شرح زاد المستقنع للحمد

الدرس السابع عشر بعد الثلاثمائة
كتاب العتق

العتق لغةً: الخلوص
وفي الشرع هو: تحرير الرقبة وتخليصها من الرق.
وقد دل على العتق الكتاب والسنة وإجماع الأمة.
أما الكتاب فكقوله تعالى: {فتحرير رقبة مؤمنة} وكقوله: {فك رقبة} .
وأما السنة ما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضواً من النار حتى فرجه بفرجه) .
وفي رواية (استنقذ الله) فدل على أن هذا المحرر المعتق مستحق للعقوبة فيستنقذ الله عز وجل أعضاءه المستحقة للعقوبة بهذا المعتَق.
وقد أجمع أهل العلم على ثبوته ومشروعيته.
قال المؤلف: [وهو من أفضل القرب] .
للحديث المتقدم، وقد جعله الله كفارة للقتل وكفارة للجماع في نهار رمضان وكفارة للأيمان، فدل على فضيلته وأنه من أفضل القرب.
وأفضل الرقاب أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: سُئل أي الرقاب أفضل؟ فقال: (أغلاها ثمناً وأنفسها عند أهلها) .
وعتق الذكر في الأصل أفضل من عتق الأنثى، يدل عليه ما ثبت في الترمذي والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وأيما امرئٍ مسلم أعتق امرأتين مسلمتين كانتا فكاكه من النار)
وقد تقدم أن الفكاك من النار يحصل بعتق رقبة مؤمنة فدل على أن عتق الذكر أفضل من عتق الأنثى، فإنه إذا اعتق رقبة واحدة مساوية له في الذكورية أو الأنوثية كانت فكاكه من النار.
والذكر إن أعتق أنثيين كانتا فكاكه من النار.
قال: [ويستحب عتق من له كسب، وعكسه بعكسه]
أي إنما يستحب عتق من له كسب، فهو قادر على التكسب والعمل وأما إن كان بخلاف ذلك فلا يستحب عتقه.
وإن كان غير قادر على التكسب والعمل فلا يستحب عتقه لما في ذلك من تضييعه، فإن في عتقه إسقاطاً للنفقة الواجبة على سيده له فكان في ذلك تضييعٌ له وقد يكون عرضةً للسؤال وان يكون كلاً على الناس.


وكذلك لا يستحب عتق من يكون عتقه سبباً لفساده من زنا أو قطع طريق أو يخشى لحوقه بدار الحرب ونحو ذلك.
وهنا مسائل في العتق لم يذكرها المؤلف:
المسألة الأولى: صريح العتق وكنايته:-
فصريح العتق أن يقول: أنت عتيق أو أنت معتق أو أنت حر أو قد أعتقتك أو قد جعلتك حراً أو نحو ذلك.
فهذه ألفاظ صريحة في العتق قد دل العرف على ذلك لأن هذه الألفاظ إذا خوطب بها العبد من سيده فإنها لا تحتمل إلا إعتاقه، فحينئذٍ لا تشترط النية بل يكفي مجرد اللفظ.
وأما كنايته: فنحو قوله (لا سبيل لي عليك) إذهب حيث شئت، أو نحو ذلك من الألفاظ فهي ألفاظ تحتمل العتق وتحتمل غيره وإن كانت في العتق أظهر.
المسألة الثانية: أن من ملك ذا رحم محرم عتق عليه.
الرحم المحرم: هو ما لو قدر أحدهما ذكراً، والآخر أنثى لحرم نكاحه بالنسب، كأن يملك عمه أو خاله أو أبنه أو أباه فإنه لو قدر أن أحدهما ذكراً والأخر أنثى فإن النكاح محرم بالنسب لأن نكاح الخالة ونكاح العمة محرم ونكاح البنت محرم والمراد أن يكون محرماً بالنسب لا بالمصاهرة ولا بالرضاع، لكن إذا ملك ابن عمه، فلو قدّر أن أحدهما ذكر والأخر أنثى لم يحرم نكاحه بالنسب، وذلك لأن نكاح بنت العم نكاح صحيح، ولو ملك أمه من الرضاع أو ملك زوج أمه أو زوجة أبيه أو أم زوجته فإنه لا يعتق عليه لأنهم ليسوا من ذوي الرحم، ودليل ذلك ما روى الخمسة والحديث صحيح – أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من ملك ذا رحم مَحْرَمٍ فهو حرٌ) ، وهو مذهب جماهير العلماء.
المسألة الثالثة:
أن من اعتق نصيباً له في عبد، وكان موسراً فإنه يلزمه أن يعتق بقيته فيعطي شريكه قيمة نصيبه ويعتق عليه العبد.
فمثلاً: زيد وعمرو شريكان في عبد لكل واحد منهما نصفه فأعتق زيد نصيبه وكان موسراً فإنه يقُوم عليه العبد ويعطي عمراً قيمة نصيبه ويعتق عليه العبد ويُلزم زيد بذلك، هذا إن كان موسراً.


وأما إن كان معسراً فهو لا يملك قيمة المتبقي فإن العبد يكون مبعضاً، فيكون نصفه حراً ونصفه عبداً، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد وغيره.
وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام أن العبد يكون مكاتباً غير مشقوق عليه، هذا إن كان له قدرة على العمل والتكسب، فيعمل ويتكسب ويعطي سيده ما بقي من ثمنه.
هذا هو القول الراجح في هذه المسألة.
ودليل هذه المسألة ما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أعتق شِركاً له في عبد، فكان له مال يبلغ ثمن العبد، قُوِمَ قيمة عدلٍ [أي قيمة عادلة] لا وكس فيها ولا شطط فأعطى شركاءه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق) [أي يكون مبعضاً] .
لكن إن كان قادراً على المكاتبة، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة (وإلا قوّم عليه واستُسعي غير مشقوق عليه) .
والذين لم يقولوا بالكتابة لا يصححون هذه اللفظة ويرون أن هذه اللفظة مدرجة وأنه قد تفرد بها سعيد ابن أبي عروبة عن قتادة، والصحيح أنه لم يتفرد بها بل قد تابعه عليها جماعة من حفاظ الحديث، وهو من أثبت الناس في قتادة وقد رووا هذا الحديث عن قتادة.
وقد صحح هذا اللفظ الشيخان البخاري ومسلم في كتابيهما.
المسألة الرابعة:
إذا أََعتق بعض عبده، سواء كان البعض معيناً أو مشاعاً، كأن يقول: (أعتقت يديك أو وجهك) أو مشاعاً كأن يقول: (أعتقت نصفك أو ثلثك) أو ربعك، فإن العتق يسري على الباقي فيكون كله عتيقاً بإتفاق أهل العلم.
لأن هذا أولى من المسألة المتقدمة.
فهو إذا كان مشاركاً سرى العتق إلى بقية العبد، فأولى من ذلك إن لم يكن مشاركاً.
قال: [ويصح تعليق العتق بموتٍ وهو التدبير]
إذا قال لعبده: أنت حر بعد موتي، فالعبد هنا هو المدبَّر.
وسمي مدبراً لأنه قد أعتق بعد الحياة أي في الموت، فإن الموت دبرالحياة.
فالمدبر: هو من يعتق بعد الموت.
والتدبير: هو العتق بعد الموت.


وهو كالوصية فللسيد أن يبيعه وقد دبره وله أن يهبه، وله أن يوقفه كالوصية، فكما أن الوصية له أن يرجع فيها وله أن يهبه أو يوقفها فكذلك في المدبر، وفي الصحيحين: " أن رجلاً من الأنصار أعتق غلاماً له عن دبر ولم يكن له مال غيره، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فباعه بثمانمائة درهم ".
فالمقصود أنه يجوز بيع المدبر كالوصية.

الدرس الثامن عشر بعد الثلاثمائة
باب الكتابة
قال رحمه الله: [وهي بيع عبده نفسه بمال مؤجل في ذمته]
أي: أن يشتري العبد نفسه من سيده بمال مؤجل.
قال تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً}
فالكتابة هي: أن يبيع السيد عبده لنفسه على ثمن مؤجل على أنجم أو أقساط شهرية أو سنوية أو نحو ذلك.
وهو مشتق من الكتب وهو الجمع، وذلك لأنه يجمع على أنجم أي على أقساط.
وقيل: إنما سمي كتابه لما يقع بين السيد وعبده عند العقد من الكتابة.
قال الحنابلة: لا يصح إلا أن يكون العوض في الكتاب مؤجلاً على نجمين فأكثر فلو كان إلى سنة فيعطيه المال كله لم يصح، فلا يصح إلا أن يكون على نجمين أي على قسطين، هذا هو المشهور في المذهب.
والقول الثاني في المسألة وهو اختيار طائفة من أصحاب الإمام أحمد، وقال صاحب الفائق: وهو ظاهر كلام الإمام رحمه الله، وهو القول الراجح في هذه المسألة: أنه يصح على نجمٍ واحدٍ، فلو اشترى نفسه على نجم واحد فإن ذلك جائز، وهو القول الراجح، إذ لا مانع من ذلك، وليس مع من يمنع دليل يدل على دعواه.
قال: [وتسن]
فالكتابة سنة وهو مذهب جمهور العلماء واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) .
قالوا: فالعبد مال امرئ مسلم فلم يخرج عن ملكيته إلا بطيب نفس منه، وعليه فحملوا الأمر في الآية المتقدمة على الاستحباب (فكاتبوهم) أي على وجه الاستحباب.


وعن الإمام أحمد رواية وهي مذهب الظاهرية وهو قول طائفة من التابعين واختاره ابن جرير الطبري: أن الكتابة واجبة وعليه فيجبر السيد عليها بقيمة العبد، فيقوم العبد قيمة عدل ويجبر السيد على الكتابة.
واستدلوا بالآية الكريمة: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} ، قالوا وظاهر الأمر الوجوب.
وأما قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه) فقالوا: الكتابة على سبيل المعاوضة، فهو يجبر على بيع عبده ويأخذ عوض ذلك، قالوا: وليست أولى من سراية العتق، فإن العتق تقدم أنه يسري فيجبر السيد على خروج ملكيته عنه بالكلية وهو إنما أعتق بعضه كأن يعتق ثلثه مثلاً فإنه يعتق كله، فإذا سرى العتق إلى البقية بلا عوض فأولى من ذلك بعوض.
والشارع متشوف إلى العتق وتحرير النفوس وتخليصها من العبودية.
وعليه فالراجح هو القول الثاني.
وقياس هذا كما قال شيخ الإسلام: إذا قال قائل للسيد، أعتق عبدك وعلي ثمنه، فيجب عليه أن يعتقه كالمكاتبة.
قال: [مع أمانة العبد وكسبه]
فهي إنما تسن – وعلى القول الراجح إنما تجب - مع أمانة العبد وكسبه، لقوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} ، وظاهره أنه إن لم يعلم فيهم خيراً أي إن علم فيهم شراً وفساداً فإن الكتابة لا تشرع، وهذا كالعتق كما تقدم، فإذا كان في الكتابة تضييع للعبد واحتياج في الناس أو إفساد في الأرض فإن الكتابة لا تشرع، فقد شرط الله ما تقدم {إن علمتم فيهم خيراً} ، فإذا ثبتت المكاتبة، فإن المكاتب أي العبد يملك كسب نفسه ونفعها، وله أن يتصرف فيما يصلح ماله من بيع وإجارة ونحو ذلك لأن هذا هو مقتضى عقد الكتابة.


فإن الكتابة إنما عقدت ليتحصل من خلالها على عتق نفسه، ولا يمكن ذلك إلا أن يمكَّن من كسب نفسه ونفعها وأن يتصرف في ماله بما فيه مصلحة، وأما ما ليس فيه مصلحة فليس له أن يتصرف فيه إلا بإذن سيده، كما ثبت في سنن أبي داود بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم) ، فهو قن وعبد فليس له أن يتصرف إلا بما ينفع في عتقه، أما أن يتصرف بما لا مصلحة فيه بأن يبذر ماله أو أن يدخل في تجارة يخش من الدخول فيها فلا بد من إذن السيد لأن ما بيده مال لسيده في الأصل وإنما أذن له بأن يعمل ليتمكن من عتق نفسه، فكان المأذون له هو ما يكون فيه مصلحة للمال.
قال: [ويجوز بيع المكاتب]
فلو أن رجلاً كاتب عبده على عشرة آلاف ريال في كل شهر ألف ريال، فبعد أن أخذ منه قسطاً أو قسطين أو ثلاثة أراد بيعه فيجوز البيع لأنه رقيق له وعبد له، وفي الصحيحين أن بريرة قالت لعائشة إني كاتبت أهلي على تسع أواقٍ في كل عام أوقية فأعينيني …. الحديث …. وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إشتريها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق) ، والشاهد قوله إشتريها وهي مكاتبة، فدل على أن المكاتب يجوز بيعه ولكن:
قال: [ومشتريه يقوم مقام مكاتبه]
فالمشتري يقوم مقام المكاتب فإذا بقي سبعة أقساط فإن المكاتب يسددها له فلا يستأنف الأقساط من جديد بل يسدد ما بقي منها، وليس له أن يبطل الكتابة على الراجح، بل تبقى الكتابة ويدفع له المكاتب ما تبقى من الأنجم.
قال: [فإن أدى عتق]
إذا أدى المكاتب ما عليه من المال فإنه يعتق
قال: [وولاؤه له]
يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اشتريها واشترطي لهم الولاء فإنما الولاء لمن أعتق) ، وعليه فيكون الولاء للمشتري.
قال: [وإن عجز عاد قناً]


أي عاد قناً للمشتري، فإذا عجز عن الكتابة فإنه يعود قناً أي عبداً، هذا كما لو كان لسيده الأول فإنه إذا عجز عن دفع الأنجم والأقساط فإنه يعود عبداً، لأن المسلمين على شروطهم وهو إنما باعه على أن يدفع له هذه الأنجم، فإن لم يدفعها فإنه يعود قناً (عبداً) له، والمشهور في مذهب الإمام أحمد وهو مذهب جمهور الفقهاء: أن المكاتب إذا عجز عن نجمٍ واحد أي عن قسطٍ واحد فإن للسيد الفسخ، بمعنى إذا حضر وقت القسط ولم يدفع فإن للسيد الفسخ قال الحنابلة، وينظر ثلاثة أيام.
قالوا: لأنه لم يف بالشرط، فهو قد باعه على أنه يعطيه في كل شهر - أو في كل سنة - أن يعطيه المسمى الفلاني، فإذا لم يفِ بذلك فإنه يكون قد خالف الشرط فلبائعه – أي لسيده – أن يفسخ عقد الكتابة، وعن الإمام أحمد: أنه لا يعجز حتى يقول قد عجزت - أي حتى يظهر عجزه ويبين، فكونه يعجز عن قسط واحد أو قسطين ولم يظهر بعد عجزه فإنه من الممكن أن يقضي ما عليه، فإنه لا يعجز أي لا يحكم بعجزه فيعود قناً.
وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (وإلا قوم عليه واستسعي غير مشقوقٍ عليه) ، وفي كونه إن عجز عن قسط واحد حق للأخر الفسخ، هذا فيه مشقة ظاهرة عليه، ومعلوم أن تخلف المدين عن القسط والقسطين والثلاثة يقع فيه عادة فكذلك في المكاتبة.
فالراجح أنه لا يعجز حتى يظهر عجزه ويبين.
مسألة:
قال تعالى: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}
أي آتوا المكاتبين من مال الله الذي آتاكم.
قال الحنابلة والشافعية: في هذه الآية دليل على وجوب إيتاء المكاتب مكاتبه – أي السيد عبده – شيئاً من المال يعينه على كتابته، واختلفوا في قدره.
فقال الحنابلة: الواجب ربع المكاتبة أي أن يعطيه الربع أو يتنازل عن الربع، واستدلوا بما روى البيهقي من حديث علي بن أبي طالب: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} ثم قال ربع المكاتبة ".


والصحيح وقفه على علي ابن أبي طالب، فلا يصح رفعه.
وقال الشافعية: بل يعطيه أي شئ {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم} أي بعض مال الله الذي آتاكم وهذا يصدق على القليل والكثير فأي شئ أعطاه إياه فإن ذلك يجزئ.
وقول علي المتقدم مخالف لما يروي البيهقي بسند صحيح " أن ابن عمر كاتب عبداً له على خمسة وثلاثين ألف درهم، فلما كان أخر مكاتبته وضع عنه خمسة آلاف "، وهي سُبْع مُكاتبته، فهذا الفعل من ابن عمر مخالف لقول علي.
فالأرجح ما ذهب إليه الشافعية.
ولكن لا ينبغي أن يقال: بأنه يصدق على الشيء القليل التافه المستحقر، فالذي ينبغي الاعتماد عليه أنه يجب عليه أن يعطيه ما ينفعه في مكاتبته كأن يعطيه السبع أو الثمن أو الربع أو أن يضع عنه نجماً أو نجمين ونحو ذلك.
وأما أن يضع عنه شيئاً تافهاً مستحقراً فلا، وذلك لأن مثله لا ينفع في المكاتبة.
وقال المالكية والأحناف: بل يستحب ذلك وحملوا الآية على الاستحباب.
والأظهر ما ذهب إليه أهل القول الأول لظاهر الآية الكريمة.

الدرس التاسع عشر بعد الثلاثمائة
باب أحكام أمهات الأولاد
قال: [إذا أَولد حر أمته أو أمةً له ولغيره أو أمةً لولده خُلِّق ولده حراً]
أو أمة له ولغيره – أي مشترك فيها
خلق حراً – أي خلق أثناء ملكه للأمة، فنشأ الحمل والأمة ملك له ليست بملك غيره، هذا هو مذهب الحنابلة، ولا دليل عليه.
ولذا ذهب المالكية: إلى أن من أولد أمته فإن هذه الأمة أم ولد له سواء نشأ الولد حراً أو مملوكاً، كأن يتزوج أمةً ثم يشتريها من سيدها وقد حملت منه فإنها تكون أم ولد له، وذلك لثبوت المعنى فيها، فهي أم ولدٍ له فقد أولدت له وكون هذا الولد نشأ في حال يكون فيه مملوكاً لاحراً هذا ليس بمؤثر، فالمعنى المؤثر في هذه المسأله كون هذه الأمة قد أولدت له.
إذن قوله – خلق ولده حراً – هذا القيد ضعيف، والصحيح أنها تكون أم ولد سواء كان الولد مخلوقاً حراً أم لم يكن كذلك.
…قال: [حياً ولد أو ميتاً]


سواء ولد حياً أو ولد ميتاً، وفي البيهقي بإسنادٍ صحيح أن عمر رضي الله عنه قال: (أم الولد حرة وإن كان الولد سِقْطاً) .
قال: [قد تبين فيه خلق الإنسان لا مضغة أو جسم بلا تخطيط]
فإذا أسقطته وقد تبين فيه خلق الإنسان فإنها تكون أم ولد له.
قال: [صارت أم ولدٍ له تعتق بموته من كل ماله]
فإنها تعتق من كل ماله لا من ثلثه، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، فقد اتفق أهل العلم على القول به، وفي موطأ مالك بإسنادٍ صحيح: أن عمر رضي الله عنه نهى عن بيع أمهات الأولاد، قال: " لا تباع ولا تورث ولا توهب، يستمتع بها ما بدا له فإذا مات فهي حرة."
…وتعتق من ماله كله لا من ثلثه، وعليه لو استغرقت المال كله فإنها تعتق بمعنى – إذا مات ولا مال له سواها فإنها تعتق عليه لأنها أم ولد فتعتق بموته.
قال: [وأحكام أم الولد أحكام الأمة من وطءٍ وخدمة وإجارة ونحوها]
…فأحكام أم الولد أحكام الأمة، فله أن يطأها وله أن يؤجرها ونحو ذلك من إعارة وغيرها، لقول عمر في الأثر المتقدم: (يستمتع بها ما بدا له) ، فهي أمة كسائر الإماء، والفرق بينها وبين سائر إمائه أنها تعتق بموته فإذا مات فهي حرة.
قال: [لا في نقل الملك في رقبتها]
…هذا فارق آخر بين أم الولد وبين سائر الإماء، فأم الولد ليس له أن يتصرف فيها بما ينقل ملكيتها عنه بوقفٍ أو هبة أو بيع أو نحو ذلك.
قال: [ولا بما يراد له]
…أو لا بما يراد لنقل رقبتها كالرهن ونحوه كالوصية.
قال: [كوقف وبيع ورهن]
…فالوقف والبيع مثال لقوله لا في نقل الملك في رقبتها، والرهن مثال لقوله ولا بما يراد له.
…إذن بيع أم الولد بيع باطل لا يصح، وهذا هو مذهب جماهير العلماء واستدلوا بأثر عمر المتقدم، ويقاس عليه ما تقدم من الوقف والهبة والرهن والوصية ونحو ذلك فكلها لا تجوز كالبيع.


…وقال الظاهرية وهو مذهب طائفة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - كعلي بن أبي طالب وابن عباس والزبير وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم: أن بيع أمهات الأولاد جائز، وأثر علي بن أبي طالب ثابت في مصنف عبد الرزاق بإسنادٍ صحيح أنه قال: "اجتمع رأيي ورأي عمر - وهذا يدل على أن المسألة رأي عمر في أمهات الأولاد ألا يبعن -، ثم رأيت أن يبعن"، ثم قال له عبيدة: " رأيك في الجماعة أحب إلىّ من رأيك في الفرقة ".
وهذا يدل على ما تقدم وأن المسألة رأيٌ من عمر، وأما أثر ابن عباس فهو ثابت في سنن سعيد بن منصور بإسنادٍ صحيح عنه، وهو كما تقدم اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، واستدلوا بما روى النسائي وابن ماجة وابن حبان وهذا لفظه والإسناد صحيح عن جابر قال: (كنا نبيع سرارينا أمهات الأولاد والنبي - صلى الله عليه وسلم - حي لا يرى بذلك بأساً) وهذا القول هو القول الأرجح في هذه المسألة مع أن الأحوط ما ذهب إليه جمهور العلماء، فالأصح ما ذهب إليه علي ومن وافقه من الصحابة من أن أمهات الأولاد يجوز بيعهن، وعليه فيجوز كذلك سوى البيع من الأحكام المتقدمة لأنها مبنية على البيع متفرعة عنه.

الدرس العشرون بعد الثلاثمائة
كتاب النكاح
وأصله الضم يقال تناكحت الأشجار أي انضم بعضها إلى بعض.
النكاح في اللغة: الوطء والعقد فهو مشترك وقيل متواطئ وهو حقيقة فيهما، والقرآن الكريم لم يرد النكاح فيه إلا بمعنى العقد سوى قوله تعالى: {فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره} أي حتى يطأها كما ثبت في السنة الصحيحة.
قال: [وهو سنة]


…فالنكاح سنة، لمن له شهوة ولا يخاف على نفسه العنت أي الزنا، فهو سنة في مذهب جماهير العلماء، وقال الظاهرية وهو رواية عن الإمام أحمد اختارها طائفة من أصحابه كأبي بكر عبد العزيز وأبي حفص البرمكي وابن أبي موسى من أصحاب الإمام أحمد: أن النكاح لمن له شهوة وعنده قدرة مالية على ذلك فإنه واجب في حقه، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء) ، والشاهد قوله – فليتزوج – والأمر للوجوب، وهذا القول هو الأظهر لموافقته لظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - - فليتزوج – والجمهور حملوا الأمر الوارد في الحديث على الاستحباب، والأظهر أنه للوجوب.
…وأما إذا كان غير قادر على النكاح بماله فلا يجب عليه النكاح بل يستحب، لمفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم - - يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة – والباءة هي مؤنة النكاح من مهر وغيره، فقد أوجب الزواج على من استطاع الباءة، فدل على أن الفقير لا يجب عليه، لكن يستحب له، وقد قال تعالى: {إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله} هذا إن كان له شهوة، وأما من لا شهوة له كالعنين الذي لا يأتي النساء، أو الكبير الهرم فلا يجب النكاح ولا يستحب في حقهم، وذلك لزوال المعنى المقتضي للإيجاب والإستحباب فيكون مباحاً في حقه لكن من غير أن يترتب على هذا ضرر على المرأة، فإن طلبت الطلاق ونحوه فسيأتي الكلام عليه في بابه، ولكن هنا حيث لا ضرر على المرأة بذلك، فإن فيه مصلحة له بقيام هذه المرأة بشأنه وهي أيضاً لها مصلحة بإنفاق هذا الزوج عليها، إذن من لا شهوة له وعنده قدرة مالية فإن النكاح يباح وقد يستحب حيث كان في ذلك مصلحة ظاهرة للمرأة كأن تكون المرأة محتاجة.
قال: [وفعله مع الشهوة أفضل من نوافل العبادات]


…ففعل النكاح مع الشهوة أفضل من الاشتغال بنوافل العبادات من صيام وصلاة ونحو ذلك، ذلك لما فيه من المصالح الكثيرة من تحصيل النسل وتكثير الأُمة وتحصين الفرج وغض البصر له ولزوجه، ولما فيه من القيام بشأن المرأة والإنفاق عليها وهذه المصالح تربو على نوافل العبادات.
قال: [ويجب على من يخاف الزنا بتركه]
…إذا كان يخاف الزنا بتركه فيجب عليه النكاح اتفاقاً وذلك لأن إعفاف نفسه وصيانتها من المحرم واجب _ وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب –
في الإقناع: ولا يكتفى في الوجوب بمرة واحدة بل يكون في مجموع العمر خشية الوقوع في المحظور.
قال: [ويسن نكاح واحدةٍ دينةٍ أجنبيةٍ. بكرٍ ولودٍ بلا أم]


هذا ذكر لصفات المرأة المنكوحة التي يسن أن تكون عليها، أما دليل كونها واحدة، فقوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا} ، أي أن الإكتفاء بالواحدة أقرب من ألا تعولوا من النساء فتميلوا إلى إحداهن وتجوروا بين نسائكم وهذا فعل محرم، فكان في نكاحه الواحدة دفعاً لتعرضه في الوقوع في المحرم، وقال بعض الحنابلة، وهو القول الثاني في المسألة: بل يستحب ذلك لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولقوله تعالى: {فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع} ،أما استدلالهم بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - فظاهر، أما استدلالهم بالآية الكريمة ففيه نظر، وذلك لأن هذه الآية مسبوقة بقوله سبحانه: {فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث} ، ومعنى الآية كما فسرته أم المؤمنين عائشة في الصحيحين بما معناه: إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى اللآتي تحت أيديكم فتبخسوهن مهورهن فانكحوا ما طاب لكم من النساء سواهن – أي فالباب مفتوح لكم، هذا في الرجل تكون عنده اليتيمة كابنة عمه وتكون تحت ولايته فيرغبها لمالها ولجمالها فينكحها بمهرٍ أقل من مهر مثيلاتها أو ينكحها بلا مهر وهذا فيه ظلم لها، ولكن فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وما يترتب على ذلك من المصالح من تكثير النسل وتمام العفة، ونحو ذلك يدل على استحبابه ما لم يترتب على ذلك مفسدة أعظم، فإذا ترتب على ذلك مفسدة أعظم فلا، فالأصح وهو القول الثاني في هذه المسألة وقد قال به بعض الحنابلة: أنه يستحب له أن يتزوج أكثر من واحدة ما لم يترتب على ذلك مفسدة أعظم لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأما دليل كونها دينة: هو ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تنكح المرأة لأربع لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك) .


ويستحب أيضاً أن تكون جميلة، ولذا استحب الشرع أن ينظر إليها ولأنها أعف لنفسه وأحصن لفرجه وأتم لمودته.
وأن تكون أجنبية أي لا تكون من بنات عمه، وذلك لأنها أنجب ولداً يقال – الغرائب أنجب وبنات العم أصبر – فالغرائب أنجب أي يتوفر في الابن صفات زائدة على صفات أهله بما يكون في صفات أخواله التي تنتقل إلى الولد.
وأن تكون بكراً لقوله - صلى الله عليه وسلم - لجابر لما تزوج ثيباً – هلا بكراً تلاعبها وتلاعبك – إلا أن تكون المصلحة من نكاح الثيب أرجح.
وأن تكون ولوداً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة) رواه أبو داود والنسائي، قاله لرجل قال له: إني أصبت امرأة ذات حسب ومال أو قال جمال لكنها لا تلد فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا) ثم أتاه مرة أخرى فنهاه، ثم أتاه ثالثةً منها، ثم قال: (تزوجوا الولود الودود …. الحديث) هو من حديث معقل بن يسار، ونحوه في مسند الإمام أحمد وصحيح ابن حبان من حديث أنس بن مالك.
ويعرف كونها ولوداً بالنظر في نسائها أي إلى أمها وأخواتها وبنات عمها ونحو ذلك.
حسيبة: كما في الإقناع طيبة الأصل.
روى أحمد والنسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له أي النساء خير فقال: (التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر ولا تخالفه في نفسها ومالها بما يكره) وهو صحيح.
وأن تكون بلا أم: قالوا لأنها ربما أفسدتها أمها أي قد تثير بعض المشاكل بين الزوجين وتأمر المرأة بالمطالبة بشيء كثير قد يكون حقاً لها وقد رضيت بتركه أو يكون لاحق لها.
ولكن هذا فيه نظر ظاهر، فإن هذا ليس على إطلاقه فربما كانت الأم معينةً للزوج على ابنتها مصلحة لها قائمة بشؤونها، ولو قيل – ويستحب أن تكون لها أم عاقلة صالحة لكان أولى من أن يقال بلا أم.
قال: [وله نظر ما يظهر غالباً مراراً]
فللخاطب أن ينظر إلى ما يظهر غالباً ممن يريد خطبتها، فيباح له أن ينظر إلى ما يدعوا إلى نكاحها.


ودليل هذا: ما ثبت في صحيح مسلم أن رجلاً قال يا رسول الله أصبت امرأةً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنظرت إليها) فقال لا فقال: (اذهب فانظر إليها) .
وفي الترمذي بإسناد صحيح: (انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما) أي أن تدوم المودة بينكما، رواه أحمد والنسائي وبن ماجة، وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا خَطب أحدكم امرأة فلينظر منها إلى ما يدعوه إلى نكاحها) ، فهذه الأحاديث تدل على أن له أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها، والحنابلة صرحوا بالجواز كما ذكر المؤلف هنا وهو مصرح به في غير ما كتاب من كتب الحنابلة وهو الصحيح من مذهب الحنابلة.
واختار ابن عقيل وصوب ذلك صاحب الإنصاف وحكي إجماعاً: استحباب ذلك، وهو ظاهر الأحاديث المتقدمة كقوله: – اذهب فانظر إليها -، فالراجح أنه يستحب له أن ينظر منها إلى ما يظهر منها غالباً من الوجه واليدين والرقبة والشعر والقدمين ونحو ذلك مما يدعوه إلى نكاحها، وينظر إليها بإذن وليها أو بغيره، بعلمه أو بغير علمه وكذلك هي بإذنها أو بغير إذنها، بعلمها أو بغير علمها وذلك لإطلاق الحديث.
فلو نظر إليها على غفلة منها أو من وليها فإن ذلك جائز لكن لا يجوز له أن يفعل ذلك حتى يغلب على ظنه إجابتهم إلى نكاحها وإلا فلا يجوز له ذلك.
إذن: ما يظهر منها غالباً هو الذي ينظر إليه الخاطب.


وقال الظاهريه وهو رواية عن الإمام أحمد: بل ينظر إلى كل شئ منها سوى العورة المغلظة - أي القبل والدبر -، لكن هذا فيه نظر ظاهر لأنه قد يدعوه إلى الزنا المحرم، وقال داود ينظر إليها متجردة وهي رواية عن أحمد، لكن النظر إلى الساق ونحو ذلك يقوى القول بجوازه وهو قول لبعض الحنابلة، وفي مصنف عبد الرزاق ومسند سعيد بن منصور: " أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لما خطب أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب كشف عن ساقها "، فلا بأس، وأما سوى ذلك مما لا تطلع عليه النساء غالباً، فلا يظهر القول بجوازه. [مراراً] أي يكرر النظر حتى يحصل مقصوده، وقد صعّد النبي - صلى الله عليه وسلم - البصر وصوّبه (1) .
قال: [بلا خلوة]
فلا يجوز أن يخلو بها، وذلك لأنها أجنبية عنه والخلوة بالأجنبية محرمة، وهذا أيضاً ذريعة إلى الوقوع بما حرمه الله عز وجل فلا يجوز له أن يخلو بها.

الدرس الحادي والعشرون بعد الثلاثمائة
قال رحمه الله: [ويحرم التصريح بخطبة المعتدة من وفاة والمبانة دون التعريض]
وهو مالا يحتمل غير النكاح، إذا توفي رجل عن زوجته أو طلقها ثلاثاً كانت بائناً، فلا يحل لأحد أن يصرح بخطبتها كأن يقول لها رجل (أريد أن أتزوجك) وكذا المختلعة والبائن بفسخ ونحوه، وأما التعريض كأَن يقول: (إني في مثلك لراغب) فإنه جائز قال تعالى {ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم} فلا جناح في التعريض، أما التصريح فإنه محرم.
قال: [ويباحان لمن أبانها دون الثلاث]
__________
(1) وذلك في حديث الواهبة نفسها وهو متفق عليه، وهو مذكور في الدرس الذي يلي هذا الدرس.


يباحان – أي التعريض والتصريح – لمن أبانها دون الثلاث كالمختلعة والبائن بفسخ ونحو ذلك، فالمبانة دون الثلاث يجوز لمن أبانها أن يخطبها تصريحاً وتعريضاً لأنه هو صاحب العدة، فلو أن امرأة طلبت الخلع من زوجها فرضي بذلك، فإذا تم الخلع فإنه يأتيها كغيره من الخطاب، ولكن الخطاب لا يجوز لهم أن يخطبوها حتى تنتهي من عدتها، وأما من اختلعت منه فله أن يخطبها قبل أن تنتهي من عدتها تصريحاً أو تعريضاً، وأما غيره فلا يحل له إلا التعريض، أما البائن بثلاث فإنها لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره وسيأتي ذكر هذا إن شاء الله.
قوله: [كرجعية]
الرجعية زوجة، فكما أن الرجل يراجع زوجته في عدتها وهو بعلها، فكذلك في البائن دون الثلاث كالرجعية.
قال: [ويحرمان منها على غير زوجها]
أي يحرم التصريح والتعريض من الرجعية على غير زوجها، فالمطلقة طلاقاً رجعياً لا يحل لأحد أن يخطبها تعريضاً ولا تصريحاً، وكذلك لا يحل لها أن تقبل هذه الخطبة لا تعريضاً ولا تصريحاً لأنها زوجة.
قال: [والتعريض: إني في مثلك لراغب، وتجيبه: ما يرغب عنك ونحوهما]
أي نحو هذه الألفاظ التي هي من باب التعريض.
قال: [فإن أجاب ولي مجبَرَة أو أجابت غير المجبَرَة لمسلم حرم على غيره خطبتها]
قوله لمسلم أي لو كان ذمياً فإنه يجوز، ولا يحل لمسلم أن، يخطب على خطبة أخيه، فإذا خطب مسلم امرأةً فأجابت ورضيت وهي غير مجبرة أي من النساء اللاتي لا يجبرن، أو أجاب وليها وهي ممن يجبر على النكاح، فلا يحل لأحد أن يخطبها بعد ذلك، لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى يترك الخاطب قبله أو يأذن له) .
وهذا الحكم لأن خلافه يورث العداوة والبغضاء، فإنه لا يأمن أن يرد الأول وهو كفؤٌ لها لفضيلة في الثاني فيورث ذلك عداوة في قلب الأول.


كذلك إذا سكنت إليه أو ركنت إليه أو سكن إليه ولي المجبرة وركن إليه، وما بقي إلا أن يتلفظ بالقبول فقد ظهرت علامات الرضا فلا يحل أيضاً للحديث المتقدم. وأما إذا لم تسكن إليه المرأة غير المجبرة أو ولي المجبرة ولم يظهر ما يدل على الرضا فيجوز أن يخطب المسلم على خطبة أخيه، يدل على هذا ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة بنت قيس: (إذا أحللت فأخبريني) فلما حللت ذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن أبا جهم ومعاوية قد خطباني فقال: (أما أبو جهم فلا يضع العصا عن عاتقه – أي يضرب النساء – وأما معاوية فصعلوك لا مال له – أي فقير – انكحي أسامة بن زيد) ، فهنا قد خطب النبي - صلى الله عليه وسلم - لأسامة على خطبة أبي جهم ومعاوية وذلك لأنه لم يظهر سكون ولا ركون فيجوز حينئذٍ.
قال: [وإن رُدَّ أو أَذن ….. جاز]
إذا رُدّ الخاطب الأول أو أذن للخاطب الثاني أن يخطب جاز ذلك، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (إلا أن يترك الخاطب قبله أو يأذن له) .
قال: [أو جهل الحال جاز]
إذا خطب زيد فلانة، ثم لم يظهر ما يدل على الرضا، ولا ما يدل على الرد وجهل الحال، أي جهل غيره ممن يريد أن يخطب هذه المرأة وجهل هل رضوا بهذا النكاح أم لا، فيجوز له أن يتقدم لخطبتها، هذا هو أحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد، والوجه الثاني وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أنه لا يجوز وهذا هو الراجح لظاهر الحديث المتقدم (لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه) ، وهنا الخطبة ثابتة ولا يستثنى إلا حيث ظهر عدم الرضا أو عدم السكون والركون إليه، وهنا لم يظهر شيء من ذلك فيدخل في الحديث المتقدم.
قال: [ويسن العقد يوم الجمعة]
لما روى أبو يعلى عن ابن عباس من قوله: (يوم الجمعة يوم تزويج وباءة) ، لكن الحديث فيه يحي بن العلاء وهو متروك الحديث فعليه الحديث لا يحتج به.
قال: [مساءً]


لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أمسوا بالإملاك فإنه أعظم للبركة) والحديث رواه أبو حفص العكبري كما ذكر الحنابلة.
وقال الألباني في إرواء الغليل – لم أقف على إسناده -، وعليه فلا يقال باستحبابه يوم الجمعة ولا بتخصيصه في مسائها لعدم ثبوت الحديث.
قال: [بخطبة ابن مسعود]
وهي ثابتة في مسند أحمد والسنن الأربعة وحسن هذا الحديث الترمدي وغيره والحديث صحيح، وفيه أن ابن مسعود قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الخطبة في الحاجة: (إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا – وفي ابن ماجة (ومن سيئات أعمالنا) – من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله) ثم يقرأ ثلاث آيات.
وفي النسائي الآية الأولى في آل عمران {ياأيها الذين أمنوا اتقوا الله حق تقاته …} الآية.
والآية الثانية في سورة النساء {يا أيها الناس اتقوا ربكم ….} الآية.
والثالثة في سورة الأحزاب {يا أيها الذين أمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً. ... } الآية.
فهذه هي خطبة الحاجة، وفي البيهقي أن شعبة قال لأبي إسحاق السبيعي - هذه الخطبة في النكاح وفي غيره - فقال: - في كل شيء -، فخطبة الحاجة تقال عند النكاح وعند غيره، ولكن لا تجب لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقلها في حديث الواهبة نفسها، عندما قال - صلى الله عليه وسلم -: (اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) ، وليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تَشهّد وهي مستحبة عند جماهير العلماء.

فصل
قال: [وأركانه الزوجان الخاليان من الموانع]
فأركان النكاح ثلاثة:
الركن الأول: أن يكون الزوجان خاليين من الموانع، كأن تكون المرأة معتدة فهذا في المرأة مانع يمنع من صحة النكاح.
قال: [والإيجاب]
وهذا الركن الثاني: وهو الإيجاب وهو قول ولي المرأة أو من يقوم مقامه.
قال: [والقبول]


هذا هو الركن الثالث: وهو القبول وهو قول الزوج أو من يقوم مقامه، مثال ذلك إذا قال الولي: زوجتك ابنتي – فهذا هو الإيجاب – فقال الزوج: قبلت – فهذا هو القبول -، ولو هازلاً لحديث: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة) رواه أبوداود والترمذي وحسنه.
قال: [ولا يصح ممن يحسن العربية بغير لفظ زوجت أو أنكحت]
لا يصح من العربي، ولا ممن يحسن العربية من غير العرب أن يقولوا بغير لفظ – زوجت أو أنكحت -، فإذا قال: ملكتك ابنتي أو وهبتك أو جوزتك ابنتي أو نحو ذلك، فالنكاح لا يصح، فلا يصح إلا بلفظ أنكحت أو زوجت، قالوا لأنه هو الوارد في القرآن، قال تعالى: {زوجناكها} وقال: {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف} هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الجمهور وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه يصح بكل لفظ دل على النكاح، وهو القول الراجح.
قال شيخ الإسلام: وينعقد – أي النكاح – بما عده الناس نكاحاً بأي لغة ولفظ وفعل كان. آهـ
سواء كان باللغة العربية أو باللغة الأعجمية، وسواء دل عليه الفعل أو دل عليه القول، لأن المقصود هو الدلالة على الرضا وهذا يحصل بكل قول أو فعل يدل على ذلك، وهذا في كل عقد كما تقدم في غير ما مسألة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - في حديث الواهبة نفسها: (اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) ، فعلى ذلك يصح النكاح بكل قول أو فعل دل عليه، فلو تكلم من يحسن العربية بغير لفظ العربية وهو قادر على أن يتكلم العربية فإن النكاح يصح، أو تكلم من يحسن الفصحى بالعامية فإن النكاح صحيح.
قال: [وقبلت هذا النكاح أو تزوجتها أو تزوجت أو قبلت]
هذه ألفاظ القبول
قال: [ومن جهلهما لم يلزمه تعلمهما وكفاه معناهما الخاص بكل لسانٍ]


على المذهب أنه يجب على من يحسن العربية من الأعاجم أن يتلفظ بالألفاظ العربية بالنكاح، فإن كان لا يحسن العربية بل هو جاهل فيها، فهل يلزمه التعلم، قال المؤلف:– لا يلزمه التعلم –، لأن هذه الألفاظ مما لا يتعبد بلفظه، وهذا مما يدل على ضعف هذا القول، إذ لو كان ذلك واجباً لأوجبنا عليه التعلم، والصحيح ما تقدم من أن النكاح يصح بكل قول أو فعل دل عليه.
قال: [فإن تقدم القبول لم يصح]
مثاله إذا قال الخاطب:– زوجني فلانة، فيقول الولي:– زوجتكها -، فلا يصح النكاح، وذلك لتقدم القبول على الإيجاب، قالوا: ولا يكون قبولاً وقد تقدم على الإيجاب، وهذا هو المشهور في المذهب، وأن القبول لا يصح قبل الإيجاب، وهذا من مفردات الحنابلة، وقال جمهور العلماء، بل يصح ذلك، وهذا هو القول الراجح وذلك لظهور الرضا من الطرفين بالألفاظ الدالة على ذلك، فيحصل بذلك المقصود، فإن المقصود حاصل بهذه الألفاظ تقدم القبول أو تأخره، ولأن الرجل في قصة الواهبة نفسها قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - - إن لم يكن لك بها حاجة فزوجنيها - ... الحديث وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: (اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) ، فهذا إيجاب، وقد تقدم عليه القبول وهو قوله – فزوجنيها -.
قال: [وإن تأخر عن الإيجاب صح ما داما في المجلس ولم يتشاغلا بما يقطعه]
إذا تأخر القبول عن الإيجاب، كأن يقول الولي:– زوجتك ابنتي فلانة -، فسكت الخاطب عن القبول فتأخر القبول عن الإيجاب فإن ذلك يصح ماداما في المجلس، ولم يتشاغلا بما يقطعه كأن يتشاغلا ببيع وغيره من الأمور الخارجية، لكن لو تشاغلا بما لا يقطعه كأن يقول له:– زوجتك ابنتي – فيقول: أي بناتك فيقول:– البنت الكبرى – فيقول: كم قدر المهر؟ فيقول:– كذا – فيقول: رضيت بهذا ولا يقطعه، لكن لو تشاغلا بأمر أجنبي عن موضوع النكاح ثم قال بعد ذلك: رضيت فحينئذٍ لا يصح.
قال: [وإن تفرقا قبله بطل]


مثاله: إذا قال الولي:– زوجتك ابنتي – ثم تفرقا من المجلس والخاطب لم يقل:– رضيت – ثم بعد ذلك اتصل بالهاتف أو غيره فقال:- قد رضيت -، فلا يصح لأنهما تفرقا عن المجلس، وعن الإمام أحمد أنه لا يبطل، وأنه لو تشاغلا عنه بما يقطعه أو تفرقا قبله فإنه لا يبطل، ويدل على ذلك قصة الواهبة نفسها، ففي الصحيحين عن سهل بن سعد الساعدي قال: جاءت امرأة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول الله جئت أهب لك نفسي فنظر إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصعد النظر فيها وصوبه، ثم طأطأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأسه، فلما رأت المرأة أنه لم يقض فيها شيئاً جلست، فقام رجل من الصحابة فقال: يا رسول الله – إن لم تكن لك بها حاجة فزوجنيها – فقال: (فهل عندك من شيء) فقال:– لا والله يارسول الله – فقال: (اذهب إلى أهلك فانظر هل تجد شيئاً) ، فذهب ثم رجع فقال:– لا والله ما وجدت شيئاً – فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (انظر ولو خاتماً من حديد) ، فذهب ثم رجع فقال:– لا والله يا رسول الله ولا خاتماً من حديد – ولكن هذا إزاري – قال سهل: ما له رداءٌ فلها نصفه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما تصنع بإزارك إن لبسته لم يكن عليها منه شيء، وإن لبسته لم يكن عليك منه شيء) فجلس الرجل حتى إذا طال مجلسه قام فرآه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مولياً فأمر به فدعي فلما جاء قال: (ماذا معك من القرآن) قال:– معي سورة كذا وسورة كذا – عددها فقال: (تقرأهن عن ظهر قلبك) قال:– نعم – قال: (اذهب فقد ملكتكها بما معك من القرآن) ، فهنا قد وقع فاصل طويل عرفاً وتفرقاً في المجلس ومع ذلك لم يأمره بإعادة القبول، هذا القول هو القول الراجح مالم يكن تشاغله أو تفرقه عن المجلس دالاً على عدم رضاه.
الدرس الثاني والعشرون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [وله شروط]
فهذا الفصل في شرط من شروط النكاح، فللنكاح شروط لا يصح إلا مع توفرها.


قال: [أحدهما: تعيين الزوجين]
فيشترط أن يُعيَّن الزوجان – الذكر والأنثى – بما يتميز به كل واحد منهما كالبيع، فكما أنه يشترط في المبيع عدم الالتباس بأن، يتميز المبيع عن غيره فكذلك في النكاح.
قال: [فإن أشار الولي إلى الزوجة أو سماها أو وصفها بما تتميز به…..صح]
إذا أشار الولي إلى الزوجة فقال: زوجتك هذه فقال:– زوجتك هذه – أو سماها فقال:– زوجتك فاطمة – أو وصفها بما تتميز به كأن يقول:– زوجتك ابنتي الكبرى أو الصغرى أو نحو ذلك.
قال: [أو قال: زوجتك بنتي الكبرى أو الصغرى أو نحو ذلك]
إذا قال – زوجتك ابنتي، وليس له إلا هي فإن الزواج يصح لعدم الالتباس، أما إذا لم يعينها تعيناً يزيل الالتباس كأن يقول: زوجتك ابنتي وله غيرها، فإن النكاح لا يصح للالتباس المتقدم.
مسألة: إن عيناها في الباطن ولم يعيناها في العقد فإذا عين الولي والزوج المرأة أو المعقود عليها في الباطن، وأما في الألفاظ فلم يقع منهم تعيين – أي حال العقد – فهل يصح أم لا؟
وجهان عند الحنابلة:
الوجه الأول: الصحة.
الوجه الثاني: البطلان.
والراجح هو صحة النكاح لعدم الالتباس، لأن اتفاقهما في الباطن يزيل الالتباس.
فصل
قال: [الشرط الثاني: رضاهما]
أي رضا الزوجين، فيشترط الإذن، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنكح الأيِّم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن) ، وقياساً على البيع فإنه يشترط فيه الرضا فكذلك في النكاح.
قال: [إلا البالغ المعتوه والمجنونة والصغير والبكر ولو مكلفة، لا الثيب فإن الأب ووصيه في النكاح يزوجانهم بغير إذنهم]
المعتوه: درجة لا تصل إلى الجنون.


فالبالغ المعتوه يجوز للأب أو وصيه أن ينكحه بلا إذنه، لعدم اعتبار إذنه، فإن إذنه لا فائدة منه فهو غير معتبر، وكذلك البنت المجنونة يجوز لأبيها أو لوصيه – وهو من يقوم مقام الأب بعد موته – أن ينكحاها، وكذلك يجوز للحاكم أن ينكح المعتوه أو المجنونة أو الصغير، عند الحاجة إلى النكاح، بل يجوز على الراجح لسائر الأولياء ذلك.
إذن الأصل أن الصبي العاقل لا يزوجه إلا الأب أو الوصي، وكذلك البالغ المعتوه والمجنون أو المجنونة ونحو ذلك، لكن كما هو المشهور في مذهب الحنابلة يجوز للحاكم أي عند فقد الأب والوصي، يجوز للحاكم أي القاضي أن يزوجهم عند الحاجة أي عند الحاجة للوطء أو للخدمة أو نحو ذلك، كأن يكون الصبي العاقل غير البالغ يحتاج إلى الخدمة كأن يكون معوقاً فيزوجه الحاكم، وهو مختص بالحاكم، والذي يترجح أنه عام في الحاكم وفي سائر الأولياء عند الحاجة لمصلحة موليه، والصغير يجوز لأبيه أن ينكحه بلا إذنه، والصغير هو العاقل غير البالغ، هذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
قوله: [والبكر ولو مكلفة]
البكر لها ثلاث أحوال:
الحالة الأولى: أن تكون البكر مكلفة أي بالغة عاقلة، فجمهور العلماء على أن للأب ووصيه من بعده أن ينكحها بلا إذنها أي أن يجبرها على النكاح.
هذا هو مذهب الحنابلة والمالكية والشافعية، واستدلوا بما روى مسلم في صحيحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الثيب أحق بنفسها من وليها والبكر تستأمر وإذنها سكوتها) قالوا فقوله - صلى الله عليه وسلم - (الثيب أحق بنفسها من وليها) مفهومه أن غير الثيب ليست بأحق بنفسها من وليها، وعليه فإن وليها أحق بها من نفسها فله أن يجبرها.


وذهب الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد واختارها طائفة كثيرة من أصحابه، واختار هذا القول شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم والشيخ محمد بن إبراهيم والشيخ عبد الرحمن السعدي رحمهم الله جميعاً، قالوا: لا يجوز له أن يجبرها بل يشترط إذنها، واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: (البكر تستأمر) أي يطلب أمرها في النكاح وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنكح الأيم حتى تستأمر ولا تنكح البكر حتى تستأذن) قيل فكيف إذنها قال (أن تسكت) .
فهذان الحديثان يدلان على وجوب استئذانها، وعليه فلا يجوز له أن يجبرها.
قالوا: وأما ما استدللتم به فغايته أن يكون مفهوماً، والمنطوق مقدم على المفهوم.
فإن قيل: لم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:- الثيب أحق بنفسها –؟
فالجواب: لأنها تصرح بلفظها، فإن الثيب تصرح بلفظها فتقول: قبلت أو رضيت، بخلاف البكر فإنها لا تصرح بلفظها حياءً.
وهذا هو القول الراجح
الحالة الثانية: أن تكون البكر دون تسع سنين، فقد أجمع أهل العلم على أن البكر دون التسع، يجوز للأب ووصيه من بعده – أن يجبرها على النكاح – هذا بإجماع العلماء حكاه ابن المنذر وغيره.
الحالة الثالثة: البكر بنت تسع سنين، فجمهور العلماء على أن لأبيها أن يجبرها ومنهم الأحناف كما تقدم فإن الجمهور يقولون: البكر تجبر ولو كانت بالغة، فأولى من ذلك بنت تسع.


وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام واختاره أبو بكر من الحنابلة، وقال بعض الحنابلة:– هو المنصوص عن الإمام أحمد –: أنه ليس للأب أن يجبرها وأن لها إذناً معتبراً وذلك لأن إمكان الحيض منها كثير، ولأنها تتطلع إلى النكاح أكثر من دونها، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (البكر تستأذن) هو عام في كل بكر فلا يخصص منه إلا مادل الإجماع على تخصيصه وهي ما دون تسع، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، فعليه البكر تستأذن إلا أن تكون دون تسع فلأبيها ولوصيه من بعده أن يجبراها على النكاح بإجماع أهل العلم.
أما الثيب فلا يجوز للأب ولا لوصيه ولا غيرهما أن يجبروها على النكاح، والمراد بالثيب التي قد تم لها تسع سنين، فقوله:– لا الثيب – أي الثيب التي تم لها تسع سنين، وظاهر ذلك أنها إن كانت دون تسع وهي ثيب أن له أن يجبرها وهو الصحيح في مذهب الحنابلة، وهذا القول ظاهر إذ لا فرق بين البكر والثيب إلا في أمر واحد وهو كيفية بيان الرضا، فالثيب تصرح بلفظها، والبكر يمنعها الحياء من ذلك فتصمت، وقال بعض الحنابلة، وعبر عنه صاحب الإنصاف بقوله، وقيل أنه ليس للأب أن يجبر الثيب دون تسع، وفيه نظر لما تقدم، إذ لا فرق بينهما إلا فيما تقدم من حيث أن الثيب تبين رضاها بصريح قولها، وأما البكر فإنها تصمت ويكون صماتها دليلاً على رضاها.
قال: [كالسيد مع إمائه]
فالسيد ينكح إماءه البالغات وغير البالغات بغير رضاهن لأنه يملك منافع بضعهن، فإنهن ملك له وهذا ظاهر.
قال: [وعبده الصغير]
فيجوز له أن يجبر عبده الصغير على النكاح، لأن هذا - رأى السيد - أولى من الأب، وأما العبد الكبير البالغ فلا يجوز له إجباره، لأنه يملك الطلاق وإذا كان يملك الطلاق فلا يملك إجباره على النكاح كالحر.
قال [ولا يزوج باقي الأولياء صغيرة دون تسع سنين]


حتى الجد في الصحيح من قولي العلماء - وهو مذهب الحنابلة - وقالت الشافعية: بل الجد له أن يجبر البكر على النكاح لأن ولايته بسبب الولادة فأشبه الأب وحكاه صاحب الإنصاف اختياراً لشيخ الإسلام وهو روايه عن الإمام أحمد والصحيح ما ذهب إليه الحنابلة من أن الجد ليس له أن يجبر البكر _دون تسع سنين _ على النكاح وليس له _ على المذهب _ أن يجبرها بعد تسع وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود والنسائي (ليس للولي مع الثيب أمر واليتيمة تستأمر) ، واليتيمة: هي من ليس لها أب ولأن شفقة الجد ليست كشفقة الأب فالصحيح أن سائر الأولياء كالأخ والعم وكذالك الجد ليس لهم أن يجبروا البكر وإن كانت محلاً للإجبار كالبكر دون تسع.
قال [ولا صغيرة ولا كبيرة عاقلة ولا بنت تسع سنين إلا بإذنها]
لما تقدم إلا مع الحاجة - على الراجح - وعند الحنابلة أن ذلك للحاكم خاصة والراجح أنه لسائر الأولياء وعندما يحتاج موليه إلى النكاح للوطء أو للخدمة فإنه ينكحه لما في ذلك من مصلحته.
قال [وهو صمات البكر]
هذا هو الإذن فإذا قيل لها: خطبك فلان أترضين به؟
فسكتت، فهذا هو رضاها وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (وإذنها سكوتها) .
قال [ونطق الثيب]
فالثيب تبيّن وتعرب عن نفسها _ كما تقدم في الحديث السابق تستأمر أي تأمر فيطلب أمرها – والثيب في المذهب هي الموطوءة من قبل في حل أو في حرمة وعليه فالمزني بها مكرهة أو غير مكرهة تدخل في هذا الحكم هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة.


وقالت المالكية والأحناف: الموطوءة فجوراً ليست بثيب، وهذا هو الراجح واختاره ابن القيم، ويرجحه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لاتنكح الأيم) فتفسر الثيب بالأيم، والموطوءة بالزنا ليست بأيم سواء كانت مكرهه أو غير مكرهه بل الأيم من فارقها زوجها بطلاقٍ أو فسخ أو موت وهذه الأيم قد باشرت النكاح سابقاً، وحينئذٍ فلمباشرتها السابقة يزيل هذا الحياء الذي يمنعها من التصريح به حيث خُطِبَت مرةً أخرى، ومن وطئت بالزنا ليس أمرها كذلك.
فالراجح ما ذهب إليه المالكية والأحناف: أن الموطوءة بالزنا سواءً كانت مكرهة أو غير مكرهة ليست بثيب بل هي في حكم الأبكار في هذه المسألة.
فالذي يتبين من الأدلة الشرعية أن الثيب هي الأيم، والأيم من فارقها زوجها بطلاق أو فسخ أو موت وإن لم يطئها، فلو عقد عليها فمات عنها قبل أن يطئها فهي في حكم الثيب، فلا يكفي صماتها بل لابدَّ أن تعرب عن نفسها فتتلفظ بما يدل على رضاها.
الدرس الثالث والعشرون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [الثالث: الولي]
هذا هو الشرط الثالث من شروط النكاح وهو الولي فلا يصح النكاح إلا بولي لما روى الخمسة وصححه أحمد وابن المديني والبخاري والذهبي وغيرهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا نكاح إلا بولي) ، أي لا نكاح صحيح إلا بولي، ولما روى أحمد والترمذي وابن ماجة والحديث من حديث عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فإذا دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها، فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له) ، هذا هو مذهب عامة أهل العلم.


وقال الأحناف وهو مذهب أبي حنيفة: بل يصح النكاح بلا ولي واستدلوا بقوله تعالى: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} ، فأضاف النكاح إليهن فدل على أنه من فعلهن، وهذا القول ضعيف جداً وقد قال تعالى: {فلا تعضلوهن} فأضاف العضل إلى أوليائهن فدل على أن لهم تصرفاً في انكاحهن ثم إن السنة تبين القرآن وقد دلت السنة على شرطية الولاية في النكاح.
فالصواب في هذه المسألة ما ذهب إليه عامة العلماء من شرطية الولاية في النكاح، وكما يدل عليه الأثر فإن النظر يدل عليه فإن المرأة قاصرة النظر فقد تخدع ويغرر بها بما يكون فيه استحلال لفرجها وأسر لنفسها فلا شك أن هذا مقام مهم جداً فكان الاحتياط للمرأة بأن لا تنكح إلا بولي، وذلك لقصور نظرها فقد تخدع وتغتر فيستباح فرجها وتكون أسيرة تحت من نكحها بغير ولي فاحتيط لها بأن لا يصح نكاحها إلا بولي، وهنا تخريج في مذهب الإمام أحمد رحمه الله أنه يجوز لها أن تنكح إن أذن لها وليها بالنكاح لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها) ، فدل على أنه إن أذن لها فنكاحها صحيح، وهذا التخريج كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله – هذا تخريج غلط – آهـ، وذلك لدلالة السنة الصحيحة في أنه لا نكاح إلا بولي، وحينئذ فيكون قوله (بغير إذن وليها) مما يجري مجرى الغالب فيكون المراد إلا بإذن وليها مع ولايته، ولما فيه من تبذل المرأة المخالف لصيانتها فإن انكاحها لنفسها تبذل لها، والشرع يأتي بصيانتها لا تبذلها ولذا فالصحيح أنه لابد من ولي وأن إذن الولي لا يكفي حتى يكون هو المتولي للعقد.
قال: [وشروطه: التكليف]
فيشترط التكليف لأن غير المكلف يحتاج لمن ينظر له وهو غير البالغ، وغير العاقل يحتاج لمن ينظر له فلا ينظر لغيره، فلابد أن يكون مكلفاً أي عاقلاً بالغاً.
قال: [والذكورية]


فلا تصح ولاية المرأة وإن كانت أُمّاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه ابن ماجة وغيره وهو حديث حسن: (لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح المرأة نفسها) ، فالشرط الثاني هو أن يكون الولي ذكراً فالأنثى لا ولاية لها.
قال: [والحرية]
فيشترط أن يكون الولي حراً لأن العبد لا ولاية له على نفسه فأولى من ذلك أن تكون لا ولاية له على غيره، فإنه لا ينكح إلا بإذن سيده فأولى من ذلك أن لا ينكح غيره.
قال: [والرشد]
فيشترط أن، يكون الولي راشداً في العقد، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: - الرشد في كل مقام بحسبه - آهـ، فالرشد في البيع شيء والرشد في النكاح شيء آخر وهكذا، فالرشد في النكاح: أن يكون عارفاً بالكفء وعارفاً بمصالح النكاح وإن كان غير رشيد في بيعه وشرائه ولكنه رشيد في النكاح، ولا شك أن اشتراط الرشيد في النكاح أولى من اشتراطه في البيع، فإن استحلال الفرج وما يترتب على النكاح من آثارٍ أولى من خروج شيء من ملكيته من الأشياء المالية.
قال: [واتفاق الدين]
الشرط الخامس: اتفاق الدين فيشتَرط أن يكون الولي وموليته متفقي في الدين إما مسلمين أو نصرانيين أو يهوديين ونحو ذلك فلا بد أن يتفقا في الدين كالإرث لأن اختلاف الدين يمنع من التوارث فكذلك يمنع من الولاية، لأن القربة سبب ولاية ويترتب عليها الإرث فاختلاف الدين أزال أثرها في التوارث فكذلك يزيل أثرها في النكاح فهو من باب القياس على التوارث، فليس لمن لا يصلي – وهو تارك للصلاة – ولاية على بناته اللاتي يصلين وذلك لاختلاف الدين، وكذا ليس لليهودي ولاية على النصرانية وهكذا.
قال: [سوى ما يذكر]


كالسلطان فإنه لا يشترط أن يكون السلطان يوافق دين المرأة التي سيتولى انكاحها التي هي من رعيته، فإذا كان من رعيته امرأة ذمية فله أن ينكحها وهذا حيث ليس لها ولي ينكحها فإن وليها الأعظم وهو السلطان ينكحها أو القاضي الذي يتوب عن السلطان في ذلك ولو اختلف الدين، وكذا السيد ينكح أمته الكافرة.
قال: [والعدالة]
الشرط السادس: أن يكون الولي عدلاً، قالوا: ولو ظاهراً. آهـ، وهو مستور الحال فيكون في ظاهره عدلاً فلا يظهر عليه فسق باقتراف شيء ظاهر من المعاصي مع عدم ظهور التوبة، فالفاسق في الظاهر لا ولاية له وأما الذي فسقه باطن ليس بظاهر وهو مستور الحال فهو يُسر بالمعاصي ولكنه في الظاهر مستور الحال فإن ولايته صحيحة، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية.
قالوا: لأنها ولاية نظر فلم يستبد بها الفاسق، فيشترط أن يكون الولي عدلاً، فإذا كان الأب فاسقاً فإنه لا ولاية له وتنتقل إلى من بعده وهكذا حتى لو وصلت إلى السلطان.
وعن الإمام أحمد وهو أحد قولي الشافعي وهو مذهب الأحناف والمالكية: أن العدالة ليست بشرط في الولي في النكاح بل تصح ولاية الفاسق وهذا هو الراجح لعمومات الأدلة وعليه عمل الناس في كل عصر، وفي كل مصر من عهد السلف الصالح والعمل على هذا، ولذا قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله، والأدلة ترده أي القول الأول وعمل السلف يرده. آهـ
وهذا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم واختاره الموفق ابن قدامة من الحنابلة واختاره الشيخ محمد بن إبراهيم، والفسق في الغالب لا يؤثر في مثل هذه المسائل لما له من الشفقة على موليته، ولأنه ليس له أن يعضلها وإن عضلها فإن ولايته تبطل وكذا لو أراد إجبارها على نكاح غير الكفء فكذلك كما سيأتي تقريره وعليه فولاية الفاسق صحيحة.
قال: [فلا تزوج امرأة نفسها ولا غيرها]
كما تقدم في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح المرأة نفسها) .


قال: [ويقدم أبو المرأة في إنكاحها]
الأب هو المقدم في باب الولاية لأنه أشد شفقة وأكمل نظراً من غيره فيقدم الأب حتى على الأبناء.
وعن الإمام أحمد أن الأبناء يقومون على الأب وهو مذهب الإمام مالك قالوا: لأنهم أقرب عصبة من الأب، والصحيح الأول لأن نظر الأب أكمل وشفقته أشد وهو مذهب جمهور العلماء.
قال: [ثم وصيه فيه]
أي ثم يقوم الوصي بعد الأب أي بعد موت الأب، فإذا أوصى الأب أن تكون ولاية بناته لفلان الأجنبي عنهم أو لأحد أولاده دون غيره أو لأحد أخواله مع وجود أبنائه ونحو ذلك فإن الولاية تكون للوصي، كالتوكيل في الحياة، فكما أن الأب لو وكل رجلاً في نكاح بناته فيصح اتفاقاً فكذلك في الوصية بعد الموت، ولأنه أقوى نظراً من غيره وغالباً لا يجعل الوصية إلا ممن يرى أن إنكاحه أصلح من إنكاح غيره.
قال: [ثم جدها للأب وإن علا]
ثم بعد الوصي الجد للأب، أما الجد للأم فلا لأنه ليس من العصبة بل هو من ذوي الأرحام كما تقدم في باب الفرائض.
وعن الإمام احمد وهو مذهب المالكية: أن الإبن يقدم على الجد، والذي يترجح أن الجد يقدم على الإبن أيضاً لأنه أكمل نظراً ولما له من الإيلاد المشابه للأب فيه، وقد يقال في مثل هذه المسألة أنها ترجع إلى إجتهاد الحاكم أي القاضي لتعيين الأصلح منهما أي من الجد أو الإبن، وقد يقال هذا أيضاً في مسألة الإبن والأب لأنهم عللوا ذلك بقولهم أكمل نظراً وأشد شفقة، وقد يتبين للحاكم أن الإبن أشد شفقة وأكمل نظراً فتكون الولاية له، إلا أن هذا النظر في مسألة الجد أولى من الأب لأن الولاية ثابتة في الأصل للأب فلا ينتقل عنها إلا بدليل فتقديم الأب على الإبن أولى من تقديم الجد على الإبن.
قال [ثم إبنها ثم بنوه وإن نزلوا ثم أخوها لأبوين ثم لأب ثم بنوهما كذلك ثم عمها لأبوين ثم لأب ثم بنوهما كذلك]
ترتيب العصبات كما تقدم في الفرائض.
قال [ثم أقرب عصبةٍ نسباً كالإرث]


أي ثم عم الأب ثم عم الجد وهكذا كما تقدم في الفرائض.
قال [ثم المولى المنعّم]
بالعتق تكون الولاية له إن لم يكن هناك عصبة فمولاها المنعم عليها بالعتق يتولى إنكاحها.
قال: [ثم أقرب عصبته نسباً]
أي ثم ينتقل إلى أقرب عصبة هذا المعتق نسباً.
قال: [ثم ولاء]
يعني المولى فالمعتق إن كان له معتق فتكون الولاية للمعتق إلا على ثبوت الولاية كما تقدم في كتاب الفرائض.
قال: [ثم السلطان]
ثم السلطان -وهو الإمام الأعظم ونائبه وهو القاضي لا الوالي كما نص أحمد - لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فإن اشتجروا - أي الولي وموليته – فالسلطان ولي من لا مولى له) ، وقال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: في النساء اللاتي يسلمن في بلاد كافرة وأولياؤهن كفار قال يتولى ذلك رئيس المركز الإسلامي. آهـ
وهذا لما له من الولاية حيث لا سلطان، فإن تقدر وجود السلطان أو المركز الإسلامي فإنها توكل عدلاً ينكحها وقد روى البخاري معلقاً (أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه قال لأم حكيم بنت قارظ: أتفوضين أمركِ إلي قالت (نعم) ، قال: تزوجتك) .
فهنا فوضت أمرها إليه فإذا انعدم السلطان فلها أن تفوض أمرها إلى عدل، ولكن يشكل على هذا أن السلطان موجود فقد يكون هذا برضا السلطان فإن السلطان إذا رضي أو أذن بذلك أو فوضت إلى غير هذا الأمر فإن ذلك جائز فللقاضي أن يولي عدلاً يقوم بالإنكاح.
قال: [فإن عضل الأقرب]


كأن يعضلها الأب مثلاً فمنعها من نكاح الكفء فيكون هذا فسق فيه وهنا يوجب هذا نقل الولاية عنه لأنه فعل أمراً محرماً يختص بالولاية فتبين أنه ليس بأهل للولاية، فإذا أعضل الأب أو الولي الذي بعده وهكذا فإن الولاية تنتقل إلى من بعده، قال شيخ الإسلام: وإذ1 امتنع الخطاب من الخطبة لشدته فإن الولاية تنتقل عنه. آهـ، فتنتقل عنه ولما فيه من الإضرار بالمرأة وقد قال تعالى: {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف} ، فإذا عضل الأقرب فتنتقل إلى الولي الأبعد وهكذا حتى تصل إلى السلطان.
قال: [أولم يكن أهلاً]
كأن يكون غير بالغ فتنتقل إلى الأبعد البالغ فلو كان أخوها غير بالغ ولها ابن أخ بالغ فالولاية لأبن أخيها البالغ وهكذا لعدم أهلية الولاية.
قال: [أو غاب غيبة منقطعة لا تقطع إلا بكلفة ومشقة زوج الأبعد]
فإذا غاب الولي غيبة منقطعة لا تقطع عرفاً إلا بكلفة ومشقة فحينئذٍ تنتقل الولاية إلى الأبعد فهو قد سافر سفراً ولا يأتي إلى هذه البلد ليقوم بولاية هذه المرأة إلا بكلفة ومشقة ومرجع هذا إلى العرف فحينئذٍ تنتقل الولاية إلى الأبعد لما في بقاء الولاية له من الإضرار بالمرأة فإذا كان في العرف يشق انتظاره لأن سفره سفر بعيد في العرف يشق معه أن يأتي لولاية المرأة أو أن يوكل فحينئذٍ تنتقل إلى الأبعد.
قال: [وإن زوج الأبعد أو أجنبي من غير عذر لم يصح]


إذا زوج الأبعد كالأخ مع وجود الأب أو الأجنبي يزوج مع وجود الغريب من غير عذر وتقدمت بعض الأعذار ومن ذلك العضل ومن ذلك أن يكون غائباً غيبة منقطعة لا تقطع إلا بكلفة ومشقة، أو أن يجهل وجود الأقرب كأن يكون لها أبناء عم أباعد لا يدرى بهم فيزوجها السلطان مثلاً ولا يدرى بوجودهم إلا بعد ثبوت النكاح فحينئذٍ هذا عذر في تصحيح النكاح فيصح النكاح حينئذٍ، أما إذا زوجها الأبعد أو الأجنبي من غير عذر فلا يصح النكاح، وعن الإمام أحمد أنه موقوف على إجازة الولي كالبيع، وفيه نظر للفارق بيين النكاح والبيع بدليل أن المرأة لا يحل لها أن تنكح نفسها بإذن وليها فكذلك إذا أنكحها غيره وإن كان الولي قد أذن بذلك، فإذا استوى الوليان كأن يكون لها اخوة هم أولياؤها فأي أحد منهم أنكح صح إنكاحه لأن كلهم أولياء لها، وكذا لو كان لها أبناء عم درجتهم واحدة وهكذا.
فإن أذنت لواحدٍ تعين ولم يصح نكاح غيره، والمستحب أن يقوم الأفضل ثم الأسن، فإن تشاحنوا في ذلك أقرع بينهم.
فإن زوجها وليان هذا زوج وهذا زوج فالزوج الأول وهو الصحيح لما روى الخمسة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما امرأة أنكحها وليان فهي للأول منها) ، فإن جهل السابق أو علم فنسي فالمشهور في مذهب الإمام أحمد أن النكاحين يفسخان جميعاً، ولهما نصف المهر يقترعان عليه.
وعن الإمام أحمد رحمه الله أنه يقرع بينهما وهذا أظهر ممن خرجت قرعته فهو زوجها ولكن يجدد العقد للوطء وهذا هو الأصح لأن القرعة تفعل حيث استوت الحقوق فلا مرجح لأحدهما على الآخر فإنه يقرع بينهما فإذا أقرع بينهما فمن خرجت قرعته فهو زوجها ويجدد العقد للوطء.

الدرس الرابع والعشرون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [الرابع: الشهادة]
أي الشرط الرابع من شروط النكاح الشهادة.
قال: [فلا يصح إلا بشاهدين عدلين ذكرين مكلفين سميعين ناطقين]


فالشهادة شرط في صحة النكاح عند جمهور العلماء واستدلوا بما روى البيهقي وغيره من حديث الحسن عن عمران بن الحصين رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا نكاح إلا بولي وشاهدين) ، والحديث إسناده ضعيف جداً فإن فيه عبد الله بن محِّرز وهو متروك الحديث ولكنه صحيح إلى الحسن مرسلاً، فالصواب فيه الإرسال وأما الوصل فإسناده ضعيف جداً.
وفي الدارقطني وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدلٍ) ، ولكن سنده ضعيف مرفوعاً، ولكنه صحيح موقوفاً على ابن عباس رضي الله عنه وقد صحح وقفه الترمذي والبيهقي وغيرهما، والعمل على هذا عند أهل العلم من اصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم من التابعين كما قال ذلك الترمذي رحمه الله فهذا الحديث المرسل يشهد له عمل الصحابة رضي الله عنهم ويشهد له أيضاً الأثر الموقوف عن ابن عباس رضي الله عنهما ولا يعلم له مخالف، وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
وقال المالكية وهو مذهب ابن المنذر واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية وهو رواية عن الإمام أحمد – أن الإشهاد لا يشترط وإنما يشترط إعلان النكاح – واستدلوا بما ثبت في المسند بإسنادٍ صحيح من حديث عبد الله بن الزبير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أعلنوا النكاح) والأمر للوجوب وثبت عند الخمسة إلا أبا داود بإسنادٍ جيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (فصل ما بين الحلال والحرام – أي النكاح والسفاح – الصوت والدف في النكاح) ، ومن حديث عائشة رضي الله عنها نحو حديث ابن الزبير (أعلنوا النكاح) وفيه: (واضربوا عليه بالغربال) ، وهو الدف ولكن إسناده ضعيف.


فإذاً: مذهب مالك أن الشرط هو إعلان النكاح، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: لا أصل للإشهاد في الكتاب والسنة. آهـ، والذي يتبين مما تقدم أن الحديث مرسل والعمل عليه عند أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فمن بعدهم ويعضده الأثر الموقوف عن ابن عباس رضي الله عنهما، فالذي يتبين هو شرطية الإشهاد، كما أن الراجح أيضاً هو وجوب إعلان النكاح كما هو مذهب مالك والجمهور على الاستحباب، والصحيح وجوب إعلانه وقد يقال – إن النكاح إذا أعلن فإنه يكتفي بإعلانه عن الإشهاد، فإن إعلانه يقوم مقام الإشهاد بل أعظم وقد يستدل على هذا بما روى أنس بن مالك رضي الله عنهما كما في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (اشترى جارية على سبعة أرؤس فقال الناس – ما ندري أتزوجها النبي - صلى الله عليه وسلم - أم جعلها أم ولد له، فلما ركب حجبها فعلم الناس أنه قد تزوجها) ، وليس في الحديث إشهاد.


وأجاب عنه الموفق رحمه الله، بأن هذا من خصائص النبي - صلى الله عليه وسلم -، كما أن من خصائصه: عدم الولي فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نكح غير واحدة من نسائه بلا ولي فهو من خصائصه فكذلك في الشهادة، ومع ذلك فإن القول باشتراط إعلان النكاح فيه قوة لأن إعلان النكاح يقوم مقام الإشهاد، ولا شك أن الإحتياط هو أن يشهد على النكاح، وأن يعلن عليه. ولا يشترط في المذاهب الأربعة - إلا وجهاً ضعيفاً للشافعي وأحمد كما قال ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله - لا يشترط الإشهاد على إذن المرأة فالإشهاد المتقدم إنما هو الإشهاد على تزويج الولي، بل لو قال الولي: أذنت لي، فإن قوله يقبل ولكن إن أنكرت بعد ذلك أن تكون أذنت لوليها فالقول قولها بيمينها. ولذا: فينبغي كما قال شيخ الإسلام وغيره الإشهاد على إذن المرأة ليكون النكاح متفقاً على صحته، وليؤمن فسخه عند جحودها، فعلى ذلك يستحب الإشهاد على إذنها ولكن لا يشترط لعدم الدليل عليه. فإذن: يشترط الإشهاد ويشترط على الراجح إعلان النكاح ويضرب عليه بالدف، فظاهر كلام الإمام أحمد رحمه الله وكلام أصحابه أن ذلك على التسوية للرجال والنساء وأن الرجال يضربون بالدف كالنساء، وقال الموفق رحمه الله تعالى: هو مخصوص بالنساء. آهـ


وقوله أظهر لأن هذا غير معروف في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - _أي أن يضرب الرجال بالدف في النكاح بل المعروف هو ضرب النساء على بالدف، فدل على أن المراد بالأحاديث المتقدمة هو ضرب النساء عليه بالدف إذ لو كان المراد ضرب الرجال عليه أيضاً لفعل ذلك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن إن سمع الرجال للدف مع كون الفتنة مأمونة كأن تكون الجواري هن اللآتي يضربن بالدف فإن ذلك جائز، ويدل عليه ما رواه الحاكم بسند صحيح عن عامر بن سعد قال: (دخلت على قرظة بن كعب وأبي مسعود الأنصاري في عرس وإذا جوار يضربن بالدف فقلت – أنتم أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل بدر يفعل هذا عندكم – فقالا: إن شئت فأقم معنا وإن شئت فاذهب فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص لنا باللهو في العرس) ، فدل على جواز السماع مع أمن الفتنة.
فالأظهر هو ما قاله الموفق رحمه الله وأن الضرب بالدف إنما هو للنساء خلافاً لما يفيده ظاهر نصوص الإمام أحمد وظاهر كلام أصحابه لأن هذا غير معروف في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويشترط في الشاهدين العدالة ولو ظاهراً كما تقدم في الولي، وكذا أن يكونا ذكرين فلا تصح شهادة الأنثى ولا تصح شهادة رجل وامرأة ففي مصنف ابن أبي شيبة عن الزهري قال: مضت السنة أن شهادة المرأة لا تجوز في الحدود ولا في النكاح ولا في الطلاق. آهـ، ولأن هذا الأمر يطلع عليه الرجال وليس بمالي فلم يحتج معه إلى شهادة النساء وسيأتي في الكلام على شهادة المرأة في باب الشهادة إن شاء الله، وأن يكون مكلفين وكذا سميعين فلوا كانا أصمين فلا يصح لأنه لا يمكنه أن يشهد لأنه لم يسمع، وكذا أن يكونا غير أخرسين فإن كانا أخرسين فلا تصح شهادتهما لأنهما لا يمكنهما الأداء، وقال الشافعية في وجه بل يصح أن يكونا أخرسين وهذا هو الراجح لأنه يمكنه أن يؤدي الشهادة بالإشارة.


قال: [وليست الكفاءة وهي دينٌ ومنصب، وهو النسب والحرية شرطاً في صحته]
الكفاءة ليست بشرط في صحة النكاح ودليل ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين (لما عتقت بريرة خيرها من زوجها وكان عبداً) ، فهذا التخيير من النبي - صلى الله عليه وسلم - يدل على أن ذلك ليس شرطاً في صحة النكاح وإنما هو شرط في لزومه أي في أن لا يثبت فيه الخيار فلا فسخ، فإذا تزوج الرجل امرأة ليس بكفء لها فالنكاح صحيح ولكن يثبت الخيار للمرأة ولوليها الفسخ كما خير النبي - صلى الله عليه وسلم - بريرة لما أعتقها والعبد ليس بكفء للحرة وبريرة حرة وزوجها عبد فليس كفأً لها فلم يبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - النكاح وإنما جعل لها الخيار.
فعليه ليست الكفاءة شرطاً في صحة النكاح بل هي شرط في لزومه بمعنى أن الكفاءة إن لم تثبت فالخيار ثابت واتفق أهل العلم أن الدين من الكفاءة، فالمرأة الصالحة لا تزوج الرجل الفاسق لأنه ليس بكفءٍ لها، فإذا زوجت امرأة صالحة بفاسق فلها الفسخ بالشرط الآتي ذكره، كما أن الفاجر ليس بكفء للعفيفة فإذا زوجت فلها الفسخ أو لأحد أوليائها مالم يدل دليل على الرضا منها بقولها أو فعلها أو من الولي بقوله فلا فسخ.
والثاني: النسب. فالعربي كفء للعربية ولكن الأعجمي ليس بكفء للمرأة العربية. فمثلاً: رجل ليس بقبلي تزوج امرأة قبلية لا يكون كفأً لها عند جمهور العلماء من الحنابلة والشافعية والأحناف، فإذا لم تعلم أنه غير قبلي فلها ولوليها الفسخ بل لأي أحد من الأولياء ذلك ولو بعد حين في أي زمن كان فله أن يفسخ العقد. فمثلاً: امرأة تزوجها غير قبلي وهي قبلية ورضي الأولياء الحاضرون فولد بعد عشرات السنين ابن عم لها فقال: أن لا أرضى بذلك فحينئذٍ يفسخ النكاح كما سيأتي تقريره فالنسب من الكفاءة وفي البزار بسند جيد، قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: (أنتم قد فضلكم الله علينا معشر العرب بألاننكح نساءكم ولانؤمكم) .


قال المالكية وهو مذهب البخاري واختاره ابن القيم وابن سعدي أن الكفاءة ليس منها النسب بل لو تزوج غير القبلي قبلية وهو رجل صالح فهو كفء لها: لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فأنكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) رواه الترمذي والحديث حسن، وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لفاطمة بنت قيس وهي عربية قال لها: (أنكحي أسامة بن زيد) وهو مولى، وفي البخاري (أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة تبنىَ سالماً وزوجه ابنة أخية هند بنت عتبة بن ربيعة وهو مولى لإمرأة من الأنصار) فسالم مولى وزوجه قرشية، وهذا الأرجح في هذه المسألة وأن مسألة النسب ليست من الكفاءة.
ثالثاً: الصنعة. فصاحب الصنعة الدنيئة كالحجام والكساح ونحوهم لا يزوجون بنات أصحاب الصناعات الرفيعة فان تزوجها فلها الفسخ أو لأحد أوليائها الفسخ وهذا هو المشهور في المذهب.
ومذهب مالك: أن هذا ليس من الكفاءة فقد روى أبو داود بسند جيد (أن أبا هند حجم النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليافوخ وهو مولى فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: يا بني بياضة – وهم عرب - أنكحوا أبا هند وأنكحوا إليه) ، وهو القول الراجح في هذه المسألة.
رابعاً: اليسار. فإذا تزوج قرشي نسيب في قومه امرأة ذات يسار وهو فقير معسر فإن لها ولأحد أوليائها الفسخ حتى ولو قام بنفقتها الواجبة ولكنه ما دام لا ينفق عليها النفقة المناسبة لها فليس بكفء لها، فيشترط في لزوم النكاح أن يكون الزوج ذا يسار إذا كانت المرأة ذات يسار، وعن الإمام أحمد وهو الراجح أن ذلك ليس بشرط ولكن إن أعسر في النفقة الواجبة فسيأتي الكلام عليه في مسألة قادمة إن شاء الله.


خامساً: الحرية. فالعبد ليس بكفء للحرة وهو ظاهر في قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم الذي فيه إثبات الخيار لبريرة لما عتقت فدل على أن العبد المملوك ليس بكفء للحرة ولو كانت سابقاً مملوكة ولكنها أعتقت فأصبحت حرة فليس العبد المملوك كفأً لها.
قال: [فلو زوج الأب عفيفة بفاجر ... .، فلمن لم يرض من المرأة أو الأولياء الفسخ]
هذا هو المذهب وأنه يصح تزويج العفيفة لمن عرف بالزنا، وعن الإمام أحمد رحمه الله وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي، المنع من ذلك وهو الصحيح الذي يدل عليه كتاب الله عز وجل حيث قال تعالى: {الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} ، فمن عرف بالزنا فلا ينكح العفيفة والنكاح باطل كما أن العفيف لا ينكح الزانية كذلك لنص الآية المتقدمة.
قال: [أو عربية بعجمي، فلمن لم يرض من المرأة أو الأولياء الفسخ]
أي تزوجت امرأة قبلية برجل ليس بقبلي فلها الخيار، وقد أجمع أهل السنة والجماعة على أن جنس العرب أفضل من جنس العجم، ولكن هنا هل النسب من الكفاءة أم لا، كما لو تزوج بلال رضي الله عنه أو سلمان الفارسي رضي الله عنه تزوج بامرأة قرشية أو تميمية فللزوجة أو لأي أحد من الأولياء أن يفسخ النكاح، فلو رضيت المرأة والأب بهذا الرجل الصالح الذي ليس بعربي فاعترض بعض الاخوة فله الفسخ، ولو لم يكن موجوداً أثناء الزواج بل ولد بعده، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
وقال الشافعية والمالكية: بل إذا زوج الأقرب فليس للأبعد أن يفسخ فإذا زوج الأب ورضي فليس للأخوة أن يفسخوا، ذلك لأن رضاهم غير معتبر مع وجود الأقرب فالولاية للأقرب وهو الراجح وهذا على القول بأن النسب من الكفاءة.
ولكن هنا لو أن رجلاً زوج ابنته رجلاً غير صالح فاعترف بعض الاخوة على ذلك فهل يقبل هذا الاعتراض ويفسخ العقد أم لا؟


في المذهب نعم يفسخ، ومذهب المالكية والشافعية وهو الراجح: أنه ليس له حق الفسخ وذلك لأن الراضي هو الولي الأقرب والولي الأبعد ليس بمعتبر مع رضا الولي الأقرب، أما إذا كانوا في درجة واحدة كالاخوة مثلاً فجمهور العلماء على أن لكل واحدٍ منهم الفسخ، وأن رضا كل واحدٍ منهم معتبر ولأن الولاية حق مشترك لهم جميعاً. وقال الأحناف: بل إذا رضي بعضهم ولم يرض الآخرون فالعبرة بمن رضى لا بمن سخط وذلك لأنه حق لا يتجزأ كالقصاص!، والقياس على القصاص فيه نظر لأن القصاص لا يمكن تجزؤه لأنه لا يمكن إقامة القصاص على بعضه ولا ينطبق على البعض الآخر وأما هنا فيمكن الفسخ ومع ذلك فما ذهب إليه الأحناف فيه قوة، لأن هذا ولي قد زوج، وقد تقدم أن الحق لمن تقدم، فالمرأة التي لها وليان فينكحاها فإن الحق للمتقدم وهنا كذلك فإذا زوجها أحدهم من ليس بكفء فليس للأخر الفسخ وذلك لأن الحق أصبح له لتقدمه.

الدرس الخامس والعشرون بعد الثلاثمائة
باب المحرمات في النكاح
المحرمات ضربان:
الضرب الأول: محرمات على الأبد، فلا تحل له أبداً.
الضرب الثاني: محرمة إلى أمد أي إلى غاية، فمتى ما زال المانع فإنها تحل له.
وقد شرع المؤلف في هذا الباب بذكر المحرمات على الأبد:
فقال: [تحرم أبداً الأم وكل جدة وإن علت]
لقوله تعالى: {حرمت عليكم أمهاتكم} ، فتحرم الأم والجدة من الأم والجدة من الأب وإن علت، فكل أنثى لها إليك ولادة فهي أم لا تحل.
قال: [والبنت وبنت الإبن وبنتاهما من حلال وحرام وإن سفلت]


البنت محرمة لقوله تعالى (وبناتكم) وهكذا بنت البنت وإن نزلت وبنت الإبن وإن نزلت والبنت هي كل أُنثى لك إليها ولادة فالبنت تحرم سواءً كانت من نكاح حلال أو من نكاح شبهة أو من الزنا المحرم فالبنت من النكاح الصحيح محرمة والبنت من النكاح الشبهة محرمة وهذا بإجماع أهل العلم وكذلك المنفية باللعان فإذا نفى من زوجته ما في بطنها أو إبنة لها فإنها لا تحل له لإحتمال أن تكون من مائه، والإحتياط في الفروج واجب.
وأما التي هي من السفاح المحرم فالمشهور في مذهب الإمام أحمد: أنها تحرم عليه.
وقالت الشافعية: بل تحل له واستدلوا بأنها لا تنتسب إليه ولا ترث منه فهي أجنبية عنه.
والراجح هو القول الأول وذلك لأنها خلقت من مائه ولأنها بعض منه وهذا لا يترتب على حل ولا حرمه فهي بنت له فتدخل في عموم قوله (وبناتكم) وإنما لم تنسب إليه لأن السبب في كونها منه ليس سبباً شرعياً وإلا فهي بنته ومما يدل على أنها محرمة عليه قوله - صلى الله عليه وسلم - في امرأة هلال بن اُمية لما لاعنها زوجها قال (انظروه فإن جاءت به على كذا وكذا _ ووصفه - صلى الله عليه وسلم - _ فهو لشريك بن السمحاء وهو الزاني فقد قال (فهو لشريك) أي هو ابن له وهو وإن لم ينتسب له وإن لم يرث منه لكنه ابنٌ له وكذلك البنت.
قال: [وكل أخت وبنتها وبنت بنتها]
وكل أخت سواء كانت من أبوين وهي الأخت الشقيقة أو من أبٍ وهي الأخت لأب، أو كانت من أم وهي الأخت لأم فكلهن محرمات لقوله تعالى: {وأخواتكم} ، وكذلك بنت الأخت وبنت بنت الأخت وإن نزلت لقوله تعالى: {وبنات الأخت} .
قال: [وبنت كل أخٍ وبنتها وبنت ابنه وبنتها وإن سفلت]
لقوله تعالى: {وبنات الأخ} ، بنت الأخ وبنت بنت الأخ وبنت ابن الأخ كلهن محرمات.
قال: [وكل عمة وخالة وإن علتا]


فالعمة الشقيقة والعمة لأب والعمة لأم، وعمة الأم وعمة الأب وعمة الجد كلهن محرمات، وهكذا الخالات، لقوله تعالى: {وعماتكم وخالاتكم} والجمع في الجمل المتقدمة في هذه الآية جمع مضاف والجمع المضاف يفيد العموم، وعليه فلا تحل له ممن يجمعه النسب وإياها إلا بنات العم وإن نزلت وبنات العمة وإن نزلن، وبنات الخالة وإن نزلت وبنات الخال وإن نزلت، والمراد بالنسب القرابة بخلاف الصهر وقد قال تعالى: {يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللآتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك} .
قال: [والملاعنة على الملاعن]
فالملاعنة تحرم على الملاعن على الأبد، ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للملاعن (لا سبيل لك عليها) فتحرم عليها.
قال: [ويحرم بالرضا ما يحرم بالنسب]
تقدم ذكر المحرمات بالنسب وهن سبع، وهؤلاء المحرمات بالنسب يحرم ما يقابلهن من الرضاع، فأم الرضاع محرمة وبنت الرضاع محرمة وهكذا لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) .
قال: [إلا أم أخته وأخت ابنه]


هذا استثناء، فأم الأخت من الرضاع لا تحرم، فإذا كان لك أخت ولها أم من الرضاع، فهذه المرأة لم ترضعك وإنما أرضعت أختك فإن هذه المرأة لا تحرم عليك وكذلك أخت ابنه من الرضاع فإذا كان له ابن ولإبنه أخت من الرضاع فللأب أن ينكح هذه المرأة وهذا الاستثناء الذي ذكره المؤلف فيه نظر من حيث الاستثناء لا من حيث الحكم أما من حيث الحكم فهو ظاهر وأما من حيث الاستثناء ففيه نظر، ولذا ذكر الزركشي وغيره أن جمهور الأصحاب من الحنابلة لم يستثنوه وذلك لأن المستثنى منه هن المحرمات بالنسب والمستثنى هنا من التحريم بالمصاهرة، فإن أم الأخت محرمه لأنها زوجة الأب فيقابلها من الرضاع أم الأخت من الرضاع وكذلك أخت ابنه فإن أخت الابن هي مقابلة للربيبة والربيبة تحريمها من باب التحريم بالمصاهرة وليس من باب التحريم بالنسب ولذا فإن الاستثناء هنا ليس بصحيح.
وهل يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة؟ الجمهور أن ذلك ثابت وأنه يحرم من الرضاع ما يحرم من المصاهرة.
وقوّى شيخ الإسلام خلاف هذا وهو القول الراجح وقواه ابن قيّم الجوزية لعدم الدليل على ذلك ولأن الله يقول (وأحل لكم ما وراء ذلكم) ونكتفي هنا بذكر ترجيح هذا القول ويأتي الاستدلال عليه في كتاب الرضاع بإذن الله.
قال [ويحرم بالعقد زوجة أبيه وكل جد]
بمجرد العقد تحرم زوجة الأب وزوجة الجد سواءً كان جداً من أم أومن أب وإن علوا لقوله تعالى (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف) فزوجة الأب محرمة وكذلك زوجة الجد والأب من له عليك ولادة.
قال [وزوجة ابنه وإن نزل]


فزوجة الابن محرمة وإن نزل الابن فزوجة الابن من الصلب وزوجة ابن الابن وابن البنت كلهم من المحرمات ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحسن (إن ابني هذا سيد) وهو ابن بنته فكل ذكر لك عليه ولادة فهو ابن لك فحليلته محرمة عليك لقوله تعالى (وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم) فزوجة الابن محرمة بمجرد العقد –أي محرمة على الأب وإن علا الأب.
قال: [دون بناتهن وأمهاتهن]
فزوجة الابن محرمة لكن بنتها ليست محرمة على الأب، وأمها ليست محرمة – أي على الأب – فله أن يتزوج أم زوجة ابنه، أو ابنة زوجة ابنه لقوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} ، فليست مما حرمه الله عز وجل.
قال: [وتحرم أم زوجته وجداتها بالعقد]
هذه المحرمة الثالثة من المحرمات بالصهر وهي أم الزوجة وكذلك جداتها فإنهن يحرمن بمجرد العقد وذلك لقوله تعالى: {وأمهات نسائكم} .
قال: [وبنتها وبنات أولادها بالدخول]
هذه المحرمة الرابعة بالصهر، وهي بنت الزوجة وبنات أولادها إذا دخل بها وهي الربيبة وهي لا تحرم إلا بالدخول، وقد اختلف أهل العلم في المراد بالدخول:
فقال الحنابلة الدخول هو الوطء، وهو قول ابن عباس في تفسير قوله تعالى: {وربائبكم الآتي في حجوركم من نسائكم اللآتي دخلتم بهن} ، قال في الدخول: هو الجماع.
وعن الإمام أحمد أن الدخول هو الخلوة، فإذا خلا بها فقد دخل بها، وهذا الدخول في العرف، فإن الدخول في العرف هو الخلوة، يقال دخل بالمراة أي بنى بها وإن لم يطأها.
وهو مذهب أكثر الفقهاء أن الدخول هو أن يمسها بشهوة على اختلاف بينهم في تفصيل ذلك.


وأرجحها أن المراد به الوطء وهو تفسير ابن عباس ولا أعلم له مخالفاً، وقد رواه عنه ابن جرير في تفسيره واختاره، وحكي الإجماع على أن الدخول هنا لا يراد به الخلوة وهذا الإجماع يصرفنا عن تفسير الدخول بالخلوة ولكن تقدم ما روي عن الإمام أحمد في هذا الباب، ولكن مع ذلك يرجحه من جهة أخرى تفسير ابن عباس، والوطء ثابت في الوطء بالقبل بلا ريب.
وهل يثبت بوطئها في الدبر أم لا؟
المشهور في المذهب أنه يثبت بوطئها بالدبر قياساً على وطئها بالقبل
وقال بعض الحنابلة لا يثبت الدخول بذلك حتى يطأها بالقبل وذلك لأن الله إنما حرّم بالمباح فهو الدخول المباح وهو وطؤها في قبلها، ووطؤها في دبرها محرم والمحرم مباين أعظم المباينة للنكاح وهذا هو الراجح
قال [فإن بانت الزوجة أو ماتت بعد الخلوة أبِحن]
إذا بانت الزوجة أي إذا طلقها بعد الخلوة وقبل الدخول فإن ابنتها حلال له للآية المتقدمة (فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم) وهو لم يطأها وكذلك إذا خلا بها ثم ماتت قبل أن يدخل بها فإن ابنتها تحل له وذلك للآية المتقدمة لأنه لم يدخل بها وكونها قد ماتت فإن موتها ليس في حكم الدخول بها.
إذن: المحرمات بالمصاهرة أربع كلهن يحرمن بمجرد العقد إلا الربيبة أي بنت الزوجة فإنها لا تحرم إلا بالوطء. واختلف أهل العلم في قوله تعالى (وربائبكم اللاتي في حجوركم) هل هذا القيد له مفهوم أو لامفهوم له؟
فقالت: الظاهرية وهو قول علي بن أبي طالب كما في مصنف عبد الرزاق وقال الحافظ إبن كثير (إسناده ثابت قوي) وقال (هو غريب جداً) أي على علي بن أبي طالب وهو أن هذا القيد معتبر فعلى ذلك لا تحرم عليه إلا إذا كانت في حجره. وقد قال ابن كثير حدثنا شيخنا الذهبي أنه سأل الإمام تقي الدين ابن تيميه عن هذا الأثر فاستشكله وتوقف في ذلك.


القول الثاني وهو قول عامه أهل العلم: أن القيد هنا لا مفهوم له وإنما هو يجري مجرى الغالب وذلك لأن الغالب أن بنت الزوجة تكون في حجره ويدل على ذلك أن كونها في حجره ليس بمؤثر شرعاً فإن الرجل لو ربى بنتاً كأن يربي بنت عمه أو بنت خاله فإنها لا تحرم عليه. فدل هذا على قوة ما ذهب إليه جماهير أهل العلم من أن هذا القيد لا مفهوم له، وأما الأثر فضعفه ابن المنذر والطحاوي.
وكذلك ما كان من نكاح شبهة، فإذا وطئ رجل امرأة في نكاح شبهة ولها بنت فإنها تحرم عليه، وهذا بالإجماع، وهل تحرم عليه بنت من زنى بها؟
قال الحنابلة: تحرم عليه قياساً على النكاح.
القول الثاني في المسألة، وهو المشهور في مذهب الشافعية والمالكية أنها لا تحرم عليه واختاره شيخ الإسلام والشيخ عبد الرحمن بن سعدي وهو القول الراجح، إذ لا يصح –كما قال الشيخ عبد الرحمن – قياس السفاح بالنكاح بوجه من الوجوه، وأيضاً فإن الله عز وجل إنما حرم أم الزوجة وبنت الزوجة وزوجة الأب وزوجة الابن والمزني بها ليست بزوجة فلا تثبت لها هنا الأحكام، فإذا زنا الأب بامرأة فإنها لا تكون زوجة له فتحرم على إبنه , ومن غرائب العلم أن المشهور في مذهب الحنابلة أن اللواط تنتشر به الحرمة , وأن الرجل إذا فعل بآخر حرمت عليه أم المفعول به وابنة المفعول به وهكذا، وهذا من غرائب العلم وهو من القياس الباطل البعيد، وهذا من مفردات المذهب، وخالف في هذه المسألة أبو الخطاب من الحنابلة والموفق ابن قدامه.
الدرس السادس والعشرين بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [وتحرم إلى أمدٍ معتدته وأخت زوجته وبنتاهما وعمتاهما وخالتاهما]


هذا الفصل في المحرمات إلى أمد، أما حرمة الجمع بين الأختين فقوله تعالى – في سياق ذكر المحرمات – (وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف) وأما الدليل على النهي عن الجمع بين المرأة وعمتها والمرأة وخالتها فهو ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها) وقوله (لا يجمع) خبر بمعنى الأمر كقوله تعالى (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) فيحرم الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ومن باب أولى حرمة الجمع بين المرأة وابنتها، والقاعدة في المذهب: " المنع من الجمع بين كل أنثيين بينهما نسب أو رضاع بحيث لو كانت إحداهما ذكرا لما جاز له أن ينكح الأخرى "، هذا هو الضابط في المشهور من المذهب، وعليه فلا يجوز الجمع بين المرأة وعمة أبيها والمرأة وخالة أبيها، وكذلك لا يجوز الجمع بين الأختين من الرضاع ولا بين المرأة وعمتها من الرضاعة وهكذا.


وأختار شيخ الإسلام الجمع بين الأنثيين إن كان بينهما رضاع لا نسب، فله أن يجمع بين المرأة وعمتها من الرضاعة وبين المرأة وخالتها من الرضاعة وبين الأختين من الرضاعة وذلك لأن الجمع بين الأنثيين اللتين بينهما رضاع ليس تحريمه بمنصوص عليه وليس بمعنى المنصوص عليه، فليس بمنصوص عليه ولا يقاس على المنصوص عليه للفارق في المعنى، أما كونه ليس بمنصوص عليه، فلأن الأم إذا أطلقت والأخت إذا أطلقت والعمة إذا أطلقت والخالة إذا أطلقت لا تدخل فيها أم الرضاع ولا أخت الرضاع ولا عمة الرضاع ولا خالة الرضاع بدليل أن الله قال: في كتابه الكريم {حرمت عليم أمهاتكم} ، ثم قال: {وأمهاتكم اللاتي أرضعنكم} ، وقال: {وأخواتكم} ، ثم قال: {وأخواتكم من الرضاعة} ولو كان قوله: {حرمت عليكم أمهاتكم} يدخل فيه أم الرضاع لما ذكر تحريم الأمهات من الرضاع بعد ذلك، وكذلك في الأخت فلو كان قوله: {وأخواتكم} تدخل فيه الأخوات من الرضاعة لما بين تحريمها في قوله: {وأخواتكم من الرضاعة} ، فعليه قوله: {وأن تجمعوا بن الأختين} وفي حديث (لا يجمع بين المرأة وعمتها) لا يدخل في هذه الألفاظ العمة من الرضاع ولا الخالة من الرضاع ولا الأخت من الرضاع.


وأما كونه لا يقاس على المنصوص عليه، فلأن العلة من تحريم الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها وبين المرأة وخالتها ما يفضي إليه الجمع من قطيعة الرحم التي أمر الله بصلتها والشارع إذ نهى عن شئ فإنه يسد الذرائع الموصلة إليه ومن ذلك ما يقع من العداوة من الجمع بين الأختين وبين المرأة وعمتها – مما يفضي كثيراً أو غالباً إلى قطيعة الرحم، وليس بين الأختين من الرضاعة ولا بين المرأة وعمتها من الرضاعة ليس بينهما رحم. فالصحيح ما اختاره شيخ الإسلام. وهل يجوز الجمع بين الأختين، وبين المرأة وعمتها، وبين المرأة وخالتها إن كنّ إماءً في الوطء أم لا؟ أي هل يجوز أن يكون تحت ملكه أمتان يطؤهما وهما أختان أو إحداهما عمة للأخرى أو خالة للأخرى أم لا يجوز ذلك؟ أما الجمع بينهما في الملك فلا خلاف بين أهل العلم في جوازه وذلك لأن الرجل قد يمتلك الأمة للخدمة ونحوها، وأما الجمع بينهما في الوطء فمذهب الأربعة وأكثر الصحابة أن ذلك محرم وهو اختيار شيخ الإسلام،
والقول الثاني: وهو: مذهب الظاهرية على جواز ذلك وهو رواية عن الإمام احمد فإنه قال: لا أقول بتحريمه لكني أنهى عنه، أي لا أقول هو حرام لكني أحث على اجتنابه واستدلوا بقوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} ، والقول الأول ارجح وذلك لأن قوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} ، إنما إتاحة جنس المملوكات وليس فيه بيان ما يحرم منهن وما يحل، والجمع بينهن في الوطء يورث ما تقدم ذكره بين الحرائر فإنه يفضي إلى قطعيه الرحم التي أمر الله بصلتها.
قال [فإن طُلقَت وفرغت العدة أبحن]


إذا طلق المرأة وفرغت من عدتها فله أن ينكح أختها وله أن ينكح عمتها وله أن ينكح خالتها وذلك لأن التحريم إلى أمدٍ وليس بتحريم على الأبد. فقد زال المانع وهو الجمع وهنا لا جمع، فإذا طلق المرأة وقضت عدتها أو ماتت ثم نكح أختها أو عمتها أو خالتها فذلك جائز لزوال المانع. وقد اتفق عامة أهل العلم على جواز الجمع بين المرأة وربيبتها فالعلاقة بينهما ليست علاقة نسب وليست بعلاقة رضاع وإنما علاقة مصاهرة.
فله أن يجمع بين المرأة وبين ربيبتها أي المرأة وبنت زوجها، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وأحل لكم ما وراء ذلكم} .
قال: [وإن تزوجها في عقدٍ أو عقدين معاً بطلا]
إذا تزوجهما في عقدٍ، بأن قال له الولي: (زوجتك ابنتي هاتين) ، أو قال له: (زوجتك أختي هاتين) ، فهذا العقد باطل لأنه منهي عنه، ولأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى، وحينئذٍ فالنكاح باطل في حق الاثنتين، وكذلك لو كانا في عقدين معاً كأن يقول الأب قد زوجتك بنتي، ويقول الأخ قد زوجتك أختي، فإحداهما عمة للأخرى، فالعقدان وقعا معاً، فإن العقدين يبطلان لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى.
فإن لم يدرِ أيهما الأسبق:
فإنه يجب عليه أن يفارق الاثنتين وذلك لأنه لا يدري أيهما نكاحها باطل فوجب عليه أن يفارق الاثنتين، لكن في باطن الأمر إحداهما نكاحها صحيح لأن إحداهما قد سبق نكاحها الأخرى لكنه يجهل أيهما السابق فحينئذٍ يكون الحكم كما تقدم وجوب فراق الجميع ثم يعقد عقداً جديداً على أيهما شاء، لكن في الباطن إحداهما نكاحها صحيح ولذا فيجب نصف الصداق لإحداهما، فيصطلحان على نصف الصداق، فإن أبيا الاصطلاح فحينئذٍ تكون بينهما القرعة، فمن خرجت لها القرعة فلها نصف المهر، فإن استباح فرج احداهما فلها مهر مثيلاتها بما استحل من فرجها، فإن كانت هي التي خرجت القرعة لها فيدخل نصف الصداق بالمهر كله.
قال: [فإن تأخر أحدهما]


إذا تأخر عقد أحدهما بطل المتأخر، فإذا عقد على فلانة ثم على أختها، فإن الأخرى نكاحها باطل، لأن الجمع المحرم المبطل للنكاح قد حصل بعقدها.
قال: [أو وقع في عدة الأخرى وهي بائنٌ أو رجعيةٌ بطل]
إذا طلق المرأة ونكح أختها أو عمتها أو خالتها في عدتها فما الحكم؟
لا يخلوا هذا من حالتين:
أن تكون العدة عدة الرجعيات، بمعنى تكون المرأة طلاقها رجعياً، فبإتفاق أهل العلم يبطل النكاح وذلك لأن الرجعية زوجه.
أن تكون العدة عدة البائنات أي كانت المرأة مطلقة طلاقاً بائناً كأن يطلق امرأته ثلاثاً، بأن يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها الثالثة فحينئذٍ تكون في بينونة فطلاقها طلاق بائن، فقد اختلف أهل العلم في ذلك أي في هل يجوز أن ينكح امرأة وقد طلق أختها أو عمتها أو خالتها وهي في عدة البينونة على قولين:
القول الأول: وهو المشهور في مذهب الإمام أحمد ومذهب أبي حنيفة، ما ذكره المؤلف هنا وأن النكاح باطل.
وذهب الشافعية والمالكية إلى أن النكاح صحيح، وهو القول الراجح في هذه المسألة، وذلك لأنه لا سبيل له إليها ولأن العلة المتقدم ذكرها قد زالت فإن مثل هذا لا يورث عداوة ولا يفضي إلى قطيعة رحم فإن هذه المرأة قد آيست من رجوعها ولأنها ليست بزوجته فالمطلقة طلاقاً بائناً ليست بزوجته فإذا نكح عليها عمتها أو خالتها فإنه لم يجمع بين المرأتين في عصمته.
قال: [وتحرم المعتدة]
لا يحل نكاح المعتدة لقوله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} .
قال: [والمستبرأة من غيره]
فالمستبرأة لا يجوز نكاحها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حملٍ حتى تستبرأ بحيضة) ، والمستبرأة هي التي يطلب براءة رحمها – أي يراد إثبات أن رحمها بريء لا حمل فيه.
قال: [والزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها]


الزانية لا يحل نكاحها في المشهور من المذهب خلافاً لمذهب الجمهور، والحجة مع ما ذهب إليه الحنابلة لقوله تعالى: {الزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين} ، وفي المسند وأبي داود والترمذي والنسائي بإسنادٍ صحيح أن مرثد بن أبي مرثد سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في نكاح عناق وكانت امرأة تسافح في مكة فسكت النبي - صلى الله عليه وسلم - فنزلت {الزانية لا ينكحها إلا زانٍ أو مشرك} ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (لا تنكحها) ، فنكاح الزانية لا يجوز حتى تتوب وتعرف توبتها في المشهور من المذهب بأن تراود فتمتنع، وأنكر هذا الموفق رحمه الله، والحق مع من أنكر هذا، وذلك لأن مراودتها منكر عظيم، ولذا قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: فإن المراودة أعظم المنكرات وأقرب الوسائل لوقوع الفاحشة، واختار هذا الشيخ محمد بن إبراهيم واستظهره صاحب الفروع فالصحيح أنها لا تراود، ولكن توبتها تعرف بأن يظهر من أحوالها ما يدل على صدق توبتها من مكثها في بيتها وبعدها عن وسائل الفاحشة واستخبار النساء العليمات بحالها، وكذلك إنكاح الزاني باطل حتى يتوب لقوله تعالى: {والزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة} كما هو اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي.
فلا يجوز نكاح الزانية حتى تتوب وتنقضي عدتها، وانقضاء عدتها إن كانت حاملاً بأن تضع حملها، وإن لم تحمل من الزنا فبأن تستبرأ بحيضة، ولا يحل للزاني إن تاب أن ينكحها في عدتها وإن كان ما يخشى من الحمل منه، وإن كان الإستبراء من مائه وذلك لأن الماءين مختلفان طيباً وخبثاً وكذلك الوطئان يختلفان حلاً وحرمة.
قال: [ومطلقة ثلاثاً حتى يطأها زوجٌ غيره]
لقوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} ، أي حتى يطأها.
قال: [والمُحرمة حتى تحل]


لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا ينكح المحرم ولا يُنكح) والنهي يقتضي الفساد، فإذا نُكحت المحرمة فالنكاح باطل.
الدرس السابع والعشرون بعد الثلاثمائة
قال رحمه الله: [ولا ينكح كافر مسلمة]
سواءً كان هذا الكافر كتابياً أو وثنياً لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا} .
قال: [ولا مسلم ولو عبداً كافرة إلا حرة كتابية]
فلا يحل لمسلم ولو كان عبداً مملوكاً ان ينكح الكافرة لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} ، إلا الحرائر الكتابيات العفيفات فيحل نكاحهن لقوله تعالى: {والمحصنات من الذين أتوا الكتاب من قبلكم إذا آتيتموهن أجورهن} ، وفي المذهب أن تركه أولى، أي ترك نكاح الكتابيات، واختار شيخ الإسلام كراهية ذلك وهو نص الإمام احمد وهو مذهب أكثر أهل العلم كما ذكر شيخ الإسلام، وقيده المؤلف هنا بالحرة، وذلك لأن الأمة الكتابية لا يحل نكاحها وإنما توطأ بملك اليمين وأما نكاحها فلا يحل لقوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات} ، ولأن الأمة الكتابية إن نكحت جمع بين إرقاق الولد وبين كونه مع كافرة وهي الأمة الكتابية.
قال: [لا ينكح حر مسلم أمة مسلمة]
فليس للمسلم أن ينكح الأمة المسلمة، فهذا أمر لا يجوز إلا بشرطين ذكرهما المؤلف:
قال: [إلا أن يخاف عنت العزوبة لحاجة المتعة أو الخدمة ويعجز عن طول حرةٍ أو ثمن أمة]
فالشرط الأول: أن يخاف عنت العزوبة.
والثاني: أن يعجز عن طول حرة أي عن مهرها سواء كانت الحرة كتابية أو مسلمة وأن يعجز عن شراء أمة لنفسه ودليل هذين الشرطين قوله تعالى: {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات ….. ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم}


فإن نكح مع عدم توفر هذين الشرطين فالنكاح باطل وإنما حرم لما في ذلك من إرقاق الولد، فإن الولد يكون رقيقاً لسيد الأمة لأنه ينكح الأمة وهي في ملك سيدها فيكون ولده ملكاً لهذا السيد.
قال: [ولا ينكح عبد سيدته]
وذلك لما فيه من التنافي الكبير بين كونه مملوكاً وبعلها وبين كونها سيدته وموطوءته، وفي هذا تنافي كبير كما قرر هذا ابن القيم رحمه الله، وهذا فيه قبح ظاهر في الفطرة والعقل، فتنزهت الشريعة عن إباحته، ولذا حكى ابن المنذر تحريم ذلك عن أهل العلم إجماعاً وهو قول عمر كما في سنن البيهقي.
قال: [ولا سيدٌ أمته]
وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم كما قال الموفق والعلة أن ملك اليمين أقوى من عقد النكاح فلا يحتاج إلى عقد النكاح مع ثبوت ملكه لها.
قال: [وللحر نكاح أمة أبيه]
لأن أمة الأب ليست بملك له وليس ثمت شبهة ملك، فهي مملوكة لأجنبي وهذا بالشرطين المتقدم ذكرهما.
قال: [دون أمة ابنه]
وذلك لأن أمة الابن فيها شبهة ملك، فإن الولد وماله لأبيه، فهنا شبهة ملك، وملك اليمين أقوى من عقد النكاح، وقال أبو حنيفة:- بل يجوز ذلك لأنها ليست مملوكةٍ له – والذي يتبين أن هذه المسألة راجعة إلى مسألة تقدم ذكرها وهي أنه إذا توفرت الشروط في جواز ملكية الأب لمال ولده فلا يجوز له أن ينكحها لأنه يمكنه أن يملكها وأما إذا كانت الشروط غير متوفرة كأن يكون الولد محتاجاً، فحينئذٍ ليس له أن يمتلكها وبالتالي له أن يعقد النكاح عليها.
قال: [وليس للحرة نكاح عبد ولدها]
فلا يجوز للحرة أن تتزوج عبد ولدها، لأن شبهة الملك ثابتة ولكن هذا فيه نظر لأن شبهة الملك إنما تثبت للأب دون الأم كما تقدم تقريره في باب سابق، ولذا قال بعض الحنابلة بجواز هذا النكاح وهو القول الأظهر.
قال: [وإن اشترى أحد الزوجين أو ولده الحر أو مكاتبه الزوج الأخر أو بعضه انفسخ نكاحهما]


إذا نكح أمةً لغيره ثم اشتراها بعد ذلك فإن النكاح ينفسخ وذلك للعلة المتقدمة وهي أن ملك اليمين أقوى من عقد النكاح ومثل ذلك إذا اشتراها ولده الحر فإذا نكح أمة ثم اشتراها ولده الحر فإن النكاح ينفسخ، وكذلك لو اشتراها مكاتبه، وذلك لأن المكاتب ما يشتريه يكون ملكاً لسيده فهو قن ما بقي عليه درهم.
قال: [ومن حرم وطؤها بعقد حرم بملك يمين إلا أمة كتابية]
فالقاعدة أن كل من حرم وطؤها بعقد فإنه يحرم وطؤها بملك يمين، فهذه قاعدة مطردة في المذهب، ويستثنى من ذلك الأمة الكتابية فإنها لا يحل وطؤها بعقد ويحل بملك يمين، وسبب المنع من النكاح هو عدم الجمع بين إرقاق الولد وبين كونه تحت كافرة، ومن أمثلة هذه القاعدة المجوسية مثلاً لا يحل له أن ينكحها لقوله تعالى: {ولا تنكحوا المشركات} ، ولم يستثن الله إلا المحصنات من الذين أتوا الكتاب، وكذلك عابدة الوثن والملحدة لا يحل نكاحهن، فإذا كان لا يحل نكاحهن فكذلك لا يحل وطؤهن بملك يمين، فإذا وقعت المجوسية أوالوثنية سبياً فلا يحل وطؤها بملك اليمين هذا هو مذهب جماهير أهل العلم حتى حكي إجماعاً والذي رأيته من أدلتهم: القياس على الوطء في النكاح قالوا فكما لا يحل الوطء في النكاح فلا يحل الوطء في ملك اليمين.


واختار شيخ الإسلام وهو مذهب سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وطاووس بن كيسان وعمرو بن دينار أن ذلك جائز واستدلوا بعمومات وخصوصات، أما العمومات فقوله تعالى: {أو ما ملكت أيمانكم} ، وهو عام في الكافرة الكتابية والكافرة الوثنية وأما الخصوصات: فمنها ما تقدم أبي أبو داود وغيره وهو حديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في سبايا أوطاس – وهن من عبدة الأوثان – قال: (لا توطأ حامل حتى تضع، ولا غير ذات حمل حتى تحيض حيضة) ، فأجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - للصحابة وطأهن بملك اليمين. ثانيا: أن أكثر السبي في عهد النبوة كان من الكفار الوثنين لا يحرمونهن، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تحريم ذلك، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، فكان من سبيهم سبي هوازن وسبي بني حنيفة وغيرهم، ثالثاً: أن الصحابة لما قاتلوا الفرس كان قتالهم مع الفرس كما هو معلوم بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والفرس مجوس فكانت من أعظم الدول وأكثرها عدداً وقد وقعت تحت أيدي المسلمين فوقع السبي تحت أيدي الصحابة فلم ينقل أنهم كانوا يحرمونهن.
وحكاية الإجماع مع مخالفة مثل سعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وطاووس وعمرو بن دينار وهم أئمة بل بعضهم أعظم قدراً في الإسلام وجلالة من الأئمة الأربعة وحكاية الإجماع مع مخالفة هؤلاء لا شك أنه باطل وهذا هو القول الراجح وهو اختيار شيخ الإسلام.
قال: [ومن جمع بين محللة ومحرمة في عقد صح فيمن تحل]
كأن يجمع بين نكاح بنتي عم وكانت إحداهما معتدة والأخرى غير معتدة وقد جمع بينهما في عقد واحد فإنه يصح في غير المعتدة ويبطل في المعتدة وهذا ظاهر لأن غير المعتدة محل للنكاح فلا موجب لبطلان نكاحها.
قال: [ولا يصح نكاح خنثى مشكل قبل تبين أمره]
لأنه يحتمل أن يكون ذكراً فلا يحل نكاحه لعدم تحقق جواز النكاح.


مسألة: إذا أيسر الرجل وقد نكح أمة فاستطاع أن ينكح حرة أو نكح حرة فهل يبطل نكاح الأمة أو لا؟
الجواب: يبطل نكاح الأمة لزوال الحاجة الداعية إليه وهذا أحد القولين في المذهب، والمذهب أن النكاح يستدام ولكن الراجح أن النكاح يبطل وذلك لزوال الحاجة الداعية لذلك.

الدرس الثامن والعشرون بعد الثلاثمائة
باب الشروط والعيوب في النكاح
وهذا فصل في ذكر الشروط في النكاح
وقد تقدم البحث في شروط النكاح، وهنا الكلام على الشروط في النكاح، والمراد بالشروط فيه، الشروط التي يشترطها أحد الزوجين على الآخر وله في ذلك غرض صحيح أي مصلحة، والمعتبر من الشروط ما كان في صلب العقد هذا هو المشهور في المذهب، وعليه فالشرط الذي يكون قبل العقد ليس بمعتبر، واختار شيخ الإسلام وهو ظاهر المذهب – كما قال رحمه الله، وهو منصوص كلام الإمام أحمد وهو ظاهر كلام متقدمي أصحابه وهو قول محققي المتأخرين منهم " أن الشرط قبل العقد معتبر ولازم، وهو القول الراجح لعموم الأدلة، فإن عموم الأدلة الدالة على وجوب الوفاء بالعقد كقوله تعالى: {اوفوا بالعقود} ، تتناول ما قبل العقد كما تتناول ما يكون في صلبه، وتقدم نظير هذه المسألة في كتاب البيوع، ولذا فإن هذه قاعدة في كل العقود وأن الشروط معتبرة فيها سواء كانت في صلب العقد أو كانت قبله، والشروط في النكاح منها ما هو شرط صحيح لازم ومنها ما هو شرط فاسد، والشرط الفاسد نوعان:
الأول: شرط فاسد باطل مبطل للنكاح.
الثاني: شرط فاسد غير مبطل للنكاح.
والمذهب لا يجب الوفاء بالشرط وإنما يسن ولها الفسخ واختار شيخ الإسلام الوجوب وهو أصح.
وقد شرع المؤلف هنا في ذكر أمثلة للشروط الصحيحة فقال:
[إذا شرطت طلاق ضرتها أو أن لا يتسرى أو أن لا يتزوج عليها يخرجها من دارها أو بلدها أو شرطت نقداً معيناً أو زيادةً في مهرها صح]


فهذه شروط صحيحة، قال الحنابلة الشرط في الشروط ألا تخالف مقتضى العقد. وتقدم كلام شيخ الإسلام هذا وأن الراجح أن الشروط صحيحة ما لم تخالف الشرع، وأن الأصل في الشروط الجواز ما لم تخالف الشرع فتحل ما حرم الله أو تحرم ما أحل الله، تقدم الكلام على هذه القاعدة في كتاب البيوع. وهنا كذلك فالشرط الصحيح في النكاح ما لا يخالف كتاب الله عز وجل، ودليل ثبوت هذه الشروط ولزومها ما ثبت في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن أحق الشروط أن يوفى به ما استحللتم به الفروج) ، فدل هذا على أن الشروط في النكاح آكد من الشروط في غيره من العقود.
فإن قيل أليس في هذا تحريم ما أحل الله حيث اشترطت ألا يتزوج عليها وألا يتسرى ونحو ذلك؟
فالجواب: أنه ليس فيه تحريم ما أحله الله بل غايته ثبوت حق الفسخ لها بمعنى إن لم يوف بهذه الشروط فلها حق الفسخ ولذا قال المؤلف:
[فإن خالفه فلها الفسخ]


فإن خالف الشرط فلها حق الفسخ، وحق الخيار في الفسخ ثابت لها على التراضي ما لم يدل دليل على رضاها بالزوج بعد مخالفته للشرط، فإن دل دليل قولي كأن تقول رضيت بذلك أو فعلي بأن تمكنه من نفسها بأن يطأها مع علمها بمخالفته للشرط فحينئذٍ لا حق لها في الفسخ لرضاها به، ويقبل قولها بيمينها إذا نفت علمها بمخالفته للشرط، فإذا نفت العلم فقالت: أنا مكنته من نفسي وأنا لا أعلم بمخالفته للشرط فيقبل قولها لأن هذا مختص بها وهو أمر خفي، هذا هو القسم الأول من الشرط في النكاح وهو شرط صحيح لازم وهو ما لا يخالف شرع الله، لكن لو شرط عليها ألا تنكح بعده أو شرطت عليه ألا ينكح بعدها فهذا شرط باطل ولا مصلحة لأحدهما فيه لأنه يكون بعد الفراق أو بعد الموت، واختار شيخ الإسلام أن المرأة إذا شرطت على زوجها شرطاً وقالت أنا أحق بنفسي إن خالفت ويكون الطلاق بيدها، فهذا شرط صحيح ولها أن تطلق نفسها لأن هذا يكون من باب التوكيل وسيأتي الكلام على توكيل الزوجة في الطلاق.
وهل يجب الوفاء بالشرط إذا كان بعد العقد؟
إذا قال بعد العقد لكي عليّ ألا أنكح فإن نكحت فلكي حق الفسخ، فهل يعتبر هذا الشرط أم لا؟
المشهور في المذهب أنه لا يلزم وذلك لفوات محله فإن محله في صلب العقد.
وقال ابن رجب يتوجه صحة الشرط، وما قاله قوي لوجوب الوفاء بالعقود ووجوب الوفاء بالعهود فهذا عهد فيجب عليه الوفاء به، فالأظهر وجوب الوفاء به لأن الله أمر بالوفاء بالعهد، وهذا عهد فيجب عليه أن يوفي به.
قال: [وإذا زوجه وليته على أن يزوجه الآخر وليته ففعلا ولا مهر بطل النكاحان]


إذا زوجه وليته بشرط أن يزوجه الآخر وليته فجعلوا بضع هذه مهراً لهذه وبضع الأخرى مهراً للأخرى فهذا لا يجوز وهو نكاح الشغار الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ففي الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " نهى عن نكاح الشغار "، ونحوه في مسلم من حديث أبي هريرة فإذا زوج أحداهما وليته الأخر مشارطة بلا مهر فالنكاح باطل وهو نكاح الشغار الذي نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم -، والنهي يقتضي الفساد والشغار في الأصل هو الخلو، وسمي نكاح الشغار بهذا الاسم لخلوه من الصداق.
قال: [فإن سمي لهما مهر صح]
إذا سمي للمرأتين مهر صح والمراد بالمهر هنا المهر المستقل الذي لا يكون قليلاً ولا حيلة، هذا هو المشهور في المذهب وقال بعض الحنابلة يشترط أن يكون مهر المثل وهذا ظاهر درءً للحيلة، فإذا سمى كل واحدٍ منهما لمنكوحته مهراً فالنكاح صحيح في المشهور من مذهب أحمد والشافعي.


قال نافع كما في الصحيحين وهو راوي حديث ابن عمر: " والشغار أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه الأخر ابنته ولا صداق بينهما "، فهذا تفسير من نافع ولا يصح رفعه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس أيضاً من قول ابن عمر ولكنه تعريف صحيح للشغار، ولأنهما إذا سميا مهر المثل فلا محذور في مثل هذا النكاح إلا ما يكون من مسألة الرضا فيمن من يشترط رضاها، وقال الخرقي في مختصره: " لا يصح وإن كان بينهما صداق وهو رواية عن الإمام أحمد " ويستدل لهذا القول بما روى أبو داود في سننه وهو من حديث محمد بن اسحاق لكنه صرح بالتحديث: أن العباس بن عبد الله بن العباس أنكح عبد الرحمن بن الحكم ابنته، وانكحه عبد الرحمن بن الحكم ابنته وكانا جعلا صداقاً، فكتب معاوية إلى مروان بن الحكم – وكان واليه بالمدينة – بأن يفرق بينهما وقال في كتابه " لهذا الشغار الذي نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه"، فهذا الحديث قد يستدل به على أن هاذين الرجلين قد سميا صداقاً، وقد سماه معاوية رضي الله عنه شغاراً، وفسر صاحب عون المعبود قوله " وكانا جعلا صداقاً " بأن المفعول الأول لجعل محذوف والتقدير " وكانا جعلا إنكاح كل واحدٍ منهما الأخر ابنته صداقاً "، وهذا هو الظاهر في تفسير الحديث لأن الكلام الأول ليس فيه ذكر المشارطة وإنما فيه أن هذا أنكح ابنته هذا، وهذا أنكح ابنته هذا، وليس فيه ذكر المشارطة وإنما المشارطة مذكورة في قوله " وكانا جعلا صداقاً "، ويدل عليه ما تقدم من أن مثل هذا مع ثبوت رضا من يشترط رضاها وثبوت مهر مثلها لا محذور فيه مطلقاً، فالقول الراجح هو جواز ذلك، وهو اختيار شيخ الإسلام.
قال: [أو تزوجها بشرط أنه متى حللها للأول طلقها]
هذا هو نكاح التحليل وهو من كبائر الذنوب فقد قال - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أحمد والنسائي والترمذي وصححه وهو كما قال من حديث ابن مسعود (لعن الله المحلل والمحلل له) .


المحلِّل: هو الزوج الثاني في الظاهر.
المحلَّل له: فهو الزوج الأول.
وهو نكاح باطل، لأن النهي يقتضي البطلان
قال [أو نواه بلا شرط]
إذا نوى التحليل من غير شرط، فلم يشرط أو يُشترط عليه أنه متى ما نكحها ووطأها أنها تطلق عليه، فهذا محرم والنكاح باطل لقوله - صلى الله عليه وسلم - (إ نما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) ، ولما ثبت في مستدرك الحاكم بإسناد صحيح أن رجلاً سأل ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثاً فتزوجها أخ له من غير مؤامرة " أي من غير تواطؤ " ليحلها له فهل تحل له فقال (لا إلا نكاح رغبة، لقد كنّا نعد هذا على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - سفاحاً) .
قال [أو قال: زوجتك إذا جاء رأس الشهر أو إن رضيت أمها]
هذا من باب الشروط المستقبلة، والشرط ثلاثة أنواع:
شرط حاضر: كأن يقول " زوجتكها إن شئت " فيقول الآخر " شئت " والمذهب أن هذا الشرط صحيح
شرط ماضي: كأن يقول " زوجتكها إن كانت بنتي" وهي بنته في المضي
وهو شرط صحيح في المذهب.
شرط مستقبل: كأن يقول " زوجتكها إن جاء زيد أو إن رضيت أمها، فهذا شرط باطل في المذهب، قالوا لأن وقف النكاح على شرط لا يصح، وهذا فيه وقف للنكاح على شرط. واختار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد وقوّى هذا القول ابن رجب واختاره صاحب الفائق من الحنابلة وهو القول الراجح في هذه المسألة أن هذه الشروط صحيحة، ولا دليل على المنع من وقف النكاح على شرط ولا محذور في مثل هذا، والأصل في الشروط الصحة ولا دليل يدل على بطلان هذا الشرط.
قال [أو إذا جاء غد فطلقها أو وقّته بمدّة بطل الكل]


هذا هو نكاح المتعة، وهو النكاح مع تحديد أجل له، وهو ممنوع منه شرعاً، ففي الصحيحين عن علي بن أبي طالب قال (نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نكاح المتعة عام خيبر) وفي صحيح مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: (رخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في نكاح المتعة عام أوطاس ثلاثة أيام ثم نهى عنه) وعام خيبر قبل عام أوطاس، وعليه فيكون نكاح المتعة قد نهى عنه أولاً ثم أبيح ثلاثة أيام ثم نهى عنه، وليس له نظير في هذا، وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - من حديث الربيع بن سبرة (إني كنت قد أذنت لكم في الاستمتاع بالنساء وإن الله قد حرّم ذلك إلى يوم القيامة فمن كان عنده شئ منهن فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً) ، فعلى ذلك نكاح المتعة محرم وهو النكاح إلى أجل أي ينفق هو ووليها على أن ينكحها شهراً أو أسبوعاً بأجرة مسماه هذا محرم باتفاق أهل العلم.
وهل يحل ما يسمى بالنكاح بنية الطلاق؟ وهو أن ينكحها بنية طلاقها
المشهور في مذهب الإمام أحمد وهو قول الأوزاعي تحريم ذلك وبطلانه.
وذهب جمهور أهل العلم إلى الجواز.


وقال شيخ الإسلام: وهو مكروه، ثم قال في موضع آخر:" والكراهية تتردد بين كراهية التحريم وكراهية التنزيه " وليعلم أن النكاح بنية أنها إن أعجبته ورغب فيها وإلا طلقها هذا بابه باب آخر، فقد اتفق أهل العلم على إباحته فهو موجب النكاح والآخر ينافيه لقصده والفارق بينه وبين المسألة السابقة ظاهر التوقيت فإنه هنا ينوي الاستدامة إلا ألا يرغب فيها، وهذه نية أكثر من ينكح النساء، وأما المسألة السابقة فإنه ينوي طلاقها وهو عازم عليه فهو لا ينوي استدامتها وإن كان قد لا يطلقها، وهذا – كما قال شيخ الإسلام – مكروه، والكراهية تتردد بين كراهية التنزيه وكراهية التحريم، والجمهور على الجواز قياساً على ما إذا نوى أنها إن وافقته وإلا طلقها، ولكن هذا قياس مع الفارق كما تقدم، والذي يقوى عندي ما ذهب إليه أهل القول الأول، وذلك لأن الأصل الأبضاع التحريم. فلا تحل إلا بنكاح شرعي صحيح تتوفر فيه شروط النكاح كما يتوفر فيه معنى النكاح، وهذا لا يتوفر فيه معنى النكاح فإن النكاح يقصد للمودة والسكنى كما دل على ذلك كتاب الله وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وأما هذا فإنها كالمستأجرة، قالوا: وأيضاً قياساً على نية التحليل، فإذا نوى التحليل فإن ذلك محرم وهو نكاح باطل وإنما الأعمال بالنيات وكذلك هنا وهذا قياس صحيح وإن كان بينهما فارق في الشدة فإن النكاح بنية التحليل أشد من النكاح بنية الطلاق، وذلك لأن النكاح بنية التحليل نكاح لمن لا يريدها لنفسه، فهو لا يريدها لشئ إلا بان يحللها لغيره، وأما الآخر فله نية في الاستمتاع بها. ومع ذلك فإن القياس لا ينتفي لأن هذا الفارق غير مؤثر وإنما هو فارق في الشدة، وعلى ذلك الأقوى ما ذهب إليه الحنابلة.
مسألة:
إذا تزوجت المرأة بنية التحليل؟ أي تزوجت لكي يطلقها هذا الزوج ثم ترجع إلى زوجها، فهل هذه النية تبطل النكاح أم لا؟


1) القول الأول: أن النكاح صحيح وهو المذهب، وذلك لأن المرأة لا يفوض إليها الطلاق، فليس الأمر بيدها بخلاف الزوج فإن الأمر بيده ولذا لعن النبي - صلى الله عليه وسلم - المحلِّل والمحلِّل له، ولم يذكر المرأة لأنه ليس بيدها شئ، وهناك قول في المذهب: أن النكاح صحيح في الظاهر باطل في الباطن وعليه فإنه تسعى ولو بالمخالفة لمفارقته لأنه باطل في الباطن، لأن المرأة أحد طرفي العقد، والذي يتبين هو القول الأول لأنها ليس بيدها.

الدرس التاسع والعشرون بعد الثلاثمائة
فصل
هذا الفصل في النوع الثاني من القسم الثاني من الشروط الفاسدة فقد تقدم أن الشروط الفاسدة نوعان:
1) شروط فاسدة تبطل النكاح.
2) وشروط فاسدة لا تبطل النكاح فالنكاح يصح والشرط يفسد.
قال: [وإن شرط أن لا مهر لها]
فإذا شرط ألا مهر لها فإن النكاح يصح والشرط يفسد وعليه، فيجب لها مهر المثل، واختار شيخ الإسلام وهو مذهب مالك، وقال شيخ الإسلام وهو مذهب أكثر السلف أن النكاح يفسد، فالعقد يفسد، وذلك لأن العقد الذي لا مهر فيه عقد فاسد كنكاح الشغار، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أبطل نكاح الشغار لأنه لا صداق فيه، ولم يصححه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأوجب مهر المثل، وهذا القول الراجح وأن النكاح لا يصح إلا بمهرٍ.
قال: [أو لا نفقة أو أن يقسم لها أقل من ضرتها أو أكثر]


ونحو ذلك من الشروط فإن النكاح يصح والشرط يفسد أما كون النكاح يصح فلأن الشرط يرجع إلى معنى زائد لا يضر الجهل به، ولا يشترط في العقد ذكر النفقة إثباتاً ولا عدلاً، وكذلك القسم بين الزوجات لا يشترط إثباتاً ولا عدلاً، فلم يرجع هذا الشرط الفاسد إلى العقد وإنما رجع إلى معنى زائد فكان النكاح صحيحاً، وأما كون الشرط فاسداً فلأنه يخالف مقتضى العقد فعليه تجب لها النفقة وتجب لها القسمة الشرعية. واختار شيخ الإسلام أن هذه الشروط صحيحة معتبرة وهذا كالشروط التي تقدم أنها تصح من المرأة، فإن هذا ليس فيه مخالفة لشرع الله تعالى بل فيه أنها إن شاءت قبلت هذا الشرط وإلا فإنه لا ينكحها، وعلى ذلك هذه الشروط صحيحة والنكاح صحيح، لأنها لا تخالف الشرع، والأصل في الشروط الوفاء.
قال: [أو شرط فيه خياراً]
إذا شرط فيه خياراً فلا يصح، كأن يقول – زوجتك ولي الخيار ثلاثة أيام – أو نحو ذلك، فلا يصح في المشهور من المذهب، وذلك لأن مقتضى عقد النكاح التنجيز والخيار يخالف التنجيز فيكون مخالفاً لمقتضى العقد، وفي المسألة ثلاثة أقوال – كما قال ذلك شيخ الإسلام – وهي روايات عن الإمام أحمد:
القول الأول: وهو ما ذكره المؤلف هنا، وهو أن الخيار فاسد والنكاح صحيح، وذلك لأن هذا الشرط يخالف مقتضى العقد، وهو معنى زائد على العقد فلم يبطل به العقد.
القول الثاني: أن النكاح يبطل.
القول الثالث: أن النكاح يصح والخيار يثبت، واختاره شيخ الإسلام، وذلك للقاعدة المتقدمة وهي أن الأصل في الشروط الوفاء، وله غرض صحيح في الخيار، فإن الخيار لا يشترطه إلا من له في ذلك غرض صحيح وهو شرط فيه مصلحة. وأرجح هذه الأقوال أن النكاح يصح وأن الخيار يثبت وهذا أيضاً لا يخالف الشرع فليس فيه تحليل ما حرم الله ولا تحريم ما أحل الله، ومثل هذا قوله:
[أو إن جاء بالمهر في وقت كذا وإلا فلا نكاح بينهما]


أي إن جاء بالمهر المقدم في وقت كذا وإلا فلا نكاح بينهما فهذا شرط صحيح - على الراجح – لما تقدم لأن الشروط يوفى بها، ولا يخالف هذا شرع الله وكونه يخالف مقتضى مطلق العقد فلا يعني أن يكون مخالفاً لشرع الله، وأما المذهب فإنهم يرون بطلان هذا الشرط.
قال: [بطل الشرط وصح النكاح]
ففي المسائل المتقدمة كلها يبطل الشرط على المذهب ويصح النكاح فيبطل الشرط لمخالفته لمقتضى العقد ويصح النكاح لأنه يرجع إلى معنى زائد عن العقد.
قال: [وإن شرطها مسلمة فبانت كتابية، أو شرطها بكراً أو جميلة أو نسيبة أو نفي عيب لا ينفسخ به النكاح فبانت بخلافه فله الفسخ]
أو نفي عيب لا ينفسخ به النكاح، هناك من العيوب ما ينفسخ به النكاح وسيأتي الكلام عليه، وهناك من العيوب ما لا ينفسخ بها النكاح، فإذا شرط أن تكون جميلة أو نسيبة أو نفي عيب لا ينفسخ به النكاح فبانت بخلافه فله الفسخ، وذلك لأن هذا الشرط له فيه غرض صحيح، وقد شرطه فوجب له الوفاء حيث شرط، وهنا خولف شرطه وعليه فله الفسخ، فإن كان لم يدخل بهذه المرأة فلا مهر عليه وإن كان بعد دخوله بالمرأة فلها المهر بما استحل من فرجها، ويرجع على من غره بها سواءً كان الولي أو غيره
قال [وإن عتقت تحت حر فلا خيار لها بل تحت عبد]
إذا عتقت الأمة فلا تخلوا من حالتين:
الحالة الأولى: أن تعتق تحت عبد فتكون حرةٌ ويكون – لو أمضينا هذا الزواج – زوجها عبداً فهنا لها الخيار بإجماع أهل العلم بدليل ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عتقت بريرة خيرها بين بقائها عند زوجها وبين فسخ النكاح وكان زوجها عبداً – كما ثبت هذا في صحيح مسلم من حديث عروة عن عائشة، ومن حديث القاسم عن عائشة في سنن النسائي.


وأما ما رواه النسائي من حديث الأسود عن عائشة أنه كان حراً فالرجح أنه عبدٌ لأن عروة والقاسم أقرب إلى أم المؤمنين عائشة من الأسود بن يزيد فروايتهما ترجح على رواية الأسود لأنهما أقرب ولأنهما أكثر وأيضاً لما ثبت في البخاري عن ابن عباس قال: " كان زوج بريرة عبداً أسود لبني المغيرة يقال له مغيث.
الحالة الثانية: أن تعتق تحت حر فقد اختلف أهل العلم في هل يثبت لها الخيار أم لا؟
المذهب وهو مذهب الجمهور أنه لا يثبت لها الخيار، ولذا قال المؤلف – وإن أعتقت تحت حر فلا خيار لها – وذلك لأن المكافأة ثابتة بعد حريتها.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الأحناف وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أن لها الخيار، وهذا الخلاف يرجع إلى مسالك أهل العلم في كون النبي - صلى الله عليه وسلم - خير بريرة من زوجها مغيث، هل كان هذا لفقدان المكافأة بينهما بعد ثبوتها فأصبحت ذات كمال تحت ذي نقص، هذا هو المشهور في مذهب الحنابلة وهو مذهب الجمهور، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما خيرها بهذا المعنى.
المسلك الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما خير بريرة لأنها لما عتقت ملكت رقبة نفسها وملكت بضعها ومنافع بضعها وكانت قد زوجت من سيدها بلا رضا منها لأنها مملوكة لها، وحينئذٍ فلا فرق بين أن تكون تحت حر أو عبد، وذلك لأن المعنى ثابت في هاذين النكاحين، وهذا المسلك هو الأرجح وذلك لضعف المسلك الأول من وجهين – كما قرر هذا ابن القيم في زاد المعاد – أما الوجه الأول: فلأن شروط النكاح لا تشترط استدامتها. من ذلك: أن الزانية لا يحل نكاحها فإن زنت في عصمة الرجل فإن النكاح لا يبطل عند عامة أهل العلم، ومن ذلك أن رضا المرأة غير المجبرة شرط في صحة النكاح ابتداءً، وليس شرطاً في أثناء النكاح فلو كرهته ولم ترض به بعد النكاح فإن النكاح لا ينفسخ بذلك، فإن ثبت هذا في الشرط فكذلك في المكافأة.


الوجه الثاني: وهو نظير هذه المسألة تماماً أن زوال المكافأة لا يبطل النكاح بفسق الزوج في المذهب وفي مذهب جمهور أهل العلم بل لعل ذلك إجماعاً، ومثل ذلك فقدان المكافأة في الحرية فإن من المكافأة الدين، فلا تزوج الصالحة بفاسق، فإذا فسق الزوج وفجر فإن هذه المكافأة قد فقدت وقد زالت ومع ذلك فإن النكاح لا يبطل بل يكون صحيحاً وحينئذٍ فيقع في هذا المذهب على هذا التعليل تناقض، فإذا عللنا بالمسلك الذي ذكره فإنه يقع هذا التناقض، فإنه يلزمنا أن نقول بالفسخ عند فسق الزوج ويلزمنا أن نقول بالفسخ عند عدم رضا المرأة بالنكاح ويلزمنا إذا زنت المرأة أن نقول ببطلان النكاح لأن هذا شرط في صحته ابتداءً فكان شرطاً في استدامته انتهاءً، فعلى ذلك الراجح ما اختاره شيخ الإسلام وهو مذهب الأحناف وهو أن المسلك هو أن هذه المرأة قد ملكت نفسها وكانت قد أجبرت على بضعها وقهرت عليه بملك اليمين فلما عتقت ملكت نفسها وملكت بضعها.

فصل
هذا فصل في ذكر عيوب النكاح، والعيوب تثبت فيها خيار الفسخ كالبيع تماماً وهذا الفسخ لا يكون كالطلاق بل يكون فسخاً بلا طلاق بلا خلاف بين أهل العلم فلا ينقص به عدد الطلاق، فلوا تزوجها بعد ذلك لم تحسب عليه تطليقه.
قال: [ومن وجدت زوجها مجبوباً]
أي مقطوع الذكر.
قال: [أو بقي له ما لا يطأ به فلها الفسخ]
فمن وجدت زوجها مجبوباً أو بقي له ما لا يطأ به فإنها يثبت لها الفسخ.
قال: [وإن ثبتت عنّته]
العنّة: هو ألا يكون قادراً على الجماع بأن لا ينتشر ذكره عند الجماع.
قال: [بإقراره أو بينة على إقراره]
فإذا ثبت ذلك بإقراره بأن يقر على نفسه بذلك وكذا إذا نكل عن اليمين، أو بينة على إقراره أي يشهد شهود على أنه أقر أو بنكوله عن اليمين.
قال: [أجل سنة منذ تحاكمه]


والعلة من تأجيله سنة قالوا لأن السنة ذات فصول أربعة فإذا كان هذا سبب تغيير في الطبيعة فإنه يتغير بتغير الفصول الأربعة وهذا التعليل مقتضاه أن تكون السنة شمسية، لكن أهل العلم يقولون: إنها سنة هلالية وهذا هو مقتضى إطلاقهم وذلك لقوله تعالى: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} ، فأحكام الشرع ترجع إلى السنة القمرية لا الشمسية ثم إن الفارق بين السنة الشمسية والهلالية أيام يسيرة.
قال: [فإن وطء فيها وإلا فلها الفسخ]
أي للمرأة الفسخ لثبوت العيب فيه، ودليل تأجيل العنين سنة ما ثبت في مصنف ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح عن ابن مسعود قال: (يؤجل العنين سنة فإن جامع وإلا فرق بينهما) ، ورواه سعيد بن منصور عن عمر بن الخطاب وقال الحافظ رجاله ثقات، ولا يعلم لهما مخالف.
قال: [وإن اعترفت أنه وطئها فليس بعنين]
أي ولو مرة واحدة لأن بالوطء ولو مرة واحدة يستقر المهر وتثبت العدة فثبتت الحقوق الزوجية بذلك فإذا وطئها ولو مرة فلا فسخ للعيب لأن العيب حينئذٍ يكون طارئاً ولها أن تخلع نفسها منه كما سيأتي في باب الخلع، والمذهب أنه يكفي إيلاج الحشفة وهو الراجح، واختار القاضي اشتراط إيلاجه جميعه.
قال: [ولو قالت في وقت رضيت به عنينا سقط خيارها أبداً]


إذا قالت في وقتٍ ما رضيت به عنيناً فإن خيارها يسقط وذلك كما لو نكحته وهي تعلم أنه عنين، فإنه لا خيار لها بعد ذلك لأنها دخلت على بصيره فكذلك إذا رضيت، والمشهور في المذهب أنه ليس للزوجة الفسخ من زوجها إن ثبت عقمه أو كان يطؤها ولا ينزل، وقال الحسن البصري " بل إن كان عقيماً فلها الخيار"، وهذا – فيما يظهر لي – أظهر، ودخل في قول ابن القيم كل عيب ينفر الزوج الآخر ولا يحصل به مقصود النكاح من المودة والسكن فإنه ثبت معه الخيار، وهذا أظهر وهو اختيار شيخ الإسلام، ولأن للمرأة حقاً في الولد، وكذلك عدم إنزاله هذا يضعف كمال الوطء فلا تحصل به المرأة شهوتها وعليه فيثبت لها الخيار فيه.

فصل
قال: [والرتق]
وهو انسداد فرج المرأة.
قال: [والقرن]
لحم يكون في فرجها يمنع من وطئها.
قال: [والعفل]
رطوبة ورغوة تكون في فرجها.
قال: [والفتق]
أن يكون سبيلاها سبيلاً واحداً، فالعيوب المتقدمة في الفصل السابق مختصة بالرجل، وهذه مختصة بالأنثى.
قال: [واستطلاق بول ونجوٍ]
هذا مشترك بينهما.
قال: [والقروح السيالة في فرج]
وهذا في المرأة.
قال: [وباسور وناصور]
هذا مشترك بينهما.
قال: [وخصاء وسل ووجاء]
هذا في الرجل.
قال: [وكون أحدهما خنثى واضحاً]
هذا مشترك بينهما.
قال [وجنون ولو ساعة وبرص وجذام]
الجذام: تناثر اللحم، وهذه عيوب مشتركة بينهما.
قال [يثبت لكل واحد منهما الفسخ]


هذه العيوب في المشهور من المذهب، وقاعدة ابن القيم – كما تقدم – أعم من ذلك وهي أصح لكن ليست على إطلاقها بل يستثنى من ذلك ما إذا كان يمكنه الإطلاع على عيبها ومع ذلك فرّط بعدم السؤال وعدم الرؤية مع تمكنه من ذلك وعدم استخبار أهلها، فإذا كان منه تفريط فلا يثبت لها الخيار لأنه هو الذي فرّط. وأما إن كان العيب لا يحصل بسؤاله كأن يكون عيباً داخلياً في المرأة في فرج ونحوه فإنه يثبت له الخيار، ودليل ثبوت الفسخ هو القياس على البيع، بل هذا الحكم أولى في النكاح منه في البيع، وذلك لأن شروط النكاح أوثق وكذلك حق الفسخ منه أولى، وخيار الفسخ على التراضي ما لم يدل دليل على الرضا، وفي المسألة السابقة وهي ما إذا عتقت الأمة تحت عبد، فإن لها حق الفسخ على التراضي- كما تقدم – فإن فعلت ما يدل على الرضا كأن تمكنه من وطئها جاهلةً بحق الفسخ أو جاهلةً بالعتق، ومثله ما يكون في هذا الباب من جهل المرأة بحق الفسخ، فالمشهور في مذهب الحنابلة أن المرأة إذا مكنت زوجها من نفسها وكان لها حق الفسخ وهي جاهلة فإن حق الفسخ يسقط، واستدلوا بما روى أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عتقت بريرة خيرها وقال: (إن كان قد قربك فلا خيار لك) .
والقول الثاني: وهو مذهب الشافعية وقول إسحاق وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أن الخيار يثبت لها، وذلك كسائر الحقوق التي لا تسقط إلا بما يدل على الرضا، وهي جاهلة معذورة، وسائر الحقوق لا تسقط إلا بما يدل على الرضا وهذا هو الراجح، وأما حديث أبي داود فإسناده ضعيف، لكن إن مكنته من نفسها مع علمها ومعرفتها بحق الفسخ فالنكاح ثابت ماضٍ وليس لها حق الفسخ بعد ذلك، ففي موطأ مالك بإسناد صحيح أن ابن عمر قال " إن الأمة إذا مسّها فلا خيار لها "، وذلك إذا مسّها بعد علمها بحق الفسخ ثم مكنت نفسها منه فليس لها الفسخ بعد ذلك لأن هذا دليل رضاها.


الدرس الثلاثون بعد الثلاثمائة
هنا مراجعة في مسألتين تقدم البحث فيهما في الدرسين السابقين
أما المسألة الأولى: فهي عند شرط المرأة طلاق ضرّتها، فقد تقدم أن المشهور في المذهب صحة هذا الشرط، والراجح هو قول الموفق واختيار ابن القيم أن ذلك لا يصح وذكر الموفق أنه لم ير هذا القول لغير أبي الخطاب من الحنابلة فالراجح أن هذا الشرط لا يصح لأنه يخالف شرع الله في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسأل المرأة طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتنكح فإن مالها ما قدر لها) متفق عليه، وكل شرط يخالف كتاب الله فهو باطل، وذكر ابن القيم الفرق بين اشتراط طلاق الضرة وبين أن تشترط على زوجها ألا ينكح عليها أو ألا يتسرى، وأن الفرق بينهما أن اشتراط طلاق الضرة فيه ضرر على الضرة ففيه كسر لقلبها وخراب لبيتها ولا شك أن مثل هذا ضرر ظاهر.
أما المسألة الثانية: فهي أن الحنابلة يخصون العيوب بالعيوب التي تقدم ذكرها –على خلاف في بعضها – واختار ابن القيم أن كل عيب ينفر الآخر ولا يحصل به مقصود النكاح من المودة والرحمة فإن الفسخ يثبت به، وحكاه قولاً لبعض الشافعية وحكاه قولاً للزهري ولشريح القاضي واستدل – رحمه الله – بأن ثبوت الفسخ هنا أولى من ثبوته في البيع فإن شروط النكاح أوثق وكذلك الفسخ فيه أولى، قال ولأن الإطلاق يحمل على الأصل وهو السلامة من العيوب، وهو قد أطلق فلم ينفي العيوب فإنه إذا نفى عيباً لا ينفسخ النكاح به، فإن الفسخ ثبت حيث ثبت هذا العيب لكن هنا حيث لم يشترط نفيه فالأصل السلامة من العيوب وإطلاقه يحمل على ذلك والمشروط عرفاً كالمشروط لفظاً، فإن العرف يقضي بذلك فإنه إنما خطب السليمة من العيوب، قال ولأن ذلك أقبح التدليس والفحش أي إذا سكتوا عن ذكر عيوبها، قال في الإنصاف في هذا القول وما هو ببعيد. آهـ


واختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي. وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته، لكن كان يشكل – كما تقدم ذكره في الدرس السابق – أنه قد فرط في عدم السؤال أو السعي إلى النظر إليها والجواب عن هذا الإشكال هو وإن كان مفرطاً في ذلك فإن هذا التفريط فيه ليس كسكوتهم عن العيب الذي يعتبر كما تقدم من أقبح الغش والخداع، ويدل عليه ما ثبت في مصنف عبد الرزاق وموطأ مالك بإسناد صحيح من حديث سعيد بن المسيب عن عمر وسماعه ثابت منه كما قال ذلك الإمام أحمد ولو فرض أنه لم يسمع منه فإن أحاديثه التي يرفعها مرسله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مقبولة عند أهل العلم فأولى من ذلك ما يرسله عن الصحابة رضي الله عنهم أن عمر قال " أيما رجلٍ تزوج امرأةً فوجد بها جنوناً أو برصاً أو جذاماً فمسها فلها صداقها كاملاً وذلك لزوجها غرم على وليها "، وثبت في البيهقي بإسنادٍ صحيح أنه قال " إذا تزوجها عمياء أو برصاء فدخل بها فلها الصداق ويرجع إلى من غره "، والعمى ليس مذكوراً في جملة العيوب التي تقدم ذكرها وورد عنه رضي الله عنه العقم كما في مصنف عبد الرزاق ورجاله ثقات، وهنا قد ذكر العمى وهو ليس من العيوب التي تقدم ذكرها عند الفقهاء ومعلوم أن الخاطب أو العاقد يمكنه أن يسأل عن ذلك فلا شك أنه قد وقع منه تفريط ومع ذلك فإن الفسخ ثابت له لثبوت هذا العيب فعلى ذلك إذا تزوجها وبها خرس أو عمى أو قطع في اليدين أو الرجلين فالصحيح وهو اختيار ابن القيم – خلافاً للمشهور في المذهب بل خلافاً للمذاهب الأربعة – ثبوت الفسخ.
قال: [ولو حدث بعد العقد]


لو حدث بعد العقد فإن الفسخ يثبت، فالعيب يحكم معه بوجوب الفسخ وإن كان طارئاً بعد العقد، وذلك قياساً على الإجارة بجامع أن كليهما عقد على منفعة ولأنه إذا ثبت مقارناً فيثبت طارئاً، وخيار العيب ثابت لدفع الضرر فإذا ثبت مقارناً فيثبت طارئاً فعليه إذا ثبت في الرجل عيب بعد العقد فللمرأة الفسخ أو ثبت في المرأة عيب بعد العقد فله الفسخ ولا مهر لها لثبوت العيب، أما إن دخل بها فسيأتي الكلام عليه.
قال: [أو كان بالأخر عيب مثله]
وذلك لوجود سببه فلو كان في الأخر عيب أخر فكذلك لوجود سببه، فإذا وجد سبب الفسخ وجد الفسخ وسببه ثبوت العيب في أحد الزوجين فلو ثبت في الأخر عيب أخر أو عيب مثله فإن الحكم كذلك لا يتغير لوجود سببه ولأن الإنسان يرضى بعيب نفسه ولا يرضى بعيب غيره كما هو متقرر في الفطر.
قال: [ومن رضي بالعيب أو وجدت منه دلالته مع علمه فلا خيار له]
إذا رضي هذا الزوج الناكح للمرأة المعيبة بعيبها بقوله أو ظهر منه ما يدل على الرضا كأن يطأها وهو عالم بعيبها فلا خيار له بلا خلاف بين أهل العلم وكذلك المرأة إذا رضيت بعيب زوجها بقولها أو فعلها فإنه لا خيار لها وظاهره ولو كان مستحق الفسخ جاهلاً بحق الفسخ وهذا هو المشهور في المذهب وأن الخيار يسقط وإن كان مستحقه جاهلاً والراجح أن الجهل يعذر به لأنه حق كسائر الحقوق لا يسقط إلا بما يدل على الرضا والرضا المعتبر: إنما يكون حيث علم أن له حق الفسخ أما إن سكت وهو لا يعلم أن له حق الفسخ أو سكتت وهي لا تعلم أن لها حق الفسخ فلا. وقد تقدم أن هذا هو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي.
قال: [ولا يتم فسخ أحدهما إلا بحاكم]


فلا يصح الفسخ إلا بحاكم، فلو فسخ مستحق الفسخ لم يثبت فسخه إلا بحكم حاكم هذا هو المشهور في المذهب قالوا لأن المسألة مجتهد فيها بخلاف المسائل المتفق عليها كالمعتقة تحت العبد فإنها تفسخ نفسها منه بلا حكم حاكم، وقال شيخ الإسلام: بل الفاسخ هو، والحاكم يأذن بالفسخ أو يحكم به، فالفسخ يثبت تارةً برضاهما وتارةً بحكم الحاكم وعليه فالفسخ يثبت بمجرده من مستحقه، فإن أمضاه الأخر وإلا أمضاه الحاكم وهذا القول هو الراجح لأن الفسخ حقٌ له فثبت بفسخه والحاكم إنما يمضي، ولا فرق – حيث ثبت له الفسخ – بين ما إذا كانت المسألة مجمع عليها وبين ما إذا كانت مختلفاً فيها فهو مستحق للفسخ في المسألتين كلتيهما وهذه قاعدة لشيخ الإسلام في جميع الفسوخ، وأن جميع الفسوخ لا تقف على حكم الحاكم بل لصاحب الحق – في الفسخ – أن يفسخ وإن لم يترافعا إلى الحاكم فإن أمضى الأخر وإلا فإنها يترافعان إلى الحاكم ليمضي الفسخ.
قال: [فإن كان قبل الدخول فلا مهر]
فإذا ثبت الفسخ قبل الدخول بها فلا مهر، وذلك لأن الفسخ إما أن يكون من المرأة وإما أن يكون من الرجل، فإن كان من المرأة فإنه من قِبَلِها فلم تستحق شيئاً، وإن كان من الرجل فإنه إنما فسخ للعيب فلا تستحق شيئاً، فإذا ثبت الفسخ قبل الدخول فلا مهر للمرأة سواء كان العيب ثابتاً في الرجل أو المرأة وسواء كان الفاسخ الرجل أو المرأة.
قال: [وبعده فلها المسمى]


أما إذا كان الفسخ بعد الدخول يثبت لها المسمى في العقد سواء كان أقل من مهر المثل أو أكثر من مهر المثل، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد، ومذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد، أن لها مهر المثل، قالوا: لأنه فسخ يرجع إلى العقد والفسخ الذي يرجع إلى العقد يكون فيه مهر المثل كعامة الفسوخ التي ترجع إلى بطلان النكاح، والراجح ما ذهب إليه أهل القول الأول وذلك لأن المهر يستقر بالدخول، فإذا دخل بالمرأة فقد استقر المهر وقد سمي لها مهراً، وأما ما قاله الشافعية من أنه فسخ يرجع إلى العقد فكان فيه مهر المثل.
فالجواب: أنه إنما يرجع إلى العقد في العقود الفاسدة، وهذا لو كان فاسدا لم يمض ولم نثبت فيه خياراً بل لأبطلناه، ويدل على هذا ما تقدم من الآثار عن عمر فإنه قال: " فلها صداقها كاملاً "، وقال في الأثر الآخر: " فلها الصداق "، أي الصداق المسمى كما تدل عليه الرواية الأخرى، فالراجح أن لها المهر المسمى، ويرجع بهذا المهر الذي قد سماه لنا، ويرجع إلى من غرّه.
والغار: هو من علم بالعيب وكتمه سواء كان الولي أو الوكيل أو المرأة فيرجع إلى من غره.
وعليه فيرجع إلى الولي، وقد تقدم أثر عمر " وذلك لزوجها غرم على وليها " فيرجع على الولي، فإن أنكر الولي بيمينه أنه لا يعلم هذا العيب وكان هذا العيب ممكن أن يخفى عليه ويمكن أن يصدق ككثير من العيوب التي تكون باطنة، أو أن يكون ولياً بعيداً كأن يزوجها ابن عمٍ فيخفى عليه عيب ظاهر فيها، يطلع عليه أهل بيتها، فإن ثبت أنه لا يعلم باليمين فإنه يرجع إلى المرأة، لأنها هي التي غرته من نفسها، لأن الولي ثبت أنه لا يعلم بيمينه فحينئذٍ يرجع إلى المرأة إن كانت المرأة عاقلة وعالمة، أما إذا لم تكن عاقلة فإنه لا يرجع وكذلك إن كانت غير عالمه.
فإن قيل: هل يتصور أن تكون المرأة ليست بعالمه؟


فالجواب: إن هناك من العيوب ما يكون خفياً عن المرأة نفسها، كأن يكون هناك بقعة من البرص في موضع لا يطلع عليه في العادة، وكأن يكون في ظهرها فإنها تصدق بقولها، وحينئذٍ فإذا ثبتت براءة الوكيل، والوكيل لم يطلع على شيء من ذلك فحينئذٍ لا يرجع على أحد وذلك لأن المهر قد استقر بالدخول وليست ثمت مغرر يرجع إليه، والرجوع إلى المغرر ثابت عن عمر كما في الأثر السابق وورد في البيهقي عن علي " أنه لا يرجع بل يثبت لها المهر بما استحل من فرجها "، لكن الأثر من رواية الشعبي عن علي، وراية الشعبي عن علي منقطعة، وعليه فالأثر ضعيف ولا يعلم لعمر مخالف صحيح، إذن يرجع إلى المغرر – وهو الولي المباشر بعقد النكاح –، فإن نفى ذلك الولي وأمكن تصديقه وحلف على ذلك فإن هذا الزوج يرجع إلى المرأة، فإذا كانت المرأة جاهلة به وأمكن تصديقها فإنه لا يرجع إلى أحد، ولها المهر بما استحل من فرجها، وليست ثمت مغرر يرجع إليه.
قال: [والصغيرة والمجنونة والأمة لا تزوج واحدة منهن بمعيب]
فليس لولي هؤلاء أن يزوجهن بمعيب وذلك لأن ولايته ولاية نظر موجب أن ينظر ما فيه حظ ومصلحه لهن، وعليه فالنكاح باطل إن كان معيباً.
ولا خلاف بين أهل العلم أنه إذا أنكح الكبيرة البكر، إن زوجها معيباً فلا يصح بلا خلاف بين أهل العلم، وذلك لأن ولايته ولاية نظر موجب عليه أن ينظر ما فيه مصلحة وحظ لهن، فإذا زوجها غير عالم بالعيب فعليه الفسخ.
قال [فإن رضيت الكبيرة مجبوباً أو عنيناً لم تمنع]
إذا قالت: رضيت بهذا الزوج وإن كان مجبوباً وإن كان عنيناً فإنها لم تمنع لأن حق الوطء لها فإذا أسقطته فإنه يسقط بإسقاطها، وقال الموفق وهو قول في المذهب: بل له أن يمنعها وذلك لأن رضاها غير موثوق بدوامه، والضرر ثابت دائم ولا شك أن الضرر الثابت الدائم لا شك انه أرجح من هذا القبول غير الموثوق بدوامه واستمراره، ولأن الولي يمنعها من نكاح الكفؤ فكذلك هنا.


قال [بل من مجنون ومجذوم وأبرص]
أي تمنع من الرضا بهؤلاء وذلك لما فيه من الضرر عليها والضرر على أوليائها، ولأنه يخشى أن يلحق ولدها مثل هذا فإنها تمنع منه لما فيه من الضرر، وتقدم أن الصحيح أنها تمنع من كل هؤلاء المعيبين لأنه إنما جعل ولياً لها لينظر ما فيه مصلحة وحظ وعليها فيه ضرر، وإن أسقطت حقها فإن هذا الإسقاط لا يوثق بدوامه.
قال [ومتى علمت أو حدث به لم يجبرها وليها على الفسخ]
إذا حدث للرجل عيب بعد العقد أو علمت المرأة بالعيب بعد دخوله بها فليس لوليها أن يجبرها على الفسخ، وذلك لأن ولايته ثابتة في ابتداء النكاح لا في دوامه، فالولي إنما دلت الأدلة على ولايته في ثبوت النكاح ابتداءً وأما في دوامه فلا، فإنه ليس له حق في ذلك وعليه فلا يجبرها.
مسألة: إن ادعى الجهل بالخيار ومثله يجهله كما من لا يخالط الفقهاء فالأظهر ثبوت الفسخ.
مسألة أخرى: إن فسخ لظنه عيباً، فبان غير عيب كبياضٍ ظنه برصاً بطل الفسخ.

باب نكاح الكفار
الدرس الحادي والثلاثون بعد الثلاثمائة.
قال [حكمه كنكاح المسلمين]
حكم نكاح الكفار كنكاح المسلمين في الصحة وفي وقوع الطلاق وفي القسمة وفي النفقة فيما يحل وما يحرم لقوله تعالى: {فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم} ، وقوله أيضاً {فاحكم بينهم بما أنزل الله} ، فيحكم بينهم بشرع الله وهو ما يحكم به للمسلمين.
قال: [ويقرون على فاسده]
يقرون على فاسد النكاح كنكاح الخامسة أو نكاح المجوسي البنت أو الأخت يقرون عليه بشرطين
قال [إذا اعتقدوا صحته في شرعهم]
هذا هو الشرط الأول وهو أن يعتقدوا أنه صحيح في شرعهم كنكاح الخامسة، فإن لم يعتقدوا جوازه في شرعهم كالزنا فإنهم لا يقرون عليه.
قال: [ولم يرتفعوا إلينا]


هذا هو الشرط الثاني: أي لم يرفعوا إلينا هذه المسألة، أما إذا رفعوا إلينا هذه القضية فيجب علينا أن نحكم بما أنزل الله فنفسد هذا النكاح للآيات المتقدمة ويدل على هذه المسألة – أي إقرارهم على أنكحتهم التي لم يرفعوها إلينا ولا يعتقدون فسادها في شرعهم - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اخذ من مجوس هجر الجزية، ولم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعرض لهم لا في أنكحتهم ولا في سائر أحكامهم، ومعلوم أنهم يستبيحون نكاح المحارم. وكذلك في نصارى نجران، ولو كان التعرض لهم وإفساد أنكحتهم وغيرها مما لم يترافعوا إلينا فيها – لو كان لنقل ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - نقلاً بيناً.
قال [فإن أتونا قبل عقده عقدناه على حكمنا]
إذا أتونا قبل عقد النكاح أي ترافعوا إلى القاضي المسلم ليعقد لهم نكاحاً فحينئذٍ نعقد لهم على حكمنا من إشتراط الولي وإشتراط شاهدي عدل منا وركنية الإيجاب والقبول وغير ذلك من الأحكام المترتبة على العقود لقوله تعالى: {فاحكم بينهم بما أنزل الله} .
قال [وإن أتونا بعده أو أسلم الزوجان]
أي أتونا بعد العقد أو أسلم الزوجان وكانا قبل ذلك يهوديين أو نصرانيين أو رفعوا إلينا الحكم في مسألة من مسائل أنكحتهم وكان ذلك بعد العقد، فحينئذٍ لا نستفصل منهم هل توفرت شروط النكاح أم لا، وهذا بإجماع أهل العلم أي لا يسألون عن كيفية نكاحهم هل توفرت فيه شروطه أم لا، وقد أسلم خلق كثير في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأسلمت معهم نساؤهم ولم يسألهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كيفية أنكحتهم بل أقرهم عليها.
قال [والمرأة تباح إذن أقرا]


هذا شرط لابد منه أن تباح المرأة إذاً، أي حين الترافع أو-- الإسلام، أي حين ترافعوا إلينا في نكاح قد عقد سابقاً أو أسلم الزوجان فلا بدّ أن تكون المرأة المعقود عليها مباحة حينئذٍ، مثال ذلك أن يكون قد نكحها في عدة وهي الآن قد انتهت عدتها، أو في نكاح الأختين، فكان قد نكح أختاً على أخت، وكان حين الترافع أو حين الإسلام قد ماتت الأخت الأولى، فالأخت الثانية مباحة حينئذٍ وإن كانت محرمة آنذاك لما كانت مضمومة إلى أختها، وكذا مطلقته ثلاثاً لأنه طلاق من عاقل بالغ في نكاح صحيح، وعليه إذا أسلم رجل فامرأته عنده على ما بقي من الطلاق إن كان قد طلّق مرتين أو ثلاثاً، فحينئذٍ لا نحكم ببطلان النكاح ولا بفساده بل نحكم بينهم بما أنزل الله ونمضي هذا النكاح.
قال [وإن كانت ممن لا يجوز ابتداء نكاحها فرّق بينهما]
…إذا كانت حين الترافع لا يجوز ابتداء نكاحها فحينئذٍ يفرق بينهما، كأن يترافعوا إلينا في زوجين والزوجة ذات محرم من زوجها وكأن يترافع المجوسي وتكون تحته اخته أو يترافع النصراني وتكون المنكوحة خامسة فلا يجوز ابتداء النكاح عليها، وحينئذٍ فلا يحكم لهم بصحة النكاح بل يحكم ببطلانه.
قال: [وإن وطىء حربي حربية فأسلما وقد اعتقداه نكاحاً أقرا، وإلا فسخ]
إذا وطء حربي حربية ثم أسلما فإن اعتقدا هذا الوطء الخالي من الولي ونحوه، إذا اعتقداه نكاحاً فإنهما يقران عليه، وإن لم يعتقدانه نكاحاً بل اعتقداه سفاحاً فلا يقران عليه لأنهم يقرون على ما اعتقدوا صحته.
قال: [ومتى كان المهر صحيحاً أخذته]
إذا كانت القضية أو الخصومة التي حصل الترافع فيها في المهر، فمتى كان المهر صحيحاً كأن يكون دراهم أو دنانير أخذته هذه المرأة لأنه واجب لها بالعقد وهذا هو حكم الله تعالى.
قال: [وإن كان فاسداً وقبضته استقر]


فإذا كان فاسداً كأن يكون مهرها خمراً أو خنزيراً أو غير ذلك من المحرمات فهذا مهر فاسد، فإن كانت قد قبضته فإنه يستقر المهر، وذلك لأن هذه المسألة قد وقعت قبل الترافع وهي صحيحة عندهم فهي مما يعتقدون صحته في شرعهم وقد حصل القبض بحكم الشرك لا بحكم الإسلام.
قال: [وإن لم تقبضه ولم يسمِّ فرض لها مهر المثل]
إذا لم تقبض هذا المهر الفاسد أو كان المهر لم يسم لها في العقد فرض لها مهر المثل، لأن المهر فاسد، أو لم يسمِّ لها مهراً فحينئذٍ تعطى مهر المثل.

فصل
قال: [وإن أسلم الزوجان معاً … فعلى نكاحهما]
إن أسلم الزوجان معاً أي دفعة واحدة في زمن واحد بلحظة واحدة فهما على نكاحهما، كأن يسلم زوجان كافران في لحظة واحدة دفعة واحة فهما على نكاحهما لعدم اختلاف الدين، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم، وذكر صاحب المغني: إحتمالاً أنه يصح ولو كان في المجلس ولو لم يكن دفعة واحدة وصوبه صاحب الإنصاف واختاره ابن القيم وهو الراجح، وذلك لعسر الإسلام دفعة واحدة بل لا يكاد يقع، كما ذكر ابن القيم أن المعروف في إسلام الصحابة في إسلام الزوج والزوجة أنه لا يكون دفعة واحدة، وهذا ظاهر.
قال: [أو زوج كتابية فعلى نكاحهما]
كأن يكون رجل يهودي زوجته يهودية فأسلم اليهودي فلا يبطل نكاحه لليهودية، وذلك لأن نكاح المسلم للكتابية جائز ابتداءً فاستدامته أولى.
قال: [فإن أسلمت هي]
أي أسلمت الزوجة الكتابية.
قال: [أو أحد الزوجين غير الكتابيين قبل الدخول بطل]
فإذا أسلمت كتابية تحت كتابي أوغيره أو أسلم أحد الزوجين غير الكتابيين قبل الدخول بطل لقوله تعالى: {ولا تمسكوا بعصم الكوافر} ، هذا إن كان الزوج هو المسلم ولم تكن الزوجة كتابية، وإن كانت المرأة هي التي أسلمت فلقوله تعالى: {لا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن} وهذا مذهب جماهير أهل العلم.
قال: [فإن سبقته فلا مهر]


فإذا كانت المرأة هي السابقة للإسلام، ولم يدخل بها بعد فلا مهر لها، فمن المعلوم أن الرجل إذا طلق امرأته قبل الدخول فلها نصف المهر أو فسخ فلها نصف المهر، وهنا الفرقة بالإسلام قد جاءت من قبل المرأة، والقاعدة أن الفسخ إن كان من قبل المرأة فلا مهر.
قال: [وإن سبقها فلها نصفه]
فإذا سبقها هو بالإسلام فأسلم فلها نصفه لأن الفرقة هنا جاءت من قبله وهذا هو المشهور في المذهب، وعن الإمام أحمد وصوبه صاحب الإنصاف: أنه ليس لها مهر، وهذا فيما يظهر لي أظهر، وذلك لأن الفرقة لم تجيء من قبله بل الشرع فرق بينهما والأدلة إنما دلت على وجوب نصف الصداق حيث كان الفسخ منه أو الطلاق وهنا قد جاء التفريق من الشرع بينهما فلا يجب لها نصف المهر.
قال: [فإن أسلم أحدهما بعد الدخول وقف الأمر على إنقضاء العدة فإن أسلم الآخر فيها دام النكاح وإلا بان فسخه منذ أسلم الأول]
إذا أسلم أحد الزوجين بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة وإن أسلم الآخر بالعدة دام النكاح، وإلا بان فسخه منذ أسلم الأول، فإذا انقضت عدتها ولم يسلم فلا نقول استأنفي عدة جديدة بل عدتها هي عدتها السابقة فلا تستأنف عدة جديدة، واستدل الجمهور- القائلون بأن المرأة إذا انقضت عدتها فلا تحل لزوجها الكافر إلا بعقد جديد - استدلوا بما روى الترمذي وغيره عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد ابنته - أي زينب – على أبي العاص بنكاح جديد "، قالوا هذا لأن العدة انقضت وهذا الحديث فيه الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف الحديث.


القول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول ابن المنذر واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن النكاح يدوم ما لم تنكح فما دامت هذه المرأة لم تنكح وأسلم قبل أن تنكح فإن النكاح ثابت فإذا نكحت انفسخ النكاح، قال شيخ الإسلام: ولا فرق ما بين قبل الدخول وبعده، أي ولو كان إسلام أحدهما قبل الدخول فكذلك، إذا أسلم زوجها قبل أن تنكح فإن النكاح يدوم وما ذهب إليه شيخ الإسلام هو الراجح، أما المسألة الأولى وهي ما بعد الدخول فلما ثبت عند الخمسة من حديث ابن عباس: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رد ابنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول "، وهو من حديث داود بن الحصين عن عكرمة، وحديث داود بن الحصين عن عكرمة ضعيف، لكن للحديث شاهدان مرسلان عند سعيد بن منصور ولذا صححه الإمام أحمد وغيره.
ويدل عليه ما ثبت في صحيح البخاري – كما أنه يدل على أنه لا فرق بين ما قبل الدخول وبعده ما لم تنكح المرأة - عن ابن عباس قال: " كانت المرأة إذا هاجرت من أهل الحرب لم تخطب حتى تحيض ثم تطهر فيحل لها النكاح فإن هاجر زوجها قبل أن تنكح ردت إليه "، وهذا عام في من دخل بها ومن لم يدخل بها، وأيضاً في هذه الأحاديث لا تطرق لذكر العدة ولم يثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسأل النساء المهاجرات هل انقضت عدتهن أم لا.
وفي حديث أبي العاص في سنن الترمذي قال: " وكان ذلك بعد ست سنين "، أي بعد انقضاء عدتها بزمن طويل، والصحيح في هذه المسألة ما اختاره شيخ الإسلام وهو قول ابن المنذر ورواية عن الإمام أحمد، وأن المرأة إذا دخل بها ثم أسلمت أو أسلم زوجها فإن الزواج باقٍ بينهما ما لم تنكح، فإن نكحت فقد فسخت بنكاحها النكاح الأول، ورجح شيخ الإسلام أنه لا فرق بين من دخل بها ومن لم يدخل بها، وعمومات الأدلة تدل على هذا وفيه – كما ذكر شيخ الإسلام – مصلحة محضة، فإن فيه ترغيباً لمن لم يسلم منهما في الإسلام.


قال: [وإن كفرا أو أحدهما بعد الدخول وقف الأمر على انقضاء العدة، وقَبله بطل]
فإذا كفرا أو أحدهما فإن كان ذلك قبل الدخول فالنكاح باطل وإن كان بعد الدخول وقف ذلك على انقضاء العدة فإن انقضت العدة بطل، وقَبله يدوم ويثبت فلا فرق بين ما إذا أسلم أحد الزوجين أو ارتد أحد الزوجين لاختلاف الدين، وتقدم كلام شيخ الإسلام في عدم التفريق ما بين قبل الدخول وما بعده.
مسألة:
فإن أسلم الرجل وقد نكح أكثر من أربع فإنه يخير بينهن، كذلك إذا كان قد جمع بين أختين فإنه يخير بينهن لا فرق بين الأولى ولا الأخرى فله أن يختار الأخيرة وله أن يختار من نسوته الأخريات ويدل على هذا ما ثبت في مسند أحمد والترمذي " أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وله عشر نسوة قد أسلمت معه، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتخير منهن أربعاً " والحديث أعله الإمام أحمد والبخاري بالإرسال، وهو مرسل كما قالا، ولكن له شاهدان يحسن بهما الحديث، شاهد عند البيهقي من حديث عروة الثقفي، وشاهد أخر عند أبي داود من حديث قيس بن الحارث، وبه قال جمهور أهل العلم خلافاً لأبي حنيفة.
وقد روى أبو داود وغيره عن الضحاك بن فيروز الديلمي عن أبيه أنه قال - صلى الله عليه وسلم - " إني قد أسلمت وتحتي أختان فقال - صلى الله عليه وسلم - طلق أيتهما شئت " والحديث حسن، وهذا يرجع إلى المسألة المتقدمة وهي أن ما يعتقدون صحته من أنكحتهم قبل الإسلام فإنها تكون صحيحة، فحينئذٍ لا فرق بين النكاح الذي عندنا باطل والنكاح الذي هو عندنا صحيح لأن النكاحين قد وقعا قبل الإسلام ولذا فلا مزية لأحدهما على الأخر، فأرجعا التخيير إليه لأن ذلك أمر راجع إلى رغبته وإلى من يسكن إليها، وهذا هو مذهب جمهور العلماء ويدل عليه الأثر ويدل عليه النظر.
وهل يحل أن يطأ من اختارها في عدة من فارقها في مسألة الأختين، وكذلك هل له أن يطأ الرابعة والخامسة في عدتها أم لا يحل له ذلك؟


المشهور في المذهب أنه ليس له أن يطأ الأخت وكذلك في مسألة العدد ليس له أن يطأ حتى تنتهي عدة الأخرى.
وذهب المالكية والشافعية إلى أن له أن ينكح التي أبقاها في عدة التي فارقها من الأختين، وكذلك في جميع العُدد، وتقدم ذكر دليل المسألة السابقة وهو دليل لهذه المسألة فإنه قد فارقها وليست زوجة له فليست برجعية فحينئذٍ لا يكون قد جمع بين أختين، ولا يكون جمع في وقته أربعاً، وأيضاً يستدل عليه لخصوص المسألة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبين هذا لغيلان بن سلمة ولا لفيروز الديلمي، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام وقال " نظرت في كلام عامة أصحابنا فرأيتهم قد ذكروا أنه يمسك أربعاً ولم يشترط في جواز الوطء الخروج من العدة لا في جمع العدد ولا في جمع الرحم"، فعامة أصحاب الإمام أحمد ظاهر كلامهم عدم ذكر هذا الشرط ولو كان هذا شرطاً عندهم لذكروه للإحتياج إلى ذكره، وإنما ذكره الموفق رحمه الله، فالراجح ما اختاره شيخ الإسلام وهو مذهب الشافعية والمالكية.

الدرس الثاني والثلاثون بعد الثلاثمائة
باب الصداق
الصداق: عوض يسمى في عقد النكاح أو بعده، أي يسمى في عقد النكاح، أو يسمى بعده وهذا في النكاح الذي لم يسم فيه مهر، والصداق مشروع بالإجماع قال تعالى: {وأتوا النساء صدقاتهن نحلة} وقال: {وآتوهن أجورهن} ، والأحاديث في ذلك كثيرة يأتي ذكر شيء منها.
قال: [يسن تخفيفه]
أي تخفيف المهر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (خير الصداق أيسره) رواه أبو داود بإسنادٍ صحيح.
قال: [وتسميته في العقد]


فيسن تسميته في العقد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لخاطب الواهبة نفسها (التمس ولو خاتماً من حديد) ، ولا يشترط ذلك، فلو نكحها ولم يسمِّ لها مهراً فالنكاح صحيح، أي مع ثبوت المهر لكنه لم يسمِّ لها أي لم يفرض ويحدد قدره، لكنه نكاح على مهر، وكذا قال تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} ، ولا طلاق إلا بعد عقد فعلى ذلك تسمية الصداق في العقد مستحبة قطعاً للنزاع ولفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأمره كذلك كما في قوله: (التمس ولو خاتماً من حديث) .
قال: [من أربعمائة درهم إلى خمسمائة]
لما ثبت في سنن أبي داود والترمدي والنسائي بإسنادٍ صحيح عن عمر قال " ألا لا تغالوا في صُدُق النساء فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله عز وجل لكان أولاكم بها النبي - صلى الله عليه وسلم - ما اصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته إلا ثنتي عشرة أوقية "، أي تزيد على أربع مائة درهم بشيء يسير، وقالت عائشة رضي الله عنها كما في صحيح مسلم: " كان صداق النبي لأزواجه ثنتي عشرة أوقية ونشَّا قالت: أتدري ما النش؟ فقال الراوي (لا) فقالت: نصف أوقية فتلك خمس مائة درهم فهذا صداق النبي - صلى الله عليه وسلم - لأزواجه "، فالمستحب في صدق النساء أن تكون يسيرة، وأما ما روي من إنكار المرأة على عمر لما نهى عن المغالاة، فاستدلت عليه بالآية {أو آتيتم إحداهن قنطاراً} فإنه لا يصح فقد رواه البيهقي بإسنادٍ منقطع، فالمستحب من أربعمائة إلى خمسمائة فإن زاد فلا بأس فقد روى أبو داود بإسنادٍ صحيح، أن أم حبيبة مات عنها زوجها عبد الله بن جحش في الحبشة فزوجها النجاشي النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمهرها عنه أربعة آلاف درهم وبعثها مع شرحبيل بن جسنة.
قال: [وكل ما صح ثمناً أو أجرة صح مهراً وإن قل]
كل ما صح ثمناً لمبيع من عين أو دين أو منفعة.


من عين: كدرهم ودينار.
أو دين: سواء كان مؤجلاً أو حاضراً.
أو منفعة: كأن يقول " على أن أعمل لكم سنة " فهذا جائز.
فسواء كان عيناً أو ديناً أو منفعة معلومة قياساً على البيع والإجارة بجامع أن كليهما عوض، قال تعالى: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج} ، فهذا من باب الإنكاح بالمنفعة، فكل ما صح ثمناً لمبيع أو أجرة، ـ وتقدمت شروط الثمن وشروط الأجرة ـ فإنه يصح مهراً ولو قل أي ولو كان درهماً ولو كان ديناراً ولو كان خاتماً من حديد ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (التمس ولو خاتماً من حديد) ، وثبت في الصحيحين أن عبد الرحمن بن عوف قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: " إني تزوجت امرأة على وزن نواة من ذهب فقال: (بارك الله عليك، أولم ولو بشاة) "، فإن قل فذلك جائز.
إذن لا حد لأقله فما يصدق عليه أنه ثمن أو أجرة فإنه يصح مهراً، وقال المالكية والأحناف: بل لا يصح إلا مما تقطع به اليد بجامع استباحة العضو "، فهذا قياس يخالف النص فلا اعتبار به، وقد تقدم قوله التمس ولو خاتماً من حديد، وعلى ذلك أقل المهر عند المالكية ربع دينار، وعند الأحناف عشرة دراهم، وقد روى الدارقطني بإسنادٍ ضعيف جداً: (ألا مهر أقل من عشرة دراهم) ، فالراجح ما ذهب إليه الشافعي والحنابلة من أنه لا أقل للمهر كما أنه لا حد لأكثره، ولذا قال تعالى: {أو آتيتم إحداهن قنطاراً} ، والقنطار الشيء الكثير الوافر من الذهب، وهذه الآية لا يستدل بها على استحباب المغالاة، وإنما فيها الإخبار والإخبار لا يدل على الجواز فضلاً عن استحباب ذلك، إذن لا حد لأقله ولا حد لأكثره.
قال: [وإن أصدقها تعليم قرآنٍ لم يصح]
فلا يصح أن يكون صداقها تعليمها القرآن وهذه المسألة تقدم ذكرها، وهي هل يجوز أخذ الأجرة على تعليم القرآن؟


فالأحناف والحنابلة يمنعون من ذلك، وهنا كذلك يمنعون من ذلك مهراً، والشافعية والمالكية يجيزون أخذ الأجرة على القرآن، ويجيزون هنا أيضاً أن يكون عوضاً عن الزواج، ويستدلون بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ملكتكها بما معك من القرآن) ، وتقدم أن الراجح في المسألة السابقة جواز أخذ الأجرة على تعليم القرآن للمحتاج، فهذا كذلك، والرجل الذي قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ملكتكها بما معك من القرآن) ، كان محتاجاً ولذا أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يلتمس ولو خاتماً من حديد ولم يجد ذلك، فدل على أن ذلك مخصوص بالمحتاج.
قال: [بل فقه وأدب وشعر مباح معلوم]
فهذا جائز لأن أخذ الأجرة عليه جائز، فيجوز أن يكون صداقاً، وهكذا سائر العلوم الدينية والدنيوية.
قال: [وإن أصدقها طلاق ضرتها لم يصح ولها مهر مثلها]
إذا قال صداقك أن أطلق ضرتك، فلا يصح ذلك لأن هذا محرم في الشرع في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تسأل المرأة طلاق أختها) ، أو هي قالت له: عوضي في النكاح طلاق ضرتي، فهذا محرم، وعليه فلا يصح هذا مهراً لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي المسند بإسنادٍ ضعيف: (لا تنكح المرأة بطلاق اختها) ويشهد له ما تقدم في الصحيحين، وحينئذٍ فلها مهر مثلها
في مذهب جمهور أهل العلم وذلك لفساد التسمية،
وقال بن عقيل من الحنابلة: أن لها قدر مهر الضرة، قال شيخ الإسلام كما في الإختيارات وهذا أجود،
وقال أيضاً رحمه الله " ولو قيل ببطلان النكاح لم يبعد " وهذا هو الراجح، قياساً على نكاح الشغار بجامع أن كليهما لا بدل له، فهناك قد أنكح ابنته وجعل بضعها صداقاً لابنة الآخر وهذا المهر لابد له، وهنا كذلك المهر لابدل له هذا أولاً، ولأنه كالشرط وتقدم أن مثل هذا الشرط يُبطل النكاح.
قال: [ومتى بطل المسمى وجب مهر المثل]


إذا بطل المسمى في العقد لجهالته أو لعدم ماليته أو لكونه مغصوباً فيجب مهر المثل، مثال ما كان فاسداً لجهالته كأن يصدقها عبداً أن يصفه يعينه، ومثال ما كان فاسداً لعدم ماليته: أن يصدقها شيئاً محرماً كخمر ونحو ذلك كما تقدم مما يقع في نكاح النصارى …. وغيرهم، فهذا المهر فاسد فيجب لها مهر المثل وعنه يجب مثله خلاً، ومثال ما كان فاسداً لكونه مغصوباً: كأن يقول لك هذه الدار، وتكون هذه الدار مغصوبة، فحينئذٍ لها مهر المثل -واختار شيخ الإسلام فيما إذا كان فساده لكونه مغصوباً، أنها يكون لها مثل المغصوب أو قيمته، وهذا ظاهر، وذلك لأنها قد رضيت بهذا المغصوب وهذا يماثله أو يساويه في القيمة، بخلاف مهر المثل فقد لا تكون راضية به وهو أيضاً قد لا يكون راضياً به. وهو القول الراجح.
وإذا كان غير مالي فكما ذكر الحنابلة: فيجب لها مهر المثل لأن هذه الأشياء لا قيمة لها ولا يمكن أن تحول، فحينئذٍ يجب مهر المثل وذلك لأن فساد العوض يقتضي رد المعوض فإذا فسد الثمن في البيع فهذا يقتضي رد المبيع، وهنا قد تعذر رد المعوض لأن النكاح صحيح فوجبت قيمته أي قيمة النكاح وقيمة مهر المثل، هذا هو مذهب جماهير العلماء، وأما إذا كان مجهولاً، فالمذهب أن الجهل إن كان يسيراً فإن الثابت هو هذا المهر الذي قد حدد وعين لأن جهالته يسيرة.
مثال ذلك: لو قال: لك أرض من الأراضي التي أملكها أولك دار من الدور التي أملكها، ولم يعين لها الدار فإنه يمكن التعين بالقرعة، فهنا الجهل يسير لأنه يمكن تعينه بالقرعة، هذا هو أصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد وإن كان الجهل غير يسير، فهنا خلاف في المذهب:
فالمشهور في المذهب أنه يجب مهر المثل مطلقاً.


واختار القاضي من الحنابلة أن المسألة فيها تفصيل: فقال " إذا كان هذا الشيء المجهول لا تزيد جهالته على جهالة مهر المثل فإنه يصح، مثال ذلك إذا قال " صداقك دارٌ، فيمكن أن نحدد هذه الدار بأن نجعلها الدار الوسط أو اللائقة بمثلها عرفاً ونحو ذلك، فهنا الجهالة أيسر من جهالة مهر المثل أما إذا كانت جهالته أكثر من جهالة مهر المثل فإن هذا المهر يفسد ويثبت مهر المثل.
مثال ذلك: أن يقول صداقك ما يحصل لي من تجارتي هذه السنة أو ما يحصل من مزرعتي هذه السنة، من ربح ونحوه فهذا جهالته أشد من جهالة مهر المثل فلا يصح، أو قال لك دور أو حنطة أو نحو ذلك فهذا لا يمكن تحديده فجهالته تزيد على مهر المثل، وهذا هو القول الأرجح، وذلك لأنه أقرب للرضى من الطرفين كليهما، وعليه فما اختاره القاضي هو الراجح. فيقال إذا كان المهر مجهولاً وجهالته لا تزيد على جهالة مهر المثل فإن هذا المهر يصح وتزال جهالته بأن يوضع الوسط، فأما إن كان يزيد كأن يقول: لك قمح أو غير ذلك مما لا يمكن تحديده، وجهالته أعسر من جهالة مهر المثل فإن هذا المهر يفسد ويجب حينئذ مهر المثل.
فصل
قال: [إن أصدقها ألفاً إن كان أبوها حياً وألفين إن كان ميتاً]
فيجب مهر المثل لفساد التسمية، فهنا التسمية فاسدة في المشهور في المذهب، وذلك لانه لا يعلم أبوها حي أو ميت، ولانه لا غرض له في موت أبيها.


وعن الإمام أحمد: أن المهر يثبت على ما شرط، وذلك لأن ألفاً معلومة، لأنه قال: " إن كان أبوها ميتاً فلها ألفان " فلها ألف حيث كان أبوها حياً أو ميتاً، وحينئذ فألف معلومه وإنما الألف الأخرى هي التي فيها الجهالة، وهي موقوفة على شرط فإن ثبت هذا الشرط كانت زيادة في صداقها وهذا لا محذور فيه، والجهالة هنا تؤول إلى العلم، فليس المهر كله مجهولاً؛ بل ألفٌ معلومة وألفٌ هي التي فيها الجهالة، ثم إنها قد علقت بشرط إن وجد هذا الشرط فهي لها فيكون ذلك زيادة في مهرها، وهذا القول هو الأصح فليس في مثل هذا محذور، وكونه له غرض أو ليس له فيه غرض هذا لا يؤثر فلا يترتب على ذلك فساد التسمية.
قال: [وعلى إن كانت لي زوجة بألفين أو لم تكن بألف يصح بالمسمى]
إذا قال: إن كانت لي زوجة فمهرك ألفان، وإن لم تكن فمهرك ألف، قال هنا: صح، والفرق بين المسألتين أن المسألة الأولى لا غرض له فيها وهنا للمرأة في ذلك غرض ومصلحة، وعلى ترجيح القول المتقدم في المسألة السابقة فلا تشكل هذه المسألة.
قال: [وإذا أجل الصداق أو بعضه صح]
إذا أجل الصداق فقال: لك عشرة آلاف إلى سنة أو قال: لكِ خمسة آلاف حالة وخمسة آلاف مؤجلة إلى سنة، فإن هذا التأجيل يصح كثمن المبيع بجامع أن كليهما- أي المهر وثمن المبيع - عوض في معاوضة صحيحة سواء كان هذا التأجيل للمهر كله أو لبعضه.
قال: [فإن عَيَّن أجلاً]
كأن يقول لك كذا إلى سنة أو سنتين أو خمس سنوات فإنه يتعين، فيجب عليه أن يعطيها هذا المهر إذا حل الأجل المعين.
قال: [وإلا فمحله الفرقة]


إذا لم يعين له أجلاً فمحله الفرقة، سواء كانت الفرقة عن بينونة أو كانت بموت، هذا هو المشهور في المذهب، وقال الشافعية: إذا لم يعين أجلاً فيكون لها مهر المثل لعدم بيان المحل الذي يجب فيه إعطاء هذه المرأة مهرها المؤجل فتفسد التسمية، وقال الأحناف: بل يبطل التأجيل وتجب حالة، وهي ثلاث روايات عن الإمام أحمد، والراجح ما ذهب إليه الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام وذلك لأن العرف يقضي بذلك، فإن العرف- فيما إذا كان المهر مؤجلاً - أنه يجب بالطلاق البائن، فإذا أبانها أعطاها مهرها المؤجل، أو بالموت فإذا ماتت فإنه يكون من إرثها، وعليه فإذا طلقها طلاقاً رجعياً ولم تنقض عدتها فلا يجب أن يعطيها هذا المهر، أي لا يحل بالطلاق الرجعي، وإنما يحل بالطلاق البائن أو غيره من الفسوخ كالخلع وغير ذلك، وهذا هو الذي يقضي به العرف.
قال: [وإن أصدقها مالاً مغصوباً أو خنزيراً ونحوه وجب مهر المثل]
هذه المسألة تقدمت في الدرس السابق، وتقدم اختيار شيخ الإسلام في المال المغصوب، وتقدم ترجيح ما ذهب إليه الحنابلة في الخنزير ونحوه مما ليس بماليٍ.
قال: [وإن وجدت المباح معيباً خيرت بين أرشِه وقيمته]
إذا أصدقها شيئاً من العبيد أو شيئاً من الحيوان أو غير ذلك من الأموال فوجدته معيباً فتخير المرأة بين الأرش والقيمة إن كان مقوماً وإلا فالمثل، فلها أن ترد هذا المعيب وتأخذ قيمته إن كان مقوماً أو مثله إن كان مثلياً، والخيار الآخر أن تأخذ الأرش فيقوم هذا الشيء معيباً ويقوم صحيحاً، والفارق بينهما هو الأرش، وفرق بين البيع – وقد تقدم ألا أرش فيه -، وبين النكاح هنا، فإن البيع يمكنه أن يرجع السلعة، وأما هنا فإنه قد تعذر رد المعوض لأننا نصحح النكاح وقد استباح بضعها.
قال: [وإن تزوجها على ألف لها وألف لأبيها صحت التسمية]
إذا قال الأب في النكاح مهرها ألف لي وألف لها، فهذا صحيح لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك) .


قال: [فلو طلق قبل الدخول وبعد القبض رجع بالألف ولا شيء على الأب لهما]
إذا طلق المرأة قبل الدخول وكان قد أعطاها ألفاً لها وألفاً لأبيها، وبالطلاق لا يكون للمرأة إلا نصف المهر فحينئذٍ لا يجب على الزوج إلا ألف، وحينئذٍ فيرجع بالألف إلى الزوجة وأما الأب فقد أخذ ما أخذ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك) ، ويشترط في الأب أن يكون ممن يصح تملكه كما في الإنصاف، وعليه ما إذا كان المال للأب جميعه كأن يقول: " أزوجك ابنتي على أن يكون لي مائة ألف " ثم طلق المرأة قبل الدخول وبعد قبض المائة ألف.
فالمذهب أن الزوج يرجع إلى الزوجة ولا يرجع إلى الأب، أما في المسألة الأولى فهذا فيه قوة، وأما هنا فإن المرأة أصبحت غارمة، والذي يترجح كما قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: والصحيح - وهو الوجه الثاني في المذهب - أنه يرجع إلى من قبضه، أي سواء كان القابض هو الولي أو المرأة، وهذا هو الراجح، وأن الزوج إذا أقبض الأب المهر وكان الأب قد اشترطه لنفسه أو اشترط النصف لنفسه فإنه يرجع إلى الأب لأنه هو القابض، وإن كانت الزوجة التي قبضت فإنه يرجع إليها، هذا هو الأظهر وهو وجه في المذهب وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، أما لو طلقها قبل القبض كأن يقول مهرها ألف درهم ثم طلق قبل أن تقبض فحينئذٍ يدفع النصف وهو خمسمائة درهم وحينئذٍ للأب أن يأخذها كلها أو ما شاء منها بالشروط التي تقدم ذكرها عند قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك) .
قال: [ولو شرط ذلك لغير الأب فكل المسمى لها]


إذا قال: أتزوج أختك على أن يكون لك كذا وكذا ولها كذا وكذا، فالمسمى كله للمرأة، وذلك لأنه عوض على بضعها والشرط باطل هنا، فإذا شرط الأخ أو الجد أو غيرهم سوى الأب مالاً، فإن هذا المال يدخل في مهر موليته وليس له منه شيء لأن ذلك عوض على بضعها فهو مستحق لها دون غيرها، وعليه فهذا الشرط شرط باطل ويكون المسمى كله للمرأة فإذا قال: علي عشرة آلاف لك وعشرة آلاف لها، فيكون مهرها عشرين ألفاً، لأن هذا المال المذكور المسمى كله عوض لبضعها فكانت هي المستحق له، وأما الأب فله حكم آخر لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك) وقول الله تعالى في شرع من قبلنا: {إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج} ، فمهرها هنا منفعة للأب.
قال: [ومن زوج بنته ولو ثيباً بدون مهر مثلها صح]
إذا كان مهر مثيلاتها عشرة آلاف درهم، فزوجها بخمسة آلاف درهم. فيصح هذا، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أنت ومالك لأبيك) ، ولأنه إذا جاز أن يشرط المهر لنفسه كله فأولى من ذلك أنه يجوز له أن يزوجها بدون مهر مثلها، ولو قيل بتقييد ذلك بألا يكون في ذلك إضرار بها فإن في ذلك قوة، كما تقدم في شروط جواز أخذ الوالد من مال ولده، فإن كان يضر بها فلا يتبين هذا، لأن الأب إنما يجوز له أن يأخذ من مال ولده بالمعروف حيث لا ضرر، وأما إن كان هناك ضرر فلا.
قال: [وإن زوجها به وليٌ غيره بإذنها صح]
إذا زوجها جدها أو أخوها بعشرة آلاف درهم ومهر مثيلاتها عشرون ألفاً وكان ذلك بإذنها ورضاها فلا بأس لأنها قد أسقطت حقها بنفسها.
قال: [وإن لم تأذن فمهر المثل]
فإن زوج الأخ الأخت بخمسين ألفاً ومهر مثيلاتها مائة ألف ولم تأذن فيجب على الزوج مهر المثل على المذهب، لأنه عوض بضعها ولم تأذن بإسقاطه.


واختار شيخ الإسلام وهو نص الإمام أحمد وصوبه صاحب الإنصاف: "أنه يجب على الولي ولا يلزم الزوج"، وهو أظهر، لأن هذا الولي كالوكيل في البيع، فكما أن الوكيل يضمن إن باع بثمن أنقص من ثمن المثل فكذلك الولي في النكاح، فعلى ذلك الولي هو الذي يجب عليه أن يكمل لها مهرها إلا أن ترضى.
قال: [إن زوج ابنه الصغير بمهر المثل أو أكثر صح في ذمة الزوج]
إذا كان له ابن صغير ولهذا الابن مال فزوجه بمهر المثل وبأكثر من مهر المثل فإنه يصح لأن الأب أعلم بمصلحته فقد يكون في زيادة المهر مصلحة له، ويجب في ذمة الابن، إلا أن يعين المهر، كأن يقول: " زوجت ابني ابنتك والمهر هذا الدار "، فهنا المهر معين وعليه فلا يكون في الذمة، بل يكون المهر عين هذا المال.
قال: [وإن كان معسراً لم يضمنه الأب]
إذا كان هذا الابن معسراً لا مال له، لم يضمنه الأب، لأنه نائب عنه فلا يلزمه ما لم يلتزمه.
وعن الإمام أحمد أنه يجب عليه للعرف، وهذا حيث كان الفرق يدل على ذلك، وعن الإمام أحمد أنه يجب على الأب أصالةً وهذا يرجع إلى مسألة يأتي البحث فيها، وهي (هل انكاح الابن من النفقة الواجبة أم لا) .

…الدرس الرابع والثلاثون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [وتملك المرأة صداقها بالعقد]
تملك المرأة مهرها بالعقد، قياساً على البيع، فكما أن ثمن المبيع وهو عوض السلعة يملك بالعقد، فكذلك المهر وهو عوض بضعها يملك بالعقد وعنه لا تملك إلا نصفه.
قال: [ولها نماء المعين قبل القبض]
فلها نماء المهر المعين لا المبهم.
المعين: كأن يقول: " لك نخل هذا البستان صداقاً " فهذا الصداق معين.
فقبل القبض لها نماؤه المعين، فإذا نمت هذه النخلات وأثمرت وأنتجت نخلاً فإن هذا النماء من الثمر وغيره يكون لها.
قال: [وضده بضده]


أي ضد المعين وهو المبهم بضده في الحكم، فالمبهم نماؤه لا تملكه المرأة، والمبهم كأن يقول: " لك عشر نخلات من نخلي "، فليس لها النماء لأنه لم يعين والضمان كذلك، فهناك عليها الضمان ولذا كان النماء لها وهنا الضمان على الزوج ولذا فالنماء له، وهذه المسائل كمسائل البيع في القبض، وقد تقدم ذكر مسائل القبض في البيع وهنا كذلك.
قال: [وإن تلف فمن ضمانها إلا أن يمنعها زوجها قبضه فيضمنه]
إذا تلف المهر فإنه يكون من ضمانها إلا أن يمنعها زوجها من القبض فإذا تلف فإن الضمان يكون عليه لأنه قد منعها أن تقبضه فأشبه الغاصب، هذا فيما يشترط فيه القبض، وأما ما لا يشترط فيه القبض فلا فرق ما بين قبل القبض وبعده.
قال: [ولها التصرف فيه وعليها زكاته]
فلها التصرف في صداقها لأنه ملك لها، كما أن عليها زكاته وذلك لأنه مالها فهو مال فيدخل في عموم قوله تعالى: {خذ من أموالهم صدقة} ، وهو مال لها فوجبت الزكاة عليها، فيجب عليها أن تزكي المعين، ويجب أن تزكي المبهم من تعيينه، فإذا قال: " لك عشر نخلات، وهي هذه النخلات "، فتزكي عليها إذا أثمرت، وإذا قال: " لك كذا وكذا من الدراهم "، فإن عليها أن تزكيها إذا مضى عليها الحول، وأما إن قال: " لك أربعون شاة من شياهي " ولم يعين لها، فهذا من المبهم فلا تزكيه حتى يعينه لها.
قال: [وإن طلق قبل الدخول أو الخلوة فله نصفه حكماً]


أي قهراً كالإرث، فليس راجعاً إلى إرادته واختياره فهو ماله، فإذا طلق الرجل امرأته قبل الدخول بها وقد سمى لها صداقاً، فلها نصفه وله النصف قال تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وإن تعفوا أقرب للتقوى} ، فله هو أن يعفو ولها هي أن تعفو فلكلٍ منهما العفو عن صاحبه، فللزوجة أن تعفو فتقول: " أنا لا أريد شيئاً منها " فلكل واحدٍ منهما له أن يعفو بشرط أن يكون جائزَ التصرف؛ لأن من ليس كذلك لا يصح تصرفه، ودليل جواز العفو وأن لكل منهما العفو قوله تعالى: {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} وليس للولي أن يعفو عن مولاه ذكراً كان المولى أو أنثى، فليس لولي الزوج أن يعفو وليس لولي الزوجة أن يعفو وذلك لأن المهر مال للمرأة فلم يملك غيرها هبته ولا إسقاطه – هذا في ولي الزوجة -، وولي الزوج كذلك، فهو مال له وقد دخل في ملكه كالإرث فليس لأحدٍ أن يتصرف بهبته ولا إسقاطه، ولأنه لا مصلحة له في ذلك، فليس لولي المحجور عليه أن يسقط النصف الذي وجب لمولاه؛ وذلك لأنه لا مصلحة له في هذا الإسقاط بل هو ضرر محض، وولي الزوجة لا يملك إسقاط هذا المهر المستحق لها لأنه مال لها فليس لأحد أن يتصرف فيه، هذا إن كانت رشيدة، وكذلك إن كانت غير رشيدة لأن الولي لا يجوز له أن يتصرف بما ليست فيه مصلحة، وقد اختلف أهل العلم في قوله تعالى: {إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} ، هل الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج أو الولي؟
1- فمن قال هو الزوج قال بالقول الذي تقدم ذكره وهو مذهب الجمهور ومنهم الحنابلة.


2- ومن قال هو الولي - وهو مذهب المالكية – فإنه يجيز للولي أن يسقط نصف مهر المرأة، فمذهب المالكية أن للولي سواء كان أخاً أو عماً أو ابن عم أو غيره له أن يسقط ما استحقته المرأة بطلاقها قبل الدخول، ويفسرون هذه الآية بالولي، فهو الذي بيده عقدة النكاح وذلك لأن الزوج لا يملك عقدة النكاح بعد طلاقها.
والقول الأول - وهو مذهب الجمهور- أرجح وأن المراد بذلك الزوج وانه هو الذي بيده عقدة النكاح، وأن المراد بالنكاح هو النكاح الأول الذي وجب له المهر وهو قول علي بن أبي طالب، وقد روي مرفوعاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح، وفي الدارقطني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ولي العقد الزوج) ، والحديث لا يصح مرفوعاً فإن إسناده ضعيف، لكنه صحيح موقوفاً على علي بن أبي طالب، كما روى ذلك ابن أبي شيبة بإسناد صحيح ورجح هذا القول ابن جرير في تفسيره، ويرجح هذا القول ما تقدم من التعليل المذكور وهو أن المهر مال للمرأة فلم يملك غيرها إسقاطه فإن في ذلك --عليها وتعدٍ على مالها، ولأنه قال بعد ذلك {وإن تعفو أقرب للتقوى} وليس هذا أقرب للتقوى، فليس حرمان المرأة من نصف مهرها الثابت لها بالطلاق قبل الدخول ليس هو بأقرب للتقوى، بل الأقرب للتقوى أن تعطى حقها وألا تحرمه إلا برضا منها وإسقاط.
قال: [دون نمائه المنفصل]
إذا أصدقها أربعين شاة مثلاً - فإنها تملك ذلك بالعقد – ثم أنتجت هذه الشياه، وقبل الدخول طلقها، فإن النتاج يكون للمرأة ويرجع بعشرين شاة، كذلك إذا أصدقها عشرين نخلة مثلاً ثم طلقها قبل الدخول؛ فالثمر لها وله نصف هذه النخلات وذلك لأنه نماء ملكها، ونماء الملك لمالك.
قال: [وفي المتصل له نصف قيمته دون نمائه]


أما النماء المتصل كسمن في عبد أو غير ذلك، أو كبر في نخل أو غير ذلك فله نصف قيمته بدون نمائه، فيقوم هذا الشيء الذي قد نما نموا متصلاً - يقوم في يوم الصداق - ويعطي نصف القيمة، وأما النماء المتصل فإنه نماء في ملكها فهو لها، وإن قالت: " أنا ارضى أن أعطيه النصف بنمائه " وكانت رشيدة فذلك جائز.
قال: [وإن اختلف الزوجان أو ورثهما في قدر الصداق أو عينه أو فيما يستقر به فقوله]
إذا اختلف الزوجان أو ورثهما أو ولياهما إذا اختلفوا في قدر الصداق فقالت المرأة: قد أمهرني عشرة آلف، وقال: بل امهرتها خمسة آلاف فالقول قول الزوج لأنه منكر، فإنه ينكر هذه الخمسة آلاف الزائدة، والمنكر القول قوله مع يمينه والأصل براءة ذمته، وهذا حيث لم تكن هناك بينة، كذلك إذا اختلفوا في عينه كأن يقول: " أصدقتها هذه الدار " وقالت: " بل أصدقني هذه الدار الأخرى "، فالقول قول الزوج لأنه منكر والأصل براءة الذمة، وكذلك إذا اختلفوا فيما يستقر به المهر كأن يقول: " أنا لم أدخل بها " فتقول: " بل دخل بي " فهنا القول قوله لأنه منكر والأصل براءة الذمة، وهذا كله حيث أنه لم يعارض هذا الأصل ما هو أقوى منه، فلو جرت العادة بما يدل على عدم صدقه فإن القول قولها، فإذا جرت العادة أن المهر أربعين ألفاً فقالت أصدقني أربعين ألفاً وهي من النساء اللاتي يرغب بمثلهن وقال بل أصدقتها عشرة آلاف فالقول قولها لأن العادة جارية بما قالت ولأن هذا أقوى من الأصل.
إذن الأصل أن القول قول الزوج لأنه منكر والأصل براءة ذمته، ولكن لو جرت العادة بما قالت المرأة أو دلت القرائن على قولها فالقول قولها بيمينها.
قال: [وفي قبضه فقولها]
إذا اختلفوا في قبضه فالقول قولها لأن الأصل عدم القبض، ومن كان الأصل معه فالقول قوله، ولأنها منكرةً.
مسألة:
إذا أصدقها صداقين، صداقاً في السر وصداقاً في العلن،


فالمذهب الأخذ بالزائد مطلقاً، وصورة هذه المسألة: اتفق ولي المرأة - برضا المرأة - والزوج على أن يكون مهر المرأة عشرة آلاف، لكنْ لما كان العلن قالوا: نريد أن نجامل الناس فنقول أربعين، وكذلك العكس، كأن يقول: أنا لا أزوجك ابنتي إلا بمائة ألف، والناس يزوجون بعشرين ألفاً فيقول الآخر: قبلت ويتفقان على ذلك ويعقدان العقد في السر على ذلك، وأما في العلن فيكتبان ويتفقان على أنه عشرين ألفاً، فالمذهب على أنه يؤخذ بالزائد مطلقاً سواء كان الزائد هو السر أو العلن، أما إن كان الزائد هو صداق السر فذلك لأنه قد وجب به فقد تعاقدا بالنكاح على ذلك، وكان هذا هو الصداق الذي وقع عليه عقد النكاح فوجب به، وإن كان الزائد في العلن؛ كأن يتفقا على عشرة آلاف في السر وعلى أربعين في العلن، فيجب الزائد وهو أربعون ألفاً، وذلك لأنه قد بدله لها فلزمه ذلك وإن كان العقد هو ما يكون في السر، هذا هو المشهور في المذهب للتعليل المتقدم.
والمشهور في المذهب أنه يستحب الوفاء لأنهما قد اتفقا وتشارطا على شيء يخالف هذا الزائد أو على الزائد وظاهر الأمر على أن ما في العقد أقل من الزائد، فيستحب لمن كان عليه الزائد أن يوفي، فيستحب للمرأة إذا كان العقد في السر على عشرة آلاف، وفي العلن على أربعين ألفاً، فيستحب لها أن ترد عليه ثلاثين ألفاً ولا تأخذ إلا العشرة آلاف، ويستحب للزوج إذا كان العقد في الباطن على أربعين ألفاً والعقد في الظاهر على عشرة آلاف فيستحب له ألا يعتمد على العشرة آلاف التي في الظاهر بل يدفع لها حقها الذي قد اتفقا عليه في الباطن، هذا على الاستحباب.


والصحيح وجوب ذلك، وهو القول الثاني في المذهب، وصوبه صاحب الإنصاف وهو القول الراجح، وذلك لأن المسلمين على شروطهم، ولوجوب الوفاء بالعقود والعهود وهذا من العهد فولي الزوجة قد تعهد له والزوجة كذلك، وكذلك الزوج فإن المرأة لم تبح له بضعها إلا على المهر الذي هو الزائد وإنما اتفقا في المهر على شيء في الظاهر أقل من الزائد لعلة أخرى.
مسألة:
إذا أهدى الزوج إلى زوجته قبل العقد أو بعده هدايا فلا يدخل ذلك في المهر لأنه ليس مما يتفق عليه وإن كانت قبل العقد ولم يوفوا له بالنكاح، أو كانت الهدايا بعد العقد وحصلت فرقة اختيارية مسقطة للمهر كله كالفسخ بالعيب ونحوه فإن الهدايا ترجع إليه وذلك لأن هذه الهداية هدية مشروطة ببقاء عقد النكاح، ودلالة الحال تدل على ذلك فهو لم يهدي إلا لهذا السبب وهو ابقاء عقد النكاح وحيث ولم ينكحوه أو حصلت فرقة اختيارية مسقطة للمهر فإنه حينئذٍ لم يتم مراده ولا مقصوده وحينئذٍ يرجع له حقه لأن العقد قد زال وحينئذٍ يترتب على ذلك عدم السبب الذي قد أهد له، وهذا هو المشهور في المذهب.

الدرس الخامس والثلاثون بعد الثلاثمائة
فصل
قال [يصح تفويض البُضع، بأن يزوج الرجل ابنته المجبرة، أو تأذن المرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر]
…التفويض في اللغة: الإهمال، فكأن المهر أهمل لما لم يسمّ وهو نوعان: تفويض بضع، وتفويض مهر.


فأما النوع الأول: فهو أن يزوج الرجل ابنته المجبرة بلا مهر، أو تأذن امرأة لوليها أن يزوجها بلا مهر، فيكون المهر منفياً، فهذا يصح كما قال المؤلف، فيكون لها مهر نسائها هذا هو مذهب جمهور الفقهاء واستدلوا: بقوله تعالى: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة قالوا: ولما ثبت عند الخمسة بإسناد صحيح: أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة ولم يفرض لها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات فقال رضي الله عنه: (لها مثل صداق نسائها لاوَكسْ ولاشطط - أي لا نقص ولا ظلم -، وعليها العدة ولها الميراث) ، فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: " قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بروع بنت واشق -إمرأة منا- بمثل ما قضيت به "، والحديث مرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قالوا: فهذا يدل على صحة تفويض البضع، والقول الثاني في المسألة، وهو قول في مذهب أحمد واختاره شيخ الإسلام واختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي أنه لا يصح النكاح إلا بمهر، والمهر إما أن يكون مسمى فيجب المسمى كأن يقول:" نكحت موليتك على عشرة آلاف "، وإما أن يكون مسكوتاً عنه فيجب مهر المثل، فهوا مسكوت عنه فليس بمنفي بل قد نكحها على مهر لكنه لم يفرض لها فيكون لها مهر مثيلاتها، وأما أن يكون منفياً فلا، وهو مخالف لكتاب الله تعالى ولسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم} ، أي – ما فرضنا من المهور-، وأيضاً قوله تعالى: {أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين} ، ولذا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يبح الواهبة نفسها لخاطبها مع فقره الشديد حتى قال له: (التمس ولو خاتماً من حديد) ولم ينكحه بلا مهر حتى أنكحه بما معه من القرآن، وهذا القول هو القول الراجح.


وأما الأدلة المتقدمة فإنه ليس فيها أن المهر منفي، وإنما المهر مسكوت عنه، فالمهر لم يفرض -أي لم يسم- وليس في ذلك أنه منفي، وعلى ذلك فتفويض البضع باطل فالنكاح باطل، ولذا أبطل النبي - صلى الله عليه وسلم - نكاح الشغار لعدم المهر- أي المهر منفي فيه -.
قال: [وتفويض المهر بأن يزوجها على ما يشاء أحدهما، أو أجنبي]
هذا هو النوع الثاني من التفويض وهو تفويض المهر كأن يقول " أتزوجك على ما شئت من المهر " أي على ما شئتِ من المهر أو تقول هي: " أرضى بنكاحك على أن يكون لي من المهر ما شئتُ "، أو يفوضاه إلى أجنبي عنهما كأن يقول: " على ما شاء فلان "، فهذا هو تفويض المهر فهنا قد فوض المهر وأهمل ولم يسمي فالنكاح صحيح ويجب مهر المثل. والفرق بين هذه المسألة والمسألة السابقة أن هذه المسألة المهر ثابت وهي لا ترضى إلا به، فهي إنما نكحته على مهر لكن هذا المهر مجهول، فلما كان مجهولاً كان فاسداً وعليه فيجب لها مهر المثل، وأما المسألة السابقة فلا مهر بل هو منفي.
قال: [ولها مهر المثل بالعقد ويفرضه الحاكم بقدره]
فالحاكم - أي القاضي-، هو الذي يقدر مهرها بالنظر إلى نسائها ثم قال بعد ذلك: ولها مهر نسائها فيقدر الحاكم مهر المثل بالنظر إلى مهر نسائها والمشهور في المذهب أن مهر نسائها هو مهر قريباتها من أبيها وأمها، كالأم والعمة والخالة والأخت ونحو ذلك، ويقدر المهر لها على حسب ما يكون لقريبتها المساوية لها جمالاً ومالاً وسناً وعقلاً وبكارةً وثيوبةً وأدباً، وقال مالك: بل يقدر لها المهر باعتبار ما فيها من الصفات بقطع النظر عن نسائها، بمعنى ينظر ما فيها من الصفات من نسب وجمال ونحو ذلك فيقدر لها المهر بحسب ما فيها من الصفات.


وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي واختاره الموفق: أنه يقدر لها المهر بالنظر إلى نسائها من جهة أبيها لا من جهة أمها مع النظر إلى الصفات التي تقدم ذكرها بمعنى ينظر من جهة الأب كالأخت والعمة وعمة الأب وبنت الأخ، ثم ينظر من يساويها جمالاً ومالاً وأدبها وعقلها وبكارتها أو ثيوبتها ونحو ذلك، ثم يقدر لها المهر بحسب ذلك، وهذا القول هو أرجح هذه الأقوال.
أما ما ذهب إليه الإمام مالك ففيه ضعف، وذلك لأن ما ذكره من الشروط من جمال ونحوه في المرأة معتبر في القولين الآخرين لكنهم قيدوه بنسائها ولا شك أن نساءها – حسنهن واحد، ولا شك أن حسب المرأة له أثر في المهر ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (تنكح المرأة لأربع لحسبها …..) ، ورجحنا القول الثالث على القول الأول: ذلك لأن الحسب إنما هو معتبر من جهة الأبوة لا من جهة، الأمومة لأن أمها قد لا تكون من حسبها فقد تكون أعلى من عصبتها نسباً وقد تكون دونهن نسباً، فجهة الأمومة لا أثر لها هنا لأن الحسب إنما يكون من جهة العصبة لا من جهة الأم، فأرجح الأقوال ما ذهب إليه الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره الموفق أنه يجب أن يكون لها مهر نسائها من عصبتها - أي من قرابتها من جهة الأب - مع اعتبار الصفات الثابتة في المرأة من مال وجمال وأدب وعقل وبكارة أو ثيوبة ونحو ذلك، ويدل على اعتبار كونها من نسائها ما تقدم من قول ابن مسعود: " لها مثل صداق نسائها " وقول معقل بن سنان: " قضى بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ".
قال: [وإن تراضيا قبله جاز]
فإذا تراضيا الزوجان على شيء من المهر قبل أن يقدره الحاكم، فذلك لهما وذلك لأنه حق لهما فلا يعدوهما.
قال: [ويصح إبراؤها من مهر المثل قبل فرضه]


فإذا أبرأته المرأة من المهر قبل أن يفرضه الحاكم وذلك كأن تقولَ: " قد أبرأته منه" فحينئذٍ يسقط عنه، لأنها هي صاحبة الحق فذلك حقها وقد أبرأت زوجها منه، وقد صح النكاح لأن المهر ليس بمنفي، لكن لو كان المهر منفياً – ويدخل هذا في عموم عبارة المؤلف وهو المذهب أيضاً – لو كان منفياً فكذلك، لكن الصحيح كما تقدم أن المنفي باطل من أصله، ولو قبضت المهر ثم وهبته إياه وكانت جائزة التصرف فيجوز بلا خلاف.
قال: [ومن مات منهما قبل الإصابة والفرض ورثه الآخر ولها مهر نسائها]
فمن مات من الزوجين قبل الإصابة - أي قبل الجماع وقيل الخلوة وقيل الفرض أي قبل أن يفرض لها صداقاً- فإنه يرثه الآخر للحديث المتقدم: (فعليها العدة ولها الميراث) ، وكان لم يسم لها صداقاً وقد مات قبل أن يدخل بها.
قال: [وإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة بقدر يسر زوجها وعسره]
إذا طلق المفوضة – بفتح الواو – أو المفوضة – بكسر الواو – وكذلك من لم يسمي لها مهراً، فإذا طلقها زوجها قبل الدخول فلها المتعة.
المفوضة: قد نفي مهرها حيث كان التفويض في بضعها وحيث لم يكن في بضعها بل بمهرها فالمهر مجهول، وكذلك إذا لم يسمِّ لها مهراً، فإذا طلقها زوجها قبل الدخول فلها المتعة بقدر يسر زوجها وعسره لقوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن وتفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين} ، وفي قوله (حقاً) ما يدل على فرضيته، وفي قوله (متاعاً بالمعروف) ما يدل على أن هذا المتاع يرجع فيه إلى العرف من خادم أو سكن أو ثياب أو نحو ذلك مما تعارف الناس على أنه متاع للمطلقة، فإنه يجزئه أن يعطيه إياها.
واختار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد: أن المطلقة بعد الدخول كذلك لها المتعة، خلافاً لمذهب جمهور العلماء لقوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين} وما ذهب إليه ظاهر فالآية تدل عليه.


قال: [ويستقر مهر المثل بالدخول]
يستقر مهر المثل وكذلك المهر المسمى بالدخول والخلوة أيضاً، أما بالوطء فهو ظاهر قوله تعالى: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} ، فدل على أنه إن طلقها بعد المسيس فيجب المهر كاملاً، وأنه لا ينصف، هذا هو مفهوم المخالفة لهذ الآية فيجب للمرأة المهر كاملاً إذا مسها، وكذلك الخلوة في مذهب جمهور العلماء، فإذا خلا الرجل بالمرأة فيجب لها المهر وإن لم يمسها، وذلك لما روى سعيد بن منصور في سننه عن زُرارة بن أبي أوفى قال: " قضاءُ الخلفاء الراشدين: إذا أغلق باباً أو أرخى ستراً فقد وجب الصداق والعدة "، وزُرارة لم يدرك الخلفاء الراشدين، لكنه ثابت السند الصحيح في سنن البيهقي عن عمر بن الخطاب وعن علي بن أبي طالب ولا يعلم لهما مخالف فكان إجماعاً.
والقول الثاني وهو مذهب الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد قالوا: " لا يثبت لها المهر كاملاً إن خلا بها ما لم يمسها لظاهر الآية المتقدمة.
والراجح ما ذهب إليه أصحاب القول الأول لما تقدم، فهو قول عمر وعلي ولا يعلم لهما مخالف.
قال: [وإن طلقها بعده فلا متعة]
بالعقد وهو الوطء فقد فعلت ما يجب عليها، لكنه لم يطب وكان ذلك من جهته لا من جهتها ولأن التسليم المستحق وجد من جهتها فكان بوطئها.
وهل يجب المهر كاملاً بغير خلوة ولا وطء، وإنما بما دون الوطء كأن يستمتع بها في غير وطء بلا خلوة كمس يد أو قبلة أو نحو ذلك؟
قولان في المذهب:
القول الأول: وهو قول في المذهب وجوب المهر بذلك كالوطء، لأنه استمتاع فأشبه الوطء.


والقول الثاني: وهو اختيار الموفق وهو قول أكثر الفقهاء: أن المهر لا يثبت كاملاً بذلك، وهو الراجح لأن ظاهر الآية إنما دل على أن المهر يثبت بالمسيس أي بالوطء، وذلت أثار الصحابة على أنه يثبت بالخلوة، وليست القبلة ونحوها في حكم المسيس ولا في حكم الخلوة، والذي يتبين والله أعلم أن الخلوة لا تثبت بها هذا الحكم إلا إذا كانت بحيث يمكنه أن يطأها معها، أما إذا كانت خلوة يسيرة لا يتمكن من وطئها فلا يتبين أنه يجب المهر بمثل هذه الخلوة، وذلك لأن ظاهر الآية أنه لا يجب إلا مع المسيس، وإنما وجب مع الخلوة لأن الخلوة مظنة المسيس، ولأن الخلوة تمكين من المرأة لنفسها، وليس هذا في أي خلوة، وإنما يثبت بالوطء في القبل على الصحيح، وأما الوطء في الدبر فلا يثبت فيه هذا الحكم، لأنه ليس هذا المسيس المشروع.
قال: [وإن افترقا في الفاسد قبل الدخول والخلوة فلا مهر]
…إذا نكحها نكاحاً فاسداً كأن ينكحها بلا ولي ثم فارقها قبل أن يدخل بها، فلا مهر، وذلك لأن هذا نكاح فاسد فكان وجوده كعدمه، فالنكاح الفاسد وهو نكاح شبهة عقد، فإذا طلقها قبل الدخول فلا مهر لها، لأنه فاسد فكان وجوده كعدمه، ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، ولها المهر بما استحل من فرجها) ، وظاهره أنه لا مهر لها إن لم يستحل فرجها.
قال: [وبعد أحدهما يجب المسمى]


فبعد الدخول أو الخلوة يجب المسمى، وإن لم يكن قد سمى المهر فيجب مهر المثل، أما إن مسها فهذا ظاهر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم: (ولها المهر بما استحل من فرجها) ، وأصرح منه ما ورد في رواية ابن حبان: (ولها ما أعطاها بما أصابها) ، أي لها ما أعطاها من المهر بما أصابها، وأما إن كانت مجرد خلوة ولم يطأها فلا يتبين أنه يجب عليه المهر، وذلك لأنه نكاح فاسد فكان وجوده كعدمه والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أوجب المهر حيث أصابها وهنا لم يصبها، وهذا القول هو الراجح، وهو اختيار الموفق ابن قدامة ورواية عن الإمام أحمد.
وأولى من ذلك النكاح الباطل كنكاح الخامسة، والنكاح الباطل عند الفقهاء هو: ما أجمع على بطلانه كنكاح الخامسة، وأما النكاح الفاسد فهو: ما اختلف فيه كالنكاح بلا ولي، ففي النكاح الباطل إن طلقها قبل الدخول فلا شيء لها لأنه نكاح باطل فوجوده كعدمه، وإن كان بعد الخول، فالمذهب وهو الصحيح في هذه المسألة: أن لها المهر إن استحل فرجها للحديث المتقدم: (ولها ما أعطاها بما أصابها) ، ولا فرق فيما حرمه الشارع بين ما أجمع عليه أو لم يجمع عليه، لكن إن كانت عالمة بأن النكاح باطل أو فاسد فلا شيء لها لأنها زانية مطاوعة فلا شيء لها.
قال: [ويجب مهر المثل لمن وطئت بشبهة]
إذا وطئت بشبهة كأن يظنها زوجته فيطأها، فيجب مهر المثل، قال الموفق: بلا خلاف أعلمه.
قال: [أو زناً كرهاً]


فإذا أكرهها على الزنا فيجب لها المهر بما استحل من فرجها، هذا هو مذهب الجمهور للحديث المتقدم: (ولها المهر بما استحل من فرجها) ، وقال الأحناف وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه لا مهر لها ولا عوض لها وإن كانت مكرهة وذلك لأن هذا العوض خبيث وهو سحت فهو مقابل حرام فكان سحتاً محرماً ولم يكن حلالاً مباحاً ولا يقاس هذا بهذا، ولا يلحق ما أباحه الله بما حرمه الله، وهذا هو الراجح وهو اختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي.
قال: [ولا يجب معه أرش بكارة]
هذا على القول بوجوب مهر المثل، فهل يجب أرش البكارة؟
قال: لا يجب أرش البكارة، وذلك لأن مهر المثل يدخل فيه أرش البكارة، فإنها قدرت على أنها بكر، وقدر مهرها على أنها بكر، فنظر إلى بكارتها أثناء تقدير مهرها، وعلى القول الراجح المتقدم وهو أنه لا مهر لها فحينئذٍ يحتاج أن يجعل لبكارتها مهرا، ً وذلك لأنه قد أتلف عليها شيئاً مما ينتفع به، فكان عليه أرش ذلك، ويعرف أرش البكارة بأن ينظر إلى مهرها وهي بكر وينظر إلى مهرها وهي ثيب، والفارق بينهما هو أرش بكارتها.
قال: [وللمرأة منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال]
فإذا تزوج الرجل امرأة على أن يصدقها عشرة آلاف حالةً، ثم قال: أريد أن أبني بالمرأة ولم يعطها صداقها فللمرأة أن تمتنع ولوليها أن يمنع من ذلك، وذلك لأن العوض وهو المهر لم يقبض فكان لهم المنع من تسليم المعوض، فلهم المنع من تسليم المعوض وهو البضع حتى يستلموا عوضه، وهذا بإجماع أهل العلم وهذا ظاهر، ولأنه قد يتعذر استيفاء العوض فيتعذر عليها إرجاع المعوض، وظاهر قوله: "حالاً" أنه لو كان مؤجلاً فليس لها أن تمنع ولذا
قال: [فإن كان مؤجلاٍ ….. فليس لها منعها]
فإذا كان المهر مؤجلاً كأن يقول: " أتزوجها على عشرة آلاف إلى سنة،" ثم أراد أن يبني بها فليس لها أن تمنعه من نفسها، وذلك لأنها قد رضيت بتأخير صداقها وهو متضمن رضاها بتسليم نفسها قبل قبض صداقها.


قال: [أو حل قبل التسليم]
إذا قال: المهر أدفعه لكم بعد شهر فرضوا بذلك فمر الشهر ولم يسلم الصداق، فيجب عليها أن تمكنه من نفسها وألا تمنع نفسها منه، وقالوا: وذلك لأنها قد وجب عليها واستقر وجوب تسليم بضعها قبل القبض فلم يكن لها أن تمتنع.
والقول الثاني في المذهب: أنه لا يجب عليها ذلك، وهذا فيما يظهر لي أظهر للعلة المتقدمة وهي منع تسليم المعوض قبل أخذ عوضه، ولأنه قد يتعذر استيفاء العوض فيفوت عليها منعه بضعها.
قال: [أو سلمت نفسها تبرعاً فليس لها منعها]
إذا اتفقوا على صداق حال، فسلمت نفسها له تبرعاً فليس لها أن تمنع نفسها بعد ذلك، وذلك لأن المهر قد استقر بهذا التسليم فلم يكن لها المنع، ولأنها قد رضيت فسلمت نفسها عن رضى فاستقر العوض بذلك.
والقول الثاني في المسألة، وهو مذهب أبي حنيفة النعمان ورواية عن الإمام أحمد واختيار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أن لها أن تمنع نفسها وقد تبرعت له، وذلك لأن رضاها ليس مطلق بل هو مقيد بشرط وهو أن يعطيها صداقها، وأن يقبضها إياه، فقد مكنته من نفسها بهذا الشرط فليس رضاها رضا مطلقاً بل هو مقيد بهذا الشرط وهو أن يسلمها صداقها وحينئذٍ فلها أن تمنع نفسها، وهذا هو القول الراجح.
قال: [فإن أعسر بالمهر الحال، فلها الفسخ ولو بعد الدخول]
إذا أعسر بالمهر الحال قبل الدخول فلها الفسخ، وذلك لتعذر الوصول إلى العوض قبل تسليم المعوض، ولو كان بعد الدخول، فإذا دخل بها ولم يسلم مهرها الحال فلها أن تفسخ حيث أعسر، وذلك لأن لها حينئذٍ منع نفسها على الصحيح فكان لها الفسخ، ولأنها إنما مكنت نفسها لأخذ حقها وصداقها وحيث أعسر بذلك فلها الحق بالفسخ، لكن الفسخ لابد أن يكون بحكم حاكم في المشهور في المذهب ولذا قال المؤلف:
[ولا يفسخه إلا حاكم]
وتقدم كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة وأن الفسوخ تصح بغير حكم حاكم، وأن الحاكم إنما يأذن بذلك.

الدرس السادس والثلاثون بعد الثلاثمائة


باب وليمة العرس
الوليمة: هي طعام العرس خاصة، فلا تطلق الوليمة في اللغة إلا على طعام العرس خاصة.
قال: [تسن]
فالوليمة سنة لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن عوف كما في الصحيحين: (أولم ولو بشاة) ، ولما ثبت في الصحيحين من حديث أنس قال: ما أولم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أحد من نسائه ما أولم عليها – يعني زينب بنت جحش – أولم بشاة، ولا خلاف بين أهل العلم في مشروعية الوليمة.
وإنما اختلفوا هل هي سنة مستحبة – كما ذكر المؤلف – أم هي واجبة؟
فالجمهور على أنها سنة، وقال بعض أهل العلم بوجوبها وهو مذهب الظاهرية وقول في مذهب الشافعي وحكاه ابن عقيل عن الإمام أحمد، وهو الراجح لظاهر الحديث: (أولم ولو بشاة) ، ولما ثبت في المسند بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي لما تزوج فاطمة: (لا بد للعرس من وليمة) ، والمذهب أنها تسن بالعقد، فوقتها المستحب في المشهور من المذهب العقد، وقال شيخ الإسلام: تسن بالدخول، وقال صاحب الإنصاف: " الأولى أن يقال إن وقت الاستحباب موسع من عقد النكاح إلى انتهاء أيام العرس "، وما ذكره أظهر، ومرجع ذلك إلى العرف، فإذا كان عرف الناس أن الوليمة تكون بعد العقد فتسن كذلك وإن كان عرفهم بالبناء بالمرأة والدخول بها فتستحب كذلك.
قال: [بشاةٍ فأقل]


لا حد لأكثر الوليمة – بإجماع أهل العلم – فلو أولم بخمس شياه أو عشر فذلك كله جائز ما لم يكن ذلك إسرافاً أو مخيله، والمستحب أن تكون بشاة فأقل، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أولم ولو بشاة) ، ولما تقدم أنه أولم لزينب بنت جحش بشاة، لكن ظاهر قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أولم لو بشاة) ، كما ذكر ذلك بعض الحنابلة أن الأولى أن تكون أكثر من شاة وذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل كونها وليمة قليلاً، فقال (أولم ولو بشاة) أي أولم ولو بشيء قليل كالشاة، فدل هذا على أن الأولى أن تكون الوليمة بأكثر من شاة، ولو أولم بأقل من شاة فذلك جائز، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أولم على صفية بالأقط والتمر والسمن) ، وفي البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (أولم على بعض نسائه بمدين من شعير) ، لكن الأولى له أن يولم بشاة فأكثر.
قال: [وتجب في أول مرة إجابة مسلمٍ]
تجب إجابة مسلم في أول مرة أي في وليمة اليوم الأول من أيام العرس، لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال: (شر الطعام وليمة العرس يدعى لها الأغنياء ويترك الفقراء ومن لم يجب فقد عصى الله ورسوله) .
وذكر بعض فقهاء الحنابلة كابن عقيل والشيخ عبد القادر الجيلاني استثناءً فيه قوة وهو: أنه يكره لأهل العلم والفضل الإسراع في إجابة الدعوة والتهاون لما فيه من البذلة والدناءة والشره، قالوا: لا سيما القاضي لأنه ربما كان فيه ذريعة إلى التهاون به وعدم المبالاة، وهكذا أهل العلم والفضل، ودرء المفسدة أولى من جلب المصلحة، فإنما تجب وليمة العرس في اليوم الأول، وأما اليوم الثاني فإجابتها سنة.


وأما في اليوم الثالث فتكره، وذلك لما روى الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (طعام الوليمة في اليوم الأول حق، وطعام اليوم الثاني سنة، وطعام اليوم الثالث سمعة ومن سمع سمع الله به) والحديث ضعفه الترمذي فقد رواه واستغربه فهو من حديث زياد بن عبد الله وعطاء بن السائب، وزياد بن عبد الله ضعيف الحديث، وعطاء بن السائب مختلط، وقد روى عنه زياد بن عبد الله بعد اختلاطه، وعلى ذلك الحديث ضعيف فيه علتان:
ضعف زياد بن عبد الله.
اختلاط عطاء بن السائب، وقد روى عنه عبد الله بن زياد بعد اختلاطه.
وبهذا الحديث احتج الحنابلة والشافعية على كراهية إجابة الدعوة في اليوم الثالث، وقال المالكية: لمن كان له سعة أن يولم سبعة أيام، لما روى ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أن حفصة بنت سيرين قالت: " تزوج أبي فدعا الصحابة سبعة أيام " قال البخاري: " ولم يوقت النبي - صلى الله عليه وسلم - يوماً ولا يومين " وثبت في مسند أبي يعلى بسندٍ حسن: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تزوج صفية " جعل عتقها صداقها وجعل الوليمة ثلاثة أيام "، والذي يتبين أن مرجع هذا إلى العرف، لكن لا يتبين وجوب إجابة الوليمة في أيامها كلها بل لو أجاب في اليوم الأول فإن ذلك يجزئ لما في ذلك من الحرج من إجابة الوليمة في أيامها كلها، ولأن تطيب خاطر الداعي يحصل في اليوم الأول، فالذي يتبين أنه يجب في اليوم الأول وأما سائر الأيام فيسن ولا يجب.
قال: [يحرم هجره إليها إن عينه]
فيجب إن عينه بالدعوة، وأما إذا كانت الدعوة عامة فسيأتي الكلام عليها، وبشرط أن يكون هذا المسلم ممن يحرم هجره، وأما إذا كان ممن يجب هجره فإن من الهجر عدم إجابة دعوته.
قال: [ولم يكن ثم منكر]
وسيأتي كلام المؤلف على هذا.
قال: [فإن دعاه الجَفلي]
الجَفَلى: هي الدعوة العامة كأن يقول: " يا أيها الناس احضروا ".
قال: [أو في اليوم الثالث أو دعاه ذمي كُرهت الإجابة]


تقدم أن الدعوة في اليوم الثالث لا تصح كراهيتها وكذلك دعوة الجفلى، فلا يثبت دليل يدل على كراهيتها، والقول الثاني في المذهب: أنها مباحة وهذا هو الراجح فلا دليل على كراهيتها، بل لو قيل باستحباب الإجابة لعمومات الأدلة لكان فيه قوة، ولا يقال بالوجوب.
إذا دعاه ذمي فتكره الإجابة قالوا: لأنه مطالب بإذلاله.
وهذا التعليل ضعيف ولا يقوى على الكراهية والراجح إباحة إجابة دعوته، وهو القول الثاني في المسألة، ويدل عليه ما ثبت في غير ما حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يجيب دعوة اليهود، فالراجح أن دعوة الذمي لا تكره إجابتها.
قال: [ومن صومه واجب دعا وانصرف]
فمن كان صومه واجباً فإنه يدعو لصاحب الوليمة وينصرف، وذلك لما ثبت في مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دعي أحدكم فليجب فإن كان صائماً فليصل وإن كان مفطراً فليطعم) ، ولا يحل له أن يفطر لما تقدم في كتاب الصيام من أن الصوم الواجب لا يجوز الفطر فيه كصوم رمضان أو صوم النذر.
قال: [والمتنفل يفطر إن جبر]
أي إن جبر خاطر الداعي، فإذا كان في ذلك جبراً لخاطر الداعي فإنه يرجح الفطر، لما ثبت في البيهقي بإسنادٍ حسن عن أبي سعيد الخدري قال: " صنعت للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً فجاءوا أصحابه، فلما وضع الطعام قال رجل إني صائم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دعاكم أخوكم وتكلف لكم – ثم قال له: – أفطر وصم يوماً مكانه إن شئت) "، ولا تجب إجابة الدعوة في غير العرس كالوكيرة والنقيعة وغير ذلك وإنما يستحب.
والوكيرة: هي دعوة البناء أي بناء البيت.
والنقيعة: هي الطعام للغائب.


وظاهر الأحاديث المتقدمة وجوب إجابتها، لكن يدل على عدم الوجوب ما روى مسلم: " أن فارسياً كان طيب المرق فصنع للنبي - صلى الله عليه وسلم - طعاماً ثم جاء يدعوه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وهذه) أي عائشة فقال: " لا " فقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا) ثم جاءه يدعوه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وهذه) قال: " لا " فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لا) ثم جاءه يدعوه فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وهذه) فقال: " نعم " فقاما يتدافعان إلى منزله".، ولا يترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الواجب لمثل هذا العذر، فهذا عذر لا يقوى على ترك الواجب، وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم وأن إجابة غير وليمة العرس ليس بواجب بل مستحب.
قال: [ولا يجب الأكل]
إذا حضر الوليمة فإنه لا يجب عليه الأكل، وذلك لما ثبت في مسلم من حديث جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب ثم إن شاء فليطعم وإن شاء فليترك) ، فلا يجب الأكل إنما يستحب لما تقدم في حديث أبي سعيد عند البيهقي فقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - الرجل بالفطر.
قال: [وإباحته متوقفة على صريح إذن أو قرينة]
فلا يحل له أن يطعم إلا بإذن لفطر، أو إذن عرفي فالإذن اللفظي كأن يقول كلوا، والإذن العرفي بأن يدعى إلى الطعام سابقاً ثم تقدم بين يديه، وإلا فلا يحل له، وذلك لأنه مال غيره فلا يحل إلا بإذنه، ولا يحل مال امرئٍ مسلم إلا بطيب نفس منه، ولا يملكه بذلك فلوا أنه إذا وضع له الطعام تصدق به أو أخذه فلا يحل له ذلك، وذلك لأنه إنما أباحه له ليطعمه ولم يُمّلِكهُ إياه، فعليه يهلك في ملكية الداعي أي يفنى الطعام في ملكية الداعي فليس له أن يتصدق به إلا إذا أذن له بذلك صاحب الدعوة.
قال: [وإن علم أن ثم منكراً يقدر على تغييره حضر وغيّره وإلا أبى]


إذا علم أن ثم منكراً يقدر على تغييره فإنه يحضر وجوباً، أولاً؛ لوجوب إجابة وليمة العرس، وثانياً؛ لإزالة المنكر.
فإن كان فيه منكر لا يقدر على إزالته كأن يكون فيه سماع محرم كالغناء أو يكون أشياء مرئية محرمة كخلطة النساء فلا يحل ذلك، وفي الترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس من مأدُبةٍ يدار فيها الخمر) ، وهو ثابت في المسند والحديث صحيح، وفي سنن البيهقي بإسنادٍ صحيح: أن أبا مسعود الأنصاري صنع له طعام فدعي إليه فقال: " أفي البيت صور " فقيل له: " نعم " فأبى أن يدخل حتى نزعت الصور ثم دخل.
قال: [وإن حضر ثم علم به أزاله]
فالمسألة الأولى قبل الحضور وهنا بعد الحضور، فلما حضر وأجاب الدعوة علم أن ثم منكراً فيجب عليه أن يزيله.
قال: [فإن دام لعجزه انصرف]
فإن دام المنكر لعجزه فهو غير قادر على إزالته، وإن كان أنكر بلسانه أو أنكر بقلبه لكنه لم يقدر على إزالة المنكر فإنه ينصرف، لئلا يكون مقراً للمنكر أولاً، ولئلا يكون هذا طريقاً لرؤيته للمنكر أو لسماعه له فلا يجوز أن يجلس وثمَّ منكر فإن قدر على إزالته جلس، وإلا فإنه يجب عليه أن ينصرف.
قال: [وإن علم به ولم يره ولم يسمعه خُيِّر]


إذا علم أن ثم منكراً لكنه لا يراه ولا يسمعه، كأن يكون في مجلس وفي مجلس آخر منكرات سوى المجلس الذي هو فيه، فإنه يُخير بين الجلوس وبين الإنصراف فإن شاء انصرف لوجود هذا المنكر الذي علم به، وإن شاء جلس، ولم يذكر المؤلف موقفه من هذا المنكر، وظاهر كلامه أنه لا يجب عليه إنكاره، والصحيح أنه يجب عليه الإنكار لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من رأى منكم منكراً …) ، وهنا العلم يقوم مقام الرؤية فقد علم بالمنكر وتحقق منه فيجب عليه أن ينكره، وأما ما ذكر المؤلف من كونه بالخيار بين الجلوس والانصراف فهو ظاهر، وذلك لأنه لا يعد مقراً للمنكر ولا يتطرق المنكر -إن كان مسموعاً- إلى سمعه، -وإن كان مرئياً -إلى بصره لكونه في موضع آخر.
قال: [وكره النِّثارُ والتقاطُه]
النثار: هو أن يطرح طعام أو نحوه أي يرفع الطعام ثم يرمي في الهواء حتى يتساقط فهذا يكره فعله ويكره التقاطه، لما في ذلك من امتهان الطعام، ولما فيه من الدناءة.
قال: [ومن أخذه أو وقع في حجره فله]
من أخذه أو وقع في حجره فإنه يكون له، وذلك لأنه حازه بذلك وقد جعله مالكه لمن حازه.
قال: [ويسن إعلان النكاح]
تقدم الكلام على هذا ودليله.
قال: [والدف فيه للنساء]
وتقدم الكلام على هذه المسألة، وتقدم أن هذا هو اختيار الموفق، وظاهر كلام أصحاب الإمام أحمد التسوية بين الرجال والنساء.

الدرس السابع والثلاثون بعد الثلاثمائة
باب عشرة النساء
العشرة: في اللغة الاجتماع.
وفي الاصطلاح: ما يكون بين الزوجين من ألفةٍ وحسن صحبة.
قال تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} وقال {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} .
قال: [يلزم الزوجين العشرة بالمعروف]
للآيتين المتقدمتين.
قال: [ويحرم مطل كل واحدٍ بما يلزمه للآخر والتكره لبذله]


المطل هو: دفع الحق، فيحرم مطل كل واحدٍ منهما بما يلزمه للآخر، والتكره لبذله من نفقة أو خدمة أو وطء أو غير ذلك لقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} ولقوله: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} ، ولا شك أن مطل الحق والتكره في بذله ليس من المعاشرة بالمعروف.
قال: [وإذا تم العقد لزم تسليم الحرة التي يوطأ مثلها في بيت الزوج إن طلبه]
قياساً على البيع وهذا من باب تسليم المعوض، فيمكن الزوج منافع بضعها والاستمتاع بها، كما يمكن المشتري من السلعة التي قد وقع عليها، وذلك إن طلب لأنه حقه، فلا يجب تسليم الحرة إلا بطلبه لأنه حقه.
قال: [ولم تشترط دارها أو بلدها]
فإن اشترطت أن يكون التسليم في دارها أو بلدها فإنها لا تسلم إليه في بيته، بل تسلم إليه في دارها وفي بلدها، وذلك للأدلة المتقدمة في وجوب الوفاء بالشرط، فهذا شرط يجب الوفاء به.
قال: [وإذا استمهل أحدهما أمهل العادة وجوباً]
إذا طلب الزوج تسليم الزوجة فاستُمهل فيجب عليه أن يجيبهم إلى ذلك بما جرت العادة بمثله من يوم أو يومين أو ثلاثة أو غير ذلك مما جرت العادة بمثله، يدل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تطرقوا النساء ليلاً، حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة) ، أي التي غاب زوجها، فهنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بإمهال المرأة حتى تمتشط إن كانت شعثة وحتى تستحد - وهذا مع ثبوت المصاحبة - فإنها قد صاحبها فأولى من ذلك من لم يصاحبها، أي إذا ثبت هذا الإمهال للزوجة التي قد سبق صحبتها فأولى من ذلك المرأة التي لم يسبق صحبتها فإن حاجتها إلى الاستعداد له والتهيؤ أقوى.
قال: [لا لعمل جهازٍ]
جهاز بفتح الجيم، ويصح بكسرها وهو: ما تجهز به المرأة إلى بيت الزوج، فإذا استمهلوا للجهاز فلا يجب عليه القبول، وذلك لعدم الضرورة، فليس من باب تهيئة المرأة واستعدادها لزوجها بل هو أمر خارج عن ذلك، وموجِب العقد من التقابض مردود إلى العرف.


قال: [ويجب تسليم الأمة ليلاً فقط]
لأن الأمة مملوكة لسيدها الذي قد زوجها، فزمن الاستمتاع بها من الزوج بالليل، ولسيدها أن يستخدمها بالنهار فهو زمن الاستخدام، فزمن خدمتها لسيدها بالنهار فلا يجب عليهم أن يسلموها له إن طلبها نهاراً، وأما في الليل فهو زمن الاستمتاع بها.
قال: [ويباشرها ما لم يُضر]
يباشر المرأة ما لم يضر بها لحديث: (لا ضرر ولا ضرار)
قال: [أو يشغلها عن فرض واجب]
كصلاة واجبة أو صيام واجب، قال تعالى: {نسائكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم} ، فيستمتع بها في قبلها من دبرها، وفي قبلها من قبلها، ويستمتع بها بما دون ذلك وليس لها أن تمنعه.
قال: [وله السفر بالحرة]
دون الأمة؛ لأن الأمة لا بد من أن يأذن لها السيد، فهي ملك للسيد وله الخدمة منها وأما الحرة فله أن يسافر بها بشرط الأمن عليها أي ألا يعرضها في سفره لخطر.
قال: [ما لم تشترط ضده]
فإذا شرطت ألا يسافر بها عن بلدها فلها ذلك لأن المسلمين على شروطهم.
قال: [ويحرم وطؤها في الحيض]
لقوله تعالى: {ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} ، وهذا بإجماع العلماء.
قال: [والدبر]


فجماعها في الدبر محرم، وهذا باتفاق السلف واتفاق أهل العلم، والأحاديث في النهي عن ذلك كثيرة، فعند الخمسة بإسناد صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد) ، وروى الترمذي والحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تأتوا النساء في أعجازهن فإن الله لا يستحيي من الحق) ، وفي المسند بإسناد حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم -قال: (هي اللوطية الصغرى) ، فجماع المرأة في دبرها أي إيلاجاً من دبرها محرم وهو من كبائر الذنوب، ولا يصح حكاية جواز هذا عن أحدٍ من السلف، ومن حكى ذلك عن بعض السلف فقد غلط في ذلك، ومنشأ الغلط عدم التفريق بين لفظة (من) و (في) فللرجل أن يأتي امرأته في قبلها من دبرها، أي من خلفها وأما أن يأتيها في دبرها فإن هذا محرم، وقد أخطأ من فهم عن بعض أهل العلم من السلف إباحة ذلك، ولو تطاوع الزوجان على ذلك فرق بينهما وقياسه الوطء في الحيض.
والعزل مكروه وجائز، أي جائز ليس محرم لكنه مكروه ودليل عدم تحريمه ما ثبت في الصحيحين عن جابر قال: (كنا نعزل والقرآن ينزل ولو كان شيئاً ينهى عنه لنهى عنه القرآن) ، وفي مسلم (فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم ينه عنه) ، وكراهيته لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (ذلك الوأد الخفي) ، ويشترط استئذان الزوجة في العزل لأن لها حقاً في الولد، ولأن في ذلك كمال استمتاعها، وقد أجمع على هذا أهل العلم، وفي المسند بإسناد ضعيف - فيه ابن لهيعة - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يعزل عن الحرة) ، أي إلا بإذنها، والحديث ضعيف لكن أجمع أهل العلم عليه، فإن كانت أمة فقولان:
القول الأول: وهو المشهور في المذهب أنه لا يجوز أيضاً لحق السيد في الولد، ولأنها زوجة فأشبهت الحرة.


القول الثاني: وهو مذهب الشافعية وهو احتمال في المذهب: أنه يجوز، وذلك لما فيه من الضرر عليه باسترقاق ولده لأن أولاده يكونون رقيقاً لسيد أمهم.
وهذا القول أظهر، فإن فيه استرقاقاً للولد وهو ضرر بالغ لا يعدل له هذا الحق الذي يضيع على السيد أو على الأمة بتحصيل الولد، فالراجح أنه يجوز له أن يعزل بلا إذن الأمة.
قال: [وله إجبارها على غسل حيض ونجاسة]
واجتناب المحرمات، وهذا لما فيه من المنكر فيجب عليه أن ينكر وهذا واجب عليها، وهو راعٍ ومسؤول عن رعيته.
قال: [وأخذ ما تعافه النفس من شعرٍ وغيره]
من ظفر ونحو ذلك لما فيه من كمال الاستمتاع.
قال: [ولا تجبر الذمية على غسل الجنابة]
وهذا أحد القولين في المذهب، والقول الثاني: أنها تجبر، والصحيح أنها لا تجبر لأن هذا لا يضر بالوطء.
مسألة:
هل تجبر المرأة على خدمة زوجها أم لا؟
قولان لأهل العلم:
فاتفقت المذاهب الأربعة على أنها لا تجبر، قالوا: لأن العقد مقتضاه الوطء والاستمتاع بها، وأما أن تكون خادمة له فليس هذا من مقتضى العقد.


وقال بعض أهل العلم، وهو مذهب طائفة من السلف والخلف، وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن ذلك واجب عليها بالمعروف، فيجب على مثلها أي قوةً في بدنها وشرفاً في نسبها ومالها، ما يجب لمثله، وهذا هو الراجح لقوله تعالى: {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} ، فعليهن واجبات قد أوجبها العرف والعادة فما جرت العادة به فهو واجب، وهذا كان عرف نساء الصحابة كما في قصة فاطمة في الصحيح، وكما في قصة أسماء في مسند الإمام أحمد وغيره، وهذا القول الراجح حيث جرت العادة بذلك، فإن لم تجر العادة فلا يجب، فيلزمها ما يجب على مثلها لمثله، فإن كانت سيدة وهو وضيع فليس كما لو كانت هي وضيعة وهو سيد، وإذا كانت شريفة في قومها فليست كما لو كانت وضيعة، ويجب على صاحبة البلد الحاضرة ما لا يجب على من تعيش في البادية، فهذه أمور تختلف - وكما قرر شيخ الإسلام - بإختلاف الأعراف واختلاف العادات وباختلاف النساء.
فصل
قال: [ويلزمه أن يبيت عند الحرة ليلة من أربع]


يجب عليه أن يبيت عند الزوجة الحرة ليلة من أربع ليالٍ هذا هو المشهور في المذهب، واستدلوا بما روى أبوبكر بن أبي شيبة وغيره – والأثر صحيح – في قصة المرأة التي ذكرت عند عمر تعبُّدَ زوجها فلم يفطن لمرادها وظن أنها تثني عليه خيراً، ففطن لذلك كعب بن سور- رحمه الله - وبين ذلك لعمر، فأمره عمر أن يقضي فيها، فقضى أن يكون لها ليلة من أربع ليالٍ، وذلك كما لو كانت رابعة له، قالوا قد اشتهر هذا الأثر ولا يعلم لعمر مخالف، وقال الجمهور: بل لا يجب لأن القسم لحقه، فإذا لم يبت عندها فقد أسقط حقه، وهذا ضعيف لأن للمرأة حقاً في ذلك، وليس صحيحاً أن القسم لحقه فحسب بل هو لحقيهما ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله وقد وعظه: (ولزوجك عليك حق) متفق عليه، واختار شيخ الإسلام أنه يكون بحسب الحاجة كالوطء وما ورد في قصة كعب تقدير شخص لا يراعى، كما لو فرض النفقة وكونه يجب حال الاجتماع ولا يلزم أن يجب حال الانفراد وهو أصح.
قال: [وينفرد إذا أراد في الباقي]
فإذا أراد في الليالي الباقية أن ينفرد فذلك جائز له.
قال: [ويلزمه الوطء إن قدر كل ثلث سنة مرة]
فيلزمه الوطء كل أربعة أشهر مرة وذلك لقوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر، فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} ، واختار شيخ الإسلام: أنه يجب عليه الوطء بقدر كفايتها ما لم يضر هذا ببدنه أو معاشه وهذا اختيار الشيخ عبد الرحمن السعدي، وهذا هو الراجح لأن هذا هو المعروف {وعاشروهن بالمعروف} وأما الآية فليس فيها أنه يجوز له هذا التأخر وإن كان مضراً بها، بل فيه أنه إذا حلف هذا اليمين فإنه يتربص هذه الأشهر.
قال: [وإن سافر فوق نصفها، وطلبت قدومه وقدر لزمه]


…أي فوق نصف السنة أي فوق الستة أشهر، وكان السفر غير واجب، فليس سفر حجٍ واجب ولا غزو واجب ولم يكن مما يحتاج إليه في معاشه، فإذا طلبت قدومه وقدر لزمه ذلك، وذلك لما روى البيهقي أن عمر رضي الله عنه: " وقت للغزاة ستة أشهر " في قصة سماعه أبيات الشعر التي ذكرتها المرأة، فاستشار حفصة فيما تصبر المرأة عن زوجها فذكرت له أنها تصبر خمسة أشهر أو ستة أشهر، فوقت للغزاة ستة أشهر، قالوا فإذا طلبت قدومه وقدر لزمه.
قال: [فإن أبى أحدهما فُرق بينهما بطلبها]
فإذا أبى الزوج الوطء في المسألة الأولى، وأبى القدوم من السفر في المسألة الثانية، فإنه يفرق بينهما بطلبها أي لها حق الفسخ، وقال أكثر أهل العلم، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو ظاهر كلام الأصحاب كما قال ذلك الموفق: " أنه لا يفرق بينهما"، والصحيح في مثل هذه المسألة ما قرره شيخ الإسلام وهو: أن المرأة إذا حصل عليها الضرر بترك الوطء فإن ذلك مقتضٍ للفسخ بكل حالٍ، سواء كان مع عجز الزوج أو قدرته سواء مع عذره أو مع عدم العذر، وذلك حق الفسخ لدفع الضرر، فإذا لم يطئها أو كان في سفره تركٌ للوطء، فلها الفسخ سواء كان الزوج معذوراً أو لم يكن معذوراً، عاجزاً عن الوطء أو لم يكن عاجزاً عنه.
قال: [وتسن التسمية عند الوطء وقول الوارد]
لما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد لم يضره الشيطان أبداً)
قال: [ويكره كثرة الكلام]
أي يكره له كثرة الكلام عند الجماع، قالوا لما ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تكثروا الكلام عند المجامعة فإن منه الخرس والفأفأة) ، لكن الحديث لا يصح وعليه فيجوز ذلك.
قال: [والنزع قبل فراغها]


أي يكره النزع من الجماع قبل أن تفرغ المرأة من حاجتها، وفي أبي يعلى بإسناد ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا جامع الرجل امرأته فقضى حاجته قبل أن تقضي حاجتها فلا ينزع حتى تقضيِ حاجتها) ، والحديث إسناده ضعيف، لكنه مستحب لتحصيل المرأة على كمال استمتاعها.
قال: [والوطء بمرأى أحدٍ والتحدث به]
فيكره الوطء بمرأى أحدٍ، والتحدث بالجماع، لكن الكراهية غير كافية بل هو محرم بل هو من كبائر الذنوب لقوله - صلى الله عليه وسلم - في مسلم: (إن من شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرها) ، وأعظم من ذلك أن يجامع بحيث يُرى، وهذا القول الثاني في المذهب وهو الراجح وأن ذلك محرم.
قال: [ويحرم جمع الزوجتين في مسكن واحد بغير رضاهما]
لما في ذلك من الضرر بسبب ما يكون بين النساء من الغيرة، فبسبب ذلك لا يجوز له أن يجمع بينهما إلا بالرضا وليس هذا من المعروف، والواجب المعاشرة بالمعروف.
قال: [وله منعها من الخروج من منزله]
اتفاقاً، وفي مسند أحمد وصحيح ابن حبان بإسنادٍ صحيح: " أن معاذ بن جبل سجد للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (ما هذا يا معاذ) فقال: أتيت الشام فوجدتهم يسجدون لأساقفتهم وبطارقتهم فوقع في نفسي أني إذا أتيت أن أفعل ذلك لك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فلا تفعل، ولو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمدٍ بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها على قتب لم تمنعه) "، فهذا فيه وجوب طاعة الزوج، ولذا اتفق أهل العلم على أنها لا تخرج إلا بإذنه، وأن له أن يمنعها من الخروج وهذا حيث لا ضرر، أما إذا تضررت بذلك فليس له أن يمنعها لحديث: (لا ضرر ولا ضرار) .
قال: [ويستحب إذنه أن تمرض محرمها]


يستحب له أن يأذن في أن تمرض المرأة محرمها كعمها أو خالها، وكذلك تعوده، وقالوا: لما فيه من صلة الرحم، ولأن المنع قد يحملها على مخالفة أمره، وقال ابن عقيل من الحنابلة: يجب عليه أن يأذن لها لأجل العيادة، أي عيادة والديها أو أحد من محارمها / والذي يترجح أن هذا راجع إلى العرف والطاعة بالمعروف، فإن كان من العرف كزيارة والديها أو زيارة بعض أقاربها ونحو ذلك فإنه ليس من المعروف أن يمنعها وإنما الطاعة بالمعروف، ولذا فالمذهب؛ أنه له أن يمنعها من زيارة والديها وليس له أن يمنعها من زيارتهم لها، والصحيح؛ أنه ليس له أن يمنع من ذلك إذا كانت الزيارة بالمعروف أي بما جرى العرف به مما ليس فيه إسراف بالزيارة، لما يثبت معه الصلة وينتفي العقوق، ولا تضيع المرأة معه بيتها ولا حق زوجها.
قال: [وتشهد جنازته]

قال: [وله منعها من إجارة نفسها]
لما فيه من تفويت حقه، فليس لها أن تؤجر نفسها إلا بإذنه، ومن ذلك الأعمال التي تقوم بها المرأة خارج بيتها فيشترط فيها إذن الزوج أو أن تشترط المرأة ذلك في العقد وإلا فله أن يمنعها.
قال: [ومن إرضاع ولها من غيره]
له أن يمنعها أن ترضع ولدها من غيره، لأنه يفوت عليه كمال الإستمتاع بها وهو حق له.
قال: [إلا لضرورته]
فإذا خشي على الولد الهلاك فليس له أن يمنع، وأما لو كان ولدها منه فليس له أن يمنعها من إرضاعه لأن هذا حق لها، فالمرأة إذا كانت بها عصمة زوجها فمن حقوقها إرضاع ولدها، بخلاف ما إذا كانت مفارقة له.

الدرس الثامن والثلاثون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [وعليه أن يساوي بين زوجاته في القسم لا في الوطء]


هذا فصل في القسم بين النساء، فيجب عليه أن يساوي بين زوجاته في القسم لقوله تعالى: {وعاشروهن بالمعروف} ، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما روى الخمسة بإسنادٍ صحيح: (من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل) فهذا يدل على أنه من كبائر الذنوب، واتفق أهل العلم على أن القسم لا يجب في الحب والجماع لقوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} ، وروى البيهقي عن ابن عباس وعبيدة السلماني في قوله تعالى: {ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم} ، قالا: في الحب والجماع.
وفي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل له: من أحب الناس إليك؟ فقال: (عائشة) ومن الرجال؟ قال: (أبوها) ، فالعدل في الحب والوطء غير واجب، نعم يجب عليه أن يطأ امرأته بالمعروف، لكن لا يجب عليه العدل بين النساء في الوطء، كما أنه لا يجب عليه العدل بينهم في الحب.
هل يجب عليه أن يعدل بينهم في النفقة والسكن والكسوة؟
قال الحنابلة: لا يجب ذلك، قياساً على الوطء لما فيه من الحرج، واختار شيخ الإسلام ابن تيمية، واختاره من المتأخرين الشيخ محمد عبد الوهاب وعبد الرحمن بن سعدي: أن ذلك واجب لأنه عدل مقدور عليه، ففارق بين الحب والوطء فإنه عدل غير مقدور عليه لأن الوطء تبع للرغبة والرغبة قلبية والحب إلى القلب فليس بوسع المكلف أن يعدل بين النساء في ذلك.
وأما النفقة والسكن والكسوة فإن العدل مقدور عليه، وهو داخل في المعاشرة بالمعروف، فليس من المعاشرة بالمعروف أن ينفق عليها دون ما ينفقه على بقية زوجاته ولا أن يكسوها دونهن وهو قادر على العدل، نعم قد يقال بما ذهب إليه الحنابلة في النفقات الطارئة التي تحتاج إليها إحداهن فيتوجه القول بعدم وجوب العدل، لما في ذلك من المشقة والحرج، فإذا احتاجت إحداهن إلى شيء لا تحتاج إليه غيرها فلا يقال بوجوب العدل حينئذٍ بل يعطى صاحبة الحاجة لأنها مميزة لحاجتها.


قال: [وعماده الليل لمن معاشه النهار]
عماد القسم عند النساء الليل، لأنه وقت السكن قال تعالى: {هو الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه} ، والنهار تبع له، هذا لمن معاشه أي عمله بالنهار وأما من كان عمله بالليل كبعض الجند أو غيرهم فقال المؤلف هنا:
[والعكس بالعكس]
لأنه هو وقت سكنه.
مسألة:
الدخول على الضرة في ليلة ضرتها ليلاً لا يجوز إلا عند الضرورة وفي النهار يجوز عند الحاجة، كمرض يصيبها فتحتاج إليه، وأما في النهار فيجوز أن يدخل على الضرة عند الحاجة كأن يكون قادماً من سفر أو تكون مريضة فيعودها.
فإذا دخل عند الضرة ليلاً فهل يجب أن يقضي لمن كانت ليلتها؟
إن كان دخوله لضرورة فلا كما تقدم، وإن كان لغير ضرورة فعليه أن يقضي إن كان مكثه كثيراً عرفاً، أما إذا كان يسيراً عرفاً فإنه لا يقضي لأنه لا فائدة من القضاء، فإن جامعها فأصح الوجهين في مذهب الإمام أحمد أنه لا يقضي ما دام الوقت يسيراً عرفاً، وذلك لأن الوطء لا يجب القسم فيه ولا يجب العدل فيه وحينئذٍ فلا يتغير الحكم.
قال: [ويقسم لحائضٍ ونفساء ومريضةٍ ومعيبةٍ ومجنونةٍ مأمونةٍ وغيرها]
لأنهن زوجات فيدخلن في العموم، ولأن القسم يراد به السكن، وذكر الشيخ حسين ابن الشيخ محمد بن عبد الوهاب أن العرف عندهم أي في نجد في زمنه أن النفساء لا تطلب القسم، فيما يظهر هكذا عندنا وإن هذا العرف يأخذ في بلاد نجد من ذلك الوقت، وعليه فلا يقسم للنفساء لأن المعاشرة تجب بالمعروف، وهنا العرف قد دل على أن القسم لا يجب للنفساء، وهذا هو الأظهر خلافاً للمشهور في المذهب لأن العرف جاء بذلك.
قال: [وسافرت بلا إذنه أو بإذنه في حاجتها أو أبت السفر معه أو المبيت عنده في فراشه فلا قسم لها ولا نفقة]
هنا مسائل لا تجب فيها للمرأة النفقة والقسم:
المسألة الأولى: إن سافرت بلا إذنه.
المسألة الثانية: إن أبت السفر معه.
المسألة الثالثة: إن أبت المبيت عنده.


فهنا لا يجب لهن القسم ولا النفقة وذلك لأنهن ناشزات والناشزة لا قسم لها ولا نفقة فهي عاصية لزوجها والعاصية لا تجب لها النفقة ولا القسم.
المسألة الرابعة: وهي فيما إذا سافرت بإذنه في حاجة، فالمذهب كما ذكر المؤلف أنه لا قسم لها ولا نفقة، وذلك كأن تسافر المرأة للعلاج أو لزيارة الأقارب وأذن لها الزوج فلا يجب لها القسم ولا النفقة، أما القسم فظاهر وذلك لأنها مسافرة وهو مقيم، ولا يقضي لها لأن العذر جاء من جهتها، ثم إنه إذا سافر هو فلا يجب أن يقضي فأولى من ذلك ألا يقضي لها إذا سافرت.
وأما النفقة فالقول الثاني في المسألة وهو اختيار ابن عقيل من الحنابلة وذكره الموفق احتمالاً: أن النفقة واجبة وهذا هو الظاهر، لأن النفقة ثابتة لها فلا تسقط إلا بدليل يدل على إسقاطها، وهنا لا دليل يدل على ذلك، وليست بناشزة فتسقط النفقة عليها بل إنها قد استأذنته فأذن لها، إلا أن يكون قد شرط عليها ألا ينفق عليها وأما إن لم يشرط ذلك فإن النفقة واجبة.
قال: [ومن وهبت قسمها لضرتها بإذنه أوله فجعله لأخرى جاز]
إذا وهبت قسمها لضرتها بإذنه أي بإذن الزوج، فيشترط أن يأذن الزوج بذلك لأنه حق له فاشترط إذنه، أو وهبت قسمها له، كأن يكون له ثلاث نسوة فقالت إحداهن: لك ليلتي فجعله لأخرى من نسائه جاز، لما ثبت في الصحيحين: " أن سودة بنت زمعة وهبت لعائشة يومها فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقسم لعائشة يومها ويوم سودة "، فالهبة جائزة لأن هذا حق للمرأة وحق للرجل، فقد رضى الرجل بإسقاط حقه، والمرأة الواهبة رضيت بهبته وإسقاط حقها، وحينئذٍ فإن وهبته لفلانة جاز ذلك بإذنه وإن وهبته له فإنه يهبه لمن يشاء من نسائه.
وهل للمرأة أخذ العوض على الهبة؟
المذهب أنه لا يجوز، واختار شيخ الإسلام وذكر أنه المذهب: أن ذلك جائز، وهو الراجح، لأنه أخذ عوض على حق فأشبه سائر الحقوق، فإذا أخذت عوضاً من زوجها أو من الموهوب لها فذلك جائز لأنه حق لها.


قال: [فإن رجعت قسم لها مستقبلاً]
إذا رجعت بعد ذلك فإنه يقسم لها في المستقبل لأنها هبة لم تنقض فالليالي السابقة قد قبضت فلا يقضى لها وأما الليالي المقبلة فإنها لم تقبض فلها الرجوع.
قال: [ولا قسم لإمائه وأمهات أولاده بل يطأُ من شاء متى شاء]
فلا قسم لهن، وذلك لقوله تعالى: {فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم} ، فدل على أن ملك اليمين لا يجب لهن العدل، أي إن خفتم ألا تعدلوا بين النساء فأنكحوا واحدة أو ما ملكت أيمانكم.
قال: [وإن تزوج بكراً أقام عندها سبعاً ثم دار وثيباً ثلاثة]
إذا تزوج بكراً على زوجة سابقة فإنه يمكث عندها سبعاً ثم يقسم بين نساءه بعد ذلك، وإن كانت ثيباً فإنه يمكث عندها ثلاث ليالٍ وما يتبعهن من النهار، ثم بعد ذلك يقسم بينهن، لما ثبت في الصحيحين عن أنس قال: " من السنة إذا تزوج الرجل البكر على الثيب أقام عندها سبعاً ثم قسم، وإذا تزوج الثيب أقام عندها ثلاثاً ثم قسم ".
قال: [وإن أحبت سبعاً فعل وقضى مثلهن للبواقي]
ودليل ذلك ما ثبت في مسلم عن أم سلمة: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما تزوجها أقام عندها ثلاثاً ثم قال: (إنه ليس بك على أهلك – أي على نفسه - صلى الله عليه وسلم - - هوانٌ إن شئتِ سبّعت لك وإن سبّعت لك سبّعت لنسائي) ".
هل له أن يسافر بإحدى نسائه؟
الجواب: أنه ليس له ذلك إلا برضا الباقيات، فإن لم ترض الباقيات فإنه يسهم بينهن، أي يضع بينهن القرعة، يدل على ذلك ما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها "، وظاهر الحديث وهو مذهب الجمهور: أنه لا يقضي للباقيات فإن عائشة لم تذكر قضاءً.
فإن سافر بإحداهن بلا قرعة ولا رضا فهل يجب القضاء أم لا؟


قولان لأهل العلم: أظهرهما وهو مذهب الحنابلة والشافعية؛ وجوب القضاء وذلك لأنه قد سافر بها بلا حقٍ وميزها عن بقية النساء بلا حق فكان لهن القضاء.
قال الموفق: وعليه فينبغي أن لا يلزم قضاء المدة، وإنما يقضي منها ما أقام منها معها أما زمان المسير فلم يحصل به المشقة.

فصل
قال: [النشوز معصيتها إياه فيما يجب عليها]
النشوز: من النَشْزِ، بتسكين السين وفتحها؛ وهو المكان المرتفع.
وسمي خروج المرأة عن طاعة زوجها نشوزاً لأن هذا تكبر منها وتعالٍ على أمر زوجها، كما أن الرجل إذا خرج عما يجب عليه من العدل وغير ذلك من واجبات المرأة التي أمره الله بها وجفا المرأة وأبغضها فإن ذلك نشوزا منه، فالنشوز يكون من الزوجين، أما الزوجة فلقوله تعالى: {واللآتي تخافون نشوزهن فعظوهن} ، وأما الزوج فقوله تعالى: {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً} .
قال: [فإذا ظهر منها أماراته بأن لا تجيبه إلى الإستمتاع أو تجيبه متبرمةً أو متكرهةً وعظها]
متبرمةً: أي متثاقلةً.
فإذا ظهرت من المرأة أمارات النشوز فإنه يعظها أي يذكرها بما يجب له من الحق، وما عليها من الإثم في مخالفة ذلك، وقد تقدم قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (والذي نفس محمدٍ بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها) ، والدليل على أنه يعظها قوله تعالى: {وللآتي تخافون نشوزهن فعظوهن} .
قال: [فإن أصرت هجرها في المضجع ما شاء]
قال تعالى: {واهجروهن في المضاجع} ، فيهجرها في المضجع فلا يجامعها ويهجرها في المضجع ما شاء من الأيام والليالي.
قال: [وفي الكلام ثلاثة أيامٍ]


ففي الكلام ليس له أن يهجرها أكثر من ثلاثة أيام لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين: (لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث) ، ولم أرَ من الحنابلة أو ممن ذكر هذه المسألة، من تعرض لذكر خلاف في هذه المسألة، وفيما ذكر نظر، وذلك لأن الهجر لمعصية، والهجر لمعصية لا يقدر بثلاثة أيامٍ، بل تهجر بما يكون فيه مصلحة، فلا يقدر هذا بثلاثة أيام.
قال: [فإن أصرت ضربها غير مبرح]
أي ضرباً غير شديد، قال تعالى: {واضربوهن} ، وفي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكن أحداً تكرهونه - أي أحدٍ من النساء أو الرجال الذين تكرهونهم وليس المقصود بذلك الفاحشة - فإن فعلت فاضربوهن ضرباً غير مبرح) ، فيعظها ثم يهجرها ثم يضربها، هذه على الترتيب والآية لا تفيد ترتيباً فإن الله عطف بين هذه الثلاث بالواو وهي لا تفيد الترتيب، لكن اتفق أهل العلم على الترتيب، قال ابن الوزير: " اتفق أهل العلم على أن له ضربها إذا نشزت بعد أن يعظها ويهجرها في المضجع "، والمعنى يدل على ذلك فإنه من البدء بالأسهل فالأسهل.
فإن حصلت المشاقة بينهما ولم يستطيعا أن يتفقا فلم تستقم المرأة لزوجها أو لم يستقم الزوج لزوجته وتمادى الشر بينهما، فإن الحاكم يبعث حكمين من أهلهما، حكماً من أهل المرأة وحكماً من أهل الرجل كما قال تعالى: {فإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريدا إصلاحاً يوفق الله بينهما} ، وهنا ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: هل يشترط أن يكون الحكم من أهلها ومن أهله؟
المشهور في المذهب أن ذلك لا يشترط.
واختار شيخ الإسلام اشتراط ذلك وهو ظاهر الآية الكريمة، والمعنى يدل على ذلك فإن الحكم من أهلها يطلع على باطن الأمر ويعرف من أحوالهما ما يهتدى به إلى الإصلاح بينهما ومعرفة هل الأنسب أن يفرق بينهما أم أن يجمع بينهما، فالأرجح أن هذا شرط.


المسألة الثانية: هل هما حَكَمان أم وكيلان؟
هل حكمان أي يحكمان بما شاءا مما رأيا فيه مصلحة من تفريق أو جمع أم هما وكيلان عن الزوجين فليس لهما أن يفرقا إلا بإذن من الزوجين؟
المشهور في المذهب أنهما وكيلان، فالحكم الأول وكيل عن المرأة، والحكم الثاني وكيل عن الرجل، وليس لهما أن يفرقا بينهما سواء كان بعوض أو بغير عوض إلا بإذن الزوجين.
وذهب المالكية إلى أنهما حكمان، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام، وهو القول الراجح وهو ظاهر الآية الكريمة، فإن الله سماه حكماً، ولم يسمه وكيلاً، ثم إن الله أمر الإمام بذلك فقال: (فابعثوا - أيها الحكام - حكماً من أهله وحكماً من أهلها) ، والتوكيل لا يحتاج إلى أمر من الإمام بل هو ابتداءً منهما.
المسألة الثالثة: أنه يشترط في الحكمين العدالة والإسلام والذكورية.
هل يشترط في الحكمين الحرية والفقه أم لا؟
المشهور في المذهب: أنه يشترط أن يكونا حريين، والقول الثاني في المسألة: لا يشترط، وهو الراجح لإطلاق الآية الكريمة، ولا مانع من أن يكون الرقيق حكماً، وأما اشتراط الفقه وعدمه، فهو ينبني على المسألة المتقدمة وهي هل هي وكالة أم حكم، فإن كانت حكماً فيشترط فيه أن يكون فقيهاً أي فقيهاً في مثل هذه المسائل، وإن قلنا هي وكالة فلا يشترط أن يكون فقيهاً، والأول هو الظاهر بناءً على المسألة المتقدمة وأنهما حكمان، فعليه يشترط أن يكونا، مسلمين، مكلفين، عدلين، ذكريين، ولا يشترط أن يكونا حريين، ويشترط أن يكونا فقيهين في هذه المسائل.
مسألة:
هل يجوز أن يكون الهجر في خارج البيت؟


ثبت في المسند وسنن أبي داود والنسائي وغيرهم من حديث معاوية بن حيده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل فقيل له: ما حق زوجة أحدنا عليه فقال: (أن تطعمها إذا أكلت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبح، ولا تهجر إلا في البيت) والحديث حسن، فهذا فيه ألا يهجر إلا في البيت والله قيده في القرآن بقوله: {واهجروهن في المضاجع} ، وثبت في البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: آلى من نسائه شهراً فأقام في مشربه – أي غرفه – تسعة وعشرين يوماً فقيل له: آليت شهرا، ً فقال: (الشهر تسع وعشرون) ، فهنا النبي - صلى الله عليه وسلم - هجرهن في غير البيوت، وبوب عليه البخاري، والجمع بينهما أنه ينظر إلى الأصلح، فإن كان الأصلح هجرها في البيت هجرها فيه وهو الأولى، وإن كان الأصلح هجرها في خارج البيت هجرها في خارجه.

الدرس التاسع والثلاثون بعد الثلاثمائة
باب الخلع
الخلع لغةً: مصدر خلع، وخلع المرأة خلعاً.
وذلك أن المرأة لباس للرجل، والرجل لباس المرأة كما قال تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} ، فإذا افتدت المرأة نفسها من زوجها على عوض تبذله له فهذا خلع لأنها قد خلعت زوجها وزوجها لباس لها.
وإصطلاحاً: فراق الرجل امرأته على عوض تبذله له، والأصل فيه قوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به} ، لا جناح على المرأة في فراق الرجل، ولا جناح على الرجل في فراقها على هذا العوض.
قال: [من صح تبرعه من زوجةٍ وأجنبي صح بذله لعوضه]
من صح تبرعه وهو الحر الرشيد غير المحجور عليه لحظ نفسه، فإنه يصح بذله لعوض الخلع، سواء كان الباذل للعوض الزوجة أو أجنبي كولي المرأة أو غيره، فلا يصح بذل العوض إلا لمن يصح تبرعه لأن العوض تبرع فلا يصح إلا ممن يصح تبرعه، أما المحجور عليه لحظ غيره، فإن بذله للعوض صحيح، وذلك لأن ذمته سالمة ويصح له أن يتصرف فيها.
فالقاعدة: أن من صح تبرعه صح بذله للعوض.


وعليه فإذا كانت الزوجة لا يصح تبرعها كأن تكون أمةً أو صبية صغيرة أو سفيهة فلا يصح بذلها للعوض لأن تصرفها غير صحيح، وكذلك إذا كان الأجنبي الباذل للعوض الذي يريد خلع هذه المرأة من زوجها إذا كان صبياً أو سفيهاً أونحوذلك فلا تصح مخالعته لأن بذله للعوض لا يصح.
قال: [فإذا كرهت خُلق زوجها أو خَلقه]
فإذا كرهت خلقه بأن كان سيء الخلق – أي سيء الصورة الباطنة -، أو كرهت خَلق زوجها كأن يكون سيء الصورة.
قال: [أو نقص دينه]
كأن يكون لا يقيم الجماعة، والجماعة واجبة، أو لفعل غير ذلك من المعاصي التي يثبت الفسق معها على الزوج، أو كرهت كبره أو ضعفه أو نحو ذلك.
قال: [أو خافت إثماً بترك حقه أبيح الخلع]
فيباح للمرأة أن تخالع إن كرهت من زوجها خلقاً أو خلقاً أو كرهت كبره أو ضعفه أو نقص دينه أو خشيت ألا تقيم حدود الله معه، أي كرهت كفران العشير، وفي البخاري: أن امرأة ثابت بن قيس قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -:" ما أنقم من ثابت خلقاً ولا ديناً ولكن أكره الكفر في الإسلام – أي أكره الكفر الأصغر وهو كفران العشير – فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أتردين عليه حديقته؟ – أي وكانت مهراً لها – قالت: نعم فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ، وليس للزوج في المشهور من المذهب الإجابة أي حيث كان ما تقدم بأن كرهت خَلقه أو خُلقه أو غير ذلك، والقول الثاني في المسألة وهو أحد قولي شيخ الإسلام ابن تيمية وجوب ذلك، فيجب عليه أن يقبل العوض الذي دفعته ا
لمرأة ويطلقها، وهذا القول أظهر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اقبل الحديقة وطلقها تطليقة) ، وهذا الأمر للوجوب ولما فيه من إزالة الضرر عن المرأة مع ثبوت حق الرجل وعدم ضياع حقه، وهذا هو الذي يترجح، وعليه فالقاضي يلزمه بذلك.
قال: [وإلا كره ووقع]


أي وإلا يكن الأمر كما تقدم فإن ذلك مكروه، فإن كانت الحال مستقيمة بين الزوجين، فليس بينهما ما يخشى معه عدم القيام بالحقوق الزوجية فحينئذٍ يكره الخلع، ويقع الخلع، هذا هو مذهب جمهور العلماء، والقول الثاني في المسألة، وهو اختيار الموفق ابن قدامة: أن الخلع هنا محرم وهو قول ابن المنذر وداوود الظاهري ودليل ذلك، ما روى أحمد وأبو داوود وغيرهما، والحديث صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنة) ، فهذا يدل على أن سؤال المرأة الطلاق من زوجها من كبائر الذنوب، وفي الترمذي وغيره، والحديث صحيح: (المختلعات هن المنافقات) ، فعلى ذلك الراجح هو التحريم، ووقوع الخلع فيه خلاف فالقول الثاني في ذلك وهو رواية عن الإمام أحمد ومذهب الظاهرية وقول ابن النذر: أن الخلع باطل وأن الثمن مردود، وهو الراجح وذلك لأن الخلع محرم ومنهي عنه والنهي يقتضي الفساد.
قال: [فإن عضلها ظلماً للافتداء ولم يكن لزناها أو نشوزها أو تركها فرضاً ففعلت ….لم يصح الخلع]


إذا عضل الزوج امرأته ظلماً أي ضربها أو ضيق عليها أو منعها شيئاً من الحقوق الزوجية، كأن يمتنع من وطئها أو المبيت عندها أو نحو ذلك، إذا فعل ذلك ظلماً لتفتدي منه، ولم يكن لزناها أو نشوزها أو تركها فرضها كأن تترك الصوم أو غيره من الفرائض، ففعلت أي اختلعت منه فدفعت له عوضاً وخلعها، فلا يصح الخلع لقوله تعالى: {ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما أتيتموهن إلا أي يأتين بفاحشة مبينة} ، والنهي يقتضي التحريم والبطلان، وعليه فالعوض مردود لأنه قد أخذه بغير حق، أما إذا كان منها زناً أو نشوز أو ترك شيء من الفرائض فعضلها لتفتدي منه، فإن الخلع يصح وذلك لأنه أخذ العوض هنا بحق وقد قال تعالى: {إلا أي يأتين بفاحشة مبينة} ، وكذا النشوز وترك الفرض فإن له أن يعضلها على ذلك لتفتدي منه وظاهر كلام المؤلف أنه إن عضلها لتفتدي منه فافتدت فإن الخلع يصح، لأنه قيده هنا بالإفتداء فلو أن رجلاً عضل امرأته ظلماً بغير حق ولم يكن ينوي أن تفتدي منه لكنها افتدت منه، فالخلع يصح، وله أخذ العوض في المشهور من المذهب، واختار شيخ الإسلام أنه لا يحل أيضاً، وعليه فالخلع باطل وهذا هو الراجح، وذلك لأنه أخذٌ للمال بوسيلة الظلم فإنه وإن لم ينوِ لكنه كان ظالماً لها، وبسبب هذا الظلم توصل إلى هذا المال.
قال: [أو خالعت الصغيرة والمجنونة والسفيهة أو الأمة بغير إذن سيدها لم يصح الخلع]


فالأمة إذا أذن لها السيد بالخلع فالخلع صحيح، لأن الرقيق إنما يمنع من التصرف بغير إذن السيد، قالوا: وأما الصغيرة والسفيهة فليس لهما المخالعة ولو أذن الولي، وأما المجنونة فهو ظاهر لأنه لا عقل لها فلا اعتبار بإذن الولي لها، واختار الشيخ عبد الرحمن ابن سعدي وهو الراجح؛ أن الصغيرة والسفيهة إذا أذن لهما الولي بالخلع، فالخلع صحيح كسائر المعاملات، فلا فرق بين الخلع وبين غيره من المعاملات، وهذا هو الراجح، وما يخشى من سوء تصرفها فمدفوع بإذن الولي، وليس للولي أن يأذن إلا حين كان في ذلك مصلحة لها.

مسألة:
هل للأب أن يخلع ابنته الصغيرة بمالها أم ليس له ذلك؟
المشهور في المذهب أنه ليس له ذلك، فمثلاً؛ دفع لها هذا الرجل داراً مهراً لها ثم تبين للولي أن في هذا الرجل سوء خلق أو غير ذلك – فهل للأب أن يخلع البنت بما لها بأن يقول: خذ هذه الدار التي أمهرتها إياها واخلع ابنتي – ليس له ذلك في المشهور من المذهب.
والقول الثاني في المسألة وهو قول طائفة من الحنابلة ومال إليه الموفق واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أن ذلك جائز، وذلك لابد له أن يتملك من مال البلد ما شاء، وأولى من ذلك أن يكون له الحق في خلعها من زوجها لما في ذلك من دفع الضرر عنها، وهذا هو الراجح، لكن ليس له ذلك إلا أن يكون فيه مصلحة للبنت.
قال: [ووقع الطلاق رجعياً إن كان بلفظ الطلاق أو نيته]
هذه المسألة فيما إذا خلع، وكان العوض محرماً أي مردوداً، كأن تخالع الصغيرة أو السفيهة أو الأمة بغير إذن سيدها ونحو ذلك فالخلع لا يصح، كما تقدم لكن هل يقع الطلاق أم لا؟
في المسألة تفصيل:
فإن كان الخلع بلفظ الخلع أو نية الخلع فالطلاق لا يقع لأن الخلع قد بطل ولا طلاق، فليس هنا لفظ طلاق ولا نية طلاق.


الحالة الثانية؛ أن يتلفظ بالطلاق أو ينويه كأن تقول: " خذ هذا المال عوضاً "، فيقول: " قد طلقتك " أو " قد خالعتك " أو " فارقتك " وينوي الطلاق، فحينئذٍ يصح الطلاق ويكون طلاقاً رجعياً أي إن لم يتم عدده، لكن لو كان قد تم عدده كأن يكون قد طلقها طلقتين سابقتين ثم خالعها بنية الطلاق أو تلفظٍ بالطلاق فحينئذٍ يكون الطلاق بائناً، هذا هو المشهور في المذهب، وهم هنا قد نظروا إلى اللفظ أو النية، فإذا تلفظ بالطلاق ونواه فإنه يقع وإن كان العوض موجوداً.
القول الثاني في المسألة، وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، وهو القول الصحيح في هذه المسألة: أن الطلاق لا يقع واختاره طائفة من أصحاب الإمام أحمد وذلك لأنه إنما فسخ للعوض، فإذا لم يحصل العوض لم يحصل المعوّض، فالمعوض هو الفراق، والعوض هنا هو هذا المال الذي قد دفعه إليه، والعبرة بالمقاصد والمعاني لا بالألفاظ ولا بالمباني، وهنا هو طلاق على عوض فهو خلع، والطلاق الذي يكون فيه ما ذكره الحنابلة إنما هو الطلاق الذي لا يكون على عوض، أما هنا فهو طلاق على عوض فهو خلع سواءً كان بلفظ الطلاق أو كان بغير لفظه، وسواء كان بنية الطلاق أو بغير نيته، فليس بطلاق لأنه بمعنى الخلع، فالراجح أن العوض إذا كان مردوداً إلى المرأة فالمعوض مردود إليه فلا يقع الطلاق وإن نواه أو تلفظ به.
الدرس الأربعون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [والخلع بلفظ صريح الطلاق]
بأن يقول للمختلعة: طلقتك، فهذا صريح الطلاق.
قال: [أو كناياته وقصده]
أي كناية الطلاق وقصده، بأي لفظ من الألفاظ، كأن يقول للمختلعة: " أبَنْتُكِ " وينوي الطلاق.
قال: [طلاق بائن]


فهو طلاق بائن، أما كونه طلاقاً فلاعتبار اللفظ، أو الكناية مع النية فقد تلفظ به أو نواه مع كنايته فكان طلاقاً، وأما كونه بائناً لا رجعياً، لما كانت مالكة لنفسها، لأن له حق المراجعة، هذا هو المشهور في المذهب وهو مذهب جمهور العلماء، وعن الإمام أحمد وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أنه فسخ ولو كان بلفظ الطلاق أو كنايته مع قصده وذلك لأن العبرة بالمعاني لا بالمباني، فالعبرة ليست بالألفاظ وإنما بالمعاني، فهنا قد قال: " طلقتك " لكنه ليس هو الطلاق المطلق بل هو طلاق مقيد حيث فيه العوض، فهو فداء وليس بطلاق، فلا عبرة بلفظه ولا بنيته مع كنايته، يدل على هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لزوج المختلعة: (وطلقها تطليقه) ، ومع ذلك فقد جعل عدتها حيضة، ولو كان طلاقاً لجعل عدتها ثلاث حيض، لأن عدة المطلقة ثلاث قروء بنص القرآن وإجماع أهل العلم، فدل على أنه فسخ وليس بطلاق بائن وإن كان بلفظ الطلاق، فالراجح هو القول الثاني وهو أنه فسخ وليس بطلاق، وثمرة الخلاف:- أنا إذا قلنا: إنه طلاق بائن، فإنها تحسب عليه ثلاث طلقات إن خالعها ثلاثاً فلا يحل له أن ينكحها حتى تنكح زوجاً غيره وإن قلنا هو فسخ: فإذا خالعها ثم نكحها بعد ذلك فلا يحسب عليه طلقة بل لو خلعها عدة مرات فله أن ينكحها من غير تقييد ذلك بنكاح زوج آخر، وهذه الثمرة ثابتة في المسألة الأخرى وهي..
قال: [وإن وقع بلفظ الخلع أو الفسخ أو الفداء ولم ينوه طلاقاً كان فسخاً، لا ينقص عدد الطلاق]


إذا وقع بلفظ الخلع كأن يقول: " خالعتك "، أو بلفظ الفسخ كأن يقول: " فسختك "، أو الفداء بأن يقول: " فاديتك "، ولم ينوه طلاقاً فإنه يكون فسخاً، هذا هو المشهور في المذهب وهو أحد قولي الشافعي، وأما الجمهور فقالوا: هو طلاق بائن أيضاً، ويستدلون بما تقدم ذكره في المسألة الأولى، وهو قول ضعيف كما تقدم، والراجح أنه فسخ، لما تقدم في قصة المختلعة وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تعتد بحيضة وهذا يدل على أنه ليس بطلاق بائن، إذ لو كان طلاقاً بائناً لأمرها أن تعتد بثلاثة قروء، ويدل عليه أيضاً أن الله عز وجل قال: {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان …..إلى أن قال …. فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به …. إلى أن قال … فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} ، فذكر طلقتين أولاً، ثم ذكر الخلع، ثم ذكر طلقة، فلو كان الخلع طلاقاً لكانت الطلقة التي ذكرها في {فإن طلقها} رابعة لا ثالثة وهذا ممتنع باتفاق أهل العلم، فدل على أنه فداء وليس بطلاق، ويدل عليه أيضاً أن الله ذكره بلفظ الفداء فقال: {فيما افتدت به} ، فعلى ذلك الراجح ما ذهب إليه الحنابلة في هذه المسألة فإذا قال: فسختك أو فاديتك أو نحو ذلك من ألفاظ الخلع فإنه فسخ وليس بطلاق، وعليه فكل طلاق بعوض سواء كان بلفظ الخلع أو بلفظ الطلاق، وسواء كان بنية الخلع أو بنية الطلاق فهو فسخ وليس بطلاق بائن في الراجح من المسألتين المتقدمتين، وهوا اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وفي قوله: " لا ينقص عدد الطلاق "، فإذا طلقها مرتين مثلاً ثم اختلعت منه فيحل له أن ينكحها بعد ذلك قبل أن تنكح زوجاً آخر، فلا تجب عليه طلقة بل هو فسخ.
قال: [ولا يقع بمعتدةٍ من خلع طلاقٌ]
إذا طلبت منه امرأته الخلع، فخالعها، فإذا طلقها بعد ذلك فإن هذا الطلاق لا يقع وذلك لأنه لا يملك بضعها فهي أجنبية عنه.
قال: [ولو واجهها به]


هذا إشارة إلى خلاف أبي حنيفة في هذه المسألة وهو: أنه إذا واجهها بالطلاق الصريح المعين فإنها تحسب طلقة وهو قول ضعيف ولا دليل عليه، والطلاق الصريح بأن يقول: " أنت طالق "، فقوله: " طالق " طلاق صريح وليس بكناية، وهو معين لقوله " أنت "، بخلاف ما لو كان مرسلاً كأن يقول: " كل نسائي طوالق " فلا تطلق عليه المختلعة، هذا مذهب أبي حنيفة ولا دليل عليه، فالراجح أنه لا فرق بين ما إذا واجهها بالطلاق الصريح أو لم يواجهها بل كله لا يقع.
قال: [ولا يصح شرط الرجعة فيه]
إذا شرط الرجعة في الخلع، فلا يصح الشرط، كأن يقول " نعم أقبل هذا الفداء بشرط أن يكون لي حق الرجعة " فهنا لا يصح الشرط، وذلك لمخالفة مقتضى عقد الخلع، فإن مقتضاه البينونة الصغرى، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية؛ أن هذا الشرط يصح فيكون الخلع رجعياً لكن العوض مردود، فالعوض يرد والشرط يصح، والراجح هو القول الأول وذلك لأن هذا الشرط يخالف الشرع، فإن الشرع إنما أذن في الخلع حيث كانت البينونة، بخلاف الطلاق فإنه في الأصل يكون طلاقاً رجعياً، وهنا ليس طلاقاً وإنما فيه عوض، والأصل أن الزوج إنما يملك الطلاق ولا يملك الفسخ وهو إنما ملك الفسخ هنا بالعوض المدفوع، فإذا أثبتنا له حق الرجعة فإن ذلك يخالف الشرع.
قال: [وإن خالعها بغير عوض أو بمحرم لم يصح]


إذا خالعها بغير عوض كأن يقول: فسختك أو خالعتك بلا عوض أي مجاناً فهذا الخلع باطل، وذلك لأن الفسخ الوارد في الشرع إنما هو فسخ بعوض، فالزوج إنما يملك في الأصل الطلاق، وإنما أذن له بالفسخ حيث كان العوض، وهنا لا عوض فلا حق له بالفسخ، وليس هذا هو الخلع الوارد في الشرع وعليه فيكون هذا الخلع باطلاً، إذا خالعها بمحرم يعلمه الزوج كأن يخالعها على خمر وهو يعلم أنه خمر، أو خالعها على مغصوب وهو يعلم أنه مغصوب، أو على حرٍ وهو يعلم أنه حرٍ، فهنا الخلع باطل، وذلك لأن الخمر لا قيمة له فهو محرم والمحرم لا قيمة له، فكما لو كان بلا عوض، وكذلك لو خالعها على مغصوب أو على حرٍ وهو يعلم ذلك، وذلك لأنه رضي بشيء لا قيمة له، والشيء الذي لا قيمة له ليس بشيء، فكما لو كان بلا عوض، هذا إذا كان يعلم التحريم، وأما إذا كان يجهله كأن يخالعها على خمر ظنه خلاً أو على حرٍ ظنه عبداً أو على مغصوب ظنه مملوكاً فيثبت له البدل لأنه إنما خالع على عوضٍ له بدل فكان الواجب البدل، فإذا خالعها على دار فثبت أن هذه الدار مستحقة للغير فهي مغصوبة فإن العوض دار بقيمتها، كذلك إذا كان على حرٍ ظنه عبداً، فيكون على عبدٍ بقيمته وهكذا.
قال: [ويقع الطلاق رجعياً إن كان بلفظ الطلاق أو نيته]
وهذا كالمسألة التي تقدم البحث فيها في الدرس السابق.
قال: [وما صح مهراً صح الخلع به]
فهل ما صح مهراً يصح الخلع به، وقد تقدم ما صح مهراً؟
دليل هذه المسألة عموم قوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليها فيما افتدت به} ، أي في الذي افتدت به، ولفظة " ما " من ألفاظ العموم فكل ما صح مهراً فإنه يصح الخلع به، كنفعٍ أو دين أو عين أو نحو ذلك.
قال: [ويكره بأكثر مما أعطاها]
فإذا كان قد أمهرها عشرة آلاف درهم فيُكره أن يكون الخلع عشرين ألفاً، والمسألة فيها ثلاثة أقوال:


القول الأول: الجواز بلا كراهة، وهو مذهب الجمهور لعموم قوله تعالى: {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليها فيما افتدت به} ، وقالوا: هذا يعم القليل والكثير.
والقول الثاني في المسألة: وهو مذهب الحنابلة وهو ما ذكر المؤلف هنا وهو أن ذلك مكروه فهو جائز مع الكراهة، واستدلوا بما روى ابن ماجة بإسنادٍ صحيح وجود إسناده ابن كثير في قصة المختلعة في حديث ابن عباس وفيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن ترد إليه الحديقة " ولا يزداد " أي لا يزيد عليها، وله شاهد مرسل عند البيهقي عن عطاء.
والقول الثالث في المسألة: وهو رواية عن الإمام أحمد وهو اختيار أبي بكر من الحنابلة، وهو قول طائفة من التابعين كسعيد بن المسيب وعطاء بن أبي رباح وطاووس والزهري أن ذلك محرم مردود.
ويستدلون بالحديث المتقدم وهو قوله: " ولا تزداد "، والنهي يقتضي التحريم والفساد، وهذا القول فيه قوة فيخصص به عموم الآية المتقدمة ويجاب عن الآية المتقدمة بأنها مسبوقة بقوله تعالى: {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً … إلى أن قال.. فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليها فيما افتدت به} ، أي من ذلك المذكور المتقدم الذي لا يحل لكم، فلا يحل أن تأخذوا من مهور النساء الذي دفعتموه لهن، لا يحل لكم ذلك إلا أن تخافوا ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليكم في ذلك، إذن قوله تعالى: {فلا جناح عليها فيما افتدت به} ، أي من ذلك المذكور وهو المهر الذي لا يحل لكم أن تأخذوا منه شيئاً، وهذا القول في قوة.
قال: [وإن خالعت حاملٌ بنفقة عدتها صح]


الحامل لها النفقة إذا طُلقت، فإذا طلبت من زوجها الخلع على أنه لا نفقة لها فقالت: " أخلعني ولا نفقة لي عليك "، فيصح ذلك خلعاً وذلك لأن النفقة مستحقة بسبب موجود وهو الحمل، وهي في حكم المالكة له، ومثل ذلك لو أبرأته من دين لها في ذمته أو من نفقة ماضية واجبة في ذمته، فأبرأته من هذه النفقة الواجبة في ذمته على أن يطلقها، ولو خالعته على إرضاع ولده فكذلك، فإن النفقة واجبة لها عليه مقابل إرضاع الولد حولين كاملين فإذا قالت ارضع الولد وتطلقني – أي على الإرضاع مجاناً بلا أجرة – فإن هذا يصح المخالعة عليه.
قال: [ويصح بالمجهول]
يصح الخلع بالشيء المجهول، كأن يقول: " أخلعتك على ما في يدك من الدراهم " وهو يجهل عددها، أو على ما في بيتك من المتاع أو نحو ذلك، وذلك لأن الخلع إسقاط حق، وإسقاط الحق فيه مسامحة ظاهرة فجاز كالوصية وغيرها كما سبق ومثل المؤلف على ذلك بمسائل فقال:
[فإن خالعته على حمل شجرتها]
كأن يكون لها نخل وتقول: " أخلعني ولك حمل نخلي "، وحمل النخل مجهول.
قال: [أو أمتها]
أي أو على حمل أمتها.
قال: [أو ما في يدها أو بيتها من دراهم أو متاعٍ، أو على عبدٍ صح]
أي عبدٍ غير موصوف فإن ذلك يصح لأن الخلع إسقاط حق، وإسقاط الحق فيه مسامحة ظاهرة، فما يحصل من الحمل من الشجرة له، وله ما يحصل من حمل الأمة، وله ما في يدها وله ما في بيتها وله المتاع المذكور.
قال: [وله مع عدم الحمل والمتاع والعبد أقل مسماه]
إذا خالعها على حمل الشجرة أو الأمة ثم لم تحمل، أو خالعها على ما في بيتها من المتاع فلم يوجد شيء، أو خالعها على عبدٍ فلم يوجد لها عبد، فإن له أقل مسماه، أي ما يصدق عليه أنه عبد، وما يصدق عليه أنه حمل وهكذا، وذلك لأن الاسم يصدق عليه.
قال: [ومع عدم الدراهم ثلاثة]
فإذا خالعها على ما في يدها من الدراهم، فلم يكن معها شيء فيكون العوض ثلاثة دراهم لأنها أقل الجمع.

الدرس الحادي والأربعون بعد الثلاثمائة
فصل


قال: [وإذا قال متى أو إذا أو إن أعطيتني ألفاً فأنتِ طالقٌ طلقت بعطيته وإن تراخى]
إذا قال الزوج لزوجته: إن أعطيتيني ألفاً فأنت طالق، أو قال الزوج لأجنبي: إن أعطيتني ألفاً فزوجتي طالق، طلقت بعطيته، وذلك لحصول المعلق عليه، فهو قد ربط الخلع والطلاق بصفة وقعت هذه الصفة، قوله " وإن تراخى " أي وإن كان هذا الإعطاء على سبيل التراخي، فلو أنها لم تعطه إلا بعد شهر أو نحو ذلك فإن هذه العطية تثبت مع الطلاق، وذلك لحصول المعلق عليه، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد، وفصل الشافعية في هذه المسألة فقالوا: إن أتى بلفظ متى ونحوه فإن الحكم المتقدم يثبت ولو مع التراخي وذلك لأن هذا اللفظ يدخل فيه ما لو تراخى، فإذا قال: " متى ما أعطيتني ألفاً فأنت طالق "، فأعطته بعد شهر فإن هذا الإعطاء داخل في لفظه المتقدم، أما إذا قال: "إذا أو إن أعطيتني ألفاً فأنت طالق"، فإنه لا يكون إلا على الفور، فإن أعطته على التراخي فإن المشروط وهو الطلاق لا يحصل وذلك لأن هذا الباب هنا باب فداء ومعاوضة، والمعاوضة إنما يكون قبولها على الفور، فإذا قال: " بعتك هذا الشيء بألفٍ " فيقول: " قبلت "، فإذا تراخى فإن هذه المعاوضة لا تثبت، فهنا معاوضة، والأصح ما ذهب إليه الشافعية.
قال: [وإن قالت؛ اخلعني على ألفٍ أو بألفٍ أو ولك ألفٌ ففعل بانت واستحقها]
إذا قالت أخلعني على ألفٍ أو بألفٍ ففعل فوراً – حتى في المذهب – ونحن نستدل عليه بالدليل المتقدم وهو أنه من باب المعاوضة، والمعاوضة إنما تقبل على الفور ولا يتراخى فيها، فإذا فعل فقال: " خالعت " ولم يقل: " خالعتكِ على ألفٍ " فلم يأت بالمال الذي هو عوض عن هذا الخلع فإن الخلع يصح ويستحق المال الذي قد ذكرته في سؤالها، وذلك لأن السؤال كالمعاد في الجواب، فالسؤال كأنه معاد في الجواب، بمعنى لما قالت له: " اخلعني ولك ألف "، كأنه قال: " خالعتك على هذا الألف ".


قال: [وطلقني واحدة بألفٍ فطلقها ثلاثاً استحقها]
إذا قالت له: " طلقني واحدة ولك ألف " فقال: " أنت طالق ثلاثاً "، فإنه يستحق الألف لأنه فعل ما استدعته وزيادة.
قال: [وعكسه بعكسه]
إذا قالت له " طلقني ثلاثاً " فقال؛ " أنت طالق " فطلقها واحدة فلا يحصل له العوض المذكور وذلك لأنه لم يجبها إلى الشيء الذي قد بذلت العوض له، وهذا كله مبني على ما تقدم في المذهب من أن الخلع بلفظ الطلاق طلاق، والصحيح أن الخلع بلفظ الطلاق فسخ فلا فرق بين قوله: " أنت طالق " و " أنت طالق ثلاثاً ".
قال: [إلا في واحدةٍ بقيت]
إذا قالت: " طلقني ثلاثاً ولك ألف، فقال: " أنت طالق -" وكان قد طلقها طلقتين سابقتين - فهنا يأخذ العوض وذلك لحصول البينونة بهذه الطلقة، فالحاصل من قوله: " أنت طالق ثلاثاً " هو نفسه الحاصل من قوله: " أنت طالق " حيث كان قد طلقها طلقتين سابقتين، وهذا أيضاً مبنيٌ على المسألة التي تقدم أنها مرجوحة.
قال: [وليس للأب خلعُ زوجةِ ابنه الصغير ولا طلاقها]
فليس للأب أن يخلع زوجة ابنه الصغير وليس له أيضاً أن يخلع زوجة ابنه المجنون، هذا في المشهور من المذهب وهو مذهب الجمهور، واستدلوا بما روى ابن ماجة والحديث حسن أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) ، أي إنما الطلاق للزوج، والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد: أن له الخلع والطلاق.


واختار الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أن له الخلع، وذلك لأن الأب له أن يمتلك من مال ولده ما شاء، وقد أجازته الشريعة كما تقدم، فأولى من ذلك أن يقبل الفداء من المرأة أي من زوجة ولده الصغير حيث ساءت العشرة بينهما، وهذا القول ظاهر، فهذا القول هو القول الأرجح، والحديث المتقدم إنما هو في الطلاق، كما أن الحديث عام، والذي يظهر أيضاً، استثناء الأب في مسألة الطلاق عن ابنه الصغير بشرط أن يكون للابن حظ ومصلحة في هذا الطلاق، فقد يتضرر الابن في هذا النكاح وتلحقه النفقة ولا فائدة له به فحينئذٍ لأبيه أن يطلق، حيث كان في ذلك مصلحة.
قال: [ولا خلع ابنته بشئ من مالها]
تقدم البحث في هذا وترجيح خلافه.
قال: [ولا يسقط الخلع غيره من الحقوق]
هذه مسألة ظاهرة جداً، فإن الخلع لا يسقط غيره من الحقوق، إذا كان للمرأة حقوق على زوجها كأن تكون لها نفقات ماضية في ذمة الزوج، ولها – مثلاً – مهر مؤخر ونحو ذلك، فخالعته على عشرة آلاف فقبل هذه العشرة آلاف، فثبوت الخلع لا يسقط ما في ذمته من الديون التي عليه لزوجته من نفقة أو مهر أو نحو ذلك، هذا ظاهر جداً، إذ لا دليل على إسقاطه، لكن لو شرطه في الخلع فقال: " بشرط ألا يكون في ذمتي لكِ شيء " فذلك يبرئ ذمته، أما إذا خالعته على شيء من المال ولم تتعرض على ما في ذمته من الديون لها، فإن هذه الديون يبقى ثابتة لها.
قال: [وإن علق طلاقها بصفة ثم أبانها فوجدت، ثم نكحها فوجدت بعده طلقت كعتقٍ وإلا فلا]


هذه مسألة تحتاج إلى إيضاح، قوله: " وإن علق طلاقها بصفة "؛ قال لزوجته: " إن دخلتِ هذه الدار فأنتِ طالق "، وسيأتي كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مثل هذه المسألة أي في مسألة التعليق، قوله: " ثم أبانها "؛ بخلع أو بطلاقٍ بثلاث أو بدون الثلاث ثم نكحها بعد ذلك، قوله: " ثم نكحها "؛ سواء شرطنا عليه أن يكون ذلك بعد زوج آخر أو لم يكن ذلك، قوله: " فوجدت "؛ أثناء البينونة دخلت هذه الدار أثناء البينونة، إذاً قال لها: " إذا دخلتِ هذه الدار فأنت طالق، ثم ثبت الخلع بينهما أو الطلاق البائن أو طلاق دون الثلاث ثبتت معه البينونة يعني إنتهت العدة ولم يراجعها، وفعلت في أثناء البينونة هذه الصفة فدخلت في هذه الدار، ثم نكحها بعد ذلك فوجدت بعد، أي دخلت هذه الدار مرة أخرى وهي في عصمته.
قوله: " طلقت كعتقٍ "؛ أي كمسألة العتق فالعتق أيضاً إذا قال للعبد: " إن فعلت كذا فأنت حر " ثم باعه ففعل هذا الشيء وهو مملوك لغيره، ثم اشتراه مرة أخرى ففعله مرة أخرى فإنه يعتق، قوله: " وإلا فلا "؛ أي وإن لم توجد هذه الصفة بعده فلا، إذا لم تدخل هذه الدار وهي في عصمته فإن الطلاق لا يثبت لعدم حصول المعلق عليه، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد، وذهب الجمهور، وهو القول الثاني في مذهب الإمام احمد إلى أنه: لا يحصل الطلاق بفعل هذا الشيء.
فإذا دخلت الدار بعد أن تزوجها فلا تكون طالقاً بهذا الدخول، وذلك لأن الشرط وهو دخول الدار قد حصل في وقت لا يمكن الطلاق معه وهو وقت البينونة، فحينئذٍ فلا يقع الطلاق في المرة الثانية لأنه لما حصل في المرة الأول كان ذلك في وقت لا يمكن إيقاع الطلاق معه وذلك لأن الزوجة بائن، فهي أجنبية عنه والأجنبية لا يقع عليها الطلاق وكذلك العبد غير مملوك له، وغير المملوك لا يحصل له عتق لأنه ليس بمملوك.


وهنا حالة أخرى وهي فيما إذا لم تفعل هذا الشيء في البينونة، يعني قال لامرأته: إن دخلتِ هذه الدار فأنت طالق ثم خالعها لم تفعله في البينونة، لكنها فعلته بعد النكاح الثاني، فالجمهور على أن اليمين تعود، فإذا فعلته في النكاح الثاني فإن الطلاق يقع، وعن الإمام أحمد وهو قول في مذهب الإمام الشافعي واختاره المزني من الشافعية وأبو إسحاق: أن اليمين لا تعود وهذا فيما يظهر لي أظهر، وذلك لأنه إنما أوقعها في النكاح الأول وهذا نكاح جديد وقد بطل النكاح الأول بالبينونة المتقدم ذكرها.
وهنا مسألة إذا كان الخلع حيلة لفعل المحلوف عليه أو لئلا يحنث فيقع الطلاق، مثال ذلك: إن قال لمرأته: " إن دخل شهر رمضان فأنت طالق " فقرب الشهر، فأراد أن يحتال على عدم طلاقها فأوقع بينهما خلعاً حتى خرج شهر رمضان فحينئذٍ هذه الحيلة لا تنفعهما شيئاً، وذلك لأن الحيل لا تحل ما حرم الله عز وجل والخلع باطل، وذلك لأن الخلع أذن فيه الشارع للفرقة ولقطع النكاح وهنا بخلاف ذلك، فإن المراد منه إبقاء النكاح فهو حيلة لإبقائه والشارع إنما أذن فيه مع أن النكاح في الأصل لازم وليس للزوج أن يفسخه إلا بالطلاق، أباح الشارع الفسخ للفرقة ولقطع النكاح، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد وهو ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى وغيره.