نَيْلُ المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب

كتَاب الصَّدَاق
هو العِوَض المسمَّى في عقد نكاح وبعده.
وللصّداقِ تسعةُ أسماء: الصَّداق، والصَّدُقَة، والمهر، والنِّحْلة، والفَريضة، والأجْر، والعَلاَئِق، والعُقْر، والحِبَاءُ.
(تسنَّ تسميته) أي الصداق (في العقد) لأن تسميتهُ أَقطعُ للنزاع فيه.
ويستحب تخفيفه، وكونُهُ من أربعمائة درهمِ فضةٍ إِلى خمسِمائة (1)، فإن زاد فلا بأس.
(ويصحّ بأقلِّ مُتَمَوَّل.) (2) وقال في الإِقناع: ويجب أن يكون له نصفٌ يُتَمَوَّل عادةً، ويُبْذَل العِوَضُ في مثله عرفاً. والمراد نصفُ القيمةِ، لا نصف عينِ الصداق، فإنه قد يُصْدِقُها ما لا ينقسم، كعبدٍ. انتهى.
(فإن لم يسمِّ) الزوجُ للزوجةِ صداقاً، (أو سمَّى) صداقاً (فاسداً) كخمرٍ وحُرٍّ (صحّ العقد) أي عقد النكاح، (ووجب) لها عليه (مهرُ
__________
(1) أي لأن صداق بنات النبي - صلى الله عليه وسلم -كان أربعمئة درهم، وصداق زوجاته خمسمئة. والخمسمئة قريب من كيلوغرام ونصف من الفضة. وليست تسمية الصداق شرطاً لصحة العقد، ولا واجبة فيه.
(2) بخلاف نحو ثمرة أو فلسٍ فإنه لا يُتَموَّلُ عادة.

(2/186)


المثلِ) بالغاً ما بلغ، لأنّ فساد العوض يقتضي ردّ عِوَضِهِ، وقد تعذر ردّه، لصحة النكاح، فيجبُ رد قيمتِهِ، وهو مهر المثل (1).
(وإن أصدقها) أي أصْدَقَ رجلٌ امرأتَه (تعليمَ شيء من القرآن) ولو معيّناً (لم يصحّ) وفاقاً لأبي حنيفة، (و) إن أصدق منكوحته (تعليم) شيء (معيّنٍ من فقهٍ أو حديثٍ أو شِعرٍ مباحٍ) أو أدب (أو صَنْعَةٍ) أو كتابَةٍ (صحَّ) ولو لم يعرف العملَ الذي أصدَقَها تعليمَه، لأنه يتعلمه ثم يعلّمها (2). وإن تعلمته من غيره لزمته أجرةُ تعليمها، كما لو تعذّر عليه تعليمها.
(ويشترط علم الصَّداق. فلو أصدقها داراً) مُطْلَقةً (أو دابةً) مطلقة، (أو ثوباً مطلقاً،) أو عبداً مطلقاً، (أو) أصدقها (ردَّ عبدِها أينَ كانَ، أو) أصدقها (خِدْمَتَها) أي أن يخدمها (مدةً فيما شاءت، أو) أصدقها (ما يُثْمِر شجرُهُ) في هذا العام، أو مطلقاً (أو) أصدقها (حمل أَمَتِهِ) أو ما تحمل (3) (أو) أصدقها (حمل دابته) أو ما في بيتِهِ من متاعٍ ولا تعلمه (لم يصح) ما تقدم من التسمية، لأن هذه الأشياءَ مجهولةٌ قدراً وصفةً، والغرر والجهالة في ذلك كثير. ومثل ذلك لا يحتمل، فإن الدار والدابة والثوب
__________
(1) كالبيع، إذا فسد الثَّمَنُ وجب رد عِوَضِهِ، وهو المبيع، لكن هنا -أي في النكاح- يمتنع ردّ العوض، وهو البضع، لأن النكاحَ صحّ، فلا سبيل إلى رده، فوجب قيمة البضع المعتبرة شرعاً، وهي مهر المثل. وعبارة منار السبيل "لأن المرأة لا تسلم إلا ببدل، ولم يسلّم البدل، وتعذَّرَ ردّ العوض لصحة النكاح، فوجب بدله."
(2) والفرق أن تعليم القرآن لا يقع إلا قربة لفاعله، كالأذان والصوم والصلاة، وما كان كذلك لم يصح أخذ الأجرة عليه، بخلاف تعليم الفقه والأدب ونحوهما.
وفي رواية: يجوز، وأحتج له بحديث الواهبة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للذي خطبها "اذهب فقد ملّكتُكها بما معك من القرآن" إلا أن عند البخاري "لا تكون لأحد بعدك مهراً" كذا في شرح المنتهى المطبوع. وفي منار السبيل: النجاد، بدل البخاري، وهو الصواب. وهو مرسل (فتح الباري 9/ 212)
(3) (ب، ص): "حملتْ به". فحذفنا تبعاً لـ (ف).

(2/187)


كل واحد منها على أنواع مختلفةٍ بالكبر والصغر، والجَوْدة والرداءة، واسم الدابة يقعُ على كل ما يَدِبُّ، وهو مختلفُ الأجناس. وحمل البطن قد لا يولد حيًّا، والشجرةُ قد لا تثمرِ، والعبدُ قد لا يحصل، لأنه لا يُعْلَمُ أين هو، والخدمةُ لم يعيَّن جنسها، فقد تكلِّفه ما لا يحسنه، ومتاعُ البيتِ لم يعلم ما هو. (ولا يضرُّ جهلٌ يسير). بمعرفة الصداق، (فلو أصدقها عبداً من عبيدِهِ، أو دابةً من دوابّه، أو قميصاً من قمصانه) أو خاتماً من خواتمه، ونحوه (صحّ. ولها أحدهمْ بقرعةٍ) في المنصوصِ، فإنه روي عن أحمد رحمه الله تعالى في رواية مُهَنَّا، فيمن تزوّج على عبدٍ من عبيده: جائزٌ فإن كانوا عشرةَ عبيدٍ تعطى من وسطهم، فإن تشاحّا أُقرِعَ بينهم. قلت: وتستقيمُ القُرْعَةُ في هذا؟ قال: نعم. انتهى.
ويشترط للصحة فيما إذا أصدقها دابة من دوابه تعيينُ النوعِ، كفرسٍ من خيله، أو جملٍ من جمالِهِ، أو حمارٍ من حميره، أو بغلاً من بِغاله، أو بقرةً من بقره، ونحو ذلك.
(وإن أصدقها عتق قِنَّهِ صحّ) قال في الإنصاف: لو أصدقها عتق أمتِهِ صحّ، بلا نزاعٍ. انتهى، (لا طلاقُ زوجته) أي جعلُ طلاقِ من في عصمتِهِ إلى التي يريد أن يتزوَّجَهَا صداقاً لم يصح ذلك (1). (وإن أصدقها خمراً أو خزيراً، أو مالاً مغصوباً يعلمانه) أي يعلم الزوجُ والزوجةُ أنه غصْبٌ، صح النكاح، و (لم يصحّ المسمَّى) ويجبُ عليه أن يدفعَ لها مهر المثل.
(وإن لم يعلماه) أي لم يعلم الزوجُ والزوجةُ كونه غصباً (صحَّ) النكاحُ (ولها قيمتُهُ يوم العقد)، لأن العقد وقع إلى التسميةِ، فكان لها
__________
(1) أي لأن خروج البضع من يده ليس مما يتموّل، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا يحل للرجل أن ينكح امرأة بطلاق أخرى" رواه أحمد (منار). أما العتق فيصحّ الاعتياض عنه.

(2/188)


قيمتُهُ. ولأنها رضيتْ بما سُمِّيَ لها، وتسليمُهُ ممتنع لكونه غير قابلٍ لجعلِهِ صداقاً، فوجب الانتقالُ إلى قيمتِهِ يومَ العقدِ، لأنها بدلُه، ولا تَسْتَحِقُّ مهرَ المثلِ، لعدم رضاها بِهِ.
وإن أصدقها مثليًّا، فخرجَ مغصوباً، فلها مثله.
(و) إن أصدقَها (عصيراً فبان خمراً صحَّ) العقد، (ولها مثلُ العصير) لأنه من ذواتِ الأمثال. والمثل أقرب إليه من القيمة، ولهذا، يُضْمَنُ به في الإتلاف، وكما لو أصدقها خلاًّ فبان خمراً، فإن لها مثلَ الخلّ.

فصل
(وللأب تزويجُ بنتِهِ مطلقاً) بكراً كانت أو ثيّباً (بدون صداقِ مثلِهِا) ولو كبيرةً، (وإن كرهت) ذلك. نصّ عليه. وبه قال أبو حنيفةَ ومالكٌ.
وقال الشافعي: ليس له ذلك.
ولنا أن سعيد بن المسيب زوج ابنَتَهُ بدرهمين (1)، وهو من أشرافِ قريشٍ شرفاً وعلماً وديناً. ومن المعلوم أنه لم يكنْ مهرَ مثلِها. ولأنه ليس المقصودُ من النكاحِ العوضُ، وإنما المقصودُ السَّكَنُ والازدواجُ ووضعُ المرأة في منصبٍ عند من يكفيها ويصونُها ويحسِنُ عشرتها. والظاهر من الأب مع قيام شفقتِهِ وبلوغ نظرِهِ أنه لا ينقُصها من صداقِها إلا لتحصيل المعاني المقصودة بالنكاح.
__________
(1) وكان قد خطبها الوليد بن عبد الملك لابنه، فأبى سعيد، وزوجُها لكثير بن أبي وداعة، -وهو أحد طلبته، وكان فقيرا- على درهمين. ولذلك قصة طريفة تذكرها كتب التاريخ والأدب، انظر مثلا (البداية والنهاية 9/ 100) وقصته ليست حجة في المسألة، ولكن تذكر للاستئناس.

(2/189)


(ولا يلزم أحداً تَتِمَّتُهُ) أي تتمةُ مهر المثلِ إن زوّجها الأبُ بدونه، لا الأبُ ولا الزوجُ، على الصحيح.
(وإن فعلَ ذلكَ غيرُ الأبِ) أيْ زوَّجها بدون صداقِ مثلِها غيرُ الأب من أوليائها (بإذنها، مع رُشْدِهَا، صحّ) ولم يكن لغيرهَا الاعتراضُ، لأنّ الحقّ لها، وقد أسقطتْهُ، أشبه ما لو أذنتْ في بيعِ سلعةٍ لها بدون ثمنِ المثلِ.
(و) إن زوّجها (بدون إذنِها) صحّ النكاح و (يلزم الزوجَ تتمتُهُ) أي تتمةُ مهرِ المِثْلِ، لأن التَّسميةَ فاسدةٌ هاهنا، لكونها غيرَ مأذون فيها، فوجبَ على الزوجِ مهرُ المثلِ، ويرجعُ الزوجُ على الولي بما غَرِمَهُ لها، لأنه المفرّط، كما لو باعَ ما لها بدونِ ثمنِ مثلِهِ.
(فإن قدّرت لوليها مبلغاً) يزوّجها به (فزوّجها بدونِهِ ضمنَ) النقصَ. (وإن زوّج) أب (ابنه، فقيل له،) أي للأب: (ابنُكَ فقيرٌ، من أين يؤخذ الصداق؟ فقال: عندي) ولم يزد على قوله ذلك (لزمه) (1)، ولو قضى الأبُ الصداقَ عن الابنِ، ثم طلّقَ ولم يدخلْ، ولو قبل بلوغه. فنصفه للابن (2).
(وليس للأب قبضُ صداقِ ابنتِهِ الرشيدةِ، ولو) كانت (بكراً، إلا بإذنها) لأنها المتصرفةُ في مالِهَا، فاعتُبِر إذنُها في قبضِهِ، كثمن مبيعها.
(فإن أقبضه) أي الصداق (الزوجُ لأبيها) بغير إذنها (لم يبرأ) الزوجُ من صداقِ زوجتِهِ، (ورَجَعَتِ) الزوجةُ (عليه) أي على زوجها، (ورجع هو) أي الزوجُ (على أبيها).
__________
(1) أي لأنه صار ضامناً بذلك، وكذا لو ضمنه غير الأب.
(2) ولا يرجع إلى الأب، لأنه تبرَّع به، وقُبِض. وكذا لو حصل الفراق بسبب آخر كردتها، يرجع المهر كله للابن. وكذا لو قضاه عنه غير الأب ثم تنصف أو سقط (ش. المنتهى 70/ 3).

(2/190)


(وإن كانت) الزوجةُ (غير رشيدةٍ سلّمه) أي سلم زوجُها صداقها (إلى وليِّها في مالها) (1).
(وإن تزوج العبد بإذن سيّده) على صداقٍ مسمًّى (صحّ). قال في شرح المقنع: بغير خلافٍ علمناه.
وله نكاحُ أمةٍ ولو أمكَنَهُ حرّةٌ.
ومتى أذن له سيده في النكاح، وأطلق، نكح واحدةً فقط.
(وعلى سيّده المهرُ والنفقةُ والكُسوة والمسْكن)، سواءٌ ضمن السيد ذلك أو لم يضمنه، وسواءٌ كان العبدُ مأذوناً له في التِّجارة، أو محجوراً عليه، على الأصح. نصّ على ذلك. لأنّ ذلك حق تعلّق بعقدٍ بإذن سيّدِهِ، فتعلق بذمة السيّد.
وجازَ بَيْعُهُ فيه، كما لو رَهَنَهُ بدينٍ.
فعلى هذا: لو باعَه سيّده، أو أعتقه، لم يسقُطْ عن السيّد. نصّ عليه، لأنه حقٌّ تعلَّق بذمته، فلم يسقط ببيعه وعتقه، كأرش جناية.
(وإن تزوّج) العبدُ (بلا إذنه) أي إذنِ سيّده (لم يصحّ) النكاحُ. ووجه كونهِ غيرَ صحيحٍ ما روى جابرٌ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أيُّما عبدٍ تزوَّج بغير إذن سيدِهِ فهو عاهر" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وقال: حديث حسن.
(فلو وطئ،) في النكاح الذي لم يأذن فيه سيّده (وجبَ في رقبتِهِ) أي رقبةِ العبدِ (مهرُ المثلِ) لأنه بضعٌ أتلفه بغير حق، فوجب فيه قيمته، وهي مهر المثل.
__________
(1) أي لا إلى وليها في نفسها، إن لم يكونا واحدا.

(2/191)


فصل
(وتملِكُ الزوجةُ بالعقدِ) أي بعقد نكاحِها (جميعَ) مهرِها (المسمَّى) -وعنه: لا تملك بعقدٍ إلا نصفَه وفاقاً لمالكٍ- لأنّ النكاحَ عقدٌ يُملكُ به العوضُ بالعقدِ، فيُملَك فيه العوض كاملاً، كالبيع. وسقوطُ نصفِهِ بالطلاقِ لا يمنَعُ وجوبَ جميعِهِ بالعقدِ، ألا ترى أنها لو ارتدّتْ سَقَطَ جميعُهُ، وإن كانتْ قد ملكتْ نصفَه.
(ولها) أي وللزوجة (نماؤُه) أي نماءُ مهرها (إن كان معيّناً) كعبدٍ معيّنٍ، ودارٍ معينةٍ، من حينِ عقدٍ فيكونُ كسبُ العبدِ ومنفعةُ الدارِ لها لأن ذلك نماءُ ملكِهَا.
(ولها) أيضاً (التصرّفُ فيه) أي في الصداق المعيّن بكل ما يجوز فيه من التصرفات، لأنه ملكها.
(وضمانُه) إن تلف، (ونقصُه) إن نَقَص، (عليها) كالمبيع المعيَّن إذا تلف أو نقص في يد البائعِ، ولم يمنع المشتريَ من قبضِهِ (إن لم يمنعْها قبضَهُ) فإن منعها قبضَه، فضمانُه إن تلف، ونقصُه إن نَقَصَ، عليه لأن الزوج إذا منعها من قبض ما ملكتْهُ كان بمنزلة الغاصب.
(وإن أقبضَها) أي أقبضَ الزوجُ زوجتَه (الصداقَ ثم طلّق) الزوجةَ (قبلَ الدخولِ) بها (رجعَ عليها بنصفِه) أي بنصف عينه (إن كان باقياً) بحالِهِ، ولو النصفُ فقط، ولو مشاعاً، فيدخل في مِلكِهِ قهراً لو لم يَخْتَرْهُ كالميراثِ.
(وإنِ كانَ قدْ زاد) الصداقُ (زيادةً منفصلة) كما لو كان الصداق غنماً أو نحوَها فَحَمَلَتْ عندَها وَوَلَدَت (فالزيادةُ لها) أي للزوجةِ، لأنّها نماءُ ملكِها، حتّى ولو كانت وَلَدَ أَمَةٍ.
وإن كانت متّصلة كالسِّمَنِ، وهي غيرُ محجورٍ عليها، خُيِّرت بين

(2/192)


دفع نصفِهِ زائداً، وبين دفعِ نصفِ قيمتِهِ يومَ العقدِ إن كان متميزاً. وغيرُ المتميّز للزوجِ قيمة نصفِهِ يومَ فُرْقَةٍ، على أدنى صفةٍ من وقتِ عقدٍ إلى وقت قبض.
والمحجورُ عليها لا تعطيهِ إلا نصفَ القيمةِ حالَ العقد.
(وإن كان) الصداق (تالفاً رجعَ) الزوجُ (في) الصداق (المثليّ بنصفِ مثلِهِ، و) رجع (في المتقوّم، بنصفِ قيمتِهِ)، وتعتبر قيمته (يوم العقد).
(والذي بيده عُقْدةُ النكاح) في قوله تعالى: {إلاَّ أن يَعْفُونَ أوْ يَعْفُوَ الًذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاحِ} [هو] (الزوجُ)، لا وَليُّ الصغيرِ على الأصَحِّ. يروى ذلكَ عن عليٍّ، وابن عباسٍ، وجبيرِ بن مُطْعِم، وبه قال سعيدُ بن المسيِّب، وشُرَيح، وسعيد بن جبير، ونافع مولى ابن عمر، ومجاهد، وإياس بن معاوية، وجابر بن زيد، وابن سيرين، والشعبي، والثوري، وأصحاب الرأي، والشافعي، في الجديد.
(فـ) على هذا (إذا طلَّق) الزوج (قبل الدخولِ، فأيُّ الزوجينِ عفَا لصاحِبِهِ) أي الزوجِ الآخر (عمّا وَجَبَ له) أي عما استقر ملكه عليه بسبب الطلاق (من) نصفِ (المهرِ، وهو) أي العافي (جائز التصرّف) في ماله بأن كان مكلّفاً رشيداً غيرَ محجورٍ عليه (برئَ منه صاحبُه) لقوله سبحانه وتعالى: {فإنْ طِبْنَ لكمْ عَنْ شَيءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} قال أحمد في رواية المروزي: ليس شيء قال الله تعالى: {كُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} سمَّاه، غيرَ المَهْرِ بهبةِ المرأة للزوجِ (1). وقال علقمة لامرأته: هبي لي من الهنيء المريء. يعني من صداقها.
__________
(1) لعل المراد: فلا يحلَّ له إلا إذا تحقّق طيب نفسها به، لا حياء، ولا رهبة. ثم إن "هنيئاً" وردت في القرآن في ثلاثة مواضع أخرى، أما "مريئاً" فلم ترد إلا في هذه الآية.

(2/193)


(وإن وهبته) أي وهبت المرأة (صداقَها) لزوجِها (قبل الفُرْقةِ ثم حصل ما ينصّفه) أي ينصِّفُ الصداقَ، (كطلاقٍ، رجع) الزوجُ (عليها ببدلِ نصفِه. وإن حصل ما يسقطه) أي الصداق (رجعَ) الزوجُ عليْهَا (ببدلِ جميعِهِ) أي الصداق (1).

فصل (فيما يُسْقِطُ الصداقَ وينصِّفه ويقرِّره)
[ما يسقط المهر]
(يسقُط) الصداق (كلُّه قبلَ الدُّخولِ، حتى المتعة) يعني أنه لو تزوجها ولم يسمِّ لها مهراً، ثم حَصَلتِ فرقةٌ مسقِطةٌ للمهرِ الذي لم يسمَّ فإنه يسقط ولم تجب مُتْعةٌ، (بفرقةِ اللّعان) قبل تقرُّره، لكون الفرقةِ من قِبَلِها، لأن الفسخ إنما يقع إذا تمّ لعانها، (وبفسخِهِ) أي فسخ الزوجِ النكاحَ (لعيبِها) أي عيب المرأةِ لكونها رتقاءَ أو فتقاءَ أو جذماءَ أو برصاءَ أو نحو ذلك، قبل تقرُّرِه لتلفِ المعوّض قبل تسلمه، فسقط العِوَض كله، كالبائع يتلَفُ المبيعُ بيده قبل تسليمِهِ.
(وبفرقةٍ جاءت من قِبَلِها، كفَسْخِها لعيبِهِ) (2) أو إعسارِهِ، أو عدمِ
__________
(1) لأنه ملكه بالهبة ملكاً تامًّا. وبالطلاق قبل الدخول يستحق النصف أيضاً. وفي رواية أخرى: لا يرجع بشيء، وهو قول أبي حنيفة ومالك واحد قولي الشافعي، لأنه إنما يرجع بنصف المهر وقد رجع إليه كلّه (المغني 6/ 733) وهذا القول أولى بالعدل.
(2) إذا فسخ الزوجُ لعيب بها، سقط المهر لكونها هي، أو وليُّها، دلس على الزوج العيب. فإن فسخت هي لعيب به سقط المهر كذلك، وإنْ دَلَّس، لأن العوض في مقابلة منافعها، أما هي فليس من جهتها عوض في مقابلة منافع الزوج، وإنما ثبت الخيار لها لأجل الضرر الذي يلحقها، لا لتعذّر ما استحقّت عليه في مقابلته عوضاً. فافترقت المسألتان (مغني 6/ 655)

(2/194)


وفائِهِ بشرطٍ شرطَتْهُ عليهِ في النكاح، أو اختيارِها لنفسِها بجعلِ الزوج لها ذلك، بسؤالِها إياه (1) قبلَ دخولٍ، (وإسلامِها تحت كافرٍ) قبل تقرُّرِهِ (و) كـ (ردّتها تحتَ مسلمٍ، وإرضاعِها من ينفسخ به نكاحُها) قبل تقرّره، لأنها أتلفت المعوَّض قبل تسليمِهِ، أشبه ما لو أتلفَ البائعُ المبيعَ قبل قبضِهِ.

[ما يتنصف به المهر]
(ويتنصّف) صداقُها (بالفُرقة من قِبَلِ الزوجِ كطلاقِهِ) الزوجَةَ، ولو بسؤالها، (وخُلْعِهِ) إياها، ولو بسؤالها، لأن الفرقة إنما ثبتت في صورة سؤالها بجواب الزوجِ، (وإسلامهِ) أي إسلام الزوج قبل وجودِ ما يقرّره من الدخولِ أَو الخلوةِ، إذا كانت الزوجةُ غير كتابية، (وردّتِهِ) قبلَ وجودِ ما يقرِّرُهُ لمجيء الفُرْقَةِ من قبله.
(و) يتنصّف صداقها (بملك أحدِهما الآخر) أي بشراءِ الزوجةِ الزوجُ، أو الزوج الزوجةَ قبلَ الدخولِ.
(أو قِبَلِ أجنبيٍّ) يعني أن المهر يتنصّف إذا جاءت الفرقة من قبل أجنبيٍّ، (كرضاعٍ) أي كما لو أرضعتْ أختُهُ أو نحوُها زوجتَهُ الصغيرةَ رضاعاً محرماً، (ونحوِهِ) أي نحو الرضاع كما لو وطئَ ابنُ الزوجِ الزوجةَ قبل دخولٍ.

[ما يتقرر به المهر كاملاً]
(ويقرِّرُهُ) أي يقرّرُ المهرَ (كاملاً موتُ أحدهما) أي موتُ أحدِ الزوجينِ، ولو بقتْلِ أحدِهما الآخرَ أو قَتْلِ أحدِهِما نفسَهُ، لأنَّ النكاحَ بَلَغَ نهايتَهُ، فقام ذلك مقامَ الاستيفاءِ في تقرير المهر، ولأنه أوجبَ العِدَّةَ
__________
(1) (ب، ص): "بسؤالها إياه لها" ولا موضع لقوله "لها" فحذفنا تبعاً لـ (ف).

(2/195)


على المرأةِ، فأوجبَ كمالَ المهرِ، كالدخول.
(و) يقرره كاملاً (وطؤُها) أي وطء الزوج الزوجةَ حيًةً في فرْج ولو
دبراً، أو في غيرِ خلوةٍ، لأنه قد وُجِد استيفاءُ المقصودِ باستقرارِ العوض.
(و) يقرر المهرَ كاملاً أيضاً (لمسُه لها) أي للزوجة لشهوةٍ (ونظرُه
إلى فرجِها لشهوةٍ) ولو لم يخلُ بها، فيهما. قال في الفروع: ويقررُه
لمسٌ ونحوُه لشهوةٍ. نص عليه. انتهى. ووجه ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ
طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا
فَرَضْتُمْ} وحقيقة اللمْس التقاءُ البشرتين (1). (و) يقرره كاملاً (تقبيلُها ولو
بحضرةِ الناس) لأن القُبْلَةً أجرِيَتْ مجري الوطء في قطع خيارِ المشتري،
فيجبُ أن تكونَ في تقريرِ الصداقِ كذلك. قال أحمد: إذا أخذَها
فمسها، وقبض عليها، من غير أن يخلوَ بها، لها الصداقُ كاملاً، إذا نالَ
منها شيئاً لا يحل لغيرِه. وقال في رواية مُهَنا: إذا تزوج امرأةً فنظر إليها
وهي/ عُريانة تغتسل وجب عليه المهر.
(و) يتقرر كاملاً (بطلاقِها في مرضِ موتٍ ترثُ فيهِ) قال في
المنتهى: أو موتهِ بعدَ طلاقٍ في مرض موتٍ قبل دخولٍ، ما لم تتزوجْ أو
ترتد (2) انتهى.
(و) يتقرر (بخلوتهِ بها) أي خلوةِ الزوج بالزوجةِ، وإن لم يطأ.
روي ذلك عن الخلفاء الأربعة الراشدين، وزيدٍ، وابنِ عمر، وبهذا قال
علي بن الحسين، وعرْوَة، وعطاء، والزهري، والأوزاعي، وإسحق،
__________
(1) هذا القول منصوص أحمد. وفي وجه للقاضي لا يتقرْر المهر بذلك، والمس كناية عن
الوطء (مغني 6/ 728)
(2) في صنيع الماتن هنا نظر، فإن أصله المنتهى جعل الموت هو المقرًر، لا الطلاق في
مرض الموت. أما هو فقد جعل المقرًر لكمال المهر الطلاقَ في مرض الموت.
والحكم أنه ان طلْقها في مرض موته المخوف قبل الدخول تنصفَ المهر، فإن ماتَ في
مرضه ذاك ولم تتزوج أو ترتد، كفل لها المهر، معاملة له بنقيض قصده.

(2/196)


وأصحاب الرأي. وهو قول الشافعي في القديم.
ويشترط للخلوة المقرِّرة للمهر كاملاً أن تكون (عن مميَّزٍ) ولو كان كافراً أو أعمى نصًّا، ذكراً كان أو أنثى، عاقلاً أو مجنونًا، وسواءٌ كان الزوجانِ مسلمينِ، أو كافرينِ، أو الزوجُ مسلماً، والزوجةُ كتابيةً، ولو كان الزوج أعمى أو نائماً مع علمِهِ بأنها عنده، إنْ لم تمنعْه الزوجةُ من وطئِها.
وإنما تكون الخلوةُ مقرِّرَةً (إن كان) الزوج (يطأ مثلُه و) كانت الزوجةُ (يوطأ مثلُها) كابنِ عشرٍ يخلو ببنتِ تسع.
ولا تقبل دعواه عدم علمه بها.

فصل [في اختلاف الزوجين في الصداق]
(وإذا اختلفا) أي اختلفَ الزوجان، أو ورثتُهما، أو زوجٌ ووليُّ صغيرةٍ (في قدر الصداقِ)، أو في عينِه، (أو) في (جنسِهِ)، أو في صفته، (أو) فيما يستقر به (الصداق)، فقول الزوجِ (بيمينِهِ) أو وارثِهِ بيمينِهِ. أما كونُ القولِ قولَه في عينِ الصداقِ، كما لو ادعت أنه أصدقها هذه الأَمَةَ، وقال هو: بل هذا العبدَ، وفي صفته، كما لو قالت: أصدقَنيَ عبداً روميًّا فقال: بل زنجيًّا، وفي جنسِهِ، كما لو قالت: أصدقني كذا من البُرّ، فقال: بل من الشعير. وفيما يستقرّ به المهر، كما لو قالت: خلوتَ بي، فقال: لم أخلُ بكِ، فلأنه مُنْكِرٌ، والقولُ قولُ المنكِرِ بيمينه، لأن الأصلَ براءَةُ ذمَّتِهِ مما لم يجبْ بإقرارِهِ، ولا بيِّنة.
(و) إذا اختلف الزوجان أو ورثتُهما (في القبضِ) للصداقِ (أو تسميةِ المَهْرِ فقولُها) إن وُجدتْ، (أو وارِثِها،) بيمينٍ من قبلِ المنكِرِ، لأن

(2/197)


الأصل عدمُ القبضِ وعدمُ التسمية.
(وإن تزوجَهَا) أي تزوج رجلٌ امرأةٌ (بعقدينِ على صداقَيْنِ سراً وعَلناً، أخِذَ) الزوجُ (بـ) ـــالصداقِ (الزائِدِ) سواء كان الزائدُ صداقَ السرِّ أو كان الزائدُ صداقَ العلانِية.
ويلحَقُ بالمهرِ زيادةٌ بعد عقدٍ ما دامت في حباله، فيما يقرّره أو ينصِّفه. قال أحمد في الرجل يتزوّج المرأةَ على مهرٍ، فلما رآها زادَها في مهرها: فهو جائز. فإن طلّقها قبلَ الدخولِ فلها نصفُ الصداقِ الأول ونصفُ الزيادةِ. انتهى.

[هدايا الزوج]
(وهديّةُ الزوجِ ليسَتْ من المَهْرِ) نصّ عليه. (فما) أهداه الزوجُ (قبلَ العقدِ إن وعدوهُ) بأن يزوَجوه (ولم يَفُوا) بان زوجوا غيره (1) (رجع بها) أي بالهدية. قال في الإنصاف: قاله الشيخ تقيُّ الدين. واقتصر عليه في الفروع. قلت: وهذا مما لا شكّ فيه. انتهى (2). وما قبضَهُ أخو الزوجةِ ونحوُه مئكلةً (3)، فحكُمْهُ حكمُ المَهْرِ فيما يقرِّره وينصِّفه.
(وتردّ الهديةُ) على زوجٍ (في كل فُرْقةٍ اختياريةٍ مسقطةٍ للمهر) كفسِخٍ لفقدِ كفاءةٍ ونحوهِ قبل الدخولِ، (وتثبُتُ) الهدية (كلُّها مع) أمرٍ (مقرِّرٍ له) أي للمهر (أو لنِصْفِهِ).
ومنْ أخَذَ شيئاً بسببِ عقدٍ، كدلَّالٍ في بيعٍ ونحوِهِ، كإجارةٍ، فإنْ
__________
(1) لو أعلموه برفضهم له فكذلك.
(2) لكن إن كان الإعراض عن إتمام العقدِ من قبله هو فلا رجوع.
(3) في الصحاح "المئكلة الصِّحافُ التي يستخفّ الحيُّ أن يطبخوا فيها" (اللسان). فكأن الكلمة استعمِلت في بعض العصور فيما يعطيه الخاطب لبعض أقارب المخطوبة طُعْمَةً له كـ (هِدْمِ الخالِ) في عرف بعض أهل فلسطين.

(2/198)


فُسِخَ بيعٌ بإقالةٍ ونحوِها مما يقف على تراضٍ، لم يُرَدَّ، وإلا ردَّه. وقياسُهُ نكاحٌ فُسِخَ لفقدِ كفاءَةٍ أو عيبٍ، فيردُّه. قاله في المنتهى.

فصل [تفويض المهر]
(ولمن زُوِّجت) أي زوّجها أبوها مجبَرَةً، أوْ لا، بإذنها، بلا مهرٍ، أو زوّجها غيرُ الأب بإذنها (بلا مهرٍ) صحّ العقد مع عدم تسميةِ صداقٍ. ويجبُ لها مهرُ المثل، (أو) زوِّجَتْ (بمهرٍ فاسدٍ) كما لو تزوَّجَها على خمرٍ أو كلبٍ، صحَّ العقدُ، و (فُرِضَ مهرُ مثلها عند الحاكم) أي فَرَضَهُ الحاكم، بقدره. ويلزمهما فَرْضُهُ، كحكمه.
(فإن تراضَيَا) أي الزوجان (فيما بينهما، ولو على قليلٍ صحَّ ولَزِمَ) وصارَ حُكْمُهُ حكمَ المسمّى في العقدِ، قليلاً كان أو كثيراً، سواء كانا عالمينِ مهرَ المثلِ أوْ لا، لأنه إن فرضَ لها كثيراً فقد بذل لها من ماله فوق ما يلزمه، وإن فرض لها يسيراً فقد رضيتْ بدون ما يجبُ لها.
تنبيه: عبارةُ المتنِ مخالِفةٌ لما في المنتهى تقديماً وتأخيراً، فإن عبارته "فإنْ تراضَيَا ولو على قليلٍ صحّ، وإلا فرضه حاكمٌ بقدره." وعبارة الإِقناع مرتّبة كالمنتهى.

[المتعة]
(فإن حصلتْ لها فُرْقَة منصِّفة للصداقِ) من طلاقٍ أو غيره (قبلَ فرضِهِ أو تراضِيهِمَا وجبتْ لها المُتْعَةُ.) وهي [أي المتعة] ما يجبُ لحرةٍ أو سيِّدِ أمةٍ على زوجٍ بطلاقٍ قبل دخولٍ لمن لم يُسَمِّ لها مهرٌ مطلقاً. (على الموسِعِ قَدَرُهُ وعلى المقترِ قَدَرُهُ) وذلك لأن المتعةَ معتَبَرَةٌ

(2/199)


بحالِ الزوجِ في يَسَارِهِ وإعساره. نص عليه. (فأعلاها خادِمٌ) إذا كان الزوج موسراً (1) (وأدناها كسوةٌ تجزئها) أي تجزئ المرأةَ (في صلاتِها) وهي درْعٌ وخِمارٌ أوْ ثوبٌ (2) تصلي فيه (إذا كان) الزوج (معسراً).

فصل [في المهر في غير النكاح الصحيح]
1 - (ولا مهر في النكاحِ الفاسِدِ إلا بالخلوةِ أو الوطء) فإنْ طلّقها أو ماتَ عنها قبل الدخول أو الخلوة فلا مهر لها، (فإن حَصَلَ أحدُهما) أي الدخولُ أو الخلوةُ (استقرّ) عليه (المسمى إن كان) فُرِضَ لها مسمًّى، (وإلا) بأن لم يُفرضْ لها شيء (فـ) يستقر عليه لها إن دخلَ أو خلَا بها (مهرُ المثل).
2 - (ولا مهرَ في النكاحِ الباطلِ) كنكاحِ زائدةٍ على أربع (إلا بالوطءِ في القُبُلِ) فلا مهر بوطئها في الدبر.
3 - (وكذا) يجب عليه مهر المثلِ إذا كانتْ (الموطوءة) موطوءة (بشبهةٍ) كمن وطئ امرأةً ليست زوجةً له، ولا مملوكةً، يظنُّها زوجتَهُ أو مملوكتَهُ. قال في الشرح والمبدع: بغير خلافٍ علمناهُ. كبدلِ متلَفٍ.
4 - (و) كذا حكم (المُكْرَهَةِ على الزِّنا) ولو كانتْ من محارمِهِ، كأختِهِ وعمّته من نسبٍ أو رضاعٍ، كبدل متلَفٍ، أو ميتةً، ولو من مجنونٍ. قال في الإقناع: ومن طلَّق امرأتَهُ قبلَ الدخولِ طلقةً، وظنّ أنها لا تبينُ بها، فوطئها، لزمه مهرُ المِثْلِ، ونصفُ المسمّى. انتهى. وإنما وجب النصفُ أيضاً لأنه طلَّق قبل الدخول. (لا لمطاوِعَةِ) على الزِّنا،
__________
(1) المراد بالخادم هنا المملوك من عبد أو أمة.
(2) كذا الصواب كما في شرح المنتهى. وفي (ب، ص): "وثوب".

(2/200)


لأنَّه إتلافُ للبُضْعِ برضا صاحِبِهِ، كما لو أذنتْ له في قطعِ يَدِهَا، فقطعَهَا، (ما لم تكنْ) المزنيُّ بها المطاوعةُ (أَمَةً) فإنه لا يسقطُ مهرُها بطواعيتها، لأنه لسيّدها. والمبعَّضةُ يسقطُ منهُ ما يقابِلُ حرّيتَها، والباقي لسيدها.
(ويتعدَّدُ المهرْ بتعدد الشبهَةِ،) كما لو وطئها يظنها زوجَتَهُ فاطمةَ، ثم وطئها ظاناً أنها زوجتُه عائشة، ثم وطئها ظاناً أنها زوجتهْ زينب، لزمه ثلاثةُ مهورٍ.
(و) يتعدّدُ المهر أيضاً بتعدد (الإِكراهِ) على الزنا، لا بتكرار الوطءِ في الشبهةِ الواحدةِ، كأن اشتبهت عليه بزوجته ودامت تلك الشبهة حتى وطئَ مراراً.
(وعلى من أزالَ بكارَةً أجنبيةٍ) أي غيرِ زوجتهِ (بلا وطءٍ أرشُ البكارَةِ) لا مهرُ مثلٍ، لأنه إتلاف جزءٍ، ولم يَرِدِ الشرع بتقديرِ عِوَضِهِ، فرُجِعَ فيه إلى أرشه، كسائر المتلَفاتِ.
(وإن أزالَهَا) أي البكارةَ (الزوجُ) بلا وطءٍ (1). (ثم طلَّق) من أزال عذرتَها بغير الوطءِ (قبل الدخولِ) بها (لم يكن عليهِ إلا نصفُ المسمَّى) لقوله تعالى: {وِإِنْ طَلَّقْتُمُوهُن مِنْ قَبْلِ انْ تَمَسُوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وهذه مطلَّقة قبلَ المسيسِ والخلوةِ فلا يكون لها سِوَى نصفِ المسمَّى (إن كان، وإلا) أي وإن لم يكنْ لها مسمًّى (فالمتعةُ) لها.
(ولا يصحُّ تزويجُ مَنْ نكَاحُها فاسدٌ قبلَ الفرقة) بطلاقٍ أو فسخٍ، (فإنْ أباهَا) أي الفرقةَ بالطلاقِ أو الفسخِ (الزوجُ فَسَخَه الحاكم) نصّ عليه.
__________
(1) أي إن حصل ذلك دون خلوة أو نظر بشهوة، أو لمسٍ، فإن كلاًّ من ذلك يقرر المهر بكماله كما تقدم.

(2/201)


باب (الوليمة وآدَاب الأكل) وَالشّرب وَمَا يتعَلّق بذَلِك
والوليمة: اجتماعٌ لطعام عُرسٍ خاصةً. وحِذَاقُ: الطعام عند حِذاقِ صبى (1)، وعَذِيرَةٌ وإعذارٌ: لطعام خِتَانٍ (2)، وخُرْسَةٌ وخُرْسٌ: لطعام ولادةٍ، ووَكِيرَةٌ: لدعوة بناءٍ (3)، ونَقِيعَةٌ: لقدومِ غائبٍ، وعَقِيقَةٌ: لذبحٍ لمولودٍ، ومَأدُبَةٌ: اسمٌ لكلِّ دعوةٍ لسببٍ وغيرِهِ، ووَضِيمَةٌ: اسم لطعام مأتمٍ، وهو العزاء، وتُحْفَةٌ: لطعام قادمٍ، وشندخية: لطعام إملاكٍ على زوجة، ومِشْداخٌ: لطعامٍ مأكولٍ في خَتْمَةِ القارئ.
وكلُّ هذه الدعواتِ مباحةٌ لا تكره ولا تستحب، والإجابة إليها مستحبةٌ، إلا (وليمةَ العرس) (4) فإنها (سنةٌ مؤكدة) لأنه - صلى الله عليه وسلم - أمَرَ بها، وفَعَلها.
وُيسَنُّ أن لا تنقص عن شاةٍ، والأولى الزيادة عليها.
__________
(1) الحِذَاقُ، اسم لحذق الصبيّ القرآن (قاموس) فسمي به الطعام الذي يصنع لذلك.
(2) ويسمى أيضاً العِذَار والعَذِير. وكما هو للختان كذلك للبناء، أو إذا استفدت شيئاً جديداً فتصنع طعاما وتدعو إليه إخوانك (قاموس).
(3) سواء بنيته أو اشتريته أو استأجرته. من الوكر وهو المأوى.
(4) كان عليه أن يستثني العقيقة، فأنها مسنونة كما تقدم. ودعوة المأتم مكروهة (ش. المنتهى).

(2/202)


وإن نَكَحَ أكثرَ من واحدةٍ في عقدٍ أو عقودٍ أجزأتْهُ وليمةٌ واحدةٌ إذا نواها عن الكلّ.

[حكم إجابة الدعوة]
(والإجابةُ إليها) أي الوليمةُ (في المرَّةِ الأولى واجبةٌ) لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما، مرفوعاً "أجيبُوا هذهِ الدعوةَ إذا دعيتُمْ إليها" (1) (إن كانَ لا عذر) له فإنْ كانَ المدعوّ مريضاً، أو مُمْرِضاً (2)، أو مشغولاً بحفظِ مالٍ، أو كانَ في شدَّةِ حرٍّ أو بردٍ أو مطرٍ يبلّ الثياب، أو وحلٍ، أو كان أجيراً خاصًّا ولم يأذن له المستأجِر، لم تجب الإجابة، (ولا منكر).
فإن علم أن في الدعوة منكراً كزمْرٍ وخمرٍ، وأمكنه الإنكار، حضَر وأنكر، وإلا لم يحضر.
ولو حضر فشاهَدَهُ أزالَه وجلَسَ، فإن لم يقدر انصرف.
وإن علم به ولم يره ولم يسمعه أبيح الجلوس.
(و) الإجابة إلى الوليمة إذا دُعيَ (في) المرة (الثانية سُنَّةٌ) كما لو دعي إليها في اليوم الثاني (وفي الثالثةِ مكروهةٌ).
(وإنما تجب) الإجابة للوليمة (إذا كان الداعي مسلماً يَحْرُمُ هَجْرُهُ) ومَنَعَ ابن الجوزيّ في المنهاج (3) من إجابةِ ظالمٍ، وفاسقٍ، ومبتدعٍ، ومفاخِرٍ بها، أو فيها مبتدعٌ يتكلم ببدعَتِهِ، إلا لِرَادٍّ عليه.
(وكسبه طيب، فإن كانَ في مالِهِ حرامٌ كرِهَتْ إجابته. ومعامَلَتُهُ وقبولُ هديّته) وقبول هبته وصدقته. (وتَقْوى الكراهة وتضعُفُ بحسب
__________
(1) حديث ابن عمر مرفوعاً "أجيبوا هذه الدعوة إذا دعيتم لها" تمامه "وكان ابن عمر يأتي الدعوة في العرس وغير العرس، ويأتيها وهو صائم" متفق عليه (منار السبيل 2/ 204)
(2) المُمْرِض الذي له مريض يقوم عليه.
(3) كذا في الأصول. والمعروف لابن الجوزي "المنهج الأحمد" وهو مطبوع.

(2/203)


كثرةِ الحرام وقلّته) جزم به في المغني والشرح. وقاله ابن عقيلٍ في فصوله، وغيرُه، وقدّمه الأزجيّ.
(وإن دعاهُ اثنانِ فأكثر وجب عليه إجابة الكلّ إن أمكنه الجمع) بأن اتسع الوقتُ لِإجابتهما، (وإلا) بأن لم يمكن الجمع (أجاب الأسبقَ قولاً) لأن الإجابةَ وجبتْ بدعاءِ الأول، فلم يَزُلِ الوجوبُ بدعاءِ من بعده. ولم تجب إجابته لأنها غيرُ ممكنةٍ مع إجابةِ الأوّل.
فإن استَوَيَا (فالأَدْيَن) أي أجاب الأَدْيَنَ من الداعيينِ لأنه الأَكْرَمُ عند الله تعالى.
فإن استويا في الدّين (فالأقربَ رَحِماً) لما في تقديمه من صلة الرحم.
فإن استويا في القرابةِ (فـ) الأقربَ (جواراً) لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" إذا اجتمعَ داعيانِ أجِبْ أقَرَبَهُما باباً، فإن أقربهما باباً أقربُهُما جواراً" (1) رواه أبو داود (ثم يُقْرِع) يعني أنه إذا دعاهُ أكثرُ من واحدٍ، واستَوَوْا في هذه المعاني، أقرَعَ بينهما، أو بينهم، لأن القرعة تعيِّن المستحق عند استواءِ الحقوق.
(ولا يقصِدُ) المدعوّ (بالإِجابة نفسَ الأكل، بل ينوي) بالإِجابة (الاقتداءَ بالسنة) المطهَّرةِ، على من سنّها ألفُ ألفِ صلاةٍ وألف ألف تحية. (و) ينوي (إكرامَ أخيهِ المؤمنِ، ولئلا يُظَنَّ به التكبُّر.)
ويكره لأهل الفضلِ والعلمِ الإسراع إلى الإجابة إلى الولائِمِ غيرِ الشرعيَّة، والتساهُل فيه، لأن فيه مذلَّةً ودناءةً وَشَرَهاً، لا سيما الحاكم (2).
__________
(1) حديث "إذا اجتمع داعيان فأجب أقربهما باباً فإن أقربهما باباً أقربهما جواراً، فإن سبق أحدهما فأجب الذي سبق" حديث ضعيف، رواه أحمد وأبو داود والبيهقي. (الأرواء ح 1951)
(2) الحاكم هو القاضي. ويرجع إلى باب القضاء لمعرفة أحكام إجابة القضاة للولائم.

(2/204)


(ويستحب) لمن دعي إذا حضر الطعامَ (أكلُه) لأنه أبلغُ في إكرام الداعي وجبرِ قلبه، وإن أحبّ دَعَا وانصرفَ، (ولو) كان (صائماً) تطوّعاً، إن كان في تركِ الأكلِ كسْرُ قلب الداعي. وإن لم يكن في ترك الأكل كسرُ قلب الداعى كان إتمامُ الصومِ أولى من الفطر، (لا) إن كان صائماً (صوماً وَاجباً) فلا يفطر، لقوله تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أعْمَالَكُمْ} ولأن الفطرَ محرّم والأكلَ غيرُ واجبٍ.
(وينوي) الآكل (بأكلِهِ وشُرْبهِ التقوى على الطاعة) لتنقلب العادةُ عبادةً.
(ويحرم الأكل) من غيره (بلا إذنٍ صريحٍ أو قرينةٍ) تدلُّ على الإذن، حتى (ولو) كان أكلُه (من بيت قريبه أو صديقِه) حتّى ولو لم يحرزْهُ عنْهُ. قال في الآدابِ الكبرى (1): يباحُ الأكلُ من بيت القريب والصديقِ من مالٍ غيرِ محرَزٍ عنْهُ إذا عَلِمَ أو ظنَّ رضَا صاحِبِه بذلك (2). (والدعاءُ إلى الوليمةِ وتقديمُ الطعام إذنٌ في الأكل) لما روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال. "إذا دُعيَ أحدكم إلى طعام، فجاءَ مَعَ الرسولِ، فذلكَ إذنٌ" (3) رواه الإِمام أحمد وأبو داود. وقال عبد الله بن مسعود: إذا دعيت فقد أُذِنَ لك. رواه الإِمام أحمد بإسناده.
وليس الدعاء إذناً في الدخول. وفي الغُنْية: لا يُحتاجُ بعد تقديمِ الطعامِ إلى إذن إذا جَرَتْ العادةُ في ذلك البلد بالأكل بذلك، فيكون العرفُ إذناً. انتهى.
__________
(1) لعله يقصد "الآداب الشرعية" لابن مفلح. وهو مطبوع بدار المنار بالقاهرة.
(2) هذا أوسع مما في المتن، إذ قد يعلم أو يظنُّ الرضا، دون الإذن. وكلام "الآداب" أقرب لظاهر القرآن، لقوله تعالى {وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ .... إلى قوله: أَوْ صَدِيقِكُمْ}.
(3) حديث "إذا دعي أحدكم .. " حديث صحيح. رواه أحمد وأبو داود والبخاري في الأدب المفرد (الإرواء ح 1955)

(2/205)


ولا يملِكُ الطعامَ مَنْ قدِّم إليه، بل يهلِك على ملك صاحبه.
(ويقدّم) رب الضيافة (ما حَضَر) عنده (من الطعامِ من غير تكلّفٍ) قال في الإِقناع: ومن التّكلّف أن يقدّم جميع ما عنده.
قال الشيخ: إذا دعي إلى الأكلِ دَخَلَ بيتَهُ فأكَلَ ما يكسِرُ نَهْمتَهُ قبل ذهابِهِ انتهى.
(ولا يُشْرَعُ تقبيل الخبز) ولا الجماداتِ إلا ما استثناهُ الشرعُ كتقبيلِ الحجرِ الأسودِ.
ويكره أن يأكُلَ ما انتفخَ من الخبزِ ووَجهِهِ، وبتركَ الباقي منه، لأنه كِبْر.
(ويكره إهانته) أي الخبز لقوله عليه السلام: "واكْرِمُوا الخبزَ" (1).
(ويكره مسحُ يديه) والسكينِ (به) أي بالخبز.
(و) يكره (وضعه) أي الخبز (تحت القصعةِ) وتحت المِمْلَحَة، بل يوضعُ الملحُ وحده على الخبز.

فصل [في آداب الأكل]
(وبستحب غسل اليدين قبل الطعام) متقدماً به رَبُّه، (و) غسلُهما (بعدَه) متأخراً به ربُّه، ولو كان الأكلُ على وضوءٍ، وأن يتوضّأ الجنُبُ قبل الأكل.
ولا يكره غسلُ يديه في الإِناء الذي أكل فيه.
(وتسن التسميةُ جَهْراً) ندباً، لينبّه غيره عليها، فيقول: "بسم الله"
__________
(1) حديث "أكرموا الخبز" لم نجده.

(2/206)


قال الشيخ: ولو زاد "الرحمن الرحيم" لكان حسناً، فإنه أكمل، بخلاف الذبح (على الطعامِ والشراب) لحديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً "إذا أكَلَ أحدُكم فليذْكُرِ اسمَ اللهِ، فإن نَسِيَ أنْ يذكرَ اسمَ الله في أوله فليقلْ بسمِ اللهِ أولَهُ وآخرَهُ" (1) والشرب مثله.
(و) يستحبّ للآكل (إن يجلسَ على رجله اليسرى، وينصبَ اليمنى، أو يتربّع) وجعل بعضُهم التربع من الاتّكاء (2).
(و) يسن أن (يأكل بيمينه.)
ويسن أن يأكل (بثلاثِ أصابعَ) و (مما يليه) لقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم - لعمر بن أبي سلمة: "يا غلامُ سمِّ الله، وكل مما يليك" (3).
(و) يسن أن (يصغِّر اللقمة، ويطيلَ المضْغَ) لأنه أجودُ هضماً. قال الشيخُ: إلا أن يكون هناك ما هو أهمّ من الإطالة.
(و) يسن أن (يمسح الصَّحْفة) التي يأكل فيها، (و) أن (يأكلَ ما تناثَر) منه، أو سقط منه من اللُّقَمِ بعد إزالة ما عليه من أذًى، (و) أن (يغض طرْفَهُ عن جليسِهِ) قال الشيخ عبد القادر قدس الله سره: من الأدب أن لا يُكثِرَ النظر إلى وجوه الأكلين (ويؤْثِرَ المحتاجَ) على نفسِهِ لمدحه تعالى فاعلَ ذلكَ بقوله جل من قائل: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.
(و) يستحب أن (يأكل مع الزوجةِ والمملوكِ والولَدِ ولو طفلاً) وأن تكثُر الأيادي على الطعام ولو من أهلِهِ وولَدهِ لتكثر البركةُ، ولعله يصادِفُ
__________
(1) حديث "إذا أكل أحدكم .. " حديث صحيح، أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي (إرواء الغليل ح 1965)
(2) أي فيكون التربع مكروها، لكراهة الاتكاء أثناء الأكل، كما يأتي، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لا آكل متكئاً" رواه مسلم .. والصحيح أن التربع ليس من الاتكاء.
(3) حديث "يا غلام سم الله .... " متفق عليه.

(2/207)


صالحاً يأكُلُ معه فيُغْفَر له بسببه.
(و) يسنّ أن (يلعق أصابعه) قبل الغسلِ والمسحِ، أو يُلْعِقَها غيرَهُ.
(ويخلِّلُ أسنانَهُ) إن عَلِقَ بها شيء من الطعام، (ويُلْقي ما أخْرَجَهُ الخِلالُ. ويكره أن يبتلعَهُ. فإن قَلَعَهُ بلسانِهِ لم يكره) بَلْعُهُ.
(ويكره نفخُ الطعام) ليبرد، قال في الإنصاف: على الصحيحِ من المذهب. زاد في الرعَاية والآداب وغيرهما: والشراب. قال في المستوعِب: النفخُ في الطعام والشراب والكتاب منهيٌّ عنه. وقال الأمديّ: لا يكره النفخ والطعامُ حارٌّ. قلَتُ: وهوَ الصواب إن كانَ ثمَّ حاجةٌ إلى الأكل حينئذ. انتهى.
(و) يكره أكل الطعام حالَ (كونهِ حارًّا) قال في الإِنصاف: قلت: عند عدم الحاجة.
(و) يكره (أكله بأقلّ) من ثلاثة أصابع لأنه كِبْر، (أو أكثرَ من ثلاثةِ أصابعَ) لأنه شَرَهٌ، ما لم يكن حاجة.
ولا بأس بالأكل بالملعقة، (أو) أكله (بشمالِهِ) بلا ضرورةٍ. قال في الإِنصاف: ويكره تركُ التسمية، والأكلُ بِشمالِهِ إلا من ضرورةٍ.
(و) يكره أكلُه (من أعلى الصحفةِ أو وَسَطِها.) وكره لمن حضر مائدةً فعلُ ما يستقذرهُ منه غيرُهُ، ومدحُ طعامِهِ، وتقويمه (1).
(و) نفضُ يده في القصعة) لما فيه من الاستقذار.
(و) يكره (تقديمُ رأسه إليها) أي القصعة (عند وضعِ اللقمةِ في فَمهِ) لأنه ربما يسقطُ من فمه شيء فيها، فيستقذروها (2).
(و) يكره لمن أكل مع غيره (كلامُه بما يُستقذَر) أو يُضْحِكُهُمْ أو
__________
(1) تقويمه ذكر قيمته. وإنما يكره مدح الطعام من ربه، لا من الضيف.
(2) كذا في (ف) والذي في (ب، ص): "فيستقذرها".

(2/208)


يَحْزنهُم قاله الشيخ عبد القادر.
(و) يكره (أكله متكئاً أو مضطجعاً) أو منبطحاً. وفي الغنية وغيرها: وعلى الطريق.
(و) يكرَهُ (أكلُه كثيراً بحيث يؤذيهِ) ويجوز بحيث لا يؤذيه. قال في الإقناع: ومع خوفِ أذًى وتخمةٍ يحرم. انتهى. وهذا القول نقله في الفروع عن الشيخ تقي الدين بعد أن نقل عنه الكراهة (أو قليلاً بحيث يضرُّه) قال أحمد في أكلِهِ قليلاً: لا يعجبني. قال في الإنصاف: ولا يقلّل من الأكل بحيث يضرُّه ذلك.
(ويأكل ويشربُ مع أبناءِ الدنيا بالأَدَب والمروءة) بوزن سهولة؛ (و) يأكل (مع الفقراءِ بالإيثار؛ و) يأكل (مع الَعُلَمَاءِ بالتعلُّم؛ و) يأكل (مع الإخوان بالانبساط،) ويتكلّفه.
ولا يكثر النظر إلى المكانِ الذي يخرج منه الطعام.
(و) يستحب أن يباسِطَ الإخوان (بالحديث الطيّب، والحكاياتِ التي تليقُ بالحال) إذا كانوا منقبضين، فيحصل لهم الانبساط، ويطولُ جلوسهم. ولا يجمَعُ بين النوى والتَّمر في طبقٍ واحدٍ، وكذا الرّمانُ وما له قشرٌ كالقَصَب. ولا يجمعه في كَفّه، بل يضعه من فيهِ على ظهرِ كفِّه (1). وكذا كلُّ ما فيه عَجَمٌ وثَفَلٌ. قال أبو بكر بن حماد. رأيت الإِمامَ أحمدَ يأكل التمرَ، ويأخذ النوى على ظهرِ أصبعيه السبابةِ والوُسْطى.
ويكره القِرَانُ في التمر ونحوه مما جرت العادة بتناوُلِهِ إفراداً.
وإذا شرب لبناً، قال: اللهمْ بارك لنا فيه، وزدنا منه، فإنه يشبع ويروي. وإذا وقع البعوضُ أو النحلُ أو الزنابيرُ أو نحوُها في طعام أو شرابٍ سُنَّ غَمْسُهُ كلَّه فيه، ثم لْيَطْرَحْهُ.
__________
(1) أي إن لم يكن على المائدة ما يضعه فيه. وقد تركت هذه العادة.

(2/209)


ويغسلُ يديه وفَمَهُ من ثومٍ وبَصَلٍ وزهومةٍ ورائحةٍ كريهةٍ. ويتأكد عند النوم.
(وما جرت به العادةُ من إطعام السائِلِ ونحوِ الهرّ ففي جوازه وجهان) قال في الإِقناع: قال في الفروع: وما جرت العادةُ به كإطعامِ سائلٍ وسِنَّورٍ ونحوه وتلقيمٍ، وتقديمِ بعضِ الضيفانِ إلى بعضٍ فيحْتَمِلُ كلامه وجهين. وجوازُه أظهر، لحديثِ أنسٍ في الدّبّاء (1).

فصل [في أذكار الفراغ من الطعام]
(ويسن أن يحمد الله تعالى إذا فرغ) الآكلُ أو الشاربُ من أكلِهِ أو شربِهِ. (ويقول: الحمدُ للهِ الذي أطعمني هذا الطعامَ وَرَزَقنيهِ من غير حولٍ مني ولا قوة) لما روي عن معاذ بن أنسِ الجهني، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -, قال: "من أكلَ طعاماً فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا الطعامَ وزرقنيهِ من غيرِ حولٍ مني ولا قوةٍ، غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه" رواه ابن ماجه (2).
(ويدعو) الضيفُ (لصاحِب الطعامِ، ويُفْضِلُ) الضيفُ (منه) أي من الطعام (شيئاً) استحباباً، (لا سيما إن كان ممن يُتَبَرَّكُ بفضْلَتِهِ) (3) أو
__________
(1) حديث أنس في الدباء المراد به ما رواه البخاري والنسائي، ولفظ البخاري عن أنس، قال "كنت غلاماً أمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على غلام له -وفي رواية لأحمد: مولى له- خياط، فأتاه بقصعة فيها طعام، وعليه دبّاء، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتبع الدباء. قال أنس: فلما رأيت ذلك جعلت أجمعه بين يديه. قال: فأقبل الغلام على عمله. قال أنس: لا أزال أحب الدباء بعد ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع ما صنع" اهـ.
(2) حديث ابن ماجه "من أكل طعاماً فقال: ... " رواه أيضاً أحمد وأبو داود والترمذي. وقال الترمذي: حسن غريب.
(3) في التبرك بآثار الصالحين من هذه الأمة غير النبي - صلى الله عليه وسلم - إجماع الصحابة على عدم فعله. =

(2/210)


كانَ ثمَّ حاجة إلى إبقاء شيءٍ منه.
وفي شرح مسلم: يستحب لصاحب الطعامِ الأكلُ بعد فراغِ الضيفِ.

[إعلان النكاح واللهو فيه]
(ويسن إعلانُ النكاح، والضربُ فيه) أي النكاح (بدفٍّ لا حلق فيه ولا صنوج، للنساء) قال أحمد: يستحبُّ ضربُ الدفِّ والصوت في الإملاك. فقيل له: ما الصوتُ؟ قال: يتكلم ويتحدّثُ ويُظْهر.
(ويكره) الضرب بالدفّ (للرجالِ) مطلقاً قاله في الرعاية. وقال الموفق: ضرب الدف مخصوصٌ بالنساء. قال في الفروع: وظاهر نصوصِهِ وكلامِ الأصحاب التسوية.
(ولا بأس بالغَزَلِ في العُرْسِ) لقوله - صلى الله عليه وسلم - للأنصار:
أتيناكُمْ أتيناكمْ ..... فَحَيُّونَا نحيِّيكمْ
لَوْلا الذَّهَبُ الأحمر ..... لما حلَّتْ بِوَادِيكُمْ
ولولا الحبّة السوداء .... ما سُرَّتْ عذارِيكم (1)
لا على ما يصنعه الناس اليوم.
(وضربُ الدفِّ في الختانِ، وقدوم الغائب) والولادةِ ونحوهم (2) (كالعرسِ) لما فيه من السُّرور.
تتمة: تحرُم كل المَلْهيَاتِ (3) سوى الدفّ، كمزمارٍ، وطنبورٍ،
__________
= راجع كتابنا (أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - 1/ 287)
(1) هكذا بالأصول. ورواه الطبراني ببعض اختلاف. وفيه من ضعف (مجمع الزوائد 4/ 289)
(2) الأولى "ونحوها" لأن "كل جمعٍ مؤنث".
(3) جمعُ تصحيح لملهاة. وهي آلة اللهو. والأغلب في الكلام "الملاهي".

(2/211)


وربابٍ، وجنك (1)، ونايٍ (2)، ومعزفة، وجفانة (3)، وعودٍ، وزمّارة الراعي، ونحوها، سواء استُعمِلت لحزنٍ، أو سرور. ويأتي لهذا تتمّة في كتاب الشهاداتِ إن شاء الله تعالى.
__________
(1) الجنك: آلة لهو يضرب بها كالعود. ويطلق أيضاً على الدف. معرب من الفارسية (معجم متن اللغة).
(2) الناي: آلة من آلات الطرب ينفخ فيها - فارسية (المنجد الأبجدي).
(3) الجفانة: لم نجد من وصفها ولا يبعد أن تكون الكلمة محرفة.

(2/212)


باب عِشرَة النِّسَاء
والعشرة بكسر العين أصلها الاجتماع، وهي ما يكون بين الزوجين من الأُلفة والانضمام (1).
إذا عرفتَ ذلك فإنه (يلزَمُ كلاًّ من الزوجين معاشرةُ الآخرِ بالمعروفِ من الصُّحْبَةِ الجميلةِ، وكفِّ الأذى، وأنْ لا يمطُلَهُ بحقِّه) مع قدرتِه، ولا يُظهِر الكَراهةَ لبذله (2)، بل ببشرٍ وطلاقةِ وجهٍ، ولا يُتبِعَهُ أذًى ولا مِنَّةً، لأن هذا المعروفُ المأمورُ به.
(وحقُّ الزوج عليها) أي على الزوجةِ (أعظمُ من حقِّها عليهِ) لقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ درَجَةٌ}
ويسنّ لكلِّ واحد منهما تحسينُ الخلْقِ لصاحِبِهِ، والرفقُ به، واحتمالُ أذاه. قال ابن الجوزيّ: معاشَرَةُ المرأةِ بالتلطُّف معَ إقامَةِ هَيْبَتِهِ لئلا تَسْقُطَ حُرْمَتُهُ عندها.
(وليكُنْ) الزوجُ (غَيوراً من غير افراطٍ) لئلا تُرْمى بالشرّ من أجله.
وينبغي إمساكُها مع الكراهةِ لها.
(وإذا تمَّ العقد وَجَب على المرأةِ أن تسلّم نفسَها لبيتِ زوجِها إذا
__________
(1) وكذا المخالطة والألفة بين غير الزوجين تسمّى عِشرة.
(2) (ب): "ليذله"، و (ص): "لتذل له". وما ذكرناه الصواب كما في (ف).

(2/213)


طَلَبها) لأنَّه بالعقدِ يَسْتَحِقُّ الزوجُ تسليمَ المعوّض، كما تستَحِقُّ المرأة تسليم العِوَضِ. وقولُهُ: (وهيَ حرّةٌ) لأنَّ الأَمَةَ لا يجبُ تسليمُها إلا ليلاً. وقوله (يُمكِنُ الاستمتاعُ بها) لأنها إذ لم يمكن الاستمتاعُ بها لم يجب على أهلِهَا تسليمُها إليه، ونصَّه (كبنتِ تسعٍ) فأكثر، ولو كانت نِضْوَةَ الخلقة، ويستمتع بمن يخشى عليها كحائضٍ (1). وقوله: (إن لم تشترط دارَها) أو بلدَها، لأنها إذا اشترطتْ دارَها أو بلدَها لم يكن للزوج طلبُها إلى بيتِهِ أو بلدِهِ (فلا يجبُ (2) عليها) أي الزوجة، ولا على وليِّها قبل الدخولِ (التسليمُ إن طَلَبها وهي محرِمَةٌ) بحجّ أو عمرةٍ (أو مريضةٌ) لا يمكن الاستمتاع بها (أو صغيرةٌ أو حائِضٌ، ولو قال: لا أطأ) لأن كلاًّ من ذلك مانعٌ يرجى زوالُه، ويمتنع الاستمتاعُ بها معه، أشبه ما لو طلب أن يتسلّمها في نهارِ رَمضان، بخلافِ ما إذا بذلَتْ نفسها وهي كذلك، فإنه يلزمه تَسَلُّم غير الصغيرة. قاله في شرح المنتهى.
تنبيه: من استمهل منهما لزم إمهاله زمناً جرتْ عادة بإصلاح أمرِهِ فيه، لا لعمل جهازٍ مثلاً (3).

فصل
(وللزوجِ أنْ يستمتِعَ بزوجتِهِ في كلّ وقتٍ على أي صفةٍ كانتْ) إذا كان الاستمتاع في القُبُل ولو من جهة عجيزتها (ما لم يضرَّها أو يشغَلَها عن الفرائضِ) فليس له الاستمتاعُ بها إذاً، لأن ذلك ليس من المعاشَرَةِ
__________
(1) أي كما يستمتع بحائضٍ، أي له المباشرة بما سوى الوطء.
(2) عبارة "فلا يجب الخ" تفريع على قوله: يمكن الاستمتاع بها، فإن المحرمة لا يمكن فيها ذلك.
(3) عبارة "لا لعمل جهاز" ساقطة من (ف).

(2/214)


بالمعروف. وحيث لم يشغلْها عن ذلك ولم يضرها فله الاستمتاع، ولو كانتْ على التنورِ أو على ظهْرِ قَتَبٍ.
(ولا يجوزُ لها) أي للمرأة (أن تتطوَّعَ بصلاةٍ أو صومٍ وهو حاضِرٌ إلا بإذنِهِ) ولا تأذنَ في دخول بيتِهِ إلا بإذنِهِ (وله الاستمتاع (1) بيدها) فإن زاد عليها في الجماع صولح على شيء منه.
فائدة: لا يكره الجماعُ في يومِ من الأيام، ولا في ليلةٍ من الليالي، وكذا السفر، والتفصيل، والخياطَة، والغزْل، والصناعاتُ كلها، حيث لا تؤدّي إلى إخراجِ فرضٍ عن وقته.
(و) له (السفر بلا إذنها).
(ويحرم وطؤها في الدُّبُر ونحوِ الحيضِ).
فإن فَعَل عُزِّرَ إن عَلِمَ تحريمَه.
وإن تطاوعا عليه، أو أكرَهَهَا، ونُهِيَ عنْهُ فلم ينتَهِ، فُرِّق بينهما. قال الشيخُ: كما يفرّق بين الرجلِ الفاجِرِ ومن يفجُر به. انتهى.
(و) يحرم (عزلُه) أي الزوج (عنها بلا إذنها) إن كانت حرّةً. ويحرم عزلُه عن زوجتِهِ الأمةِ بلا إذن سيّدها.
(ويكرَه أن يقبِّلها) أي زوجتَه أو سرّيته، (أو يباشِرَها عند الناس) لأنه دناءَةٌ.
ويكره وطؤه لزوجته (2) أو سرّيّته بحيث يراهُ طفلٍ لا يعقل، أو بحيثُ يسمَع حِسَّهما، ولو رضيا، إن كانا مستوري العورة، وإلاَّ حَرُمَ مع رُؤيَتِهِما.
(أو يُكْثِرَ الكلامَ حالَ الجماعِ) لأنه يكره الكلامُ حال البولِ، وحالُ
__________
(1) كذا في (ف، ص) ومطبوع (الدليل، وشرح المنتهى). وفي منار السبيل: "الاستمناء بيدها" ولعله أصح، وهو الذي في (ب)
(2) سقط من الأصول كلمة "وطؤه" والتصويب من شرح المنتهى.

(2/215)


الجماعِ في معناه، (أو يحدثا بما جرى بينهما) ولو لِضَرَّتِها. وحرّمه في الغُنْيَة، لأنه من السرّ، وإفشاءُ السرِّ حرام.
(ويسنّ أن يلاعبها قبل الجماعِ) لتنهضَ شهوتُها فتنالَ من لذةِ الجماع مثلَ ما ينالُه.
(و) يسن (أن يغطّي رأسَهُ) عند الجماعِ وعندَ الخلاءِ، (وأنْ لا يستقبِل القبلةَ) عند الجماعِ لأن عمرَو بن حزم وعطاءً كرها ذلك. قاله في الشرح.
(و) يسن لمن أرادَ وطأً (أن يقول عند الوطء: بسم الله. اللهمَّ جنِّبنا الشيطانَ، وجنِّب الشيطانَ ما رَزَقْتَنَا) لقوله تعالى: {وقدّموا لأنفُسِكم}. قال عطاء: هي التسميةُ عند الجماعِ. قال ابن نصر الله: وتقول المرأة أيضاً [و] روى ابن أبي شيبةَ في مصنّفه عن ابن مسعود موقوفاً "إذا أنزلَ يقولُ اللهمَّ لا تجعلْ للشيطانِ فيما رزقتْنَا نصيباً" قال في الإِنصاف: فيستحب أن يقول ذلك عند إنزاله.
(و) يستحب (أن تتخذ المرأةُ خرقةً تناولها للزوجِ بعدَ فراغِهِ من الجماعِ) ليتمسَّح بها. وهو مرويّ عن عائشة رضي الله عنها. قال الحلواني: يكره أن يمسح ذكره بالخرقة التي تمسح بها فرجها.
وقال ابن القطان: لا يكره نخْرها للجماعِ وحالَ الجماعِ ولا نخرُه. وقال مالك لا بأس بالنخر عن الجماع، وأَراهُ سفهاً في غير ذلك يُعابُ على فاعِلِهِ.

فصل
(وليس عليها) أي الزوجة (خدمةُ زوجِها في عجنٍ وخبزٍ وطبخٍ ونحوه) ككنس الدار، ومَلءِ الماء من البئرِ، وطحنِ الحبِّ (لكن الأولى

(2/216)


فعلُ ما جرتْ به العادة) بقيامِها به، وأوجب الشيخ العرفَ من مثلِها لمثله.
وأما خدمةُ نفسِها في العجنِ والخبزِ والطبخِ ونحوِه فهي عليها إلا أن يكون مثلُها لا يخدِم نفسَها.
(وله) أي الزوج (أن يُلزِمَها) أي الزوجةَ (بغسلِ نجاسةٍ عليها) لا عليهِ (وبالغسلِ من الحيضِ والنفاسِ والجنابةِ) واجتناب المحرّماتِ. قال في الإِنصاف: فله إجبارها على ذلك إذا كانت مسلمةً، روايةً واحدةً وعليه الأصحابُ.
(و) له إلزامها أيضاً (بأخذ ما يُعافُ من شَعَرٍ وظُفرٍ) قال في شرح المقنع: وله إجبارُها على إزالةِ شعرِ العانةِ إذا خرج عن العادةِ، روايةً واحدة، ذكره القاضي، وكذلك الأظفارُ. فإن طالا قليلاً بحيثُ تعافه النفس ففيه وجهان.
وهل له منعُها من أكلِ ما له رائحةٌ كريهةٌ، كبصلٍ وثومٍ وكرّاث؟ على وجهين. قال في الإنصاف: أحدهما تُمنَع. جزَمَ به المنوّر، وصحّحه في النظم وتصحيح المحرَّر، وقدمه ابن رزين في شرحه. والوجه الثاني: لا تمنع من ذلك.
(ويحرم عليها) أي الزوجة (الخروجُ بلا إذنه) أي الزوج، لأن حقّ الزوجِ واجبٌ، فلا يجوزُ تركُهُ بما ليس بواجبٍ، (ولو لموتِ أبيها).
فإن مَرِضَ بعضُ محارِمِها، أو ماتَ، لا غيرُه من أقارِبِها، استُحِبَّ له أن يأذنَ لها في الخروجِ إلى تمريضِهِ، أو عيادَتِهِ، أو شهودِ جنازَتِهِ، لما في ذلك من صلة الرحم. وفي منعها من ذلك قطيعة رحم. وربما حَمَلَها عدم إذنه على مخالفته.
ولا يُستحب له أن يأَذَنَ لها في الخروجِ لزيارةِ أبويها مع عدم

(2/217)


المرض (1). (لكن لها) أي الزوجة (أن تخرج لقضاء حوائجها) التي لا بد لها من (حيث لم يقم بها) للضرورة فلا تسقط نفقتها به.
(ولا يملك) الزوج (منعَها من كلام أبوْيها، ولا) يملك (منعهما من زيارتها) لأنه لا طاعةَ للمخلُوقِ في معصيةِ الخالِقِ (2) (ما لم يخف منهما الضرر) بسبب زيارتهما، فله منعهما إذاً من زيارتها دفعاً للضرر.
(ولا يلزمُها طاعةُ أبوْيها) في فراقِهِ ولا في زيارةٍ ونحوهما (بل طاعةُ زوجِها أحقُّ) لوجوِبها عليْها.

فصل
(ويلزمه) أي الزوجَ (أن يبيتَ) في المضجَعِ (عند الحرّة بطلبها) لأن الحق لها فلا يجب بدون الطلب (ليلةً من) كل (أربع) من الليالي.
(و) يلزمه أن يبيت في المضجَع عند (الأمةِ ليلةً من سبعِ) ليالٍ، لأن أكثر ما يمكن أن يجتمع معها ثلاثُ حرائرَ، لهنّ ستٌّ، ولها السابعة.
(و) يلزمه (أن يطأها في كل ثُلُثِ سنةٍ مرَّةً إن قدر) أي في كل أربعةِ أشهر مرة، إن لم يكن عذر، لأنه لو لم يكن واجباً لم يَصِرْ باليمين على تركِهِ واجباً، كسائر ما لا يجب (3)، ولأن النكاحَ شُرِعَ لمصلحةِ الزوجينِ ودَفَع الضَّرَرَ عنهما.
(فإن أبى) الوطءَ بعد انقضاءِ الأربعة أشهر، أو البيتوتةَ في اليومِ
__________
(1) يعني: بل ذلك مباح فقط. ولا يجوز له أن يمنعها من حضور الصلوات في المساجد.
(2) أي لأن الله أمر بصلة الرحم ونهى عن القطيعة.
(3) أي والحالُ أن الله تعالى قدره بأربعة أشهر في حق المؤلى، فكذا في حق غيره (ش. منتهى).

(2/218)


المقرّر، حتى مضت الأربعة أشهر، بلا عذرٍ لأحدهما (فَرَّق الحاكِمُ بينهما إن طلبتْ) ذلك، ولو قبل الدخول. نص عليه في رجلٍ تزوّجَ امرأةً، ولم يدخلْ بها، يقول: غداً أدخل بها، غداً أدخل بها إلى شهرٍ، هل يجبر على الدخولِ؛ قال: أذْهَبُ إلى أربعة أشهر: إن دخل بها وإلا فُرِّقَ بينَهُما. قاله في الإِقناع: (وإن سافَر) زوج امرأةٍ (فوقَ نصفِ سنةٍ في غير أمرٍ واجبٍ) كحجٍّ أو غزوٍ واجبين، (أو) في غير (طلب رزقٍ يحتاج إليه، وطلبتْ) زوجتُه (قدومَهُ لزمه) القدومُ. فإن أبى بلا عذرٍ فُرِّقَ بينهما بطلبها.

[القَسْمُ بين الزوجات]
(ويجب عليه) أي على الزوجِ إن كان غير طفلٍ (التسويةُ بين زوجاتِه) إن كن ثنتيْنِ فأكثر (في المبيتِ).
(ويكون ليلةً وليلةً) لأنه إن قسم ليلتين وليلتين، أو أكثر من ذلك، كان في ذلك تأخير في حقِّ من لها الليلةُ الثانية، لا التي قبلها (1) (إلا أن يرضين بأكثر) من ليلةٍ وليلةٍ، لأن الحقّ لهن لا يعدوهُنّ.
وعمادُ القَسْمِ الليل (2). ويخرجُ في نهاره لمعاشِهِ، وقضاءِ حقوقِ الناسِ، وما جرت العادةُ به، ولصلاة العشاءِ والفجرِ، ولو قبل طلوعه، كصلاةِ النهارِ، قال في شرح الإِقناع: قلتُ لكن لا يعتاد الخروجَ قبل الأوقات إذا كان عند واحدةٍ دون الأخرى، لأنه غيرُ عدلٍ، منه. أما لو اتفق ذلك بعض الأحيان، أو لعارضٍ، فلا بأس.
__________
(1) (ب، ص، ف) بحذف "لا" والتصويب من شرح المنتهى. أي لأن الليلة الثانية للمرأة الثانية، فإذا جعلها للأولى أخّر حق الثانية دون الأولى.
وفي المذهب قول آخر، للقاضي، انه ليس هذا على سببل الوجوب، بل الأولوية، فيجوز أن يقسم ليلتين ليلتين، وثلاثا ثلاثاً. لا أكثر.
(2) لمن عمله بالنهار، أما من عمله بالليل، كالحارس، فعماد القسم في حقه النهار.

(2/219)


(ويحرم دخولُه) أي الزوج (في نوبةِ واحدةٍ) من نسائِهِ (إلى غيرها، إلا لضرورةٍ) مثل أن تكون منزولاً بها فيريدُ أن يحضُرَهَا، أو توصِي إليه، أو نحو ذلك.
(و) يحرم أن يدخل إليها (في نهارِها) أي نهار ليلةِ غيرِها (إلا لحاجةٍ) أو سؤالٍ عن أمرٍ يحتاج إلى معرفته. فإن لم يلبث لم يقضِ.
(وإن لبث، أو جامع، لزمه القضاء) أي قضاءُ لبثٍ وجماعٍ، لا قضاءُ قبلةٍ ونحوها.
(وإن طلق واحدةً) من معه أكثرُ (وقتَ نوبَتِها) مثل أن تكون هي الثانيةَ في القسم فطلّقها في آخر نوبةِ الأولى فقد (أثِمَ) لأنه تسبَّب بالطلاق إلى إبطالِ حقّها من القَسْم، لأن الأولى لما استوفت النوبة، وجب للثانية مثلُ ذلك، فإذا طلّقها فقد أبطل بذلك حقّها من القسم، فلا يجوز كإبطال سائر حقوقها.
(ويقضيها) لها (متى نَكَحَها) وجوباً، لأنه قدر على إيفاء حقها، فلزمه، كالمعسر إذا أيسر بالدين.
(ولا يجب عليه) أي الزوج (أن يُسَوِّيَ بينهن في الوطء ودواعيه) لأن ذلك طريقُهُ الشهوةُ والميلُ. ولا سبيل إلى التسوية بينهن في ذلك.
(ولا) يجب عليه أيضاً التسويةُ بينهن (في النفقةِ) والشَّهوةِ (والكسوة، حيث قام بالواجب) عليه من نفقة وكسوة، (وإن أمكنه ذلك) وفَعلَه (كان حسناً) وأولى، لأنه أبلغ في العدل بينهن. روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يسوي بين زوجاتِهِ في القُبْلة ويقول: اللهمَّ هذا قَسْمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك" (1).
__________
(1) حديث "كان يسوي ببن زوجاته في القُبْلة ويقول .. " لم نجد ذكر القبلة في هذا الحديث فيما رجعنا إليه من المراجع. ولفظ أبي داود عنها قالت "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم بيننا فيعدل ثم يقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما لا أملك". =

(2/220)


فصل
(وإن تزوج بكراً) ولو أمةً، ومعه غيرها ولو حرائر (أقامَ عندها سبعاً) ثم دار. (و) إن تزوّج (ثيّباً) ولو أمةً أقام عندها (ثلاثاً) لأنه يُراد للأُنْسِ وإزالة الاحتشام والحياء (1)، والأمة والحرة سواءٌ في الاحتياجِ إلى ذلك، فاستوتا فيه، كالنفقة.
ولا يحتسب عليهما بما أقام عندهما.
(ثم يعود إلى القسم بينهن) كما كان قبل أن يتزوّج الجديدة (2). ودخلت الجديدة بينهن فصارت آخِرَهُنَّ نوبةً.

[حق الزوج في التأديب]
(وله) أي للزوج (تأديبُهنَّ) أي تأديبُ زوجاته (على ترك الفرائض) كالصوم والصلاةِ الواجبين، لا تعزيرُها في حادثٍ متعلّقٍ بحقّ الله تعالى، كإتيان المرأة المرأة (3).

[العمل عند نشوز المرأة]
(ومن عصتْهُ) زوجته، بأن خرجتْ من بيته بغير إذنه، أو امتنعت من إجابته إلى الفراش، ونحو ذلك (وعظَها) بأن يخوّفها الله سبحانه وتعالى، ويذكرَ لها ما أوجب الله عليها من الحقّ والطاعة، وما يلحقُها من الإثم بالمخالفة والمعصية، وما يسقُط بذلك من النفقة والكُسوة، وما يباحُ له من هجرها وضرْبها، (فإن أصرّت) على النشوز بعد وعظها
__________
= وأخرجه النسائي والترمذي والحاكم وابن حبان. وصححه الحاكم لكن حقق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني أنه ضعيف (الإرواء ح 2018)
(1) عبارة "والحياء" ساقطة من (ف).
(2) وإن شاءت الثيب أقام عندها سبعاً ثم قضى لكل من البواقي سبعاً.
(3) أي لأن ذلك إلى الحاكم.

(2/221)


(هَجَرَها في المضْجَعِ) أي تَرَكَ مضاجعتها (ما شاءَ) من الزمانِ ما دامت كذلك، (و) هجَرَها (في الكلام ثلاثةَ أيامِ فقط) لقوله - صلى الله عليه وسلم -:"لا يَحِلُّ لمسْلِمٍ أن يَهْجُرَ أخاهُ فوق ثلاثة أيام" (1) (فإن أصرَّت) مع هجرها في المضجعِ، وهجرِها في الكلام، على ما هي عليه من النشوز، (ضَرَبَها ضرباً غير شديدٍ، بعشرةِ) أي عشرةَ (أسواطٍ، لا فوقَها).
(وُيمنع) الزوج (من ذلك) أي من هذه الأشياء المذكورةِ (إن كان مانعاً لحقّها) لأنه يكون ظالماً بطلبه حقّه، مع منعِهِ حقّها.
وينبغي للمرأة أنْ لا تُغْضِبَ زوجَها.
__________
(1) حديث "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه ... " متفق عليه.

(2/222)