نَيْلُ
المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب كتَاب الجنَايَات
جمع جِنَايَةٍ. وهي لغةً: كلُّ فعل وَقَعَ على وجه التعدّي سواء، كان على
النفس أو المال.
(وهي) شرعاً (التعدّي على البَدَنِ بما يوجب قصاصاً أو) يوجب (مالاً)
وُيسمِّي أهلُ الشرع الجنايات على الأموال غصباً ونهباً وسرقةً وخِيَانةٍ
(1) وإتلافاً.
وأجمع المسلمون على تحريم القتل بغير حق.
(والقتل) وهو فعل ما يكون سبباً لزهوق النفس، وهو مفارقة الروح البدن،
(ثلاثة أقسام):
(أحدها: العمد العدوان، ويختصّ به القصاص أو الدية (2)).
(فالوليّ) أي ولي الجناية (مخيّرٌ) بين القصاص أو الدية. على الأصحّ (3)،
لأن الدية أحد بدلي النفس، بدليل أنها تجب عيناً في كلّ
__________
(1) في الأصول: "جنايةً" والتصويب من شرح المنتهى.
(2) في شرح المنتهى "يختصّ به القصاص" فقط دون "الدية". وهو أولى. والمعنى:
لا يكون القصاص إلا في العمد. وأما الدية فلا يختصّ بها العمد، فإنها تكون
في غيره كشبهِ العمد والخطأ.
(3) والوجه الآخر أن الوليّ لا يتخير إلا برضا الجاني. أما لو رفض الجاني
دفع الدية فله ذلك ويتعيّن القصاص إن لم يعف عنه (المغني 7/ 752)
(2/312)
موضع لا يمكن القصاص فيه، فكانتْ إحدى
مُوجبَي العمْدِ لذلك.
(وعفوه) أي عفوُ وليّ الجناية (مجاناً) أي من غير أن يأخذ شيئاً (أفضل)
لقوله تعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ للتَّقْوَى} ولا تعزيرَ على جانٍ
بعدَ العفوِ.
فإن اختار وليّ الجناية القَوَدَ، أو عفا عن الدية دون القصاص، فله أخذُها
والصلح على أكثرَ منها.
وإن اختارَ الدية ابتداءً تعينَتْ، فلو قتله بعد ذلك قتِلَ به.
وإن عفَا مطلقاً بأن لا يقيِّد بقصاصٍ ولا ديةٍ فله الدية.
أو عفا على غير مالٍ (1) فله الدية.
أو عفا عن القَوَدِ مطلقاً، ولو كان العفو في الصور الثلاث عن يد الجاني أو
رجله أو نحوهما، فله الدية.
(وهو) أي العمد (أن يقصد الجاني من يعلمه آدميًّا معصوماً فيقتله بما) أي
بشيء (يغلب على الظنّ موتُه به) فلا قصاص بما لا يقتل غالباً.
وللعمد الذي يختصُّ القَوَدُ به تسع صور: إحداها: أن يجْرحه بما له نفُوذٌ
في البدن، كسكين وشوكةٍ وعظْمٍ. ولو كان الجُرْحُ صغيراً كشرطة حجّام، أو
في غير مَقْتَلٍ.
الثانية: أن يضربه بمثقِّل فوقَ عمود الفُسْطَاطِ، أو بما يغلب على الظنّ
موتُه به، من لُتٍّ، وحجر كبير، ولو في غير مقتل.
الثالثة: أن يلقيه بِزُبْيَةِ أَسَدٍ ونحِوها.
الرابعة: أن يلقيه في ماءٍ يُغْرِقُهُ، أو نارٍ، ولا يمكنه التخلَّص،
فيموت. وإن أمكنه فيهما فَهدْرٌ.
الخامسة: أن يخنُقَه بحبلٍ أو غيره، أو يسدّ فمه وأنفه ونحو ذلك.
__________
(1) أي كخمرٍ وخنزير.
(2/313)
السادسة: أن يحبسه ويمنعه الطعام والشراب
فيموت جوعاً أو عطشاً لزمنٍ يموت فيه غالباً، ولا يمكنه الطلب.
السابعة: أن يسقيه سمًّا لا يعلم به.
الثامنة: أن يقتله بسحرٍ يقتل غالباً.
التاسعة: أن يشهد رجلان على شخص بقتلٍ عمداً.
(فلو تعمّد جماعةٌ قتل) شخصٍ (واحدٍ قتلوا جميعاً إن صلح فعْلُ كل واحد
منهم للقتل.)
ولا يجب على الجميع مع العفو عن القصاص أكثرُ من ديةٍ واحدة على الأصحّ،
لأن القتل واحد فلا يلزمهم أكثر من دية كما لو قتلوه خطأ.
(وإن جرَحَ واحدٌ) من قاتلين (جُرْحاً) واحداً، وكان بحيث لو انفرد
لقَتَلَ، (و) جَرَحَه (آخر مائة، فـ) هما (سواء) في القصاص أو الدية، لأن
كل واحدٍ منهما فَعَلَ فعْلاً أزهق به نفسَ المقتول، فكان على كل واحدٍ
القودُ، كما لو انفرد به. وكذلك في الدية، لأن زهوقَ نفسِهِ حصل بفعل كلّ
واحد منهما، وزهوقُ النفس لا يتبعَّض ليُقْسَمَ على الفعل، فوجب تساويهما
في موجَبهِ.
(ومن قطع) أي أبانَ سلعةً خطرةً من آدميٍّ مكلف بلا إذنه، فمات، (أو بطَّ)
أي: شَرَطَ (سلعةً خطِرةً) ليخرج ما فيها من القيح أو نحوه (من مكلَّفٍ بلا
إذنه)، فمات، (أو) قطع، أو بطَّ، سلعةً خطرةً (من غير مكلف، بلا إذن وليّه،
فمات) في الصور الثلاث، (فعليه القود.)
القسم (الثاني: شِبْهُ العَمْدِ)، وهو المسمى بـ"خطأ العَمْدِ" و"عَمْدِ
الخَطَإِ" (وهو أن يقصده بجنايةٍ لا تقتل غالباً، ولم يجرحْهُ بها) أي بهذه
الجناية، كمن ضَرَبَ غيره بسوطٍ أو عصاً أو حَجَرٍ صغير، أو لَكَزَ، أو
(2/314)
لَكَمَ غيره، في غير مقتل، أو ألقاه في ماء
قليلٍ، أو سَحَرَهُ بما لا يقتل غالباً، فمات، أو صاحَ بعاقِلٍ في حال
غفلته، فمات، أو صاح بصغيرٍ أو معتوهٍ على سطحٍ، فسقط، فمات، ففي ذلك كله،
إن وجد واحد منها، الكفارة في مال جانٍ، والدية على عاقلته.
(فإن جرحه بها) أي بهذه الجناية التي لا تقتُلُ غالباً (ولو كان الجرح
صغيراً قُتِلَ به.)
القسم (الثالث: الخطأ) وهو ضربان:
ضرب في الفعل: (وهو أن يفعل ما) أي فعلاً (يجوز له فعله، من دقٍّ) لشيءٍ
(أو رمْيِ صيدٍ، ونحوه) كهدفٍ، فيصيبَ آدميًّا معصوماً لم يقصده، أو ينقلب
وهو نائم على إنسان (1) فيموت.
وضرْبٌ في القصد: وهو ما أشار إليه بقوله: (أو يظنه) أي يظن ما يرميه
(مباحَ الدم) أو صيداً (فيتبيّن آدميًّا معصوماً) كمن أراد قطع لحمٍ أو
غيرِهِ مما له فعله، فسقطت منه السكين على إنسان فقتلته، أو يتعمّدَ القتلَ
صغيرٌ أو مجنونٌ.
(ففي القسمين الأخيرين) وهما شبه العمد والخطأ (الكفارةُ على القاتلِ،
والدية على عاقلته).
(ومن قال لِإنسان: اقتلني، أو) قال لِإنسان: (اجرحني، فقتله)، أي فقتل من
قال له: اقتلني، (أو جرحه) أي جرح من قال له: اجرحني، (لم يلزمه شيء) لأن
ذلك جنايةٌ أذِنَ له المجنيّ عليه فيها، فسقط عنه ضمانُها (2)، كما لو أمره
بإلقاء متاعه في البحر ففعل.
__________
(1) في (ب، ص): "أو ينقلب نائم وهو على إنسان" والتصويب (ف).
(2) قالوا: حتى لا يلزمه إثم ولا كفارة (شرح المنتهى) قلت: وبينهما فرق،
فإن المتاع مِلْكه يتصرف فيه، ونفسه ليست ملكه. ولذا قال عبد الغني: الذي
يظهر أنه تلزمه الكفارة، لأنه لا يباح قتله بذلك، إلا أن قال له: اقتلني
وإلا قَتَلتُك، وكان قادراً عليه.
(2/315)
(وكذا لو دَفَع لغير مكلفٍ آلةَ قتلٍ، ولم
يأمره به) أي بالقتل، فَقَتَل. قال في المنتهى وشرحه: ومن دفع لغيرِ
مكلَّفٍ آلة قتلٍ، ولم يأمره به، أي بالقتل، فقتَلَ بالآلة إنساناً: لم
يلزم الدافعَ لَهُ الآلة شيءٌ، لأن الدافع ليس بآمرٍ ولا مباشرٍ. انتهى.
(2/316)
باب شرُوط القصَاص في النفس
أي ما يشترط لوجوب القود.
(وهي أربعة):
(أحدها: تكليف القاتل) وهو أن يكون بالغاً عاقلاً، لأن القصاص عقوبةٌ
مغلّظة، (فلا قصاص على صغيرٍ، و) لا على (مجنونٍ) ومعتوهٍ، لأنهم ليس لهم
قصد صحيح، (بل الكفارة في مالهما، والديّة على عاقلتهما،) كالقاتل خطأ.
ومتى قال الجاني: كنت صغيراً حال الجناية، وقال وليُّها: بل كنتَ بالغاً،
وأمكنَ، وأقاما بذلك بينتين، تعارضتا (1).
(الثاني) من شروط القصاص: (عصمة المقتول) ولو كانَ مستَحَقًّا دَمُهُ بقتلٍ
لغيرِ قاتِلِهِ، لأنه لا سبب فيه يباح به دمه لقاتله (2).
إذا تقرر هذا (فلا كفارة ولا دية على قاتلِ حربيٍّ أو) قاتلِ (مرتدٍّ) قبل
توبته إن قبلت توبته ظاهراً (3) (أو) قاتل (زانٍ. محصنٍ) ولو قبل ثبوت
__________
(1) فتساقطتا، والقول قول الصغير حيث أمكن.
(2) ولأن قتله غير متحتّم، فقد يعفو الولي عنه، بخلاف الزاني المحصن إذ إن
قتله متحتم فلا قَوَدَ على قاتله.
(3) في (ف): "قبل توبته ظاهراً" وما هنا أصحّ وهو الموافق لما في شرح
المنتهى. والمعنى أن المرتد إن كان زنديقاً لم تقبل توبته ظاهراً، فإن قتله
قاتل ولو بعد توبته فلا قود. =
(2/317)
عند الحاكم (ولو أنه مثلُه) أي: ولو أن
قاتل المرتد مثلُهُ، أو أن قاتل الزاني المحصنِ زانٍ محصنٌ مثله، أو أنّ
قاتل واحدٍ من هؤلاء ذمّيّ. ويعزّر للافتيات على وليّ الأمر.
(الثالث) من شروط القصاص: (المكافأة): أي مكافأة مقتولٍ لقاتلٍ، والمكافأة
(بأن لا يفضُلَ القاتلُ المقتولَ حالَ الجنايةِ بالإِسلام، أو) يفضَله
(بالحرية، أو) يفضله (بالملك).
(فلا يقتلُ المسلم ولو) كان (عبداً بالكافر ولو) كان الكافر (حرًّا) روي
ذلك عن عمر وعثمان وعليّ وزيد بن ثابت ومعاوية. وبذلك قال عمر بن العزيز
وعطاء والحسن وعكرمة والزهري وابن شبرمة والثوري وإسحاق وأبو عبيدة وأبو
ثور وابن المنذر. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ولا يقتل مسلم
بكافر" (1).
(ولا) يقتل (الحر ولو ذمّيًّا بالعبد، ولو) كان العبد (مسلماً، ولا) يقتل
(المكاتَب بعبدهِ) لأنّه مالكٌ لرقبته، فلا يقتل به كالحر، حتّى (ولو كان)
عبدِ المكاتب (ذا رَحِمٍ مَحْرَمٍ له) لأنه ملكه، فلا يقتل به، كغيره من
عبيده في الأصح.
(ويقتل الحرُّ المسلم، ولو) كان (ذكراً، بالحر المسلم ولو) كان (أنثى).
(والرقيق كذلك) يعني يقتل الرقيقُ المسلمُ ولو ذكراً بالرقيق المسلمَ ولو
أنثى.
__________
= ومثل الزنديق من تكررت ردّته.
(1) رواه البخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن أبي جحيفة، قال "قلت لعلي رضي
الله عنه، هل عندكم كتاب؟ قال: لا، إلاَّ كتاب الله أو فهماً أعطيه رجل
مسلم، وما في هذه الصحيفة. قال: قلت: وما في هذه الصحيفة؟ قال: العقلُ،
وفكاك الأسير، ولا يقتل مسلم بكافر".
(2/318)
(و) يقتل الإِنسان (بـ) قتل (من هو أعلى
منه) فيُقْتَلُ الكافِرُ الحرُّ بالمسلم الحر، (والذمّيّ كذلك) فيقتل
الذمّيّ الرقيق بالذمّيّ الحر.
(الرابع) من شروط القصاص: (أن يكون المقتولُ ليس بولدٍ) وإن سفل (للقاتلِ)،
ولا بولدِ بنتٍ وإن سفلت، للقاتل.
إذا تقرر هذا (فلا يقتل الأب وإن علا) بالولدِ ولا ولدِ الولدِ، (ولا) تقتل
(الأمُّ وإن علتْ بالولد، ولا بولد الولد، وإن سفل.
ويورث القصاصُ على قدرِ الميراثِ. فمتى وَرِث القاتِلُ) شيئاً من القصاصِ
فلا قصاص لأنه لو لم يسقط لوجب له على نفسه القصاص، وهو ممنوع. (أو) ورث
(ولدُهُ) أي ولدُ القاتل (شيئاً من القصاص)، وإن قلَّ، (فلا قصاص) لأنه لو
لم يسقط لوجَبَ للولد على الوالد، وهو ممنوع.
ومن قتل إنساناً لا يُعرَف بإسلامٍ ولا حرّيَّةٍ، أو ملفوفاً لا يُعْرَف هل
هو حيٌّ أو ميْتٍ، وادعى كفرَهُ أو موْتَه، وأنكر وليُّه ذلك، أو قتل شخصاً
في داره وادعى أنه دخل داره لقتله، أو أخْذِ ماله، فقتَلَهُ دفعاً عن نفسه،
وأنكر وليُّه ذلك، فالقول قول الولي بيمينه.
ووجب القصاص ما لم يأت ببيّنةٍ تشهد بدعواه.
(2/319)
باب شرُوط استيفاء القصّاص
وهو فعلُ مجنيٍّ عليه أو وليِّهِ بجانٍ مِثْلَ فِعْلِهِ أو شِبْهَهُ.
(وهي) أي شروطُ استيفاء القصاص (ثلاثة):
(أحدها: تكليف المستَحِقّ) لأن غير المكلف ليس أهلاً للاستيفاء، لعدم
تكليفِهِ، بدليلِ أنه لا يصحُّ إقراره ولا تصرُّفه. (فإن كان) المستحق
للقصاص (صغيراً أو مجنوناً حُبِسَ الجاني إلى تكليفِهِ) ببلوغٍ إن كان
صغيراً، أو عقلٍ إن كان مجنوناً، لأن معاوية حَبَس هُدْبَةَ بن خَشْرَمٍ في
قصاص حتى بَلَغَ ابنُ القتيل. وكان ذلك في عصر الصحابة. ولم يُنْكَر فكان
كالإِجماع.
ولا يملك استيفاءه للصبيِّ والمجنونِ أبٌ كوصيٍّ وحاكِمٍ.
(فإن احتاج) الصبيُّ والمجنونُ (لنفقةٍ فلوليّ المجنونِ فقط) أي لا وليّ
صغيرٍ (العفوُ إلى الدية) لأن المجنون ليست له حالة معتادة يُنْتَظَر فيها
إفاقته ورجوعُ عقلِهِ، بخلافِ الصغير. وعُلِمَ منه أنه إذا لم يحتج المجنون
لنفقةٍ لم يكن لوليّه العفوُ على مالٍ.
فإن قتل الصبيُّ والمجنونُ قاتلَ مورِّثِهِما، أو قَطَعَا قاطعهما، من غير
إذنٍ من الجاني، سقط حقهما.
(الثاني) من شروط استيفاء القصاص: (اتفاقُ المستحقين) في
(2/320)
القصاص (على استيفائِهِ، فلا ينفردُ به) أي
بالاستيفاء، (بعضُهم) دون بعضٍ، لأنه يكون مستوفياً لحقِّ غيرِهِ بغير
إذنه، ولا ولايةٍ له عليه.
(وُينتظَر قدومُ الغائب، وتكليفُ غير المكلف) أي بلوغ وارثٍ صغيرٍ، وإفاقةُ
وارثٍ مجنونٍ، لأنهم شركاء في القصاص، ولأنه قصاصٌ غير متحتّمٍ ثبتَ
لجماعةٍ معيّنين، فلم يجزْ لأحدهم الاستقلالُ به (1).
(ومن مات من المستحقّين فوارثُهُ) أي وارثُ من مات (كهو) أي كمورِّثِهِ،
فيملك ما كان يملكه مورِّثُه، لأنه حقٌّ للميت، فانتقل بموته إلى وارثه،
كسائر حقوقه.
(وإن عفا بعضهم) أي بعض مستحقّي القصاص، (ولو) كان العافي (زوجاً أو زوجةً)
لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فَأهْلُهُ بَيْنَ خِيْرَتَيْنِ" (2)
وهذا عامّ في جميع أهله، والمرأةُ -ولو كانت زوجة- من أهله، بدليل قوله -
صلى الله عليه وسلم -: "من يعذرُني مِنْ رجلٍ بلغني أذاهُ في أهلي؟ وما
علمتُ على أهلي إلا خيراً" (3) يريد عائشة، (أو أقرّ بعفوِ شريكِهِ، سقط
القصاصُ) قال في المنتهى: أوْ شهد، ولو مع فسقه، بعفو شريكِهِ، سقَطَ
القودُ. قال في شرحه: فأما سقوطُهُ بشهادةِ بعضِهِمْ على شريكه بالعفو
فلكونهِ إقراراً بأنَّ نصيبَهُ من القودِ سَقَط.
(الثالث) من شروط استيفاء القصاص: (أن يأمنَ في استيفائِهِ) أي
__________
(1) هذه إحدى الروايتين عن أحمد. والرواية الأخرى أن للكبار العقلاء
استيفاءه وهو مذهب مالك والأوزاعي والليث وأبي حنيفة لأن الحسن بن عليّ قتل
ابن ملجِمٍ قصاصاً وفي الورثة صغار (مغني 7/ 739)
(2) رواه أحمد والترمذي والدارقطني من حديث أبي شريح الكعبي. "أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - قال: إنكم يا معشر خزاعة قتلتم هذا الرجل من هذيل،
وإني عاقله". فمن قتل له قتيل بعد اليوم فأهله بين خيرتين إما أن يقتلوا أو
يأخذوا العقل" وقال الترمذي: "حديث حسن صحيح" (الإِرواء ح 2220)
(3) حديث "من يعذرني .... " جزء من حديث عائشة في قصة حديث الإفك. وهو متفق
عليه.
(2/321)
استيفاءِ القودِ (تعدِّيَهُ إلى الغير) أي
غير الجاني، لقوله تعالى: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} إذا تقرّر هذا
(فلو لزم القصاصُ حاملاً) أو حائلاً ثم حَمَلَتْ (لم تُقْتَلْ حتى تضعَ)
حملها، لأن قتل الحامِلِ إسراف في القتل، لأنه يتعدّى إلى الجنين، فلا
تقتلُ حتى تضعُه وتسقيه الَّلبَأَ، (ثم إن وُجِدَ من يرضعه قُتِلَتْ) لأنَّ
غيرها يقوم مقامها في إرضاع الولد وتربيته، فلم يبق في استيفاء القود منها
ضرورة، (وإلاَّ) أي وإن لم يوجد من يرضعه (فـ) إنها (لا) تقتل (حتّى
تُرْضِعَهُ حولين) كاملين، لأنه لما أُخّر الاستيفاء لحفظه وهو حمل، فلأن
يؤخَّر لحفظِهِ بعد وضعه أولى.
وكذا حدٌّ بِرَجْمٍ.
وتقادُ في طرَفٍ، وتُحَدُّ بجلدٍ لمجردِ وضعٍ. ومتى ادَّعَتْ حملاً، وكان
لها زوجٌ أو سيّد يطؤها، قُبِل قولها.
فصل [في استيفاء القصاص]
(ويحرم استيفاء القصاص بلا حضرة السلطان أو نائبِهِ) في الأصحّ، لأنه أمرٌ
يفتقر إلى اجتهادٍ، ويحرُمُ الحيف فيه، ولا يُؤمَنُ مع قصدِ المقتصِّ
التشفّي بالقصاصِ.
وللإِمام تعزير من اقتَصَّ بغيرِ حضورِ الإِمامِ أو نائبِهِ لافتياته بفعل
ما مُنِعَ مِنْ فِعْلَه.
(ويقع) القصاصُ (الموقعَ) لأن المقتصّ استوفى حقه.
(ويحرم قتل الجاني بغير السيف) في العنق.
(و) يحرم (قطع طرفه) أي الجاني (بغير السّكين، لئلا يحيف) عند الاستيفاء.
(2/322)
ومن قَطَعَ طرفَ شخصٍ ثم قَتَله قبل
بُرْئهِ دخل قَوَدُ طرفه في قتلِ نفسه، وكفى قتلٌ، على الأصحّ.
(وإن بَطَشَ وليّ المقتول بالجاني، فظنّ أنه قَتَله، فلم يكن) قَتَلَه،
(وداواهُ أهلُه حتّى برئ (1)، فإن شاءَ الوليُّ دَفَعَ) إليه (دية فعله)
الذي فَعَلَه به (وقتله، وإلا) أي وإن لم يشأ الولي ذلك (تركه) يعني لم
يتعرض له. قال في الفروع: هذا رأيُ عمر وعليّ ويعلى بن أمية. ذكره أحمد.
__________
(1) الأفصح: حتى "بَرَأ"، وهي لغة أهل الحجاز، يقولون برأت من المرض.
وغيرهم من العرب يقول برئتُ. وأما برئت من الدين والحق فليس فيها إلا لغة
واحدة هكذا "برئت" (اللسان).
(2/323)
باب شرُوط القصَاص فيما دُون النفس
وهو معقودٌ لأحكام القَوَدِ فيما ليس بقتلٍ، من الجراحِ وقطعِ الأعضاء ونحو
ذلك. وذلك هو المذكور في قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ
وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}
فدَلَّ ذلك على أن كل واحدٍ من هذه الأعضاء يوخذ بمثله.
ويُشترط لوجوب القصاص فيما دون النفسِ الشروطُ المتقدمة في القصاص في
النفس. وإلى ذلك أشار بقوله: (من أُخِذَ بغيره في النفس أُخِذَ به فيما
دونها، ومن لا) يجري القصاص بينهما في النفس (فلا) يجري القصاص بينهما فيما
دونها، كالأبوين مع ابنهما، والحرِّ مع العبد، والمسلمِ مع الكافر. فلا
يُقْطَعُ طرفه بطرفه، لعدم المكافأة.
وُيقْطَعُ كل من الحر المسلم والعبد والذمّيّ بمثله.
ويقطع الذكر بالأنثى، والناقِصُ بالكامل، كالعبدِ بالحرِّ، والكافرِ
بالمسلمِ، لأن من جرى القصاصُ بينَهما في النفس جرى في الطرف.
(وشروطُه أربعة):
(أحدها) أي أحد الشروط: (العمدُ العدوانُ، فلا قِصَاصَ في غيره) أي لا قصاص
في الخطأ، لأنه لا يوجب القصاص في النفس،
(2/324)
وهي الأصل، ففيما دونها أولى، ولا في شبه
العمْد. والآية مخصوصة بالخطأ فكذلك شبه العمد.
(الثاني) من شروط وجوب القصاص فيما دون النفس: (إمكانُ الاستيفاءِ) أي
استيفاء القصاص فيما دون النفس (بلا حَيْفٍ). وذلك (بأن يكون القطع من
مفصل، أو ينتهي إلى حدٍّ، كمارِنِ الأنف، وهو ما لان منه) أي من الأنف، دون
القصبة، لأن ذلك حدٌّ ينتهى إليه، فهو كاليد يجب القصاص فيما انتهى إلى
الكُوعِ.
إذا علمت ذلك (فلا قصاص في جائفةٍ) وهي الجرح الواصل إلى باطن الجوف، (ولا
في قطع القَصَبَة) أي قَصَبةِ الأنف، ولا في كسر عظمٍ غير سنٍّ وضرس، (أو)
قطع (بعض ساعِدٍ، أو) قطع بعض (عَضُدٍ، أو ساقٍ، أو) بعض (وَرِكٍ) لأنه لا
يمكن استيفاءٌ من ذلك بلا حيف، فإنه ربما يأخُذُ أكثر من الغاية (1)، أو
يسري إلى عضو آخر، أو إلى النفس، فلم يجز (2)، لأن الواجب الأخذ بقدر
المُتْلَف، لا أكثر منه. فإذا أفضى الاستيفاء إلى الحيف مُنِع منه لتعذّره.
ولو قطع يده من الكُوعِ، ثم تأكّلت إلى نصف الذراع، فلا قود له
__________
(1) لكن لو شاء المجني عليه أن يقطع من المفصل الأبعد عن البدن، فله ذلك في
أحد الوجهين، كمن قطعت يده من منتصف الساعد، فله القطع من الكوع؛ ومن قطعت
رجله من الفخذ، فله الأخذ من مفصل الركبة، وهو مذهب الشافعي. وهل له حكومة
فيما زاد؟ فيه وجهان. (المغني 7/ 708)
(2) في تعليله بخشية السراية نظر، فإن السراية لا تؤمن في أيّ جرحٍ، اللهم
إلا أن يقال: خشية السراية في انقطع من المفصل أقل.
ثم ينظر في أن الوسائل الطبية الحديثة قادرة على الأخذ من العظم مع أمن
الحيف مطلقاً والسراية غالباً، فهل يختلف الحكم في هذا العصر، بحيث يجوز
الاستيفاء من غير مفصل؟ الظاهر: نعم، لأنهم فرّعوا بحسب زمانهم، والحكم
الشرعي جواز الاستيفاء إن أمن الحيف. وقد أُمِن.
(2/325)
أيضاً (1)، اعتباراً بالاستقرار. قاله
القاضي وغيره. وقدّمه في الرعايتين. وصححه الناظم.
فائدة: الأمن من الحيف شرط لجوازه (2).
(فإن خالفَ فاقتصَّ بقدْرِ حقِّه، ولم يَسْرِ، وقع) القصاص (الموقع، ولم
يلزمْه) أي المقتصّ (شيء).
(الثالث) من شروط وجوب القصاص فيما دون النفس: (المساواةُ في الاسم)،
كالعين بالعين، والأنف بالأنف، والأذن بالأذن، والسنّ بالسنّ، لأن القصاص
يقتضي المساواة، والاختلافُ في الاسم دليلٌ الاختلاف في المعنى، (فلا تقطع
اليد بالرجل، وعكسه، و) المساواة أيضاً (في الموضع، فلا تقطع اليمين
بالشمال، وعكسه،) ولا تؤخذ جراحةٌ في الوجه بجراحةٍ في الرأس، ولا جراحةٌ
في مقدَّم الرأس بجراحةٍ في مؤَخّر الرأس، اعتباراً للمماثلة. قاله في شرح
المنتهى.
ويؤخذ كل من أصبعٍ وكفٍّ ومَرْفِقٍ ويمنى ويسرى، من عينٍ أو أذنٍ -مثقوبةٍ
أوْ لا- ومن يدٍ ورجلٍ وخُصيةٍ وأَلْيَةٍ، وعليا وسفلى من شفة، ويمنى ويسرى
وعليا وسفلى من سنٍّ وجفنٍ بمثله.
(الرابع) من شروط وجوب القصاص فيما دون النفس: (مراعاةُ الصّحّة والكمالِ،
فلا تؤخذ) يدٌ أو رجلٌ (كاملةُ الأصابع، أو) كاملة (الأظفار بناقصتها)، رضي
الجاني أم لم يرضَ، لأن ذهاب بعض الأصابع أو الأظفار نقصٌ في اليد أو
الرجل، ولا تؤخذ بها الكاملة، لزيادة المأخوذِ على المفوَّت، فلا تكون
مقاصّةً. بل تؤخذ ذات أظفارٍ سليمةٍ بذات أظفار معيبةٍ، لحصول المقاصّة.
__________
(1) انظر التعليق السابق.
(2) أي: لا لوجوبه. فيثبت حق القصاص، ثم يمتنع استيفاؤه للتعذر. وقيل هو
شرط لوجوبه. والمسألة التالية مبنية على أنه شرط الجواز. وهو المقدّم.
(2/326)
(ولا) تؤخذ (عينٌ صحيحة بقائمةٍ) أي بعينٍ
قائمة، وهي التي بياضُها وسوادُها صافيان، غير أن صاحبها لا يبصر بها. قاله
الأزهري. لأنّ منفعتها ناقصة، فلا تؤخذ بها كاملة المنفعة.
(ولا) يؤخذُ (لسانٌ ناطقٌ بـ) لسانٍ (أخرسَ) لنقصه، (ولا) عضوٌ (صحيحٌ بـ)
عضوٍ (أشلّ، من يدٍ ورجلٍ وأصبعٍ) والشَّلَلُ فسادُ العضو وذهابُ حركته،
لأن المقصود من اللسان النطق، ومن اليد والرجل البطش، ومن الأصابع إمكان
العمل. فإذا فَسَدَ العضو، وذهبت منفعته، لم يؤخذ به الصحيح، لزيادته عليه.
فإن الصحيح طرف منفعته موجودة فيه، فلا يؤخذ بما لا منفعة فيه، كعين البصير
بعين الأعمى.
(ولا) يؤخذ (ذكرُ فحلٍ بذكرِ خِصَيٍّ)، أو ذكرِ عِنِّينٍ، فإنه لا منفعة
فيهما، فإن ذكر العنين لا يوجد منه وطء ولا إنزال، والخصيّ، وهو مقطوع
الخصيتين، لا يولد له ولا يكاد يقدر على الوطء، فهما كالذكر الأشلّ.
(ويؤخذ مارنُ) أنفٍ (صحيحٍ بمارنٍ أشلَّ) (1) وهو الذي لا يجد رائحة شيءٍ،
لأن ذلك لعلة في الدماغ، والأنف صحيح.
(و) تؤخذ (أُذنٌ صحيحة بأذنٍ شلاّء.)
ويؤخَذ معيبٌ من ذلك بصحيجٍ بلا أرشٍ.
__________
(1) كذا في الأصول كلها، وعبارة المنتهى وشرحه: "ويؤخذ مارن الأنف الأشمّ
الصحيح بمارن الأنف الأخشم الذي لا يجد رائحة شيء" وهي أصح، لأن "الأشلّ"
لا يؤخذ به الصحيح، والأشلّ المستحشف، أما الأشمّ وهو الذي حاسة الشم فيه
سليمة، فيؤخذ بالأخشم الذي لا يجد الرائحة، لأنه سليم أيضاً، وفقد الشم ليس
منه بل من أعصاب الشم فوقه، أو من الدماغ. قال عبد الغني: فقول المصنف
"أشل" لم أره لغيره.
(2/327)
فصل [في القصاص
في الجروح]
(ويشترط لجواز القصاص في الجروح انتهاؤها) أي أن تنتهي (إلى عظمٍ كجرح
العضد، والساعد، والفخذ، والساق، والقدم؛ وكالمُوضِحَة) في الوجه والرأس.
قال في شرح المقنع: ولا نعلم في جوازِ القصاص في الموضحة خلافاً. انتهى؛
(والهاشمةِ والمُنَقِّلَةِ والمَأمُومَةِ) (1) قال في المنتهى وشرحه:
ولمجروحٍ أعظَمَ منها، أي من الموضحة، كهاشمةٍ ومنقِّلةٍ ومأمومةٍ أن يقتصّ
موضحةً، وأن يأخذ ما بين دِيَتِها ودية تلك الشجَّة، فيأخذ في هاشمةٍ خمساً
من الإِبل، وفي منقّلة عشراً، وفي مأمومة ثمانياً وعشرين بعيراً وثلثَ
بعير. انتهى.
(وسراية القصاص هَدْرٌ) يعني أنها غيرُ مضمونة، لأن عمر وعليًّا قالا: "من
مات من حدٍّ أو قصاص لا دية له: الحقُّ قَتَلَه." رواه سعيد بمعناه، لأنه
قَطْعٌ بحق، فكما أنه غير مضمونٍ. فكذلك سرايته، كقَطْعِ السارق. لكن لو
قَطَع وليُّ الجناية الجانيَ من غير إذن الإِمام أو نائبِهِ، معَ حرٍّ أو
بَرْدٍ، أو بآلَةٍ كالَّةٍ أو مسمومةٍ، ونحوه، فمات بسبب ذلك، لزم المقتصَّ
ديةُ النَّفسِ منقوصاً منها دية ذلك العضو الذي وجب له القصاص فيه. فلو وجب
له في يدٍ كان عليه نصف الدية، وإن كان في جَفْنٍ كان عليه ثلاثة أرباعها.
[السراية]
(وسرايةُ الجنايةِ مضمونةٌ) ولو بعد أن اندمل جرحٌ واقتَصَّ ثم
__________
(1) هذا من الماتن يوهم جواز القصاص في الهاشمة والمنقلة والمأمومة. وليس
كذلك. فكان الأولى للمصنّف أن يقول: بخلاف هاشمة ومنقلة ومأمومة وله أن
يقتصّ فيها موضحة ويأخذ ما بين دية تلك الشجة والموضحة (عبد الغني) بتصرف.
(2/328)
انتقَضَ الجرحُ، فسرى، بقودٍ وديةٍ [في
نفس] (1) ودونها، كما لو قطع أصبعاً فتأكّلت أخرى إلى جنبها، أو اليد وسقطت
من مفصل، فالقود، (ما لم يقتصَّ ربُّها) أي ربُّ الجناية (قبل برئه) أي
برءِ جرحه (فـ) سرايته (هدْرٌ أيضاً) لأنه باقتصاصه قبل الاندمال رضي بترك
ما يزيد عليه بالسراية، فبطل حقه منه، كما لو رضي بترك القصاص.
__________
(1) الزيادة من المنتهى وشرحه. ولا يستقيم الكلام بإسقاطها.
(2/329)
|