نَيْلُ
المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب كتَاب الدّيَات
جمع دِيّةٍ، وهي المال المؤدَّى إلى مجنيٍّ عليه أو وليّهِ بسببِ جنايةٍ
(1).
(من أتلف إنساناً، أو) أتلف (جزءاً منه، بمباشرةٍ أو سببٍ، إن كان عمداً
فالدِّيَةُ في ماله) أي مال المتلِفِ، لأن الأصل يقتضي أنَّ بَدَل المتلَفِ
يجب على متلِفِه، وأرشُ الجنايةِ على الجاني. (وإن كان) الإِتلاف (غير
عمدٍ) كالخطإِ وشبهِ العمدِ (فـ) الدِّيةُ (على عاقِلَتِهِ) وحكمة ذلك أنَّ
جناياتِ الخطأ تكثر، وديةُ الآدميّ كثيرة، فإيجابُها على الجاني في ماله
تُجْحِفُ به، فاقتضَتْ الحكمةُ إيجابها على العاقلة على سبيل المواساة
للقاتل، إذ كان معذوراً بفعله.
(ومن حَفَرَ تعدّياً بئراً قصيرةً فَعَمَّقَها آخر، فضمان تالفٍ بينهما)
لأنّ السبب حصل منهما.
(وإن وضَع ثالثٌ) فيها (سكّيناً) فوقع إنسانٌ على السكين التي في البئرِ
فمات، (فـ) الدية على عاقلة الثلاثة (أثلاثاً).
وإن حَفَرها بملكِهِ، وسَتَرها ليقع فيها أحدٌ، فمن دَخَل بإذنه،
__________
(1) التعريف غير مانع، إذ تدخل فيه الحكومة، وما أخذ صلحاً عن عمدٍ. ولو
قال: هي المال المقدّرُ شرعا المؤدى .. الخ. لسلم من ذلك.
(2/330)
وتلف بالبئر، فالقود على حافر البئر، وإن
دخل بغير إذنِهِ فلا ضمان عليه، كمكشوفةٍ بحيث يراها.
ويقبل قوله في عدم إذنه، لا في كشفها.
(وإن وَضَعَ واحدٌ حجراً) أو نحوه (تعدّياً، فَعَثَر فيه إنسان، فوقع في
البئر، فالضمان على واضعِ الحجَر) دون الحافر، لأن واضعَ الحجرِ أو نحوه
كالدافع، لأنه متى اجتمع الحافر والدافع فالضمان على الدافع وحده، لأن
الحافر لم يقصد بذلك القتلَ عادةً لمعيَّنٍ.
وإن لم يكن التعدّي منهما جميعاً فالضمان على متعدٍّ منهما فقط، فلو كان
الحافر هو المتعدي بحفره دون واضع الحجر، بأن كان وضْعُهُ لمصلحةٍ كوضْعِهِ
في وحْلٍ لتدوس عليه الناس، كان الضمان على الحافر دون واضع الحجر.
(وإن تجاذَبَ حرَّانِ مكلّفان حبلاً) أو نحوَه، كثوبٍ (فانقطع) ما تجاذباه،
(فسقَطا ميّتين، فعلى عاقلةِ كلٍّ) منهما (ديةُ الآخر) سواءٌ أَنكبَّا، أو
استلقيا، أو انكبّ أحدهما واستلقى الآخر. لكن نصف دية المنكبّ على عاقلة
المستلقي مغلّظةً، ونصفُ دية المستلقي على عاقلة المنكبّ مخففةً (1). قاله
في الرعاية.
(وإن اصطَدَما) ولو كانا ضريرين، أو كان أحدهما ضريراً والآخر بصيراً،
فماتا (فكذلك،) أي فعلى عاقلةِ كل واحدٍ منهما دِيَةُ الآخر. روي ذلك عن
عليّ، لأنّ كلَّ واحد منهما ماتَ من صدمةِ صاحبه. وذلك خطأ. فكانتْ دِيَةُ
كل واحد منهما على عاقلة صاحبه.
(ومن أركَبَ صغيريْنِ لا ولايةَ له على واحد منهما، فاصطدما،
__________
(1) إنما وجب لكل منهما نصف الدية فقط لأنه هلك بفعل نفسه وفعل صاحبه
فَيُهدَر فعل نفسه.
(2/331)
فماتا، فديتهما) وما تلف لهما (من مالِهِ)
أي مالِ المُرْكِبِ، لأنَّه متعدٍّ بذلك، وتلفُهما وتلفُ مالهما بسبب
تعدّيه، على الأصح. وقيل: إن ديتهما على عاقلته.
وإن أركبهما وليٌّ لمصْلَحَةٍ، أو ركبا من عند أنفسهما، فديةُ كل منهما على
عاقلة الآخر.
(ومن أرسلَ صغيراً لحاجةٍ فأتلفَ) في إرساله (نفساً أو مالاً فالضَّمانُ
على مرسله.) وإن جُنِي عليه ضمنه المرسِلُ له (1). قال في الفروع: ذَكَر
ذلك في الإِرشاد وغيره. ونقله ابن منصور، إلا أنه قال: ما جنى فعلى الصبي.
انتهى.
(ومنْ ألقى حجراً، أو) ألقى (عِدْلاً مملوءاً بسفينةٍ، فغرقت) السفينة بسبب
ذلك (ضَمِنَ) الملقي (جميعَ ما فيها) في الأصح، لأنه تَلَفٌ حصل بسبب
فعلِهِ، فكان عليه ضمانه، كما لو باشر الإِتلاف.
(ومن اضطُرَّ إلى طعام) إنسان (غيرِ مضْطَرٍّ أو شرابِهِ،) فطلبه، (فمنعه
حتى ماتَ) ضَمِنَه. نصّ عليه. وخرّج على ذلك أبو الخطاب أن كلّ من أمكنه
إنجاءُ نفس من هَلَكَةٍ، فلم يُنْجِهِ منها مع قدرته على ذلك، أنه يضمنه
(2)، (أو أَخَذَ طعامَ غيرِهِ، أو) أخذ (شرابَهُ) أي شراب غيرِهِ، (وهو) أي
المأخوذُ طعامُهُ أو شرابهُ، (عاجز) عن دفعِهِ، فتلف، (أو أَخَذَ
دابَّتَهُ،) ضمِنَ ما تلف من ذلك، لأنه سببُ هلاكِهِ، (أو) أَخَذَ
__________
(1) أي: إن تعذّر تضمين الجاني للجهل به أو كون جنايته هدراً كالبهيمة
والسبع، وإنما يجب تضمين الجاني أولاً لأن الجاني مباشر والمرسل متسبب. ولا
يضمن المتسبب مع إمكان تضمين الجاني.
(2) وهو تخريج ضعيف وهو خلاف المذهب. ويأتي قريباً في كلام الشارح. "لأن
الأول مَنَعَه منعاً كان سبباً في هلاكه، فضمنه بفعله الذي تعدى به (وهو
المنع)، وهاهنا لم يفعل شيئاً يكون سبباً." (المغني 7/ 835)
(2/332)
منه (ما يدْفَع به عن نفسِهِ من سَبُعٍ
ونحوه) كنَمِرٍ وذئْبٍ (1) وحيّةٍ (فأهلكه) ذلك الصائل عليه (ضمنه) الآخِذُ
لما كان يدفع به عن نفسه، لكون ذلك صار سبباً لهلاكه.
ومن أفزع إنساناً أو ضربَهُ ولو صغيراً فأحدث بغائطٍ أو بولٍ أو ريحٍ، ولم
يَدُمْ، فعليهِ ثُلُثُ ديتِهِ (2). (وإن ماتتْ حاملٌ، أو) مات (حملُها، من
ريحِ طعامٍ) ونحوه، كرائحة الكِبْريت، (ضمن ربُّه إن علم ذلك من عادتها) أي
أن الحامل تموتُ، أو يموتُ حملها من ذلك عادة، وأنَّ الحامل هناك، وإلا فلا
إثم ولا ضمان.
فصل
(وإن تلف واقعٌ على نائمٍ غيرِ متعدٍّ بنومه فهدْر، وإن تلف النائمُ فغيرُ
هدرٍ).
وإن وَضَع جَرَّةً على سطحِهِ أو حائطِهِ، ولو متطرّفةً، أو وَضَعَ حجراً
على سطحِهِ أو حائطِهِ، فرمتهما الريحُ على إنسانٍ فقتلته أو على شيءٍ
فأتلفته، لم يضمنه.
(وإن سلَّم بالغٌ عاقِلٌ نَفْسَه، أو) سلَّم (ولدَه إلى سابحٍ حاذقٍ
ليعلّمه) السباحة، (فغرِقَ) لم يضمن الوَلَدَ في الأصَحِّ، ولا من سلَّم
__________
(1) النمر والذئب من السباع، فلو قال "من سبع، كنمر وذئب، ونحوه كحية ..
الخ". لكان أوضح.
(2) قضى به عثمان. وقال به أحمد، قال: لا أعرف شيئاً يدفعه. وعن أحمد رواية
أخرى: لا ضمان، وهو القياس، وهو قول الأكثر. (ش. المنتهى)، إما إن دام فلم
يستمسك منه الغائط أو الريح، فدية كاملة، لأنها قوّة من قوى البدن بطلت
بالجناية. وعلى كلٍّ فقد تعجّل الشارح فذكر المسألة هنا، ولعله لم يتنبّه
إلى أنها ستأتي بعد في المتن (ص 341)
(2/333)
نَفْسَه قولاً واحداً (أو أمَرَ) مكلفٌ أو
غيرُ مكلَّفٍ (مكلَّفاً ينزلُ بئراً أو يصعدُ شجرةً فهلَكَ) بنزولِهِ أو
صعود الشَّجَرَةِ لم يضمنه، (أو تلف أجيرٌ لحفرِ بئرٍ، أو) أجيرٌ لـ (بناء
حائطٍ، بهدمِ ونحوِ، أو أمكنه إنجاء نفسٍ من هَلَكَةٍ، فلم يفعل) لم يضمن،
لأنه لم يفعل شيئاً يكون سبباً، (أو أدَّب ولده) ظاهرُهُ: وإن كان كبيراً،
ويؤيّده ما تقدم أن للأب أن يؤدِّبَ ابنه وإن كان كبيراً: ولم أرَ من ذَكَر
هذا البحث، (أو) أدّب (زوجتَهُ في نشوزٍ) أو أدَّبَ معلمٌ صبيَّه (أو
أدَّبَ سلطانٌ رعيَّتَهُ ولم يُسْرِفْ) أي ولم يزد على الضرب المعتادِ ذلك،
في العدد، ولا في الشدة (فهدْرٌ في الجميع) ووجه ذلك أنه فَعَلَ ما له فعله
شرعاً، ولم يتعدَّ فيه، فلم يضمن سرايته، كما لو كان له عليه قصاص فاقتصّ
منه فسرى إلى نفسه، فإنه لا يضمنُ، كذلك ماهنا.
(وإن أسرفَ، أو زادَ على ما يحصل به المقصود) فتلف بسبب ذلك ضمنه، (أو
ضَرَبَ من لا عَقْل له من صبيٍّ) صغير (أو غيرِه) مما لا عقل له من مجنونٍ
أو معتوهٍ فتلف، (ضمن،) لتعديه في المسألة الأولى بالإِسراف، وعدم الإِذن
من الشارعْ في تأديب من لا عقل له، لعدم حصول المقصود بتأديبه.
(ومن نام على سقفٍ فهوى به) على قومٍ، (لم يضمن ما تلف بسقوطِهِ) لأنه
مُلْجَأٌ لم يتسبب.
فصل (في مقادير ديات النفس)
واحِدُ المقادير مقدارٌ، وهو مَبْلَغُ الشيءِ وقدرُه.
1 - (ديةُ الحرِّ المسلم طفلاً كان أو كبيراً، مائةُ بعيرٍ، أو مائتا
(2/334)
بقرةٍ، أو ألفا شاةٍ، أو ألفُ مثقالٍ
ذهباً، أو اثنا عَشَرَ ألفَ درهمٍ فضةً) قال القاضي: لا يختلف المذهب أن
أصول الدية: الإبل، والذهب، والوَرِقُ، والبَقر، والغنم، ويدل لذلك ما روى
عطاءٌ عن جابرٍ، قال: "فَرَضَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدية
على أهل الإبلِ مائةً من الإِبل، وعلى أهل البقر مائتي بقرةٍ، وعلى أهل
الشاءِ ألفي شاةٍ" (1). رواه أبو داود.
وهذه الخمسة فقط أصولها: إذا أحضَرَ من عليه ديةٌ أحدَها، لزمَ وليَّ
الجنايةِ قبولُها، بغير خلافٍ في المذهب.
وتعتبر السلامةُ من عيبٍ في كل نوع من الإِبل والبقر والغنم، لا أن تبلغ
قيمتُها ديةَ نقدٍ.
2 - (ودية الحرّةِ المسلمة على النصف من ذلك) أي من دية الحرّ، فيكونُ
قدرُها مائةَ بقرةٍ، أو خمسينَ بعيراً، أو ألفَ شاةٍ أو خمسمائةِ مثقالٍ
ذهباً، أو ستَّةَ آلافِ درهمٍ فضةً.
3 - (وديةُ الكتابيّ الحر) سواءٌ كانَ ذمّيًّا أو مُعَاهَداً أو مستأمِناً
(كديةِ الحرّة المسلمة) وكذا جراحُهُ. قاله في المنتهى.
4 - (ودية الكتابيّةِ على النصف) من دية ذكرهم. قال في شرح المقنع: لا
نَعْلَمُ في هذا خلافاً.
5 - (ودية المجوسيّ الحر) ذمّيًّا كان أو مُعَاهَداً أو مستأمِناً
(ثمانُمائَةِ درهمٍ.) وممن قال بذلك عمر وعثمان وابن مسعودٍ وسعيد بن
المسيب وعطاءٌ وعكرمةُ والحسن ومالكٌ والشافعيُّ، رضي الله تعالى عنهم
وعنّا بهم.
6 - (و) دية (المجوسيّةِ على النصْفِ) من دية ذكرهم.
__________
(1) حديث جابر "فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدية .. الخ "
رواه أبو داود وابن ماجه وهو حديث ضعيف (الإِرواء ح 2244)
(2/335)
(ويستوي الذَّكرُ والأنثى) في قطعٍ أو
جَرْحٍ (فيما يوجِبُ دون ثلثِ الدِّية) على الأصحّ، لما روى عمرُو بن
شُعَيبِ عن أبيه عن جده. قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"عَقْلُ المرأةِ مثلُ عَقْلِ الرَّجُلِ حتى يَبلغِ الثلث من ديتها" أخرجه
النسائي (1) (فلو قَطَع ثلاثَ أصابعَ مِنْ حرَّةٍ مسلمةٍ لزمه ثلاثون
بعيراً، فلو قَطَع رابعةً قَبْل بُرْءٍ رُدَّتْ إلى عشرين) قال ربيعة (2):
قلت لسعيد بن المسيب: كم في أصبع المرأة؟ قال: عشرة، قلت: ففي أصبعين؟ قال:
عشرون. قلت: ففي ثلاث أصابع؟ قال: ثلاثون. قلت: ففي أربعِ أصابع؟ قال:
عشرون. قال: فقلت: لما عظمتْ مصيبتُها قلَّ عَقْلُها؟ قال: هكذا السُّنَّةُ
يا ابن أخي.
[تغليظ الدية]
(وتغلّظ ديةُ قتلِ الخطأ) بوقوعِهِ (في كلٍّ مِنْ حَرَمِ مَكَّة، وإحرامٍ،
وشهرٍ حَرَامٍ) فقط (بالثلث) أي ثلثِ ديةٍ. وهذا على الأصح الذي نقله
الجماعة عن الإِمام أحمد. وهو من مفردات المذهب. وقال أبو بكر: إنها
تُغَلَّظ بقتل رَحِمِهِ المَحْرَمِ خطأً. والأول المذهب (3).
(فمع اجتماعِ) حالاتِ التغليظِ (الثلاث يجب) عليه (ديتانِ) لأن القتل تجب
به دية، وقد تكرَّرَ التغليظُ ثلاثَ مراتٍ، فكان الواجبُ دِيَتَيْن.
(وإن قَتَلَ مسلمٌ كافراً) ذمّيًّا ومُعَاهَداً (عَمْداً أُضْعِفَتْ
دِيَتُهُ) أي ديةُ الكافِرِ على المسلم، لإِزالة القود، كما حكم عثمانُ رضي
الله عنه.
__________
(1) حديث "عقلُ المرأة .. الخ " رواه النسائي والدارقطني. وهو حديث ضعيف.
وقال ابن حجر في تلخيص الحبير "قال الشافعي: وكان مالك يذكر أنه السنة،
وكنت أتابعه عليه، ثم علمتُ أنه يريد: سنة أهل المدينة، فرجعتُ عنه"
(الإِرواء ح 2254)
(2) هو ربيعة بن عبد الرحمن شيخ الإِمام مالك وكان يقال له "ربيعة الرأي"
لجودة رأيه.
(3) أي أنها لا تغلظ بشيء غير الأسباب الثلاثة الآنفة الذكر.
(2/336)
روى أحمدُ عن عبدِ الرزّاق عن معمرٍ عن
الزهريّ عن سالم عن أبيه، أن رجلاً قَتَلَ رجلاً من أهل الذمة، فرُفع إلى
عثمانُ، فلم يقتلْهُ، وغَلَّظَ عليه الدية ألف دينار. فذهب إليه أحمد.
ولأحمد رضي الله تعالى عنه نظائر لذلك في مذهبه، فإنه أوجب على الأعْوَرِ
إذا قَلع عينَ صحيحٍ مماثِلةً لعينِهِ ديةً كاملةً، لمّا امتنع عنه القصاص.
وأوجب على سارق الثمر المعلَّق مثليْ قيمتِهِ لمَّا درَأَ عنه القطع.
(وديةُ الرقيقِ قيمتُهُ) ذكراً كان أو أنثى صغيرًا كان أو كبيراً، مدبَّراً
(1) أو مكاتباً، أو أُمَّ ولدٍ، عمداً كان القتل أو خطأ (قلتْ) القيمة (أو
كثرتْ) ولو فوق ديةِ حرٍّ.
فصل [في دية الجنين]
(ومن جنى على حامل) عمداً أو خطأً أو ما يقوم مقام الجنايةِ، كما لو أسقطت
فزعاً من استعداءٍ بطلبها إلى ذي سلطان (فألقَتْ جنيناً) بسبب ذلك في
الحال، أو بقيتْ متألِّمةً حتى سقط، والجنينُ اسمٌ للولد في البطن، مأخوذٌ
من الإجنان، وهو السترِ، لأنه أجَنَّهُ بطنُ أمه، أي سَتَرَه (حرًّا
مسلماً، ذكراً كان أو أنثى، فديته غُرَّةٌ) وهي في الأصلِ: الخِيَارُ،
سُمِّيَ بها العبدُ والأمة، لأنهما من أنْفَسِ الأموال (2).
والأصل في وجوب الغرّة في الجنين ما روى أبو هريرة، قال: اقتتلت امرأتان من
هذيلٍ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر، فقتلتْها وفي
__________
(1) لو قال: "ولو مدبّراً .. الخ " لكان أوضح.
(2) اشترط البعض خارج المذهب أن يكون العبد أو الأمة أبيضين. وقال: لا يقبل
الأسود، إذ لا يسمّى غرة. والعبرة عند الفقهاء أن يكون ثمنه عشر دية أمه.
(2/337)
بطنها جنين. فاختصموا إلى رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -، فقضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن ديةَ جنينِها
عبدٌ أو أمة. وقضى بديةِ المرأةِ على عاقِلَتِها، ووَرَّثَها وَلَدَهَا ومن
معه". متفق عليه، (قيمتها عُشْر دية أمّه، وهي خمسٌ من الإِبل. والغرة هي
عبد أو أمة) ولو قال: "ودية الجنينِ الحرّ المسلمِ غرةٌ عبدٌ أو أمةٌ
قيمتُها خمسٌ من الإِبل" لكانَ أَخْصَرَ.
(وتتعدّد الغُرَّةُ بتعدُّدِ الجنين).
وهي موروثةٌ عن الجنينِ، كأنه سقطَ حيًّا. فلا حقّ فيها لقاتلٍ، ولا كامِلِ
رقٍّ. ولا يقبل فيها خصيٌّ وخنثى ولا معيبٌ عيباً يُرَدُّ به في بيع، ولا
من له دون سبع سنين.
(ودية الجنينِ الرقيقِ عُشْرُ قيمة أمِّهِ) يوم الجناية، نقداً، لأنه جنينُ
آدميّةٍ، وقيمة الأَمَةِ بمنزلةِ دِيةِ الحُرَّة، ولأنه جزءٌ منها، فقُدِّر
بَدَلُهُ من قيمتها كسائر أعضائها.
(ودية الجنين المحكومِ بكفرِه) كجنين الذمّيّة من زوجها الذمّيّ (غرةٌ
قيمتُها عُشْرُ ديةِ أمِّهِ) لأن جنين الحرّة المسلمةِ مضمونٌ بعُشْرِ ديةِ
أمِّهِ، فكذلك جنين الكافرة.
(وإن ألقت الجنينَ حيًّا لوقتٍ يعيشُ لمثلِهِ، وهو نصفُ سنةٍ فصاعداً)، ولو
لم يستهلَّ، ثم مات، (ففيه ما في الحيّ. فإن كان حرًّا ففيه ديةُ) الحرّ
(كاملةً) لأنه حرٌّ ماتَ بجنايةٍ، أشبهَ ما لو باشره بالقتل. (وإن كان
رقيقاً فـ) فيه (قيمتُهُ) لأن قيمة العبدِ بمنزلة الديّة في الحرّ.
(وإن اختلفا) أي الجاني ووليُّ الجناية (في خروجِهِ) أي خروج الجنين (حيًّا
أو ميتاً) بأن قال وليّ الجناية: خرج حيًّا ففيه ديةٌ. وقالَ الجاني:
خَرَجَ ميتاً، ففيه غرة، ولا بيّنة لواحدٍ منهما بما يذكره (فقولُ الجاني)
بيمينه في ذلك، لأنه منكِرٌ، والأصلُ براءَةُ ذمته من الدية الكاملة.
(2/338)
(ويجب في جنين الدابّةِ ما نَقَصَ من قيمةِ
أمِّهِ) قال في القواعد: وقياسه جنينُ الصَّيْدِ في الحَرَم والإِحرام.
ومتى ادعت امرأة علىَ إنسانٍ أنه ضربها فأسقطت جنينَها، فأنكر الضَّرْبَ،
فالقولُ قولُهُ بيمينه، لأن الأصل عدمه.
وإن أقرَّ بالضربِ، أو قامتْ به بيّنةٌ، وأنكر أن تكون أسقطتْ، فالقول
قولُهُ أيضاً بيمينه، أنه لا يعلم أنها أسقطت، لا على البتّ، لأنها يمين
على فعل الغيرِ، والأصل عدمه.
وإن ثبت الإسقاط والضربُ، وادّعى إسقاطها من غير الضَّرْبِ، فإن كانتْ
أسقطتْهُ عقبَ الضَّرْب فالقول قولها بيمينها، لأن الظاهر أنه من الضرب،
لوجودهِ عقب شيء يصلح أن يكون سبباً له.
وكذا إن أسقطته بعدهُ بأيامٍ، وكانت متألّمة إلى حين الإِسقاطِ.
وإن لم تكن متألمة فقولُهُ بيمينه.
فصل (في دية الأعضاء)
(من أتلف ما في الإِنسان منه) شيءٌ (واحدٌ كالأنف)، ولو مع عِوَجِهِ
(واللسانِ) ينطق به كبيرٌ أو يحرّكه صغيرٌ ببكاءٍ، (والذَّكَرِ) ولو لصغيرٍ
أو شيخٍ فَانٍ، (فـ) يكون (فيه ديةٌ كاملةٌ) لأن في إتلافه إذهابَ منفعة
الجنسِ وإتلافَها، كإذهاب النفس في جميع ما ذكر.
(ومن أتلف ما في الإِنسان منه شيئان، كاليدين والرجلين) لأن في إتلافهما
إذهاب منفعة الجنس، فكان فيهما الدية، (والعينين) ولو مع عَمَشٍ أو حَوَلٍ،
(والأذنين) وفاقاً، (والحاجبين والثَّدْيَيْنِ والخصيتين، ففيه) أي في
إتلافهما (الدية؛ وفي أحدهما نصفها) أي نصف الدية (وفي
(2/339)
الأجفان الأربعة الدية، وفي أحدها) أي أحد
الأجفان (ربعها) لأنها أعضاءٌ فيها جمالٌ ظاهر ونفع كامل، فإنها تُكِنُّ
(1) العين، وتحفظها من الحرّ والبرد، ولولا ذلك لقَبُحَ منظر العين، ولو
كانت الأجفان لعينِ أعمى، لأن ذهابَ البصرِ عيبٌ في غير الأجفان.
(وفي أصابع اليدين) إذا قطعت (الديةُ) كاملةً، (وفي أحَدِهَا عُشْرُهَا) أي
عشر الدية.
(وفي الأَنْمُلَةِ) ولو قُطِعَتْ مع ظفرٍ (إن كانت من إبهامٍ نصفُ عُشْرِ
الدية) لأنّ الإِبهام مفصلان، فيكون في كل مفصلٍ نصفُ عقلِ الإِبهام، (وإن
كانتْ) الأنمُلَةُ (من غيرِهَا) أي غيرِ الإِبهام (فثُلُثُ عُشْرِها) أي
ثلث عشر الدية، لأنّ دية الأصبع، وهو عُشْر الدية، تقسم على الأصبع كما
قسمت دية اليد على الأصابع. والأصبع غيرُ الإِبهام ثلاثة مفاصل، فيكون في
كلّ مفصلٍ ثلث دية الأصبعِ غيرِ الإِبهام.
(وكذا) حكم (أصابِعِ الرجليْن).
(و) يجب (في السّنّ) أو الناب أو الضّرس، قُلِعَ بِسِنْخِهِ -بالسين
المهملة والخاء المعجمة- أي بأصله، أو الظاهِرِ فقط- ولو من صغيرٍ ولم
يَعُدْ، أو عادَ أسودَ واستمرّ، أو ابيضّ ثم اسود بلا علة، (خمسٌ من
الإِبل) فيكون في جميعها مائة وستون بعيراً، لأنها اثنان وثلاثون: أربعٌ
ثنايا، وأربعٌ رَبَاعِيَاتٌ، وأربعٌ أنيابٌ، وعشرون ضرساً، في كل جانب
عشرٌ، خمسٌ من فوق، وخمسٌ من أسفل.
(وفي إذهاب نفع عضو من الأعضاء) كاليدين والرجلين والعينين (ديته) أي دية
ذلك العضو (كاملةً)، وفي شفتين صارتا لا تنطبقان على أسنانٍ، أو استرختا
فلم ينفصلا عنها، ديتهما.
__________
(1) في الأصول: "تكف" والتصويب من شرح المنتهى.
(2/340)
فصل (في دية المنافع)
لما تمّم الكلامَ على ديات الأعضاء، كالأنف والأذن واليد والرجل، ونحو ذلك،
شرع يتكلم على ديات المنافع، وهي: السمع والبصر والشمّ والذوق ونحوها،
فقال: (تجب الدية كاملةً في إذهاب كلُّ من سَمْعٍ وبصرٍ وشمٍّ وذوق) بيانٌ
للمنافع (وكلامٍ) فمن جنى على إنسان، فخَرِسَ، وجبت عليه ديته، لأن كلّ ما
تعلقت الدية بإتلافه تعلقت بإتلاف منفعته، كاليد. (وعقلٍ) قال بعضهم
بالإِجماع: لأنه أكبر المعاني قدراً، وأعظَمُ الحواسِّ نفعاً، فإنه يتميز
به الإِنسان عن البهائم، وتعرف به صحة حقائق المعلومات، ويهتدى به ألى
المصالح، ويدخل به في التكليف، وهو شرطٌ في ثبوتِ الولايات وصحّة التصرّفات
وأداء العبادات، فكان أولى من بقية الحواس.
(و) تجب الدية كاملةً أيضاً في (حَدَبٍ) بفتح المهملتين لأن بذلك تذهب
المنفعة والجمال، لأن انتصاب القامة من الكمالِ والجمالِ، وبه يتشرّف
الآدميّ على سائر الحيوانات (ومنفعةِ مَشْيٍ) لأن منفعته مقصودة، أشبه
الكلام.
وتجب في صَعَرٍ، بأن يُضْرَبَ الإِنسان فيصيرُ وجهه في جانب.
(و) تجب كاملةً في منفعة (نكاحٍ) فإذا كُسِرَ صُلْبُهُ فذهب نكاحُهُ ففيه
الدية، (و) في منفعةِ (أكلٍ) لأنه نفعٌ مقصود كالشمّ، (و) في ذهاب منفعة
(صوتٍ، و) كذا في ذهابِ منفعةِ (بطشٍ) لأن في كل منهما نفعاً مقصوداً.
(وإن أَفْزَعَ إنساناً، أو ضَرَبَهُ) ولو صغيراً (فأحدَثَ بغائطٍ، أو) أحدث
(ببولٍ، أو) أحدث (بريحٍ، ولم يَدُمْ فعليهِ ثُلُثُ الديّةِ. وإن دام فعليه
الدية) كاملةً.
(2/341)
(وإن جنى عليه، فأذهب سمعه وبصره وعقله
وشمّه وذوقَه وكلامه ونكاحه فعليه سبعُ دياتٍ،) لكلّ واحدٍ دية كاملة (و)
عليه (أرشُ تلك الجناية) التي جناها عليه.
(وإن مات) المجنيّ عليه (من الجناية فعليه) أي على الجاني (دية واحدة).
فصل (في دية الشَّجّةِ والجائفة)
(الشَّجَّةُ) واحدةُ الشَّجَاجِ (اسمٌ لجرحِ الرأس والوجه) خاصّةً. سميت
بذلك لأنها قطع الجلد. فأما في غير الوَجْهِ والرأس فيسمّى جرحاً، ولا يسمى
شجة. وهي عشرة: خمسٌ فيها حُكُومَةٌ:
الحارصة: التي تَحْرِصُ الجلدَ، أي تشقُّه ولا تُدْمِيهِ.
ثم البازلة: الدامية الدامعة، وهي التي تُدْمي الجلد.
ثم الباضعة: التي تَبْضَعُ اللَّحْم.
ثم المُتَلاحِمَة: الغائصة في اللحم.
ثم السمحاق: وهي التي بينها وبين العظم قشرة رقيقة تسمّى السِّمحاق.
والحكومة أن يقوّم مجنيٌّ عليه كأنه قنٌّ لا جناية به، ثم يقوّم وهي به قد
برئت. فما نقصَ من القيمة فللمجنيّ عليه على الجاني كنسبته من الدية. ولا
يُبْلَغُ بحكومةِ محلًّ له مقدّرٌ مقدَّرُهُ.
وخمسةٌ فيها مقدّر، وهي ما أشار إليها بقوله:
(وهي خمسةٌ) (1):
__________
(1) أي خمسة جراحٍ (جمع جرح) وإلا فحقه أن يقول: خمس (جراحاتٍ).
(2/342)
(أحَدُها الموضحة): وهي (التي توضح العظم
وتبرزه) ولو بقدر إبرة لمن ينظر ذلك، ذكره ابن القاسم والقاضي، واعتمده في
المنتهى. والوَضَحُ البياض. يعني: أبدَتْ بياضَ العظم.
(وفيها نصف عُشْرِ الدية) أي دية الحرِّ المسلم. وذلك (خمسةُ أبعرةٍ).
ولا فَرْقَ في ذلك بين كونِ الموضِحة في الرأس أو الوجه.
(فإن كان بعضُها في الرأس وبعضها في الوجه فموضِحَتَانِ) لأنه أوضَحَهُ في
عُضْوين، فكان لكلِّ واحدٍ منهما حكم نفسه.
(الثاني: الهاشمة): وهي (التي تُوضِح العظم)، أي تبرزه (وتَهْشِمُه) أي
تكسره.
(وفيها عشرة أبعرة).
وتستوي الهاشمة الصغيرةُ والكبيرةُ، كالموضحة.
(الثالث: المنقّلة): وهي (التي تُوضِح) العظم (وتهشِمُ) العظم (وتَنْقُلُ
العظم).
(وفيها خمسةَ عشَرَ بعيراً) بإجماعٍ من أهلِ العلم. حكاه ابنُ المنذر.
(الرابع: المأمومة،) وهي الشجَّة (التي تصلُ إلى جِلدةِ الدماغِ) وتسمى
الآمَّةُ، بالمدّ. وتسمى أيضاً أمّ الدماغ (1).
(وفيها ثلث الدية).
__________
(1) كذا في الأصول وشرح المنتهى. ولكن هذا خُلْفٌ من القول؛ فإن الآمة هي
الشّجة التي تبلغ أمّ الدماغ، وأم الدماغ الجلدة التي تجمع الدماغ، وتسمى
تلك الشجة أيضاً المأمومة. وأنكر بعضهم أن تسمّى تلك الشجّة المأمومة، بل
المأمومة الجلدة التي أَمَّتْ. هذا ما ينص عليه أهل اللغة (اللسان) فالقول
بأن تلك الشجّة تسمّى أمّ الدماغ لا قائل به، ولعله أراد: أن أم الدماغ
تسمى إذا وصلت الشجّة إليها مأمومة، فانقلب عليه القول.
(2/343)
(الخامس: الدامغة) وهي الشجَّة (التي تخرِق
الجلدة)، يعني جلدة الدماغ.
(وفيها الثلث أيضاً) يعني: ثلث الدية، كالمأمومة.
فصل
(وفي الجائفة ثُلُثُ الدية. وهي كل ما) أي جرحٍ (يصل إلى الجوف) وهو ما
بَطَنَ منه مما لا يظهر للرائي، (كـ) داخِلِ (بطنٍ) ولو لم يخرق مَعًى، (و)
داخلِ (ظهرٍ وصدرٍ وحَلقٍ) ومثانةٍ وبين خصيتين وداخل دُبُر.
(وإن جَرَحَ جانباً فخرج) السهم الذي جرح به أو نحوه (من) الجانب (الآخر،
فجائفتان) نصّ عليه أحمد. وقيل: واحدة.
(ومن وطئ زوجةً صغيرةً لا يوطأ مثلها)، أو نحيفةً لا يوطأ مثلها (فخرق)
بوطئِهِ (ما بين مخرَجِ بولٍ و) مخرج (منيٍّ، أو) خَرَقَ بوطئِهِ (ما بين
السبيلين، فعليه الدية) كاملة، (إن لم يستمسِكِ البول) بسبب ذلك، لأن للبول
مكاناً من البدن يجتمع فيه للخروج، فعدم إمساكِ البول إبطال لنفع ذلك
المحل، فيجب فيه الدية، كما لو لم يستمسك الغائط. (وإلا) بأن كان البول
يستمسكُ (ف) هي (جائفةٌ) فيها ثلت الدية.
(وإن كانت) الزوجة (ممن يُوطأ مثلها لمثله، أو) كانت الموطوءة (أجنبية) أي
غير زوجة (كبيرةً مطاوعةً، ولا شبهة) للواطئ في وطئها (فوقع ذلك) بأن خرق
ما بين السبيلين، أو ما بين مخرج بول ومنيّ، (فَهَدْرٌ) لأنه ضرر حصل من
فعلٍ مأذونٍ فيه، فلم يضمنه كأرش بكارتها، ومهر مثلها، كما لو كانت أذنت في
قطع يدها فسرى القطع إلى نفسها.
(2/344)
باب العَاقلة ومَا تحمله
وهي مَنْ غَرِمَ ثلث ديةٍ فأكثر، بسببِ جنايةِ غيره.
(وهي: ذكورُ عصبةِ الجاني نسباً وولاءً) حتى عمودي نسبه، وحتى مَنْ بَعُدَ
كابن ابن عم أبي جدّ الجاني (1) سواء كان الجاني رجلاً أو امرأة.
(ولا تحمل العاقلة عمداً) سواءٌ كان مما يجب القصاص فيه أو لا يجب،
كالمأمومة والجائفة.
(ولا) تحمل (عبداً) قُتِلَ عمدًا، أو خطأً، ولا ديةَ طرفِهِ، ولا جنايته.
(ولا) تحمل العاقلة (إقراراً) بأن يقرّ على نفسه بجنايةِ خطأٍ أو شبهِ عمدٍ
توجب ثلثَ الديةِ فأكثر، إن لم تصدّقه العاقلة. قاله في الإِقناع.
(ولا) تحمل (ما دونَ ثلثِ ديةِ ذكرٍ مسلمٍ) كأرش الموضحة. نصّ على ذلك،
لقضاء عمر: أنها لا تحمل شيئاً حتى يبلغَ عقلَ المأمومةِ، ولأن الأصل وجوب
الضمان على الجاني، لأنه هو المتلف، فكان عليه، كسائر المتلِفِينَ، لكن
خولف في ثلث الدية فأكثر، بإجحافه بالجاني،
__________
(1) كذا في الأصول، وليس في شرح المنتهى لفظ "أبي".
(2/345)
لكثرته. فيبقى ما عداه على الأصل، ولأن
الثلث حد الكثيرِ، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والثلث كثير" (1).
(ولا) تحمل (قيمةَ مُتْلَفٍ).
(وتحمل) العاقلة (الخطأ وشبهَ العمدِ مؤجّلاً) عليها (في ثلاثِ سنينِ) لقول
عمر وعليّ في دية الخطأ، ولم يعرف لهما مخالف، فكان كالإِجماع.
(وابتداءُ حول القَتْل من) حين (الزهوقِ) أي زهوقِ الروح، (و) ابتداء حول
(الجرح من) حين (البرء) أي برء الجرح، لأن أرش الجرح لا يستقر إلاَّ
ببُرئِهِ.
وقال القاضي: إن لم يَسْرِ الجرح إلى شيء، فحوله من حين القطع.
(ويبدأ) في التحميل (بالأقرب فالأقرب، كالإِرث) فيقسم على الآباءِ
والأبناء، ثم على الإِخوة، ثم بني الإِخوة، ثم على الأعمام، ثم بنيهم، ثم
أعمام الأب، ثم بنيهم، ثم أعمام الجدّ، ثم بنيهم، كذلك أبداً، حتى إذا
انقرض المناسبون فعلى المَوْلى المعتِقِ، ثم على عصباتِهِ الأقرب فالأقرب،
لأن ذلك حكمٌ يتعلق بالتعصيب، فوجب أن يقدّم فيه الأقرب فالأقرب كالميراث.
(ولا يعتبر) في العاقلة (أن يكونوا وارثين) في حال العقل (لمن يعقِلونَ
عنه، بل متى كانوا يرثون لولا الحجْبُ عَقَلُوا) لأنهم عصبة، أشبهوا سائر
العصبات. يحقّقه أن العقْلَ موضوعٌ على التناصر، وهم من أهله.
__________
(1) حديث "الثلث والثلث كثير" قاله - صلى الله عليه وسلم - لسعدٍ حين أراد
أن يتصدق بكل ماله، وللحديث قصة. رواها البخاري وأبو داود.
(2/346)
(ولا عقل على فقيرٍ) ولو كان مُعْتَمِلاً،
لأن تحمُّل العقل مواساةٌ، فلا يلزم الفقيرَ، كالزكاة. ولأنها وجبت على
العاقلة تخفيفاً على القاتل، فلا يجوز التثقيل بها على من لا جناية منه.
وفي إيجابها على الفقير تثقيل عليه، وتكليف بما لا يقدر عليه، وإنما تجب
على الموسر.
والموسِرُ هنا من مَلك نصاباً فاضلاً عن حاجته كحجٍّ (1) وكفارة، ظهار.
(و) لا عقل على (صبيٍّ ومجنونٍ) يعني أنهما لا يحملان شيئاً من العقل،
لأنهما وإن كانا لهما مال فليسا من أهل النصرة والمعاضدة، لعدم العقل
الباعث لهما على ذلك، (وامرأةٍ ولو معتِقَةً) وخنثى لأنهما ليسا من أهل
المعاضدة.
(ومن لا عاقلة له، أو) كان (له) عاقلة (وعجزت) عن جميع ما وجب بخطئِهِ أو
تتمَّتِهِ، (فلا ديةَ عليه. وتكون في بيت المال) حالَّةً، إن كان مسلماً.
وإن كان كافراً كان الواجب أو تتمته عليه (2). (كديةِ من ماتَ في زحمةٍ
كجمعةٍ و) زحمةِ (طوافٍ).
(فإن تعذّر الأخذ منه) أي من بيت المال (سقطت).
__________
(1) كلمة "كحجّ" ساقطة من (ب، ص) وثابتة في (ف).
(2) أي علي الجاني نفسه، لأن بيت مال المسلمين لا يتحمّل الدية عن كافر.
(2/347)
باب كفّارة القتل
سميت بذلك أخذاً من الكَفْرِ، بفتح الكاف، وهو السَّتْرُ، لأنها تغطي الذنب
وتستره.
(ولا كفّارةَ في) القتل (العمدِ) المحضِ. (وتجب) الكفارة (فيما دونه). قال
في الإِقناع وشرحه: من قَتَل نفساً محرّمةً، أو شارك فيها، أو نَفْسَهُ، أو
قِنَّهُ، أو مستأمناً، أو معاهَداً (1)، خطأً أو ما جرى مجراه، أو شبهَ
عمدٍ، أو قَتَلَ بسببٍ في حياته، أو بعد موته، كحفرِ بئرٍ، ونَصْبِ سكّينٍ،
وشهادةِ زورٍ، لا في قتلِ عمدٍ محضٍ، ولا في قتل أسيرٍ حربيٍّ يمكنه أن
يأتي به الإِمام، فقتله قبله، ولا في قتل نساء حربِ وذريتهم، ولا في قتل من
لم تبلغه الدعوة، إن وُجِدَ كفّارةٌ كاملةٌ في ماله. انتهى. (في مال
القاتلِ لنفسٍ محرّمة. ولو) كانَ المقتولُ (جنيناً) كما لو ضربَ بَطْنَ
امرأةٍ فألقت جنيناً مَيْتاً، أو حيًّا ثم مات، لأنه قتل نفساً محرّمة أشبه
قتل الآدمي بالمباشرة.
__________
(1) وقال الحسن ومالك: لا تجب الكفارة بقتل كافرٍ، لقوله تعالى {وَمَنْ
قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} فمفهومه أن لا
كفارة في غير المؤمن (مغني 8/ 93) وهذا عندي أولى، لأن آيات الكفارة كلها
تتحدث عن قتل المؤمن خاصة. والحكمة أن النفس التي فَوَّتها بقتله الخطأ أو
شبهِهِ، كانت مؤمنة تعبد الله وتوحّده، فناسب أن يعتق رقبة مؤمنة، فيطلقها
من أسر الرّقّ لتعبد الله تعالى.
(2/348)
ولا كفارة بإلقاء مضغة لم تتصوّر.
(ويكفّر الرقيق بالصوم،) لأنه لا ملك له.
(و) يكفّر (الكافر بالعتق).
(ويكفّر غيرهما) أي غير الرقيقِ والكافرِ (بعتقِ رقبةٍ مؤمنةٍ) سليمة.
وتَقَدَّم.
(فإن لم يجد) رقبةً (فـ) يلزمه (صيامُ شهرين متتابعين).
(ولا إطعام هنا) أي في كفارة القتل.
(وتتعدَّدُ الكفارة بتعدّد المقتول) فعلى من قتل اثنينِ كفارتان، وعلى من
قتل ثلاثةً ثلاثُ كفّارات. وهكذا. لأنّ كل قتلٍ يقوم بنفسه غيرَ متعلّقٍ
بغيره، فوجب أن يكون في كل قتلٍ كفارةٌ، كما يجب في كل قتلٍ ديةٌ، وكما يجب
في كل قتلِ صيدٍ جزاءٌ. وتقدَّم.
(ولا كفارةَ على من قَتَل من يباحُ قتلُه كزانٍ محصَنٍ ومرتدٍّ، وحربيٍّ
وباغٍ وقصاصٍ ودفعاً عن نفسه) لأن قتل هؤلاء لا يحرم.
(2/349)
|