نَيْلُ
المَآرِب بشَرح دَلِيلُ الطَّالِب كتَاب (القضَاء) والفتيا
وهي تبيينُ الحكم الشرعيّ (1). ولا يلزم جوابُ ما لم يقعْ، ولا ما لا
يحتمله سائل، ولا ما لا نفع فيه.
والقضاءُ تبيينُهُ الحكمَ، والإلزامُ به، وفصل الخصومات.
(وهو فرض كفايةٍ) لأن أمر الناس لا يستقيم بدونه، فكان واجباً، كالإمامة
والجهاد.
[تنصيب القضاة]
(فيجب على الإِمام أن ينصبَ بكلِّ إقليم) بكسرة الهمزة أحد الأقاليم
السبعة: أولها: الهند، الثاني: الحجاز، الثالث: مصر، الرابع: بابل، الخامس:
الروم والشام، السادس: بلاد الترك، السابع: الصين. كذا رأيته بخط سيدي
الشيخ عبد الباقي الحنبلي (2). (قاضياً) لأن الإمام
__________
(1) حققت في رسالتي "الفتيا ومناهج الإفتاء" وهي مطبوعة، أن التعريف الصحيح
للإفتاء "الإخبار بحكم شرعي، عن دليلٍ، لمن سأل عنه، في أمرٍ واقع "والشارح
أضاف عبارة (الفتيا) إلى عنوان الكتاب، ولم يذكر أحكامها. فارجع إليها في
الرسالة المذكورة إن شئت الاطّلاع، والله يتولاني وإياك.
(2) في مناسبة هذا النقل لهذا المقام نظر، إذ يلزم عليه أن ينصب في الشام
كلها قاضياً واحداً، وذلك غير كاف، ويلزم عليه ترك المغرب العربي والأندلس
واليمن كلها من غير قاض. وإنما مرادهم بالإقليم الكورة المتسعة التي لها
أمير وفيها مركز حكم. وسيأتي =
(2/443)
لا يمكنه أن يتولّى الخصومات والنظر فيها
في جميع البلدان، والخصوماتُ بين الناس تكثر، فوجب أن يرتَّب في كل إقليم
من يتولّى فصل الخصومات لئلا يتوقف ذلك على السفر إلى الإِمام، فتضيع
الحقوق في السفر إلى الإِمام من المشقة وكلفة النفقة.
(و) يجب على الإِمام أيضاً أن (يختار لذلك) أي لنصب القضاء (أفضلَ من يجدُ
علماً وورعاً) أي في العلم والورع، لأن الإِمام ناظرٌ للمسلمين، فيجب عليه
اختيار الأصلح لهم، فيختار أفضلَهُمْ علماً، لأنه إنما يمكنه القضاء بين
المترافعين مع العِلْم، لأن القضاء بالشيء فرع العلم به. والأفضل أولى من
المفضول، لأنه أثبت وأمكن. وكذا كلّما كان ورعه أكثر كان سكون النفس فيما
يحكم به أعظم، وكان من ترك التحرّي، والميلِ في جانب، أبعد.
(ويأمره) عند ولايته (بالتقوى) لأنها رأس الدين.
(و) يأمره أيضاً بـ (تحرّي العدل) وهو إعطاء الحق لمستحقه من غير ميل، وهذا
هو المقصود من القضاءِ.
ويأمره أن يستخلف في كل ناحية من نواحي عمله أفضل من يجد لهم.
(وتصحّ ولايةُ القضاءِ، والإِمارةُ) كأميرِ جهادٍ ووكيل بيت المال (منجزةً)
كوليتُك الحكمَ الآن (ومعلَّقةً) بشرط، كإن مات فلانٌ القاضي فقد وليت
فلاناً عِوَضَهُ، وإن مات أميرُ جيشِ كذا ففلانٌ عوضه، فمات تعيّن المولّى
باسمه موضعَهُ.
(وشرط لصحة التوليةِ كونُها من إمامٍ، أو نائبه فيه) أي القضاء،
__________
= من تعليله وجوب نصب القضاة في الأقاليم بضياع الحقوق بمشقة السفر، ما
يدلك على هذا. وإنما أُتيَ الشارح من قول أهل البلدان إن الأقاليم سبعة
ومرادهم المناطق المناخية.
(2/444)
لأن ولاية القضاء من المصالح العامة، لا
تجوزُ إلا من جهة الإِمام، كعقد الذمة. ولأن الإِمام صاحبُ الأمر والنهي،
وهو واجب الطاعة، ومسموع الكلمة.
وأنْ يعرِفَ الإِمام أو نائيُهُ أن المولّى صالح للقضاء، لأن الأصل
العَدَمُ، فلا تجوز توليته مع العلم بعدم صلاحيته.
(و) يشترط لصحة تولية القضاء أيضاً (أن يعيِّن له ما يوليّه فيه الحكمَ من
عملٍ) وهو ما يجمع بلداناً وقُرًى متفرقةً، كالعراق ونواحيه، (وبلدٍ) كمكةَ
والقاهرة، ليعلم محلّ ولايته فيحكم فيه، ولا يحكم في غيره.
ومشافهتُهُ بها، أو مكاتبتُهُ، وإشهاد عدلين عليها، أو استفاضتُها، إذا كان
بلدُ الإِمام من البلد الذي ولي فيه خمسة أيام فما دون، لا عدالة المولِّي
بكسر اللام.
(وألفاظ التوليةِ الصريحة سبعة): الأول: (وليتك الحكم.) الثاني: ما أشار
إليه بقوله: (أو قَلَّدْتُكَهُ) أي الحكم. (و) الثالث: (فوضتُ) إليك الحكم.
والرابع: ما أشار إليه بقوله: (أو رددت) إليك الحكم. الخامس: ما أشار إليه
بقوله: (أو جعلت إليك الحكم. و) السادس: ما أشار إليه بقوله: (استخلفتك) في
الحكم. والسابع: ما أشار إليه بقوله: (أو استَنَبْتُكَ في الحكم.)
فإذا وجد أحد هذه الألفاظ السبعة، وقبِلَ مولىً حاضِرٌ بالمجلِسِ، أو غائبٌ
عنه، أو شَرَعَ الغائب في العمل انعقدت.
(والكناية) من ألفاظ التولية: نحو: (اعتمدتُ) عليك، (أو عوّلت عليك، أو:
وَكّلْتُ) إليك، (أو: استندتُ إليك، لا تنعقد) الولاية (بها) أي بألفاظ
الكناية (إلا بقرينةٍ، نحو: فاحكم، أو: فتولَّ ما عولتُ عليك
(2/445)
فيه،) لأن هذه الألفاظ تحتمل التوليةَ
وغيرَها، من كونه يأخُذُ برأيه وغير ذلك، فلا تنصرف إلى التولية إلا
بقرينةٍ تنفي الاحتمال.
فصل
(وتفيد ولايةُ الحكمِ العامةُ) وهي التي لم تختصّ بحالٍ دون حالٍ، النظرَ
في الأشياء والإلزام بها، وهي:
(فصلُ الخصوماتِ، وأخذُ الحق) ممن يجب عليه (ودفعُه للمستحق).
(والنظرُ في مال اليتيم) الذي لم يُقَمْ له وصي، (و) مالِ (السفيهِ، و)
مالِ (الغائب) ما لم يكن له وكيل.
(والحجَرُ لسفهٍ وفَلَسٍ).
(والنظرُ في الأوقاف) التي في عمله (لتجري على شروطها).
والنظرُ في مصالح طرق عمله وأفنيته.
وتنفيذ الوصايا.
(وتزويجُ من لا ولي لها) من النساء.
وتصفُّح حالِ شهوده وأمنائه.
وإقامة حد، وإقامة إمامة جمعةٍ وعيدٍ ما لم يخصّا بإمام.
وجبايةُ خراجٍ وزكاةٍ ما لم يخصّا بعامل.
(ولا يستفيدُ الاحتسابَ على الباعة) والمشترين، (ولا إلزامهم بالشرع.) وله
طلب رزق من بيت المال لنفسه وأمنائه وخلفائه، حتى مع عدم حاجة.
(و) إذا ولّاه في محلٍّ خاصٍّ (لا ينفذ حكمه في غيرِ محلّ عمله) فإذا أذنتْ
له امرأةٌ في تزويجها وهي في عمله، فلم يزوّجها حتى خرجت من عمله، لم يصح.
(2/446)
فصل [في شروط
القاضي]
(ويشترط في القاضي عشر خصال):
الأولى والثانية: (كونه بالغاً عاقلاً) لأن غير البالغ والعاقلِ تحت وِلاية
غيره، فلا يكون ولياً على غيره.
الثالثة: كونه (ذكراً) لأن القاضي يحضره محافلُ الخصومِ والرجال، ويحتاج
فيه إلى كمالِ الرأيِ وتمام العقلِ والفطنةِ. والمرأةَ ناقصةُ العقل ضعيفةُ
الرأي ليستْ أهلاً للحضور في محافل الرّجال، ولا تُقْبَلُ شهادتُها ولو كان
معها ألفُ امرأةٍ، ما لم يكن معَهنَّ (1) رجل.
الرابعة: كونه (حراً) لأن غيرَهُ ناقصٌ لما فيه من الرق، مشغولٌ بحقوقِ
سيّده، فلم يكن أهلاً للقضاء، كالمرأة.
الخامسة: كونه (مسلماً) لأن الإسلام شرط العدالة، فأولى أن يكونَ شرطاً
للقضاء.
السادسة: كونه (عدلاً) ولو تائباً من قذفٍ، فلا يجوز توليةُ الفاسقِ، ولا
من فيه نقصٌ يمنع قبول شهادته.
السابعة: كونه (سميعاً) لأن الأصم لا يسمع كلام الخصمين.
الثامنة: كونه (بصيراً) لأن الأعمى لا يعرِف المدّعي من المدّعى عليه، ولا
يعرِفُ المقرّ من المقَرِّ له.
التاسعة: كونه (متكلّماً) لأن الأخرس لا يمكنُه النطق في الحكم، ولا يفهم
جميعُ الناسِ إشارته.
العاشرة: كونه (مجتهداً) قال في الفروع: إجماعاً. ذكره ابن
__________
(1) ورأي ابن جرير الطبري جواز توليتها القضاء، ويرى أبو حنيفة جواز
توليتها القضاء في غير الحدود.
(2/447)
حزم، وأنهم أجمعوا على أنه لا يحل لحاكمٍ،
ولا مفتٍ تقليدُ رجلٍ، لا يحكُمُ ولا يفتي إلا بقوله.
وفي الإفصاح: أن الإجماع انعقد على تقليدِ كلٍّ من المذاهب الأربعة وأن
الحق لا يخرج عنهم (1).
(ولو) كان اجتهادُهُ (في مذهبِ إمامِهِ، للضرورة) واختاره في الترغيب.
واختار في الإِيضاح والرعاية: أو مقلّداً. قال في الإنصاف: قلت: وعليه
العمل من مدة طويلة، وإلا تعطّلت أحكام الناس. انتهى.
فيراعي ألفاظ إمامِهِ ومتأخِّرَهَا ويقلّد كبار [أهل] مذهبه في ذلك، ويحكم
به.
[التحكيم]
(فلو حَكَّم) (2) بتشديد الكاف (اثنانِ فأكثرُ بينهما شخصاً صالحاً
للقضاءِ) يعني متصفاً بصلاحيته للقضاء، فحكم بينهما (نَفَذَ حكمه في كل ما
ينفذ فيه حكم من ولاّه الإِمام أو نائبه) لكن لكل من المتحاكمين الرجوعُ عن
تحكيمِهِ قَبْلَ شروعِهِ في الحكم، لأنه لا يلزم حكمه إلا برضا الخصمين،
أشْبَهَ رجوعَ الموكّل عن التوكيل قبل التصرف فيما وكل فيه.
(ويرفع) حكمه (الخلافَ، فلا يحلّ لأحد نقضه حيث أصابَ الحق).
وقال الشيخ: لا تشترط العشر صفاتٍ فيمن يحكّمه الخصمان.
__________
(1) دعوى الإجماع على هذا مردودة. وانظر اختيارات شيخ الإِسلام ابن تيمية
ففيها الكثير الخارج عن أقوال المذاهب الأربعة كفتياه بأن الطلاق الثلاث
بلفظ واحد يقع واحدة وغير ذلك. وقد صرّح به وقد وضحت ذلك في رسالتي في
الفتيا فليرجع إليها. والله أعلم.
(2) لو قال "وإن حكمَ ... الخ" لكان هو الصواب، إذ لا تفريع هنا.
(2/448)
فصل [في آدب
القضاء]
(ويسنُّ كون الحاكم قوياً بلا عنفٍ) وهو ضد الرِّفق، وذلك لئلا يطمع فيه
الظالم، (ليناً بلا ضعف) لئلا يهابه صاحبُ الحق، (حليماً) لئلا يغضب من
كلامِ الخصمِ فيمنعه ذلك من الحكم بينهم؛ (متأنِّياً) اسم فاعلٍ من التأني
وهو ضد العَجَلة، لئلا تؤدي عَجَلَتهُ إلى ما لا ينبغي، (متفطّناً) لئلا
يخدع من بعض الخصوم لغِرّةٍ. قال في شرح المقنع: عالماً بلغات أهل ولايته؛
(عفيفاً) وهو الذي يكف نفسه عن الحرام، لأنه لا يطمع في ميله بإطماعه؛
(بصيراً بأحكام الحكّام قبله،) لقولِ عليٍّ رضي الله تعالى عنه، وعن بقية
الصحابة، وعنّا بهم: لا ينبغي للقاضي أن يكون قاضياً حتى تكون فيه خمسُ
خصال: عفيفٌ حليمٌ، عليمٌ بما كان قبله، يستشيرُ ذوي الألباب، لا يخاف في
الله لومة لائم.
(ويجب عليه) أي على القاضي (العدلُ بين الخصمين في لحْظِهِ، ولفْظِهِ،
ومجلسِهِ، والدخولِ عليه) إلا إذا سَلّمَ أحدُهما فيردّ عليه، ولا ينتظر
سلام الثاني، و (إلا المسلم) إذا تخاصَمَ (مَعَ الكافِرِ، فيقدّم) المسلمَ
(دخولاً) أي في الدخول على القاضي، (ويُرْفَعُ جلوساً) أي في الجلوس، لحرمة
الإِسلام. قال الله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ
فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} (ويحرم عليه) أي على القاضي (أخذُ الرِّشوة)
بتثليث الراء، وكذا هديّة.
(و) يحرم (أن يُسَارّ أحدَ الخصمين، أو يضيّفه) دون الآخر، أو يلقّنَهُ
حجته، لما في ذلك من الإِعانة على خصمه وكسْرِ قلبه، (أو يقومَ له دون
الآخر) أو يعلّمه كيف يَدَّعي، إلا أن يَتْرُكَ ما يلزم ذكرُهُ، كشرطِ
(2/449)
عقدٍ وسببٍ ونحوِه، فله أن يسأله عنه، لأنه
لا ضرر على صاحبه في ذلك.
(ويحرم عليه الحكمُ وهو غضبانُ كثيراً) لأنه ربما حمله الغضب على الجور في
الحكم، (أو) يقضي (وهو حاقِنٌ) البولَ، (أو في شدةِ جوعٍ أو عطشٍ أو همٍّ
أو ملَلٍ أو كَسَلٍ أو نُعَاسٍ أو بَرْدٍ مؤلم، أو حرٍّ مزعج) لأنّ ذلك كله
يشغل الفكر الذي يتوصل به إلى إصابة الحق في الغالب، ويمنع حضورَ القلب.
فهو في معنى الغضب المنصوص عليه، فيجري مجراه.
(فإن خالَفَ وحكم) في حالة لا يحل له الحكم فيها، كما لو حكم وهو غضبان
ونحو ذلك (صح إن أصاب الحق) ذكره القاضي في المجرد وكان للنبي - صلى الله
عليه وسلم - القضاء مع ذلك، (ويحرم عليه أن يحكم بالجهلِ) لما فيه من
الوعيد الشديد، (أو) يحكم (وهو متردد) في حكم الله تعالى في الواقعة (فإن
خالَفَ، وحَكَمَ، لم يصحّ) حكمه، (ولو أصَابَ) بالحكْمِ، (الحقّ).
(ويوصي) القاضي وجوباً (الوكلاءَ والأعوانَ) الذين (ببابه بالرفقِ بالخصومِ
وقِلَّةَ الطمع)، لأن في ضد ذلك ضرراً بالناس. فيجب عليه أن يوصيهم بما
يزول به الضرر عن الناس.
(ويجتهد) القاضي (إن يكونوا شيوخاً أو كهولاً من أهل الدينِ والعفّة
والصّيانة) لأن كونهم كذلك أقل شرًّا، فإن الشباب شعبةٌ من الجنون، ولأن
الحاكم تأتيه النساءُ وفي اجتماع الشبابِ بهنّ ضرر عظيم.
(ويباح له) أي القاضي قال في المبدع: والأشهر أنه يسن له (أن يتخذ كاتباً)
لأن الحاكم يكثر اشتغالُه ونظره في أمر الناس، فلا يمكنه أن يتولّى الكتابة
بنفسه. وإن أمكنه الكتابة بنفسه جاز له اتخاذ الكاتب،
(2/450)
والاستنابةُ في الكتابة أولى من تولّيها
بنفسه، (ليكتب الوقائع).
(ويشترط كونه) أي الكاتب (مسلماً مكلّفاً عدلاً).
(ويسنّ كونه حافظًا عالمًا) لأن في ذلك إعانة على أمره، وكونُهُ حراً ليخرج
من الخلاف، وكونُهُ جيّدَ الخط ليكون أكمل، وكونه عارفاً، قاله في الكافي،
لأنه إن لم يكن عارفاً أفسد ما يكتبه بجهله.
(2/451)
باب طريق الحُكم وَصفته
طريقُ كل شيءٍ ما يُتَوَصَّلُ به إلى ذلك الشيء. والحكم فصل الخصومات.
(إذا حضر إلى الحاكم خصمان فله أن يسكت حتى يبتدئا) أي حتى تكون البداءة
بالكلام من جهتهما، (وله أن يقول: أيكما المدعي) لأن سؤاله عن المدعي منهما
لا تخصيص فيه لواحد منهما، فجاز لذلك. (فإذا ادَّعى أحدُهما) أي أحد
الخصمين (اشتُرِط كون الدعوى معلومة) أي كونها بشيء معلوم، لأن المدعى عليه
إذا اعترف بما ادُّعي عليه به، وطلب المدعي من الحاكم إلزامه به، وجب على
الحاكم إلزامه، والإِلزام بالمجهول لا يصح، فلذلك اعتُبِر كونها معلومة،
إلا في وصيّةٍ بمجهول وإقرارٍ وخلعٍ على مجهول.
(و) يشترط (كونها منفكة عما يكذّبها) فلا تصحّ على إنسان أنّه قَتَلَ أو
سرق من مدة عشرين سنة، وسنُّهُ دونها، أو ادّعى بنوةَ إنسانٍ لا يمكن كونه
منه.
(ثم إن كانت) الدعوى (بدينٍ اشترِطَ كونه) أي الدين (حالاًّ) قال في
الترغيب: الصحيح تسمع، فيثبت أصل الحق للّزومِ في المستقبل، كدعوى تدبير.
انتهى.
(2/452)
(وإن كانت) الدعوى (بعينٍ) كفرسٍ ونحوها
(اشترط حضورها لمجلس الحكم، لتعيّن بالإِشارة) لانتفاء اللبس بتعيّنها.
(فإن كانت) العين المدَّعى بها (غائبة عن البلد) أو كانت تالفةً، أو في
الذّمة (وَصَفَها) المدعي (كصفاتِ السلم،) وذلك بأن يستقصي في الدعوى ما
يشترط ذكره في السلم.
(فإذا أتمَّ المدعي دعواه) محرَّرةً (فإن أقرّ خصمه بما ادعاه) عليه، (أو
اعترف بسبب الحق، ثم ادعى البراءة، لم يلتَفِتْ لقوله، بل يُحلِّف المدعي
على نفي ما ادّعاه) المدعى عليه من البراءة بالإِبراء أو الأداء.
(وُيلزِمه بالحق، إلا أن يقيم) المدعى عليه (بينةً ببراءته) فيصرفه الحاكم
من طلب المدعى عليه. قال في الإِقناع: وإن قال: لي بيّنة بالوفاء
والإِبراء، أو قاله بعد ثبوت الحق ببينة أو إقرار، أمهل ثلاثة أيام.
وللمدعي ملازمته فيها حتى يقيمها. فإن عجز حلف المدعي على بقاء حقه.
(وإن أنكر الخصم ابتداءً بأن قال لمدعِ) عليه (قرضاً أو ثمناً) عن مثمن:
(ما أقرضني، أو) قال المدعي عليه ثمنه: (ما باعني، أو) قال: (لا يستحق عليّ
شيئاً مما ادعاه) من القرض أو الثمن، (أو) قال: (لا حقّ له عليّ، صح
الجواب).
(فيقول الحاكم للمدعي: هل لك بينة) بالذي ادعيته؟ (فإن قال: نعم) لي عليه
بينة، (قال له: إن شئت فأحضرها) أي بيّنتك.
(فإذا أحضرها) المدعي بين يدي الحاكم، (وشهدت) عنده (سمعها، وحَرُمَ) عليه
(ترديدها).
وفي الرعاية: إن ظن الصلحَ أخّر الحكم. وفي الفصول. أحبَبْنا له (1)
__________
(1) (ب، ص): "له إحالة" والتصويب من (ف).
(2/453)
أمرهما بالصلح، ويؤخّره، فإن أبيا حكم. وفي
المغني: ويقول: قد شهدا عليك، فإنْ كان لك قادحٌ فبيّنْهُ عندي، يعني:
يستحبّ. ذكره غير صاحب المغني. وذكره في المهذّب والمستوعِب فيما إذا ارتاب
فيهما.
ويكره انتهارهما وطلب زلتهما.
فصل [في تعديل الشهود وجرحهم]
(ويعتبر في البينة العدالةُ ظاهراً) قال في المنتهى والإِقناع: (و) كذا
(باطناً) لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} ولو لم يطعن
فيها خصمه فلا بد من العلم بها. ولو قيل: إن الأصل في المسلمين العدالة.
قال الزركشي: لأن الغالب الخروج عنها. وقال الشيخ: ومن قال: الأصل في
الإِنسان العدالة، فقد أخطأ. وإنما الأصل فيه الظلم والجهل، لقوله تعالى:
{إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً} انتهى.
ولا تشترط باطناً في عقدِ نكاحٍ.
(وللحاكم أن يعمل بعلمه فيما أقرّ به في مجلس حكمه) ولو لم يسمعْهُ غيره،
لأنه إذا جاز الحكم بشهادةِ غيرِه فبسماعِهِ هو أولى، ولأنّه لو لم يعمل
بما أقر به عنده أفضى ذلك إلى ضياع الحقوق، لأنه قد يقرُّ عنده، ولا يحضره
أحد من الشهود، فإذا لم يحكم به ضاع حَقُّ المقَرِّ له.
(و) يعمل بعلمه (في عدالةِ البينة، وفسقها) لأن التهمة لا تلحقه في ذلك،
لأن صفات الشهود معنًى ظاهر. ولا يحكم بعلمه في غيرِ ما ذكر، ولو في غير
حدٍّ.
(2/454)
(فإن ارتاب) الحاكم (منها) أي من البينة
(فلا بد من المزكِّينَ لها) أي للبينة.
(فإن طلب المدعي من المحاكم أن يحبس غريمه حتى يأتي بمن يزكّي بيّنته
أجابه) أي أجابَ المدعي (لما سأل، وانتظره ثلاثة أيام).
(فإذا أتى) المدعي (بالمزكّين اعتُبِرَ معرفتُهُمْ لمن يزكونه بالصُّحبة
والمعاملة) والجوار.
ويكفي في تزكية الشاهد عدلان، يقول كل منهما: أشهد أنه عدل.
وبينةُ جَرْحٍ مقدمة.
ومن ثبتت عدالته مرةً لزمَ البحثُ عنها مع طول المدّة بين الشهادتين.
(فإن ادّعى الغريمُ فِسْقَ المزكين) للبينة (أو فسق البينة المزكّاة، وأقام
بذلك) أي بفسقِ البيّنة، أو بفسق المزكًين لِلْبيِّنة (بينةً، سمعت) البينة
(وبطلت الشهادة).
(ولا يقبل من النساء (1) تعديل ولا تجريح) لأنها شهادة فيما ليس بمال ولا
يقصد به المال، ويطلع عليه الرجال في غالب الأحوال، أشبه الشهادة في
القصاص.
تنبيه: لا يسمع الجَرْحُ إلا مفسراً بما يقدح في العدالة، عن رؤية، فيقول
الشاهد بالجرح أشهد: أني رأيته يشرب الخمر، أو: يظلم الناس بأخذ أموالهم أو
ضربهم، أو: يعامِلُ بالرّبا، أو: سمعته يقذف.
أو عن استفاضةٍ، فلا يكفي أن يشهد أنه فاسق أو ليس بعدل، ولا قولُه: بلغني
عنه كذا. لكن يعرِّضُ جارحٌ بزناً لئلا يجب عليه الحد،
__________
(1) (ب، ص): "في النساء" والتصويب من (ف).
(2/455)
فإن صرّح حُدَّ إن لم يأت بتمام أربعة
شهود.
(وحيث ظهر فسقُ بينةِ المدعي، أو قال) المدعي (ابتداءً) أي قبل أن يقيم.
بينة: (ليس لي بينة) على هذا (قال له الحاكم: ليس لك على غريمِكَ إلا
اليمين،) ولا بدّ في اليمين من سؤال المدعي لها طوعاً، وإذن الحاكم فيها.
وللمدعي مع الكراهة تحليفه مع علمه بكذبه.
(فيحلِّف الغريمُ على صفةِ جوابِهِ في الدعوى) لأنه لا يلزمه أكثر من ذلك
الجواب، (ويخلِّي سبيلَه) إذا حلف، لأنه لم يبق عليه شيء.
(ويحرم تحليفه بعد ذلك.)
قال في المنتهى: وتحرم دعواه ثانياً، وتحليفُه، كبرىء. انتهى. قال في
الإِنصاف: ظاهر قوله: حلفه وخلى سبيله: إنه لا يحلف ثانياً بدعوى أخرى. وهو
صحيح. وهو المذهب. فيحرم تحليفه. أطلقه المصنف والشارح وغيرهما، وقدمه في
الفروع. قال في المستوعب والترغيب والرعاية: له تحليفه عند من جهل حلفه عند
غيره، لبقاء الحق بدليل أخذه ببينة. انتهى كلامه في الإِنصاف.
(وإن كان للمدعي بينة فله أن يقيمها بعد ذلك).
(وإن لم يحلف الغريم) أي المدعى عليه (قال له الحاكم: إن لم تحلف وإلا
قضيتُ عليكَ بالنُّكول) قال في المقنع: واختاره عامة شيوخنا.
(ويسن تكرارُهُ) أي قول: إن لم تحلف قضيت عليك، (ثلاثاً) من المرات.
(فإن لم يحلف قضى عليه) القاضي (بالنكول) بشرط أن يسأل المدعي ذلك، (ولزمه
الحقُّ).
(2/456)
تنبيه: إن قال المدعي: ما لي بينة، ثم أتى
بها، فإنها لا تسمع. نص على ذلك.
فصل [هل ينفذ حكم القاضي باطناً]
(وحُكْم الحاكم يرفع الخلاف، لكنه لا يزيل الشيء عن صفته باطناً) ولو كان
ذلك في عقدٍ وفسخٍ وطلاقٍ.
(فمتى حكم له) أي للمدعي (ببينة زورٍ بزوجيةِ امرأةٍ، ووطئ مع العلم) أي
علمه أنها لا تحل له (فكالزنا)، يجب عليه الحدُّ بذلك في الأصح. وعليها أن
تمتنع منه ما أمكنها، فإن أكرهها فالإِثم عليه دونها. ويصحّ أن تتزوج غيره،
لأن ذلك النكاح كلا نكاحٍ.
(وإن باع حنبليٌّ متروكَ التسميةِ) عمداً من ذبيحةٍ أو صيدٍ (فحكم بصحته
شافعيٌّ نَفَذَ) حكمُه عند أصحابنا، إلا أبا الخطاب، قاله في الفروع.
(ومن قلَّد) مجتهداً (في نكاح) مختلف فيه (صح، ولم يفارق) المنكوحة (بتغيّر
اجتهاده) أي اجتهاد المجتهد الذي قلده في الصحة، (كالحكم بذلك) أي كما لو
حكم به مجتهد يرى حال الحكم الصحة، ثم تغيّر اجتهاده، بخلاف مجتهدٍ نكح
نكاحاً أداه اجتهاده إلى صحته، ثم رأى بطلانه فإنه يلزمه أن يفارق،
لاعتقاده بطلانه وحرمةَ الوطء.
(2/457)
فصل [في القضاء
على الغائب]
(وتصح الدعوى بحقوقِ الآدميّين على الميت).
(و) تصح الدعوى (على غير المكلف، وعلى الغائب مسافة قصر) ولو في غير عمله،
(وكذا) تصح الدعوى على غائب (دونَها) أي دون مسافة القصر (إذا كان مستتراً،
بشرط البيّنة في الكلّ) أي في الدعوى على الميت وغير المكلف أو غائب مسافةِ
قصر أو مستترٍ.
ثمَّ إذا كُلِّفَ غير المكلف، ورشَد بعد الحكم عليه، أو حضر الغائب بعد
الحكم عليه، أو ظهر المستتر بعد الحكم عليه، فهو على حجته. فإن جَرَحَ
البينةَ بأمرٍ بعد أداء الشهادة، أو أطلق ولم يقُلْ قبل الشهادة ولا بعدها،
لم يقبل جرحه، ولم يبطل الحكم. وإن جرحها بأمرٍ قبل الحكم قُبِل تجريحه
وبَطَلَ الحكم.
ومن كان دونَ مسافة قصرٍ ظاهراً لم تسمع الدعوى عليه، ولا البينة، حتى
يحضرِ، كحاضر، إلا أن يمتنع من الحضور، فيسمعها، ثم إن وُجِد له مال وفَّى
منه، وإلا قال للمدّعي: إن عرفت له مالاً، وثبت عندي، وفّيتك منه.
[كتاب القاضي إلى القاضي]
(ويصحّ أن يكتب القاضي الذي ثبت عنده الحق) من قرضٍ وغصبٍ وبيعٍ وإجارةٍ
ورهنٍ ووصيةٍ بمالٍ وطلاقٍ ونكاحٍ ونسبٍ وتوكيلٍ في غير مالٍ وإيصاء على
أولادٍ وحدّ قذفٍ وكلِّ ما فيه حق آدميّ (إلى قاض آخر معينٍ أو غير معينٍ)
كأن يكتب "إلى من يصل إليه كتابي هذا من قضاة المسلمين وحكامهم" (بصورة
الدعوى الواقعة على الغائب، بشرط أن يقرأ ذلك على عدلينِ.) ويعتبَرُ
ضبطُهما لمعناه، وما يتعلّق به
(2/458)
الحكم منه، (ثم) يقول القاضي الكاتب إلى
غيره: "هذا كتابي إلى فلان بن فلان" أو "إلى من يصل إليه من القضاة" و
(يدفعه لهما) أي إلى العدلين اللذين شهدا عليه بما في الكتاب، (ويقول فيه:
"إنّ ذلك قد ثبت عندي" و) يقول فيه أيضاً: ("إنك تأخذُ الحق للمستحقّ"
فيلزم القاضي الواصلَ إليه) ذلك الكتاب (العملُ به) قال في المنتهى: وإذا
وصل الكتاب، وأُحضِرَ الخصم المذكور فيه باسمه ونسبه وحليته، فقال: ما أنا
بالمذكور، قُبِل قولُهُ بيمينه. فإن نَكَلَ، قضي عليه. وإن أقر بالاسم
والنسب، أو ثبت ببينة، فقال: المحكوم عليه غيري، لم يقبل إلا ببينة تشهد أن
بالبلد آخر كذلك، ولو ميتاً يقع به إشكال. فيتوقف حتى يعلم الخصم. انتهى.
(2/459)
باب القسمَة
هي تمييز بعض الأنصباء عن بعضٍ وإفرازها عنها.
(وهي) أي القسمة (نوعان: قسمةُ تراضٍ، وقسمة إجبارٍ):
[قسمة التراضي]
(فلا قسمة في) شيء (مشترك إلا برضا الشركاء كلِّهِم حيث كان في القسمة ضرر
ينقص القيمة، كحمام ودورٍ صغارٍ) أو لأنه لا تتعدل أجزاؤُه إلا بالتجزئة،
وهو جعْلُها أجزاء، ولا بالقيمة، (و) ذلك كـ (شجرٍ مفردٍ)، وأرضٍ ببعضها
بناءٌ أو بئر أو معدن، (وحيوان).
(وحيثُ تراضَيَا) أي المتقاسمان على القسمة أعياناً بالقيمة (صحّت) القسمة
(وكانتْ بيعاً يثبت فيها ما يثبت فيه) أي البيع (من الأحكام). قال القاضي
في التعليق، وصاحبُ المبهج، والموفق في الكافي: البيع ما فيهِ ردُّ عوضٍ.
فإن لم يكن فيه ردُّ عوضٍ فهي إفراز النصيبين وتمييز الحقّين، وليستْ
بيعاً. واختاره الشيخ.
(وإن لم يتراضيا) على ذلك (فدعا أحدهما شريكه إلى البيع في ذلك) أي في
الدور الصّغار، والشجر المفرد، والحيوانِ، ونحوه، (أو) دعا شريكه (إلى بيعِ
عبدٍ أو بهيمةٍ أو سيفٍ ونحوهِ) ككتابِ (مما هو شركة بينهما، أُجْبِرَ) على
البيع (إن امتنع، فإن أبى) شريكُهُ أَن يبيع معه
(2/460)
(بيع عليهما) أي باعه الحاكم عليهما (وقسم
الثمن) عليهما على قدر حصصهما. قال في الفروع: نقله الميموني وحنبل.
[المهايأة]
(ولا إجبار في قسمة المنافع) على الأصح، لأن المهايأة معاوضةُ حقٍّ بحقٍّ،
فلا يجبر عليها الممتنع. (فإن اقتسماها) أي المنافع مهايأةً (بالزمن كهذا
شهراً) أو عاماً ونحوه (والآخر مثله) أي شهراً وعاماً ونحو ذلك؛ (أو)
اقتسماها مهايأةً (بالمكان كـ) سكنى (هذا في بيت، و) سكنى (آخر في بيت صح)
ذلك (جائزاً) أي غير لازم سواء عيًنا مدةً أوْ لا، كالعارية من الجهتين،
يعني كما لو استعار كل واحد من الآخر شيئاً. (ولكلِّ) منهما (الرجوع) متى
شاء، فلو رجع أحدهما بعد استيفاء نوبته غرم ما انفرد به.
ونفقة الحيوان المشترك مدّةَ كل واحد من الشريكين المتهايئين في نوبته
عليه، لتراضيهما على المهايأة.
فصل [في قسمة الإِجبار]
(النوع الثاني) من نوعي القسمة: (قسمة إجبارٍ، وهي ما لا ضرر فيها) على أحد
الشريكين (ولا) فيها (ردُّ عوضٍ) من واحدٍ من الشركاء. وسمّيتْ قسمة إجبار
لأن الحاكم يجبر الممتنع منهما إذا كملت عنده شروط الإِجبار.
(وتتأتّى) قسمةُ الإِجبار (في كل مكيلٍ) وهو جنسُ الحبوب كلها، والمائعات،
وما يكال من الثمار كالتمر، والزبيب، واللوز، والفستق،
(2/461)
والبندق؛ أو يكال من غير الثمار كالأُشنان؛
(وموزونٍ) كالذّهب، والفضة، والنحاس، والرصاص، والحديد ونحوها من الجامدات.
وسواء كان ذلك مما مسَّتْهُ نار كدبسٍ وخلِّ تمرٍ، أوْ لا كدهنٍ ولبن.
(و) كذا تتأتى قسمة الإِجبار (في دارٍ كبيرة) ودكّانٍ (وأرضٍ واسعةٍ)
وبساتينَ، ولو لم تتساوَ أجزاءُ هذه المذكورات إذا أمكنَ قَسْمُها
بالتعديل، بأن لا يجعل شيء معها.
(ويدخل الشجرُ) في القسمة (تبعاً) للأرض، كالأخذ بالشفعة.
(وهذا النوع) أي قسمةُ الإِجبار (ليس بيعاً، فيجبُرُ الحاكمُ أحد الشريكين
إذا امتنع) عن القسمة.
ويشترط لحكم الحاكم بالإِجبار على القسمة ثلاثة شروط:
أحدها: أن يثبت عند الحاكم مِلْكُ الشركاءِ لذلك المقسوم، بالبينة.
الثاني: أن يثبت عنده أن لا ضرر فيها.
الثالث: أن يثبت عنده إمكان تعديل السهام في العينِ المقسومة من غير شيء
يجعل فيها، وإلاَّ لم يجبر الممتنع.
[القاسم]
(ويصحُّ) من الشريكين (إن يتقاسَمَا بأنفسهما، وأن ينصبا قاسماً بينهما) من
عند أنفسهما، لأن الحق لهما، فكيفما اتَّفقا عليه جاز.
ويصح أن يسألا حاكماً نصْبَهُ يقسم بينهم، فإذا سألوه إيّاه وجبت عليه
إجابتهم لقطع التنازع بين الشريكين.
(ويشترط إسلامه) أي القاسم الذي ينصبه الحاكم؛ (وعدالتَهُ) ليقبل قوله في
القسمة؛ (وتكليفه؛ ومعرفته بالقسمة) ليحصل منه المقصود، لأنه إذا لم يعرف
ذلك لم يكن تعيينه للسِّهام مقبولاً، كحاكِمٍ
(2/462)
يجهلُ ما يحكم به. لا حرّيته، فلا تشترط،
فتصحُّ قسمةُ عبدٍ ويكفي واحدٌ إلا مع تقويم.
تنبيه: إذا كان القاسمُ كافراً، أو فاسقاً، أو جاهلاً بالقسمة، لم تلزم إلا
بتراضيهم بها.
(وأجرته) أي القاسم (بينهما) أي الشريكين (على قدر أملاكهما) قال في
الإِقناع: وأجرته مباحة. فإن استأجره كل منهما بأجرةٍ معلومةٍ ليقسم نصيبه
جاز، وإن استأجروه جميعاً بأجرة واحدة لزم كل واحد من الأجرة بقدر نصيبه من
المقسومِ ما لم يكن شرطٌ. انتهى.
وقال في المنتهى: وهي بقدر الأملاك. ولو شرط خلافه.
[القرعة في القسمة]
(وإن تقاسما بالقرعة جاز، ولزمت القسمة بمجرد القرعة، ولو فيما فيه ردٌّ أو
ضرر.)
وكيفما اقترعوا جاز: إن شاؤوا رِقاعاً، أو بالخواتيم، أو الحصى، أو غيره،
لحصول المقصود وهو التمييز. والأحوط أن يُكتَبَ اسم كلِّ شريك في رقعة، ثم
تُدْرَجُ في بنادقِ شمعٍ أو طينٍ متساويةٍ قدراً ووزناً، ثم تطرح في حِجْرِ
من لم يحضر، ذلك ويقال له: أخرج بندقةً على هذا السهم، فمن خرج اسمه كان
له، ثم للثاني كذلك، والسهم الباقي للثالث، إن كانوا ثلاثة واستوت سهامهم.
وإن كانت السهام الثلاثة مختلفة، كنصفٍ وثلثٍ وسدس، جُزّئ المقسوم ستّةَ
أجزاءٍ، وأَخرَجَ الأسماء على السهام لا غير، فيكتب باسم صاحب النصف ثلاث
رقاع، ولرب الثلث رقعتين، ولرب السدس رقعة، ويخرج بندقة على أول سهم. فإن
خرج عليه اسم ربّ النصف أخذه،
(2/463)
مع الثاني والثالث. وإن خرج اسم صاحب الثلث
أخذه مع الثاني، ثم يقرع بين الآخرين، والباقي للثالث.
(وإن خيّر أحدُهما) أي الشريكين (الآخر) بأن قال لشريكه اختر أيَّ القسمين
شئت، فيما تقاسماه بأنفسهما (بلا قرعةٍ وتراضَيَا، لزمت بالتفرّق)
بأبدانهما، كتفرّق متبايعين. قال في الفروع: وإن خيّر أحدهما الآخر،
فبرضاهما وتفرقهما، ذكره جماعة، ولم يذكروا ما يخالف ذلك.
[نقض القسمة]
(وإن خرج في نصيب أحدهما عيبٌ جَهِلَهُ خُيِّر بين فسخ، أو إمساكٍ) للمعيب
(ويأخذَ الأرش) للعيب، لأن ظهورَ العيب في نصيبه نقصٌ فيخيّر بين الفسخ،
والأرش كالمشتري. (وإن غُبِنَ فاحشاً بطلت) قال في المنتهى: ومن ادعى غلطاً
فيما تقاسماه بأنفسهما، وأشهدا على رضاهما، لم يتلفتْ إليه. وتُقْبَل
بيّنةٌ فيما قسمه قاسمُ حاكمٍ، وإلا حلف منكرٌ. وكذا قاسمٌ نصباه انتهى.
(وإن ادعى كل) من الشريكين (إن هذا من سهمهِ) وأنكره الآخر (تحالَفَا) أي
حلف كلٌّ منهما على نفي ما ادَّعاه الآخر. (ونُقِضَت) القسمة، لأن الملك
المدعى به لم يخرج عنهما، ولا سبيل إلى دفعه إلى مستحقّه منهما بدون نقض
القسمة.
(وإن حصلت الطريقُ في حِصةِ أحدهما) أي الشريكين كأن تقاسمها نصفين، فيحصل
لأحدهما ما يلي الباب، وللآخر النصف الداخل (و) الحال أنه (لا منفذ للآخر)
الذي جعل له النصف الداخل، كما إذا لم يكن للدار طريق من جهة أخرى، ولا لمن
حصل له النصف الداخل ملكٌ يجاورها ينفذها إليه (1) (بطلت).
__________
(1) (ب، ص): "ملك يجاورها ما ينفذها إليه"، و (ف): "ملك يجاور ما ينفذها
إليه" والصواب ما ذكرنا، اهتداء بما في شرح المنتهى.
(2/464)
باب الدعَاوى وَالبيّنات
وهي [أي الدعوى] إضافة الإِنسان إلى نفسه استحقاقَ شيء في يد غيره، أو في
ذمّته.
والمدّعي هو من يطالب غيره بحقٍّ يذكر استحقاقه عليه.
والمدعى عليه المطالَب، بفتح اللام.
والبيّنة العلامة الواضحة، كالشّاهد فأكثر.
(لا تصح الدعوى إلا من) إنسانٍ (جائزٍ التصرّف).
(وإذا تداعيا) أي ادعى كل واحدٍ من اثنين (عيناً) أنّها له (لم تخل من
أربعة أحوال):
(أحدها: أن لا تكون) العين (بيد أحدٍ، ولا ثمّ) بفتح المثلثة (ظاهرٌ) أي لم
يوجد أمر ظاهر يعمل بمقتضاه، (ولا بينة) لواحد منهما، وادّعى كل واحدٍ
منهما أنها له (فيتحالفان) أي يحلف كل واحد منهما أنها له ولا حقٌّ للآخر
فيها، (ويتناصفانها) أي: يقتسمانها بينهما نصفين. قدّمه في المحرر
والرعايتين والحاوي، لأنهما استويا في الدعوى، وليس أحدُهما به أولى من
الآخر، لعدم اليد. فوجبت قسمتها بينهما مناصفة، كما لو كانت بأيديهما.
(وإن وُجِدَ ظاهرٌ لأحدهما) كما لو كانت من آلةِ صنعتِهِ (عُمِلَ به)
(2/465)
أي بهذا الظاهر، فيأخذها ويحلف للآخر.
(الثاني: أن تكون) العينُ المتنازع فيها (بيد أحدهما) أي أحد المتنازعين
(فهي له بيمينه) أي لاحقّ للآخر فيها. (فإن لم يحلف قُضِيَ عليه بالنكول،
ولو أقامَ بينةً) قال في المنتهى والإِقناع: إذا لم تكن بينة.
(الثالث: أن تكون) العين المتنازع فيها (بيديهما) أي يدي
المتنازعين (كشيء كلٌّ ممسكٌ لبعضه، فيتحالفان) أي يحلف كلُّ واحدٍ منهما
أنه له، ولا حق للآخر فيه، (ويتناصفانه) أي المدعى به، إلا أن يدعيَ
أحدهمَا نصفاً فأقلّ، والآخَرُ الجميعَ أو أكثر مما بقي عما يدعيه الآخر،
فيحلف مدعي الأقلِّ ويأخذه.
(فإن قويت يد أحدهما) أي أحد المتداعيين في عينٍ بأيديهما (كحيوان) يدعيه
كل من اثنين (واحد سائقهُ والآخر راكبُهُ) فهو للثاني الذي هو راكبه،
بيمينه، لأنه أقوى تصرّفاً.
وإن اتفقا على أن الدابّة للراكب، وادعى كل منهما ما عليها من الحمل، فهو
للراكب، بيمينه، لأن يده على الدابّة والحمل معاً؛ (أو قميصٍ واحدٌ آخذٌ
بكمِّهِ. والآخر لابسه، فهو للثاني) الذى هو لابِسُه (بيمينه) لأن تصرّفه
أقوى، وهو المستوفي لمنفعته. كإن كان كمُّه في يد أحدهما، وباقيه بيد
الآخر، أو تنازعا على عمامةٍ طرفها بيد أحدهما، وباقيها بيد الآخر، فهما
سواءٌ فيها لأن يد الممسك بالطرف عليها.
(وإن تنازعَ صانعانِ في آلةِ دكانهما فـ) تكون (آلةُ كلِّ صنعةٍ لصانعها)
كنجّارٍ وحدادٍ يكونان بدكانٍ، ويتنازعان في آلتهما، أو في بعضها، فإن آلة
النجارة للنجاّر، وآلة الحدادة للحدّاد، سواء كانت أيديهما على الآلة من
طريق الحكم، أو من طريق المشاهدة، لأن هذا هو الظاهر، فيأخذ كل منهما آلته
بيمينه.
(ومتى كان لأحدهما بينة فالعين له) ولم يحلف في الأصح، لأن
(2/466)
البينة أحدُ حجّتي الدعوى، فيكتفى بها،
كاليمين. وهذا قول أهل الفتيا من الأمصار.
(فإن كان لكلٍّ منهما) أي المتنازعين (بينةٌ به، وتساوتا) أي بينتهما (من
كل وجهٍ تعارضَتَا وتساقطتا) يعني أن البينتين يسقطان بالتعارض، لأن كل
بينةٍ تشهد بعكس ما تشهد به الأخرى، فلا يمكن العمل بواحدةٍ منهما،
فيتساقطان ويصيران كمن لا بينة لهما على الأصحّ. (فيتحالفان، ويتناصفان ما
بيديهما.)
والأصل في هذا الباب حديث أبي موسى، أن رجلين ادّعيا بعيراً على عهد النبي
- صلى الله عليه وسلم -، فبعث كلُّ واحدٍ منهما بشاهدينِ، فقَسَمه النبي
صلى الله عليه وسلم - نصفين (1). رواه أبو داود.
(ويقترعان فيما عداه) يعني يُقرَعُ بين المتنازعين في شيء ليس بيد أحد، أو
بيد ثالثٍ ولم ينازِعْ واحداً من المتداعيين.
(فمن خرجت له القرعة فهي له بيمينه) كما لو لم يكن لواحدٍ منهما بينة.
(وإن كانت العين) المتنازعَ فيها (بيد أحدهما) أي أحد المتنازعين فيها، وقد
أقام كل واحد منهما بينةً أنها له، (فهو) أي الذي بيده العين (داخلٌ،
والآخر خارجٌ).
(وبينة الخارج مقدمة على بيّنة الداخل).
(لكن لو أقام الخارج بينة أنها ملكه، و) أقام (الداخلُ بينةً أنه اشتراها
منه) أي من الخارج (قُدِّمتْ بينته) أي بينة الداخل (هنا) لأنها شهدت بأمرٍ
حادثٍ على ملكٍ خفيّ، و (لما معها من زيادة العلم).
(أو أقام أحدهما) أي أحد المتداعيين (بينةً أنه اشتراها من فلانٍ،
__________
(1) حديث أبي موسى رواه الخمسة إلا الترمذي (منار السبيل).
(2/467)
وأقام الآخر بينة كذلك) أي أنه اشتراها من
الذي اشتراها منه الأول (عُمِلَ بأسبقِهِما تاريخاً).
الحال (الرابع: أن تكون) العين المتنازع فيها (بيد ثالثٍ) أي غيرِ
المتنازعين فيها. (فإن) ادعياها على الثالث، و (ادعاها) الثالث (لنفسِهِ،
حلف لكلِّ واحد) من المتداعيين (يميناً، بغير) خلاف، لأن المتداعيين اثنان
فوجب أن يحلف لكلِّ واحد منهما يميناً.
(فإن نكل) عن اليمين (أخذاها) أي العين المتنازع فيها (منه) أي من الثالث
(مع بدلها) وهو قيمتها إن كانت متقوّمة، ومثلها إن كانت مثلية، لأن العين
تلفَتْ بتفريطِهِ، وهو ترك اليمين للأول. فوجب عليه بدلها، كما لو أتلفها.
(واقترعا عليهما) أي على العين وبدلها، لأن المحكوم له بالعين غيرُ
معيَّنٍ، فوجبت القرعة لتعيينه.
(وإن أقرّ بها) أي أقر الثالث بالعين (لهما) أي بأن قال: هي للاثنين،
أخذاها منه و (اقتسماها) نصفين، (وحلف لكلِّ واحدٍ) منهما (يميناً) بالنسبة
إلى النصف الذي أقر به لصاحبه، لأن كلاًّ منهما يدعي الزيادة على ما أقر له
به من النصف، فهو في النصف الآخر مقرَّ لغيره، فيجب عليه اليمين لصاحبه،
(وحلف كلُّ واحد) من المتداعيَيْنِ (لصاحبِهِ على النصف المحكوم له به.)
وإن نَكَلَ المقِرُّ بالعين لهما عن اليمين لكلِّ واحدٍ منهما أَخذا منه
بدلها، واقتسماها أيضاً. وإن أقرّ لأحدهما بعينه، حلف المقَرُّ له أنْ لا
حقَّ لغيره فيها، وأخذها، ويحلف المقِرُّ للآخر.
فإن نكل أخذ منه بدلها. (وإن قال) مَنِ العينُ بيده: (هي لأحدهما)، أي أحد
المتداعيين (وأجهله، فصدقاه) على جهله بمستحقها منهما، (لم يحلف) لأنهما
مصدقان له في دعواه.
(2/468)
(وإلا) أي وإن لم يصدقاه (حلف) لهما
(يميناً واحدة،) لأن صاحب الحق منهما واحدٌ غير معين. ولا يلزمه اليمين إلا
بطلبهما جميعاً، لأن أحدهما لم يتعيّنْ مستحقاً، باليمين، (وُيقْرَعُ
بينهما) أي بين المتداعيين للعين، (فمن قَرَع) صاحبه (حلف، وأخذها) لأن
صاحب اليد أقرّ بها لأحدهما لا بعينه، فصار ذلك المقَرُّ له هو صاحبَ اليد
دون الآخر، فبالقرعة يتعيّن المقَرّ له، فيحلف على دعواه، فيستحق. ثم إن
بيّن من كانت العين بيده المستحِقّ لها بعد قوله: هي لأحدهما وأجهلُه، قبل،
كتبيينِهِ ابتداءً.
(2/469)
|