نَيْلُ
المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب كتَاب الأَيمَان
واحدها يمين. وهو (1) القَسَمُ، بفتح السين المهملة.
فاليمينُ تأكيد حكم بذكر معظم على وجه مخصوص.
وهي وجوابُها كشرطٍ وجزاء.
والحَلِفُ على مستقبَلٍ إرادةَ تحقيقِ خبرٍ فيه، ممكنٍ، بقولٍ يقصد به
الحثَّ على فعل الممكنِ، أو تركِهِ.
والحَلف على أمرٍ ماضٍ إما بَرٌّ وهو الصادق، أو غموس وهو الكاذب، أو
لَغْوٌ، وهو ما لا أجر فيه ولا إثم ولا كفارة.
(لا تنعقد اليمين إلا بالله تعالى) (2) نحو: والله، وبالله، وتالله (أو
باسم من أسمائه، أو صفةٍ من صفاتِهِ، كعزة الله وقدرته وأمانته،) والرحمن
الرحيم، والقديم الأزلي، وخالق الخلق، ورازق العالمين، ورب العالمين،
والعالم بكل شيء، والحيّ الذي لا يموت، والأول
__________
(1) صوابه أن يقول "وهي القَسَم" لأن اليمين مؤنثة. وسيأتي في كلامه
تأنيثها.
(2) حديث "من حلف بغير الله فقد أشرك" رواه هكذا أحمد والترمذي والحاكم عن
ابن عمر مرفوعاً (الفتح الكبير) وأخرجه أبو داود وابن حبان. وفيه مجهول.
وأعلّه البيهقي بالانقطاع (الإِرواء ح 2561) لكن الذي صح عن ابن عمر بلفظ
"إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم. من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت"
متفق عليه.
(2/418)
الذي ليس قبله شيء، والآخِر الذي ليس بعده
شيء، ونحوه مما لا يُسَمَّى به غيره تعالى.
وأما ما سمِّيَ به غيره تعالى، وإطلاقه ينصرف إلى الله تعالى، كالعظيم
والرحيم والرب والمَوْلَى والرازق، فإن نوى به الله تعالى، أو أطلق، كان
يميناً. وإن نوى به غيره فليس بيمين، لأنه يستعمل في غيره، قال تعالى:
{فَارْجِعْ إلى رَبكَ} {فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ} {بِالمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ
رَحِيمٌ} والمولى المعتِقُ {وَلَهَا عَرْشٌ عَظيم}.
وإن قال: يميناً بالله، أو: قسماً) بالله، (أو: شهادةً) بالله، (انعقدتْ)
يمينه.
(وتنعقد) اليمين (بالقرآن)، وبكلام الله سبحانه وتعالى، (وبالمصحف)، وبسورة
من القرآن، وآيةٍ منه، (وبالتوراة ونحوها من الكتب المنزّلة) كالإنجيل
والزّبور.
قال ابن نصر الله في حواشيه: لو حلف بالتوراة والإِنجيل ونحوهما من كتب
الله، فلا نقل فيها. والظاهر أنها يمين. انتهى. وجَزَمَ بكونها يميناً في
المنتهى والإِقناع، لأن إطلاق اليمين إنما ينصرف للتوراة والإنجيل والزبور
المنزّل من عند الله تعالى دون المبدّل. ولا تسقُطُ حرمة شيء من ذلك بكونه
منسوخَ الحكم بالقرآن، فغاية ذلك أن يكون كالآية المنسوخِ حكمها من القرآن.
ولا تخرج بذلك عن كونها كلام الله تعالى. وإذا كانت كلامَهُ فهي صفةٌ من
صفاتِهِ، كالقرآن.
(ومن حلف بمخلوقٍ كالأولياءِ، والأنبياء عليهم) الصلاة و (السلام، أو) حلف
(بالكعبةِ) عظَّمها الله تبارك وتعالى، (ونحوها، حَرُم. ولا كفّارة) عليه
إن حنث. قال في المنتهى وشرحه: ويحرم بغيرِ ذات الله تعالى، وصفته، لما
رُوى أنّ ابن عمر: رأى رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال
(2/419)
ابن عمر: لا يُحلَفُ بغير الله، فإني سمعت
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حلَفَ بغيرِ الله فقد كفر أو
أشرك" رواه الترمذي وقال: هذا حديث حسن؛ سواء أضافه إلى الله تعالى، كقوله:
ومخلوق الله، ومقدوره، ومعلومه، وكعبته، ورسوله؛ أوْ لا، كقوله: والكعبة.
ولا كفارة في الحلف بغير الله (1) انتهى.
فصل [في كفارة اليمين]
(وشروط وجوب الكفارة خمسة أشياء،) فلا كفارةَ مع فَقْدِ واحدٍ منها:
(أحدها: كون الحالف مكلفاً) فلا تجب الكفارة على نائمٍ وصغيرٍ ومجنونٍ
(ومغمًى عليه) ومعتوهٍ.
(الثاني: كونه) أي الحالف (مختاراً) للحلف. ذكره الأصحاب، فلا تنعقد من
مُكْرَهٍ عليها.
(الثالث: كونه قاصداً لليمين) لقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا
عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} (فلا تنعقد) اليمينُ (ممن سبق) اليمينُ (على
لسانِهِ بلا قصدٍ) منه لِإيجابها، (كقوله: لا والله، و: بلى والله، في
عُرْضِ حديثه) فلا تجب فيه كفارة، على الأصح، وتسمَّى لغواً. قال البيضاوي:
اللغو الساقط الذي لا يعتدّ به من كلام وغيرِه. ولغوُ اليمين ما لا عَقْدَ
معه، كما سبق به اللسان، أو تكلَّمَ بهِ جاهلٌ بمعناه. وكقول العرب: لا
والله، و: بلى والله، لمجرد التأكيد. انتهى.
__________
(1) أي لكن عليه التوبة والاستغفار والعزم على أن لا يعود إليه.
(2/420)
(الرابع: كونها) أي اليمين (علىْ أمرٍ
مستقبَل) ممكنٍ، لأن من شروط الانعقاد إمكان برِّهِ وحِنْثِهِ. وذلك في
الماضي غير ممكن، (فلا كفارةَ على ماضٍ) كاذباً عالماً به. وهي الغموس (بل
إن تعمَّد الكَذِبَ فحرامٌ، وإلاّ) بأن لم يتعمَّد الكَذِبَ (فلا شيء
عليه).
تنبيه: إذا قال:. والله لَيَفعلَنَّ فلان كذا، أو: لا يفعلنَّ فلانٌ كذا،
فلم يطعه: أو حلف على حاضرٍ، فقال: والله لتفعلَنَّ يا فلانُ كذا، أو: لا
تفعلنّ كذا، فلم يطعه، حنث الحالف، لعدم وجود المحلوف عليه. والكفارة عليه
لا على من حنَّثَهُ.
وإن قال: أسألك بالله لتفعلنّ، وأراد اليمين، فكالتي قبلها. وإن أراد
الشفاعة إليه بالله تعالى فليست بيمين.
ويسنّ إبرار القسم وإجابة سؤال بالله، ولا يلزم.
(الخامس) لوجوب الكفارة بالحلف: (الحنثُ) في يمينه، لأن من لم يحنث لا
كفارة عليه، لأنه لم يهتكْ حُرْمَةُ القسم.
ويكون الحنث (بفعل ما حلف على تركِهِ، أو بترك ما حلف على فعله،) ولو كان
فعل ما حلف على تركه وترك ما حلف على فعله محرّمين لأنه لا وجود للحنث إلا
بما ذكر، لا إن حنث (1) مكرهاً بفعل الحالف، أو بفعل من حَلَفَ عليه، أو
حَنَثَ جاهلاً، كما لو قال: والله لا دخلتُ دارَ فلان، ثم دخلها جاهلاً
أنها دار فلان، يعني أنه لا يجب عليه كفارة.
(فإن كانَ) الحالفُ (عيّنَ وقتاً) لفعله (تعيَّن) ذلك الوقت لذلك الفعل،
لأن النيّة تَصْرِفُ ظاهرَ اللفظِ إلى غير ظاهره، فَلأنْ تصرفه إلى وقت آخر
بطريق الأولى (2).
__________
(1) (ب، ص): "لا إن الحنث مكرهاً ... " والتصويب من (ف).
(2) هذا القياس زاده المؤلف على ما في المنتهى وشرحه. ولا يظهر له وجه،
فليس هاهنا صرف إلى وقت آخر بل هنا تقييد للمطلق بالنية.
(2/421)
(وإلا) أي: وإن لم يعيِّن للفعل وقتاً (لم
يحنث، حتى ييأس من فعله) الذي حلف عليه، (بتلَفِ المحلوفِ عليه، أو موت
الحالف) أو نحوهما مما يحصل اليأس من البرّ به.
[الاستثناء في اليمين]
(ومن حلف بالله) تعالى: (لا يفعلُ كذا) إن شاء الله تعالى؛ (أو) حلف بالله
تعالى: (ليفعلنَّ كذا إن شاء الله) تعالى، (أو) قال: والله لأفعلن كذا إن
(أراد الله) تعالى، (أو: إلاَّ أن يشاء الله) تعالى، (واتصل) الاستثناء
(لفظاً، أو حكماً) كانقطاعه بتنفس، أو سعال، أو عُطاس، أو عِيٍّ، أو تثاؤب،
لأن الاستثناء من تمام الكلام، فاعتبر اتصاله، كالشرط وجوابه، (لم يحنَثْ،
فَعَلَ) المحلوفَ عليه (أو تَرَكَ) فعلَه، (بشرط أن يقصد الاستثناء قبل
تمام المستثنى منه) فلو حلف غيرَ قاصدٍ الاستثناء، ثم عَرَضَ له الاستثناء
بعد فراغه من اليمين، فاستثنى (1) لم ينفعه ذلك لعدم قصده له أوَّلاً.
ولو أراد الجزْمَ بيمينه، فسبَقَ لسانُه إلى الاستثناء من غير قصدٍ، أو
كانت عادته جاريةً به فجرى على لسانه من غير قصد، لم يصحّ، ويحنث؛ أو شكّ
في الاستثناء فالأصل عدمه.
فصل [في أنواع من الأيمان]
(ومن قال: طعامِي) أو: هذا الطعام (عليّ حرامٌ)؛ أو: كالميتة، أو: الدم،
ونحوه (أو) علَّق التحريمَ بشرطٍ، مثل: (إن أكلتُ كذا
__________
(1) سقط قوله "فاستثنى" من (ب، ص).
(2/422)
فحرامٌ، أو: إن فعلتُ كذا فحرام، لم يحرم)
لأن الله تعالى سمَّاه يميناً، بقوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ
لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ
لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} واليمين على الشيء لا يحرِّمه. (وعليه إن
فَعَل كفارَةُ يمين) نص عليه، لقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ
تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} يعني التكفير. وعن ابن عباس وابن عمر أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - "جعل تحريم الحلال يميناً" (1) (ومن قال: هو يهوديٌّ،
أو نصرانيٌّ) أو مجوسيٌّ (أو): هو (يعبُدُ الصليبَ) أو غير الله، (أو) يعبد
(الشَّرْقَ إن فعل كذا،) أو: لا يراه الله في موضع كذا، أو: هو يستحلُّ
الزِّنا أو الخمرَ أو تَرْكَ الصلاة، أو الصوم، أو الزكاة، أو الحج، أو
الطهارة (أو: هو بريء من الإسلام) أو القرآن (أو من النبي - صلى الله عليه
وسلم -، أو) قال: (هو كافرٌ بالله تعالى إن لم يفعل كذا، فقد ارتَكَبَ
محرَّماً، وعليه كفارة يمين إن فَعَلَ ما نفاه أو تَرَكَ ما أثبته) لحديث
زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (2) سئل عن الرجل يقول هو:
يهودي أو نصراني أو مجوسي أو بريء من الإسلام في اليمين يحلف بها فيحنث في
هذه الأشياء، فقال: "عليه كفارة يمين" رواه أبو بكر. واختار الموفق والناظم
أن لا كفارة عليه.
تنبيه: إن قال: عصيتُ الله تعالى، أو: أنا أعصي الله تعالى في
__________
(1) حديث ابن عباس وابن عمر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل تحريم
الحلال يميناً" ضعيف مرفوعاً. وصح موقوفاً على ابن عباس أنه قال: "إذا حرّم
الرجُلُ عليه امرأته فهي يمين يكفّرها. وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة
حسنة" رواه مسلم والبيهقي. ورواه البخاري فقال عنه: "إذا حرم امرأته ليس
بشيء وقال لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" (الإرواء ح 2574)
(2) حديث "سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الرجل يقول هو يهودي ..
الخ" قال الشيخ محمد ناصر الدين الألباني لم أقف على إسناده وما أراه يصح.
ثم رأيته في سنن البيهقي 10/ 30 وقال: لا أصل له من حديث الزهري ولا غيره،
تفرّد به سليمان الحرّاني وهو منكر الحديث (الإرواء ح 2577) قلت: لكن صح
الحديث "من حلف على يمين بمِلَّةٍ غير الإسلام كاذباً فهو كما قال" رواه
الجماعة من حديث ثابت بن الضحاك مرفوعاً.
(2/423)
كلّ ما أمرني، أو: محوتُ المصحف، أو: أدخله
الله النار، أو: هو زانٍ، أو: هو شارب خمر، أو: قَطَع الله يديه ورجليه،
ليفعلَنَّ كذا، أو إن فعل كذا فعبدُ زيد حرٌّ، أو: مال زيدٍ صدقةٌ، ونحوُ
ذلك، فلغوٌ.
(ومن أخبر عن نفسه بأنه حلف بالله) سبحانه وتعالى (ولم يكن حَلَفَ قكذْبةٌ،
لا كفارةَ فيها) على الأصح الذي مشى عليه في المنتهى والإقناع.
وإن قال: عليّ نذرٌ أو يمينٌ إن فعلت كذا، أوْ: عليّ عهدُ الله وميثاقُه إن
فعلت كذا، وفَعَلَه، كفَّر كفارةَ يمينٍ. وكذا: عليَّ نذرٌ، أو يمينٌ، فقط.
فصل [فيما يكفِّر به]
(وكفارة اليمين على التخيير) أي بين الإِطعام والكسوة والعِتقِ فقط. وإلا
فهي تجمع تخييراً وترتيباً.
والأصل في ذلك قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي
أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ
لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ
إِذَا حَلَفْتُمْ}.
فيخيّر من لزمته اليمين بين ثلاثة أشياء:
1 - (إطعام عشرة مساكين) مسلمينَ أحرارٍ، من جنسٍ واحدٍ، كتمْرٍ، أو أجناسٍ
كإطعامِ خمسةٍ بُرًّا، وخمسةٍ تمراً؛ أو البعض شعيراً والبعضِ زبيباً.
2 - (أو كسوتهم) وهي للرجل ثوبٌ تجزئه صلاته المكتوية فيه،
(2/424)
وللمرأة درعٌ وخمارٌ تجزئها صلاتها فيهما.
3 - (أو تحريرُ رقبةٍ مؤمنةٍ).
ويجوز أن يكسوهم من أي صنفٍ شاء، سواء كان من القطن أو الكتان أو الصوف أو
الشعر أو الوبر أو الخز، أو يكسو النساء من الحرير، لأن الله تعالى أمر
بكسوتهم، ولم يعيّنْ جنساً. فأيّ جنسٍ كساهم منه خرج به عن العهدة، لوجود
الكسوة المأمور بها، ولو عتيقاً، ما لم تذهب قوَّته.
فإنْ أطعم المساكين بعض الطعام، وكساهم بعض الكسوة. أو أعتق نصفَ عبدِهِ،
وأطعَمَ خمسةً، أو كساهم، أو أطعم وصام، وكسا البعض لم يجزه، كبقية
الكفارات.
(فإن لم يجد) بأن عجز عن العتق والإِطعام والكسوة، كعجزٍ عن فُطْرَةٍ، (صام
ثلاثة أيامٍ) لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ
أَيَّامٍ} (متتابعةٍ وجوباً) لأنَّ في قراءة أُبَيٍّ وابن مسعودٍ: (فصيامُ
ثلاثةِ أيامٍ متتابعةٍ) والظاهر أنهما سمعاه من النبي - صلى الله عليه وسلم
-، فيكون خبراً، ولأنه صومٌ في كفارةٍ لا ينتقل إليه إلا بعد العجز عن
الثلاثة، فوجب فيه التتابع، كصيام المُظَاهِر.
ومحلُّ وجوب التتابع (إن لم يكن) له (عذرٌ) في ترك التتابع من مرضٍ أو
غيره.
(ولا يصحّ أن يكفِّر الرقِيق بغير الصوم) لأن ذلك فرضُ المعسِرِ من
الأحرار، وهو أحسنُ حالاً من العبد. وليس لسيده مَنْعهُ منه، ولا مِنْ صومِ
نَذرٍ.
(وعكْسه الكافر) يعني أن الكافر إذا وجبت عليه كفارةٌ يكفّر بغيرِ الصوم،
لأن الصوم عبادة، وهي لا تصحّ من الكافر.
(2/425)
(وإخراجُ الكفّارة قبل الحنث وبعده سواء)
في الفضيلة، حتى ولو كان التكفير بالصوم، لأنه كفَّر بعد وجود السبب،
فأجزأ، كما لو كفّر كفارة القتل بعد الجرْحِ وقبل الزهوق، والسبب هو
اليمين، بدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا
حَلَفْتُمْ} وقوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ}.
ولا تجزئ الكفارة قبل الحلف إجماعاً. كتقدّم الزكاةِ قبل ملك النصاب.
(ومن حنث ولو في ألف يمينٍ بالله تعالى ولم يكفر، فكفارةٌ واحدة) ولو على
أفعال مختلفةٍ، كقوله: والله لا أكلت. والله لا شربت. والله لا لبست.
(2/426)
باب جَامع الأيمَان
ومبناها أبداً على النية.
(يُرْجَعُ في الأيمان إلى نيّة الحالف) إن كان الحالف غير ظالم بها، وكان
لفظه يحتمل النية، فتتعلق يمينه بما نواه، دون ما لَفَظَ به. (فمن دعي
لغداءٍ، فحلف لا يتغدّى، لم يحنث) إذا تغدّى (بِغَدَاءِ غيره، إن قَصَدَهُ)
لاختصاص الحلف به.
ومن حلف على إنسان لا يشربُ له ماءٌ من عطشٍ، ونيته، أو السبب، قطعُ
مِنَّتِهِ، حنث بأكل خبزه، أو استعارة دابته، وكل ما فيه مِنَّة، لا بأقلّ،
كقعوده في ضوء نارهِ.
(أو حلف لا يدخلُ دار فلانٍ وقال: نويت: اليوم، قُبل) منه ذلك (حكماً) أي
في الحكم، لأن ذلك لا يعلم إلا من جهته، ولفظُهُ يحتمله، (فلا يحنَث
بالدخولِ) أي دخوله الدارَ (في غيرِهِ) أي غير ذلك اليوم الذي نواه، لأن
قصده تعلّق به، فاختصّ الحنث بالدخول فيه.
(و) من حلف على امرأتِهِ عن دارٍ بأن قال: والله (لا عُدْتُ رأيتكِ تدخلين
دار فلان، ينوي منعها، فدخلتها، حنث ولو لم يرها)، لمخالفتها نيته بعدم
امتناعها.
(2/427)
ومن حلف لا يأكل تمراً لحلاوتِهِ حنث بكل
حلْوٍ، بخلاف: أعتقتُهُ لأنه أسود، فيعتق وحده.
فصل
(فإن لم ينوِ شيئاً) يعني فإن لم يكن للحالف نية (رُجِعَ إلى سبب اليمين
وما هيَّجها) لدلالة ذلك على النية، (فمن حلف: ليقضينَّ زيداً حقَّه غداً،
فقضاه قبله) لم يحنث إذا قَصَد عدم تجاوزِه، أو اقتضَاهُ السَّبَبُ، لأن
مقتضى اليمين تعجيلُ القضاء قبل خروج الغد، فإذا قضاه قبله فقد قضاه قبل
خروج الغد، وزاده خيراً، ولأن مبنى الأيمان على النية، ونية هذا بيمينه
تعجيلُ القضاء قبل خروج الغد، فتعلقت يمينه بهذا المعنى، كما لو صرح به.
وكذا أكلُ شيءٍ وبيعُه وفعلُه غداً.
(أو: لا يبيعُ كذا إلا بمائةٍ، فباعه بأكثر) فلا يحنث إلا إن باعه بأقلَّ
من مائة.
و: لا يبيعه بمائة، فباعه بها، أو أقل، حنث.
(أو) حلف: (لا يدخل بلد كذا لظلمٍ) رآه (فيها) أي في البلد، (فزالَ) الظلمُ
(ودخلَها، أو) حلف: (لا يكلِّم زيداً لشربه الخمر، فكلَّمه) أي فكلَّم
زيداً (وقد تركه) أي شرب الخمر، (لم يحنث في الجميع) أي جميع ما ذكر من
المسائل.
فصل
(فإن عدم النية والسبب) أي سبب اليمين وما هيّجها (رُجِع إلى التعيين) وهو
الإِشارة. لأن التعيين أبلغ من دلالة الاسمِ على المسمَّى،
(2/428)
لأنه ينفي الإِبهام بالكلية، بخلاف الاسم.
ولهذا لو شهد عدلانِ على عين شخصٍ وجب على الحاكم الحكم عليه، بخلاف ما لو
شهدا على مسمًّى باسمه لم يحكم حتى يعلم أنه المسمَّى بذلك، فيقدِّم
التعيينَ على الاسم، والصفة، والإِضافة.
(فمن حلف: لا يدخل دارَ فلانٍ هذه، فدخلها وقد باعها، أو) دخلها (وهي
فضاء)، أو مسجد، أو حمام؛ أو حلف: لا لبستُ هذا القميص، فلبسه وهو رداءٌ،
أو لبسه وهو عمامة، أو وهو سراويل؛ (أو) حلف (لا كلمتُ هذا الصبيَّ فصار
شيخاً، وكلَّمه،) أو: لا كلمتُ امرأةَ فلانٍ هذه، أو: عبده هذا، أو: صديقه
هذا، فزال ذلك، ثم كلَّمهم؛ (أو) حلف: (لا أكلت هذا الرُّطَبَ، فصار تمراً)
أو صار دِبْساً أو خلاًّ، أو هذا اللبن فصار جُبْناً، (ثم أكَلَه،) ولا
نيَّة له ولا سَبَبَ، (حنث في الجميع) لأن عين المحلوف عليه باقية، كحلفه:
لا لبست هذا الغَزْل، فصار ثوباً.
فصل
(فإن عدم النيةُ والسببُ) أي سبب اليمين وما هيّجها (والتعيينُ، رُجِعَ إلى
ما تناوله الاسم) لأنه لا دليل على إرادة المسمَّى، ولا معارضة له هنا،
فوجب أن يُرْجَعَ إليه عملاً به، لسلامته على المعارضة. (وهو) أي الاسم
(ثلاثةٌ: شرعيٌّ، فعُرْفيٌّ، فلُغَوِيٌّ).
(فاليمين المطلقة) على فعل شيءٍ من ذلك، أو على تركِهِ، (تنصرف إلى)
الموضوع (الشرعيّ) لأن ذلك هو المتبادر إلى الفهم عند الإِطلاق، لأنّ
الشارع إذا قال: صلّ، تعيّن عليه فعل الصلاة المشتملة على الأفعال
المعلومة، إلا أنْ يقترنَ ذلكَ بكلامٍ يدلُّ على
(2/429)
إرادة الموضوع اللغويّ. فكذا يمين الحالف.
(وتتناول الصحيح منه) أي من الموضوع الشرعيّ، لأنه ممنوع من الفاسِدِ بأصلِ
الشَّرْع، فلا حاجة إلى المنع من فعله باليمين. (فإن حلف: لا ينكِحُ، أو)
حلف: (لا يبيع، أو) حلف: (لا يشتري) والشركة شراءٌ، والتولية شراء،
والسَّلم والصُّلح على مالٍ شراء، (فعَقَد عقداً فاسداً) من نكاح أو بيع أو
شراءٍ (لم يحنث) لأن البيع إذا أُطْلق لا يتناول الفاسد، بدليل قوله سبحانه
وتعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وإنما أحلَّ
الصحيح من البيع، ويقاس عليه ما سواهُ من العقود. لا إن حلف لا يحجُّ،
فحجَّ حجاً فاسداً، قال في شرح المنتهى: ومقتضى ما تقدم أنّ من حلف: لا
يبيع، أو: لا يشتري، فباع أو اشترى بشرطِ خيارٍ إنه يحنث، لأنه بيع صحيح.
(لكن لو قيّد الحالف يمينَهُ بممتنع الصِّحَّة، كحلفه لا يبيع الخمر) أو لا
يبيع الحرّ، (ثم باعه، حنث بصورة ذلك) لتعذّر حمل يمينه على عقدٍ صحيح.
والحلف على الماضي والمستقبَلِ في جميعِ ذلك سواء، لأن ما لا يتناوله الاسم
في المستقبل، لا يتناوله في الماضي.
فصل
(فإن عدم الشرعيّ فالأيمانُ مبناها العُرْفُ) والعُرْفُ (1) هو ما اشتهر
مجازُه حتى غَلَبَ على حقيقته، كالراوية، فإنها في العرف للمزادة، وفي
الحقيقة للجَمَلِ الذي يُستقى عليه.
(فمن حلف: لا يطأُ امرأته،) أو أمتِهِ، (حنث بجماعها) لأن هذا
__________
(1) (ب، ص): "والفرق" والتصويب من (ف).
(2/430)
هو المعنى الذي ينصرف إليه اللفظ في العرف،
وكذا إذا حلف على ترك وطءِ زوجتِهِ صار مؤلياً؛ (أو) حلف: (لا يطأ) داراً،
(أو) حلف: (لا يضع قدمه في دار فلان حنَثَ بدخولها راكباً أو ماشياً،
حافياً أو منتعِلاً.) لأن ظاهر حلفه إرادة الامتناعِ من دخولها، فهو كما لو
قال: لا أدخلها، فإذا دخلها على أي صفة كانت حنث، لأن المقصودَ من اليمين
الامتناع.
تنبيه: إذا حلفَ: لا يدخلُ داراً، فدخل مقبرةً، لا يحنث لأنها لا تسمى
داراً في عرف الناس.
(أو) حلف: (لا يدخل بيتاً، حنَثَ بدخول المسجد) لقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ
أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} وقوله تعالى:
{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} (و) دخولِ (الحمّام) لقوله - صلى
الله عليه وسلم -: "بئسَ البيتُ الحمّام" رواه أبو داود وغيره (1) (و)
دخولِ (بيتِ الشَّعَر) والأَدَم والخيمة، لأن اسم البيت يقع عليه حقيقةً
وعرفاً، لقوله تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا
وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا} والخيمة في معنى بيتِ
الشَّعَر. وعلم مما تقدّم أنه لا يحنث بدخول صُفَّة الدار، ودهليزِها، لأن
ذلك لا يسمى بيتاً.
(و) من حلف: (لا يضربُ فلانةَ، فخنقها أو نتَفَ شعرها، أو عضّها، حنث) لأن
قصده بذلك تأليمَها، وقد آلمها. لكن لو عضّها للتلذّذ، ولم يقصد تأليمَها،
لم يحنث. ولهذا لو حلف: ليضربَنَّها، ففعل ذلك، بَرَّ، لوجودِ المقصودِ
بالضَّرْب. وإن ضَرَبَها بعد موتها لم يبرّ.
تتمة: من حلف لا يشمُّ الَريحان، فشم ورداً، أو بنفسجاً، أو ياسميناً، أو
زنْبَقاً، أو نسريناً، أو نرجساً؛ أو لا يشمُّ ورداً أو بنفسجاً،
__________
(1) وهو حديث ضعيف (ضعيف الجامع الصغير)
(2/431)
فشم دُهنَهُما، أو ماءَ الورد؛ أو لا يشمُّ
طيباً، فشم نَبْتاً ريحه طيب كالخزامى , حنث.
فصل
(فإن عدم العُرْفُ رُجِعَ إلى اللُّغة، فإن حلف: لا يأكل لحماً، حنث بكلِّ
لحمٍ) كلحم السمك، حتى بالمحرّم من اللحم، (كالميتةِ والخنزير) وكل [حيوان]
غير مأكولٍ (1): كالفَهْد والدّبّ والنمر والعقاب والصقر والحية والفأر،
ونحو ذلك، (لا بما لا يسمى لحماً) يعني أن من حلف لا يأكل لحماً لا يحنث
بأكل ما لا يسمى لحماً (كالشحم) ونحوه، (كمخ وكبدٍ وكليةٍ وكرشي ومُصْرانٍ
وطِحَالٍ وقلب وألية ودماغٍ وقانِصَةٍ وكارِعٍ ولحمِ رأسٍ ولسانٍ) لأن
إطلاق اسم اللحم لا يتناول شيئاً من ذلك، ولأن بيَاع الرؤوس يسمى رأآساً
(2) لا لحّاماً، ولأنَّ كلاًّ ممن ذكرنا منفردٌ عن اللحم بالاسم والصفة.
(و) من حلف (لا يأكل لبناً، فأكله، ولو من لبنِ آدميةٍ) أو صيدٍ (حنَثَ)
لأن الاسم يتناوله حقيقة وعرفاً، سواء كان حليباً أو رائباً أو مائعاً أو
مجمداً، لأن الجميع لبن، لا إن أكل زبداً أو سمناً أو كِشْكاً أو مَصْلاً.
قال في القاموس: المَصْلُ والمَصَالَةُ ما سال من الأقِطِ إذا طُبِخ ثم
عُصِر. انتهى.
(و: لا يأكل رأساً ولا بيضاً، حنث بكل رأسٍ وكلّ بيض حتى برأس الجراد
وبيضِهِ) لأن ذلك يدخل تحت مسمى الرأس والبيض، فيحنَثُ به.
__________
(1) عبارة: "وكلّ غير مأكول" ثابتة في (ف) وحدها.
(2) في (ف): "روّاساً".
(2/432)
(و) من حلف: (لا يأكلُ فاكهةً حنث بكل ما
يتفكّه بِهِ حتى بالبطيخ) لأنه ينضَجُ ويحلو ويتفكَّه به، فكان داخلاً في
مسمى الفاكهة، وبأكلِ كلَّ ثمرِ شجرٍ غير برّيّ، كبلَحٍ وعنب ورمان وسفرجل
وتفَّاح وكُمِّثرى وخَوْخ ومشمش وزعرور أبيض، وأُتْرُجّ وتوت وتين وموز
وجُمِّيزٍ، ولو يابساً كصَنَوْبَرٍ وعِنابٍ وجوز ولوز وبندق وفستق وتمر
وزبيب وإجّاص ونحوها، لأنَ يبَسَ ذلك لا يخرجهُ عن اسم الفاكهة، (لا) بأكل
(القثّاءِ والخِيارِ) لأن ذلك من الخُضَر، فلا يحنث بهما من حلف لا يأكل
فاكهة، (و) لا بأكل (الزيتونِ) لأنّه لا يتفكه بأكله، وإنما المقصود زيتُه،
(والزَّعْرُورِ الأحمر) والآس وسائر شجر برّيّ لا يستطاب، كثمر القيقب
والعفص وباذنجان وكرنب، ولا بأكل ما يكون بالأرض كجزر ولفت وفجل وقلقاس
وكمأة، ونحوه.
(و) من حلف: (لا يتغدّى، فأكل بعد الزوال (1)، أو) حلف: (لا يتعشّى، فأكل
بعد نصف الليل، أو) حلف: (لا يتسحر، فأكل قبله) أي قبل نصف الليل، (لم
يحنث) ما لم تكن له نية، لأن الغداء مأخوذ من الغُدْوَة، وهي من طلوع الفجر
إلى الزوال، والعشاء مأخوذ من العَشِيّ، وهو من زوال الشمس إلى نصف الليل
الأوّل، والسحور مأخوذ من السَّحَر، وهو من نصف الليل إلى طلوع الفجر.
(و) من حلف: (لا يأكل من هذه الشجرة، حنث بأكلِ ثمرتها) أي من ثمرتها، ولو
واحدة، (فقط)، يعني فلا يحنث بأكل وَرَقِها ونحوه لأن الثمرة المتبادرة إلى
الذهن، فيحنث بأكل الثمرة، ولو لقطها من تحتها، أو من إناءٍ، لأنها من
الشجرة.
__________
(1) تقدم في كلامه أن العرف مقدم على اللغة. وعلى هذا فالبلاد التي عرفها
أن الغداء بعد الزوال، يحنث فيها من حلف لا يتغدى إذا أكل بعد الزوال.
(2/433)
(و) من حلف: (لا يأكل من هذه البقرة، حنث
بأكل كلِّ شيءٍ منها، لـ) كن لا يحنث بأكله (من لبنها وولدها) لأنهما ليسا
من أجزائها.
(و) من حلف: (لا يشرب من هذا النهرِ، أو) حلف لا يشرب من هذِهِ (البئر
فاغترف بإناء) منهما، أو من أحدهما، (وشرب، حنث) لأنهما ليسا بآلةٍ للشرب،
والشرب منهما في العادة، إنما يكون بالاغتراف، إما بيده، أو بإناءٍ غيرها،
فيحمل على ما جرت به العادة في الشرب، فيحنث بوجوده (لا إن حلف لا يشرب من
هذا الإناء، فاغترف منه وشرب) فإنه لا يحنث، لأن الإناء آلةٌ للشرب، فحقيقة
الشُّرب منه أن يكرع منه، وإذا صَبَّ من إناءٍ وشرب لم يكن شارباً منه.
فصل
(ومن حَلَفَ: لا يدخل دار فلانٍ، أو) حلف: (لا يركبُ دابّته،) أو: لا يلبس
ثوبه، (حنَثَ بما جعله) فلانٌ (لعبدِهِ) من دارٍ ودابّةٍ وثوبٍ، لأن دار
العبد ودابته وثوبه ملك لسيده (1)، (أو) بما (آجره) فلانٌ، (أو) بما
(استأجره) فلانٌ، لأن الدار تضاف إلى ساكنها، كما تضاف إلى مالكها، لقوله
تعالى: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} وقوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي
بُيُوتِكُنَّ} ولأن الإضافة للاختصاص، وساكنُ الدار يختص بها، فكانت
إضافتها إليه صحيحة، وهي مستعملة في العرف، و (لا) يحنث (بما استعاره) أي
لا يحنث بدخول دارٍ استعارها فلانٌ على الأصح، أو بركوب دابّةٍ استعارها
فلان على الأصح، أو لبس ثوباً استعاره فلان، لأنه لا يملك منافع ما
استعاره.
__________
(1) كذا في (ف) وفي (ب، ص): "لأن ذلك ملك لسيده".
(2/434)
ومن حلف: لا يدخل مسكن زيدٍ، حنث بمستأجَرٍ
ومُعارٍ ومغصوب يسكنه زيد، لأنه مسكنه، لا بملكه الذي لا يسكنه.
وإن قال: مِلْكُه، لم يحنث بمستأجَر. (و) من حلف: (لا يكلم إنساناً، حنث
بكلام كلِّ إنسان) لأن ذلك نكرة في سياق النفي، فتعمُّ، لفعلِه المحلوفَ
عليه (1) (حتى بقولهِ) له: تنحّ، أو (اسكتْ) وبزجره بكلِّ لفظٍ في الأصح،
لأن ذلك كلامٌ، فيدخل فيما حلف على عدمه، لا بسلامٍ من صلاةٍ صلاها إماماً،
نصّ عليه.
(و) من حلف: (لا كلمتُ فلاناً، فكاتبه، أو راسلَهُ، حنث) على الأصحّ، ما لم
يَنْوِ مشافَهَتُهُ، لا إذا أُرتجَ عليه في صلاةٍ كان فيها إماماً للحالف،
ففتح عليه الحالف فإنه لا يحنث.
(و) إن حلف: (لا بدأتُ فلاناً بكلامٍ فتكلَّما معاً لم يحنث) لأن مقتضى
يمينه أن لا يوجد كلامه لفلانٍ قبل كلام فلانٍ، فإذا تكلما معاً لم يوجد
كلامه قبله، فلا يحنث.
(و) من حلف: (لا مِلْكَ له، لم يحنث بدينٍ) له، لأن الملك يختص بالأعيان من
الأموال، فلا يعمُّ الدين. لأن الدين إنما يتعيّن للملك (2) بقبضه.
(و) من حلف: (لا مال له أو) حلف: (لا يملكُ مالاً، حنث بالدين)، وبمالٍ غير
زكوي، وبِضائعٍ، لم ييأس من عَوْده، وبمغصوبٍ منه، لأن المال ما تناوله
الناس عادة لطلب الربح، مأخوذ من الميل (3) من يدٍ إلى يدٍ، ومن جانِبٍ إلى
جانب، فيشمل ذلك غير ما تجب فيه الزكاة من النقود، وغيرها، لأن غير النقود
أموال. وقال عمر رضي الله تعالى
__________
(1) قوله "لفعله المحلوف عليه" تعليل للحنث، أي: يحنث لأنه بتكليمه فعل
ماحلف على تركه.
(2) (ف): "يتعين الملك فيما يقبضه منه".
(3) في هذا نظر، فإن المال واوي العين.
(2/435)
عنه: أصبتُ أرضاً بخيبرَ لم أُصِبْ مالاً
قطٌّ هو أنفس عندي منه.
(و) من حلف (ليضربنَّ فلاناً بمائةٍ، فجمعها وضربه بها ضربةً واحدة، برَّ)
في يمينه لأنه ضربه بالمائة كما حلف (لا إن حلف ليضربنه مائةً) فجمعها
وضربه بها ضربة واحدة، ولو آلمه بها لأن الظاهر من هذا اليمين أنه يريد
ضربه بالسوط مائةَ ضربةٍ ليتكرّر ألمه بتكرار الضرب.
(ومن حلف لا يسكن هذا الدارَ، أو) حلف: (ليخرجنّ) من هذه الدار، (أو) حلف:
(ليرحلنّ منها) أي من هذه الدار، (لزمه الخروجُ بنفسِهِ وأهلِهِ ومتاعِهِ
المقصودِ. فإن أقامَ فوق زمنٍ يمكنه الخروج فيه عادةً، ولم يخرج، حَنَثَ.
فإن لم يجد مسكناً) ينتقل إليه، أو لم يجد ما ينقل متاعه، (أو أبت زوجتُهُ
الخروج معه، ولا يمكنه إجبارها، فخرج وَحْدَهُ لم يحنث).
(وكذا) حكمُ (البلد) إذا حلف: ليرحلنّ منها، أو: ليخرجن منها (إلا أنه يبر
بخروجِهِ وحده إذا حلف ليخرجن منه) لأنه إذا حلف ليخرجنّ من هذه البلدة،
تناولت يمينه الخروج بنفسِهِ لأن الدار يخرج منها صاحبها في اليوم مرات في
العادة، فظاهر حاله أنه لم يرد الخروج المعتاد، وإنما أراد الخروج الذي هو
النقلة، والخروج من البلد بخلاف ذلك.
(ولا يحنثُ في الجميع) أي فيما إذا حلف ليخرجنّ، أو ليرحلنّ من الدار، أو
من البلد، وخرج ثم أراد العَوْدَ، (بالعَوْدِ) لأن يمينه على الخروج، وقد
خرج وانحلَّتْ يمينه بفعلِ ما حلفَ على فعلِهِ. ومحل ذلك (ما لم تكن له
نية، أو) يكن هناك (سبب) يقتضي هجران ما حلفَ على الرحيلِ منه، فيحنث
بعوده.
(والسفر القصير سفرٌ يبرُّ به من حلف ليسافرَنّ، ويحنث به من حَلَفَ لا
يسافر) قال في الفروع: والسفر القصير سفر. ويتوجه بِرٌّ حالفٍ
(2/436)
ليسافرَنّ به. ولهذا نقل الأثرم: أقلُّ من
يومٍ يكون سفراً، إلا أنه لا تقصر فيه الصلاة. وفي الإِرشاد: إن بقية أحكام
السفرِ تجوز فيه.
(وكذا النومُ اليسيرُ) يعني أنه يبرّ به من حلف لينامَنَّ، ويحنث به من حلف
لا ينام.
(ومن حلف لا يستخدم فلاناً) رجلاً كان أو امرأة، عبداً أو حراً (فخدَمَهُ)
الذي حلف أنه لا يستخدمه، (وهو) أي الحالف (ساكتٌ، حَنَثَ) لأن إقراره على
خدمته استخدام له. ولهذا يقال: فلان يستخدم عبدَه، إذا خدمه وإن لم يأمره.
(و) من حلف: (لا يبيتُ) ببلدِ كذا، كدمشق، مثلاً (أو) حلف: (لا يأكل ببلد
كذا، فبات، أو أكل خارج بنيانه) أي بنيان البلد (لم يحنث. وفعل الوكيل
كالموكل، فمن حلف لا يفعل كذا فوكّل فيه من يفعله، حنث) لأن الفعل يضاف إلى
من فعل عنه، ولهذا قال تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُؤوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ}
وقال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ} وإنما الحالق غيرهما.
وإذا أضيف فعلُ الوكيلِ إلى الموكلِ حنث لوجود المحلوف عليه.
وكذا إذا حلف لا يضربُ عبده فَضُرِبَ بأمِرِه، فإنه يحنث.
تنبيه: إن حلف أنه لا يبيع زيداً، فباع من يعلم أنه يشتريه له، حنث.
(2/437)
باب النَّذر
هو لغةً الإيجاب، يقال: فلانٌ نَذَرَ دم فلانٍ، أي: أوْجَبَ قتله.
(وهو) أي النذر (مكروه)، ولو عبادةً، لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عنه،
وقال: "إنه لم يأتِ بخيرٍ، وإنما يُستخرَجُ به من البخيل" متفق عليه.
والنهي عنه للكراهة، لأنه لو كان حراماً ما مَدَحَ الوافين به، لأن ذمّهم
بارتكاب المحرم أشد من طاعتهم في وفائه، ولو كان مستحبًّا لَفَعَلَه - صلى
الله عليه وسلم -.
(لا يأتي) أي النذر (بخير، للخبر (1)، ولا يرد قضاءٌ،) ولا يملِكُ به شيئاً
محدَثاً، قاله ابن حامد.
(ولا يصحّ) النذر (إلا بالقول) الدالّ عليه (من مكلَّفٍ مختار،) ولو كان
المكلف المختارُ كافراً.
(وأنواعه) أي النذر (المنعقدةُ ستةٌ أحكامها مختلفة) (2):
(أحدها: النذرُ المطلَقُ، كقوله) أي قول من يصحّ منه عقد اليمين: (لله على
نذرٌ. فيلزمه كفارةُ يمينٍ) وهذا قولُ أكثرِ أهل العلم، لما روى عقبة بن
عامرٍ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كفارةُ النَّذْرِ إذا
لم
__________
(1) "للخبر" زيادة من (ف). وهو: "النذر لا يأتي بخيرٍ وإنما يُسْتَخْرَجُ
به من البخيل".
(2) (ب، ص): "ستة أحكامٍ مختلفة" والتصويب من (ف).
(2/438)
يسمَّ كفارةُ يمينٍ" (1) رواه ابن ماجة
والترمذي.
(وكذا إن قال: عليَّ نذرٌ إن فعلتُ كذا، ثم فعله) في لزوم الكفَّارَة.
النوع (الثاني: نَذْرُ لجاجٍ وغضبٍ) وهو تعليقه بشرطٍ يقصد إمَّا لمنعٍ من
شيء أو لحملٍ عليه (كإن كلّمتك) فعليّ الحجُّ، أو العتقُ أو صومُ سنةٍ أو
مالي صدقة (أو إن لم أعطك، أو إن كان هذا كذا فعليَّ الحج أو: العتق أو:
صوم سنة، أو: مالي صدقة).
(فيخيّر) من صدر منه ذلك (بين الفعلِ أو كفَّارة يمينٍ) أي بين أن لا يكلمه
في صورة المنعِ، أو يكلمه، ويكفّر كفارة يمينٍ، لأنها يمين، فيخير فيها بين
الأمرين كيمينٍ بالله تعالى. ولا يضرُّ قوله: على مذهبِ من يُلْزِمُ بذلك،
أو قوله: لا أقلد من يرى الكفّارة ونحوه.
النوع (الثالث: نذرُ فعل مباحٍ. كـ) قوله: (لله عليّ أن ألبَسَ ثوبي، أو):
لله عليَّ أن (أركب دابّتي).
(فيخير أيضاً) بين أن يلبس ثوبه، أو يركب دابته، ولا يكفّر، وبين أن لا
يفعل شيئاً من ذلك، ويكفِّرَ كفارة يمين.
النوع (الرابع) من أنواع النذر الستة: (نذرُ) شيءٍ (مكروه،
كطلاقٍ ونحوه) من أكلِ ثوم وبصلٍ وتركِ سنَّةٍ, (فيسنَّ أن يكفِّر) ليخرج
من عهدة النذر (ولا يفعلَه) لأن ترك المكروه أولى من فعله، فإن فعله فلا
كفارة عليه، لأنه وفي بنذره.
النوع (الخامس) من أنواع النذر الستة: (نذرُ) فعلِ (معصيةٍ).
وينعقد على الأصح. وهو من مفرداتِ المذهب.
__________
(1) حديث "كفارة النذر كفارة يمين إذا لم يسمّ" رواه أحمد والترمذي وابن
ماجه وقال الترمذي حديث حسن صحيح.
(2/439)
ومثّل للمعصية بقوله: (كشرْب خمرٍ، وصومِ
يومِ العيدِ، ونحوه) كصوم يوم حيضٍ، أو نفاسٍ، أو أيَّامَ التشريق.
(فيحرم الوفاء) بهذا النذر، لأن معصية الله تعالى لا تباح في حال من
الأحوال.
(ويكفرُ) من لم يفعله كفارة يمينٍ.
(ويقضي الصومَ) غيرَ صوم يومِ حيضٍ. فمن نذر صومَ يومِ عيدٍ قضى يوماً. ومن
نذر صومَ أيامِ التشريق قضى ثلاثة أيام. ولا يصوم يومَ العيدِ ولا أيام
التشريق، لانعقاد نذره، فتصحّ منه القربة ويلغو تعيينه، لكونه معصيةً، كنذر
مريضٍ صومَ يوم يُخاف عليه فيه، ينعقد نذره ويحرُم صومه. وكذا الصلاةُ في
ثوب حريرٍ، والطلاقُ زمن الحيض، ونذرُ صوم ليلةِ العيدِ لا ينعقد، ولا
كفَارة لأنها ليستْ زمناً للصوم.
النوَع (السادس) من أنواع النذر الستة: (نذرُ تَبَرُّرٍ، كصلاة وصيامٍ، ولو
واجبينِ، واعتكافٍ وصدقةٍ وحجٍّ وعمرةٍ) وعيادةِ مريضٍ وشهودِ جنازةٍ (بقصد
التقرّب) من غيرِ أن يعلّق ذلك بشرطٍ (أو يعلّق ذلك بشرطِ حصولِ نعمةٍ)
يرجوها (أو دفع نقمةٍ) يخافها، (كـ) قوله: (إن شَفَى الله مريضي، أو سَلِم
مالي، فعليّ كذا).
(فهذا) القسم (يجب الوفاء به) قال في شرح المنتهى بعد سياقِ عبارةِ
المتْنِ: وعلم مما تقدّم أن نذر التبرر يتنوع ثلاثة أنواع:
أحدها: إذا كان في مقابلةِ نعمة استجْلَبَها، أو نقمةٍ استدفعها، كقوله: إن
شفى الله مريضي فللَّه علي صوم شهر. قال في المبدع: وكذا إن لم يكن كذلك،
كطلوعِ الشمس وقدومِ الحاج. قاله في المستوعب. قال الشيخ تقي الدين فيمن
قال: إن قَدِمَ فلانٌ أصومُ كذا: هذا نذرُ يجب الوفاء به مع القدرة، ولا
أعلم فيه نزاعاً اهـ باختصار.
(2/440)
الثاني: التزام طاعةٍ من غير شرطٍ. كقوله
ابتداء: لله عليّ صومُ شهر. فيلزم الوفاء به في قول أكثر أهل العلم.
الثالث: نذرُ طاعةٍ لا أصل لها في الوجوب، كالاعتكافِ وعيادةِ المريض،
فيلزم الوفاء به عند عامة أهل العلم لقوله - صلى الله عليه وسلم -:"مَنْ
نَذَرَ أن يطيع الله فليطعه" رواه البخاري: انتهى باختصار.
تنبيه: يجوز إخراجُ ما نذره من الصدقة، وفعلُ ما نذره من الطاعة، قبل وجودِ
شرطه المعلق عليه، لوجود سببه، وهو النذر، ككفارة اليمين.
فائدة: قال الشيخ: النذْرُ للقبور، أو لأهلها، كالنذر لِإبراهيم الخليل
عليه السلام، والشيخ فلانٍ، نَذْرُ معصيةٍ لا يجوز الوفاء به. وإن تصدق بما
نذره من ذلك على من يستحقه من الفقراء والصالحين، كان خيراً له عند الله
وأنفع.
وقال: من نَذَرَ إسراج بئرٍ أو مقبرةٍ أو جبلٍ أو شجرةٍ؛ أو نَذَرَ لَهُ أو
لسكّانه أو المضافين إلى ذلك المكان لم يجز، ولا يجوز الوفاء به، إجماعاً.
ويصرف في المصالح، ما لم يُعْرَفُ ربه. ومن الحسن صرفه في نظيرِهِ من
المشروع، وفي لزوم الكفارة خلاف. انتهى.
فصل
(ومن نذر صوم شهر معيّن) كشعبان، (لزمَهُ صومُهُ متتابعاً).
(فإن أفطر لغير عذرٍ حرم) عليه الإِفطار، (ولزمه استئناف الصوم مع كفارة
يمينٍ، لفوات المحلّ.)
وإن صام قبل مجيء الشهرِ المعيّن لم يجزِهِ، كما لو صام شعبان عن رمضان
الذي بعده.
(2/441)
(و) إن أفطر منه يوماً فأكثر (لعذرٍ بني)
على ما مضى من صيامه. (ويكفّر لفوات التتابع).
(ولو نَذَرَ شهراً) أي صوم شهرٍ (مطلقاً) يعني من غير تعيين الشهر، (أو)
نَذَرَ (صوماً متتابعاً غير مقيد بزمنٍ لزمَهُ التتابع) في صومِهِ
المطْلَقِ والمتتابع.
(فإن أفطر لغير عذرٍ لزمه استئنافه) أي استئناف الصوم من أوله، (بلا
كفارةٍ) لأنه فعل المنذور.
(و) إن أفطر (لعذرٍ خُيِّر بين استئنافه) أي الصوم (ولا شيء عليه) أي لا
كفارة عليه، (وبين البناء ويكفّر) لفوات التتابع، كفارةَ يمين.
وإن نذر صلاةً فركعتان قائماً لقادر.
(ولمن نَذر صلاةً جالساً أن يصليها قائماً) لأنه أتى بأفضل مما نذره.
(2/442)
|