نَيْلُ المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب

كتَاب الأطعَمة
واحِدُها طعامٌ، وهو ما يؤكَلُ ويُشرَب.
وأصلها الحل.
(يباحُ كلُّ طعامٍ طاهر) ليخرج النجس والمتنجّس (لا مضرَّةَ فيه) احترازاً من السموم (حتى المِسْكُ ونحوُه) مما لا يؤكل عادةً، كقِشْرِ البيض، وقرن الحيوان، إذا صار بصفةٍ يسوغُ أكلُهما، كما لو دُقَّا، أو نحو ذلك. وقد سأل الشالنجيُّ الإِمامَ أحمدَ عن المسك يُجعَل في الدواء ويشرب، قال: لا بأس به.

[الأطعمة المحرمة]
(ويحرم النجس، كالميتة والدم) لأن أكلَ الميتة أقبحُ من أن يُدْهَنَ بدُهْنِها أو يُستَصْبَحَ به، وهما حرامان، فيحرم ما هو أقبح، بطريق الأولى (1).
(ولحمُ الخنزير) بلا خلافٍ بين المسلمين، لقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ}.
(وكذا) يحرم (البولُ والرَّوْثُ، ولو) كانا (طاهرين) لاستقذارِهِما،
__________
(1) ليته لم يذكر هذا الاستدلال، فإنه قياس للجليّ على الخفيّ.

(2/396)


بلا ضرورةٍ، فإن اضطرّ إليهما، أو إلى أحدهما جاز.
(ويحرُم من حيوانِ البرِّ الحُمُرُ الأهليّةُ) قال ابن عبد البرّ: لا خلاف بين أهل العلم اليوم في تحريمِها. وسَنَد الإِجماع ما روى جابرٌ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى يوم خيبرَ عن لحوم الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل" متفق عليه.

[السباع المفترسة]
(و) يحرم أيضاً (ما يفترس بنابه) أي ينهَشُ (كأسدٍ ونَمِرٍ وذئبٍ وفهدٍ وكلبٍ) لما روى أبو ثعلبة الخُشَنِيّ، قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كلِّ ذي نابٍ من السباع" متفق عليه.
(وقردٍ،) قال ابن عبد البر: لا أعلم خلافاً بين علماء المسلمين في أن القردَ لا يُؤكَلُ، ولأن له ناباً، فيدخل في عموم التحريم. وهو مِسْخٌ أيضاً (1)، فيكون من الخبائثِ؛
(ودُبٌّ ونِمسٌ وابنُ آوى) هو شبه الكلب، ورائحته كريهة، (وابنُ عِرْسٍ) بالكسِر. قاله في الحاشية (وسِنَّوْرٌ ولو) كان (بَرِّياً، وثعلبٌ) على الأصح.
(و) يحرم (سِنْجَابٌ وسَمُّورٌ) (2) وفَنَكٌ (3).

[محرمات الطيور]
(ويحرم من الطير ما يصيد بمخلبه، كعقابٍ وبازٍ وصَقْرٍ وباشقٍ وشاهينٍ وحِدَأَةٍ) تم على وزن عِنَبَةٍ، (وبومةٍ) وهذا قَول أكثر أهل العلم،
__________
(1) المسخ لا يكون له نسلٌ، كما ورد في بعض الأحاديث.
(2) السَّمُّورُ، وجمعه سمامير، كتنُّور وتنانير، حيوان يشبه النمس يكون ببلاد الروس يصطادونه. (مصباح) ويؤخذ من جلده الفراء (لسان).
(3) الفَنَكُ (بالتحريك) دابة يتخذ من جلدها الفراء (لسان) وهو قريب الشبه بابن آوى.

(2/397)


منهم الشافعي رضي الله تعالى عنه وأصحابُ الرأي. وقال مالك والليث والأوزاعي: لا يحرُمُ من الطير شيء. واحتجُّوا بعموم الآيات المبيحة، وقولِ أبي الدرداء وابن عباسٍ رضي الله تعالى عنهما: "ما سكت الله تعالى عنه فهو مما عفا عنه" ولنا ما روى ابن عباس قال: "نَهَى رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي نابٍ من السباعِ (1) وكل ذي مِخْلبٍ من الطير" فيدخل في هذا كل ما له مخلب يعدو به.
(و) يحرم أيضاً (ما يأكل الجِيَفَ) من الطير (كنسْرٍ ورَخَمٍ وقاقٍ) ويسمى العَقْعَقَ، بوزن جَعْفَر، طائرٌ نحوُ الحمامة، طويل الذنب، فيه بياضٌ وسوادٌ، وهو نوعٌ من الغربان تتشاءم به العرب. قاله في الحاشية. ويحرم أيضاً اللَّقْلَق، طائرٌ نحوُ الإِوزٌ طويلُ العُنُقِ يأكُلُ الحيّات.
(وغرابُ) بَيْنٍ (2).

[الحشرات ونحوها]
[ويحرمٌ] (خُفَّاشٌ) أي وَطْوَاطٌ، قال أحمد رضي الله تعالى عنه: ومن يأكلُ الخفاش؟ (وفأرٌ) يقرأ بالهمزة (وزُنْبورٌ ونَحْلٌ وذُبابٌ) وفراشٌ وطبابيعُ وقمل وبراغيث (وهُدْهُدٌ وخُطَّافٌ) طائرٌ أسودُ معروفٌ.
(وقنفذٌ ونيصٌ) وهو عظيمُ القنافِذِ، قدرُ السخلة، على ظهرِهِ شوكٌ طويل نحو ذراعٍ.
(وحيَّةٌ) وقال مالك: هي حلالٌ إذا ذُكِّيتْ.
(وحَشَرات) يعني: وباقي الحشرات كالديدان، والجُعْلان، وبناتِ
__________
(1) حديث "نهى عن كل ذي ناب من السباع. وكلّ ذي مخلب من الطير" أخرجه البخاري ومسلم وأصحاب السنن الأربعة. ولكنه لم يخرج البخاري قوله "وكل ذي مخلب من الطير" وأخرجه سائرهم.
(2) وأما غراب الزرع فهو مباح وسيأتي ذكره في المباحات قريباً.

(2/398)


وَرْدَان، والخنافس، والأوزاغ، والحِرْباء، والعَقَارب، والحراذين (1)
ويحرم كل ما أمر الشرع بقتله كالجراذين، أو نهى عن قتله، كالنَّحْلِ والنَّمل.
ويحرم ما تولّد بين مأكولٍ وغيره، كبغلٍ.
وما تجهلُه العربُ، ولا ذُكِرَ في الشَّرع، يُرَدُّ إلى أقرب الأشياء شبهاً به بالحجاز.
فإن لم يشبه شيئاً بالحجاز فهو مباحٌ.
ولو أشبَه مباحاً ومحرماً غلب التحريم.
(ويؤكل ما تولد من مأكولٍ طاهرٍ كذُبابٍ الباقلاً، ودودِ الخَلّ، و) دود (الجبنِ تبعاً) لما تولد منه (لا انفراداً.)، وقال ابن عقيل: يحلّ بموته. قال أحمد في الباقّلا المدوِّدة: ويجتنبه أحبُّ إلي، وإن لم يتقذَّرْهُ فأرجو. وقال عن تفتيش التَّمرِ المدوِّد: لا بأسَ به إذا علمه.
وكره أحمل جعل التمر والنوى في شيءٍ واحد (2).
فائدة: ما أحدُ أبويه المأكولينِ من الحيواناتِ مغصوبٌ فكأمِّه لا كأبيه، فإن كانت الأمُّ مغصوبةً لم تحلّ هي ولا شيء من أولادِها للغاصب. وإن كان الأبُ مغصوباً لم يحرم على الغاصب شيء من أولاده.
__________
(1) (ف، ص) كالجراذين (بالجيم)، و (ب) كالحراذين (بالحاء)، وهو أصح لأن ذكر الجراذين يأتي. والحراذين جمع حرذون دويبة سوداء كالحرباء تعيش بين الصخور. والجراذين جمع جُرَذ وهو الفأر الكبير.
(2) أي أن يجعل الآكل نوى التمر إذا أكله مع التمر الذي لم يؤكل، في إناء واحد (عبد الغني).

(2/399)


فصل [في الحيوانات المباح أكلها]
(ويباح ما عدا هذا) الذي ذكرنا أنه حرامٌ، لعموم النصوص الدالّة على الإِباحة. والذي عداه (كبهيمةِ الأنعام) وهي الإِبل، والبقر، والغنم، لقوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ} (1) (والخيل) كلِّها، عرابِها وبراذينها، نصّ عليه أحمد.
(وباقي الوحوش، كضَبُعٍ) وإن عرف بأكل الميتة فكجَلاّلة. قاله في الروضة.
(وزرافة) وهي دابّة تشبه البعير، إلا أن عنقها أطول من عنقه. وجسمها ألطفُ من جسمهَ. ويداها أطولُ من رجليها. سئل أحمد عنها: هل تؤكل؟ قال: نعم. وهي مباحة لعموم النصوص المبيحة، ولأنها مستطابة أشبهت الإِبل؛ (وأرنب) قال في المغني: أكلها سعد بن أبي وقاص، ورخّص فيها أبو سعيد وعطاء وابن المسيب والليث ومالك والشافعي وأبو ثور وابن المنذر. ولا نعلم قائلاً بتحريمِها إلاَّ شيئاً روى عن عمرو بن العاص.
(ووَبْرٍ) بسكون الباء، لأنه طيّب يعتلف النبات والبقول، فكان مباحاً كالأرنب؛ (وَيرْبُوعٍ) نصّ عليه أحمد. وبحلهِ، قال عروة وعطاء والشافعي وأبو ثور وابن المنذر، وحرّمه أبو حنيفة، لأنه شبيه الفأر؛ (وبقرِ وَحْشٍ) على اختلافِ أنواعها من الأيِّل، والثَّيْتَلِ، والوَعِلِ، والمَهَا (وحُمُرِهِ) أي حُمُر الوحش؛ (وضَبٍّ) يروى حلُّه عن عمر بن الخطاب وابن عباس وأبي سعيدٍ الخدريّ رضي الله تعالى عنهم، قال أبو سعيد: كنا معشر أصحابِ محمدٍّ - صلى الله عليه وسلم - لأن يهدى لأحِدِنا ضبٌّ أحبُّ إليه من
__________
(1) في الأصول (وأحلّت لكم بهيمة الأنعام) فحذفنا الواو.

(2/400)


دجاجةٍ، قاله في الحاشية. وهو دابَّةٌ تشبه الحرذون، من عجيب خلقته أن الذكر له ذكران، والأنثى لها فرجان تبيض منهما.
(وظباءٌ) بجميع أنواعها، لأنها كلها تفدى في الإِحرام والحرم.
(وباقي الطير كنعامٍ ودجاجٍ) بفتح الدّال، وكسرها لغةٌ، الواحدةُ دجاجةٌ للذكر والأنثى (1).
(ويَبِّغَا) بتشديد الباء الموحدة، وهي الدُّرَّة. وشحرور.
(وزاغ) طائر صغير أغبر (2).
(وغراب زرع) وهو أسودُ كبيرٌ يأكل الزرع ويطير مع الزاغ، لأن مرعاهما الزرع والحبوب، أشبه الحَجَل.
وكالحمام بأنواعه من الفواخِتِ، والقَمَاريّ، والجَوَازِلِ، والرُّقْطِي، والدَّباسيّ، وتقدم.

[الحيوانات البحرية]
(ويحل كلُّ ما في البحر) لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} (غيرَ ضفدعٍ) لأنها مستخبثة، فتدخل في عموم قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} (و) غير (حيّةٍ) لأنها من الخبائث، (و) غير (تمساحٍ) نص عليه لأنه يفترس بنابه، وقال ابن حامد والقاضي: وغيرَ الكَوْسَج وهو سمكة تسمى القِرْش (3) لها خرطوم
__________
(1) كذا قال أهل اللغة لأن الجنس (الدجاج)، فالتاء للوحدة لا للتأنيث ويخصّ الذكر باسم (الديك).
(2) هو نوع من الغربان صغير (اللسان) وفي حاشية الشيخ اللبدي: هو الزرزور، وأما الذي يسمى في بلادنا (يعني فلسطينِ): الزاغ، فهو غراب الزرع. وفي قوله: إنه الزرزور نظر لأن الزرزور ليس غرابًا، فناقَض ما في اللسان.
(3) قوله "تسمى القرش" ليس في (ف). وفي اللسان "تسمى اللُّخْم". قلت: القرش عند أهل الكويت يسمى الجرجور، واللخمة معروفة عندهم وهي سامة، ولكن ليس لها خرطوم كالمنشار، ولا للقرش.

(2/401)


كالمنشار، والأشهر أنه مباح كخنزيرِ الماء وإنسانِهِ وكلبِه.

[الجلاَّلة]
(وتحرمُ الجلّالة التي أكثر علفها) أي غذائها (النجاسة، و) يحرم (لبنها وبيضها،) على الأصحّ لما روى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عَنْ أكلِ الجلاَّلة وألبانها" (1) قال القاضي: هي التي تأكل العذرة.
فإن كان أكثرُ علفها النجاسةَ حرم لحمُها ولبنُها. وإن كان أكثرُ علفها الطاهر لم تحرم. قال الموفق: وتحديدُ الجلاّلة بكونِ أكثرِ علَفها النجاسة لم نسمعه عن أحمد. ولا هو ظاهر كلامه. لكن يمكن تحديده بما يكون كثيراً في مأكولها، ويعفى عن اليسير (حتّى تحبَسَ ثلاثاً) أي ثلاثَ ليالٍ بأيامهن. نصّ عليه. لأن ابن عمر كان إذا أراد أكلها يحبسها ثلاثاً، (وتطعمُ الطاهر) وتمنَعُ من النجاسةِ، طيراً كانت أو بهيمةً. ومثله خروفٌ ارتضعَ من كلبةٍ، ثم شربَ لبناً طاهراً أو أكلَ شيئاً طاهراً ثلاثة أيام.
وُيكره ركوب الجلالة.

[الأطعمة المكروهة]
(ويكره أكلُ ترابٍ وفحمٍ) قال في الإِنصاف: جزم به في الرعايتين والحاوي وغيرهم.
(وطينٍ) لضرره. نصًّا. ونقل بعضُهم أن أكله عيب في المبيع. نقله ابن عقيل. لأنه لا يطلبه إلاَّ من به مرض.
__________
(1) حديث "نهى عن أكل الجلالة وألبانها" رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه والبيهقي وهو حديث صحيح (الإرواء ح 2503)

(2/402)


(و) يكره أيضاً أكل (أُذُنِ قلبٍ) وغدة.
(وبصلٍ وثومٍ ونحوهما) كالكرّاث (ما لم يُنْضَجْ بطبخٍ).
ويكره أكلُ كلّ ذِي رائحة كريهة، ولو لم يردْ دخول المسجد. فإن أكله كره له دخولُه حتى يذهب ريحه.
ويكره أَكْلُ حَبٍّ دِيسَ بِحُمُرٍ أو بغالٍ (1). وينبغي أن يغسل.
ويكره مداومة أكل اللحم، وأكل لحم نيء ومنتنٍ (2). قاله في الإقناع، وخالفه فيهما في المنتهى (3).

فصل [في أحكام المضطرّ]
(ومن اضطُرَّ) بأن خاف التلف إن لم يأكل (جازَ له أن يأكُلَ من المحرَّم ما يسدّ رمقه فقط) قال في الإِقناع: ومن اضطُرَّ إلى محرّمٍ مما ذكرنا، حضراً أو سفراً، سوى سمٌّ ونحوِهِ، بأن يخاف التلف، إما من جوعٍ، أو يخافُ إن تركَ الأكلَ عجز عن المشي وانقطع عن الرفقة فيهلك، أو يعجز عن الركوب فيهلك ولا يتقيد ذلك بزمنٍ مخصوصٍ، وَجَبَ عليه أن يأكل منه ما يسدّ رمقه ويأمنُ معه الموت.
وليس له الشبع.
وقَيَّدَ في المنتهى السفر بالمباح، فإن كان في محرّمٍ ولم يتبْ فلا.
(ومن لم يجد) من المضطرين (إلاّ آدميًّا مباحَ الدم، كحربيٍّ وزانٍ
__________
(1) أي لأنها تبول وتروث عليه، وبولها وروثها نجسان.
(2) سقط من (ب، ص) لفظ "نيء" وهو ثابت في (ف) والمنتهى.
(3) أي قال صاحب المنتهى أن النيء والمنتن لا يكرهان. ونسبه إلى نصّ أحمد.

(2/403)


محصنٍ فله قتله وأكله،) لأنه لا حرمة له، فهو بمنزلة السباع.
وكذا إن وجده ميتاً فإنه يجوز له أكله لأن أكله بعد قتله كأكله بعد موته، لا أكلُ معصومِ ميتٍ.
(ومن اضطُرَّ إلى نفعٍ بمال الغيرِ مع بقاءِ عينِه) إما لدفعِ بردٍ كثيابِ، وكل ما يُتَدثَّر به، والمِقْدَحةِ ونحوِها، أو استِقاءِ ماءٍ، كالدلوِ والحبَل ونحو ذلك (وجب على ربّه بذله له) أي لمن اضطر إليه (مجاناً) أي من غير عوضٍ عن انتفاع المضطر في الأصحّ.

[الأكل من الثمر المعلّق]
(ومن مرّ بثمرة بستانٍ) على شجرٍ، أو ساقطٍ تحته (لا حائط عليه ولا ناظر) (1) أي حافظ ولو غيرَ مسافرٍ ولا مضطرّ (فله) أن يأكل منه مجاناً، ولو لغير حاجةٍ، ولو عن غصونه (من غيرِ أن يصعدَ على شجرةٍ، أو يرميهِ بحجرٍ، أن يأكلَ) (2) لأن كلاً من الضرب والرمي يفسد الثمرة.
(ولا يحملُ) شيئاً من الثمر، ولا يأكلُ من ثمرٍ مجنيٌّ مجموعٍ إلا لضرورة.
(وكذا) أي وكثمر الشجر (الباقلّا والحمِّص) الأخضرين (3). وكذا زرعٌ قائم، وشربُ لبنِ ماشيةٍ على الأصحّ، أما الزرعُ فلأن العادةَ جاريةٌ بأكل الفَرِيكِ، أشبه الثمر، وأما شرب لبنِ الماشية فلما روى الحسن عن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا أتى أحَدُكمْ على ماشيةٍ فإن كان فيها صاحبُها فليستأذنه، وإن لم يُجِبْهُ أحدٌ فليحتلب ويشربْ ولا يحمل" رواه الترمذي (4).
__________
(1) كذا في (ب، ص) وشرح المنتهى، وفي (ف): "ناصر" ولعله "ناطر" بالطاء المهملة، فقد تعارف أهل الشام وفلسطين على تسمية من يحرس الكرم "الناطر" أو "الناطور".
(2) في تكرار عبارة "أن يأكل" ما فيه.
(3) كذا في الأصول. وصوابه "الأخضران".
(4) وأبو داود والبيهقي والضياء، وهو حسن (صحيح الجامع الصغير).

(2/404)


تنبيه: ما لم تجر العادة بأكله رَطْباً لا يجوز الأكل منه، لعدم الإِذن فيه شرعاً وعادة، كالشعير ونحوه.

[حق الضيافة]
(وتجب ضيافة المسْلِمِ) المسافرِ المجتازِ (على المسلم) إذا نزل به (في القرى دون) الضيافة في (الأمصار،) لأنه يكون فيها السوِقُ والمساجدُ، فلا يحتاج مع ذلك إلى الضيافة، بخلاف القرى فإنه يبعد فيها البيعُ والشراءُ، فوجبت ضيافة المجتاز إذا نزل بها (يوماً وليلةً) مجاناً، فلا يلزم الضيفَ عوضُ الضيافةِ، وهي قدرُ كفايتِهِ مع أدمٍ. وفي الواضح: لفرسه تبنٌ لا شعير. قال في الفروع: ويتوجّه وجهٌ: كأدمه.
فإن أبى فللضيف طلبه به عند الحاكم.
فإن تعذّر جازَ له الأخذ من مالِهِ بقدرِ ما وجب له.
ولا تجب للذمّيّ إذا اجتاز بالمسلم.
(وتستحبُّ) ضيافته (ثلاثاً) أي ثلاثَ ليال بأيامهن. والمراد يومان مع اليوم الأول.
فما زاد على الثلاث فهو صدقة.
ولا يجب عليه إنزاله في بيته إلا أن لا يجد مسجداً أو رباطاً ونحوهما يبيت فيه، ولا يخافُ ضرراً.

(2/405)


باب الذّكَاة
قال الزجّاجي: أصل الذكاةِ تمامُ الشيءِ، فمنه الذكاة في السّنّ، وهو تمام السن. وسمّي الذّبحُ ذكاةً لأنه إتمام للزهوق.
(وهي) أي الزكاة، شرعاً (ذبحُ) الحيوانِ (أو نحرُ الحيوان المقدورِ عليه) المباحِ أكله الذي يعيش في البرّ، لا جراد ونحوه.
(وشروطها) أي الذكاة، وكذا النحر (أربعة):
(أحدها: كون الفاعل) للذكاةِ أو النَّحرِ (عاقلاً) ليصحّ منه قصدُ التذكية، فلا يباح ما ذكّاه مجنونٌ أو سكرانُ، (مميزاً) فلا يحلّ ما ذكاه طفلٌ لم يميّز، (قاصداً للذكاة) فلو احتكّ حيوانٌ مأكولٌ بمحدّدٍ بيد إنسان لم يقصد ذبحه، فانقطع بانحكاكه حلقومُهُ ومريئُهُ لم يحلّ، لعدم قصد التذكية.
(فيحل ذبحُ الأنثى) ولو حائضاً (والقنّ والجنبُ) على الأصحّ (والكتابي) ولو حربيًّا.
قال في شرح المقنع: أجمع أهل العلم على إباحة ذبائحِ أهلِ الكتاب، لقوله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} يعني ذبائحهم. قال البخاري: قال ابن عباس: طعامهم ذبائحُهُم. وكذلك قال مجاهد وقتادة. وروي معناه عن ابن مسعود. وهذا قول مالك والشافعي وأصحاب الرأي.

(2/406)


ولا فرق بين العدلِ والفاسق من المسلمين وأهل الكتاب. انتهى.
(لا) تحل ذبيحة (المرتد) وإن كانت رِدّته إلى دين أهل الكتاب.
(و) لا ذبيحةُ (المجوسيّ والوثنيّ والدرزيّ والنُّصَيْري) والتَّيْماني.
ويؤكل من طعامهم غيرُ اللَّحْمِ والشَّحْمِ والكَوارعِ (1) ونحوها.
الشرط (الثاني) من شروط صحّة الذكاة: (الآلة) وهو أن يذبح بمحدّدٍ يَقْطَعُ، بأن يُنْهِرَ الدم بحدّه.
إذا تقرر هذا (فيحلّ الذبح بكل محدّدٍ) حتى (من حجرٍ وقصبٍ وخشبٍ وعظمٍ غيرَ السنِّ والظُّفُر) نص على ذلك، متصلَيْنِ أو منفصلين، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أَنهَر الدَّمَ فكُلْ، ليس السنَّ والظفر" متفق عليه من حديث رافع بن خديج، قال: قلت: يا رسول الله إنا نلقى العدوّ غداً، وليس مَعَنا مُدًى -أي سكاكين (2) - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما أنهرَ الدَّمَ، وذُكِرَ اسم الله عليه، فكُلوا، ما لم يكن سنًّا أو ظُفُراً. وسأحدّثكم عن ذلك: أما السنُّ فعظمٌ، وأما الظُّفُرُ فمدى الحبشة." وعن كعب بن مالك، عن أبيه، أنه "كانت لهم غنم ترعى بِسَلْعٍ (3)، فأبصرت جاريةٌ لنا بشاةٍ من غنمها موتاً، فكَسَرَتْ حَجَراً، فذبحتها به، فقال لهم: لا تأكلوا حتّى أسألَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو أرسل إليه من يسأله. وإنه سأل النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، أو أرسل إليه، فأمره بأكلها رواه أحمد والبخاري.
وقال عبد الله: يعجبني أنها أمَةٌ، وأنها ذبحَتْ.
قال في شرح المقنع (4): وفي هذا الحديث فوائدُ سبع:
__________
(1) كذا الأصول. وهي عامية. وصوابه: الأكارع، جمع أكرُع. وأكرُع جمع كُراع، وهو ما بين الركبة والقدم.
(2) عبارة "أي سكَاكين" ساقطة من (ف). وهي مدرجة ليست من نص الحديث.
(3) سلعٌ جبل بصرف المدينة الشمالي الغربي.
(4) نقلاً عن المغني. أنظر المغني 8/ 581

(2/407)


إحداها: إباحةُ ذبيحة المرأة.
والثانية: إباحة ذبيحة الأمة.
والثالثة: إباحة ذبيحة الحائض، لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يستفصل (1).
الرابعة: إباحة الذبح بالحجر.
الخامسة: إباحة ذبح ما خيفَ عليه الموت.
السادسة: حِلُّ ما يذبحه غيرُ مالِكِه بغير إذنه.
السابعة: إباحة ذبحه لغير مالكِهِ بغير إذنه عند الخوف عليه.
الشرط (الثالث) لصحة الذكاة: (قطع الحلقوم) وهو مجرى النَّفَس (والمريءِ) بالمدّ، وهو مجرى الطعام والشراب، وهو تحت الحلقوم.
ولا يشترط قطع الوَدْجَيْنِ (2). وهما عِرْقانِ محيطان بالحلقوم. والأوْلى قطعُهما خروجاً من الخلاف.
(ويكفي قطعُ البعضِ منهما) أي من الحلقوم والمريء (فلو قَطَع رأسه حلّ) سواء أتت الآلة على محل الذبح وفيه حياةٌ مستقرة، أوْ لا، على الصحيح.
وما ذُبِحَ من قفاهُ، ولو عمداً، إن أتت الآلة على محل الذبح وفيه حياةٌ مستقرةٌ حلّ بذلك، وإلا فلا.
(ويحل ذبحُ ما أصابه سبب الموت) من الحيوان المأكولِ (من
__________
(1) بناء على القاعدة الأصولية المشهورة "ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزّل منزلة العموم في المقال" وتمّمْتُها تحريراً لها كما يلي: "ما لم يتبيّن علمه - صلى الله عليه وسلم - بالحال، أو كان الاحتمال لندرتِهِ مما يعزب عن البال" انظر كتابنا: أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - ودلالتها على الأحكام الشرعية. جـ2 ص 86
(2) وعن أحمد رواية أخرى: يعتبر مع قطع الحلقوم والمريء قطع الودجين، وهو قول مالك وأبي يوسف. وقال أبو حنيفة: يعتبر معهما قطع أحد الودجين. قلت: الودج عرق الدم، فلو لم يقطع شيئاً من الودجين فالظاهر أن الدم لا ينهر. ولعل في هذا ما يجعل هذه الرواية أرجح.

(2/408)


منخنقةٍ) وهي التي تُخْنَق في حلقها (ومريضةٍ وأكيلةِ سبع) وهي ما أكل منها ذئبٌ أو نَمِرٌ أو سَبُعٌ، (وما صيد بشبكةٍ) أو شَرَكٍ (أو فخّ) فأصابه شيء من ذلك، ولم تصل إلى حدٍّ لا يعيش معه، (أو أنقذه) أي أَنَقَذَ إنسان حيواناً (من مهلكةٍ، إن ذكّاه وفيه حياة مستقرة) يمكن زيادتها على حركةِ مذبوحٍ, سواء أَنتهتِ المنخنقة ونحوِها إلى حالٍ يعلم أنها لا تعيش معه، أوْ تعيش (1)، حلَّتْ (كتحريك يده أو رجله أو طرف عينه) أو مَصْعِ ذنبه بأن حركه وضربَ به الأرض.
(وما قُطِعَ حلقومُه، أو أبينت حَشْوَته) ونحوه مما لا تبقى الحياة معه (فوجودُ حياته كعدمها) على الأصح، (لكن لو قطع الذابحُ الحلقومَ، ثم رفع يده قبل قطع المريء، لم يضرّ، إن عادَ فتمَّمَ الذكاةَ على الفور) قال في الإِقناع والمنتهى ولا يضر رفع يده إن أتمّ الذكاة على الفور. انتهى.
(وما عُجِزَ عن ذبحِهِ، كواقعٍ في بئرٍ أو متوحّشٍ) كان ينفر البعيرُ، أو يتردّى من عُلْوٍ فلا يقدِر المذكيّ على ذبحه، فذكاته (بجرحه في أي محلٍّ كان) أي في أي موضع أمكنه جرحه فيه، من بدنه، فهذا قول أكثر الفقهاء. روى ذلك عن عليّ وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله تعالى عنهم، وبه قال أبو حنيفة والشافعي. وقال مالك: لا يجوزُ أكلُهُ إلا أن يذكَّى.
الشرط (الرابع) لصحة الذكاة: (قول: بسمِ الله، لا يجزئ غيرُها) أي لا يقومُ تسبيحٌ ولا نحوه مقامها (عند حركةِ يده) أي يد الذابح (بالذبح) وذكر جماعة منهم الموفق والشارح: تكونُ التسميةُ عند الذبح، أو قريباً منه، فَصَلَ بالكلامِ أوْ لا، كالتسمية على الطهارة.
__________
(1) في (ب، ص): "أنها لا تعيش معه أوْ لا ... " والتصويب من (ف).

(2/409)


(وتجزئ) التسمية (بغير العربية، ولو أحْسَنَها) أي أحسن العربية، لأن المقصود ذكرُ اسم الله تعالى، وقد حَصَلَ، بخلاف التكبير في الصلاة، والسلام، فإن المقصود لفظه.
فإن كان أخرس أومأ برأسه.
(ويسن التكبير) مع التسمية، فيقول: بسم الله، والله أكبر.
ولا تستحب الصلاة والسلام على الذبيحة، لعدم وروده، ولأنها لا تناسب المقام، كزيادة "الرحمن الرحيم".
(وتسقط التسميةُ سهواً لا جهلاً) قال في الإِقناع: فإن ترك التسمية عمداً أو جهلاً لم تبح، وسهواً تباح.
ويشترط قَصْدُ التسمية على ما يذبحه، فلو سمّى على شاةٍ، وذَبَحَ غيرها بتلك التسمية لم تُبَحْ. انتهى. أما إذا أضجع شاةً لذبحها وسمى، ثم ألقى السكّين، وأخذ سكيناً أخرى، أو ردَّ السلامَ، أو كلَّمَ إنساناً، أو استقى ماء، ثم ذبح، حلّ.
تنبيه: يضمن أجيرٌ تَرَكَ التسميةَ عمداً أو جهلاً، لأنّه أتلفَها على ربِّها.
(ومن ذَكَرَ عند الذبح مع اسم الله تعالى اسْمَ غيرِهِ لم تحلّ) الذبيحة، روي ذلك عن عليّ رضي الله تعالى عنه، وعن بقية الصحابة.

فصل
(وتحصل ذكاة الجنين) المأكولِ إن خرج ميتاً أو متحركاً، كتحرُّكِ مذبوحٍ، أَشْعَرَ أوْ لا، (بذكاةِ أمه.)
ويستحب ذبحُهُ وإن كان ميتاً، ليخرُجَ الدَّمُ الذي في جوفه.
(وإن خرج) الجنين المباحُ (حيًّا حياةً مستقرة لم يبح إلا بذبحِهِ) أو

(2/410)


نحرِهِ، لأنه نفسٌ أخرى، وهو مستقل بحياتِهِ.
ولو وجأ بطنَ أمِّ جنينٍ بمحدّدٍ مسمّياً، فأصاب مذبحَ الجنين المباح، فهو مذكّىً والأم ميتة. فإن كانت نادَّةً حلّا.

[آداب التذكية]
(ويكره الذبحُ بآلة كالَّةٍ) لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب الإِحسانَ على كل شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسِنُوا القِتْلَةَ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، ولْيُحِدَّ أحدكم شفرَتَهُ -أي سكّينه- وليرح ذبيحته" رواه أحمد (1). ولأن الحيوانَ يحصل له تعذيبٌ بذبحه بآلة كالَّة، فكرهت لذلك.
(و) كره (سلخُ الحيوان وكسر عنقه) أو كسرُ عضوٍ معه ونتفُ ريشه (قبل زهوقِ نفسه) فإن فعل أساء وأكلت.
وكُرِهَ نفخُ لحمٍ يباع.
(وسنَّ توجيهه) أي المذكى بأن يُجعلَ وجهُهُ (للقبلة) ويجوز لغيرها، ولو تعمّده، على الأصح.
وسُنَّ كونه (على جنبه الأيسر.)
وسنّ رفقٌ به، وحملٌ على الآلة بقوة، (والإِسراعُ في الذبح) أي في الشحط.
(وما ذُبِحَ فغَرِقَ) عقبَ ذبحهِ، (أو تردَّى من عُلْوٍ) أي من محلٍّ عالٍ يقتل التردي من مثله، (أو وَطِئَ عليه شيء يقتله مثله لم يحلّ) على الأصح، لأن ذلك سبب يعين على زهوق الروح فيحصل الزهوقُ من سببٍ مبيحٍ وسبب محرِّمٍ، فغُلِّبَ التحريم.
__________
(1) حديث "إن الله كتب الإحسان .. " رواه أحمد ومسلم والأربعة (الفتح الكبير).

(2/411)