نَيْلُ
المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب كتَاب اللعَان
واشتقاقه من اللّعْنِ، لأن كلاً من الزوجين يلعن نفسه في الخامسة.
وهو شرعاً شهاداتٌ مؤكِّداتٌ بأيمانٍ من الجانبين، مقرونةٌ بلعْنٍ أو غضبٍ،
قائمةٌ مقامَ حدّ قذفٍ أو تعزيرٍ في جانِبِه، وقائمةٌ مقامَ حبسٍ في
جانبها.
(إذا رمى الرجلُ زوجتَهُ بالزنا) في قُبُلٍ أو دُبُرٍ (فعليه حد القذف) إن
كانت محصنة، (أو التعزيرُ) إن كانتْ غير محصنة. ويأتي تعريفُ الإِحصان في
القذف. (إلا أن يقيمَ البيّنةَ) عليها بما قاله، (أو يلاعن).
وصفةُ اللعانِ أن يقول الزوج، أربع مرات) أولاً: ("أشهد بالله أني لمن
الصادقين فيما رميتُها به من الزنا". ويشيرُ إليها.) ولا حاجةَ لأنْ تسمَّى
أو تُنْسَبَ إلا مع غيبتها. (ثم يزيد في الخامسة: وإن لعنةَ اللهِ عليهِ إن
كان من الكاذبين).
ولا يُشترط على الأصحّ أن يقول: "فيما رماها به من الزنا" قاله في شرح
المنتهى. قال ابن هبيرة: لا أراه يُحتاجُ إليه، لأن الله تعالى أنزل ذلك
وبيّنَهُ، ولم يذكر هذا الاشتراط.
(ثم تقول الزوجةُ أربعاً "أشهدُ بالله أنه لمن الكاذبين فيما رماني به
(2/264)
من الزنا") وتشيرُ إليه إن كان حاضراً
بالمجلس، وإن كان غائباً عنه سَمَّتْهُ، ونسَبته. وتكرِّر ذلك. (ثم تزيد في
الخامسة "وأنّ غَضَبَ اللهِ عليها إن كان من الصادقين") ولا يشترط على
الأصحّ أن تقول: "فيما رماني به من الزنا".
فإن نَقَصَ لفظٌ مما ذُكِرَ ولو آتياً بالأكثر، وحَكَم حاكِمٌ بِهِ، أو
بدأتْ به، أو قدّمت الغضَب، أو بَدَّلتْهُ باللعْنَةِ، أو السَّخَط، أو قدم
اللعْنَةِ، أو أبدلها بالغَضَب، أو الإبعاد، أو أبدل لفظ "أشهد" بأقسِم، أو
أحلِف، أو أتى به قبل إلَقائه عليه، أو بلا حضورِ حاكم أو نائبه، أو بغير
العربية ممن يحسِنها -ولا يلزمه تعلُّمها إن عجز عنه بها- أو علّق اللعانَ
بشرطٍ، أو عدمت موالاةُ الكلمات، لم يصحَّ، لأنه مخالف للنصّ.
(وسن تلاعنهما قياماً) لأنَ في حديث ابن عباس، في خبر هلالٍ "أن هلالاً
جاءَ فشهد، ثم قامت فشهدت" (1) وهذا يدل على أنهما تلاعَنا قياماً.
(بحضرةِ جماعةٍ، و) يسنّ (أن لا ينقصوا عن أربعةٍ) من الرجال، لأن الزوجةَ
ربما تصدِّق على الزنا، فيشهدون على إقرارها عند الحاكم. ويسن أن يكون
اللعان في الأوقاتِ والأماكنِ المعظَّمة، ففي مكَّةَ: بينَ الرُّكنِ
والمقام، وفي المدينة عند منبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي بيت
المقدس: عند الصَّخْرة (2)، وفي سائر البلدان: عند منابر جوامعها.
وتقف الحائضُ عند باب المسجدِ.
__________
(1) حديث ابن عباسٍ في شأن هلالِ بن أمية وقذفِهِ امرأته بشريكِ بن سحماء،
رواه الجماعة إلا مسلماً (شرح المنتهى).
(2) هذا ينبني أنه ثبت في الصخرة فضل أخصّ من فضل المسجد الأقصى، فلينظر.
ثم وجدت الحديث "العجوة والصخرة والشجرة من الجنة" رواه أحمد وابن ماجه
والحاكم من حديث رافع بن عمرو المزني مرفوعاً. وهو ضعيف كما في (ضعيف
الجامع الصغير).
(2/265)
وفي الزمان بعد العصر.
(و) يسن (أن يأمرَ الحاكم من) أي رجلاً (يضعُ يده على فمِ الزوجِ، و)
امرأةً تضع يدها على فمِ (الزوجةِ، عند الخامسة. ويقول: "اتَّقِ اللهَ
فإنها الموجبة. وعذابُ الدنيا أَهوَنُ من عذاب الآخِرة") أما كونُ الخامسة
هي الموجبة، فإنه إذا كان كاذباً وجبتْ عَليه اللعْنَةُ لالتزامه إياها في
الخامسة. وإن كانت كاذبة وُجبَ عليها الغضبُ بالتزامها إياه في الخامسة.
فينبغي التخويفُ عندها، والإِعلام أنّ عذابَ الدنيا أهون من عذاب الآخرة،
لأن عذاب الدنيا منقطع، وعذابَ الآخرة دائم، ليتوب الكاذبُ منهما، ويرتدعَ
عما عَزَم عليه.
ويبعَثُ الحاكِمُ إلى خَفِرَةٍ (1) من يلاعِنُ بينهما.
فصل
(وشروط اللعان ثلاثة):
الأول: (كونه بين زوجين) ولو قَبْل الدخول (مكلَّفينِ) ولو قِنّين أو
فاسقين أو ذمّيين أو أحَدُهما.
(الثاني: أن يتقدّمه) أي اللعان (قذفها بالزنا) ولو في دُبُرٍ، كقوله:
زنيتِ، أو: يا زانية، أو: رأيتك تزنين. وإن قال وُطِئْتِ مُكْرَهَةً، أو
نائمة، أو بشبهة، فلا لعان.
(الثالث: أن تكذّبه) الزوجةُ في قذفِهِ إياها (2) (ويستمرَّ تكذيبُها إلى
__________
(1) الخَفِرة المرأة التي لا تخرج مَن بيتها لحوائجها. من الخفر وهو
الحياء. وخلافها البَرْزة (عبد الغني).
(2) فإن صدقته مرة أو مرتين أو ثلاثاً، فالمذهب أنه لا لعان، والولدُ لاحقٌ
به. ولا حدّ عليها، لأن الحدّ يشترط له الإِقرار أربع مرات.
(2/266)
انقضاء اللعان،) لأنها إذا لم تكذبْهُ لا
تلاعِنُه. والملاعَنَةُ إنما تنتظم من الزوجين.
(ويثبت بتمام تلاعنِهِمَا أربعة أحكام):
الحكم (الأولَ: سقوط الحدّ) عنه إن كانت الزوجةُ محصَنَةٌ، (أو التعزيرُ)
إن كانت غير محصنة.
الحكم (الثاني: الفرقةُ) بين المتلاعنين، (ولو بلا فعلِ الحاكِم) يعني ولو
لم يفرّق الحاكمُ بينهما، على الأصح.
الحكم (الثالث: التحريمُ المؤيَّد) ولو أكْذَبَ نفسه، أو كانت أمةً
فاشتراها بعد.
الحكم (الرابع: انتفاء الولد) عن الملاعِنِ.
(ويعتبر لنفيه) أي الولد (ذكرُهُ صريحاً) في اللعان (كأشهد بالله لقد
زَنَتْ وما هذا ولدي) وتقول هي: "أشهد بالله لقد كذب، وهذا الولد ولده."
فصل (فيما يلحق من النسب)
(إذا أتت زوجةُ الرجلِ بولدٍ بعد نصفِ سنةٍ منذ أمكن اجتماعه بها، ولو مِع
غيبته فوق أربعِ سنين) قال في الفروع، ولو مع غيبتِهِ عشرينَ سَنَةً. قال
في المغني في مسألة القافة (1). وعليه نصوص الإِمام أحمد. ولعل المراد:
ويخفى سيرُه، وإلا فالخلافُ، على ما يأتي. انتهى.
__________
(1) انظر المغني 5/ 698
(2/267)
ولا ينقطع الإمكان عن الاجتماع بحيض، (حتى
ولو كان) الزوجُ (ابن عشر) سنينَ (لحقه نسبه) على الأصحّ، لقول النبى - صلى
الله عليه وسلم -: "الوَلَدُ للفِرَاشِ" (1) ولأن مع ذلك يمكنُ كونُه منه.
وقدرناه بعشر سنين فما زادَ لقول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -:
"واضرِبوهُمْ عليها لِعشْرٍ وفَرِّقوا بَيْنَهُم في المضاجِع" (2) ولأن
تمام عشر سنينَ زمنٌ يمكنُ فيه البلوغُ، فيلحق فيه الولدُ، كالبالغ. وقد
روي أن عمرو بن العاص، وابنه، لم يكن بينهما إلا اثنا عشر (3) عاماً. وأمرُ
النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالتفريق بينهم في المضاجع دليل على إمكان
الوطء الذي هو سبب الولادة.
(ومع هذا) أي مع لحوق النسب به (لا يُحْكَمُ ببلوغه) لأن الحكم ببلوغِهِ
يستدعي يقيناً، لترتُّب الأحكام عليه، من التكاليف، ووجوب الغرامات، فلا
يحكم به معَ الشك. وإنما ألحقنا الولدَ بهِ حِفظاً للنسبِ واحتياطاً.
(ولا يلزمه) أي بإلحاقنا به النسبَ (كلُّ المهر) لأن الأصلَ براءَةُ
__________
(1) حديث "الولد للفراش ... " رواه أحمد والشيخان وأبو داود والنَّسائي
وابن ماجه. وتمامه عندهم "عن عائشة رضي الله عنها قالت: اختصم سعد بن أبي
وقّاص وعبد بن زمعة في غلام. فقال سعد: يا رسول الله! هذا ابن أخي عتبة بن
أبي وقّاص، عَهِد أليّ أنه ابنه، انظر إلى شَبَههِ. وقال عَبْدُ بن
زَمْعَة: هذا أخي يا رسول الله، وُلِدَ علىَ فراش أبي من وَلِيدتِهِ. فنظرَ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى شَبَهاً بيِّناً بعتبَة. فقال: هُوَ
لكَ يا عبدُ بن زمَعة. الولد للفراش وللعاهر الحَجر. واحتجبي منه يا
سَوْدة. فلَمْ يرَ سودة قطّ.".
(2) حديث "مروا أولادكم بالصلاة، وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم
أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع، رواه أبو داود والحاكم من حديث عمرو
بن شعيب عن أبيهِ عن جده مرفوعاً (المقاصد الحسنة) وفي (الإرواء ح 2109):
وهو صحيح.
(3) مفهومه أنها إن أتت بولد لأربع سنين فأقل منذ أبانهَا، أنه يلحقه، وهذا
مقيّد بكونها لم يثبت أنها أتمت عدتها بالحيض. فإن كانت أقرّتْ بانتهاء
عدتها بالأقراء لم يلحقه ولدها (المغني 7/ 479) قلت: ومن هنا ينبغي
للمطلِّق أن يطلب الإِشهاد على مطلّقته بإقرارها بانقضاء عدتها بالأقراء
قبل خروجها من بيته، عملاً بقول الله تعالى {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا
ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} وإن هذا تأويلها وإن كان الناس عنها غافلين.
(2/268)
ذمَّتِهِ، فلا يثبت عليه بدون ثبوت سببه
الموجب له.
(ولا تثبت به عِدَّةٌ ولا رجعة) لأن السببَّ الموجِبَ لهما غير ثابتٍ، فلا
يثبتانِ بدون ثبوت سَبَبِهما.
(وإن) لم يمكن كونه من الزوجِ، مثل لو (أتَتْ به لدون نصفِ سنةٍ منذ
تزوَّجها) وعاش، أو أتت به لأكثر من أربعِ سنينَ منذ أبانَها، أو فارقها
حاملاً، فوضعتْ، ثم وضعتْ آخرَ بعد نصف سنة، (أو عُلم أنَّه لم يجتمع بها)
زَمَنَ الزوجية، (كما لو تزوّجها بحضْرَةِ جماعةٍ) ولا فرْقَ بين أن يكون
مع الجماعة حاكمٌ أوْ لا، (ثم أبانَها في المجلِسِ، أو ماتَ) الزوجُ
بالمجلِسِ أو كانَ بين الزوجَيْنِ وقت عقدٍ مسافةٌ لا يقطعها في المدة التي
وَلَدَتْ فيها، كمشرقيٍّ تزوج بمغربيةٍ، ثم مضتْ ستة أشهرٍ، وأتتْ بولد، لم
يلحقه نسبه، لأن الولد إنما يلحقه بالعقْدِ ومدة الحمل، أو كان الزوج لم
يكملْ له عشرٌ من السنين، أو قُطِعَ ذَكَرُهُ مع أنثييه، (لم يلحقه) أي لم
يلحق الولدُ الزوجَ في هذه المسائل كلِّها.
فصل [فى ما يلحق به نسب ولد الأمة]
(ومَن ثبت) أنه وطئَ أمته في الفرج أو دونَه (أو أقرّ أنه وطئ أمته في
الفرج أو دونه، ثم ولدتْ لنصفِ سنةٍ) فأكثر (لحقه) نسب ما ولدته، لأن
أمَتَهُ بوطئِهِ صارتْ فراشاً له، فإذا أتت بولدٍ لمدةِ الحملِ من يوم
الوطءِ لحقهُ نسبُهُ، ولو قال: عزلتُ، أو قال: لم أُنْزِلْ، لا إن ادّعى
استبراءً بعد الوطءِ بحيضةٍ ويحلفَ على الاستبراءِ، ثم تلدُ لنصفِ سنةٍ
بعده.
(ومن أعتقَ) أمةً أقرَّ بوطئِها (أو باعَ من أقرّ بوطئها، فولدت لدون
(2/269)
نصف سنةٍ) من حينِ عتقها، أو لدون نصف سنةٍ
من حين بيعها، (لحقه) أي لحق المعتقَ أو البائعَ ما ولدتهُ، لأن أقلّ الحمل
ستةُ أشهرٍ فإذا أتت به لدونها وعاش علم أن حملها كان من قبل عتقِها وقبل
بيعها حين كانت فراشاً له، (والبيعُ باطِلٌ) لأنَّها صارتْ أم ولدٍ له، حتى
ولو كان استبرأها قبل أن يبيعَها.
(و) إن أتتْ به (لنصفِ سنةٍ، فأكثر، لحق) الولدُ المشتري.
(ويتبعُ الولد أباه في النَّسَب) إجماعاً، قال في شرح المنتهى: ما لم ينتفِ
عنه، كابن ملاعنةٍ، فولدُ قرشيٍّ من غير قرشية قرشيّ، بخلاف ولد قرشيَّة من
غير قرشيّ، فإنه لا يكون قرشيًّا.
(و) يتبعُ الولد (أمه في الحريّة، وكذا) يتبع الولد أمّه (في الرّقّ، إلا
مع شرطٍ) بأن يشترط زوجُ الأمة على سيدها عند تزويجها أنّ ما تأتي منه
بولدٍ يكون حراً (أو) مع (غرورٍ) بأن يتزوّج امرأة على أنها حرَّةٌ فتبينُ
أمةً، فإن ولدها في الصورتين يكون حراً.
(ويتبع) الولد (في الدينِ خَيَرهُما) أي خيرَ أبوْيهِ ديناً، فلو تزوّج
مسلمٌ حرة ًكتابيةً، أو تسرّى مسلم بأمة كتابية، فما تلده منه يكون مسلماً.
وإذا تزوّج كتابيٌّ بحرةٍ مجوسيةٍ، أو تسرّى بأمةٍ مجوسيَّةٍ، فما تلده منه
يكون كتابيًّا.
(و) يتبع الولدُ (في النجاسَةِ، وتحريمِ النكاح، والذكاةِ، والأكلِ
أخبثهما) أي أخبث الأَبَوَيْنِ، فالبغلُ نَجِسٌ محرَّم الأكلِ، لتبعيته
لأخبث أبويه، وهو الحمارُ الذي هو نجس محرم الأكل، دون أطيبهمَا الذي هو
الفرس الطاهر المباح الأكل.
(2/270)
|