نَيْلُ
المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب كتَاب الحُدود
وهو جمع حدٍّ. والحدّ لغةً: المنع. وحدود الله تعالي مَحَارِمُه، لقوله
تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا}.
وهي ما حدّه سبحانه وتعالى وقدّره، فلا يجوزُ أن تُتَعَدَّى، كتزويجِ أربعٍ
ونحوِهِ، وما حده الشرع فلا يجوز فيه الزيادة والنقصان.
قال في المنتهى: وهو في عرف أهل الشرع: عقوبةٌ مقدّرة شرعاً في معصيةٍ
لتمنع من الوقوع في مثلها. انتهى.
(لا حدّ إلاَّ على مكلّفٍ) وهو البالغ العاقل، لأنه إذا سَقَطَ عن غيرِ
البالغ العاقل التكليفُ في العبادات، والإِثمُ في المعاصي، فالحدُّ
المبنيُّ على الدرء بالشبهاتِ أولى.
لكن إن كان المجنونُ يفيقُ في وقتٍ، فأقَرَّ فيه أنه زنى في حال إفاقته
أُخِذَ بما أقرّ به، وحُدَّ. أما لو أقرّ أنه زنى، ولم يضِفْهُ إلى حالٍ،
أو شهدَتْ عليه بيّنة أنه زنى ولم تُضِفْهُ إلى حالِ إفاقته، فلا حدَّ،
للاحتمال.
وكذا لا يجب على نائمٍ ونائمةٍ.
ولا يجبُ الحدُّ أيضاً إلا على (ملتزم) أحكامَ المسلمين، ليخرج الحربيُّ
والمستأمن. أما الذميّ فهو داخل في ذلك.
(2/350)
ولا يجب أيضاً إلا على (عالم بالتحريم) قال
عمر وعثمان وعلي رضي الله تعالى عنهم: لا حدّ إلا على من علمه. ولا فرق في
ذلك بين جهله تحريمَ الزنا. وتحريمَ عينِ المرأة، مثل أن تُزَفَّ إليه غير
زوجته، فيظنها امرأته، فيطأها، أو تدفع إليه جاريةُ غيرِهِ فيتركها مع
جواريه، ثم يطؤها ظانًّا أنها من جواريه التي يملكهنّ، فلا يجب عليه حدٌّ
بذلك.
(وتحرُمُ الشَّفَاعَةُ وقبولها في حدّ اللَهِ) سبحانه و (تعالى بعد أن
يبلغَ) أي يثبت عند (الإِمام). قال في المستوعب: ولا يجوز للِإمام أن يقبلَ
شفاعةً فيما هو حق الله سبحانه وتعالى من الحدود، ولا يعفوَ عنه. وحَرُمت
الشفاعة لكونها طلبَ فعلٍ يحرم على من طلبه منه.
(وتجب إقامة الحدّ، ولو كان من يقيمه شريكاً) أو عوناً (في) تلك (المعصية)
قاله الشيخ. واحتجّ بما ذكره العلماء من أصحابنا وغيرهم: أنّ الأمر
بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يسقط بذلك، بل عليه أن يأمر وينهى، ولا
يجمع بين معصيتين.
(ولا يقيمه إلا الإِمام أو نائبه) سواء كان الحدّ لله تعالى، كحدّ الزنا،
أو لآدمي، كحدّ القذف، لأنه استيفاء حقٍّ يفتقر إلى الاجتهاد، ولا يؤمَنُ
من استيفائِهِ الحيْفُ، فوجب تفويضه إلى نائب الله تعالى في خلقه (1). ولأن
النبي - صلى الله عليه وسلم - عَدَد الشفْعِ والوِتر (2) كانَ يقيمُ الحدَّ
في حياتِهِ، وخلفاؤُه من بعده. ويقوم نائب الإِمام في ذلك مقامَهُ، لأن
النبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال: "واغْدُ يا أُنَيْسُ -لرجل من أسلم-
إلى امرأةِ هذا، فإن
__________
(1) ليس الإمام نائب الله تعالى في خلقه، بل هو نائب الأمة في تنفيذ شريعة
الله فيها، بدليل أن إمامته تنعقد ببيعتهم، والبيعة عقد بينه وبينهم لا
بينه وبين الله تعالى.
(2) عبارة "عدد الشفع والوتر" ليست في شرح المنتهى. والمراد بها كثرة وقوع
ذلك منه - صلى الله عليه وسلم -.
(2/351)
اعترفتْ فارجُمْها" (1). وأَمَرَ أيضاً
برجْمِ ماعزٍ (2) ولم يحضره. (و) إلا (السيّد) الحرّ المكلف العالم بإقامة
الحدّ، وبشروطه (على رقيقِهِ) ولو كان السيِّدُ فاسقاً أو امرأةً، بجلدٍ،
وإقامةِ تعزيرٍ ما لم تكن الأمة مزوّجةً.
(وتحرم إقامتُه) أي إقامةُ الحد (في المسجد) لأنه لا يؤمَنُ أن يَحْدُثَ من
المحدود شيء يتلوث به المسجد.
فإن أقيم فيه لم يُعَدْ، لحصول المقصود بالإِقامةِ، وهو الزَّجر.
(وأَشَدُّهُ) أي أشدّ الجلدِ في الحدود (جلدُ الزِّنا، فـ) جلد (القذْف،
فـ) جلدُ (الشُّرب،) نصّ على ذلك، (فـ) جلدُ (التعزير لأن الله تعالى خصّ
الزنا بمزيد تأكيد, بقوله تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفْةٌ فِي
دِينِ اللهِ} فاقتضى مزيدَ تأكيدٍ. ولا يمكن ذلك في العدد. فيكون في الصفة.
ولأن ما دونه أخفُّ منه في العددِ، فلا يجوز أن يزيد عليه في إيلامه
ووجعِهِ. وهذا دليل على أن ما خفّ في عدده كان أخفّ في صفته.
[صفة إقامة الحد]
(ويضرب الرجلُ) الحدّ حال كونه (قائماً) على الأصحّ، لأن قيامه وسيلة إلى
إعطاء كلِ عضوٍ حظّه من الضرب، (بالسوط)، قال في شرح المهذب للحنفية: السوط
فوق القضيبِ ودونَ العصا. وقال في المبدع: ومن المختار لهم: بسوطٍ لا ثمرةَ
لهَ، أي يابس (3)، فتعيّن أن يكون من
__________
(1) حديث: "واغدُ يا أنيس .. الخ" رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن من حديث
أبي هريرة وتمامه "فغدا عليها، فاعترفت، فأمر بها رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فرجمت" (إحكام الأحكام شرح العمدة 2/ 256).
(2) حديث رجم ماعز الذي اعترف بالزنا رواه البخاري ومسلم من حديث أبي
هريرة. وروى قصته أيضاً: جابر بن سمرة، وابن عباس، وأبو سعيد الخدري،
وبريدة.
(3) تفسير الذي لا ثمرة له باليابس خلاف ما عليه أهل اللغة. فثمرة السوط
عندهم العقدة في طرفه. كذا في اللسان. وعليه فلا يتعين ما عيّنه.
(2/352)
غير الجلد. انتهى.
ولا يبالغ في الضرب بحيث يشق الجلد.
(ويجب) في الجلد (اتّقاءُ الوجه، و) اتقاء (الرأس، و) اتقاء (الفرج، و)
اتقاء (المقتل) كالفؤاد والخصيتين، لأنه ربما أدّى ضربه في شيء من هذه
الأعضاء إلى قتله أو ذهاب منفعته. والمقصود أدبه لا غيره.
(وتضرب المرأة) لحدّ حال كونها (جالسةً) لقول عليّ كرّم الله وجهه: تضرَبُ
المرأة جالسةً، والرجل قائماً.
(وتُشَدُّ عليها ثيابُها، وتمسَكُ يداها) لئلا تنكشف، لأن المرأة عورة،
وفعل ذلك أستر لها.
(ويحرم بعد) إقامة (الحد حبسٌ وإيذاءٌ بكلامٍ) أي أن يُحْبَس المحدود. نص
عليه. أو يؤذى بكلامٍ، كالتعيير، على كلامِ القاضي.
[الحد وإسقاط الإِثم]
(والحدُّ) المقدَّر في ذنبٍ (كفارةٌ لذلك الذنب) نص عليه. (ومن أتى حدًّا
سَتَرَ نفسَهُ ولم يُسَنَّ أَن يُقِرَّ به عند الحاكم) نَقَل مُهَنَّا في
رجلٍ زنى، فذهب ليقرّ: قال (1): بل يستر نفسَهُ. واستحب القاضي إن شاعَ
رَفْعَهُ إلى حاكم، ليقيمه عليه. قال ابن حامد: إن تعلّقت التوبةُ بظاهرٍ
كالصَّلاةِ والزكاةِ أظْهَرَهَا للحاكِم، وإلاَّ أسرَّ.
[تداخل الحدود]
(وإن اجتمعت حدودٌ لله تعالى من جنسٍ) واحد، بأن زنى مراراً، أو سرق
مراراً، أو شرب مراراً (تداخلت) فلا يُحَدُّ سوى مرةٍ. قال ابن
__________
(1) يعني: قال أحمد.
(2/353)
المنذر: أجمع على هذا كلُّ من يحفظ عنه من
أهل العلم. وذلك لأنّ الغرض الزجر عن إتيان مثلِ ذلِكَ في المستقبل، وهو
حاصِلٌ بالحدّ الواحِدِ، لأن الواجِبَ هنا من جنس واحد، فوجَبَ التداخُلُ،
كالكفّارات من جنسٍ واحدٍ.
(و) إن اجتمعت حدودٌ لله تعالى (من أجناسٍ) ولم يكن فيها قتلٌ، كمن زنى وهو
غيرُ محصن، وشَرِب الخمر (1)، وسرق (فلا) تتداخل، بل يجب أن يُبْدَأ
بالأخفّ فالأخف، فيحدّ للشرب أولاً، ثم يحدّ للزنا، ثم يُقْطَعُ
للسَّرِقَة.
وإن كان فيها قتلٌ استوفي وحده.
وتستوفى حقوقُ الآدميِّ كلُّها سواء كان فيها قتلٌ أو لم يكن [ويبدأ بغيرِ
قتلٍ بالأخف فالأخف، وجوباً]. (2)
__________
(1) (ب، ص): أو شرب. والتصويب من (ف).
(2) ما بين المعقوفين ثابت في (ف) ساقط من (ب، ص).
(2/354)
باب حَدّ الزّنَا
الزنا (هو فعلُ الفاحِشةِ في قُبلٍ أو دُبرٍ.)
وهو من أكبر الكبائر. وقد أجْمَعَ المسلمون على تحريمه، لقوله تعالى:
{وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا إنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} (1)
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا
يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بالحَقِّ وَلاَ
يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ
العَذَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا}.
(فإذا زنى) المكلف (المحصنُ وجب رَجمه حتى يموت) لأنه ثبت عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - الرجم، بقوله وفعله. في أخبار كثيرة. وأجمع عليه أصحاب
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(والمحصَنُ هو من وَطِئَ زوجته في قُبُلِها بنكاحٍ صحيحٍ) ولو كتابيّةً،
ولو في حيضٍ، أو صومٍ، أو إحرامٍ، أو في المسجد، أو في النفاس، (وهما) أي
الزوجان (حرّان مكلَّفَانِ) ولو ذميين أو مستأمِنَيْنِ حالَ الوطءِ.
إذا علمتَ ذلك فيشترط للإِحصان سبعة شروط:
__________
(1) في الأصول كلّها (إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً) وليس في الآية
(مقتاً) أصلاً.
(2/355)
أحدها: الوطءُ في القبل.
الثاني: أن يكون الوطء في نكاح. ولا خلاف بين أهل العلم في أن وطءَ الزنا
والشُّبْهَةِ والتّسري لا يصيرُ به الواطئُ محصناً.
الثالث: أن يكونَ النكاحُ صحيحا ًوفاقاً لمالكٍ والشافعي.
الرابع: الحرية.
الخامس: البلوغ.
السادس: العقل.
السابع: أن يوجد الكمال في الزوجين حال الوطء، بأن يطأ الزوجُ العاقل
الحرُّ زوجتَه العاقلة الحرة.
وأما الإِسلام فليس بشرطٍ للإِحصان على الأصح.
(وإن زنى الحرّ غيرُ المحصنِ جُلِدَ مائةَ جلدةٍ) بلا خلاف، (وغُرِّبَ
عاماً) إلى مسافةِ قصرٍ سواء كان الزاني مسلماً أو كافراً، لأنه حدٌّ
ترتَّب على الزنا، فوجب على الكافر، كوجوب القود في القتل، والقطعِ في
السرقة.
(وإن زنى الرقيق) أي كاملُ الرقّ (جُلد خمسين) جلدةً، لقوله تعالى:
{فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ} والعذاب
المذكور في القرآن مائةُ جلدةٍ لا غير. فينصرف التنصيف إليه، دون غيره،
بدليل أنه لا ينصرف إلى تنصيفِ الرجم، لتعذر تنصيفه.
(ولا يغرّب) لأن التغريب في حق القن عقوبةٌ لسيّده دونه، لأنه غريبٌ في
موضعه، ويترفّه، أي يتنعم، بتغريبه من الخدمة، ويتضرّر سيّدُهُ بتفويتِ
خِدمتِهِ والإِنفاق عليه، مع بعده عنه، فيصيرُ الحد مشروعاً في حقّ غير
الزاني، والضرر على غير الجاني.
والمبعَّض يُجْلَد ويغرَّب بحسابه.
(2/356)
(وإن زنى الذمي بمسلمةٍ قُتِلَ) لأنه انتقض
عهدُه. وتقدم في الجهاد.
(وإن زنى الحربيّ فلا شيء عليه) من جهة الزنا، لأنه مُهْدَرُ الدم، ولأنه
غير ملتزِم للأحكام.
(وإن زنى) المحصَنُ بغير المحصنةِ (فلكلٍّ) من المحصن وغيره (حدُّه).
(ومن زنى ببهيمةٍ) ولو سمكةً (عُزِّر) فقط، وقُتلَتْ، لكن لا تقتل إلا
بالشهادة على فعله بها إن لم يكن يملكها.
ويحرُم أكلُها، فيضمنها بقيمتها كاملةً.
(وشرط وجوب الحد ثلاثةٌ):
(أحدها: تغييب الحشفة) الأصلية، ولو كانت من خصيٍّ، (أو) تغييبُ (قدرها) أي
قدر الحشفة لعدم وجود الحشفة، (في فرجٍ أصليٍّ، أو دُبُرٍ لآدميٍّ حيٍّ)،
فقوله "تغييب" احترازٌ ممن لم يغيِّبْ، كأن أصاب بذكره بابَ الفرْجِ. وقوله
"الحشفة" احترازاً عمن غيّبَ بعضَها فإن ذلك لا يسمّى زنا، إذ الوطء لا يتم
بدون تغييب جميع الحشفة، لأنه القدر الذي تثبتُ به أحكامُ الوطءِ في
القُبُل وغيرِهِ. وقوله: "أو دبر" ليدخل اللّواط ووطءُ المرأة في الدبر،
لأنه فاحشة.
وعُلِمَ مما تقدّم أنّ من وطئَ أجنبيَّةً لا تحلُّ له دون الفرْجِ، لم
يلزمْه حدّ.
(الثاني) من شروط حد الزنا: (انتفاء الشبهةِ) فلو وطئ زوجتَهُ في حيض، أو
نفاس، أو أمته المحرَّمَةَ أبداً برضاعٍ أو غيرِهِ، أو المزوَّجَةَ، أو
المعتَدَّةَ، أو أمةً له، أو لمكاتَبِهِ، أو لبيتِ المال فيها شِرْكٌ، أو
في نكاحٍ، أو ملكٍ مختَلَفٍ فيه، وهو يعتقد تحريمه، أو امرأةً وجدَهَا على
(2/357)
فراشه، أو في منزله ظنّها زوجتَهُ أو
أَمَتَهُ فلا حدّ عليه.
(الثالث) من شروط حد الزنا: (ثبوتُه) أي ثبوت الزنا. وله صورتان:
أشار للأولى بقوله: (إما بإقرارٍ) من مكلّف (أربعَ مراتٍ) ولو كان
الاعترافُ في مجالس، لأن ماعزاً أقرّ عندَه [- صلى الله عليه وسلم -]
أربعاً في مجلس واحدٍ، والغامديّة أقرت عنده بذلك في مجالس (1) (و) يعتبرُ
أن (يستمرّ على إقراره) حتى يتمّ الحدّ، لأن من شرط إقامة الحدّ بالإِقرار
البقاء عليه إلى تمام الحدّ.
وأشار للثانية بقوله: (أو بشهادةِ أربعةِ رجالٍ عدول) في مجلسٍ واحد، ولو
جاؤوا متفرقين، بزنا، واحد ويصفونه.
ويعتبر في ثبوته بالشهادة عليه خمسةُ شروط:
الشرط الأول: أن يكون الشهود أربعة.
الثاني: أن يكونوا رجالاً كلهم.
الثالث: أن يكونوا عدولاً، فلا تقبل شهادة مستور الحال، لجواز أن يكون
فاسقاً.
الرابع: أن يشهدوا في مجلسٍ واحد.
الخامس: أن يصف الشهودُ صورَة الزّنا، فيقولون: رأينا ذكره في فرجها
كالمِرْوَد في المكحلة.
(فإن كان أحدهم غير عدلٍ، حُدُّوا للقذف) كلهم.
(وإن شهد أربعةٌ بزناه) أي بزنا فلانٍ (بفلانَةَ، فشهد أربعة آخرون أن
الشهود) الأربعة (هم الزناة بها) دون من شهدوا عليه، (صُدِّقوا) ولم
يُحَدَّ الرجلُ المشهودُ عليه، لأن الشهود الآخرين قدحوا فيمن شهد عليه.
__________
(1) روى ذلك مسلم والدارقطني من حديث بُرَيْدَةَ (شرح المنتهى 3/ 347)
(2/358)
ولهذا قال: (وحُدَّ الأولون فقط) أي دون من
شهدوا عليهما من فلان وفلانة (1)، (للقذف، والزنا،) لأن الزنا ثبت عليهم
بشهادةِ الآخَرين، فوجب الحدُّ عليهم لذلك، ويجب عليهم حدّ القذف لأنهم
شهدوا بزناً لم يثبت.
(وإن حَمَلَتْ من) أي امرأة (لا زوجَ لها، ولا سيّد لم يلزمْهَا شيْءٌ) ولا
يجب أن تُسْأل، لأن في سؤالها عن ذلك إشاعة للفاحشة، وذلك منهيّ عنه. فإن
ادَّعت أنها أُكرهت، أو وطئتْ بشبهةٍ، أو لم تعترف بالزنا لم تحدّ.
__________
(1) كذا في الأصول. ولكن هذا وهم، فإن مقتضى ما ذكره في تصوير المسألة أن
تحدّ فلانة، لأن الشهود الآخرين شهدوا عليها ولم يبرئوها كما برأوا فلاناً.
والمسألة في المنتهى وشرحه وعبارته "دون المشهود عليه" أي الرجل وحده.
(2/359)
باب حَدّ القَذف
وهو الرمي بزنا أو لواطٍ، أو شهادةٌ بأحدهما ولم تكمل البينة.
(مَنْ قذفَ غيره بالزنا حُدَّ للقذفِ ثمانين إن كان حُرًّا؛ و) حُدّ للقذف
(أربعين إن كان رقيقاً) وبالحساب إن كان مبعّضاً.
(وإنما يجب) الحد (بشروطٍ تسعة):
(أربعة: منها) أي من التسعة (في القاذف، وهو: أن يكون بالغاً، عاقلاً،) قال
في الإِقناع: وإن كان القاذفُ مجنوناً، أو مُبَرْسَماً، أو نائِماً، أو
صغيراً، فلا حدّ عليه، بخلافِ السكران، (مختاراً) أي غير مكره، (ليس بوالدٍ
للمقذوف وإن عَلَا) يعني أنه لا يجب حد قذفٍ على من قَذَف ولده، أو ولدَ
ولدِهِ، أو ولدَ ابنتِه، أو بنت ابنته، وإن سفل أو سفلت، كقودٍ.
(وخمسة في المقذوف، وهو: كونه حرًّا، مسلماً، عاقلاً، عفيفاً عن الزنا)
ظاهراً، (يوطَأُ ويطأ مثله،) وهو ابن عشر، وبنتُ تسعٍ، فأكثر.
أما اعتبار الحرية والإِسلام فلأن العبد والكافر حرمتهما ناقصة، فلا تنهض
لِإيجاب الحدّ. والآية الكريمة (1) وردَتْ في الحرّة المسلمة،
__________
(1) وهي قوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ
يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}.
(2/360)
وغيرها ليس في معناها.
وأما العقل فلأنّ المجنون لا يُعيَّر بالزنا، لعدم تكليفه. وغيرُ العاقل لا
يلحقُه شي بإضافة الزنا إليه، لكونه غيرَ مكلّف.
وأما العفة عن الزنا فلأن غيرَ العفيفِ لا يشينه القذف، والحدُّ إنما وجَبَ
لأجل ذلك. وقد أسقط الله تبارك وتعالى الحد عن القاذف إذا كان له بينة بما
قال.
وأما كونُه يجامِعُ مثلُه، فلأن مَنْ دونَهُ لا يعيّر بالقذف، لتحقّق كذب
القاذف.
ولا يشترَطُ في المحصَنِ العدالةُ، فلو كان فاسقاً لشربه الخمر، أو لبدعةٍ،
ولم يُعْرَفْ بالزنا، وجب الحد على قاذفه.
(لكن لا يحدّ قاذف غير البالغ حتى يبلُغَ) ويطالِبَ به بعد بلوغه، (لأن
الحقّ في حد القذف للآدميّ) أي المقذوف (فلا يقام بلا طلبه) أي طلب
المقذوف، ولأنّ مطالبته قبل البلوغ لا توجب الحدّ لعدم اعتبار كلامه، وليس
لوليه المطالبةُ عنهُ لأنه حقٌّ شرعيٌّ ثَبَتَ للتشفّي، فلم يقم غيره مقامه
في استيفائه، كالقصاص، فإذا بلَغَ وطَلَبَ أُقيمَ حينئذٍ.
(ومن قَذَفَ غيرَ محصنٍ عُزِّر) والمحصن هو الذي اجتمعت فيه الشروط الخمسة
المتقدمة.
(ويثبت الحدّ هنا) أي في القذف، (وفي الشرب، وفي التعزير بأحد أمرين: إما
بإقراره مرةً، أو شهادةِ) رجلَيْنِ (عدلين.)
(2/361)
فصل [فيما يسقط به حدّ القذف]
(ويسقط حد القذف بأربعة) أشياء:
(بعفوِ المقذوف) ولو بعد طَلَبِ، لا عَنْ بعضِهِ، كما لو كان المقذوف
جماعةً بكلمةٍ، فإن عليه حدًّا واحداً لجميعِهِم. ولكل واحد منهمْ حقٌّ في
طلب إقامته. فلو كانوا خمسةً مثلاً وعفا أحدهم عن حقه، لم يسقط حقّ الأربعة
الباقين. فلو طلب أحدهم حقَّهُ، فلما جُلِدَ عشرين، قال: عفوت عن باقي
الحد، لم يسقط حقّ الثلاثة الباقين من تتمته فلو طلبها أحدُ الثلاثة
الباقين، فلما جُلِدَ عشرين أخرى قال: عفوتُ عن باقي الحدّ لم يسقط حق
الاثنين الباقيين من تتمة الحد. فلو طلبها أحدهما، فلما جلد عشرين، قال:
عفوت عن تتمته لم يسقط حق الواحد الباقي، فله طلب جلد العشرين الباقية من
الثمانين. ولهذا لا يسقط بالمصالحة عليه، ولا عن بعضه بمال. وهذا بخلاف
عفوِ بعض مستحقّي القود عن حقه، فإنه يسقط بذلك حق باقيهم.
(أو بتصديقه) أي بتصديق المقذوف للقاذف.
(أو بإقامة البينة) بما قذفه به.
(أو باللعان) وتقدم.
(والقذفُ حرامٌ، وواجبٌ، ومباحٌ).
(ويحرم فيما تقدم،) وهو من الكبائر.
(ويجب) القذفُ (على من يرى زوجتَهُ تزني، ثم تلدُ ولداً يقوى في ظنّه أنه
من الزاني، لشبهه به،) أي لكون الولدِ يشبهُ الزاني.
(ويباح) قذفُها (إذا رآها تزني ولم تلد ما يلزمه نفيُهُ)، أو يستفيضُ زناها
في الناسِ، (أو أخبره بزناها ثقة، أو يرى الزوجُ رجلاً يعرَفُ
(2/362)
بالفجور يدخل إليها، زاد في الترغيب:
خلوةً.
(وفراقها أولى) من قذفها لأنه أستر، ولأن قذفها يلزم منه أن يحلفَ أحدُهما
كاذباً، أو تقرّ فتفتضح.
فصل [في ألفاظ القذف]
والقذف تنقسم ألفاظه إلى صريح وكناية.
(وصريحُ القذفِ) للمرأة: (يا منيوكة) إن لم يفسّرْهُ القاذفُ بفعلِ زوجٍ أو
سيّد، وللذكر: (يا منيوك، يا زاني، يا عاهر) أو: قد زنيت، أو: زنى فرجك،
ونحوه. أو قال له: (يا لوطيّ.)
فإن قالَ: أردْتُ زاني العين، أو عاهر اليد، أو: أنك من قوم لوطٍ، أو: أنك
تعمل عملهم غير إتيان الذكور، لم يقبلْ، لأن القذف بما تقدم صريح، (و: لستَ
ولدَ فلانٍ،) أو: لسْتَ لأبيك، (فَقَذْفٌ لأمِّهِ) أيْ أم المقول له ذلك،
لأنه إذا وُلِدَ على فراشِ إنسانٍ، ونَفَى أن يكون منه، فقد أثبت الزنا على
أمه، لأنه لا يخلو إما إن يكون من أبيه، أو من غيره، فإذا نفاه عن أبيه،
فقد أثبته لغيره. والغير لا يمكن أن يحبلها في زوجيّةِ أبيه إلا من زنا،
فيكون قاذفاً لها لذلك.
(وكنايته: زنتْ يداك، أو) زنت (رجلاك، أو) زنت (يدك، أو) زنت رجلك، (أو)
زنى (بدنك.) لأن زنا هذه الأعضاء لا يوجب الحدّ.
ومن الكنايات: يا نظيف، يا عفيف، (يا مخنّثِ، يا قَحْبَةُ، يا فاجرة، يا
خبيثة. أو يقول لزوجة شخص: قد فضحتِ زوجَكِ، وغطّيْتِ رأسِه،) أو نَكَّسْتِ
رأسه، (وجعلْتِ له قروناً، وعلّقْتِ عليه أولاداً من غيره، وأفسدتِ
فِراشَه،) ولعربيٍّ: يا نبطيّ. يا فارسيّ. يا روميّ. وقوله
(2/363)
لأحدهم: يا عربيّ. ولمن يخاصمه: يا حلالُ
ابن الحلال، وما يَعْرِفُك الناس بالزنا. أو: ما أنا بزانٍ أو: ما أمّي
بزانيةٍ. أو يسمع من يقذِفُ شخصاً، فيقول له: صدقْتَ. أو: صدقتَ فيما قلت،
أو أخبرني فلان أنك زنيت، أو أشْهَدَني فلانٌ أنَّك زنيتَ، وكذّبه فلان.
(فإن أراد بهذه الألفاظ حقيقةَ الزِّنا حُدّ) للقذف، (وإلا،) بأن قال:
أردتُ بالنبطيِّ نبطيَّ اللسانِ، وبالفارسيّ فارسيّ الطبع، وبقولي الروميّ
روميِّ الخِلقة، وبقولي لها: أفسدتِ فراشَهُ أي أَحْرَقْتِيه، أو
أَتْلفتِيهِ، وبقولي: علّقْتِ عليه أولاداً من غيره، أي؛ التقطْتِ ولداً
وذكرتِ أنه ولده، وبقولي: مخنّث أَنه فيه طباع التأنيث، وهو التشبّه
بالنساء، ونحو ذلك. قُبِل، و (عُزِّر) نقله حنبل.
[قذف جماعة بكلمة]
(ومن قذف أهل بلدةٍ، أو) قذف (جماعةً لا يتصوّر الزنا منهم عادةً) عُزِّر،
لأنه لا عار على المقذوف بذلك، للقطعِ بِكَذِبِ القاذف، و (لا حدّ) عليه.
ومن قالَ لمكلفٍ: اقذفْني، فقَذَفَهُ، لم يُحَدَّ، لأنه حق له، وعُزِّرَ،
لأن ذلك محرم.
(وإن كان يُتَصَوَّرُ الزنا منهم عادةً، وقَذَفَ كل واحدٍ بكلمةٍ، فعليه
لكل واحدٍ حدّ) لأنه قد تعدّد القذف، وتعدّد مَحَلُّه، فتعدد الحد بتعدّده.
(وإن كان إجمالاً) أي بكلمةٍ واحدةٍ، فإن قال: هؤلاء: زناة، فطالبوه
جميعهم، أو طالبه أحدهم (فـ) عليهِ (حدٌّ واحِدٌ) لقوله تبارك وتعالى:
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ
شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ولم يفرّق بين القذف لواحدٍ
أو لجماعة، لأنه قذفٌ واحد، فلم يجب فيه إلا حد واحد.
(2/364)
باب حَدّ المُسكِر
يعني الذي ينشأ عنه السكر.
والسُّكْرُ اختلاطُ العقل.
وكلُّ مسكرٍ خمرٌ، يحرُم شربُ قليلِهِ وكثيره مطلقاً، ولو لعطَشٍ بخلافِ
ماءٍ نجسٍ.
(من شرب مسكراً مائعاً) أو شرب ما خُلِطَ به ولم يُسْتَهلكْ فيه، (أو
اسْتَعَطَ بِهِ،) أي بالمسكر، (أو احتقَنَ) به، (أو أكل عجيناً ملتوتاً به،
ولو لم يسكر، حُدَّ ثمانين) جلدة (إن كان حرًّا) قال في الإِنصاف: هذا
المذهب، وعلمِه جماهير الأصحاب. انتهى. رُوِيَ أن عَلِيًّا قال في المشورة:
إنه إذا سَكِرَ هَذَى، وإذا هذى افترى، فَحُدُّوهُ حدّ المفتري. روى ذلك
الجُوزَجَاني والدارقطني، وغيرهما، (و) حدَّ (أربعين إن كان رقيقاً) ويستوي
في ذلك العبدُ والأمة. فيقامُ الحدّ على كل من الحرِّ والرقيق، ولو ادّعى
جهل وجوب الحد، (بشرطِ كونه) أي الشارب ونحوه (مسلماً مكلّفاً) ليخرج
الصغيرُ والمجنونُ حال كون مستعمله (مختاراً) لشربه لأنّه إذا لم يكن
مختاراً لشُربه لا إثم عليه، لحلِّه، لأنه مكره على شربه، سواءٌ أُكْرِهَ
بالضرب، أو أُلْجِئَ إلى شربه، بأن فُتِحَ فمه وصبُّ فيه، (عالماً أن كثيره
يسكر) وُيصَدَّقُ إن قال: لم أعلم.
(2/365)
(ومن تَشبَّهَ بشرّاب الخمر) جمع شارب (في
مجلسه، وآنيته) وحاضَرَ من حاضَرَهُ بمحاضِرِ الشراب، (حَرُمَ، وعُزِّرَ)
قاله في الرعاية.
(ويحرُم العصيرُ إذا أتى عليه ثلاثةُ أيامٍ) بلياليهن، وإن لم يغلِ، قال في
الفروع: والمنصوص: يحرُمُ ما تمَّ له ثلاثةُ أيام، انتهى، (ولم يطبخ) قبل
ذلك.
قال في المنتهى: وإن طُبِخَ قبل تحريمه حلّ إن ذَهَب ثلثاه.
ويحرم العصير أيضاً إن غلى كغليان القِدْرِ، بأن قَذَفَ بِزَبَدِهِ. قال في
شرح المنتهى: ظاهره: ولو لم يسكر.
(2/366)
باب التعزير
أصله المنع. ومنعه التعزيرُ بمعنى النُّصْرَة.
وفي عرف الفقهاء: التأديب.
(يجب) التعزير على كلّ مكلّفٍ على الأصحّ. نقل الميمونيّ فيمن زنى صغيراً:
لم يَرَ عليه شيئاً. ونقل ابن منصور في صبي قال لرجل: يا زاني: ليس قولُه
شيئاً (1) - (في كل معصيةٍ لا حدّ فيها ولا كفّارةٍ) كمباشرةٍ دون الفرج،
وامرأةٍ لامرأةٍ، وسرقةٍ لا قَطْعَ فيها، وجنايةٍ لا قَوَدَ فيها، كصفعٍ،
وكلعْنِهِ، وليس لمن لُعِنَ ردُّها على من لعنه.
(وهو) أي التعزير (من حقوقِ الله تعالى، لا يُحتاجُ في إقامته) أي التعزير
(إلى مطالبةٍ) لأنه شُرِعَ للتأديب، فللإِمام التعزيرُ إذا رآه. وأما سقوط
التعزير بعفوِ المجنيّ عليه ففيه خلاف. قال القاضي في "الأحكام السلطانية":
ويسقط بعفوِ آدميٍّ حقُّهُ وحقُّ السلطنة. وفيه احتمال: لا، للتهذيب
والتقويم. وفي "الانتصار": في قذفِ مسلمٍ كافراً التعزير لله تعالى، فلا
يسقط بإسقاطه انتهى، (إلا إذا شَتَم الوَلَدُ والِدَهُ فلا يعزّر إلا
بمطالبةِ والِدِه.)
__________
(1) لكن في شرح المنتهى: قال الشيخ تقي الدين: لا نزاع بين العلماء أن غير
المكلّف كالصبي المميّز يعاقب على الفاحشة تعزيراً بليغاً.
(2/367)
(ولا يعزّر الوالد بحقوقِ ولدِهِ) قال في
الإِقناع: قال في الأحكام السلطانية: إذا تشاتم والد وولده لم يعزّر الوالد
بحقوق ولده ويعزّر الولد لحقِّه. ولا يجوز تعزيرُه إلا بمطالبةِ الوالدِ،
ولا يحتاج التعزير إلى مطالبةٍ في غير هذه. وإن تشاتَمَ غيرُهما عزِّرا.
قال الشيخ: ومن غَضبَ فقال: ما نحن مسلمون، إن أراد ذمّ نفسه لنقصِ دينِهِ،
فلا حرج فيه ولا عقوبة. انتهى.
(ولا يزاد في جلدِ التّعزير على عشْرَةٍ أسواطٍ) وهو قول إسحاق، (إلا إذا
وطئَ أمةً له فيها شِرْكٌ، فيعزّر بمائةِ سوطٍ إلا سوطاً) بما روى الأثرم
عن سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه قال في أمةٍ بين رجلين وطئها
أحدهما: يجلد الحدّ إلا سوطاً واحتجّ به أحمد رضي الله عنه؛ (و) إلا (إذا
شرب مسكراً نهارَ رمضان فيعزّر بعشرينَ مع الحدّ) لما روى أحمد بإسناده أن
عليًّا رضي الله تعالى عنه أُتِيَ بالنجاشيّ قد شَرِبَ خمراً في رمضان،
فجلده ثمانين الحدَّ، وعشرين سوطاً لفطره في رمضان (1).
[أنواع من التعزير]
(ولا بأس بتسويدِ وجهِ من يستحقَّ التعزير، والمناداةِ عليه بذنبه،) ويطافُ
به مع ضربه. قال الإِمام أحمد في شاهد الزور: فيه عن عمر: يضرَبُ ظهرُه،
ويحلَقُ رأسه، ويسخَّمُ وجهه، ويطافُ به، ويطال حبسه.
(ويحرُم حلق لِحْيَتِهِ،) وقطْعُ طَرَفِهِ، وجَرْحُهُ، (وأَخْذُ ماله) أو
إتلافه. قال في الإِنصاف: قال الأصحاب: ولا يجوز قطع شيء منهُ، ولا جرحه،
ولا أخذُ شيء من ماله. قال في الفروع: فيتوجَّهُ أنّ إتلافه أولى، مع أنّ
ظاهر كلامهم: لا يجوز، انتهى.
__________
(1) هذا يقتضي جواز تعزير من يفطر في رمضان بعشرين سوطاً، ولو بغير مسكرٍ.
(2/368)
فصل
ومن الألفاظِ الموجبةِ للتعزيرِ قوله لغيره: يا كافرُ. يا فاسق. يا فاجر.
يا شقيّ. يا كلب. يا حمار. يا تيس. يا رافضي. يا خبيثَ) البطنِ، أو: يا
خبيثَ الفرْج، أو: يا عدوَّ الله، أو: يا ظالم، (يا كذّاب، يا خائن) يا
شارب الخمر، يا مخنّث. نصّ على ذلك (يا قَرْنانُ. يا قوّاد. يا ديوث) قال
إبراهيم الحربي: الديّوث الذي يُدْخِلُ الرجال على امرأته، (يا عِلْقُ)
وعند الشيخ تقي الدين أن قوله: يا علق، تعريضٌ. انتهى.
ومأبونٌ كمخنّثٍ عرفاً.
(ويعزّر من قال لذمِّيّ: يا حاجّ) لأن فيه تشبيهَ قاصِدِ الكنائِس بقاصِدِ
بيت الله سبحانه وتعالى، وفيه تعظيمٌ لذلك، فإنه بمنزلةِ من يشبه أعيادهم
بأعياد المسلمين، وتعظيمهم، (أو لَعَنَهُ بغير موجِبٍ) قال في الفروع: لأنه
ليس له أن يلعنه بغير موجب إلا أن يكون صَدَرَ من النصرانىِّ ما يقتضي ذلك.
انتهى.
(2/369)
باب القطع في السَّرقة
(ويجب) القطعُ في السرقة (بثمانية شروط):
(أحدُها: السرقة) (1) لأن الله تعالى أوجب القطع على السارق، فإذا لم توجد
السرقة لم يكن الفاعل سارقاً.
(وهي) أي السرقة (أخذُ مال الغير) أي غيرِ سارِقِه، بشرط كون المال محترماً
(من مالكه أو من نائبه) أي نائب مالِكِ المال، ومن ذلك استراقُ السمع،
ومسارقة النظر، إذا كان يستخفي بذلك (2) (على وجه الاختفاء).
(فلا قطع على مُنْتَهِبٍ) وهو الذي يأخذ المال على وجه الغنيمة، (و) لا
(مخْتَطِفٍ) وهو الذي يخطف الشيء ويمرّ به، (و) لا (خائنٍ في وديعة) وهو
الذي يؤتَمَنُ على الشيء فيُخْفِيهِ أو يجحده. وأصله من التخوين، وهو
التنقيصُ من مودَعٍ ونحوِهِ من الأمناء (لكن يُقْطع جاحِدُ العارية) إن
كانت قيمتها نصاباً.
الشرط (الثاني: كون السارق مكلّفاً) لأن غير المكلف لا تناله
__________
(1) الأولى أن يقال: السرقة سبب القطع، وليست شرطاً.
(2) عبارة "ومن ذلك استراق السمع .. الخ" لو أخّرها الشارح بعد قول المتن
"على وجه الاختفاء" لكان أجود.
(2/370)
الأحكام، (مختاراً) لأن المكره مرفوعٌ عنه
القلم ومعذور، (عالماً بأنّ ما سرقه يساوي نصاباً) قال في المنتهى وشرحه:
عالماً بمسروقٍ، أي بأنه أخَذَ المسروقَ، عالماً بتحريمه. فلا قطع على
صغيرٍ لم يبلغ، ولا على مجنونٍ، ولا على مكرهٍ، ولا بسرقة منديلٍ بطرفِهِ
نصابٌ مشدود لم يعلمه، ولا بجوهرٍ يظن قيمته دون نصابٍ، ولا على جاهلِ
تحريمِ السرقة.
الشرط (الثالث: كون المسروق مالاً) لأن ما ليس بمالٍ لا حرمة له، فلم يجب
به قطعٌ. والأحاديث دالة على ذلك، مع أن غير المال لا يساوي المال، فلا
يلحق به. لا يقال: الآية (1) مطلقة، لأن الأخبار مقيَّدة لها.
فعلى هذا لا يقطع بسرقةِ كلبٍ، وإن كان معلَّماً، لأنه ليس بمال، ولا بسرقة
حُرٍّ، (لكن لا قطع بسرقة الماءِ) لأنه لا يُتَمَوَّل عادة، ولا بسرقة
السَّرجينِ النجس، أي الزبل.
(ولا) قطع (بـ) سرقة (إناءٍ فيه خمر أو) فيه (ماءٌ) لأنها متصلة بما لا قطع
فيه، فأشبه ما لو سرق شيئاً مشتركاً بينه وبين غيره. قال ابن شاقلا: فلو
سرق إداوةً فيها ماء، لم يقطع لاتصالها بما لا قطع فيه، (ولا بسرقة مصحفٍ)
لأن المقصود منه ما فيه من كلام الله تعالى، وهو مما لا يجوز أخذ العوض
عنه، (ولا بـ) سرقة (ما عليه من حليٍّ) ككيسه، لأن ذلك تابع لما لا
يُقْطَعُ بسرقته، (ولا) قطع (بـ) سرقة (كُتب بِدَعٍ، و) كتب (تصاوير) لأنها
واجبة الإِتلاف، (ولا) بسرقة (آلة لهوٍ) كالطنبور والمزمار، ولو بلغت قيمته
مكسوراً نصاباً، لأنه للمعصية، فلم يقطع
__________
(1) وهي قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا
أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
(2/371)
بسرقته، كالخمر، (ولابـ) سرقة (صليبٍ أو
صَنَمٍ) من ذهبٍ أو فضة، تبعاً للصناعة، أشبه الأوتار التي بالطنبور.
الشرط (الرابع) من شروط وجوب القطع في السرقة: (كون المسروقِ نصاباً، وهو)
أي النصاب الموجِبُ للقطع في السرقة (ثلاثةُ دراهم) خالصة، أو ثلاثةُ دراهم
تَخْلُصْ من دراهم فضة مغشوشة، (أو ربعُ دينارٍ) من الذهب. فيكفي الوزن من
الفضة الخالصة، أو التبر الخالص، ولو لم يُضْرَبَا. ويكمل أحدهما بالآخر
(أو) سَرَقَ (ما يساوي أحدَهما) أي أحد نصابي الفضة أو الذهب من غيرهما.
(وتعتبر القيمةُ) أي قيمةُ المسروق، إذا لم يكن ذهباً أو فضة، بأحدهما (حال
الإِخراج) من الحرز، لأن الاعتبار بحال السرقةِ، وهو وقتُ الوجوب، لوجود
السبب فيه، وهو السرقة. فلا يعتبر ما حدث بعدَهُ، فلو نقص بعد إخراجه
قُطِعَ، لا إن أتلفه بأكل أو غيره فيه، أو نَقَصَهُ بذبحٍ ثم أخرجه.
الشرط (الخامس) من شروط وجوب القطع في السرقة: (إخراجه) أي إخراج النصاب
(من حرزٍ) على الأصحّ في قول أكثر أهل العلم، منهم مالكٌ والشافعيّ وأصحابُ
الرأي.
(وعنه لا يشترط الحرز).
(فلو سرق) إنسانٌ (من غير حرزٍ) مثل أن يجد حرزاً مهتوكاً، أو باباً
مفتوحاً، فيأخُذُ منه ما بلغ نصاباً، أوْ لا (فلا قطع) عليه لفواتِ شرطِهِ،
كما لو أتلفه داخلَ الحرزِ بأكلٍ أو غيرِهِ، إلا أن عليه ضمانَهُ.
ومن أخرج بعض ثوبٍ، قيمة البعض المُخْرَجِ نصابٌ، قُطِعَ به إن قطعه، وإلا
فلا.
(وحرز كلِّ مالٍ) يقطع السارق بسرقته منه (ما حُفِظَ فيه) ذلكَ
(2/372)
المال (عادةً) أي في العادة، لأن الحرز
معناه الحفظ، ومنه قولك: احترزْتُ، أي تحفَظْتُ. ولمّا ثَبَتَ اعتبارُ
الحرزِ بالشرع في موضعٍ اعتبره فيه من غير صفةٍ له، ولا فيه عرفٌ لغَوِي
يتقرّر به, عُلِمَ أن المرجِعَ فيه إلى العرف بين الناس.
(فـ) حرزُ (نعلٍ برجلٍ) أي رجلِ من كان لابِسَهُ، (وعمامة على رأسٍ حرزٌ).
وحرزُ جوهرٍ ونقدٍ وقماشٍ في العمران بدارٍ ودكْانٍ وراءَ غَلَقٍ وثيقٍ،
والغَلَق اسمٌ للقُفْلِ، خشباً كان أو حديداً. وصندوقٌ بسوقٍ وثمّ حارسٌ
حرز. وحرزُ بقلٍ وقدورِ باقلاّ وقدورِ طبخٍ، وحرزُ خَزَفٍ وثم حارسٌ
وَرَاءَ الشرائج (1). وحرزُ حَطَبِ وخشب الحظائر. وحرز ماشيةٍ الصَّير (2)،
وفي مراعٍ براعٍ يراها غالَباً. وسفنٌ في شطٍّ بربطها. وإبلٌ باركة معقولةٌ
بحافظٍ حتى نائمٍ. وحرز الإِبل الحاملة تقطيرها مع قائد يراها، ومع عدم
تقطيرِها: بسائقٍ يراها. وحرزُ ثيابِ في حمّام، وحرزُ أعدالٍ بسوق، بحافظ
كقعوده على متاعٍ وتوسُّدِهَ، وإن فرّطَ حافظُ الحمّام أو السوقِ فنامَ أو
اشتغل فلا قطع. وضَمِنَ المسروقَ حافظٌ معدٌّ للحفظ، وإن لم يُسْتَحْفَظْ.
(ويختلف الحرز باختلاف البلدان) فإن البلد إذا كان واسع الأقطار غُلِّظَتْ
أحرازه، لأنه لا يؤمن عليه إن سرق منه أحد، أنه لا يظهر، لِسَعَةِ رقعة
البلد، وكثرةُ أهله، وإن كان صغيراً لم يحتج إلى ذلك، لأن السارق يُعْرَفُ
فيه، فلا يحتاج إلى زيادة كلفة في منعه عن السرقة (و) يختلف (بـ) اختلاف
عدل (السلاطين) وقوتهم وضدهما.
__________
(1) الشرائج جمع شريجة وهي شيء يعمل من قصب أو نحوه، يضم بعضه إلى بعض بنحو
حبلٍ.
(2) الصِّيَر جمع صِيرَة، وهي حظيرة الغنم (ش. المنتهى).
(2/373)
(ولو اشترك جماعةٌ في هتكِ الحرْز و)
اشتركوا في (إخراج النصاب قطعوا جميعاً) لأنهم اشتركوا في هتك الحرز
وإخراجه منه.
(وإن هَتَكَ الحرزَ أحدهما) فقط، (ودخل الآخر، فأخرج المال، فلا قطع
عليهما) أي على واحد منهما، لأن الأول لم يسرق، والثاني لم يهتك الحرز،
(ولو تواطآ) على ذلك، في الأصحِّ لأن التواطؤ على السرقة لا أثر له، لأنه
لا فعل لواحدٍ منهما في الذي فعل الآخر، فلم يَبْقَ إلا القصدُ، والقصد إذا
لم يقارنه الفعل لا يترتَّبُ عليه حكم، فيكون وجود القصد في ذلك كعدمه.
الشرط (السادس) من شروط وجوب القطع في السرقة: (انتفاء الشبهة، فلا قطع
بسرقتِهِ من مال فروعِهِ وأصولهِ): أما سرقتُهُ من مال ولدِهِ، فلقوله -
صلى الله عليه وسلم -: "أنْتَ وَمَالُكَ لأبيكَ" (1)؛ وأما سرقته من مال
أبيه أو جده، أو من مال أمه، أو جدته، أو من مال بنت ابنه أو ابن ابنته،
علا الآباء، أو نزل الأبناء، فلأن بينهم قرابةً تمنع شهادةَ أحدِهِم لواحد
منهم، فلم يقطع بالسرقة منه، كالسرقة من مال ابنه، ولأن النفقة تجب للابن
في مال أبيه حفظاً له، فلا يجوز لأب إتلافُهُ حفظاً للمال (وزوجته) قال في
المنتهى: ولا بسرقة زوج أو زوجة من مال الآخر ولو أحرز عنه.
(ولا) قطع على إنسان (بسرقته من مالٍ له فيه شِرْكٌ، أو لأحد ممن ذكر) من
عمودي نسب السارق.
ولا قطع بسرقةِ مكاتَبٍ من مال مكاتِبِهِ، وعكسه، كقِنِّه.
الشرط (السابع) من شروطِ وجوب القطع في السرقة: (ثبوتها) أي ثبوت السرقة
(إما بشهادة عدلين) لقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ
رجَالِكُمْ} وكان القياسُ قبولَ الاثنين في كل شهادةٍ، لكن خولف فيما
__________
(1) حديث "أنت ومالك لأبيك ... " تقدم تخريجه في أبواب النفقة.
(2/374)
عدا ذلك، للنصّ فيه، فبقي فيما عداه على
عمومه. (ويصفانها. ولا تسمع) شهادتهما (قبل الدعوى) من مالك المسروق، أو
ممن يقوم مقامه (أو بإقرار) السارق (مرتين) لأنه إقرار يتضمن إتلافاً فكان
من شرطه التّكرار كحدِ الزنا. أو يقال: إن الإِقرار أحد حجتي القطع، فيعتبر
فيها التكرار.
ويصف السارقُ السرِقَةَ في كل مرة.
(ولا يرجع حتى يقطع.)
ولا بأس بتلقينِهِ الإِنكار.
الشرط (الثامن) من شروط وجوب قطعِ السارق: (مطالَبَةُ المسروقِ منه بمالٍ)،
أو مطالبةُ وكيلِهِ أو وليِّهِ. (ولا قطع) بسرقةٍ (عامَ مجاعةِ غلاءٍ) إن
لم يجد السارق ما يشتريه، أو لم يجد ما يشتري به، نص عليه قال جماعة: ما لم
يبذُلْهُ له ولو بثمنِ مثل غالٍ، وفي الترغيب: ما يحيي به نفسه.
(فمتى توافرت هذه الشروط) الموجبة لقطع السارق (قطعت يده اليمنى) لأن في
قراءة عبد الله بن مسعود (فاقْطعوا أيمانها) وهذا إما أن يكون قراءة، أو
تفسيراً سَمِعَهُ من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يظن بمثله إن
يُثْبِتَ في القرآن شيئاً لم يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - (1)،
ولأنه قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولا مخالف لهما من الصحابة، فيكون
إجماعاً. ولأن الغالب من الناس إنما يعمل الأعمال بِيمينه، فكان الأنسب
قطعَهَا، لأن السرقةَ جنايتُها في الغالب، دون اليسرى.
[كيفية القطع والحسم]
ويكون القطع (من مَفْصِلِ كفه) لأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما
__________
(1) عبارته "فإنه لا يظن بمثله .. " ليست في (ف).
(2/375)
قالا: تقطع يمنى السارقِ من الكُوعِ. ولا
مخالف لهما من الصحابة. فكان إجماعاً.
(وغُمِسَتْ وجوباً في زيتِ مغليّ) والحكمة في الغمس أن العضو إذا قطع فغمس
في الزيت المغلي، اسْتدت أفواهُ العروقِ، فينقطع الدم، إذ لو ترك بلا غمسٍ
لنَزَفَ الدّمُ، فأدى إلى موته.
(وسُنَّ تعليقُها) أي تعليقُ يد السارق المقطوعة (في عنقه) زاد في البلغة
والرعايتين والحاوي (ثلاثةَ أيامٍ إن رآه الإِمام) لتتعظ بذلك اللصوص.
[العود في جريمة السرقة]
(فإن عاد) إلى السرقة من قُطِعَتْ يده اليمنى (قطعتْ رجلُه اليسرى من
مفصِلِ كعبِهِ، بترك عقبه) نص عليه ليمشي عليها، وحُسِمَتْ أيضاً للحكمة
المذكورة في قطع اليد.
(فإن عاد) فسرق بعد قطع يده ورجله (لم يقطع) منه شيء (وحُبِسَ حتى يموت أو
يتوب) لأنه جنى جنايةً لا توجب الحد، فوجب حبسه كفًّا لهُ عن السرقة،
وتعزيراً له، لأنه القدر الممكن في ذلك.
[ضمان المال المسروق وأجرة القاطع]
(ويجتمع) على السارق (القطْعُ والضّمان) أي ضمانُ ما سرقه. نقله الجماعة عن
أحمد. لأنهما حقّان يجبان لمستحقينِ، فجاز اجتماعهما، كالجزاءِ والقيمةِ في
الصَّيْدِ الحَرَمِيّ إذا كان مملوكاً لآدمي (فيردُّ ما أخذه لمالكه) إن
كان باقياً، لأنه عينُ مالِهِ.
وإن تلف فعلى سارقٍ مثلُ مثليٍّ وقيمةُ غيره.
(ويعيد ما خرب من الحرز) لتعديه.
(2/376)
(وعليه) أي على السارق الذي وجب عليه القطع
(أجرةُ القاطِع وثَمَنُ الزيتِ) للحسْمِ في ماله في الأصحّ. أما أجرة
القاطع فلأنّ القطع حقٌّ وجب عليه الخروج منه، فكانت مؤنته عليه، كسائر
الحقوق، وأما ثمن زيت الحسم فلأنه يَلزمُهُ حفظُ نفسِهِ، وهذا منه، فإنه
إذا لم يحسم لم يأمن على نفسه التلف، فوجب لذلك.
(2/377)
باب حَدّ قطّاع الطّريق
(وهم المكلفون الملتزمون) ولو أنثى أو ذميين أو أرقاء (الذين يخرُجُون على
الناس) بسلاح ولو عصاً أو حجراً في صحراء أو بنيان أو بحر (فيأخذونَ
أموالهم مجاهرةً.)
والأصل في حدهم قول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ
يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا
أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ
وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} قال ابن عباس
وأكثر المفسرين: نزلت في قطّاع الطريق من المسلمين، لقوله تعالى بعد ذلك:
{إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ}
والكفار تقبل توبتهم بعد القدرة كما تقبل قبلها. فلما خصّ الحكم بما قبل
القدرة عُلِمَ أنه أراد المحاربين. قاله في شرح المنتهى.
(ويعتبر) لوجوب الحد على المحارب ثلاثة شروط:
الأول: (ثبوتُه) أي ثبوت كونِهِ محارباً (ببيّنةٍ أو إقرارٍ مرتين) كما
يعتبر ذلك في السرقة. ذكره القاضي وغيره.
(و) الثاني: (الحرز) بأن يَغْصِبَ المال من يد مستحقه. فلو وَجَدَهُ
مطروحاً ليس بيدِ أحدٍ، أو أخذه من يدِ من غَصَبَهُ لم يكن محارباً.
(و) الثالث: (النصاب) وهو القدر الذي يُقْطَعُ به السارق.
(2/378)
وتقدّم قدرُه في الباب قبله.
(ولهْم أربعة أحكام):
أشار للأول بقوله: (إن قَتَلوا) يعني بقصد المال (ولم يأخذوا مالاً تحتَّم
قتلهم جميعاً.) قال في المنتهى: وإن قَتَلَ فقط لقصدِ المال قُتِلَ حتماً
ولا يصلب. قال في شرحه: يعني أن المحاربين إذا قتلوا في المحاربةِ بقصدِ
المالِ، ولم يأخذوا، قُتِلُوا حتماً ولا يُصْلَبون، على الأصح. انتهى.
وأشار للثاني بقوله: (وإن قتلوا وأخذوا مالاً تحتَّم قتلهُمْ وصلْبُهمْ
حتَّى يشتهروا) قال في المنتهى: فمن قُدِرَ عليه وقد قَتَلَ، ولو من لا
يقاد به (1)، كولده وقنّ وذمّيٍّ، لقصد ماله، وأخَذَ مالاً، قُتِلَ ثم
صُلِبَ قاتِلُ [من] (2) يقاد به، حتى يشتهر. ولا يقطع مع ذلك. انتهى.
وأشار للثالث بقوله: (وإن أخذوا مالاً، ولم يَقْتُلوا، قطعت أيديهم وأرجلهم
من خِلَافٍ حَتْماً) في آنٍ واحد. قال في المنتهى: وإن لم يَقْتُل، وأَخَذَ
نصاباً لا شبهة له فيه، لا من مُفْرَدٍ عن قافلةٍ، قطعت يده اليمنى، ثم
رجله اليسرى، في مقامٍ واحد حتماً، وحسمتا وخلي. انتهى.
وأشار للرابع بقوله: (وإن أخافوا الناسَ، ولم يأخذوا مالاً، نُفُوا من
الأرضِ، فلا يتركون يأوون إلى بلدٍ حتى تَظْهَرَ توبتُهم) قال في المنتهى:
وإن لم يقتُلْ، ولا أَخَذَ مالاً نُفِيَ وشُرِّدَ، ولو قنًّا، فلا يُتْرَكُ
يأوي إلى بلد حتّى تظهر توبته. وتُنْفَى الجماعَةُ متفرّقة. انتهى.
(ومن مات منهم) أي من المحاربين (قبل القدرةِ عليه سقطت عنه
__________
(1) (ب، ص، ف): "ولو ممن لا يقاد به"، والتصويب من المنتهى وشرحه.
(2) الزيادة من المنتهى وشرحه، وهي لازمة لصحة المعنى، وتمامه فيهما "ثم
صُلِبَ قاتلٌ من يقاد به لو قتله في غير المحاربة" ومفاده ان الذي يُصْلَب
بعد قتله هو من قتل من يكافئه. أما إن كان قتل من لا يكافئه كولده أو عبد
أو ذمّي فإنه يقتل فقط ولا يصلب.
(2/379)
حقوقُ الله) تبارك وتعالى، من صلبٍ وقطعٍ
ونفيٍ وتَحتّمِ قتلٍ، وكذا خارجيٌّ وباغٍ ومرتدٌّ محارب (وأُخِذَ بحقوقِ
الآدميين.)
ومن وجب عليه حدٌّ سرقةٍ أو زناً أو شربِ فتابَ منه قبل ثبوته عند الحاكم،
سقط عنه بمجرد توبته قبل إصلاح عمَلٍ، على الأصح (1).
فصل [دفع المعتدين]
(ومن أريد بأذًى في نفسه، أو) أريدَ (مالُه، أو) أُريدتْ (حريمُهُ) ولو قلّ
المال الذي أخَذَه، أو لم يكافئ من أريدتْ نفسُهُ أو حرمته أو مالُه، (فله
دفعُهُ) عن نفسه وحرمته وماله (بالأسهل فالأسهل) أي بأسهل شيءٍ يظنُّ
اندفاعَه به.
(فإن لم يندفع إلا بالقتل قَتَلَهُ ولا شيء عليه) أي على عاقلته.
وإن قُتِل كان شهيداً.
ومع مزح في قتل يحرم قتلٌ (2)، ويقاد به.
ولا يضمن بهيمةً صالت عليه إذا قتلها كصغيرٍ ومجنونٍ، لاشتراكهم في المجوّز
للدفع، وهو الصول. لكن لا بد من ثبوت صِيَالِها عليه. ولا يكفي قوله في
ذلك. هذا ظاهر الفقه. وصرَّح به في الرعاية،
__________
(1) هذه إحدى الروايتين عن أحمد. والرواية الثانية: لا يسقط، وهو قول أبي
حنيفة ومالك وأحد قولي الشافعي، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم
ماعِزاً والغامديّة وقَطَع الذي أقرّ بالسرقة وقد جاؤوا تائبين يطلبون
التطهير بإقامة الحدّ، فلم يخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بسقوط
الحدّ عنهم، ولو كان قد سقط عنهم لما جاز إقامته عليهم. وانظر المسألة في
(المغني 8/ 296)
(2) العبارة هكذا قلقة، وأصلها في المنتهى وشرحه "ومع مزح يحرم على دافعٍ
قتلٌ" أي لأنه لا حاجة إذن إلى القتل. فزاد الشارح هنا "في قتلٍ" ولا حاجة
إليها، ومنها جاء الغموض.
(2/380)
فقال: وإن ادعى صياله بلا بيّنةٍ ولا
إقرارٍ لم يصدّق. ولم يذكر ذلك في الفروع (1).
(ويجب) على من أريدت حرمته (أن يدفَعَ عن حريمِهِ) فمن رأى مع امرأتِهِ أو
ابنتِهِ أو أختِهِ أو نحوهنّ رجلاً يزني بها، أو رجلاً يلوط بابنه، أو
نحوِهِ، وجب عليه قتلُهُ إن لم يندفعْ بدونه، لأنه اجتمَعَ فيه حق الله
تعالى، وهو منعه من الفاحشةِ، وحقُّ نفسِهِ بالمنع عن أهلِهِ، فلا يسعه
إضاعةُ هذه الحقوق.
(و) يجب على كل مكلف أن يدفع عن (حريمِ غيرِهِ).
(وكذا) يجب على الإِنسان الدفع (في غير الفتنة عن نفسِهِ ونفسِ غيرِهِ) على
الأصح لقوله تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التّهْلُكَةِ}
وكما يحرم عليه قتل نفسِهِ، يحرُم عليه إباحةُ قتل نفسِه. ولأنه قدر على
إحياء نفسه فوجب عليه فعل ما تبقى معه الحياة، كالمضطر إذا وجد الميتة.
(و) كذا (ماله) يعني وكذا يجب عليه الدفع عن مالِهِ، أي مال غيره، لئلا
تذهب الأموال.
تنبيه: إنما يجب الدفع عن حرمة غيرِهِ، أو مال غيرِهِ، مع ظنّ سلامة الدافع
والمدفوع عن حرمته أو ماله، وإلا حَرُمَ.
(لا مالُ نفسِهِ) يعني أنه لا يجب على إنسان دفع من أراد ماله على الأصح،
لأنه ليس فيه من المحذورِ ما في النفس، فإن المالَ لا حرمةَ له كحرمةِ
النفسِ، فلا يجب عليه أن يفعل بسبب المال ما فيه الخطَرُ على نفسه، لأنه
ربما لا يمكنه دفع الصائل بدون القتال، ولا يأمنُ أن يقتله الصائل، فناسَبَ
ذلك عدمَ وجوبه عليه.
__________
(1) لم يصرّح بالحاجة إلى البينة في صيال إنسان، لوضوحه، وقد قال النبي -
صلى الله عليه وسلم - "لو يعطى الناس بدعواهم لأدعى قوم دماء رجل
وأموالهم".
(2/381)
(ولا يلزمه) أي لا يلزم ربَّ المال (حفطُهُ
عن الضَّياع والهلاكِ) قال في الفروع: ولا يلزمه عن ماله على الأصح، كما لا
يلزمه حفظه عن الضياعِ والهلاك. ذكره القاضي وغيرُه. وفي التبصرة، في
الثلاثة: يلزمه في الأصح انتهى.
وله بذل مالِهِ لمن أراده منه على وجه الظلمِ. وذكر القاضي: أن بذلَهُ أفضل
من الدفع عنه (1). وأن حنبلاً نقله عن أحْمَد.
__________
(1) في هذا نظر، فقد أثنى الله تعالى على الذين يدفعون البغي عن أنفسهم،
وجعل ذلك من صفات المؤمنين، بقوله تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ
الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} فكيف يكون الذين لا ينتصرون لحقوقهم من
ظالميهم أفضل؟ وما يأتي بعد ذلك من قوله تعالى {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ
فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} إنما ذلك بعد القدرة على الظالم وإدخاله تحت نير
الحق وإقراره وتوبته. وهل كانت كثير من غزوات النبي - صلى الله عليه وسلم -
إلا لأخذ الحقوق ممن اغتصبها أو فرّ بها. ولعل مراد الإِمام أحمد رحمه الله
أنه يترك الدفِع عن ماله إن غلب علي ظنه أنه يُقْتَل. أما حيث يستطيع فلا
يكون الترك أفضل، قطعاً. وسيأتي في المتن حالاً شأنُ البغاة، يقول الله
فيهم {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي
تَبْغِي} والأمران بابهما واحد. ومن بُغِيَ عليه في اليسير فسكت يوشك أن
يبغى عليه في الكثير، حتى يكون عبد العصا، وتضرب عليه الذلة والمسكنة.
والله أعلم.
(2/382)
باب قتال البغَاة
البغْيُ الظلم والجَوْر والعدول عن الحقّ.
وسُمُّوا بغاةً لأنهم يعدلِونَ عن الحقّ. والأصل في قتالِهِم قوله تعالى:
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا
الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ} في الآية خمس فوائد:
إحداها: أنه لم يخرجهم بالبغي عن الإِيمان، وسماهم مؤمنين.
الثانية: أنه أوجب قتالهم، لأنه أَمَرَ به.
الثالثة: أنه أسقط قتالهم إذا فاؤوا إلى أمر الله.
الرابعة: أنه أسقط عنهم التَّبِعَةَ فيما أتلفوه في قتالهم.
الخامسة: أنها أفادت جوازَ قتالِ كل من يمنع حقًّا عليه (1).
(وهم) أي البغاةُ (الخارجونَ على الإِمامِ) ولو غيرَ عدلٍ (بتأويلٍ سائغ،
ولهم شوكةٌ) ولو لم يكن فيهم مطاعٌ في الأصحّ.
__________
(1) هذا الثالث هو أصل معنى الآية، أي هي سواء في الخارجين على الإِمام،
وغيرهم ممن يبغي على الناس ويأخذ حقوقهم. فعلى المسلمين أن يقوموا مع
المظلوم حتى يحصل على حقه من ظالمه.
(2/383)
(فإن اختلّ شرط من ذلك) بأن لم يكن خروجهم
بتأويل، أو [كان] بتأويل غير سائغ، أو كانوا جمعاً يسيراً لا شوكةَ لهم
(فقطاعُ طريقٍ) يعني فحكمهم حكم قُطّاع الطريق.
[رئاسة الدولة]
(ونصب الإِمام) على المسلمين (فرضُ كفايةٍ) يُخَاطَب بذلك طائفتان من
الناس:
إحداهما: أهلُ الاجتهاد حتى يختاروا.
والثانية: من تُوجدَ فيه شرائِطُ الإِمامة حتى ينتصب أحدهم للإِمامة.
أما أهل الاختيار فيعتبر فيهم ثلاثة شروط:
أحدها: العدالة.
والثاني: العلم الذي يتوصّل به. إلى معرفة من يستحق الإِمامة.
والثالث: أن يكونوا من أهل الرأي والتدبير المؤدّيين إلى اختيار من هو
للإِمامة أصلح.
وكونُ نصب الإِمامِ فرضَ كفايةٍ لأن للناس حاجةً إلى ذلك، لحماية بيضة
الإِسلام، والذبِّ عن الحَوْزَةِ، و (قامة الحدود، واستيفاء الحقوق، والأمر
بالمعروف، والنهي عن المنكر.
(ويعتبر) في الإمام (كونه قرشيًّا) أي من قريش، وهم بنو النَّضْرِ بن
كنانة، لحديث "الأئمة من قريش" (1) ولقول أحمد، في رواية مهنا: "لا يكونُ
من غيرِ قريشٍ خليفة".
__________
(1) حديث "الأئمة من قريش" رواه أحمد في المسند 3/ 129 و4/ 421 الطبعة
القديمة. وقد أعرض عنه صاحب منار السبيل فلم يذكره.
وانظر كلام ابن خلدون في مقدمته (ص 197 من الطبعة القديمة المشكولة) في
توجيهه لمعنى هذا الحديث، بأنه إنما كانت الخلافة في قريش لأنها كانت مركز
عصبية العرب. فلما زالت عصبيتهم لزم نقلها إلى ذوي العصبية أخذاً بعلة
الحديث.
(2/384)
(بالغاً عاقلاً) لأن غير البالغ يحتاجُ إلى
من يلي أمره، فلا يلي أمره غيره.
(سميعاً بصيراً ناطقاً) لأن غير المتصف بهذه الصفات لا يصلح للسياسة؛
(حرًّا) لا عبداً أو مبعّضاً، لأن الإمام ذا الولايةِ العامّةِ لا يكون
وليًّا عليهِ غيرُه. وحديث "اسمَعُوا وَأَطِيعُوا ولو وُلّيَ عليكم عبدٌ
أسودٌ، كأنَّ رأسَهُ زبيبةٌ" (1) محمول على نحو أمير سريّة؛
(ذكراً) لحديث "خابَ قومٌ ولَّوا أمرهم امرأة" (2)؛
(عدلاً) لاشتراط ذلك في ولاية القضاء، وهي دون الإِمامةِ العظمى فإن قَهَرَ
الناسَ غيرُ عدلٍ فهو إمام (3).
__________
(1) حديث "اسمعوا وأطيعوا وإن استُعمل عليكم عبدٌ حَبَشي ... " رواه
البخاري.
(2) حديث خاب قوم ولّوا أمرهم امرأة .. " رواه البخاري والنسائي والترمذي
والحاكم وأحمد من طرق عن الحسن عن أبي بكرة، قال: لقد نفعني الله بكلمة
سمعتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعدما كدت أن ألْحَقَ بأصحاب
الجمل فأقاتل معهم. قال؛ لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أهل
فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى قال "لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة" وقال
الترمذي: حسن صحيح. ولكن الحسن البصري مدلس وقد عنعنه في جميع طرق الحديث.
لكن للحديث طريق أخرى عن أبي بكرة من غير طريق الحسن. وإسنادها جيّد
(الإرواء ح 2456) قلتُ أبو بكرة الصحابي المشهور الذي انفرد بهذا الحديث
كان قد جلده عمر حدّ القذف وأبطل شهادته ولم يتب بعد ذلك فيما نقل. وفي
الترمذي مرفوعاً "المسلمون عدول ... إلا مجلوداً في حد" وقد قال الله تعالى
في شأن القاذفين {وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * ... إِلاَّ الَّذِينَ
تَابُوا} وقال {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ
اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} وعدم قبول روايته المجلود مرويّ عن أبي حنيفة.
والجمهور على قبول روايته إن قذف بلفظ الشهادة.
(3) هذا الحكم: "فإن قهر الناس غير عدلٍ فهر إمام" فيه ما فيه، وإن قال به
كثير من متأخري الفقهاء. فإن الله تعالى قال {وَأَمْرُهُمْ شُورَى
بَيْنَهُمْ} فلا تنعقد الإمامة عن غير شورى. ثم تلتها مباشرة الآية
{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} مما يوحي
بأنها في شأن الحكم، أو هي به أخص. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كما
ورد عنه في صحيح البخاري في كتاب الحدود منه (12/ 145 فتح الباري السلفية)
"من بايع
(2/385)
(عالماً) بالأحكام الشرعيّة، لاحتياجها إلى
مراعاتها في أمره ونهيه. (ذا بصيرةٍ) أي معرفة وفطنة.
(كافياً ابتداءً ودواماً) للحروب والسِّياسة وإقامة الحدود، ولا يلحقه رأفة
في ذلك، ولا في الذبّ عن الأمة.
وأمّا فَقْدُ الشَّم والذَّوْقِ، وتمتمةُ اللسان، وثقلُ السمع، مع إدراك
الصوت إذا علا، وقطعُ الذكر والأنثيين، فلا يمنع عَقْدها ولا استدامتها.
وذهابُ اليدين والرجلين يمنع ابتداءها واستدامَتَها.
(ولا ينعزل بفسقِهِ) بخلاف القاضي، لما فيه من المفسدة.
[العمل مع الخارجين على الإِمام]
(وتلزم مراسَلَةُ البغاة) لأن المراسلة طريقٌ إلى الصلح، ووسيلةٌ إلى
رجوعهِم إلى الحق، وقد روي أنّ عليّ بن أبي طالب راسَلَ أهل البصرة قبل
وقعة الجمل، ولما اعتزلَتْهُ الحروريّة بعث إليهم عبْدَ الله بن عباس.
(و) تلزمه أيضاً (إزالة شُبَهِهِمْ) لأن في كشف شبههم رجوعاً إلى
__________
= رجلاً من غيرِ مشورةٍ من المسلمين فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تَغِرَّة
أن يقتلا".
وقولهم: تخشى الفتنة بعزله، فالفتنة بقاؤه، فإن عُجِزَ عن إزالته لم يكن
ذلك مثبتاً لإمامته، بل هو غاصب يزال عند القدرة عليه.
وهم قد اشترطوا في الإمام الشروط المذكورة في المتن والشرح، ومعنى اشتراطها
عدم الصحة عند فقدها، وهذا يستدعي إزالته عند فقد شيء منها، إذ ما معنى
اشتراطها إن كان لا يزال عند فقده لها؟ فإن ثبت أنه يزال عند فقد الشرط،
فكذا يزال إن اغتصب الإمامة دون حق. وعدم انعقادها بالغلبة قول الجمهور كما
في الأحكام السلطانية للماوردي ص 8 وفي ذلك روايتان عن الإِمام أحمد
أوردهما أبو يعلى في كتابه الأحكام السلطانية ص 7.
وإن على الأمة الإسلامية أن تضع من الترتيبات السياسية، من المجالس
النيابية والقضاء الدستوري وغير ذلك ما ييسّر أمر إنهاء ولاية الإمام إذا
تبيّن عدم شرعية انتخابه، أو فقد منه شرط أو أكثر من شروط الإمامة
المعتبرة.
(2/386)
الحق، وذلك المطلوب منهم.
(و) تلزمه أيضاً إزالة (مَا يَدّعونَهُ من المظالم) لأنّ ذلك واجب مع عدم
إفضاء الأمر به إلى القتلِ والهرْجِ، فلأن يجب في حالٍ يؤدّي إلى ذلك بطريق
الأوْلى. وذلك لأن الله تعالى أمر بالإِصلاح أوَّلاً في قوله تعالى:
{فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} والإِصلاح إنما يكون بمراسلتهم، وكشْف شبههم،
وإزالة ما يدّعونه من مظلمة.
(فإن رجعوا) عما هم فيه من البغي وطلب القتال (وإلا لَزِمَهُ) أي الإمام إن
كان قادراً (قتالُهمِ) لقوله تعالى: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى
الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ
اللَّهِ}.
(ويجب على رعيّته معاوَنَتُهُ) على قتالهم (1)، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي
الْأَمْرِ مِنْكُمْ}.
(وإذا ترك البغاةُ القتالَ حرم قتلُهُمْ) لقول عليٍّ رضي الله عنه: "ومن
ألقى السلاح فهو آمن".
(و) يحرم أيضاً (قتل مدبرهم، و) قتل (جريحهم).
(ولا يُغْنَمُ مالهم) لأن أموالهم كأموال غيرهم من المسلمين.
(ولا تسبى دراريهم).
(ويجب ردّ ذلك إليهم) فمن وَجَدَ ماله بيد غيره من أهل العدل أو البغي أخذه
منهم.
ومن أُسِرَ منهم ولو كان صبيًّا أو أنثى حُبِسَ حتى تنكسر شوكتهم، وتنقضي
حربُهُمْ، لأن في إطلاقهم قبل ذلك ضرراً على أهل العدل.
(ولا يَضْمنُ البغاة ما أتلفوه) على أهل العدل (حال الحرب) على الأصحّ، كما
أنه لا ضمان على أهل العدل فيما أتلفوه على أهل البغي.
__________
(1) إما إن كانوا يدّعون حقاً أو يطلبون كشف مظلمة فلم يفعل لم تجز معاونته
عليهم.
(2/387)
(وهم) أي أهل البغي (في شهادتهم، و) في
(إمضاء حكم حاكمهم، كأهل العدل). لأن التأويل الذي له مساغٌ في الشرع لا
يوجب تفسيق قائلِهِ والذاهِب إليه، أشبه المخطى، من الفقهاء في فرع من
الأحكام.
(2/388)
باب حُكم المُرتد
وهو لغةٌ الراجع. قال الله سبحانه وتعالى: {وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى
أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ}.
(وهو) شرعاً (من كفر بعد إسلامه) ولو مميّزاً، بنُطْقٍ، أو اعتقادٍ، أو
شكٍّ، أو فعلٍ طوعاً ولو هازلاً.
(ويحصُلُ الكفر بأحدِ أربعة أمور):
أشار للأول بقوله: (بالقول، كسبّ الله) تبارك و (تعالى، أو) سبِّ (رسولهِ)
أيّ رسولٍ كان، (أو) سبِّ (ملائكته) كَفَر (1)، لأنه لا يسبُّ واحداً منهم
إلاَّ وهو جاحِدٌ به، أو جَحَدَ ربوبيّةَ الله تعالى، أو وحدانيَّتَه، أو
كتاباً من كتبه، أو صفةً من صفاتِهِ اللازمة له، كالحياةِ والعلم، أو جَحَد
رسولاً له من الرسل، أو من الملائكة الذين ثَبَتَ أنهم رسله، أو ملائكته،
كَفَر، لثبوتِ ذلك في القرآن، ولأن جَحْد شيءٍ من ذلك كجحد كله، لاشتراكهما
في كون الكل من عند الله تعالى، أو جَحَدَ وجوب عبادة من العبادات الخمس،
ومنها الطهارة، (أو ادعاءِ النبوة) أو
__________
(1) هكذا بصيغة الفعل لا بصيغة المصدر، والكلام -على كلا الاحتمالين- فيه
ركاكة مصدرها الشارح لا المصنّف. وكان على الشارح أن يحذف قوله "كفر" أو
يتصرف بما ينايسب المقام.
(2/389)
صدَّقَ من ادّعاها، كَفَر، لأنه مكذّبٌ لله
سبحانه وتعالى في قوله: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ
النَّبِيِّينَ} ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقوم الساعةُ حتى يخرجَ
ثلاثونَ كذابونَ كلُّهم يزَعم أنه رسول الله." (1) (أو) ادعاءِ (الشركةِ
لهُ) سبحانَه و (تعالى).
وأشار للثاني بقوله: (وبالفعلِ، كالسجود للصنم ونحوِهِ) كالشمس والقَمَرِ،
لأن ذلك إشراك، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ
بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (وكإلقاءِ المصْحَفِ في
قاذورةٍ) قال في المنتهى: أو امتَهنَ القرآن.
وأشار للثالث بقوله: (وبالاعتقادِ، كاعتقاد الشريك له) سبحانه و (تعالى.
أو) اعتقد (إنّ الزنا) حلال كَفَر، (أو) اعتَقَد أن (الخمْر حلال) كفر،
(أو) اعتقد (إن الخبز حرام، ونحو ذلك) كاللحم والماء (مما أُجْمعَ عليه
إجماعاً قطعيًّا) كفرَ.
وأشار للرابع بقوله: (وبالشكّ في شيء من ذلك) ومثله لا يجهله، كالناشئ في
قرى الإِسلام كَفَر، لأنه مكذّبٌ لله سبحانه وتعالى ولرسوله - صلى الله
عليه وسلم - وسائر الأمة.
(فمن ارتدّ وهو مكلّفٌ مختارٌ) ولو كان أنثى دُعي إلى الإِسلام، و (استتيب
ثلاثة أيام وجوباً،) لأنه أمكن استصلاحُهُ، فلم يجزْ إتلافه قبل استصلاحه.
وإنما كانت ثلاثة أيامٍ لأن الردة إنما تكون لشبهةٍ، ولا تزول في الحال،
فوجب أن ينظر مدةً يتروى فيها. وأولى ذلك ثلاثة أيام، للأثر (2).
__________
(1) عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال "لا تقوم الساعة حتى
يُبْعثَ دجّالونَ كذّابون قريباً من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله" رواه
أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود والترمذي (الفتح الكبير 3/ 335).
(2) يعني بالأثر ما ورد عن عمر في مرتدّ قتل في الحال، قال عمر رضي الله
عنه "فهلا =
(2/390)
وينبغي أن يضيّق عليه ويحبس.
(فإن تاب) في مدة الاستتابة برجوعِهِ إلى إسلامه (فلا شيء عليه) من قتلٍ أو
تعزيرٍ.
(ولا يَحْبَطُ عَمَلُه) الذي عمله في حال إسلامه، قبل رِدَّتِهِ من صلاةٍ
وحجٍّ وغيرِهِما إذا عاد إلى الإِسلام.
(وإن أصرّ) على ردته (قتل بالسيف) لأنه آلة القتل، ولا يحرَّق بالنار (ولا
يقتله إلا الإمام أو نائبه) سواء كان المرتد حرًّا أو عبداً لأنه قتلٌ لحقّ
الله تعالى، فكان إلى الإمام، كرجم الزاني، وقتل الحد.
(فإن قتله) أي المرتد (غيرُهما) أي غيرُ الإمام أو نائبه (بلا إذنٍ) من
واحد منهما (أساءَ وعُزِّرَ) لافتياته على وليّ الأمر، (ولا ضَمانَ) على
قاتله (ولو كان) قتله (قبل استتابته) لأنه مُهْدَرُ الدم في الجملة،
وردَّتُهُ مبيحةٌ لدمه، وهي موجودة قبل الاستتابة كما هي موجودة بعدها،
إلاَّ أن يلحق بدار حربٍ فلكل واحدٍ قتلُه وأخْذُ ما معه من المال، لأنه
صار حربيًّا.
تتمة: من أطلق الشارعُ كفرَهُ، كدعواه لغير أبيه، ومن أتى عرافاً فصدّقه،
فهو تشديدٌ لا يخرج به عن الإِسلام.
[إسلام الصغير وردته]
(ويصح إسلام المميّز) الذي يعقل الإسلام من ذكرٍ وأنثى، ومعنى عقلِهِ
الإسلام أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى ربُّه لا شريكَ له، وأن محمداً
عبدُهُ ورسوله للناس كافة، لأن عليًّا رضي الله عنه، أسلم وهو ابن ثمانِ
سنين. أخرجه البخاري.
__________
= حبستموه ثلاثاً، وأطعمتموه كل يوم رغيفاً وأسقيتموه لعله يتوب أو يراجع
الله" رواه مالك في الموطأ (شرح المنتهى).
(2/391)
(و) تصح أيضاً (رِدَّتُهُ) على الأصح، لأن
الردة هي الكفر بعد الإِسلام (لكن لا يُقْتَلُ) الصغير الذي ارتدّ، ولا
سكران (حتى يستتابَ) كل واحد منهما (بعد بلوغِهِ) أي بلوغ الصغير وصَحُوِ
السكران (ثلاثَةَ أيام).
وإن مات وهو سكرانُ في سكرِهِ، أو مات الصغير قبل بلوغٍ وقبل توبةٍ، مات
كافراً.
فصل [في توبة المرتد]
(وتوبة المرتد، و) توبة (كل كافرٍ، إتيانه بالشهادتين) وهو قول: "أشهد أن
لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله" لقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"أمرتُ أن أقاتلَ الناسَ حتى يشْهَدُوا أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً
رسولُ اللهِ، ويقيمُوا الصَّلاة، ويؤتُوا الزَّكاةَ، فإذا فَعَلوا ذلك
عَصَمُوا مني دماءَهُم وأموالَهُم إلا بحقّ الإِسلام وحسابُهم على الله عز
وجل" متفق عليه من رواية ابن عمر. وهذا يدل على أن العِصمة تثبت بمجرّد
الإِتيان بالشهادتين، (مع رجوعِهِ عمّا كَفَر به) أي مع إقرار جاحدٍ لفرضٍ
أو تحليلٍ أو تحريمٍ أو نبيٍّ أو كتابٍ أو رسالةِ محمد - صلى الله عليه
وسلم - إلى غيرِ العرب، بما جحده.
(ولا يغني قوله) أي قول الكافر: ("محمد رسول الله" عن كلمة التوحيد) وهي
"أشهد أن لا إله إلا الله [وأشهد أن محمداً رسول الله] " (1) ولو من مقر
بالتوحيد.
__________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من (ف).
(2/392)
(وقوله "أنا مسلم" توبة) وإن لم يلفظ
بالشهادتين، لأنه إذا أخبر عن نفسه بما تضمّن الشهادتينِ كان مخبراً بهما.
(وإن كَتَب كافرٌ الشهادتينِ) بما يُبِينُ (صار مسلماً) لأن الخطّ كاللفظ،
فإذا تلفّظ كافرٌ بالشهادتين، أو كتبَهما، ثم قال: لم أُرِدِ الإِسلام، فقد
صارَ مرتدًّا، ويجبر على الإِسلام.
(وإن قال) كافر: (أسلمت، أو: أنا مسلم، أو: أنا مؤمن، صار مسلماً) بهذا
القول وإن لم يتلفظ بالشهادتين. فلو قال: لم أُرِدِ الإِسلام، أو قال: لم
أعتقده، لم يقبل منه ذلك، وأجبر على الإِسلام وقد علم ما يراد منه. وإن
قال: أنا مسلم ولا أنطق بالشهادتين، ولا يحكم بإسلامه حتى يأتي بالشهادتين.
[توبة الزنادقة]
(ولا يقبل في الدنيا بحسَبِ الظاهر) بحيث يُتْرَك قتلهم وتثبت أحكام
الإِسلام في حقّهم (توبةُ زنديقٍ,. وهو المنافِقُ الذي يُظْهِرُ الإِسلام
ويخفي الكفر) لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا
وَبَيَّنُوا} والزنديق لا يُظْهرَ منه على ما يتبين به رجوعه وتوبته، لأن
الزنديق لا يظهر منه بالتوبة خلافُ ما كان عليه، فإنه كان ينفي الكفر عن
نفسه قبل ذلك. وقلبه لا يطَّلِع عليه إلا الله، فلا يكون لما قاله حكم، لأن
الظاهر من حاله أنه إنما يستدفع القتل بإظهار التوبة في ذلك.
والمشهور على ألسنة الناسِ أن الزنديقَ هو الذي لا يتمسُكُ بشريعةٍ، ويقول
بدوامِ الدهر. والعربُ تعبِّر عن هذا بقولهم: "مُلْحِدٌ" أي طاعن في
الأديان.
ولا تقبل توبة الحلوليّة، ولا المباحية (1)، وكمن يفضّل متبوعَه على
__________
(1) كذا في (ب، ص)، وفي (ف) الإباحية. ولعلهم الذين يرون أنه لا تحريم.
وأما =
(2/393)
النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو يعتقد
أنه إذا حصلت له المعرِفَةَ والتحقيق سقط عنه الأمر والنهيُ، أو يعتقد أن
العارِفَ المحقّق يجور له التدّين بدين اليهود والنصارى، فلا يجب عليه
الاعتصام بالكتاب والسنة، وأَمثال هؤلاء الطوائف المارقين من الدين، فلا
تقبل توبتُهم في الظاهر كالمنافق (1).
[الردة التي لا تقبل التوبة منها]
(ولا) تقبل توبة (من تكرّرت ردته) لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا
لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً}
ولأنّ تكرار الردة منه يدل على فساد عقيدتِهِ، وقلَّةِ مبالاتِهِ
بالإِسلام؛
(أو سبّ الله) سبحانه و (تعالى) سبًّا صريحًا. يعني أنه لا تقبل توبةُ من
سبَّ اللهَ على الأصح، لأن ذنبه عظيمٌ جداً يدلُّ منه على فسادِ عقيدتِهِ
واستخفافِهِ بالله الواحد القهار، (أو) سبَّ (رسولَهُ) أيّ رسولٍ كانَ (أو
ملكاً له) يعني أنه لا تقبل توبةُ من سبَّ رسولاً أو مَلَكَاً لله سبحانه
وتعالى، أو تَنَقَصَهُ.
ومن أظهر الخير، وأَبْطَنَ الفسق، كزنديقٍ في توبته.
(وكذا) لا تقبل توبة (من قذف نبيًّا) من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام
(أو) قذف (أمّه) كَفَر لما في ذلك من التعرض للقَدْحِ في النبوّة الموجِبِ
للكُفْر.
(ويقتلُ حتّى ولو كانَ كافراً) ملتزماً (فأسلم) لأن قتلَهُ حدُّ قذفِهِ،
فلا يسقِطُ بالتوبة، كقذفِ غيرِهما.
__________
= الحلولية فهم الذين يزعمون أن الله -جل وعلا- حلّ في أشياخهم أو أقطابهم.
(1) النصارى حلولية، وقد قالوا (إن الله هو المسيح بن مريم) ويقبل إسلامهم.
ففيما قاله بالنسبة إلى الحلولية فيه نظر، ويحرّر.
(2/394)
ومن قَذَفَ عائشة رضي الله تعالى عنها بما
برّأها الله تعالى منه كَفَر، بلا خلافٍ.
ومن سبَّ غيرها من أزواجه - صلى الله عليه وسلم -، ففيه قولانِ: أحدُهما
أنه كسبِّ واحدٍ من الصحابة. والثاني: هو الصحيح، أنه كقذفِ عائشةَ رضي
الله تعالى عنها، لقدحه فيه - صلى الله عليه وسلم -. ومن أنكرَ صحبةَ أبي
بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، فقد كفر، لقوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ
لِصاحِبِهِ}.
(2/395)
|