نَيْلُ
المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب كتَاب الظهَار
مشتقٌ من الظَّهر. وإنما خُصّ به الظهر من بين سائر الأعضاء لأنه موضع
الركوب، ولذلك يسمى المركوب ظَهْراً. والمرأةُ مركوبةٌ إذا غُشِيتْ.
فمن قال لزوجته أنتِ عليّ كظهر أمّي، كان معناه أنه شَبَّهَ امرأتَهُ بظهر
أمِّه في التحريم، كأنه يشير إلى أنّ ركوبَهَا للوطءِ حرامٌ كركوب أمه
لذلك.
(وهو) أي الظهارُ شرعاً (أن يشبّهَ) الزوجُ (امرأتَهُ، أو) يشبّه (عضواً
منها) أي من امرأته (بمن) أي شخصٍ (يحرمُ عليهِ من رجلٍ أو امرأةٍ) كأمّه
وأختِهِ وبنتِهِ.
وكذلك يكون مظاهراً إذا شبَّه امرأتَهُ بذَكَرٍ، (أو بعضوٍ منه) ولو بغير
عربيّةٍ.
(فمن قال لزوجته: أنتِ، أو يدُكِ)، أو وجهُكِ، أو أذنكِ (عليَّ كظهر) أمّي
(أو يَدِ أُمِّي)، أو بطنِ أمِّي، أو كظهر أبي، (أو كظهر) زيدٍ، (أو يَدِ
زيدٍ؛ أو) قال لزوجته: (أنتِ عليّ كفلانةَ الأجنبيةِ،) أو كظهر أخت زوجتي،
أو عَمَّتِها أو خالتها (1)، (أو) قال لزوجته: (أنتِ علي
__________
(1) المجمع على أنه ظهار من ذلك كله، ذكر الأم والجدة، بقوله لزوجته "أنت
على كظهر =
(2/258)
حرامٌ) ظهارٌ وإن نوى طلاقاً أو يميناً، لا
إن زاد إن شاءَ اللهُ، أو سَبَقَ بها (1) نصًّا، (أو قال: الحلُّ عليَّ
حرام، أو) قال: (ما أحلَّ اللهُ لي) حرام (صارَ مُظاهِراً).
(وإنْ قال) لزوجته: (أنتِ عليَّ كأمّي، أو: مثل أُمِّي)، أو: أنتِ معي مثلُ
أمّي، أو: كأمّي، أو: أنتِ منّي كأمِّي، أو: مثلُ أمّي، (وأطلَقَ) في جميع
ذلك (فظهارٌ على الأصح، لأنه الظاهر من اللفظ عند الإِطلاق.
(وإن نوى) بقوله: أنت عليَّ، أو عندي، أو منّي، أو معي، كامِّي أو مثل أمي
(في الكرامَةِ ونحوها) كالمحبّة، (فلا) يكون مظاهراً، لأنه حينئذ يُدَيِّن
ويُقْبَلُ منه في الحكم.
(و) إن قال لها: (أنتِ أمِّي؛ أو:) أنتِ (مثلُ أمي) دون أن يقول: عليَّ، أو
عندي، أو: منّي، أو: معي، (أو) قال لها: (عليَّ الظهارُ، أو: يلزمني)
الظهار، (ليس) ذلك (بظهارٍ إلا مَعَ نيّة) للظهار (أو قرينةٍ) تدل عليه،
لأن احتمال هذه الصورِ لغيرِ الظِّهار أكثَرُ من احتمالِ الصُّوَرِ التي
قبلها له. وكثرةُ الاحتمالات توجِبُ اشتراط النيّة في المحتمل الأقل،
لتتعيّن له، لأنه يصير كناية فيه فتشترط النية فيه كسائِرِ الكنايات.
وتقوم في ذلك القرينة مقام النية.
(و) إن قال لزوجته (أنت علي كالميتة، أو) كـ (الدمّ، أو) كـ (الخنزير، يقع
ما نواهُ من طلاقٍ) لأنه يصلح أن يكون كناية فيه، فإذا اقترنتْ به النية
وقع ما نواه من عَدَدٍ، وإن لم ينوِ عدداً فطلقة، (و) من (ظهارٍ) كما قلنا
في "أنت على حرام" (و) من (يمينٍ) وهو أن يريدَ تركَ
__________
= أمي" وفي ما عدا الأم والجدة خلاف وفي المذهب اختار أبو بكر ان الظهار لا
يكون إلا [بالتشبيه بـ] ذوات المحارم من النّساء" (مغني 7/ 341)
(1) يعني قدمها قبل لفظ الظهار.
(2/259)
وطئِها لا تحريمَهَا، ولا طلاقَها فيكون
يميناً فيها الكفارةُ بالحِنْثِ.
(فإنْ لم ينوِ شيئاً) من هذه الثلاثةِ (فظهارٌ) أي فيكون ظهاراً، لأن
معناهُ: أنتِ عليَّ حرامٌ كالميتة والدم.
فصل
(ويصح الظّهارُ من كل من) أي زوجٍ (يصحّ طلاقُهُ) (1) مسلماً كانَ أو
كافراً، حرًّا كان أو عبداً، كبيراً كان أو مميّزاً يعقل الظهار، لأنه
تحريمٌ كالطلاق، فجرى مجراهُ، وصحَّ ممن يصحُّ منه.
ويصحّ الظهارُ (منجَّزاً ومعلَّقاً) بشرطٍ، (ومحلوفاً به) (2)، فمن حَلَفَ
بالظهارِ، أو بالطلاقِ، أو بالعِتْقِ، وحَنَثَ، لزمه ما حلف به.
(فإن نجَّزَهُ) أي نجَّز الظهارَ رجلٌ يصح طلاقه (لأجنبيّةٍ) بأن قال لغيرِ
زوجتِهِ: أنتِ عليَّ كظهر أُمّي، (أو علّقه بتزوَّجها) بأن قال لها: إن
تزوجْتُكِ فأنْتِ عليَّ كظهرِ أمّي، سواء في ذلك ما إذا قاله لمعيَّنةٍ،
كما مثّلتُ، أو عمَّمَ فقال؛ النساءُ عليَّ كظَهْرِ أمّي، أو: كلُّ امرأةٍ
أتزوَّجُها فهي عليّ كظهر أمّي. قاله في شرحِ المقنع، (أو قال لها) أي
لأجنبية: (أنتِ عليَّ حرامٌ، ونوى أبداً، صحّ) كون قولهِ ذلكَ (ظهاراً)
لأنّ ذلك ظهار في الزوجة، فكذا في الأجنبية. فإن تزوَّجَهَا لم يطأهَا
حتَّى يكفِّر، (لا إن أطلق) بأن لم ينوِ أبداً (أو نوى إذنْ) لأنَّه صادق
في حرمتها عليه قبل عقد التزويج.
ويقبل دعوى ذلك منه حكماً لأنه الأصل.
(ويصحّ الظهارُ) مطلقاً كأنتِ عليَّ كظهرِ أمّي، و (مؤقَّتاً، كأنتِ عليَّ
__________
(1) في (ف): "يعقل الطلاق"، وما هنا أوضح.
(2) إذا حلف بالظهار فعند ابن تيمية كفارته كفارة يمين إذا حنث (مختصر
الفتاوى ص 439).
(2/260)
كظهرِ أُمِّي شَهْرَ رمضانَ، فإن وطئ فيه)
أي في شهر رمضان (فمظاهِرٌ) أي يكفَر كفارةَ ظهارٍ، (وإلا) بأن لم يطأ فيه
(فلا) يكون مظاهراً فلا تلزمه كفارةٌ، لأنه زالَ عنْهُ حكمُ الظِّهارِ
بمضيِّه.
(وإذا صحّ الظهار حَرُمَ على المظاهِر) والمظاهَرِ منها (الوطءُ ودواعيهِ)
كالقُبْلَةِ والاستمتاع بما دون الفرج (قبل التكفير) ولو بإطعامٍ، فيلزمه
إخراجُها قبلَ الوطء، بخلافِ كفارةِ يمينٍ.
(فإن وطئ) المظاهِرُ المظاهَرَ منها (ثبتَتْ الكفارةُ في ذمَّتِهِ) أي ذمة
المظاهِرِ، (ولو) كان الواطئُ (مجنوناً) بأن ظاهَرَ ثم جُنَّ، لا إن كان
الوطءُ من مكره، (ثم لا يطأُ) ثانياً (حتى يكفِّرَ).
(وإنْ ماتَ أحدهما) أي أحدُ الزوجينِ بعد الظهار (قبل الوطءِ) وقبل
التكفيرِ (فلا كفّارة) عليه سواء، كان ذلك متراخياً عن ظهارِهِ أو
عَقِبَهُ.
فصل [في كفارة الظهار]
(والكفارة فيه) أي في الظهارِ، والكفارةُ في الوطءِ في نهار رمضان (على
الترتيب) وهي (عتقُ رقبةٍ مؤمنةٍ) لقوله تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا
خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وأُلْحِقَ بذلك سائر الكفاراتِ،
حملاً للمطلق على المقيد، كما حُمِلَ قولهِ تعالَى: {وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} على المقيّد في قوله تبارك وتعالى
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}، وإن لم يُحْمَل عليه من جهة اللغة
حُمِل عليه من جهة القياس. والجامِعُ بين كفَّارةِ القَتْلِ وغيرِها من
الكفَّارات أن الإِعتاقَ يتضمَّن تفريغَ المعتَقِ المسلمِ لعبادةِ ربه،
وتكميلَ أحكامِهِ، ومعونَةَ المسلمين. فناسَبَ ذلك شَرْعَ إعتاقِهِ في
الكفارة، تحصيلاً لهذه المصالح. والحكم مقرونٌ
(2/261)
بها في كفّارة القتلِ المنصوصِ على الإيمان
فيها، فيتعدّى ذلكَ إلى كلِّ عتقٍ في كفارةٍ، فيختصّ بالمؤمنة، لاختصاصه
بهذه الحكمة. (سالمةٍ من العيوب المضرّة في العمل) ضرراً بَيّناً، لأنَّ
المقصودَ تمليكُ العبْدِ منافعه، وتَمكينه من التصرف لنفسه. ولا يحصل هذا
مع ما يضرّ بالعمَلِ ضرراً بيّناً، كعمًى وشَلَل يدٍ أو رجلٍ، أو قطعِ
إحداهما، أو سبّابةٍ أو وسطى أو إبهامٍ من يدٍ أو رجلٍ أو خِنْصَرٍ
وبِنْصَر من يَدٍ، ويجزئ مُدَبَّر وصغير وولد زنًا وأعرجُ عرجاً يسيراً
ومجبوبٌ وخصيّ وأصَمُّ وأخرسُ تُفْهَمُ إشارته وأعورُ ومرهونٌ ومُؤْجَرٌ.
(ولا يجزئُ عتقُ الأخرسِ الأصَمِّ) ولو فُهِمَتْ إشارتُه، ومَنْ جنونُهُ
مطبِق. (ولا) يجزئُ عتقُ (الجنينِ) ولا الزَّمِنِ ولا المُقْعَد.
(فإن لم يجد) الرقبة، بأن عَجَزَ عنها العجزَ الشرعي، (فـ) يلزمه (صيامُ
شهرينِ متتابعيْنِ) حرًّا كان أو قنًّا.
(ويلزمه تبييت النيةِ من الليل) لصومِهِ، لكونه واجباً.
ويلزمه تعيين النيّة جهة الكفارة (1).
وينقطع التتابع بوطءِ مظاهَرٍ منها، ولو ناسياً أو مع عذرٍ كمرضٍ وسفرٍ
يبيح الفطر، أو ليلاً، لا غيرها في الثلاثة (2).
وينقطع بصوم غيرِ رمضان، وبفطْرٍ بلا عذر.
(فإن لم يستطع الصومَ لكبرٍ، أو مرضٍ لا يُرجى برؤه) قال في المنتهى: ولو
رُجِيَ برؤه (3): (أطعمَ ستينَ مسكيناً لكل مسكينٍ مُدُّ بُرٍّ أو نصفُ
صاعٍ من غيرِه).
__________
(1) (ب، ص): "ويلزمه تعيينٌ من جهة الكفارة" بسقوط النية والتصويب من (ف).
(2) أي لا بوطئه أمرأة أخرى في حال عذر من الأعذار الثلاثة المذكورة.
(3) أي فعند صاحب المنتهى يجوز أن ينتقل عن الصيام إلى الإطعام إن كان في
حال مرض ولو كان يرجى برؤه، اعتباراً بوقت الوجوب.
(2/262)
ويشترط في المسكين الذي يجزئ إطعامه: كونه
مسلماً حرًّا، ولو أنثى، ولا يضرّ وطءُ مظاهَرٍ منها أثناء الطعام.
ويجزئ دفعها إلى صغيرٍ من أهلِها ولو لم يأكِل الطعام.
(ولا يجزئ خبز) لأنه خَرَج عن حالةِ المكيال والادّخارِ، فأشبه الهريسة.
(ولا) يجزئ في الكفارةِ (غير ما يجزئ في الفُطرةِ) ولو كان ذلك قوتَ
بَلَدِهِ.
ولا يجزئ في الكفارة أن يغدِّيَ المساكِينَ أو يعشِّيَهم (1)، بخلاف نَذْر
إطعامهم.
ولا تجزئ القيمة.
(ولا يجزئ العتقُ ولا الصوم ولا الإِطعام إلا بالنيّة)، وهو أن ينوي ذلك من
جهة الكفارة.
__________
(1) وفي رواية أخرى عن أحمد يجزئه أذا أطعمهم القدر الواجب لهم، وهو قول
النخعي وأبي حنيفة (مغني 7/ 372) وأطعم أنس بعدما كبر عاماً أو عامين فأطعم
ثلاثين مسكيناً وأشبعهم خبزاً ولحماً وأفطر. (القرطبي في تفسير سورة البقرة
عند قوله تعالى {فدية طعام مسكين}.
(2/263)
|