نَيْلُ
المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب كتَاب الصَّيد
وهو أن يريد بالفعل اقتناصَ حيوانٍ حلالٍ متوحّشٍ طبعاً غيرِ مقدورٍ عليه.
والمراد بلفظ الصيدِ هنا المصيد، وهو حيوانٌ مقتَنَصٌ حلالٌ متوحّش طبعاً
غيرُ مقدور عليه.
(ويباح الصيد لقاصدهِ) في الأصحّ، واستحبه ابن أبي موسى.
(ويكره) حال كونه (لهواً) لأنه عبث.
وإن كان في الصيد ظلم للناسِ بالعدوانِ على زروعهم وأموالهم فهو حرام.
[أطيب المكاسب]
(وهو) أي الحيوان المصيدُ (أفضل مأكولٍ) قاله في التبصرة. ولعلّ ذلك لأنه
من اكتسابِ المباحِ الذي لا شبهة فيه.
والزراعة أفضل مكتسب.
وأفضلُ التجارةِ في بَزٍّ وعطرٍ وزرْعٍ وغَرْسٍ وماشية.
وأبغضُها في رقيقٍ وصرفٍ.
وأفضل الصناعة خياطةٌ.
(2/412)
ونصّ أن كل ما نَصَحَ فيه فهو حسن. قال
المروزي: حثني أبو عبد الله على لزوم الصنعة.
وأدنى الصناعة حياكةٌ وحجامةٌ وقِمامَةٌ وزبالة ودباغة.
وأشدها كراهةٌ صبغٌ وصياغَةٌ وحِدادةٌ وجزارةٌ (1).
[تذكية المصيد]
(فمن أدركَ صيداً مجروحاً متحركاً فوق حركة مذبوحٍ، واتسعَ الوقتُ
لتذكيتِهِ لم يُبَحْ إلا بها) أي بتذكية، لأنه مقدورٌ عليه، أشبهَ سائر ما
قدر على ذكاته، ولأن ما كان كذلك فهو في حكم الحيّ حتى ولو خُشِيَ موته ولم
يجد ما يذكّيه به.
(وإن لم يتسع) الوقت لتذكيته (بل مات في الحال، حلّ بأربعة شروط):
(أحدها: كون الصائد أهلاً للذكاة) أي تحلُّ ذبيحتُه، ولو أعمى. ومرادهم
باشتراطِ كون الصائد أهلاً للذكاةِ إذا كان الصيدُ لا يحلّ إلا
__________
(1) في بعض ما قاله نظر، إذ لا دليل عليه. غير أن الصنعة التي فيها مباشرة
للنجاسة لا شك أدنى من غيرها. أما ما عدا ذلك، كالصرف والصياغة مثلاً، فإن
احترز صاحبهما من الغش، ولم يبع الذهب والفضة إلا يداً بيد واتقى الربا،
فما وجه الكراهة في ذلك؟ بل هما من أشرف الصنائع والتجارات وأكثرهما كسباً،
مع قلة المؤنة والعمل. وقد كان كلام بعض الفقهاء في ذلك بهذه الصورة سبباً
في تجنب المسلمين لهاتين الحرفتين، حتى استقل بهما في بلاد المسلمين اليهود
والنصارى والصابئة وجنوا من ذلك أعظم الثمار. وصاحب شرح المنتهى علَّلَ
للكراهة فيهما بتمكن الشبهة وما يدخلهما من الغش. فيا سبحان الله، قلما
تسلم صنعة من إمكان الغش فيها. وأين الشبهة فيهما؟! وما أحسن كلمة الإمام
أحمد رحمه الله "إن كل ما نصح فيه فحسن" وأما ما قاله في الحدادة، فقد كانت
صنعة داود عليه السلام الحدادة، وهي من أنفع الصنائع، إذ بها تتمكن الأمم
من الرقي وامتلاك السلاح من قرب، لترد به عن نفسها، فلا تقع فريسة الأعداء
الذين يحتكرون عنها السلاح. ويمنعونه عنها في الأزمات، إلا بالشروط
المذلّة، وبالتحكم في الرقاب. فعلينا أن نغيّر نظرتنا إلى الصناعة. وعفا
الله عمّن أودع مثل هذه الأقوال كتب الإسلام فأدّت إلى ما أدت إليه. والله
سبحانه وتعالى أعلم.
(2/413)
بالذكاة، أما صيدُ ما لا يَفتَقِر إلى
ذكاة، كالسمكِ إذا صاده من لا تباح ذبيحتُهُ، فإنه يباح، لأنه لا ذكاة له،
أشبه ما لو وجده ميتاً، (حال إرسال الآلةِ) فإن رماهُ وهو أهلٌ، ثم ارتدّ
بعد رميه، أو مات بعد رميه، وقبل الإصابة، حلّ اعتباراً بحال الرمي. وعكسُه
بأن رماهُ مرتدٌ أو مجوسيٌّ، ثم أسلم قبل الإصابة، لم يحل.
(ومن رمى) وهو مسلم (صيداً فأثْبَتَهُ ثم رماه ثانياً،) أو رماه آخر
(فقتله) أو وجأه بعد إيجاء (1) الأول (لم يحلّ) لأنه صار مقدوراً عليه
بإثباته، فلم يبح إلا بذبحه. ولمثبتِهِ قيمتُهُ مجروحاً على الرامي الثاني،
لأنه أتلفه عليه، حتى ولو أدرك الأولُ ذكاتَه فلم يذكِّه. إلا أتى يصيبَ
الرامي الأوّل مقتَلَه، أو يصيبَ الثاني مذبحه، فيحل. وعلى الثاني أرشُ خرق
جلده، لأنه لم يتلف سوى ذلك.
الشرط (الثاني) لِحلِّ ما وجد من الصيد ميتاً (الآلة، وهي نوعان): أحدهما:
(ما له حدٌّ يجرح) به، فيشترط فيه ما يشترط لآلة الذكاة، (كسيفٍ وسكينٍ
وسهمٍ.)
النوع (الثاني) من آلة الصيد: (جارِحةٌ معلَّمة) سواء كان الجارح مما يصيدُ
بمخلبهِ من الطير، أو بنابه من السباع (2) والكلاب، لقوله تعالى: {وَمَا
عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا
عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} (ككلب غيرِ أسود).
أما الكلبُ الأسود البهيم، وهو الذي لا بياض فيه، فيحرم صيدُه واقتناؤه،
ويباح قتله.
ويجب قتل كلّ كلب عقور (3)، وقال في الغنية: يحرم تركُه قولاً
__________
(1) لو قال "وجأة" لكان هو الصواب، فليس في لسان العرب "أوجأتُ".
(2) في (ف): "من الفهود" بدل "من السباع".
(3) في (ف): "ويباح قتل كل كلب عقور".
(2/414)
واحداً، إلا إن عقرتْ كلبةٌ من قَرُبَ من
ولدها. أو خرقَتْ ثوبه، فلا تقتل، بل تنقل.
(وفهد وباز وصقر وعقاب وشاهين).
(فتعليم الكلب والفهد) يكون (بثلاثة أمور):
1 - (بأن يسترسَل إذا أُرسل).
2 - (وينزجر إذا زُجِر). قال في المغني: لا في وقتِ رؤية الصيدِ، وقال في
الوجيز: لا في حال مشاهدته للصيد.
3 - (وإذا أمسك) صيداً (لم يأكلْ) منه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فإن
أكَلَ فلا تأكلْ فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه" متفق عليه، ولأن
العادةَ في المعلَّم تركُ الأكل، وأن ينتظر صاحبَه لِيطعمَهُ، فكان شرطاً،
كالانزجار إذا زُجِر، لا تكرُّر ذلك، فلو أكل بعدُ لم يخرج عن كونه
معلَّماً، ولم يحرم ما تقدم من صيده، ولم يبحْ ما أَكَلَ منه، ولم يحرم ما
شَرب من دمه.
ويجب غَسْل ما أصابه فم كلب.
(وتعليم الطير) الذي يصيد بمخلبه، كبازٍ وصقرٍ وعقابٍ يكون (بأمرين):
1 - (بأن يسترسل إذا أُرْسِل).
2 - (ويرجع إذا دُعِي) لا بترك الأكل، لقول ابن عباس رضي الله تعالى عنهما:
"إذا أكَلَ الكلبُ فلا تأكل، وإن أكل الصقر فكل" رواه الخلال. ولأن تعليمه
بالأكل، ويتعذّر تعليمه بدونه، فلم يقدح في تعليمه، بخلاف ما يصيد بنابه.
(ويشترط) لحلِّ ما يصيده ذو الناب أو ذو المخلب (إن يجرح الصيد) إذا قتله،
(فلو قتله) أي قتل الجارح الصيد (بصدْمٍ أو خنقٍ لم يبح) لأنه قتله بغير
جرح، أشبهَ ما لو قتله بحجر أو
(2/415)
بُنْدُقٍ، أو ضرَب شاةً بعصاً حتى ماتت.
وكل هذا وَقِيذٌ.
الشرط (الثالث) لحل ما وجد من الصيد ميتاً: (قصد الفعل) وهو رميُ السهمِ
قاصداً للصيدِ، أو ينصب ما ينصبه من مِنْجَلٍ أو سكينٍ قاصداً للصيد، لأن
قتل الصيد أمر يعتبر له الدين، فاعتبر له القصد، كالطهارة من الحدث.
(وهو أن يرسل الآلة لقصد الصيد) لأن إرسال الجارح جُعِلَ بمنزلة الذبح،
ولهذا اعتُبِرت التسمية معه، (فلو سمّى وأرسلها) أي الآلة (لا لقصد الصيد)
فقتَل صيداً لم يحلّ؛ (أو) أرسلها (لقصدِه ولم يَرَه، أو استرسل الجارح
بنفسه فقتل صيداً لم يحلّ،) ولو زَجَر الجارحَ ربُّه، ما لم يزد الجارح في
طلب الصيد بزجره، ويسمّي عند زجره فيقتل صيداً، فإنه يحل على الأصحّ.
الشرط (الرابع) لحلّ ما وجد من الصيد ميتاً (قول "بسم الله" عند إرسال
الجارحة، أو) عند (رمي سلاحه)، ولو بغير عربيّةٍ ممن يحسنها.
ولا يضرّ تقدُّم التسمية بالزمن اليسير، كالعبادة. وكذا تأخُّرٌ إذا
كَثُرُ، في جارح إذا زجرَهُ فانزجر.
(ولا تسقط هنا) أي في الصيد (سهواً) على الأصح، لأن في الصيد نصوصاً
خاصَّةً، ولأن الذبح يكثُرُ فيكثُرُ السهو فيه. ويفرَّقُ بين الذبح والصيد
بأن الذبح يقع في محلِّه، فجاز أن يسامح فيه، بخلاف الصيد.
(وما رمي من صيدٍ فوقع في ماء، أو تردّى من علوٍ، أو وَطِئَ عليه شيء، وكل)
شيء (من ذلك) أي من الوقوع في الماء، والتردّى من العلو، والوطءُ عليه
(يقتل مثله، لم يحل،) ولو مع إيجاد جرح.
(2/416)
وإن وقع في ماءٍ، ورأسه خارج الماء، فمباح،
أو كان من طير الماء، أو كان التردّي لا يقتل مثله ذلك الحيوان.
(ومثله) أي مثل ما ذكر في عدم الحلّ (لو رماهُ بمحدَّدٍ فيه سُمّ) إذا
احتمل أن السّمّ أعان على قتله. صرح به في الإِقناع والمنتهى، وذلك لأنه
اجتمع مبيحٌ ومحرِّمُ، فغلب المحرِّم، كسهمِ مسلمٍ ومجوسيٍّ.
(وإن رماه) أي رمى إنسانٌ صيداً (بالهواء، أو على شجرةٍ، أو) على (حائط،
فسقط ميتاً، حل) لأن الموت إنما كان بإصابة الجارح له، فلا يعتبر ما حصل
بعد ذلك، لأن وقوعه إلى الأرض لا بدّ منه، فلو حرم به لأدّى إلى أن لا يحلّ
طيرٌ أبداً.
(2/417)
|