نَيْلُ المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب

كتَاب النفَقَات
جمع نفقة. وأصلها الإخراج، من "النافِقِ" (1) وهو موضعٌ يجعله اليربوعُ في مؤخر الجحر رقيقاً، يُعِدُّه للخُروجِ، إذا أُتيَ من باب الجحر دفعه برأسِهِ وخرج منه. ومنه يسمى "النفاق" لأنه خروج من الإيمان، أو خروج الإيمان من القلب (2). فسمى الخروج نفقة كذلك.
والمقصود من هذا الكتاب بيان ما يجب على الإنسان من النفقة، في النكاح، والقرابة، والملك، وغير ذلك.

[نفقة الزوجة]
(يجب على الزوج ما لا غنى لزوجته عنه) أجمع المسلمونَ على وجوب نفقةِ الزوجةِ على الزوج، إذا كانا بالغين، ولم تكن ناشزاً. ذكره ابن المنذر وغيره، لأن الزوجة محبوسةٌ لحقّ الزوج، وذلك لمنعها من التصرُّف والكسب، فوجب عليه نفقتها، كالقنّ.
إذا تقرّرَ وجوب نفقة الزوجة على الزوج، فإنها تجب عليه ولو
__________
(1) كذا في الأصول كلها. وصوابه "النَّافِقَاء" كما في شرح المنتهى. ولم يذكر القاموسُ واللسان "النافق".
(2) في اللسان "الدخول في الإسلام من وجه والخروج عنه من وجه آخر" فهو ليس بمعنى مطلق الخروج كما يفهم من كلام الشارح، وليس بمعنى خروج الإسلام من القلب.

(2/289)


كانت الزوجة معتدةً من وطءٍ شبهةٍ غير مطاوعة للواطئ (1).
وقوله: ما لا غنى لزوجته عنه، يعني (من مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ ومسكنٍ بالمعروف) لقوله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر: "ولهنَّ عليكُمْ رِزْقُهُنَّ وكِسْوتهنَّ بالمعروف" (2).
(ويعتبرُ الحاكم) تقديرَ (ذلكَ إن تنازعا) أي الزوج الزوجة، في قدر ذلك، أو صفته. (بحالهما) أي حال الزوجين في يَسارِهما، وإعسارهما، ويسار أحدِهما وإعسار الآخر. وكان النظر يقتضي أن يُعْتَبَر ذلك بحال الزوجةِ دون الزوج، لأن النفقة والكسوة لها، بحق الزوجيّة، فكانت معتبرة بها، كمهرها. لكنْ قال الله سبحانه وتعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} فأمَرَ الموسرَ بالسعة في النفقة، ورَدّ الفقير إلى استطاعته. فلذلك اعتبرنا حال الزوجين في قدْرِ الواجب، وجنسه، رعايةً لكلا الجانبين، وأما كون ذلك موكولاً إلى اجتهاد الحاكم فلأنه أمرٌ يَختلِف باختلافِ حال الزوجين، فرُجِعَ فيه إلى اجتهاد الحاكم، كسائر المختلفات.
فيفْرِضُ للموسرةِ مع موسرٍ كفايَتها خبزاً خالصاً بأدمِهِ المعتادِ لمثلِها في تلك البلدة. ويفرِض لها أيضاً لحماً عادةَ الموسرين ببلدة الزوج والزوجة التي هما بها. وتنقل زوجة متبرِّمَةٌ من أدم إلى غيره من الأدم.
ولا بد للزوجة من ماعونِ الدار. ويكتفى منه بخزفٍ وخشب. والعدْلُ ما يليق بها، وما يلبس مثلها من حريرٍ وخزٍّ وجيِّدِ كَتَّانٍ وجيّد قطنٍ على ما جرت به عادة مثلها من الموسرات في ذلك البلد. وأقلُّ ما
__________
(1) أي لأن للزوج أن يستمتع منها بما يحل للصائم. فإن طاوعت عالمة فلا نفقة لها.
(2) حديث "اتقوا الله في النساء، فإنهنّ عَوَانٍ عندكم، أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله ولهنّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف" رواه مسلم وأبو داود. وهو قطعة من حديث جابر الطويل في وصف حجة الوداع.

(2/290)


يُفْرَض من الكسوةِ للجسَدِ قميصٌ وسراويلٌ وطَرْحَةٌ ومِقْنَعَةٌ ومَدَاسٌ. وللشتاء جُبّة. وللنومِ فراشٌ ولحاف ومِخَدَّة. وللجلوسِ بساطٌ ورفيع الحصير.
ولفقيرةٍ مع فقير كفايتُها خبزاً خُشْكاراً بأدمه، وزيتُ مصباح، ولحمٌ، العادة. ويفرض لها من الكسوة ما يلبس مثلها، وينام فيه، ويجلس عليه.
ويفرِض للمتوسطةِ مع متوسطٍ، وموسرةٍ مع فقير، وعكسِهما، ما بين ذلك.
(وعليه) أي على الزوج (مؤنة نظافتِها) أي نظافة الزوجة (من دُهنٍ وسِدْرٍ وثمن ماء الشرب والطَّهار من الحدث والخَبَثِ وغَسْل الثياب) وثمنُ المشط، وأجرة القَيِّمة. (1)
وعليه كنسُ الدار وتنظيفُها، لا دواءُ علَّةٍ، أو أجرةُ طبيبٍ، وثمنُ طيبٍ وحنّاءٍ وخضابٍ ونحوه.
وإن أراد منْهَا تزيُّنَها به، أو أراد، منها قطعَ رائحةٍ كريهة، وأتى بما يريد منها التزيّن به، أو بما يقطع الرائحة الكريهة، لزمها استعمالُه من أجله.
(وعليه) أي على الزوج (لها) أي لزوجته (خادمٌ إذا كانت ممن يُخْدَمُ) بالبناء للمفعول (مثلها) كالموسرة، والصغيرة.
(وتلزمه) لزوجته (مؤنسَةٌ لحاجةٍ) إلى ذلك، بأن كانت بمكان مخوفٍ أو لها عدوٌ تخافُ على نفسها منه، لأنه ليس من المعاشرةِ بالمعروف أن تُقِيمَ وَحْدَها بمكانٍ لا تأمن على نفسها فيه.
__________
(1) وعند أبي حنيفة: الاعتبار بحال الزوجة وحدها، لقوله تعالى {وعلى المولود له رزقهن وكسوتهنّ بالمعروف} وعند الشافعي: العبرة بحال الزوج وحده، لظاهر الآية التي ذكرها الشارح.

(2/291)


ولا يلزمه أجرة من يوضِّئُ زوجته مريضةً، بخلاف رقيقِهِ المريض الذي لا يمكنه الوضوء بنفسه.

فصل
(والواجب عليه) أي على الزوج (دفع الطعامِ) أي القوتِ من الخبز (1) والأدم ونحو ذلك إلى زوجته وخادِمِها (2) (في أول كل يوم) لأنه أول وقت الحاجة، فلا يجوز تأخيره عنه. ويجوز لهما فعلُ ما اتَّفقا عليه من تعجيلٍ أو تأخيرٍ عن وقت الوجوب.
(ويجوز دفع عِوَضه) أي الواجب (إن تراضَيَا) لأنّ الحق لا يعدُوهما.
ولا يجبر من أبى ذلك لأن الإنسان لا يُجْبَر على ما لم يجب عليه.
(ولا يملك الحاكم) إذا ترافع إليه الزوجان (إن يفرِض عِوَضَ القوت دراهمَ مثلاً إلا بتراضيهما) أي بتراضي الزوجينِ على فرضٍ، فلا يجبر من امتنع منهما. قال ابن القيم في الهدْي: وأما فَرْضُ الدراهم فلا أصلَ له في كتابٍ ولا سنةٍ، ولا نَصَّ عليه أحدٌ من الأئمة، لأنها معاوضة بغير الرضا عن غير مستقِرٍّ. وفي الفروع: وهذا متجه مع عدم الشقاق وعدم الحاجة، فأما مع الشقاقِ والحاجة، كالغائب مثلاً، فيتَوَجَّهُ الفرضُ للحاجة، على ما لا يخفى، فلا يقع الفرض بدون ذلك بغير الرضا.
ولا تعتاض عن الواجِب الماضي بربويٍّ، كما لو عوضها حنطةً عن الخبز، فإنه لا يصحّ، ولو ترَاضَيَا عليه.
__________
(1) في (ب، ص) "الخلّ" بدل "الخبز" والتصويب من (ف) وشرح المنتهى.
(2) وكذا كل من وجبت نفقته من قريب أو غيره.

(2/292)


(وفَرْضُه) أي الحاكم عِوَضَ القوتِ دراهمَ (ليس بلازمٍ).

[الكسوة]
(ويجب لها) أي للزوجة (الكُسْوة) والغطاءُ والوِطاءُ ونحوهما (في أوّل كلّ عامٍ). وقال الحلواني وابنه وابن حمدان: في أوّل الصيف كسوة، وفي أول الشتاء كسوة.
(وتملكها) أي الكسوة، وكذلك النفقة، (بالقبضِ،) كما يملِكُ ربُّ الدينِ الدينَ (1) بقبضِهِ. (فلا بَدَلَ) على الزوج (لما سُرِقَ) منها من ذلك (أو بَلِيَ) لأنها قبضَتْ حقها، فلم يلزمْ غيرُهُ، كالدين إذا أوفاها إياه، ثم ضاع منها.
وتملِكُ التصرّفَ فيما قبضتْهُ من الواجب لها على الزوج، من نفقة وكسوةٍ، على وجهٍ لا يضرُّ بها ولا يُنْهِكُ بَدَنَها، من بيعٍ وهبةٍ وغيرِ ذلك، كسائرِ ما لها. أما إذا عاد ذلك عليها بضررٍ في بدنِهَا، أو نقصٍ في الاستمتاع بها، فإنها لا تملِكُهُ، لتفويتِ حقّ زوجها بذلك.
(وإن انقضى العام والكسوةُ) التي قبضتها لذلك العامِ (باقيةٌ، فعليه كسوة للعام الجديدِ) لأن الاعتبار بمضيّ الزمان، دون حقيقة الحاجة، بدليل أْنهَا لو بليَتْ قبل ذلك لم يلزمْهُ بدلها.
ولو أُهدي إليها كسوةٌ لم تسقطْ كسوتُها.
وكذلك لو أُهدِيَ إليها طعامٌ، فأكلتْهُ، وبقي قوتُها إلى الغد، لم يسقط قوتُها فيه، بخلاف ماعونٍ ونحوه.
(وإن) قبضتْ كسوتَها من زوجها أوَّل كلِّ عامٍ ثم (ماتَ) الزوجُ قبل انقضاءِ العام، (أو ماتتِ) الزوجةُ قبل انقضاء العام، (أو بانت قبل
__________
(1) في (ب، ص): "الذي" بدل "الدين".

(2/293)


انقضائه، رَجَعَ عليها بقسطِ ما بقي) من العام، كما لو دفع إليها نفقةَ مدّةٍ مستقبَلَةٍ، ثم وقع شيء مما تقدم قبل مضيِّها.
(وإن أكلتْ معه) أي أكلت الزوجةُ مع الزوجِ (عادةً) أي كما هو العادةُ (أو كساها بلا إذن) منها، أو من وليّها الكسوةَ المقدّرة في الشرع (سقطتْ) عملاً بالعرف (1) ومتى ادّعتْ أنه تبرَّع بذلك حَلَف.
تنبيه: إذا غاب الزوجُ عن زوجته مدةً، ولم ينفِقْ عليها فيها، لزمه نفقةُ الزمن الماضي، ولو لم يفرضها حاكمٌ، على الأصح.

فصل [فيما تسقط به نفقة الزوجة]
1 - (والرجعية مطلقاً) أي سواء كانت حاملاً أوْ لا، (والبائنُ) الحاملُ بفسخٍ أو طلاقٍ، (والناشزُ الحامِلُ، والمتوفّى عنها زوجها) حال كونها (حاملاً) حكمُها (كالزوجةِ في النفقةِ والكسوةِ والمسكنِ).
(ولا شيء لغير الحامل منهن.)
قال في الإقناع: ولا نفقةَ من التركة لمتوفّى عنها زوجها، ولو حاملاً، ونفقة الحمل من نصيبه، ولا لأمِّ ولدٍ حاملٍ. وينفَقُ من مال حملِهَا نصًّا. ولا سكنى لهما، ولا كسوة انتهى.
وتسقط نفقةُ الحمل بمضيّ الزمان. المنقّح. ما لم تستدِنْ بإِذن حاكمٍ، أو تنفقْ بنيّةِ الرجوَع.
2 - ولا نفقةَ لناشزٍ، ولو كان نشوزُها بنكاح في عدَّةٍ. قال في المستوعب: وإذا تزوجت الرجعيَّةُ في عدتها فنكاحها باطل، ولا تصيرُ به
__________
(1) في (ف): "بالمعروف".

(2/294)


فراشاً للثاني. ولا تنقطع به عدة الأول. ولا سكنى لها ولا نفقة على الأول، لأنها ناشزٌ بتزوّجها. ذكره في الوجيز.
3 - (ولا) نفقة (لمن) أي زوجةٍ (سافرت لحاجتها) ولو بإذن الزوج، (أو) سافرتْ (لنزهةٍ) ولو بإذن الزوج، (أو) سافرتْ (لزيارةٍ، ولو) كان سفرها (بإذن الزوج) لأنها فوَّتتْ التمكينَ لحظ نفسها، وقضاءِ أربها، فأشبه ما لو استنظرتْه قبل الدخول مُدّةً فأنظَرَها، إلا أن يكون مسافراً معَهَا متمكّناً من الاستمتاع بها، فلا تسقط، لأنّها لم تفوّت التمكين، فأشبهتْ غير المسافرة.
وكذا تسقطُ نفقتُها إذا زَنتْ قبل أن يطأها زوجُها، فغُرِّبَتْ أو حُبسَتْ، ولو ظلماً، أو صامتْ لكفارةٍ، أو قضاءِ رمضانَ، ووقتُهُ متّسع أوَ صامَتْ، أو حجَّتْ نفلاً أو نذراً معيناً في وقتِهِ في الصومِ والحجّ بلا إذنه، ولو أنَّ نذرَهُما بإذنه، بخلاف من أحرمتْ بفريضةٍ أو مكتوبةٍ في وقتِها بسنّتها. قاله في المنتهى وشرحِهِ.

[الاختلاف في النفقة]
(وإن ادّعى نشوزَها) أي نشوزَ زوجتِهِ، وأنكرتْ، (أو) ادّعى (إنها أخذت نفقَتَها)، أو ادّعى الإنفاق عليها (وأنكرتْ، فـ) القول (قولها بيمينها) لأنّ الأصل عدمُ ذلك. واختار الشيخُ وابنُ القيّم في النفقة قولَ من يشهدُ له العُرْفُ، لأنه تعارضَ الأصلُ والظاهرُ، والغالبُ أنها تكون راضيةً. وإنما تطالبه عند الشقاق.
وإن ادعت الزوجةُ يسارَ الزوجِ ليفرِضَ لها الحاكم نفقةَ الموسرين، أو قالت: كنتَ موسراً فليزمك لما مضى نفقةُ الموسرين، فأنكر، فإن عُرِفَ له مالٌ فقولُها، وإلا فقولُه، لأنه منكِرٌ، والأصل عدمه.

(2/295)


[الإعسار بالنفقة]
(ومتى أعسر) الزوجُ (بنفقة المعسِر) بأن لم يجد القوتَ (أو كسوتهِ) أي كسوة المعسِرِ، أو أعسرَ ببعضِ نفقةِ المعسِرِ، أو ببعض كسوته، (أو) أعسر بـ (مسكنه، أو صار) الزوجُ (لا يجد النفقةَ) أي نفقةَ الزوجةِ (إلا يوماً دون يوم) فلها الفسخُ فوراً ومتراخياً، ولها المقامُ معه مع منعِهَا نفسَها عنه وبدونه. ولا يمنعها تكسُّباً، ولا يحبِسُها، ولها الفسخ بعده؛ (أو غاب الموسُر) يعني عن زوجته (وتعذّرت عليها النفقةُ) بأن لم يترك لها ما تنفقه على نفسها، ولم تقدرْ له على مالٍ، ولا أمكنها تحصيل نفقتها (بالاستدانة) عليه (و) لا (غيرها، فلها الفسخ فوراً متراخياً) قال في الإنصاف: هذا المذهب. جزم به في الوجيز والنظم ومنتخب الآدمي وتذكرة ابن عبدوس وغيرهم، وقدَّمه في المغني والشرح والفروع وغيرهم انتهى. وقال القاضي: لا تملك الفسخَ إلا إذا ثبت إعسارُه. جزم بما في المتن في الإقناع والمنتهى.
(ولا يصحّ) الفسخ في ذلك كله (بلا) حكمِ (حاكم. فيفسخُ بطلبها، أو تفسخُ بأمره) لأنه فسخٌ مختلَف فيه، فافتقر إلى حكم الحاكم، كالفسخ بالعنّة. وإنما لم يجب الحكم إلا بِطلبها لأنه لحقّها، فلم يجزْ من غير طلبها، كالفسخِ للعنة. فإذا فرق الحاكم بينهما فهو فسخٌ لا رجعةَ له فِيهِ، لأنها فرقةٌ لعجزه عن الواجب عليه، أشبهتْ فُرْقَةَ العنّة.
وللحاكم بيعُ عقارٍ وعرضٍ لغائبٍ تَرَك زوجته بلا نفقة ولا منفق، إن لم يجد غيرَهُ، وينفِقُ عليها يوماً بيوم. ولا يجوز أكثر. ثم إنْ بان ميّتاً قبل إنفاقه حَسَب عليها ما أنفقته بنفسها أو بأمرِ حاكمٍ.

[حكم من امتنع من الإنفاق أو قتر فيه]
(وإن امتنع الموسر من النفقة أو الكسوة) أو بعضهما (وقدرَتْ

(2/296)


على) أخذِ ذلك من (مالِهِ فلها الأخذ منه بلا إذنه، بقدر كفايتها وكفايةِ ولدها الصغير) لقوله - صلى الله عليه وسلم - لهند بنت عتبة حين قالتْ له:"إنَّ أبا سفيانَ رجلٌ شحيحٌ، وليس يعطيني من النفقةِ ما يكفيني وولدي قال: "خذي ما يكفيكِ، ووَلَدَكِ بالمعروف" (1) فهذا إذن لها منه - صلى الله عليه وسلم - في الأخذ من ماله بغير إذنه، وردٌّ لها إلى اجتهادها في قدر كفايتها وكفاية ولدها .. وهو متناوِلٌ لأخذِ تمام الكفاية. فإنَّ ظاهر الحديث دلَّ على أنه كان يعطيها بعض الكفاية ولا يتمُّها لها، فرخّص النبي - صلى الله عليه وسلم - في أخذِ تمام الكفاية بغير علمه؛ ولأن النفقة تتجدَّدُ بتجدُّدِ الزمان شيئاً فشيئاً، فتشقُّ المرافعة بها إلى الحاكم، والمطالبة بها في كل يوم، فلذلك رخّص لها في أخذها بغير إذن من هي عليه؛ ولأنه موضع حاجةٍ، فإن النفقة لا غناء عنها ولا قَوَامَ إلا بها، فإذا لم يدفعها الزوج ولم تأخذها أفضى ذلك إلى ضياعها وهلاكها، فرُخِّص لها في أخذ قدر نففتها ونفقة عائلتها دفعاً لحاجتها.
__________
(1) حديث صحيح رواه الشافعي والبخاري ومسلم وأبو داود وغيرهم عن عائشة ونصّه "أن هند بنتَ عتبة قالت: يا رسول الله إن أبا سفيان رجل شحيح وليس يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما أخذتُ منه وهو لا يعلم. فقال: خذي من ماله ما يكفيكِ وولدَك بالمعروف".

(2/297)


باب نفقة (الأقارب) (و) نفقة (الممَاليك) مِنَ الآدميّين وَالبهَائِم
قال ابن المنذر: أجمع أهلُ العلم على أن نفقة الوالدين الفقيرين، اللذين لا كسبَ لهما ولا مال، واجبة في مال الولد. وأجمعَ كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أن على المرءِ نفقةَ أولاده الأطفال الذين لا مال لهم.
و (يجب على القريب نفقةُ أقاربه وكسوتهم وسكناهم بالمعروف) لقوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} ثم قال: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} فأوجب على الأبِ نفقةَ الرَّضاعِ، ثم عَطَفَ الوارث عليه، فأوجب على الوارث مثل ما أوجب على الأب (1) (بثلاثة شروط):
(الأول: أن يكونوا) أي من تجب لهم النفقة (فقراءَ لا مال لهم ولا كسب،) لأن النفقة إنما تجب على سبيل المواساة، والغنيّ بملكه، والقادرُ على التكسب، مستغنٍ عن المواساةٍ.
__________
(1) هذا مذهب أحمد. ومذهب أبي حنيفة أن النفقة تجب على ذي الرحم المحرم. ومذهب مالك: لا تجب على أحد من جهة القرابة إلا الأبناء الصغار الفقراء والأبوين إذا كانا فقيرين لا يقدران على الاكتساب. فإذا بلغ الغلام صحيحاً ثم جنّ أو زَمِنَ لم تعد نفقته على أبيه. كذا في الكافي. ومذهب الشافعي أن النفقة للأقارب الفقراء من الأصول، والفروع لا غيرهم.

(2/298)


ولا يعتبر نقصُ خلقةٍ، فتجب لصحيحٍ مكلّف لا حرفةَ له.
الشرط (الثاني: أن يكون المنفِقُ غنياً) إما (بمالِهِ) كأجرةِ ملكِهِ (أو كَسْبِهِ) كصناعةٍ وتجارة، (وإن يفضُلَ عن قوتِ نفسِه وزوجتِهِ ورقيقِهِ يومَهُ وليلَتَة) وكسوةٍ وسكنى، لا من رأسِ المالِ، وثمنِ ملكٍ، وآلةِ عمل.
الشرط (الثالث: أن يكون) المنفِقُ (وارثاً لهم) أي لمن تجب لهم النفقة (بفرضٍ،) كأخيه لأمه، (أو تعصيبٍ) كابن عمه، لا برحِمٍ كخالةٍ (إلا الأصولَ والفُروعَ، فتجبُ لهم وعليهم) حتَّى ذي الرَّحم منهم (مطلقاً) أي سواءٌ حجب الغنيَّ منهم معسِرٌ، كجدٍّ معسِرٍ وأبٍ معسر لغنيّ، فإنه محجوبٌ عن جدّه بأبيه المعسر، فيلزم الغنيّ نفقةُ أبَيهِ المعسِرِ وجدّه المعسر، أو لم يحجبه معسِرٌ، كمن له جَدٌّ فقير، مع عدم أبيه الذي هو ابنُ الجدّ، فإنّ ابن الابن ليس بمحجوبٍ عن الجدّ مع عدم الأب.
(وإذا كان للفقير ورثةٌ دون الأب) يعني: ولو كان وارثه غيرَ أبيه (فنفقته) عليهم (على قدر إرثهم) من المحتاج إلى النفقة، لأن الله سبحانه وتعالى رتّب النفقة على الإِرث، بقوله سبحانه وتعالى: {وَعَلَى الوارِثِ مِثْل ذلِكَ} فيجب أن يترتب مقدار النفقة على مقدار الإرث.
والأب ينفرد بها.
فجدٌّ وأخٌ: بينهما سواء؛ وأم وجدّ، أو: ابنٌ وبنت: أثلاثاً؛ وجدةٌ وبنت: أرباعاً؛ وجدة وعاصبٌ غيرُ أبٍ: أسداساً. وعلى هذا حساب النفقات.
(ولا يلزمُ الموسِرَ منهم مع فقرِ الآخر سوى قدر إرثه) فقط، كمن له ابنانِ، أحدهما موسر، والآخر معسرٌ (1)، لأن الموسر منهما إنما يجب
__________
(1) قوله "كمن له ابنان .. الخ" هذا سبق قلم لما مرّ قريباً من أن الأصول والفروع تجب لهم وعليهم مطلقاً. ففي هذه الصورة تجب نفقة الأب على الابن الموسر كلها. =

(2/299)


عليه مع يسار الآخر ذلك القدر، فلا يتحمّل عن غيرِهِ إذا لم يجد الغير ما يجب عليه.
(ومن قدر على الكسب) وكان بحيثُ إذا اكتسب فَضَلَ عن كسبه فضلٌ للمواساة (أُجبر) على التكسّب (لنفقةِ من تجبُ عليه من قريبٍ وزوجةٍ) لا امرأة على نكاح (1).
(ومن لم يجد ما يكفي الجميع) أي جميع من تجبُ نفقته عليه لو كان موسراً بجميعها (بَدَأ بنفسه) لحديث "ابدأ بنفسك" (2) (فزوجتِهِ) لأن نفقة الزوجةِ تجب على سبيل المعاوَضَةِ، فقدِّمت على مجرّد المواساة، ولذلك تجب مع اليسار والإِعسار، بخلاف نفقة القريب.
(فرقيقِهِ) بعد زوجته لأنها تجب مع اليسار والإِعسار فقُدّمت على مجرد المواساة.
(فولدهِ) لوجوب نفقته بالنصّ.
(فأبيه) لانفرادهِ بالولاية على ولده، واستحقاقِ الأخذ من ماله، وإضافةِ النبي - صلى الله عليه وسلم - الولدَ ومالَهُ لأبيه، بقوله: "أنت ومالَك لأبيك" (3).
(فأمِّه) لما لها من فضيلةِ الحملِ والرضاع والتربية (4).
__________
= والصواب أن يقول: كمن له أخوان أحدهما موسر والآخر معسر فلا يجب على الموسر إلا نصف النفقة اهـ. (عبد الغني).
(1) أي لا تجبر المرأة التي لها قريب معسر، على النكاح لتحصيل مهرٍ تنفق منه على قريبها.
(2) حديث "ابدأ بنفسك" رواه الترمذي من حديث جابر بلفظ "إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه، فإن كانَ فضلٌ فعلى عياله، فإن كان فضلٌ فعلى قرابته" وهو حديث صحيح (الإرواء ح 2165)
(3) رواه ابن ماجه والطحاوي، من حديث جابر بن عبد الله "أن رجلاً قال يا رسول الله إنَّ لي مالاً وولداً، وإن أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال: أنت ومالك لأبيك" وهو صحيح. ورواه الطبراني مطولاً وفيه قصة (الإرواء ح 838)
(4) في المغني 7/ 494: إن اجتمع أَبوان ففيهما ثلاثة أوجه: التسوية لتساويهما في القرب وتقابل مرتبتهما؛ والثاني: تقديم الأم لأنها أحق بالبرِّ ولها فضيلة الحمل والإِرضاع =

(2/300)


(فولدِ ابنِه) لأن ابن الابن يرثُ ميراث ابن، ولأن وجوده يُسقط تعصيبَ الجدّ، فقُدِّم عليه.
(فجدّه) أي جدّ الميت، لأن له مزية الولادة والأبوة.
(فأخيه ثم الأقربِ فالأقرب) فيقدّم أبٌ على ابن ابنٍ، وجدٌ على أخٍ (1). نقله في الإقناع.
(ولمستحق النفقة أنْ يأخذ ما يكفيه من مالِ من يجب عليهِ بلا إذنٍ) أي إذنٍ ممن هي عليه (إن. امتنع) من دفعها لمن وجبت له، كزوجة.
(وحيث امتنعَ منها) أي من النفقة (زوجٌ أو قريبٌ) بأن تُطْلَب منه فيمتنع (وأنفَقَ أجنبيٌّ) أي غيرُ من وجبت عليه (بنيّةِ الرجوع، رَجَعَ)، لأنه قام عنه بواجب كقضاء دينه.
(ولا نفقةَ مع اختلافِ الدِّين) بقرابةٍ، ولو كان من عمودي النسب (2)، على الأصحّ، لأنها مواساةٌ على سبيل البرّ والصلة، فلم يجب مع اختلاف الدين، كغير (3) عمودي النسب، ولأنهما لا يتوارثانِ، فلم تجبْ لأحدهما على الآخر نفقة بالقرابة، كما لو كان أحدهما رقيقاً، (إلا بالولاء) لثبوتِ إرثهِ من عتيقه مع اختلاف دينهما، لعموم قوله تبارك وتعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}.
__________
= والتربية وزيادة الشفقة وهى أضعف وأعجز؛ والثالث: تقديم الأب لفضيلته وانفراده بالولاية .. الخ. قال: والأول أولى. اهـ. فما قدمه الماتن والشارح خالفاً فِيه الشيخ.
(1) في تمثيل الشارح بهذين مؤاخذة، فقد تقدمت أحكامهما. ومراد الماتن ما وراء ذلك، فلو مثل بتقديم العم على ابن العم، لكان مطابقاً.
(2) (ب، ص): "لغير عمودي النسب" وهو تصحيف، كما لا يخفى، وكما في (ف).
(3) في عمودي النسب رواية أخرى أنها تجب نفقتهم مع اختلاف الدين، وهو مذهب الشافعي.

(2/301)


فصل [في نفقة المماليك وحقوقهم]
(و) يجب (على السيّد نفقة مملوكه) ولو كان آبقاً، أو ابنَ أمتِهِ من حرٍّ (وكسوتُه ومسكنُه) سواءٌ كان المالك غنيًّا أو فقيراً أو متوسطاً. قال في المبدع: ومحله ما لم يكن للرقيق صنعة يتكسّب بها. انتهى.
(و) يجب (تزويجُه) أي المملوك (إن طلب) أن يزوّجه، غيرَ أمةٍ يستمتع بها سيّدها، ولو كانت مكاتبة، بشرطه.
(وله) أي السيد (أن يسافر بعبده المتزوّج).
(و) له (إن يستخدمه نهاراً) قال في الإِقناع: وإذا كان للعبد زوجةٌ فعلى سيّده تمكينه من الاستمتاع بها ليلاً.
(وعليه) أي السيد (إعفاف أمته) إما بوطئها أو تزويجها أو بيعها. (ويحرم) على السيد (أن يضربه) أي أن يضرب رقيقه (على وجهه) لحديث ابن عمر مرفوعاً "من لَطَم غلامَه فكفارتُهُ عتقُه" رواه مسلم، (أو يشتمَ أبويهِ ولو كافرين) لا يعوِّد لسانَه الخَطَأ (1) والفحش، "ولا يدخلُ الجنَّةَ سيئ الملكة" (2) وهو الذي يسيء إلى مماليكه، (أو يكلفَه من العمل ما لا يطيق).
(ويجب) على السيد (أن يريحه) أي أن يريح عبده (وقت القَيْلولة، ووقت النوم، و) لتأدية (الصلاةِ المفروضَةِ) لأن العادة جارية بذلك، ولأن عليهم في ترك ذلك ضرراً، ولا يحلّ الإِضرار بهم. ويركبهم عقبةً لحاجةٍ إذا سافر بهم.
__________
(1) في (ف): "الحنا".
(2) حديث "لا يدخل الجنة سيئ الملكة" رواه أحمد، من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه. والحديث ضعيف انفرد به فرقد السَّبَخي (أحمد محمد شاكر في تحقيق المسند جـ1 ح 13، 32، 75)

(2/302)


(وتسنُّ مداواتُهُ) أي يسن للسيد أن يداويَ رقيقه (إن مرض) قال في الفروع: ويداويه وجوباً. قاله جماعة. ثم قال: وظاهر كلام جماعة: يستحب. وهو أظهر.
(و) يسن للسيّد (أن يُطْعِمَه من طعامهِ) ومن وَلِيَهُ فمعه، أو منه (1).
ولا يأكل العبد شيئاً من طعام سيّده بلا إذنه. نص عليه.
(وله) أي السيد (تقييده) أي تقييدُ رقيقه (إن خافَ عليه) من الإباق. نقله حرب. ونقل غيرُه (2): لا يقيده، ويباعُ، أحبُّ إليّ.

[التأديب]
(و) له (تأديبه) على فرائضِ الله تعالى، من الصلاة والصوم، وعلى ما إذا كلّفه ما يطيق، فامتنع من امتثاله. ولا يصح نفله (3) (إن أبق).
ويحرم إفسادُه على سيده، وإفسادُ المرأة على زوجها.
(وللإِنسان تأديبُ زوجتِهِ وولده، ولو مكلفاً، بضرب غير مبرِّح) قال في الإِقناع: قال ابن الجوزي في كتابه "السر المصون": معاشرةُ الولد باللُّطف والتأديبِ والتعليمِ. وإذا احتيج إلى ضربِهِ ضُرِبَ. ويُحمَل على أحسَنِ الأخلاق، ويُجنَّب سيئها. فإذا كبر فالحذَرَ منه. ولا يطلعه على كل الأسرار. ومن الغلط تركُ تزويجه إذا بلغ، فإنك تدري ما هو فيه بما كنت فيه. فصنْهُ عن الزلل عاجلاً، خصوصاً البنات. واياك أن تزوّج
__________
(1) أي من تولى صنع الطعام من المماليك (أو غيرهم) سُنَّ لصاحب الطعام أن يجلسه ليأكل معه من ذلك الطعام، أو أن يطعمه منه، لما ورد في حديث أبي هريرة مرفوعاً "إذا أتى أحَدَكم خادمه بطعامه، فإن لم يجلسه معه فليناوِلْهُ لقمةً أو لقمتين، فإنّه وَلِيَ حَرَّهُ وعِلاجه" رواه الجماعة (منار السبيل 2/ 308)
(2) أي روى ذلك حربٌ عن أحمد. وروى غير حرب عن أحمد .. الخ.
(3) عبارة "ولا يصح نفله إن أبق" زائدة على ما في المنتهى وشرحه. وفي (ب، ص): "ونقله" وهو تصحيف.

(2/303)


البنت بشيخٍ أو شخصٍ مكروهٍ. وأما المملوك فلا ينبغي أن تسكنَ إليه بحالٍ، بل كن منه على حذر. ولا تُدخِل الدارَ منهم مراهقاً، ولا خادماً. فإنهم رجالٌ مع النساء، ونساء مع الرجال. وربما امتدّتْ عينُ امرأةٍ إلى غلامٍ مُحتَقَر. انتهى.
(ولا يلزَمُهُ) أي السيدَ (بيعُ رقيقِهِ) ذكراً كان أو أنثى (مع قيامِهِ بحقوقه) أي حقوق المملوكِ، لأن الملك للسيّد، والحق له، فلا يجبر على إزالته من غير ضرر بالعبد، كما لا يجب عليه طلاقُ زوجته مع القيام بما يجب لها، ولو غضبت.

فصل [في نفقة البهائم، والرفق بالحيوان]
(وعلى مالك البهيمة إطعامها وسقيها) ولو عَطِبَتْ، إما بعلْفِها، أو بإقامة من يرعاها.
(فإن امتنع) من إطعامها وسقيها (أُجبِر).
(فإن أبى أو عجز) عن نفقتها (أُجبِر على بيعها أو إجارتها أو ذبحها إن كانت تؤكل) لأن بقاءها في يده بترك الإنفاق عليها ظلم، والظلم تجب إزالته، ولأن ذلك مما تتلَف به، ولا تجوز إضاعة المال، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه (1)، فوجب إلزامه بما يزيل ذلك.
فإن أبى فعل الحاكم الأصلح من هذه الأمور الثلاثة، أو اقترَضَ عليه وأنفق على بهيمته.
(ويحرم لعنُها) أي لعْنُ البهيمة.
__________
(1) حديث "كان ينهي عن إضاعة المال" رواه البخاري ومسلم.

(2/304)


(و) يحرم (تحميلها) أي تحميل الدابة شيئاً (مُشِقًّا) (1) لما في ذلك من تعذيب الحيوان.
(و) يحرم (حلْبُها ما) أي شيئاً (يضرُّ ولدَها) لأن كفايته واجبة على مالِكِهِ، ولأنّ لبنها مخلوقٌ له، فأشبه ولدَ الأمة.
(و) يحرم (ضربُها في وجهها، ووسْمُها فيه) أي في الوجه. قال في الفروع: "ولعَنَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - مَنْ وَسَمَ أو ضَرَبَ الوجْهَ ونهى عنه" (2) فتحريمُ ذلك ظاهِرُ كلام الإِمام والأصحاب.
ويجوزُ الوَسْمُ في غير الوجه لغرضٍ صحيح.
ويكره خِصاءٌ، وجَزُّ مَعْرَفَةٍ وناصيةٍ وذَنَبٍ، وتعليقُ جَرَس، ونزو حمارٍ على فرس (3).
(و) يحرم (ذبحها إن كانت لا تؤكل لإراحتها (4)، كالآدمي المصْلوب والمتألِّم بالأمراض الصعبة.
(ويجوز استعمالها في غير ما خُلِقتْ له) كبقرٍ لحملٍ وركوبٍ، وإبلٍ وحُمُرٍ لحرْثٍ ونحوه.
تنبيه: يباح تجفيفُ دود القزّ بالشمسِ إذا استكمل، وتدخينُ الزنابير. فإن لم يندفع ضررها إلا بإحراقها جاز. خرجه الشيخُ موسى في شرحه على منظومة الآداب على القول في النمل والقمل وغيرهما، إذا
__________
(1) كذا في (ب، ص) وشرح المنتهى. وصوابه "شاقًّا". وفي (ف): "مُثقِلاً".
(2) روى أبو داود عن جابر "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرَّ بحمارٍ قد وُسِمَ في وجهه. فقال: أما بلغكم أني قد لعنتُ من وَسَم البهيمة في وجهها، أو ضربها في وجهها" (الإِرواء ح 2185) وفي صحيح مسلم عن جابر "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الضرب في الوجه والوسم في الوجه" وفي رواية "لعن الله الذي وَسَمَه" (مسلم بتحقيق عبد الباقي 3/ 1673)
(3) لو قال "وإنزاء حمارٍ .. الخ " لكان أصوب.
(4) علله في شرح المنتهى بقوله "لأنه إتلاف مالٍ وقد نُهي عنه" فمقتضاه أنه ان فقد المالية لم يحرم.

(2/305)


لم يندفع ضررها إلا بالحرق جاز بلا كراهةٍ، على ما أختاره الناظم (1). وقال: إنه سأل عنه الشيخَ شمسَ الدين شارحَ المقنع، فقال: ما هو ببعيد. أما إذا اندفع ضررها بدون الحرق، فقال الناظم: يكره. وظاهر كلام الأصحاب: التحريم.
__________
(1) الشيخ موسى هو الحجّاوي صاحب الإقناع، والناظم هو ابن عبد القوي (عبد الغني).

(2/306)


باب الحضَانَة
مأخوذ من الحِضن، وهو الجَنْبُ، لأن المربِّي والكافل يضمُّ الطفل إلى حِضْنِهِ.
وتجبُ، لأن الطفل يهلِكُ بتركه ويضيِع, فلذلك وجبتْ كفالته، حفظاً له، وإنجاء له من الهلكة والضياع.
(وهي) أي الحضانة (حفظ الطفلِ غالباً) وقد لا يكون طفلاً، ويكون كالطفل، وهو المجنون والمختلّ العقل (عمّا) متعلّق بقوله: حِفْظُ (يضرّه، والقيامُ بمصالحه، كغسْلِ رأسِهِ وثيابه، ودَهْنُه، وتكحيلُه، وربْطُه في المهد ونحوه، وتحريكُه لينام) ونحو ذلك مما يتعلق بمصالحه.

[ترتيب مستحقي الحضانة]
(والأحقُّ بها) أي بالحضانة (الأمّ) لأنها أشفق عليه وأقرب، ولا يشاركها في القرب، إلاَّ الأب، وليس له مثلُ شفقتِها، ولا يتولى الحضانة بنفسِهِ، وإنما بدفعه إلى امرأته أو غيرها من النساء، وأُمُّهُ أولى ممن يدفعه إليها، فتقدم على غيرها (ولو بأجرةِ مثلِها مع وجودِ متبرِّعَةٍ) كرضاع.

(2/307)


ولو امتنعت لم تجبر.
(ثم) الأولى بالحضانة بعد الأم (أُمَّهاتها، القربى فالقربى) لأنهن نساءٌ ولادتهنَّ متحقِّقة، فهنَّ في معنى الأم.
(ثم) الأولى بالحضانة بعد الأُم وأمهاتها (الأب) لأنه أصل النسب إلى الطفل، وأحقّ بولايةِ ماله، فكذلك في الحضانة.
(ثم) الأولى بالحضانة بعد الأب (أمهاته) القربى فالقربى.
(ثم) الأولى بالحضانة بعد الأب وأمهاته (الجدّ) لأنه في معنى ابنه الذي هو أبو المحضون، يقدّم فيه الأقرب فالأقرب من الآباء. (ثم أمهاته) أي أمهات الجد القربى فالقربى.
(ثم) الأولى بالحضانة بعد أمهات آباء الآباء (الأخت لأبوين) لقوّة قرابتها (ثم) أختٌ (لأمِّ) لأن هؤلاء نساء يدلين، بالأم فكان من يدلي منهن بالأم أولى ممن يدلي بالأب كالجدات، (ثم) أختٌ (لأب).
(ثم) الأولى بالحضانة بعد الأخوات خالاتُ المحضون، فتقدم (الخالة لأبوين) يعني: أختَ أمِّ المحضون لأبويها. (ثم) خالةٌ (لأمّ، ثم) خالةٌ (لأب)، لأن الخالات يدلين بالأم.
(ثم) الأولى بالحضانة بعد الخالات (العمّات كذلك) يعني: تقدّم عمةٌ لأبوين، ثم عمةٌ لأمٍّ، ثم عمةٌ لأبٍ. (ثم خالات أمه، ثم خالات أبيه، ثم عمات أبيه، ثم بنات إخوته وأخواته، ثم بنات أعمامه وعماته).
(ثم) تنتقل الحضانة (لباقي العصبة) أي عصبة المحضون (الأقرب فالأقرب)، فتقدم الإِخوة، ثم بنوهم، ثم الأعمام، ثم بنوهم، ثم أعمام الأب، ثم بنوهم، ثم أعمام الجد، ثم بنوهم.
وشُرِطَ كونُ العصبة محرماً ولو برضاع ونحوه كمصاهرةٍ، لأنثى بلغت سبعاً.

(2/308)


[موانع استحقاق الحضانة]
(ولا حضانةَ لمن فيه رقٌّ) ولو قلَّ، لأنها ولاية، فلا تثبت لمن فيه رقّ، كولاية النكاح.
(ولا) حضانةَ (لفاسقٍ) لأنه لا يوفّي الحضانةَ حقَّها.
(ولا حضانة لكافرٍ على مسلمٍ) لأنها إذا لم تثبت للفاسِقِ فالكافر أولى؛ ولأنّه ربما فَتَنَه عن دينه، ولا لمجنونٍ ولو غيرَ مطبِقٍ، ولا لمعتوهٍ، ولا لطفلٍ، ولا لعاجزٍ عنها، كأعمى وزَمِنٍ. قال الشيخ: وضعْفُ البَصَرِ بمنع من كمالِ ما يحتاج إليه المحضون من المصالح. انتهى.
وإذا كان بالأمِّ برصٌ أو جُذامٌ سقط حقّها من الحضانة. أفتى به الشيخ.
(ولا) حضانَةَ (لـ) امرأةٍ (متزوّجةٍ بأجنبيّ) من المحضونِ من زمن عقدٍ ولو رضي زوجٌ.
(ومتى زالِ المانع) من كفرٍ أو فسقٍ أو رقٍّ أو تزوجَّ ولو بطلاقٍ رجعيّ ولم تنقض عدّتها (أو أسقَطَ الأحقُّ حقَّه منها، ثم عادَ، عاد الحقّ له) في الحضانة، لأن سببها قائم، وهو القَرَابة. وإنما امتنعت لمانعٍ، فإذا زال المانع عاد الحق بالسبب السابق اللازم.
(وإن أراد أحَدُ الأبوين) أي أبوي المحضونِ (السَّفَرَ ويرجعَ، فالمقيم) من الأبوين (أحقّ بالحضانة) للولد، لأنّ في السفر بالولد إضراراً به، فتعين المقيم منهما.
(وإن كان) سفر أحد أبويه (للسُّكْنى، وهو) أي المحلُّ الذي يريده للسكنى (مسافةَ قصرٍ) فأكثر، (فالأب أحقّ) بالحضانة لأن الأب في العادة هو الذي يقوم بتأديب الصغير، وحفظ نسبه، فإذا لم يكن الولَدُ في بلد الأب ضاع نسبه. ومحل ذلك إذا لم يرد مضارَّةَ الأم، أو انتزاع

(2/309)


الولد منها. فإذا أراد ذلك لم يُجَبْ إليه. قاله في الهدي.
(و) إن كان البلد الذي أراد أحد أبويه النُّقْلَةَ إليه (دونها) أي دون مسافهَ القصر (فالأمُّ أحق) يعني أنها تكون باقية على حضانتها، لأنها أتمُّ شفقة.

فصل [فى الحضانة بعد السابعة من العمر]
1 - (وإذا بلغ الصبيّ) المحضونُ (سبْعَ سنين) أي تمّتْ له سبعُ سنين، حال كونه (عاقلاً، خُيِّرَ بين أبويه) فكان عند من اختاره منهما، على الأصح، قضى بذلك عمر وعليٌّ وشريح للحديث (1) ولأن التقديم في الحضانة لحقِّ الولد، فيقدّم من هو أشفق، ومن حظّ الولد عنده أكثر. واعتبرنا الشفقةُ بمظنّتها إذا لم يمكن اعتبارها بنفسها، فإذا بلغَ الغلامُ حدًّا يُعْرِب فيه عن نفسه، ويميّز بين الإكرام وضدّه، فمالَ إلى أَحَدِ الأبوين، دلّ على أنه أرْفَقُ به وأشفَقُ عليه، فَقُدِّم بذلك. وقيّدناه بالسبع لأنّها أولُ حالِ أمْرِ الشارعِ فيهِ بمخاطبته بالأمر بالصلاة. ولأن الأمّ قُدِّمت في حال الصغر، لحاجته إلى من يحمله ويباشر خدمته، لأنها أعرَفُ بذلك وأقْوَمُ به، فإذا استغنى عن ذلك تساوى والداه، لقربهما منه، فرُجِّح باختياره.
(فإن اختار أباه كان عنده ليلاً ونهاراً) لأن الأب مستحقٌّ، فالزّمان كلّه متعين له كما في الطفل، (ولا يمنع من زيارة أمه) لأن في منعه من
__________
(1) المراد حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "خيّر غلاماً بين أبيه وأمّه" رواه سعيد والشافعي. وعن عمارة الجَرْميّ "خيّرني عليّ بين أمّي وعمّي وكنت ابن سبع أو ثمان " ش. المنتهى.

(2/310)


ذلك إغراءً له بالعقوق وقطيعةِ الرحم.
(ولا) تمنعُ (هي) أي أمه (من زيارته) وتمريضِهِ.
(وإن اختار) الصبيُّ (أُمَّه كان عندها ليلاً) فقط لأنه وقت السَّكنِ وانحياز الرجال إلى المنازل، (و) كان (عند أبيهِ نهاراً) لأنه وقت التصرّف في قضاء الحاجاتِ وعملِ الصنائع (ليؤدّبه ويعلمه) لئلا يضيعَ حظُّه من ذلك.
وإن عادَ فاختارَ الآخَرَ نُقِلَ إليه. ثم إن اختار الأول رُدَّ إليه. وهكذا أبداً، كما يتْبَعُ ما يشتهيه من المأكول.
2 - (وإذا بلغت الأنثى) المحضونَةُ (سبعاً) أي تمَّ لها سبع سنين (كانَتْ عند أبيها وجوباً إلى أن تتزوّج) لأنه أحفَظُ لها وأحقُّ بولايتها من غيره، فوجَبَ أن تكونَ تحت نظرِهِ ليأمَنَ عليها من دخول النساءِ، لكونها معرَّضة للآفات، لا يؤمَنُ عليها الانخداعُ، ولأنها إذا بلغتِ السبْعَ قاربت الصلاحية للتزويج.
(ويمنعها) الأب (ومن يقوم مقامَهُ من الانفرادِ) لأنها لا تؤمن على نفسها.
(ولا تُمْنَعُ الأم من زيارتها) إن لم يُخَفْ منها، (ولا) تُمنَعُ (هي) أي البنت (من زيارةِ أمّها إن لم يُخَفِ الفساد).

[حضانة المجنون]
(و) يكون (المجنون، ولو أنثى، عند أمّه مطلقاً) يعني صغيراً كان أو كبيراً، لحاجته إلى من يخدمه ويقوم بأمره. والنساء أعرف بذلك.
(ولا يُتْرَكُ المحضون بيد من لا يصونُه ويصلحه) لأن وجود من لا يصونه ويصلحه كعدمه، فينتقل عنه إلى من يليه.

(2/311)