نَيْلُ
المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب كتَاب الرّضَاع
وهو شرعاً: مصُّ لبنٍ أو شُرْبُه ونحوُه، ثابَ من حَمْلٍ، من ثَدْي امرأة.
و (يكره استرضاع (1) الفاجرة، والكافرة،) والذّمّية، والمشركة، والحمقاء،
(وسيّئة الخلق)، فإنها في معنى الحمقاء، (والجذماء، والبرصاء) خشيةَ وصولِ
أثر ذلك إلى الرضيع. وفي المجرّد (2): والبهيمة، لأنه قد يكون في بلد
البهيمة (3). وفي الترغيب: وعمياء، فإنه يقال: الرِّضاعُ يغيّر الطباع،
لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تَزَوَّجُوا الحَمْقَاءَ، فإن
صحبتها بلاء، وفي وَلَدِهَا ضَيَاع، ولا تستَرْضِعُوها فإن لبنَها يغيّر
الطباع" (4).
(وإذا أرضعتِ المرأةُ) ولو مكرهةً على الإِرضاع (طفلاً) ذَكَراً كان
__________
(1) (ف): "ارتضاع".
(2) "المُجَرَّد" كذا في الأصول كلها. وهو كتاب في الفروع للقاضي أبي يعلى،
والذي في شرح المنتهى "المحرر" وهو للمجد ابن تيميّة.
(3) أي فإنه رُبّما عُيِّر بها عند الخصام، فيقال: "هذا ابن فلانة" وهذا
الحكم لم يرد في المغني، وفيه نظر، إذ ليس هناك من حرج في شرب لبن بهيمة
الأنعام، وقد أحله الله في كتابه، وامتنّ به على عباده.
(4) حديث "لا تَزَوَّجوا الحمقاء ... الخ" لم نجده بعد البحث.
(2/283)
أو أنثى أو خنثى (بلبنِ حملٍ لاحقٍ
بالواطئ) يعني يلحق الواطئَ نسبُ ذلك الحملِ (صَارَ ذلكَ الطفلُ
وَلَدَهُما) (1) أي ولد المرضعة، وولد صاحب اللبن، (و) صار (أولادُهُ) أي
أولادُ الطفل (وإن سفلوا أولادَ ولدهما، و) صار (أولادُ كلٍّ منهما) أي من
المرأة، ومن الواطئ الذي ثاب لبنها من حمله، (من الآخر أو) من (غيره،) كما
لو تزوّجت من غيرِهِ فثابَ لها لبن من حملٍ ممنْ تزوجت (2)، أو تزوّج
بامرأةٍ غيرِها فثابَ لَهَا لبن من حملٍ منه، فأرضعتا به أطفالاً، أو أتت
بأولادٍ، فإن الذكور منهم يصيرون (إخوته، و) البناتِ (أخواتِهِ. وقس على
ذلك) فتقول: ويصير آباؤهما أجدادَهُ وجَدَّاتِهِ، وإخوتُهما وأَخَواتُهُمَا
أعمامَه وعماتِهِ، وأخوالَهُ وخالاتِهِ.
تنبيه: لا تنتشر حرمة الرضاع إلى من بدرجة مرتضعٍ أو فوقَه، من أخٍ وأختٍ،
وأبٍ وأمٍ، وعمٍّ وعمةٍ، وخال وخالة، من نسب. فتحلّ مرضعةٌ لأبي مرتضعٍ
وأخيهِ من نسب (3)، وتحلُّ أم المرتضع وأخته من نسب لأبيه وأخيه من رضاع،
كما يحل لأخيه من أبيهِ أخته من أمِّهِ (4).
(وتحريمُ الرضاع في النكاح وثبوت المحرمية كالنسبِ.)
وللحرمة بالرَّضاع شرطان:
__________
(1) الأجود أن يقول "ابنهما" بدل "ولدهما" فإن "الولد" لا يكون إلا من
"الولادة" أما "الابن" فيكون من "الرضاعة" كما يكون من الولادة. وهكذا نقول
فيما يشبه هذا من التعبيرات الآتية في هذا المبحث. وكان على الشارح أن ينبه
إلى ذلك.
(2) في (ف): "ممن تزوجته".
(3) في (ب، ص) -هنا زيادة "وتحل أم المرتضع لأبي مرتضع وأخيه من نسب"
فحذفناها تبعاً لِـ (ف) ولأنها لا تتضمن حكماً جديداً يتعلق بالرضاع، فهي
أم من النسب، والأب والأخ من النسب كذلك.
(4) أي أن ذلك مُتَصَوَّرٌ في النسب أيضاً، فلو أن رجلاً تزوّج امرأة،
وللمرأة ابن اسمه زيد، وللرجل بنت اسمها فاطمة، فزوّجا أحدهما من الآخر
جاز، ثم إن ولد للأبوين ولد، كان هذا الولد أخاً لزيد من أمه وأخاً لفاطمة
من أبيها.
(2/284)
أشار للأول منهما بقوله. (بشرط أن يرتضع
خمسَ رضعاتٍ) فصاعداً. وعنه: ثلاث يحرِّمن. وعنه: واحدة.
وأشار للثاني بقوله: (في العامين) فلو ارتضع بعدهما بلحظةٍ لم تثبت الحرمة،
لقول الله تعالى: {وَالوَالِداتُ يُرْضِعْنَ أوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ
كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} فجعل تمامَ الرضاعِ
حولين. فيدل على أنه لا حُكْمَ للرضاعةِ بعدهما.
(فلو ارتضعَ) في الحولين أقلَّ من خمسِ رَضَعاتٍ، ثم ارتضع (بقيةَ الخمسِ
بعد العامينِ بلحظةٍ،) ولو قبل فطامِهِ، (لم تثبت الحرمة،) لأن شرط التحريم
أن يكون في الحولين، ولم يوجد.
وعُلِمَ منه أنه لو شَرَعَ في الخامسةِ، فحال الحولِ، قبل كمالها، اكتُفِي
بما وُجِد منها في الحولين.
وأمَّا حديث عائشة رضي الله عنها وعن أبيها "أنَّ سَهْلَةَ بنتَ سُهيلٍ بن
عمرو جاءت إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله! إن
سالماً مولى أبي حذيفةَ مضى في بيتِنا، وقَدْ بَلَغَ ما يبلغ الرجال،
وعَلِمَ ما يعلمُ الرحال؟ فقال: أَرْضِعِيهِ تَحْرُمي عليه" رواه مسلم، فهو
خاصٌّ به دون سائر الناس (1)، جمعاً بين الأدلة.
(ومتى امتصَّ) الطفلُ (الثديَ، ثم قَطَعه) أي قطع المصّ، (ولو) كان قطْعُهُ
له (قهراً) أو كان قطعُهُ له لتنفُّسٍ، أو لملةٍ له عن المصّ، أو لانتقالٍ
عن ثدي إلى ثدي آخر (ثم امتصّ) الثديَ (ثانياً، فرضعةٌ ثانية) لأن المصَّةَ
الأولى زالَ حكْمُها بتركِ الارتضاع، فإذا عادَ فامتصّ، فهي غير الأولى.
وانتقالٌ من ثدي إلى آخر يصيّرهما رضعتين. وهذا ظاهر
__________
(1) واختار ابن تيمية رأياً خلاف هذا فيه فسحة، فقال "رضاع الكبير تنتشر به
الحرمة بحيث [يبيح] الدخول والخلوة، إذا كان قد تربَّى في البيت، بحيث لا
يحتشمون منه، للحاجة: لقصة سالم مولى أبي حذيفة" (الاختيارات الفقهية ص
283)
(2/285)
كلام أحمد رضي الله تعالى عنه (1)، في
روايةِ حنبل، فإنه قال: أما تَرَى الصبيّ يَرْضَعُ من الثدي، فإذا أدرَكَهُ
النَّفَسُ أمْسَكَ عن الثدي لتنفُّسٍ واستراحةٍ (2)، فإذا فعل ذلك فهي
رضعة.
(والسُّعوط في الأنف، والوجُورُ في الفم، كالرّضاع) لأنه يحصُل به ما يحصُل
بالرّضاع من الغذاء.
والسعوط أن يُصَبَّ اللَّبن في أنفه من إناء أو غيره، فيدخل حلقَه.
والوجور أن يصبّ لبن المرأة في حلقه من غير الثدي.
(وأكْلُ ما جُبِّنَ) يعني أنه لو جُبِّنَ لَبَنُ المرأة، ثم أُطِعم الطفلَ
ثبت به التحريم، لأنه واصِلٌ من الحلق يحصل به إنبات اللحم (3) وإنشاز
العظم، فيحصل به التحريم، كما لو شربه. (أو خُلِطَ بالماء وصفاته باقية)
حرَّم كما يحرِّم غير المَشُوب، لأن الحكم للأغلب، ولأنه مع بقاء صفاته لا
يزولُ به اسمه، ولا المعنى المرادُ به. فأما إن غَلَبَ ما خُلِطَ به لم
يثبت به تحريم، لأنه لا يحصل به إنبات اللحم ولا إنشاز العظم.
وحكم ما حُلِبَ من ميتةٍ (كالرّضاع في الحرمة.)
فإن وصل اللبنُ إلى فمه، ثم ألقاه، أو احتقن به، أو وصل إلى جوفٍ لا يغذَّى
به كالذَّكَر والمثانة لم ينشر الحرمة، لأنه ليس برضاع.
(وإن شُكَّ) بالبناء للمفعول (في الرضاع) يعني: هل وجد رضاعٌ أوْ لا؟ بني
على اليقين، لأن الأصل عدم الرضاع؛ (أو) شُكَّ في (عدد الرضعات بني على
اليقين) لأن الأصلَ عدمُ الرّضاعِ في المسألة
__________
(1) وفي وجه آخر: يكون رضعة واحدة ما لم يقطع قطعاً بيناً باختياره (المغني
7/ 537).
(2) كذا في (ب، ص). وفي (ف): "للتنفس ويستريح" وفي المغنى 537/ 7: "ليتنفس
أو يستريح".
(3) كذا في (ف) والمغني. وفي (ب، ص): "لأنه إن وصل الجوف يحصل به إنبات
اللحم ... الخ ".
(2/286)
الأولى. والأصل عدم وجود الرضاع المحرِّم
في المسألة الثانية. لكنْ تكونُ من الشُّبُهات: تركُها أولى، قاله الشيخ.
(وإن شهدتْ به) أي بالرضاع المحرِّم امرأة (مَرْضِية ثبتَ التحريم)
بشهادتها. ولا يمينَ على المشهود له، ولا على الشاهدة. قال الزهري: فُرِّقَ
بين أهل أبياتٍ (1) في زمن عثمان بشهادة امرأة واحدة. لأن هذه شهادة على
عورة (2)، فتُقْبَلُ شهادة النّساء منفردات عن الرجال، كالولادة. ويؤيده ما
رواه محمد بن عبد الرحمن البيلماني عن أبيه (3). عن ابن عمر، قال: "سُئِل
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما يجوزُ في الرضاعِ من الشهود؟ فقال:
رجلٌ، وامرأة" (4) رواه أحمد.
(ومن حرمت عليهِ بنتُ امرأةٍ) من النسب (كأمّه وجدّته وأختِه) وكذا من حرمت
عليه بنت امرأةٍ بالمصاهرة، مثلَ ربيبته التي دخل بأمها (إذا أرضعتْ (5)
طفلةً) خمسَ رضعاتٍ (حرّمتْها عليه أبداً) لأنها تصير بنتَها.
(ومن حرُمَتْ عليه بنتُ رجلٍ، كأبيه وجدّه وأخيهِ وابنهِ، إذا أرضعتْ
زوجتُهُ) أو أمتُهُ (بلبنِهِ طفلةً) خمسَ رضعاتٍ (حرّمتها عليه أبداً)
لأنها صارت ابنةَ من تحرُم ابنتُه عليه.
وينفسخ فيهما النكاح إن كانت المرتَضِعَةُ زوجةً.
__________
(1) لعل المراد: أنهم كانوا أكثر من أسرة واحدة، وإلا لقال: "أهل بيت". فقد
قال الأوزاعي: فرّق عثمان بين أربعة وبين نسائهم بشهادة امرأة في الرضاع.
(2) أي الثدي -وهو يبدو عادة عند الإِرضاع- هو عورة بالنسبة إلى غير
المحارم والنساء.
(3) ب، ص، ف: محمد بن عبد الرحمن السلماني عن أمه، والتصويب من المسند.
(4) حديث ابن عمر في شهادة الرجل، وشهادة المرأة الواحدة على الرضاع: رواه
أحمد وانفرد به. وقال أحمد محمد شاكر: هو ضعيف. وإنما ضعّفه لأن فيه
مجهولاً، وفيه محمد بن البيلماني وهو ضعيف جداً، أو وضّاع منكر الحديث، عن
أبيه وهو ضعيف (المسند بتحقيقه 7/ 70).
(5) أي إذا أرضعت المرأةُ، وليس المقصود: إذا أرضعت بنتُها ..
(2/287)
تنبيه: إن قال زوجٌ عن زوجتِهِ: هي ابنتي
من الرضاع، وهي في سنٍّ لا يُحْتَمَل كونُها ابنتَه، لم تحرُمْ لتيقن كذبه.
وإن احتمَلَ صدقَه فكما لو قال: هي أختي من الرضاع.
ولو ادعى بعد ذلك خطأً لم يقبل منه ما يدّعيه من ذلك.
(2/288)
|