميعِ الصداق (2).
__________
(1) كذا في الأصول وشرح المنتهى، وصوابه "الغار" لأنه يقال "غَرَّه" ولا
يقال "أغرّه". وقد يقال أيضاً "غَرَّرَ به" والمصدر "التغرير" وعليه فيجوز
أن يقال في الفاعل "المغرِّر".
(2) وذكر أن في المذهب رواية أخرى: لا رجوع بالمهر بعد الإصابة. وهو قول
أبي حنيفة والشافعي في قوله الجديد.
وقال القاضي: إن كان ممن يجوز له أن يراها كالأب والجدّ: يغرم، علم أو لم
يعلم، لأن التغرير من جهته. وإن كان لا يجوز أن يراها، كابن العم، ولم ثبت
إقراره بالعلم، فالقول قوله. =
(2/179)
ويقبل قول وليٍّ، ولو مَحْرَماً، في عدم
علمِهِ به.
فلو وُجِدَ [الغرور] من زوجةٍ ووليّ فالضمانُ على الوليّ وَحْدَهُ.
(وإن حصلت الفُرْقَةُ من غير فسخٍ، بموتٍ) من أحدهما (أو طلاقٍ، فلا رجوع)
به على غارٌّ ولا غيرِه. قال في المنتهى وشرحه: وإن طلَّق المعيبة قبل
دخولٍ بها، وقبل علمٍ بالعيب، ثم عَلِمَ بهِ بعد طلاقها، فعليه نصفُ
الصداقِ، ولا يرجِعُ به على أحد، لأنه قد رضي بالتزامه بطلاقِهِ، فلم يكن
له أن يرجع على أحد، أو ماتَ أحدُهما أي أحدُ الزوجين مع عيبهما، أو عيبِ
أحدهما، قبل العلم به، أي بالعيبِ، استقرّ الصداق بالموتِ. وأمَّا الرجوعُ
فلا رجوع.
(وليسَ لوليّ صغيرٍ) أو صغيرةٍ (أو مجنونٍ) أو مجنونةٍ (أو) سيّدِ (رقيقٍ،
تزويجُه بمعيبٍ) عيباً يُرَدُّ به في النكاحِ، لأنه ناظِرٌ لهم بما فيه
الحظُّ والمصلَحَةُ. ولاَ حظَّ لهم في هذا العقد. ولا لوليّ حرّةٍ مكلفةٍ
تزويجُها بِهِ بلا رِضاها.
(فلو فَعَلَ) أي زوَّجها بمعيبِ (لم يصحَّ) النكاحُ (إن علم) أنه معيبٌ،
لأنها تملك الفسخَ إذا علمت بعدَ العقدِ، فامتناعُ صِحّتِهِ أولى.
(وإلا) أي وإن لم يعلم الوليُّ أنه معيبٌ (صحَّ) العقدُ (ولزمه الفسخُ إذا
عَلِمَ). قال في الإِقناع: ويجب عليه الفسخ إذا علم. قاله في المغني والشرح
وشرح ابن المَنْجَا والزركشيُّ في شرحِ الوجيز، وغيرُهم خلافاً لما في
التنقيح انتهى. قال: وله الفسخ، واللام للإباحة. وتبعه في المنتهى.
__________
= وسند ما في المتن والشرح ما روى مالك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه
قال "أيُّما رجلِ تزوّج بامرأةً بها جنون أو جذام أو برص فمسّها فلها
صداقها، وذلك غُرْمٌ على وليّها" (المغني 6/ 656)
(2/180)
باب نكاح الكُفار
هو صحيح، وحكمه كنكاحِ المسلمين فيما يجبُ به من وقوعِ الطلاقِ، والظهار،
والإِيلاء، ووجوب المهر، والقَسْم، والإِباحة للزوج الأول، والإِحصان،
وتحريمِ المحرمات.
(يُقَرُّونَ) أي الكفار (على أنكحةٍ محرّمةٍ) بشرطين:
أحدهما: ما أشار إليه بقوله: (ما داموا معتقدين حِلَّها) (1) أي إباحتها،
لأن ما لا يعتقدون حِلَّه ليس من دينِهِمْ، فلا يُقَرُّونَ عليه، كالزّنا
والسرقة.
الشرط الثاني: ما أشار إليه بقوله: (ولم يرتفعوا إلينا) لقوله تعالى:
{فَإِنْ جَاءُوكَ فاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وإنْ
تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلنْ يَضُروكَ شيئاً} فيدلُّ هذا على أنَّهم يُخَلَّونَ
وأحْكَامَهُمْ إذا لم يجيئوا إلينا.
(فإن أتوْنا قبل عقدِهِ عقدنَاهُ على حُكْمِنا) يعني: لم نُمضِهِ إلا على
الوجه الصحيح، مثلَ أنكحة المسلمين بالإِيجاب والقبولِ، والوليّ والشهود،
لأنه لا حاجة إلى عقدٍ يخالِفُ ذلك.
__________
(1) وفي قول: لا يقرُّون على نكاح المحارم، فإن عمر كتب "أن فرق بين كل ذوي
رحم من المجوس" (منار السبيل).
(2/181)
(وإن أسلم الزوجان) الكافرانِ (معاً) بأن
نَطَقَا بالإِسلام دفعةً واحدةً بأن لا يسبِقَ أحدُهُما صاحِبَه فيفسُدَ
النكاح، فهما على نكاحهما.
(أو أسلمَ زوجُ الكتابيّةِ) سواءٌ كتابياً أو غيرَ كتابيّ (فهما على
نكاحِهِمَا،) لأن للمسلم ابتداءَ نكاحِ الكتابية، فاستدامتُه أولى.
(وإن أسلمتِ الكتابيّةُ تحت زوجِهِا الكافِر) قبل الدخولِ انفسخَ نكاحُها،
سواءٌ كان زوجُها كتابياً أو غيرَ كتابيٍّ.)
(أو أسلم أحد الزوجين غير الكتابيَّيْنِ) كالوثنيّين والمجوسيّين، (وكان
قبلَ الدخولِ، انفسخَ النكاح) (1).
أما إذا كانت الزوجةُ هي المسلمةَ، فلقوله تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ
إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}
وأما إذا كان الزوجُ هو المسلمَ، وليسَتِ الزوجةُ كتابيّةً، فلقوله جل من
قائل: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} ولأنّ اختلافَ الدينِ سببٌ
للعداوةِ والبغضاءِ. والمقصود من النكاح الاتفاق والائتلاف.
(ولها) أي الزوجةُ (نصفُ المهر إن أسلمَ) الزوجُ (فقطْ) أي وحدَهُ دونَها،
لأن الفرقةَ جاءتْ من قِبَلِهِ بإسلامه، فيكون لها نصفُ المهر، كما لو
طلَّقها.
(أو سبقها) الزوجُ للإسلام، وكذلك إذا أسلما معاً وادَّعَتْ سبْقَهُ، أو
قالا: سَبَقَ أحدُنا ولم نعلم عينه، فإنه يكون لها نصف المهر (2).
(وإن كان) إسلام أَحَدِهِما (بعدَ الدُّخولِ وُقِفَ الأمر إلى انقضاءِ
العدَّة) لما روى مالكٌ في موطَّئِه عن ابن شهابٍ، قال: كانَ بينَ إسلام
صفوانَ بن أميَّة وامرأتِهِ بنتِ الوليدِ بن المغيرةِ نحوٌ من شَهْرٍ:
أسلمتْ يومَ
__________
(1) إنما ينفسخ نكاحهما إذا كان قبل الدخول بمجرد إسلامه لأنها لا عدة لها
حينئذ، بخلاف إسلامه بعد الدخول فيتوقف على انتهاء العدة.
(2) إنما يعني إذا كان ذلك قبل الدخول.
(2/182)
الفتحِ، وبقي صفوانُ حتَّى شَهِدَ
حُنَيْناً والطائف، وهو كافرٌ، ثم أسلمَ، فلم يفرِّق النبيُّ - صلى الله
عليه وسلم - بينهما، واستقرّت عندَهُ امرأَتُه بذلك النكاح".
(فإن أسْلمَ المتخلِّف) أي المتأخِر عن الإِسلام (قبل انقضائها) أي العدة،
(فـ) هما (على نكاحِهِما، وإلا) أي وإن لم يُسلم المتخلِّف قبل انقضاء
العدة (تَبَيَّن فسخُهُ) أي فسخ النكاح (منذُ أسْلَمَ الأولُ) من الزوج أو
الزوجةِ.
(ويجبُ المهرُ بكلِّ حالٍ) لأنه استقر بالدخول، فلم يسقطْ بشيءٍ. فإن كان
مسمًّى صحيحاً فهو لها، ثم إن كان محرَّماً وقد قبضته فليس لها غيره،
لأَنَّا لا نتعرضُ لما مضى مما تقابضاه، وإن لم تكن قبضتْه فلها مهرُ
المثلِ ولا فرق بين كونهِما في دار الإِسلام، أو دار الحرب، أو كان أحدُهما
في دار الإِسلام والآخر في دار الحرب.
فصل
(وإذا أسْلَم الكافرُ وتحتَه أكثر من أربعٍ) من النِّساءِ (فأسلَمْنَ) في
عدتهن (أوْ لا) أي أو لم يسلمن (وكنَّ كتابيّاتٍ) لم يكن له إمساكهن
كلِّهنْ، بغير خلاف، (اختار منهن أربعاً) ولو من ميِّتاتٍ (1)، (إن كان
مكَلّفاً، وإلا) أي وإن لم يكن مكلّفاً (فـ) يُوقَفُ الأمر (حتى يكلَّف)
سواءٌ تزوّجهن في عقد واحد، أو في عقودٍ، وسواءٌ اختارَ الأوائِلَ أو
الأواخر.
(فإن لم يختر) من نسائِهِ ما للفسخِ وما للِإمساكِ (أُجْبرَ) على
__________
(1) أي إنه اذا تأخر اختياره حتى مات بعضهن أو كلهن، فإنه يختار أيضاً
أربعاً، فإذا اختار ثبت نكاح من اختارهن، وتبين فراقه لما زاد على أربع منذ
أسلم، لان الاعتبار في الاختيار بوقت ثبوته وهو حين إسلامه، إذ لا يصح
لمسلم أن يكون في عصمته أكثر من أربع، ولو للحظة.
(2/183)
الاختيار (بحبسٍ، ثم تعزيرٍ) لأنَّ
الاختيار حقٌّ عليه، فأُلزِمَ بالخروجِ منه إن امتنع، كسائر الحقوق.
(وعليه نفقتهن) أي نفقة جميعِهِنَّ (إلى أنْ يختارَ) لأنَّ نفقةَ زوجاتِهِ
واجبة عليهِ، وقبلَ الاختيارِ لم تتعيَّنْ زوجاتُهُ من غيرِهِنَّ بتفريطه،
فيلزمه نفقتهنّ جميعاً، لأنه ليست إحداهنَّ أولى بالنفقة من الأخرى.
(ويكفىٍ في الاختيارِ) أن يقولَ: (أمسكتُ هؤلاءِ وتركتُ هؤلاءِ) أو اخترت
هذه لفسخٍ, أو: إمساكٍ، أو: أبقيتُ هذه وباعدت هذه. (ويحصل الاختيار بالوطء
فإن وطئ الكلَّ) قبل التعيينِ بالقولِ (تعيَّنَ الأوَّلُ) أي الموطوءاتُ
أوّلاً للِإمساك، وتعيّنتِ الموطوءة بعد أربعٍ، وما بعدها، للترك.
(ويحصل) الاختيار (بالطلاقِ) لا بالظهارِ والإِيلاءِ (فمن طلّقها فهي
مختارَةٌ) لأن الطلاقَ لا يكونُ إلا في زوجةٍ.
(وإن أسلم الحرُّ وتحتَه) زوجات (إماءٌ) أكثرُ من أربعٍ (فأسلَمْنَ) معه،
أو كنّ مدخولاً بهنَّ أو خلا بهنّ فأسلمْنَ (في العدّةِ) لأن إسلامهن في
العدّةِ كإسلامِهِنَّ مَعَهُ سواءٌ كان إسلامُهُنّ قبله أو بعده، لأن
العدةَ حيثُ وجبت لا تُشْتَرَط المعية في الإِسلام (اختارَ ما يُعِفُّه)
منهن (إن جازَ له نكاحهن) أي نكاح الإِماء (وقتَ اجتماعِ إسلامِهِ
بِإسلامِهِنَّ) بأن كان حيئنذ عادماً للطولِ خائفاً للعَنَت.
(وإن لم يجزْ) له نكاحُ واحدةٍ منهن وقت اجتماع إسلامه بإسلامهن (فَسَد
نكاحُهُنَّ) لأنهم لو كانوا جميعاً مسلمينَ لم يجز ابتداءُ نكاحُ واحدةٍ
منهنَّ فكذلك استدامَتُهُ.
(وإن ارتدّ أحدُ الزوجَيْنِ، أو هُمَا) أي الزوجان (معاً، قبل الدخول،
انفَسَخَ النكاحُ) في قول عامَّةِ أهلِ العلم لقوله تعالى: {وَلَا
(2/184)
تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} وقولهِ
تعالى: {فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ
وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} ولأن الارتدادَ اختلافُ دين وَقَع قبل
الإِصابة فوجَبَ فسخُ النِّكاحِ، كما لو أسلمتْ تحتَ كافرِ.
(ولها) أي للزوجةِ (نصفُ المهْرِ إن سَبَقَها) زوجُها بالارتدادِ، أو
ارتدَّ وحدَهُ، لأن الفُرْقَةَ من قِبَلِ الزوجِ، فَتَنَصَّفَ المهرُ بها،
كالطلاق.
وعلم منه أنها إن كانت هي السابقةَ بالارتدادِ، أو كانت هي المرتدَّةَ
وحدَها، أنها لا مهر لها لأن الفُرقَةَ جاءت من قِبَلِها، فسقط بذلك
مهرُها، كما لو ارضَعتْ قبلَ الدخولِ من ينفَسِخُ به نكاحها.
(و) إن ارتدّ أحَدَ الزوجين أو هما معاً (بعد الدخول تَقفُ الفُرْقَةُ على
انقضاء العدة.)
وتسقُط نفقةُ العدّةِ بردتِها وَحْدَهَا.
(2/185)
|