شرح زاد المستقنع للحمد

الدرس الثاني والأربعون بعد الثلاثمائة
كتاب الطلاق
الطلاق لغةً: التخلية
وفي الاصطلاح: حل قيد النكاح أو بعضه. و" حل قيد النكاح ": أي كله بأن يطلق المرأة الطلاق البائن، " أو بعضه ": بأن يطلقها الطلاق الذي تثبت معه الرجعة.
قال: [يباح للحاجة]
فإذا كان الطلاق لحاجة فهو مباح وهذا بإجماع أهل العلم، وهذا كأن يكون في المرأة سوء خلق أو نحو ذلك.
قال: [ويكره لعدمها]
فيكره الطلاق لعدم الحاجة، فإذا كانت الحالة مستقيمة بين الزوجين فإن الطلاق حينئذٍ مكروه، وهذا هو المشهور من المذهب، قالوا: لما روى أو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أبغض الحلال إلى الله الطلاق) (1) ، والحديث ورد موصولاً ومرسلاً، والإرسال هو الصواب فيه كما رجح هذا أبو حاتم والدارقطني والبيهقي وغيرهم، قالوا: ولأن الطلاق فيه إزالة النكاح المشتمل على المصالح المندوب إليها من تحصين الفرج ومن النسل، وفي البزار بإسنادٍ ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يطلق الرجل إلا من ريبة فإن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات) (2) .
وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة: أن الطلاق محرم؛ وذلك لما فيه من إعدام المصلحة الحاصلة للزوجين، فكان كإتلاف المال وإتلاف المال بلا حاجة محرم وفي هذا القول قوة والله أعلم.
قال: [ويستحب للضرر]
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب في كراهية الطلاق برقم [2178] .


يستحب الطلاق للضرر الواقع على المرأة بسبب الشقاق الحاصل بينها وبين زوجها، وذلك لما فيه من دفع الضرر الواقع على المرأة بسبب سوء العشرة، وتقدم أن العشرة إذا ساءت بين الزوجين بحيث لم يمكن التلاؤم بينهما فإنه يُبعثُ حكمان، حكم من أهله وحكم من أهلها، وأصح قولي العلماء أنهما حكمان يقضيان بما يريانه وقد تقدم البحث في هذا، قالوا: ويستحب الطلاق إن كانت المرأة تاركةً لبعض الحقوق الواجبةِ عليها من صلاة أو صيام أو نحو ذلك ويريدون بالصلاة بحيث لا تكفر، كأن تكون تترك شيئاً من الصلوات بحيث لا تكفر بها.
قالوا: ويستحب الطلاق إن كانت المرأة غير عفيفة.
وعن الإمام أحمد وجوب ذلك، فإذا كانت تاركة لبعض الواجبات أو كانت غير عفيفة، فيجب طلاقها، وهذا هو القول الراجح، وهذا حيث لم يمكنه تقويمها، وذلك لما في إبقائها معه مما يخشى من سريان ذلك إلى دينه بالنقص، أي إن كانت فاسقة، فإن كانت غير عفيفة، فيخشى على فراشه منها، وأن يدخل إلى نسبه ما ليس منه.
والقول بوجوب الطلاق ظاهر جداً لقوة التعليل المتقدم فإن هذه المرأة يخشى أن تفسد على زوجها فراشه وأن تنسب إليه ما ليس منه، وهذا اختيار شيخ الإسلام وابن سعدي.
وغير الصالحة إن لم يمكن تقويمها فالقول بوجوب الطلاق أضعف، وإن كان فيه شيء من القوة، والذي يتبين في غير الصالحة هو التفصيل بأن يقال: إن كان الرجل يأمن على نفسه ويعلم من نفسه أي بالظن الغالب أنه أقوى بأن تؤثر المرأة عليه بنقص دينه فلا يقال بوجوب الطلاق وإنما يقال باستحبابه كما هو المشهور في المذهب، وأما إن كان لا يأمن على نفسه الضعف ونقص الدين فيقوى الوجوب لأن إبقائها معه، والحالة كما تقدم ذريعة مفسدة، والشريعة قد أتت بسد الذرائع.
قال: [ويجب للإيلاء]


هذا هو الحكم الرابع للطلاق، فيجب للإيلاء؛ وهو أن يحلف الرجل ألا يطأ امرأته أكثر من أربعة أشهر، ويأتي الكلام عليه في بابه إن شاء الله، فإذا قضت الأربع أشهر ولم يفئ فيطأ المرأة، فإنه يجب عليه الطلاق.
وهل يجب على الزوج أن يطلق امرأته بأمر والديه أم لا يجب؟
المشهور في مذهب الإمام أحمد: أنه لا يجب.
وعن الإمام أحمد: وجوب ذلك في حق الأب إن كان عدلاً وأمر ولده أن يطلق امرأته، فإنه يجب عليه أن يطلقها، ودليل ذلك؛ ما روى الترمذي وأبو داود وابن ماجه وهو ثابت في مسند الإمام أحمد بإسنادٍ صحيح عن ابن عمر قال: كان لي امرأة أحبها، وكان عمر يكرهها فقال طلقها فأبيت فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (طلقها) (1) ، وهذا القول هو الأظهر حيث كان الأب عدلاً، فعمر رضي الله عنه لا يشك في تحريه للعدل وعدم اتباعه للهوى، فالذي يتبين أن الأب إذا أمر ولده أن يطلق امرأته وكان الأب عدلاً معروفاً برعاية الأصلح فإن الولد يجب عليه أن يطلق امرأته، وأما الأم؛ فقد سئل شيخ الإسلام عن أمٍ تأمر ولدها أن يطلق امرأته فقال: " لا يحل له أن يطلقها بل عليه أن يبرها، وليس تطليقه امرأته من برها ".آهـ
وليست الأم كالأب في معرفة المصالح.
قال: [ويحرم للبدعة]
أي يحرم الطلاق البدعي اتفاقاً، كطلاق الحائض ويأتي الكلام عليه إن شاء الله، وعليه فالطلاق له أحكام خمسة فيباح ويكره ويستحب ويجب ويحرم.
قال: [ويصح من زوج مكلف]
بلا خلاف بين أهل العلم، فالزوج العاقل البالغ يصح طلاقه بلا خلاف بل قد أجمع أهل العلم على هذا، والشريعة دالة عليه.
قال: [ومميزٍ يعقله]
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد


المميز الذي يعقل الطلاق، طلاقه يقع في المشهور من المذهب، والمراد بكونه يعقل الطلاق: أن يعلم أن هذا الطلاق يترتب عليه فراق المرأة وأنها لا تحل له، واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه ابن ماجه وغيره وهو حديث حسن: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) (1) ، وبقول علي الذي رواه ابن أبي شيبة بإسنادٍ صحيح أنه قال: " اكتموا الصبيان الطلاق " (2) ، ومفهومه يدل على أن الطلاق من الصبيان يقع، ولأنه طلاق وقع من عاقل في محله.
وذهب الجمهور وهو رواية عن الإمام أحمد: إلى أنه لا يقع واستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (رُفع القلم عن ثلاثة – وذكر منهم – الصبي حتى يبلغ) (3) .
والذي يتبين ترجيحه هو القول الأول.
وأما الجواب عن دليل القول الثاني: فإن المراد بالرفع رفع الإثم، أي لا إثم عليهم، وهذه المسألة متعلقة بحق آدمي وهي المرأة التي وقع عليها الطلاق، بخلاف ما يتعلق بحقوق الله.
أما إذا كان الصبي لا يعقل الطلاق، فلا يعلم ما يترتب عليه من أحكام، من فراقه للمرأة وتحريمها عليه، فلا خلاف بين أهل العلم في أنه لا يقع.
__________
(3) ذكره البخاري معلقاً موقوفاً على علي رضي الله عنه في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق..، وأخرجه أبو داود في كتاب الحدود، باب في المجنون يسرق (3822) بلفظ آخر، وبرقم (3824) (3825) ، وبقية الخمسة. انترنت / موقع الإسلام / بواسطة ردادي، وللسبكي مؤلف عن حديث رفع القلم، اسمه " إبراز الحكم من حديث رفع القلم " كما في موقع الوراق.


وجماهير أهل العلم على أن السفيه غير الراشد إن طلق وقع، وذلك لأنه إنما حجر عليه في ماله، وكونه يحجر عليه في ماله لا يمنع من تصرفه في غيره، وعلى ذلك يصح توكيل الصبي في الطلاق وكذلك السفيه، وذلك لأن من صح تصرفه في الشيء صح توكيله فيه كما تقدم في باب الوكالة، فتوكيل الصبي أباه أو أخاه، وهو يعقل الطلاق، توكيل صحيح لصحة تصرفه، [ومن صح تصرفه] في شيء صح توكيله فيه.
قال: [ومن زال عقله معذوراً لم يقع طلاقه]
من زال عقله بجنون أو إغماء أو ببنج لتداوٍ أو نحو ذلك فإن طلاقه لا يقع، وكذا طلاق الموسوس فيه وكذا طلاق النائم وهذا باتفاق المسلمين، وذلك لأن الأقوال إنما تعتبر في الشرع ممن يعقلها ويقصدها وهؤلاء لا يعقلون ما يتلفظون به ولا يقصدونه وفي البخاري معلقاً عن علي قال: " كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه " (1) .
إذن: إن زال عقله معذوراً كأن يُجن أو يغمى عليه أو أن يشرب دواءً أو أن يشرب مسكراً غير عالم بتحريمه أو هو عالم بتحريمه لكنه مكره ونحو ذلك، فهؤلاء باتفاق أهل العلم لا يقع طلاقهم.
قال: [وعكسه الآثم]
__________
(1) ذكره البخاري في كتاب الطلاق، تحت باب الطلاق في الإغلاق والكره، قبل رقم (5269) .


فالآثم في إزالة عقله وهو من شرب المسكر طوعاً فطلاقه يقع، وهذا هو مذهب جمهور أهل العلم، واستدلوا؛ بما روى الترمذي بإسنادٍ ضعيف جداً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (كل الطلاق جائز إلا طلاق المعتوه) (1) ، والحديث إسناده ضعيف جداً، وإنما يصح عن علي كما تقدم، واستدلوا؛ بالنظر فقالوا: إن هذا الرجل فرط في إزالة عقله فرتبت عليه الأحكام المترتبة على ألفاظه عقوبة له، وهذا أيضاً ضعيف، وذلك لأن الشارع قد عاقبه بالحد وليس ثمت دليل يدل على عقوبته بما ذكروه.
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الطلاق واللعان، باب ما جاء في طلاق المعتوه (1191) قال: " حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني أنبأنا مروان بن معاوية الفزاري عن عطاء بن عجلان عن عكرمة بن خالد المخزومي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه المغلوب على عقله) ، قال الألباني: " ضعيف جداً والصحيح موقوف ".


وذهب بعض أهل العلم وهو رواية عن الإمام أحمد وهو أحد قولي الشافعي واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو مذهب طائفة من التابعين: أنه لا يقع الطلاق، وهو قول عثمان وابن عباس ولا يعلم لهما مخالف كما قال ذلك ابن المنذر، وقول علي المتقدم كلام عام، ورُويَ عن بعض الصحابة ما يخالف قول عثمان وابن عباس ولكن لا يصح، وأثر عثمان رواه البخاري معلقاً ووصله ابن أبي شيبة (1) أنه قال: " ليس لسكرانٍ ولا لمجنونٍ طلاق "، وقال ابن عباس: " طلاق السكران والمستكره ليس بجائز " (2) ، أي ليس بماضٍ، رواه البخاري معلقاً، قالوا: والشريعة دلت عليه، فالشريعة دلت على أن الأقوال التي يتلفظ بها السكران غير مؤاخذ عليها ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في صحيح مسلم؛ أمر أن يستنكه ماعزاً، وقد أقر على نفسه بالزنا ولا فائدة من هذا إلا أن يرد إقراره، ففيه أن إقراره وهو قول من أقواله لا يقبل حين كان شارباً للخمر، ومن ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كما في سنن أبي داود: (لا طلاق ولا عَتَاق في إغلاق) (3)
__________
(1) ذكره البخاري في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره بلفظ: " وقال عثمان: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق ".
(2) ذكره البخاري معلقاً في باب الطلاق في الإغلاق.. .
(3) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب في الطلاق على غلط (2193) قال: " حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري أن يعقوب بن إبراهيم حدثهم قال: حدثنا أبي عن ابن إسحاق عن ثور بن يزيد الحمصي عن محمد بن عبيد بن أبي صالح الذي كان يسكن إيليا قال: خرجت مع عدي بن عدي الكندي حتى قدمنا مكة، فبعثني إلى صفية بنت شيبة وكان قد حفظت عن عائشة قالت: سمعت عائشة تقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لا طلاق ولا عتاق في غلاق) كذا في سنن أبي داود [2 / 643] قال في الحاشية: " وأخرجه ابن ماجه في الطلاق باب طلاق المكره حديث 2046، والمحفوظ فيه: " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق ".


، ومن شرب الخمر فقد انغلق عليه قصده فلا يدري ما يقول ومنه الغضبان كما سيأتي، وهذا القول هو الراجح لقوة أدلته، فعلى ذلك من شرب الخمر طوعاً وأغماه الخمر فطلق امرأته فإن هذا الطلاق لا يقع، والشرع إنما يعتبر الأقوال حيث كان المتلفظ بها في حالة عقل وقصد وأما حيث لا يعقل ما يقول ولا يقصده فإن الشارع لا يرتب على قوله شيئاً ولا يعتبر قوله.

الدرس الثالث والأربعون بعد الثلاثمائة
قال المؤلف رحمه الله: [ومن أكره عليه ظلماً بإيلام له أو لولده، أو أخذ مال يضره، أوهدده بأحدها قادرٌ يظن إيقاعه به فطلق تبعاً لقوله لم يقع]
هذه المسألة في حكم طلاق المكره، وجمهور أهل العلم على أن طلاق المكره لا يقع، ودليل ذلك قوله تعالى: {إلا من أكره وقلبه مطمئنٌ بالإيمان} (1) ، فإذا كان الكفر لا يقع بالتلفظ به للإكراه مع أن الصدر منشرح بالإيمان، فأولى من ذلك الطلاق فإذا أكره فطلق بقوله ولم يقصد ذلك بقلبه فليس قلبه منشرحاً بالطلاق فإنه لا يقع، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) رواه أبو داود، والإغلاق هو انسداد باب العلم والقصد والمكره قد انسد باب قصده فهو غير قاصد للطلاق ولا مريدٍ له، ويدل عليه أيضاً: ما روى ابن ماجه والحديث حسن لغيره أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله تعالى وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (2)
__________
(1) سورة النحل (106) .
(2) قال صاحب الأربعين النووية: " حديث حسن رواه ابن ماجه والبيهقي وغيرهما ".
وأخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق (2043) قال رحمه الله: " حدثنا إبراهيم بن محمد بن يوسف الفريابي حدثنا أيوب بن سويد حدثنا أبو بكر الهُذلي عن شهر بن حوشب عن أبي ذر الغفاري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ".

وأخرج البيهقي في السنن الكبرى (7 / 356) في باب ما جاء في طلاق المكره فقال رحمه الله: أخبرنا أبو ذر بن أبي الحسين بن أبي القاسم المذكر وأبو عبد الله إسحاق بن محمد بن يوسف السوسي في آخرين قالوا: نا أبو العباس محمد بن يعقوب نا الربيع بن سفيان نا بشر بن بكر نا الأوزاعي عن عطاء عن عبيد بن عمير عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) جود إسناده بشر بن بكر وهو من الثقات، ورواه الوليد بن مسلم عن الأوزاعي فلم يذكر في إسناده عبيد بن عمير.
أخبرناه أبو سعد الماليني أنا أبو أحمد بن عدي الحافظ نا عمر بن سنان والحسن سفيان وغيرهما قالوا: نا محمد بن المصفى نا الوليد بن مسلم، فذكره، وقال: عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وأخبرنا أبو الحسين بن الفضل القطان قال: أنا عبد الله بن جعفر نا يعقوب بن سفيان نا محمد بن المصفى نا الوليد نا ابن لهيعة عن موسى بن ورد أنه قال: سمعت عقبة بن عامر رضي الله عنه يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وضع الله عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ".


، والمكره إنما تلفظ بالطلاق لا لقصده وإنما لدفع الأذى الحاصل عليه، وقد قال ابن عباس كما في البخاري: " الطلاق عن وَطَر " (1) ، أي قصدٍ، وهو قول عمر وعلي وابن عمر وابن عباس وابن الزبير كما روى ذلك ابن حزم في المحلى.
وقول المؤلف " ظلماً " يخرج ما لو أكره عليه بحق فإن الطلاق يقع، كإكراه الحاكم المولي بالطلاق إن أبى الفيئة.
قوله: " بإيلام له ": أي بضرب أو سجن طويل أو خنق أو غير ذلك، وأما إن كان ضرباً يسيراً فإن الإكراه معه لا يعذر به؛ وذلك لأنه لا يحتاج معه إلى الطلاق، هذا إن كان ممن لا يبالي به، وأما إن كان من ذوي المروءة الذين يؤذيهم ذلك أذىً عظيماً ويلحقهم ذلك إشهاراً وحطة عند الناس فإنهم يعذرون بذلك.
قوله: " أو لولده ": فإذا كان الإيلام بالسجن أو الضرب الشديد لولد فكذلك، فيتوجه - كما قال ابن رجب - أن يكون كذلك في كل من يُلحق مشقة عظيمة في أذاه، من ولدٍ أو والدٍ أو زوجٍ أو صديقٍ، وذلك لحصول الإكراه، فيدخل ذلك في عمومات الأدلة.
قوله: " أو أخذ مال يضره ": أي ضرراً كثيراً.
قوله: " أو هدده بأحدها: " أي بأحد المذكورات، فإذا هدده بأن يؤلمه إيلاماً شديداً أو يأخذ من ماله ما يضر به ضرراً كثيراً، أو بأن يؤلم ولده أو والده أو زوجته أو صديقه، فإذا هدد بذلك فإن طلاقه لا يقع، ففي الكلام السابق حيث يقع المذكور وهنا لم يقع المذكور وإنما هدد به.
قوله: " من قادر ": من سلطان أو متغلب كلص ونحوه.
__________
(1) ذكره البخاري في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره بلفظ: " وقال ابن عباس: الطلاق عن وطر، والعَتَاق ما أريد به وجه الله ".


قوله: " يظن إيقاعه به ": قالوا يظن ظناً غالباً أي يظن ظناً غالباً أن هذا السلطان أو هذا الذي السلطان ظهره، أو هذا اللص يمكنه أن يوقعه بهذا الوعيد أو التهديد إيقاعاً غالباً، فإذا علم أنه يفعل ما هدده به، أو غلب على ظنه ذلك فإنه يحصل بذلك الإكراه، وقال شيخ الإسلام: " بل يكون إكراهاً مع استواء الطرفين، أي بمجرد كونه يخشى ذلك فإن الإكراه ثابت ولو لم يكن الظن غالباً، وهو كما قال فإن ذلك إكراهٌ، فإذا هدده من يخشى منه ويخشى أن يوقع ما هدده به فإنه يكون مكرهاً وإن لم يغلب على ظنه أنه يوقع ما توعده به، قوله: " فطلق تبعاً لقوله لم يقع ": وذلك للأدلة المتقدمة، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: " من سحر ليطلق كان إكراهاً "، قال صاحب الإنصاف: " بل هو من أعظم الإكراهات " لأنه لم يقصد الطلاق وإنما أكره عليه بالسحر، فإذا أثبت أهل الخبرة أن هذا الرجل مسحورٌ، وأن طلاقه كان بسحرٍ فإن الطلاق لا يقع.
قال: [ويقع الطلاق في نكاح مختلف فيه]


كنكاحٍ بلا وليٍ، فالنكاح المختلف فيه يقع الطلاق فيه، فيكون طلاقاً بائناً إن كان الزوج يعتقد فساده، وإن كان يعتقد صحته كالحنفي الذي يقول به، فإن الطلاق يكون رجعياً، أما الحالة الثانية وهي فيما إذا كان يعتقد صحته فهذا ظاهر، وأما إذا كان يعتقد فساده فليس بظاهرٍ فالأظهر أنه لا طلاق له، وإن من نكح نكاحاً فاسداً فطلق وهو يعتقد فساده، فإنه لا طلاق له بل يفرق بينهما، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول أبي الخطاب من الحنابلة لأنه كالنكاحِ الباطل، واختاره شيخ الإسلام، فهو يعتقد أنه نكاح فاسد والطلاق فرع عن النكاح الصحيح، وهو لا يعتقد صحته وإنما يعتقد فساده وعليه فإنه يفرق بينهما ولا يكون طلاقاً، وقد أجمع أهل العلم على أن الطلاق في النكاح الباطل لا يقع، كمن نكح امرأة معتدة ثم طلقها، فلا يكون هذا طلاقاً بل يفرق بينهمـ[ـا] ، فإذا خرجت من عدتها فنكحها فلا تحسب عليه تلك الطلقة، كذلك إذا نكح امرأة بلا وليٍ وهو يعتقد فساد هذا، ثم نكحها بعد ذلك بولي، فلا يحسب عليه طلقة لأنه ليس بنكاحٍ صحيح بل هو فاسد عنده، والطلاق فرع عن النكاح الصحيح.
قال: [ومن الغضبان]
أي يقع الطلاق من الغضبان، فطلاق الغضبان طلاق واقع ما لم يغمَ عليه، أي ما لم يزل عقله به، والطلاق في حالة الغضب له ثلاث صور، صورتان لا نزاع فيهما وصورة فيها النزاع:
الصورة الأولى: أن يطلق في مبادئ الغضب بحيث أن له تصوراً صحيحاً، فطلاقه واقع بلا إشكالٍ، بل أكثر الطلاق من هذا القبيل، وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.
الصورة الثانية: أن يطلق وهو غضبان غضباً قد زال عقله معه بحيث أصبح لا يدري ما يقول، فأصبح كالمجنون أو المعتوه فهذا طلاقه لا يقع، بلا نزاعٍ بين أهل العلم.


الصورة الثالثة: وهي التي اختلف فيهـ[ـا] أهل العلم وهي أن يطلق وهو في الغضب المتوسط، أي الذي قد تعدى مبادئ الغضب ولم يصل إلى منتهاه، فالغضب ثابت والعقل لم يَزُل، فقد اختلف فيه أهل العلم:
1.فالمشهور عند الحنابلة وغيرهم وقوع الطلاق.
2. واختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم؛ عدم وقوع الطلاق.
وصفة الغضب المتوسط: أن يكون الغضب قد استحكم في الغاضب وأصبح غير كامل القصد، بل أصبح الغضب يتصرف فيه فيسكته وينطقه كما قال تعالى: {فلما سكت عن موسى الغصب} (1) ، فقصده ضعيف، بل هو غير كامل وتصوره غير تامٍ، بحيث أنه يقدم على الشيء ثم يندم عليه، والراجح هو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه أبو داود وغيره: (لا طلاق ولا عتاق في إغلاق) (2) ، والإغلاق؛ هو انسداد باب العلم والقصد، ويدخل فيه السكران والمكره والمجنون والمعتوه وأيضاً الغضبان بل قد فسر الإمام أحمد والشافعي وأبو داود قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (في إغلاق) فسروه بالغضب، وفسره أبو عبيدة بالإكراه، والصحيح شموله لهما ولغيرهما مما تقدم، وهذا الرجل الغضبان الذي قد طلق، والغضب يسكته وينطقه وقد استحكم به وانتشر وهو غير تام القصد، هذا قد انغلق عليه تمام قصده فلم يقع طلاقه، وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: " الطلاق عن وَطَر " (3) ، وهذا ليس عن وَطر فليس عن قصدٍ تام، وقد نصر ابن القيم هذا القول بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، والنظر، في كتابه " إغاثة اللهفان في حكم طلاق الغضبان ".
قال: [ووكيله كهو]
__________
(1) في سورة الأعراف {ولما سكت عن موسى الغضبُ..} الآية رقم (154) .
(2) تقدم.
(3) ذكره البخاري معلقاً كما تقدم.


وكيل الزوج كهو، فللزوج أن يوكل في الطلاق، وذلك للقاعدة السابقة: " أن من صح تصرفه في الشيء صح توكيله فيه "، فللزوج أن يوكل غيره سواء كان هذا الوكيل مكلفاً أو مميزاً يعقله، فإذا وكل فإن الموكل يطلق عنه؛ وذلك لأن الطلاق إزالة ملك كالعتق، فكما يجوز التوكيل في العتق فيجوز التوكيل في الطلاق لأنه إزالة ملك.
قال: [ويطلق واحدة]
أي الوكيل، فليس له أن يطلق أكثر من واحدة، وذلك لأن الأمر المطلق يتناول ما يصدق عليه الاسم، ثم إن الطلاق ثلاثاً بلفظٍ واحدٍ محرمٌ، فليس له فعله.
قال: [ومتى شاء]
ولو كان بعد شهرٍ أو شهرين أو سنة، وذلك لأن التوكيل فيه إطلاق، فقد أطلق هذا الموكِّل توكيله فقال: " وكلتك أن تطلق امرأتي "، ولم يوقت له وقتاً، فكان هذا التوكيل غير مؤقت، فلو طلق بعد سنة أو سنتين فإن الطلاق يقع ما لم يرجع عن التوكيل، فإذا قال: رجعت عن توكيلك فذلك جائزٌ، فللزوج الرجوع في التوكيل كسائر الوكالات، وقد تقدم في باب الوكالة.
فإن طلق الوكيل وادعى الزوج أنه قد رجع في هذه الوكالة فما الحكم؟
المشهور في المذهب: أنه يقبل قول الزوج.
وعن الإمام أحمد: أنه لا يقبل قوله إلا ببينة تدل على أنه قد رجع قبل إيقاع الطلاق، واختار هذا شيخ الإسلام وهو القول الراجح كسائر الوكالات، ففي سائر الوكالات لا يقبل ادعاؤه الرجوع بعد فعل الوكيل الوكالة إلا ببينة، وهنا كذلك.
قال: [إلا أن يعين له وقتاً]
فإذا قال له: " وكلتك أن تطلق امرأتي اليوم " فطلق غداً فلا يقع الطلاق؛ لأن هذه الوكالة قد جعل لها وقتاً.
قال: [وعدداً]
فإذا قال له: " وكلتك أن تطلق طلقتين "، فليس له أن يزيد على ذلك.
قال: [وامرأته كوكيله في طلاق نفسها]
إذا وكل امرأته بالطلاق فقال: " فوضت إليكِ أمر نفسك "، فكذلك لأنه يجوز له أن يتصرف في الطلاق فجاز له أن يوكل به.
فائدة:


ذكر شيخ الإسلام أن طلاق الفضولي كبيعه، أي موقوف على الإجازة، فإذا جاء أجنبي فقال لزوجة فلان: " أنت طالق من زوجك " فأجاز الزوج فأمضى، [فـ]ـذلك كبيع الفضولي.

الدرس الرابع والأربعون بعد الثلاثمائة
فصل
هذا الفصل في الطلاق سنيّه وبدعيّه
قال: [إذا طلقها مرة في طهر لم يجامع فيه، وتركها حتى تنقضي عدتها فهو سنّةٌ]
إذا طلقها مرة فقال: " أنت طالق " في طهر لم يجامعها فيه بمعنى حاضت المرأة فطهرت وتطهرت فطلقها ولم يجامعها، هذا هو طلاق السنة بالإجماع، قال تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} (1) ، وفي الصحيحين أن ابن عمر طلق امرأته وهي حائض في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (مره فليراجعها ثم ليمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء فليمسك بعد، وإن شاء فليطلق قبل أن يمس فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النساء) (2) ، وثبت في النسائي بإسنادٍ صحيح عن ابن مسعود قال: " طلاق السنة أن يطلقها طاهراً من غير جماع " (3) ، لكن يستثنى من ذلك ما دل عليه حديث ابن عمر وهو مستثنى عند فقهاء الحنابلة، وهو ما إذا طلقها وهي حائض فإنه يؤمر بمراجعتها، فإذا طهرت من حيضها فلا يطلقها بل ينتظر حتى تحيض ثم تطهر وبعد ذلك يطلقها إن شاء كما دل على ذلك
__________
(1) سورة الطلاق.
(2) أخرجه البخاري في بداية كتاب الطلاق، باب قول الله تعالى: {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء} (5251) ، وأخرجه مسلم برقم (1471) .
(3) أخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب طلاق السنة (3395) قال: " أخبرنا عمرو بن علي قال حدثنا يحيى عن سفيان عن أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن عبد الله قال: " طلاق السنة أن يطلقها طاهراً في غير جماع "، وأخرجه برقم (3394) بلفظ: " أنه قال: طلاق السنة تطليقة وهي طاهر في غير جماع، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى، فإذا حاضت وطهرت طلقها أخرى ثم تعتد بعد ذلك بحيضة "


حديث ابن عمر.
قال: [فتحرم الثلاث إذاً]
أي إذ هي طاهر لم تجامع فيه، فإذا طلقها ثلاثاً بكلمة واحدة أو بكلمات في مجلسٍ واحد أو في مجالس، ولم يكن هذا الطلاق المكرر بعد رجعة ولا بعد عقد فهذا محرم، وذلك كأن يقول: " أنت طالق ثلاثاً " أو يقول: " أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق "، سواء كان ذلك في مجلس واحد كما في المثالين السابقين، أو كان بأكثر من مجلس، بأن قال لها في مجلس يوم السبت: " أنت طالق " ولم يراجعها فلما جاء يوم الأحد قال لها " أنت طالق " أي طلقة ثانية فلما جاء يوم الاثنين قال: " أنت طالق " أي ثالثة وليس الثانية بعد رجعة ولا عقد، وكذلك الثالثة فهذا كله محرم.


ودليل ذلك ما روى النسائي والحديث صحيح من حديث محمود بن لبيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " أخبر عن رجلٍ طلق امرأته بثلاث تطليقات جميعاً " فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو غضبان فقال: (أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم) (1) ، واللعب بكتاب الله محرم، ولأن الطلاق الوارد في الشرع إنما أن يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها ثم يراجعها ثم يطلقها، ولذا قال تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} وقال سبحانه وتعالى: {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً (2) } ، أي الرجعة وهذا الطلاق – أي طلاق الثلاث – ليس بعده رجعة فكان محرماً، وهذا مذهب جمهور العلماء.
__________
(1) أخرجه النسائي في كتاب الطلاق، باب الثلاث المجموعة وما فيه من التغليظ (3401) قال: " أخبرنا سليمان بن داود عن ابن وهب قال أخبرني مخرمة عن أبيه قال: سمعت محمود بن لبيد قال أخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً فقام غضباناً ثم قال: (أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم) حتى قام رجل وقال: يا رسول الله ألا أقتله ". وسليمان هو: ابن داود بن حماد المهري أبو الربيع المصري ابن أخي رشدين ثقة كما في التقريب. وابن وهب: هو عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي أبو محمد المصري الفقيه، ثقة حافظ عابد كما في التقريب. ومخرمة: هو ابن بكير بن عبد الله بن الأشج أبو المسور المدني، صدوق، وروايته عن أبيه وجادة من كتابه، قاله أحمد وابن معين وغيرهما كما في التقريب، وقال ابن المديني: سمع من أبيه قليلاً ". وأبوه هو: بكير بن عبد الله الأشج مولى بني مخزوم أبو عبد الله أبو أبو يوسف المدني نزيل مصر ثقة من الخامسة كما في التقريب، وانظر تهذيب الكمال [4 / 242] . فعلى ذلك الإسناد حسن.
(2) سورة الطلاق.


وقال الشافعية وهو رواية عن الإمام أحمد: هو جائز واستدلوا بحديث عويمر العجلاني في قصة الملاعنة وفيه أنه قال: " كذبت عليها أن أمسكتها هي طالق ثلاثاً " (1) ، واستدلوا بما ثبت في الصحيحين عن أم رفاعة قالت للنبي - صلى الله عليه وسلم -:أن أبا رفاعة بت طلاقي " (2) ، قالوا؛ فهذا يدل على جوازه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكره.
والقول الأول هو الراجح.
والجواب عما استدل به الشافعية:
أما الدليل الأول: فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على عويمر لأن هذا اللفظ لا فائدة منه ولا قيمة له وذلك لأن الملاعنة يثبت معها البينونة الكبرى، فيفرق بين المتلاعنين تفرقاً لا اجتماع بعده، وأما حديث أم رفاعة (3) ففي رواية مسلم أنها قالت " طلقني آخر ثلاث تطليقات "، فدل على أنه لم يقل: " هي طالق ثلاثاً "، فالصحيح أن الطلاق ثلاثاً محرم.
واختلف أهل العلم هل يقع ثلاثاً أم لا؟ على قولين:
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب اللعان ومن طلق بعد اللعان (5308) ولفظه فيه: " قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله إن أمسكتها، فطلقها ثلاثاً قبل أن يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "، وأخرجه مسلم (1492) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب من أجاز طلاق الثلاث (5260) ولفظه: " أن عائشة أخبرته: أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.. إن رفاعة طلقني فبت طلاقي وإني نكحت.. " وأخرجه مسلم (1433) .
(3) كذا في المذكرة – الأصل -، ولعل الصواب: امرأة رفاعة.


القول الأول، وهو مذهب جماهير العلماء وهو قول الفقهاء الأربعة وعليه فتوى أئمة الدعوة النجدية: أن هذا الطلاق واقع ثلاثاً، واستدلوا بفعل عمر، وفي مسلم عن ابن عباس قال: " كان الطلاق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من عهد عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر – إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضيناه عليهم - فأمضاه عليهم " (1) ، قالوا: لأنه قد طلق ثلاثاً فقد تلفظ بالطلاق ثلاثاً فأوقعناه عليه كذلك.
القول الثاني، وهو قول طاووس وعكرمة من التابعين وهو مذهب أهل الظاهر واختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو قول طائفة من أصحاب أحمد وطائفة من أصحاب مالك وطائفة من أصحاب أبي حنيفة، قالوا: الطلاق لا يقع ثلاثاً بل واحدة ".
واستدلوا بالحديث المتقدم، قالوا: كان طلاق الثلاث على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وسنتين من عهد عمر طلاق الثلاث واحدة فهذا هو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وفعل أبي بكر وفعل عمر في بعض خلافته.
واستدلوا: بما روى أحمد في مسنده وصححه وجوّد إسناده شيخ الإسلام: أن أبا ركانة طلق امرأته في مجلس واحدٍ ثلاثاً فحزن عليها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " إنها واحدة " (2) .
واستدلوا: بأن الشارع قد نهى عنه والنهي يقتضي الفساد، هذا هو القول الراجح.
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب طلاق الثلاث (1472) .
(2) رواه أحمد في المسند (2387) ، ورواه أبو داود (2196) في كتاب الطلاق، باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث بلفظ آخر وفيه: " فجعلها النبي - صلى الله عليه وسلم - واحدة ".


وأجابوا عما استدل به أهل القول الأول: أن فعل عمر رضي الله عنه اجتهاد منه وكل يؤخذ من قوله ويرد، والعذر له في مخالفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر: هو أنه قد جعل هذا من باب التعزير وهو سائغ للإمام، كما عزر في جلد شارب الخمر ثمانين وكان يجلد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وذلك أن الناس لما أكثروا من شرب الخمر وأظهروا ذلك عُزِروا بجعل الحد ثمانين، كذلك هنا فإن الناس لما استهانوا بهذا الأمر المحرم وأكثروا منه عزرهم بذلك وأمضاه عليهم.
إذن الطلاق الذي يقع هو الذي يكون بعد الرجعة؛ كأن يطلق امرأته ثم يراجعها ثم يطلقها، فهذه طلقة معتبرة.
أو طلقها فلما انقضت عدتها راجعها أي تزوجها بعقد جديد ثم طلقها فهذه الطلقة معتبرة أيضاً.
[واختار الشيخ عبد العزيز رحمه الله؛ عدم الوقوع إذا كان بكلمة واحدةٍ نحو أنت طالق ثلاثاً أو مطلقة بالثلاث أو هي طالق بالثلاث.
وأما إذا كرره على وجهٍ يغاير فإنه يقع نحو أنت طالق وطالق وطالق أو أنت طالق ثم طالق ثم طالق أو أنت طالق أنت طالق أنت طالق، إلا إذا أراد بالثاني والثالث التأكيد أو إفهام المرأة فله نيته.


أما لو قال أنت طالق طالق طالق فهي واحدة لأنه من باب التأكيد وفي الحديث - أبي ركانة - عند أبي داود: " والله ما أردت بها إلا واحدة فردها عليه " وهذا القول أصح.] (1)
__________
(1) ما بين القوسين غير موجود في الأصل، وإنما قاله الشيخ في شرحه لأخصر المختصرات، قال حفظه الله تعالى: " والصواب في هذه المسألة: ما اختاره الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، وأن قول القائل في مجلس واحد: أنتِ طالق ثلاثا، هذا لا يقع إلا واحدة، وأما إن قال: أنتِ طالق وطالق وطالق، أو قال: أنتِ طالق ثم طالق ثم طالق – هذا بالعطف –، أو قال معيداً للجملة: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، أو قال: أنتِ مطلقة، أنتِ مطلقة، أنتِ مطلقة – فأعاد الجملة -، فهنا يقع ثلاثا، إلا أن يقصد إفهامها أو التأكيد. إذاً: إن قال أنت طالق ثلاثا، بكلمة واحدة، فحينئذ الطلاق لا يقع إلا واحدة. قال: وهذا هو ظاهر الأحاديث، في حديث مسلم: " كان الطلاق على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر طلاق الثلاث واحدة " قال: طلاق الثلاث، بأن يقول: أنتِ طالق ثلاثا، أو: أنتِ طالق بالثلاث، وأيضا حديث رُكانة المتقدم، فإن فيه: أنه طلق امرأته ثلاثا في مجلس واحد "، وعند أبي داود من وجه أحسن منه – كما قال الحافظ ابن حجر رحمه الله -: أنه قال: والله يا رسول الله، ما أردتُ إلا واحدة، فردّها إليه "، فدل على: أنه، إما أنه قال: أنت طالق ثلاثا، أو قال: أنت طالق وطالق وطالق، وأراد بالاثنتين إفهامها، أو التأكيد، ولذا قال: " والله ما أردت إلا واحدة "، فيُدَيَّن فيما بينه وبين ربه – يعني إذا قال الرجل: أنت طالق ثم طالق ثم طالق، فنقول: ما الذي أردت من قولك " ثم طالق ثم طالق "؟ إن قال: أردت التأكيد، أو أردت إفهامها، فنقول: هي واحدة. وإن قال: لا، أنا أردت البتة – أردتُ أن أبُتَّ طلاقها -، فنقول: هي طالق ثلاثا. وكذلك إذا قال: أنتِ طالق وطالق وطالق، فإن قال: أريد إفهامها، أو: أريد التأكيد، فنقول: لا تقع إلا واحدة. وهذا القول هو القول الراجح في هذه المسألة.
وأما إن قال: أنتِ طالق، طالق، طالق، هنا لم يأت بالعطف، لم يقل: " و "، ولم يقل: " ثم "، ولم يكرر الجملة بإعادة المبتدأ، وإنما قال: أنتِ طالق، طالق، طالق، فهذا ظاهره أنه طلاق واحد، كما هو أصح القولين، وهو اختيار كثير من أهل العلم ممن يوقع الطلاق الثلاث ثلاثا، لكن يقول: أنتِ طالق، طالق، طالق، هذا ظاهره التأكيد، لأنه من المعروف أن الكلمة إذا أُعيدت بلا عاطف، فهي ظاهرة في التأكيد، إلا أن يكون في نيته إيقاع الطلاق ثلاثا. إذاً: إذا كرر، فقال: أنت طالق، طالق، طالق، فنقول: هذه طلقة واحدة، إلا أن يكون قد نوى في التكرار خلاف الظاهر، فإذا نوى خلاف الظاهر، فإنما الأعمال بالنيات. هذا القول هو القول الراجح في هذه المسألة، وعلى ذلك: فالذي يستثنى من الطلاق الثلاث قوله " أنتِ طالق ثلاثا " أو " بالثلاث " أو " مطلقة بالثلاث " بكلمة واحدة، أو قوله " أنتِ طالق، طالق، طالق " أو قوله " أنتِ طالق ثم طالق ثم طالق " أو " أنتِ طالق وطالق وطالق "، وينوي إفهامهما أو التأكيد. ".


قال: [وإن طلق من دخل بها في حيض، أو طهرٍ وطئ فيه فبدعة يقع]
هذا أيضاً طلاق بدعي، إذن النوع الأول من الطلاق البدعي الطلاق ثلاثاً، والنوع الثاني هو الطلاق في الحيض، والنوع الثالث أن يطلقها في طهر وطئها فيه، ويدل على ذلك حديث ابن عمر المتفق عليه وقد تقدم.
وطلاق الحائض يقع، وهو مذهب جماهير العلماء، وأن الطلاق في الحيض يقع، وكذلك في طهر جامعها فيه، فهو طلاق بدعة ومحرم لكنه يقع.
والقول الثاني في المسألة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو مذهب أهل الظاهر: أن الطلاق لا يقع، واستدلوا بما روى أبو داود في سننه من حديث أبي الزبير عن ابن عمر سماعاً قال: " ولم يرها شيئاً " (1) أي لم ير تلك التطليقة التي طلقها ابن عمر في الحديث المتقدم – وكان قد طلقها وهي حائض – لم يرها شيئاً. وقالوا: لأن طلاق الحائض أو في طهر جامعها فيه طلاق محرم منهي عنه والنهي يقتضي الفساد.
وأما جمهور العلماء، فاستدلوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (مره فليراجعها) (2) ، قالوا: والرجعة إنما تكون بعد الطلاق.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب في طلاق السنة (2185) ولفظه: " قال عبد الله: فردها عليّ ولم يرها شيئاً ".
(2) متفق عليه.


وهذا الاستدلال فيه نظر؛ وذلك أن الرجعة تسمى رجعة حيث كانت بعد الطلاق في عرف الفقهاء، وأما في عرف الشرع فلا يتعين هذا، والدليل قول الله تعالى: {فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله} (1) ، وهذا التراجع بعد أن تنكح زوجاً غيره وهو ليس مسبوق بطلاق بل هو عقد جديد، لكن الاستدلال القائم هو ما ثبت في البخاري عن ابن عمر أنه قال: " وحسبت علي بتطليقة " (2) ، وفي مسند الطيالسي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (وهي واحدة) ، وفي الدارقطني بإسنادٍ صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليحتسب تلك التطليقة التي طلقها أول مرة) ، وقد بوب البخاري على حديث ابن عمر باباً فقال: " باب إذا طُلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق "، وهذا القول الراجح وذلك لقوة أدلته، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - حسبها تطليقة.
والجواب عن أدلة أهل القول الثاني: فالجواب عن رواية أبي الزبير عن ابن عمر: " ولم يرها شيئاً "، فالجواب عليها من وجهين:
أنها منكرة، قال الخطابي: " قال أهل الحديث لم يروِ أبو الزبير حديثاً أنكر من هذا "، وقال ابن عبد البر في رواية أبي الزبير هذه قال: " هو منكر لم يقله غير أبي الزبير " أي هذا القول منكر، قال أبو داود: والأحاديث كلها تخالف ما قال أبو الزبير، وفي الصحيحين أن ابن عمر قيل له: أفاحتسبت بتلك التطليقة، قال: " فمه! ، مالي لا أعتد بها أرأيت إن عجزت أو استحمقت " (3) .
__________
(1) سورة البقرة.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب إذا طلقت الحائض.. (5253) ولفظه: " قال: حسبت علي بتطليقة ".
(3) أخرجه البخاري في باب إذا طلقت الحائض تعتد بذلك الطلاق (5252) ، وأخرجه مسلم (1471) .


الوجه الثاني وهو أولى من تغليط الراوي كما قال ابن حجر أن قوله: " لم يرها شيئاً " أي لم يرها شيئاً صواباً مستقيماً بل هي شيء خاطئ وإن كان يعتد به ويحسب ولذا أمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يراجعها، ولا شك أن حمل قول الراوي على موافقة غيره من الرواة أولى من جعله مخالفاً، فيحكم عليه بالشذوذ أو الإنكار.
وأما أن النهي يقتضي الفساد، فهذا يخالف النص الوارد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا يعبأ به، ثم يقال إن الطلاق إزالة عصمة فيها حق آدمي فكيفما أوقعه وقع، لأنه ليس من العبادات بل فيه إزالة عصمة فيها حق آدمي فكيفما أوقعه وقع سواءً كان آثماً أو مأجوراً وهذا مذهب عامة أهل العلم.
واختلف أهل العلم في العلة من المنع من طلاق الحائض:
1.فذهب أكثر الحنابلة إلى أن العلة هي تطويل مدة العدة، لأنه إذا طلقها في الحيض، فإنه لا تحتسب هذه التطليقة، بل تنتظر حتى تطهر ثم تحيض، فيكون في ذلك تطويلاً لعدتها.
2.وقال أبو الخطاب من الحنابلة: العلة أنه في زمن رغبةٍ عنها والشارع متشوف إلى إبقاء النكاح، والمرأة في زمن النكاح (1) يكون زوجها في رغبة عنها فربما طلقها.
والذي يظهر أن العلة هي اجتماع هاتين العلتين، فالعلة هي تطويل العدة ولما فيه من طلاقها في زمن يرغب عنها به، بدليل أن الشارع نهى عن طلاق المرأة في الطهر الذي قد جومعت فيه مع أنه ليس فيه تطويل لعدتها لكن لرغبته عنها بعد قضاء وطره منها.
واختلفوا هل هذا لحق الله أو لحق المرأة؟
فإذا قلنا إنه لحق المرأة فإذا سألته المرأة الطلاق فطلقها في الحيض فليس بمحرم لأنها قد أسقطت حقها، أو سألته الطلاق في طهر قد جامعها فيه فأجابها إلى ذلك أو استأذنها في ذلك فإنه لا إثم، وجهان في المذهب.
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: الحيض.


والأرجح أنه لحق الله تعالى، وهو ظاهر الكتاب والسنة ولذا النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستفصل من ابن عمر هل أذنت بذلك وأسقطت حقها أم لا.
قال: [ويسن رجعتها]
الرجعة سنة، فإذا طلقها وهي حائض أو في طهر جومعت فيه فيستحب له أن يراجعها، لحديث ابن عمر المتقدم فإنه قال: (مره فليراجعها) ، وهذا هو مذهب جمهور العلماء.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب المالكية ورواية عن الإمام أحمد: أنه تجب مراجعتها إذا طلقها وهي حائض، وهو أحد الوجهين في المذهب في الطاهر التي جومعت، وهذا القول هو الراجح لظاهر حديث ابن عمر المتقدم: (مره فليراجعها) ، وظاهر الأمر الوجوب.
قال: [ولا سنة ولا بدعة لصغيرة وآيسة وغير مدخولٍ بها ومن بان حملها]
لا سنة ولا بدعة لا في عدد ولا في زمن لصغيرة، فالصغيرة لا تحيض فإذا طلقها في أي حال كان فلا بدعة وذلك لأن عدتها الأشهر وليس عدتها الأقراء، وعليه فليس في طلاقها ما يكون بدعة، كذلك الآيسة التي لا تحيض لأنها لا تعتد بالأقراء كذلك غير المدخول بها لأنها لا عدة لها، فإذا عقد على امرأة ولم يدخل بها فيجوز له أن يطلقها وهي حائض فهذا الطلاق ليس بدعي لأنها لا عدة لها، وكذلك المرأة إذا بان حملها بمعنى ظهر فيها الحمل فطلقها وهي حامل فليس فيه ما يسمى بالطلاق البدعي وذلك لأن عدتها وضع حملها فلا يعتد بالأقراء، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد.
وهنا مسألتان: ما يتعلق بالزمن وما يتعلق بالعدة:
أما ما يتعلق بالزمن فهو مُسَلَّم وذلك لما تقدم من التعليل السابق، وذلك لأن منهن من لا عدة لها ومنهن من عدتها في غير الحيض، وعليه فليس ثمت طلاق بدعي من جهة الزمن.
أما ما يتعلق بالعدد – وهي المسألة الثانية – فما ذكره المؤلف هو المشهور في المذهب.


- وعن الإمام أحمد وهو اختيار الموفق: أنه من حيث العدد فيه البدعة، وهذا ظاهر جداً، فإذا طلق الصغيرة ثلاثاً فإن هذا الطلاق محرم لنهي الشارع عنه، وليس له تعلق بالحيض، وهي إنما افترقت عن النساء اللاتي لا يحضن بأنها لا تحيض وهذا متعلقه الزمن وأما العدة فلا متعلق له هنا، وعليه فطلاق الآيسة ثلاثاً - أو طلاق الصغيرة أو غير المدخول بها أو من بان حملها - ثلاثاً طلاق بدعي محرم.

الدرس الخامس والأربعون بعد الثلاثمائة
قال المؤلف رحمه الله: [وصريحه]
أي صريح الطلاق.
اعلم أن عامة أهل العلم على أن من لم يتلفظ بالطلاق وقد نواه بأنه لا يقع، ويدل عليه ما ثبت في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم) (1) ، وكذا لو نواه وأشار بإشارة تدل عليه فإنه لا يقع الطلاق.
وأما لو كان أخرساً وأشار إشارةً مُفْهِمةً فإن الطلاق يقع بذلك بلا خلاف، وذلك لأن الأخرس إشارته تقوم مقام نطقه.
كذلك إن كتب الطلاق في ورقةٍ قاصداً الكتابة فإن الطلاق يقع بذلك، وذلك لأن الكتابة حروف تُفهم الطلاقَ فأشبهت النطق، أما لو كتبه على هواء أو على شيء من ثوبه ونحو ذلك ولم يكن ذلك بالقلم فإن ذلك لغو لا يقع معه الطلاق.
قال: [وصريحه لفظ الطلاق وما تصرف منه غير أمرٍ ومضارعٍ، ومطلِّقةٌ اسم فاعل]
صريح الطلاق لفظ الطلاق، ومتى قلنا إن هذا اللفظ صريح فلا تشترط النية، بل يقع الطلاق بمجرد التلفظ بهذا اللفظ.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب الطلاق في الإغلاق والكره (5269) عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم " قال قتادة: إذا طلق في نفسه فليس بشيء "، وأخرجه مسلم (127) .


وأما الكناية فإن الطلاق لا يقع معها إلا إذا كان ثمة نية أو قرينة، فإذا تلفظ بلفظ من كناية الطلاق وقال: أنا لم أنو فإن الطلاق لا يقع إلا إذا كان مقام النية قرينة، كأن يتلفظ بها في غضب أو نحو ذلك.
وأما الألفاظ التي ليست بصريحة في الطلاق ولا كناية فإن الطلاق لا يقع وإن نواه كأن يقول " أقعدي " أو " كلي " أو نحو ذلك وينوي الطلاق فلا يقع الطلاق، وذلك لأن هذا اللفظ ليس بصريح فيه ولا بكناية فكما لو نوى بلا لفظ.
إذن الألفاظ ثلاثة أنواع:
لفظ هو صريح في الطلاق، فيقع الطلاق به ولو لم ينوِ.
لفظ هو كناية في الطلاق فيقع الطلاق معه عند النية أو القرينة.
ألفاظ ليست بصريحة ولا بكناية، كقوله: " اقعدي " وينوي الطلاق فهنا لا طلاق وإن نواه كما لو نوى ولم يتلفظ.
وصريح الطلاق لفظ الطلاق وما تصرف منه كقوله: " أنت طالق " أو " عليك الطلاق " أو قال " قد طلقتك " أو " أنت مطلَّقة " ونحو ذلك.
" غير أمر ": كقوله " اطلقي ".
" أو مضارع ": كقوله " تطلقين ".
" ومطلّقة اسم فاعل ":، فهذه ليست من صريح الطلاق.
إذن صريحه لفظ الطلاق وما تصرف منه سوى الأمر والمضارع واسم الفاعل هذا هو المشهور في المذهب.
وذهب الشافعية وهو قول لبعض أصحاب الإمام أحمد: أن صريحه ثلاثة ألفاظ " الطلاق " و " السراح " و " الفراق "، فإذا قال لها: " قد سرحتك أو قد فارقتك "، فهو من صريح الطلاق، قالوا: لأن السراح والفراق قد وردا في الشرع على الطلاق، قال تعالى: {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} (1) وقال: {وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته} (2) .
__________
(1) سورة البقرة 229
(2) النساء 130.


وأجاب أهل القول الأول عن هذا الاستدلال، قالوا: نحن لا ننازع في أن السراح والفراق يطلقان على الطلاق ولكن ننازع في أنهما صريحان منه بأن يكونا من ألفاظ الطلاق التي لا يفهم منها إلا الطلاق إلا باحتمال بعيد، قالوا: وهذان اللفظان يطلقان على الطلاق ويطلقان على غيره فكان من كنايات الطلاق.
وقال بعض أهل العلم وهو القول الراجح في هذه المسألة وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، واختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي، قالوا: مرجع هذا إلى العرف، فليس صريح الطلاق ولا كنايته محصوراً بألفاظ محدده بل كل لفظ لا يحتمل إلا الطلاق فهو صريح في الطلاق، وكل لفظ يحتمل الطلاق ويحتمل غيره فهو كناية فيه، والأعراف في هذا تختلف اختلافاً بيِّناً فقد يكون اللفظ عند قوم من صريح الطلاق، ويكون عند آخرين من كنايته وهذا القول الراجح في هذه المسألة.
قال: [فيقع به وإن لم ينوه]
فإذا قال رجل لامرأته: " أنت طالق " وادعى أنه لم ينوِ ذلك فلا يقبل منه ذلك بل تكون المرأة طالقاً؛ وذلك لأن هذا صريح لفظه فلا عبرة بنيته، وإنما يعامل بما يقتضيه ظاهر لفظه.
قال: [جادٌ أو هازلٌ]


أي وإن كان هازلاً فإن الطلاق يقع، وهو مذهب عامة أهل العلم، ودليلهم ما روى الأربعة إلا النسائي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاثة جدهن جد وهزلهن جد، النكاح، والطلاق، والرجعة) (1) ، وله شاهد مرسل عن الحسن عند أبن أبي شيبة، وشاهد موقوف عند ابن أبي شيبة عن أبي الدرداء، وعليه العمل عند أهل العلم كما قال ذلك الترمذي وحكى القول به إجماعاً ابن المنذر.
قال: [فإن نوى بطالقٍ من وثاق أو في نكاحٍ سابق منه أو من غيره أو أراد طاهراً فغلط لم يقبل حكماً]
لما قال طالق قال: إنما نويت أنها طالق من وثاق أي من قيد أو في نكاح سابق منه أو من غيره أي قال لها: طالق في طلاق طلقها إياه من سنة أو هي طالق من زوجها الأول الذي قد طلقها قبله، أو قال: أردت أن أقول لها أنت طاهر فقلت لها أنت طالق لم يقبل حكماً في المشهور من المذهب.
وعن الإمام أحمد: أنه يقبل حكماً.
والأظهر أنه لا يقبل حكماً، وذلك لأنه يعامل بما يقتضيه لفظه هذا في الحكم.
لكن هل يقبل فيما بينه وبين ربه؟
الجواب: نعم فيُديَّن بنيته فيما بينه وبين ربه أي يجعل نيته ديناً بينه وبين ربه فإذا كان يعلم من نفسه الصدق فإن الطلاق لا يقع في الباطن.
إذاً: هل يقع الطلاق في الظاهر؟
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب في الطلاق على الهزل (2194) قال: " حدثني القعنبي حدثنا عبد العزيز يعني ابن محمد عن عبد الرحمن بن حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن ابن ماهك عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والرجعة) . وأخرجه ابن ماجه في الطلاق باب من طلق أو نكح أو راجع لاعباً 2039، والترمذي في الطلاق باب في الجد والهزل في الطلاق 1184، سنن أبي داود [2 / 644] .


الجواب: نعم يقع، فإذا ترافعا إلى القاضي فإن القاضي يحكم بالطلاق، لأن القاضي يحكم بما ظهر، وقد ظهر للقاضي فيه الطلاق فقد تلفظ بما يقتضي الطلاق، لكن في الباطن أي إن لم يترافعا إلى القاضي فهل يوقع على نفسه الطلاق أم لا؟
إن كان يعلم من نفسه الصدق وأنه لم ينو الطلاق بل قد غلط ونحو ذلك فإن الطلاق لا يقع، هذا كله حيث لا قرينة، أما إن كان هناك قرينة تدل على أنه قد نوى الطلاق فإن الطلاق يقع قولاً واحداً.
فمثلاً: رجل غضب على امرأته ثم قال: أنت طالق، وقال أنا أردت أن أقول: هي طاهر، فهذا لا يقبل منه؛ وذلك لأن القرينة تكذب دعواه، أو قال هي طالق مني قبل ذلك أو طالق من زوج آخر ولم تطلق منه البتة ولم تطلق من زوج آخر قبله البتة، فحينئذٍ يقع بذلك طلاقاً حتى فيما بينه وبين ربه ولا خلاف في ذلك.
فالخلاف المتقدم هل يقبل قوله في الحكم أم لا؟ هذا كله حيث لا قرينة تدل على أنه قد نوى الطلاق.
قال: [ولو سُئل أطلقت امرأتك فقال: نعم، وقع]
فلو أن رجلاً سُئل فقيل له: أطلقت امرأتك فقال: نعم، فإن الطلاق يقع، وذلك لما تقدم من أن المذكور في السؤال كالمعاد في الجواب، فكما لو قال: نعم طلقتها.
إذن صريح الطلاق يكون أولاً: بلفظ الطلاق في المشهور من المذهب.
وثانياً: بالجواب الصريح باللفظ.
وثالثاً: ولم يذكره المؤلف، إذا عمل عملاً وقال للمرأة هو طلاقك، كأن يخرج امرأته إلى أهلها ويقول هذا طلاقك، فهل يقع الطلاق بهذا أم لا؟
المشهور في المذهب أن الطلاق يقع ويكون صريحاً فيه، قالوا: والتقدير كأنه يقول: أوقعت عليك الطلاق، وهذا الفعل – وهو الإخراج من المنزل – من أجله.
القول الثاني في المسألة، وهو مذهب أكثر الفقهاء: أن هذا العمل منه ليس صريحاً في الطلاق ولا كناية وعليه فلا يقع.


القول الثالث في المسألة، وهو اختيار الموفق ابن قدامة: أنه من كنايات الطلاق، وهذا القول أظهر، والذي يدل على هذا أن هذا الفعل منه يحتمل الطلاق وليس صريحاً بدلالة احتياجنا إلى التقدير المتقدم فلو كان صريحاً لما احتجنا إلى التقدير المتقدم.
رابعاً: في المذهب، إذا أشركها مع من صرح بطلاقها، إذا قال لامرأته الثانية وقد طلق الأولى: " قد شاركتك في طلاق أختك "، أي في طلاق زوجتي الأولى، فهذا من الطلاق الصريح.
خامساً: كل لغة من اللغات يتلفظ بها الشخص وهو يفهم المعنى، فإذا تلفظ الفارسي بكلمة في الفارسية هي صريحة في الطلاق فإن الطلاق يقع مع ذلك، وأما إذا تلفظ بلفظ من ألفاظ الطلاق بلغة ما وهو لا يفهم المعنى من هذا اللفظ فإن الطلاق لا يقع وذلك لأنه غير مختار للطلاق، فهو غير مختار للفظ وغير مريد له فأشبه المكره.
قال: [أو ألك امرأةٌ فقال: لا، وأراد الكذب فلا]
فلو سُئل ألكَ امرأةٌ فقال: لا، وأراد الكذب فلا يقع الطلاق وذلك لأن هذا القول منه كناية والكناية تحتاج إلى نية.

فصل
هذا الفصل في كنايات الطلاق، وله كنايتان:
كناية ظاهرة: وهي الألفاظ التي يفهم منها البينونة.
كناية خفية: هي الألفاظ التي لا يفهم منها البينونة.
قال: [وكنايته الظاهرة نحو أنت خليةٌ، وبريةٌ، وبائنٌ، وبتةٌ، وبتلةٌ، وأنت حرةٌ وأنت الحرجُ]
بتلةٌ: البتلة مقطوعة الوصل أي مقطوعة الوصل مني، قوله: " أنت حرج " أي أنت الإثم والحرام، بمعنى أنت حرام علي، أو قال: " لا سبيل لي عليك " أو " حبلك على غاربك " أو " تقنعي مني " أو " غطي شعرك " أو نحو ذلك.
قال: [والخفية نحو اخرجي، واذهبي، وذوقي، وتجرَّعي، واعتدي، واستبرئي، واعتزلي، ولست لي بامرأةٍ، والحقي بأهلك، وما أشبهه]


تجرعي: أي تجرعي مرارة الطلاق والفراق والطلاق، وقد تقدم اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن مرجع ذلك إلى العرف في الصريح والكناية.
قال: [ولا يقع بكناية ولو ظاهرة طلاق إلا بنية مقارنة للفظ]
فالكناية لا يقع معها الطلاق إلا بالنية أو دلالة الحال، لا فرق في هذا الحكم بين الكناية الظاهرة والكناية الخفية.
وقول المؤلف: " ولو ظاهرة ": إشارة إلى خلاف وهو خلاف الإمام مالك ورواية عن الإمام أحمد: أن الكناية الظاهرة يقع معها الطلاق بلا نية، قالوا: لأن الكنايات الظاهرة تستعمل في الطلاق في العرف.
والراجح هو قول الجمهور وذلك لأن هذه الألفاظ تحتمل الطلاق وتحتمل غيره فلم يتعين الطلاق إلا بنية أو قرينة.
قال: [إلا حال خصومة أو غضب أو جواب سؤالها]
الكناية الظاهرة والخفية لا يقع معها الطلاق إلا بنية، فإن كانت هناك دلالة الحال تدل على النية، وقد نفى هو النية كأن يكون ذلك حال خصومة أو غضب.
فمثلاً: رجل قال لامرأته في حال خصومة أو غضب " أنت بائن ولا سبيل لي عليك " ونحو ذلك.
أو كان جواب سؤالها، كأن تقول له: طلقني، فقال: " أنت حرة " أو قال " أنت بتة " فهنا يقع الطلاق وإن قال: " أنا لم أنو "، فذلك لدلالة الحال بأن هذه الألفاظ يظن معها في الأصل الطلاق فلما وجدت دلالة الحال كان الظن قوياً غالباً.
قال: [فلو لم يرده أو أراد غيره في هذه الأحوال لم يقبل حكماً]
فإن لم يرده أو أراد غيره في الأحوال المتقدمة لم يقبل هذا في الحكم، لأن الحكم إنما ينظر فيه للظاهر، وهذه الألفاظ التي تلفظ بها مع قرائن الأحوال تدل في الظاهر على الطلاق، لكن لو كان في الباطن لا يريد ذلك ولم يترافعا للقاضي فإنه يدين بنيته فيما بينه وبين ربه.
قال: [ويقع مع النية بالظاهرة ثلاثٌ]
فلوا أن رجلاً قال لامرأته: " أنت بائن " ونوى الطلاق فإنه يقع ثلاثاً في المذهب، وذلك لأن هذا اللفظ يقتضي البينونة.


قال: [وإن نوى واحدة]
أي وإن قال أنا أنوي واحدة، وذلك لأن لفظه يخالف نيته، والعبرة بالألفاظ الظاهرة في الحكم.
قال: [وبالخفية ما نواه]
فالخفية لا تدل على عدد، فإذا كان قد نوى الطلاق أو كان في حال خصومة أو غضبٍ، فأوقعنا عليه الطلاق فإنها تكون واحدة، وذلك لأن لفظه لا يدل إلا على واحدة.
وهذه المسألة مبنية على المذهب.
والراجح ما تقدم وأن طلاق الثلاث واحدة كما تقدم من اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.

الدرس السادس والأربعون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [وإذا قال: أنتِ علي حرام أو كظهر أمي فهو ظهار]
إذا قال الرجل لامرأته: "أنت علي حرام" فإنه يكون ظهاراً ولو نوى به الطلاق، لكن إن قال " أنت علي حرام " أعني به الطلاق فإنها تطلق به ثلاثاً، وإن قال: أعني به طلاقاً، فواحدة.
لأن قوله الطلاق فيه " أل " التي تفيد الاستغراق فاستغرق ذلك الطلاق كله والطلاق كله ثلاث طلقات، وأما لو قال أعني به طلاقاً، فإن هذا اللفظ وهو قوله " طلاقاً " ليس فيه ما يفيد الاستغراق فيكون طلاقاً رجعياً.
وهذا الحكم – أي كونه ظهاراً –؛ لأن هذا اللفظ صريح في التحريم فكان ظهاراً كما لو قال: " أنت علي كظهر أمي "، بل أولى؛ وذلك لأن قوله " أنت عليّ كظهر أمي " إنما تحرم عليه زوجه باللزوم أي بالنظر إلى تحريم الأم.
وأما قوله لزوجته " أنت على حرام " فقد صرح بتحريمها ولا شك أن هذا منكر من القول وزور، وذلك لأنه ليس له التحليل والتحريم، بل ذلك إلى الله عز وجل.
- وعن الإمام أحمد في قوله " أنت علي حرام أعني به الطلاق " أنه ظهارٌ أيضاً، وذلك لأن هذا اللفظ صريح في الظهار فلا ينتظر منه بيان مراده بقوله " أعني به الطلاق " وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
وأما المذهب فإنه إذا قال: " أنت على حرام أعني به الطلاق "، فإنه يكون طلاقاً وذلك لأن التحريم نوعان:
1. تحريم طلاق 2. وتحريم ظهار


وحيث قال " أعني به الطلاق " فإنه يصرف إليه لأنه هو قائل ذلك فصرف إلى مراده الذي بيَّنه.
والصحيح هو ما اختاره شيخ الإسلام وهو وراية عن الإمام أحمد، وذلك لأن هذا اللفظ صريح في الظهار، فليس فيه احتمال فلا عبرة بتفسيره، كما [لو] قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي أعني به الطلاق " فلا عبرة بقوله بل يقع ظهاراً لأن قوله: " أنت علي كظهر أمي " صريح في الظهار.
وفي المسألة أي مسألة قول الرجل لزوجته " أنت علي حرام " أقوال كثيرة ذكرها ابن القيم في كتابه زاد المعاد، وأوصلها إلى ثلاثة عشر مذهباً، وما ذكرناه هو مذهب الحنابلة وهو أحد المذاهب فيها.
واختار شيخ الإسلام وهو أحد المذاهب المتقدمة وهو القول الراجح في هذه المسألة: أن في المسألة تفصيلاً: فإن قال لامرأته أنت على حرام وأوقعه منجَّزاً أو معلقاً تعليقاً مقصوداً سواء نوى به الطلاق أو لم ينوه، وصله أم لم يصله بقوله " أعني به الطلاق "، فإذا قال: "يا فلانة أنت علي حرام " فهنا قد أوقعه منجزاً، أو أوقعه معلقاً مقصوداً أي يقصد به التحريم، كأن يقول لامرأته: " إن وصل شهر رمضان فأنت علي حرام "، فهنا قد علقه تعليقاً مقصوداً فإنه يكون ظهاراً.
وأما إن كان حلفاً لا يقصد به الإيقاع كأن يقول: " إن فعلت الشيء الفلاني فامرأتي عليّ حرام "، أو قال لامرأته: " أنت علي حرام إن فعلت كذا وكذا " ويقصد من ذلك حثها على الترك وأن تمتنع عن الفعل فهو لا يقصد إيقاع التحريم وإنما يقصد المنع والحث فهي يمين يكفرها.


وهذا جارٍ على قاعدته رحمه الله التي خالف فيها أحمد وغيره وهي أنه يفرق بين الإيقاع والحلف، وقد ثبت في الصحيحين وهذا لفظ مسلم عن ابن عباس قال: (إذا حرّم الرجل امرأته فإنما هي يمين يكفرها) (1) وفي النسائي أنه قال لمن حرم امرأته: " أعتق رقبة " (2) ، ويحمل هذان الأثران اللذان ظاهرهما التعارض على التفصيل المتقدم الذي ذكره شيخ الإسلام، فقوله لمن حرم امرأته " أعتق رقبة "، لأنه أوقع التحريم أو علقه تعليقاً مقصوداً، وأما كونها يمين تكفر، فذلك لأنه لم يرد إيقاع الطلاق وإنما أراد الحث أو المنع وذلك يكون من قبيل الحلف لا من قبيل الإيقاع.
قال: [أو كظهر أمي فهو ظهارٌ، ولو نوى به الطلاق]
إذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " فهو ظهار نوى به الطلاق أم لم ينوه اتفاقاً فإذا قال الرجل لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " وهو ينوي به الطلاق فعامة أهل العلم على أنه ظهار وليس بطلاق وعلى ذلك أنزل الله القرآن، فإن العرب كانوا يرون أن قول الرجل لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " طلاقٌ فخالفهم الله عز وجل في ذلك ولم يعتبر نيتهم وحكم بأن ذلك ظهار ويأتي بيان ذلك في باب الظهار.
قال: [وكذلك ما أحل الله علي حرام]
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب {لم تحرم ما أحل الله لك} (5266) بلفظ: " إذا حرّم امرأته ليس بشيء، وأخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق (1473) .
(2) لم أجده في فهرس بيت الأفكار. هو في النسائي في كتاب الطلاق، باب تأويل قوله عزوجل {يا أيها النبي لم تحرم..} (3366) بلفظ: " عن ابن عباس قال: أتاه رجل فقال: إني جعلت.. قال: كذبت ليست عليك ... عليك أغلظ الكفارة: عتق رقبة ". انترنت / موقع الإسلام بواسطة ردادي.


فإذا قال ما أحل الله علي حرام فهي كمسألة قول " أنت علي حرام " فالمعنى واحد لكن اللفظ مختلف، فإن قوله: " ما أحل الله علي حرام " يدخل في ذلك تحريم امرأته.
قال: [وإن قال: ما أحل الله علي حرام أعني به الطلاق طلقت ثلاثاً، وإن قال: أعني به طلاقاً فواحدة]
فإذا قال: ما أحل الله علي حرام أعني به الطلاق، فإنها تطلق ثلاثاً، لأن لفظة " أل " تفيد الاستغراق فحينئذٍ يوقع عليه الطلاق مستغرقاً وهو طلاق الثلاث وهذا مبني على القول بطلاق الثلاث وقد تقدم أنه قول مرجوح وإذا قال: أعني به طلاقاً فواحدة، لأنه ليس فيه ما يدل على الاستغراق كما تقدم بيانه.
قال: [وإذا قال: كالميتة والدم ولحم الخنزير وقع ما نواه من طلاقٍ، وظهار ويمين، وإن لم ينوِ شيئاً فظهار]
إذا قال لامرأته: " أنت علي كالميتة " أو " كالدم " أو " كالخنزير "، فإنه يقع عليه ما نواه، فإن كان نوى طلاقاً يقع طلاقاً وإن كان نوى ظهاراً وقع ظهاراً وإن كان نوى يميناً وقعت يميناً وإن لم ينوِ شيئاً كان ظهاراً.
وعند الشافعية أنه كقوله: " أنت علي حرام " وهذا هو الراجح، وعليه فما تقدم ترجيحه في المسألة السابقة يقال هنا، فحينئذٍ يكون ظهاراً إن كان يريد إيقاعه وإلا فإنها يمين يكفرها.
قال: [وإن قال حلفت بالطلاق وكذب لزمه حكماً]
إن قال لامرأته: " أنا قد حلفت بالطلاق " ثم بعد ذلك كذّب نفسه، فهل يقع الطلاق أم لا؟
الجواب: نوقعه حكماً؛ وذلك لأن الحكم يتعامل مع المكلفين في الظاهر، وأما في الباطن – أي إن لم يترافعا إلى القاضي وهكذا يكون في الإفتاء – فإنه يديَّن فيما بينه وبين ربه، فإن كان كاذباً فإن المرأة قد وقع عليها الطلاق، وإن كان صادقاً فإن المرأة لا يقع عليها الطلاق، أما إذا رفعت المسألة إلى القاضي، فإنه يحكم بوقوع الطلاق ولا يقبل رجوعه، وذلك لأنه إقرار يتعلق به حق مكلف وهي الزوجة فلم يقبل رجوعه.


قال: [وإن قال أمرك بيدك ملكتْ ثلاثاً، ولو نوى واحدةً]
إذا قال لامرأته " أمرك بيدك "، كأن تسأله الطلاق أو أن يشك في رغبتها به ولا يرغب أن تبقى معه إلا أن تكون تحبه فيقول لها " أمرك بيدك " فحينئذٍ تملك المرأة ثلاث تطليقات لأن هذا اللفظ من الكنايات الظاهرة، وتقدم أن الكنايات الظاهرة يقع بها الطلاق ثلاثاً فتملك المرأة ثلاثاً ولو نوى واحدة وذلك لأن هذا هو مقتضى لفظه.
قال: [ويتراخى]
فإذا قال لها: " أمرك بيدك " وطلقت نفسها بعد شهرٍ أو شهرين أو بعد سنة، فإن هذا التطليق صحيح، وذلك لأن هذا اللفظ مطلق منه، فيه توكيل المرأة بطلاق نفسها فأشبه توكيل الأجنبي وتقدم الكلام في توكيل الأجنبي.
وذهب جمهور أهل العلم إلى أنه إن قال لها: " أمرك بيدك "، فإنها تملك الطلاق في المجلس، قالوا: لأن الطلاق بيد الزوج وإنما استثني هنا حيث كان ذلك في المجلس.
والراجح مذهب الحنابلة، وذلك لأن هذا توكيل فأشبه توكيل الأجنبي.
ولكن له الرجوع، ولذا قال:-
[ما لم يطأ أو يطلق أو يفسخ]
إذا وطئ المرأة بعد قوله: " أمرك بيدك " أو طلقها أو فسخ هذه الوكالة فقال: " قد رجعت " كل هذا قبل أن تطلق نفسها منه، فإن هذا يعتبر رجوعاً منه والرجوع في الوكالة جائز وهذه وكالة.
وقال المالكية والأحناف: ليس له حق الرجوع، وذلك لأن هذا تمليك منه، فقد ملكها أمر نفسها، وهذا ضعيف وذلك لأن الطلاق لا يُملَّك بل هو توكيل، فالطلاق ملك الزوج لا يملكه غيره أبداً وهذا إنما هو من باب التوكيل، فله أن يرجع، وكل قول كقوله: " فسخت الوكالة " أو فعلٍ كالوطء، يدل على الرجوع فإن الرجوع يثبت معه.
قال: [ويختص اختاري نفسك بواحدة]


أو قال لامرأته: " اختاري نفسك " إن شئت أن تختاري نفسك أو تختاري والديك، فهنا يختص هذا بواحدة، فإذا أوقعته المرأة فقالت: " اخترت نفسي " أو قالت " اخترت والدي " فإنها حينئذٍ تكون طلقة واحدة، قالوا: لأنه تفويض معين، فصدق على أقل المسمى.
وقال المالكية وهو رواية عن الإمام أحمد: بل يكون ثلاثاً؛ وذلك لأن هذا اللفظ فيه إزالة سلطانه عنها، وإزالة سلطة الرجل على المرأة لا تكون إلا بالثلاث، وهذا القول أقوى – من حيث النظر– من الأول، لكن هذا كله مبني على إيقاع الطلاق ثلاثاً، وقد تقدم أن هذا قول مرجوح كما هو اختيار شيخ الإسلام.
قال: [وبالمجلس المتصل]
في المسألة السابقة وهي فيما إذا قال لها: " أمرك بيدك " فإن ذلك يكون على التراخي، وأما هنا فإنه يكون على الفورية ويكون بالمجلس المتصل، أي الذي لم يقطع، أما إذا كان في مجلس ثم حدث قطع للكلام، فإنه لا يقع، فإذا قال لها: "اختاري نفسك " ثم تشاغلا بشيء سواه ثم قالت: " اخترت نفسي " فإن هذا الاختيار لا عبرة له.
إذن: يجب أن يكون على الفور في المجلس الواحد وأن يكون متصلاً، أما لو فصل بقاطع في العرف، فإنه لا يعتد بقولها وذلك لأن هذا من باب الخيار، فهو هنا خيار تمليك، فأشبه الإيجاب والقبول المتقدم، وقد تقدم أن الزوج إذا قال قبلت وكان ذلك في المجلس المنفصل فإنه لا عبرة بهذا القبول فكذلك هنا، فالمقصود أن هذا خيار تمليك وخيار التمليك يكون على الفور.
قال: [ما لم يزدها فيهما]
فإذا قال للمرأة: " اختاري نفسك واحدة شئتِ أو اثنتين أو ثلاثاً " فهنا لو قالت: اخترت نفسي وأن يكون هذا ثلاثاً فإن هذا يعتد به، وذلك لأن هذا حقه وقد رضي بذلك، وأتى بلفظه ما يدل على جواز هذا منها.


كذلك إن قال: " ولك الخيار ما شئت " فلا نقيده بالمجلس المتصل لأن تقييدنا له بالمجلس المتصل مراعاة لحقه باعتبار لفظه، وأما هنا فقد أسقطه بلفظه فقد قال: " ولك الخيار ما شئتِ "، وقد قال - صلى الله عليه وسلم - لعائشة كما في الصحيحين: (إني ذاكر لك أمراً فلا عليك ألا تعجلي حتى تستأمري أبويك) (1) ، وذلك لما خير النبي - صلى الله عليه وسلم - نساءه فاخترنه واخترن الدار الآخرة.
وتخيير الرجل لامرأته بمجرده ليس بطلاق، فإذا قال الرجل لامرأته: " اختاري نفسك " فإن هذا اللفظ بمجرده ليس بطلاق.
وإنما يكون طلاقاً إذا قالت المرأة: " اخترت نفسي" وقالت ذلك في المجلس المتصل، ويدل عليه ما ثبت في مسلم قالت: خيرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم نعده طلاقاً " (2) .
إذن: مراده بقوله " ما لم يزدها " أي ما لم يزد المرأة – في المسألتين السابقتين، بأن يقوله " واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً "، وبأن يقول " لك الخيار ما شئت ".
قال: [فإن ردَّت أو وطئ أو طلق أو فسخ بطل خيارها]
إذا ردت فقالت: " اخترت زوجي " فقد أسقطت خيار نفسها، أو وطئ هذه المرأة أو طلقها أو فسخ هذا الخيار، بطل اختيارها في الكل، وذلك لأنه قد جاء منه ما يدل على الفسخ قولاً لقوله: " قد فسختِ " ولقوله: " أنت طالق " أو فعلاً بالوطء.

الدرس السابع والأربعون بعد الثلاثمائة
باب ما يختلف به عدد الطلاق
من حرية أو عبودية أو غير ذلك من الأسباب التي يختلف بها عدد الطلاق.
قال: [يملك من كله حر أو بعضه ثلاثاً]
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب المظالم، باب الغرفة والعُليّة المشرفة في السطوح وغيرها (2468) في حديث طويل، ومسلم (1479) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب الطلاق، باب بيان أن تخيير امرأته لا يكون طلاقاً إلا بالنية (1477) .


فإذا كان الزوج كله حراً أو كان مبعضاً أي بعضه حر وبعضه عبد فإنه يملك ثلاث تطليقات باتفاق أهل العلم سواءً كانت الزوجة حرةً أو أمة، أما دليل من كان كله حراً فهو ظاهر في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد أجمع أهل العلم عليه، وأما المبعض: فلأننا لو قلنا بأنه يكون بالنظر إلى حريته وعبوديته لبعضنا الطلاق كأن يكون له ثلاثة أرباع نصاب الطلاق ونحو ذلك، والطلاق لا يتبعض، لذلك ثبت له ثلاث تطليقات.
قال: [والعبد اثنتين]
اتفاقاً، فقد اتفق أهل العلم على أن للعبد تطليقتين، وفي أبي داود والترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (طلاق العبد – أي البائن – تطليقتان) (1) والحديث إسناده ضعيف، لكن العمل عليه عند أهل العلم، وقد روي ذلك عن طائفةٍ من الصحابة ولا يعلم لهم مخالف.
قال: [حرةً كانت زوجتاهما أو أمة]
__________
(1) أخرج أبو داود في كتاب الطلاق، باب في سنة طلاق العبد (2189) عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " طلاق الأمة تطليقتان وقرؤها حيضتان "، وأخرجه الترمذي بنفس لفظ أبي داود في كتاب الطلاق، باب ما جاء أن طلاق الأمة تطليقتان (1182) ، وقال: " حديث عائشة حديث غريب لا نعرفه مرفوعاً إلا من حديث مظاهر بن أسلم، ومظاهر لا نعرف له في العلم غير هذا الحديث، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم، وهو قول سفيان الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق ".


فإذا كانت تحت العبد حرة فإن تطليقه البائن تطليقتان، وكذلك إذا كانت الأمة تحت الحر فإن تطليقه ثلاث تطليقات، فالمعتبر في الطلاق هو النظر إلى الزوج لا إلى الزوجة هذا هو مذهب جمهور العلماء خلافاً لأبي حنيفة، ودليل هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه ابن ماجه وغيره: (إنما الطلاق لمن أخذ بالساق) (1) ، فالطلاق حق للزوج فكان النظر إليه فيه.
قال: [فإذا قال أنت الطلاق]
إذا قال الرجل لامرأته " أنت الطلاق ".
قال: [أو طالقٌ]
إذا قال لامرأته " أنت طالق ".
قال: [أو عليّ]
أي قال " علي الطلاق " وحنث.
قال: [أو يلزمني]

إذا قال يلزمني الطلاق إن فعلت كذا ثم فعل.
قال: [وقع ثلاثاً بنيتها]
أي بنيته الثلاث، فالضمير في قوله بنيتها أي بنية الثلاث فإذا قال لامرأته ما تقدم وكان قد نوى الطلاق ثلاثاً فإنه يقع ثلاثاً، وذلك لأن هذه الألفاظ المتقدم ذكرها تحتمل الثلاث والواحدة وهي في الطلقة الواحدة أظهر أي من جهة اللفظ، لكنه لما نوى أن تكون ثلاثاً تعيَّن ذلك، لأنه نوى ما يحتمله لفظه.
قال: [وإلا فواحدة]
فإذا لم ينوِ أن تكون ثلاثاً فإنها تكون واحدة، فإذا قال لامرأته: " أنت طالق " ولم ينو شيئاً فإنها تطلق واحدة؛ وذلك لأن الواحدة أقل ما تصدق عليه هذه الألفاظ، فأقل ما يصدق عليه الاسم المتقدم هو الواحدة.
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في كتاب الطلاق، باب طلاق العبد (2081) بلفظ: عن ابن عباس قال: أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - رجل فقال: يا رسول الله إن سيدي زوجني وهو يريد أن ... فقال: يا أيها الناس ما بال أحدكم يزوج عبده أمته ثم يريد أن يفرق بينهما إنما الطلاق لمن أخذ بالساق ".


وهذه المسألة وما بعدها من المسائل تتفرع على القول بطلاق الثلاث البائن بلفظة واحدة، أو في مجلس واحد أو في مجالس متعددة بلا رجعة، وقد تقدم أنه قول مرجوح والراجح أن طلاق الثلاث طلقة واحدة كما هو اختيار شيخ الإسلام وتقدم ذكر دليله.
قال: [ويقع بلفظ كل الطلاق أو أكثره أو عدد الحصى أو الريح أو نحو ذلك ثلاثٌ ولو نوى واحدة]
إذا قال لامرأته: " أنت طالق كل الطلاق أو أكثر الطلاق أو منتهاه أو غايته أو عدد الحصى أو الريح أو أنت طالق مائة طلقة أو ألف طلقة " أو نحو ذلك فإنه يقع الطلاق ثلاثاً ولو نوى واحدة، فلا عبرة بنيته؛ وذلك لأن صريح لفظه يخالف نيته، فصريح لفظه الطلاق المتعدد الذي يحصل معه البينونة، فهنا ما نواه لا يحتمله اللفظ فإذا قال لها: " أنت طالق أكثر الطلاق " ونوى أن تكون واحدة فإن نيته لا يحتملها لفظه كما أنه لو قال: " أنت طالق واحدة " ونوى أن يكون ثلاثاً فإن هذا الطلاق لا يكون إلا واحدة، وذلك لأن هذه النية لا يحتملها اللفظ، فإن قال لزوجته " أنت طالق عُظم الطلاق " أو " أنت طالق أقبح الطلاق " أو " أنت طالق كالجبل " أو " أعظم الطلاق " فإن لم ينوِ ثلاثاً فإنها تكون واحدة، وذلك لأن هذه الألفاظ لا ترجع إلى العدد وإنما ترجع إلى كيفية الطلاق، فترجع إلى الطلاق نفسه كيفاً لا عدداً فإن نوى ثلاثاً فإنها تقع ثلاثاً لأن اللفظ يحتمل ذلك لكن إن لم ينوِ شيئاً أو نوى أن تكون واحدة فإنها تقع واحدة لأن لفظه ليس فيه تصريح بالعدد بخلاف قوله: " أنت طالق أكثر الطلاق " أو " منتهاه " فهو يعود إلى العدد.
قال: [وإن طلق عضواً أو جزءاً مشاعاً أو معيناً أو مبهماً]
إذا طلق عضواً: كأن يطلق يداً أو رجلاً أو كبداً.
أو جزئاً مشاعاً: كالنصف والربع فيقول: " نصفك طالق ".
أو معيناً: أي جزئاً معيناً كأن يقول: " النصف الفوقاني فيك طالق.
أو مبهماً: كأن يقول: " جزئك طالق ".


فالحكم أنها تطلق طلقة؛ وذلك لأن هذه المرأة لا تتبعض بالحل والحرمة، وفيها ما يقتضي التحريم وما يقتضي الإباحة فغُلِّب جانب الحرمة.
قال: [أو قال نصف طلقة أو جزء من طلقة طلقتْ]
إذا قال لها: " أنت طالق نصف طلقة أو جزء طلقة " أي سواء أبهم كقوله: " جزء طلقة " أو حدد كقوله: " جزءاً من طلقة " فإنها تطلق، وذلك لأن الطلاق لا يتبعض فإذا طلق النصف أو الربع فإنها تقع عليه طلقة واحدة.
قال: [وعكسه الروح]
فإذا قال لها: " روحك طالق " فإنها لا تطلق، هذا هو أحد القولين في المذهب وهو أحد قولي العلماء قالوا: لأن الروح ليست بعضو وليست شيئاً يُستمتع به.
والقول الثاني في المسألة وهو قول في مذهب الإمام أحمد، بل هو المذهب كما قال ذلك صاحب الإنصاف واختار هذا القول الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أنه إذا طلق الروح فإنها تطلق عليه؛ وذلك لأنه لا حياة للمرء بلا روح، فإن قوام البدن الروح، فعليه يقع الطلاق، ولا شك أن هذا أولى من تطليق يدها أو رجلها ونحو ذلك، فالراجح وهو المذهب – خلافاً لما ذكره المؤلف هنا – أن طلاق الروح يقع فتطلق به المرأة، لأنه لا حياة للبدن بلا روح.
قال: [والسن والشعر والظفر ونحوه]
إذا قال: " شعرك طالق " أو " أو سنك طالق " أو " ظفرك طالق " ونحوه كالسمع والبصر، فإنها لا تطلق عليه.
قالوا: لأن هذه الأشياء تنفصل عن الإنسان مع سلامته من غير عطب، فإن الشخص قد يحلق شعره ويقلم أظفاره ويقلع سنه ولا يتضرر شيء من بدنه.
والقول الثاني في المسألة وهو قول الشافعية والمالكية: أن الطلاق يقع، لأن المذكور وهو الظفر والشعر والسن ونحوها مما استباحه الناس بالنكاح فيقع الطلاق بتطليقه.


والأول أولى؛ وذلك لأن الأصل بقاء عصمة النكاح وما ذكره أهل القول الأول من الاستدلال فيه قوة فإن هذه الأشياء المذكورة تنفصل مع السلامة، بخلاف الإصبع فإنها لا تنفصل إلا مع عطب فإنها تجرح البدن ويتأذى البدن بذلك وكذلك اليد والرجل أو نحو ذلك.
قال: [وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق وكرره وقع العدد، إلا أن ينوي تأكيداً يصح أو إفهامها (1) ]
إذا قال لامرأته التي قد دخل بها: " أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق " وقع العدد، فإذا قال لها: " أنت طالق، أنت طالق " فإنه يقع الطلاق اثنتين وإذا قال: " أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق " فإنها تقع ثلاثاً، إلا أن ينوي تأكيداً، فإذا كانت نيته تأكيد الطلاق أو إفهامها أو إفهام السامع فإنه تقبل نيته حكماً، وتقبل أيضاً في الباطن ويُديَّن بذلك فيما بينه وبين ربه بما ادعاه نيته؛ وذلك لأنه أعلم بلفظه وهذا اللفظ يحتمل التأكيد أو الإفهام ويحتمل التعدد فلما ثبت هذان الاحتمالان قبلت نيته.
لكن لابد أن يكون ينوي تأكيداً يصح، بأن يكون اللفظ يحتمل ذلك، فإذا قال لها: " أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق " وقال نويت التأكيد فإنه يقبل معه؛ لأن هذه الجمل قد اتصلت، لكن إذا قال لها اليوم: " أنت طالق " وقال لها غداً: " أنت طالق " وقال أريد التأكيد، فإن هذا لا يقبل منه لأن هذا لا يكون منه تأكيداً.
إذن: إنما يقبل منه حيث أمكن التأكيد أو أمكن الإفهام أما إذا كان لا يمكن مع لفظه التأكيد والإفهام فإنه لا يقبل منه.
قال: [وإن كرره ببل أو بثم أو بالفاء أو قال بعدها، أو قبلها أو معها طلقةٌ وقع اثنتان]
__________
(1) كذا في الأصل، وفي النسخة التي بين يدي: " إفهاماً "


إذا قال لها: " أنت طالق بل طالق " أو: " أنت طالق ثم طالق " أو: " أنت طالق فطالق " أو: " أنت طالق وطالق " أو قال: " أنت طالق بعدها طلقة " أو: " أنت طالق قبلها طلقة " أو: " أنت طالق معها طلقة " فإنه تقع طلقتان، وذلك لأن مثل هذه الألفاظ ظاهرة في التغاير.
فالثلاث الأول حروف عطف، وحروف العطف الأصل فيها المغايرة، فعليه ظاهر لفظه أنت طالق طلاقاً آخر.
كذلك إذا قال لها: " أنت طالق بعدها طلقة " أو: " أنت طالق قبلها طلقة " أو: " أنت طالق طلقة معها طلقة " ونحو ذلك، فإنه لا يقبل ادعاؤه التأكيد ولا ادعاؤه الإفهام، لأن التأكيد والإفهام هنا احتمال بعيد، لكن لو كان في الباطن أراد التأكيد فإنه يديَّن بذلك فيما بينه وبين ربه، وأما في الحكم الظاهر فإن القاضي يحكم عليه بما يقتضيه لفظه.
قال: [وإن لم يدخل بها بانت بالأولى ولم يلزمه ما بعدها]
إذا كانت المرأة غير مدخول بها وقال لها: " [أنت] طالق ثم طالق " أو نحو ذلك، فإنها تبين بالأولى وحينئذٍ فتكون عليها طلقة واحدة؛ لأن غير المدخول بها تبين بطلقة واحدة فقوله لها: " أنت طالق " فبهذه اللفظة الأولى تبين منه، فإذا كرر بعدها طلقتين مثلاً فإن هاتين الطلقتين الأخريين قد وقعتا في حال البينونة، وطلاق البائن لا يمضي.
فعلى ذلك له أن يتزوجها من غير اشتراط أن تنكح زوجاً غيره، فيعقد عليها عقداً جديداً وهذه المسألة كلها ترجع إلى القول المرجوح المتقدم من أن طلاق الثلاث يقع.
والراجح أنه لا يقع إلا واحدة، وأنه لا طلاق إلا بعد رجعة صحيحة.
إذن: على قول الجمهور إذا قال لامرأة غير مدخول بها: " أنت طالق ثلاثاً " فإنه تبين منه ولا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره، أما إذا قال: " أنت طالق ثم طالق ثم طالق " فإنها تبين بالأولى والطلقة الثانية والثالثة لا تحسب عليه لأنهما صادفتا امرأة بائناً هذا هو المشهور في مذهب الجمهور.
قال: [والمعلَّق كالمنجَزِ في هذا]


المعلق كقوله: " إذا وصلت الدار فأنت طالق طالق "، كالمنجز أي كقوله: " أنت طالق أنت طالق أنت طالق ".
فلو أن رجلاً قال لامرأة غير مدخول بها: " إذا دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق " فإنها تبين منه بالأولى إذا دخلت الدار، ولا يقع عليها الثاني ولا الثالث لأنها أصبحت بائناً بالأولى.

الدرس الثامن والأربعون بعد الثلاثمائة
فصل
هذا الفصل في الاستثناء في الطلاق وأحكامه
قال: [ويصح منه استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات]
يصح من الزوج أن يستثني النصف فأقل من عدد الطلاق ومن عدد المطلقات، هذه المسألة ترجع إلى ما هو مرجح في علم الأصول وهو مذهب الحنابلة من صحة استثناء النصف فأقل، أما استثناء الكل أو الأكثر فإنه لا يصح فإذا قال: لزيد عليَّ مئة ريال إلا مئة " فهذا استثناء كل ولا يصح، فيكون قد أقر بمئة ولا يصح استثناؤه.
ولو قال: " لزيدٍ عليّ مئة إلا تسعين " فلا يصح الاستثناء ويكون قد أقر بالمئة أما إذا استثنى النصف فأقل كأن يقول: " له علي مئة إلا خمسين" أو: " له علي مئة إلا أربعين" فإن الاستثناء يصح.
فعلى ذلك إذا طلق امرأته ثلاثاً واستثنى الكل فقال: " أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً " أو الأكثر فقال: " أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين " فإن الاستثناء لا يصح وتكون طالقاً ثلاثاً، أما إذا استثنى النصف فأقل كأن يقول: " أنت طالق اثنتين إلا واحدة " أو " أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة " فإن الاستثناء يصح ولذا قال المؤلف:
[فإذا قال: أنت طالقٌ طلقتين إلا واحدة، وقعت واحدة، وإن قال: ثلاثاً إلا واحدة فطلقتان]
كذلك في المطلقات، فلو قال: " نسائي الأربع طوالق إلا واحدة، فيصح الاستثناء ولو قال: "نسائي الأربع طوالق إلا اثنتين"، فيصح الاستثناء.
قال: [وإن استثنى بقلبه من عدد المطلقات صح دون عدد الطلقات]


فإذا استثنى بقلبه من عدد المطلقات صح ذلك، كأن يقول: " نسائي طوالق " وله ثلاث، واستثنى بقلبه فلانة فإن هذا الاستثناء يصح في الحكم، وأما في الباطن أي في النية فلا إشكال فيه أنه يصح أي في التديين بأن يديّن في ذلك فيما بينه وبين ربه فلا إشكال أنه يصح، وأما في الحكم فكذا وهو المذهب، وذلك لأن اللفظ العام قد يراد به الخصوص وحينئذٍ فهذه النية تصرف اللفظ إلى بعض أفراده.
والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعية: أن الطلاق يقع كما تلفظ به ولا عبرة بنيته، وهذا هو القول الراجح، وذلك لأن الحكم إنما يعتبر بالظاهر، والظاهر من لفظه أن نساءه كلهن طوالق، فيحكم عليه بما اقتضاه ظاهر لفظه، وأما نيته فهي بينه وبين ربه، فإن لم يكن هناك ترافع أمام القاضي فإنه إن علم من نفسه الصدق فإنه يبقي امرأته وأما إن علم من نفسه الكذب فإنها لا تحل له إن كان الطلاق بائناً وإلا فإنه يحسبها طلقة، وأما في الطلقات فلا لا ديناً ولا حكماً، فلا يديَّن بذلك ولا يحكم به؛ أي بالاستثناء، فإذا قال رجل لامرأته: " أنت طالق ثلاثاً " ونوى في قلبه إلا واحدة فلا يعتبر بهذا الاستثناء المنوي غير المتلفظ به في الحكم وذلك للتعليل المتقدم في المسألة السابقة، وكذلك لا يديَّن بنيته فلا يقال: " إن كنت صادقاً فيما نويته فهي امرأتك " لا يقال ذلك، وذلك لأن العدد نص فيما يتناوله؛ أي ليس هناك ثم احتمال، فإن قال: " أنت طالق ثلاثاً " فليس هناك أي احتمال آخر ممكن بخلاف ما إذا قال " نسائي طوالق " فإنه يحتمل أن يريد البعض لكن أما قوله: " أنت طالق ثلاثاً " فليس هناك أي احتمال آخر فلا يحتمل إلا أنها طالق ثلاثاً فهو نص فيما يتناوله فلم ترفعه النية فالنية إنما تصرف اللفظ المحتمل إلى أحد محتملاته وأما ما لا يحتمله اللفظ فلا، وإلا لجاز العمل بالنية المجردة في النكاح والطلاق ونحو ذلك.


وهذه المسألة متفرعة على قول جمهور أهل العلم من إيقاع طلاق الثلاث ثلاثاً وإلا فالراجح أن طلاق الثلاث واحدة.
ومثل ذلك إذا قال: " نسائي الأربع طوالق " أو قال: " ثلاثتكن طوالق " ونوى إلا واحدة فلا عبرة بنيته لأن قوله: " نسائي الأربع " وقوله: " ثلاثتكن " هذا عدد والعدد نص فيما يتناوله وعليه فالنية لا تصرفه لعدم وجود الاحتمال الذي يوافق هذه النية كما تقدم تقريره.
قال: [وإذا قال: أربعكن إلا فلانة طوالقٌ صح الاستثناء]
وذلك لأن هذه المرأة قد خرجت باستثناء صحيح.
قال: [ولا يصح استثناء لم يتصل عادة]
يشترط في الاستثناء أن يتصل في العادة، يتصل لفظاً أو حكماً، اتصاله لفظاً: بأن يتبع المستثنى، المستثنى منه، فإن قال: " نسائي طوالق إلا فاطمة " فقوله: " إلا فاطمة " فاطمة هي المستثنى وقوله " نسائي طوالق " المستثنى منه، فهنا قد تبع المستثنى المستثنى منه تبعه لفظاً فالاستثناء صحيح.
وأما اتصاله حكماً: فهو لم يتبعه لفظاً لكنه تبعه حكماً، وذلك فيما إذا كان هناك فاصل بين المستثنى والمستثنى منه، وكان الفاصل لا يقطع في العادة، كأن يقول: " نسائي طوالق " ثم يعطس أو يسعل ثم يقول: " إلا فلانة " فلا تطلق عليه وذلك لأن الاستثناء متصل في العادة لكنه ليس متصل لفظاً بل هو متصل حكماً، مثل ذلك لو سكت سكوتاً (1)
قال: [فلو انفصل وأمكن الكلام دونه بطل]
فإذا قال: " نسائي طوالق " ثم تكلم بكلام أجنبي أو سكت سكوتاً طويلاً يقطع في العرف ثم قال: " إلا فلانة " فإن الطلاق يقع على كل نسائه ولا يصح استثناؤه، وذلك لوجود الانقطاع، فهذا الطلاق الذي تلفظ به لا يمكن رفعه بمثل هذا أي بالاستثناء المنقطع.
__________
(1) بياض في الأصل.


أما الاستثناء المتصل فإنه يجعل اللفظ جملة واحدة، أي يجعل المستثنى منه والمستثنى جملة واحدة لا يقع الكلام إلا بتمامها وإلا للزم لوازم باطلة، ففي قولنا: " لا إله إلا الله " فلو قال المكلف: " لا إله " وسكت لكان نافياً للألوهية على الإطلاق، فالنافي للألوهية ملحد كافر، ولكنه قال: " إلا الله " هذه الجملة المستثناة متصلة، فالجملتان من المستثنى والمستثنى منه أصبحتا جملة واحدة لا يفهم الكلام ولا يترتب عليه أحكامه إلا بمجموعهما.
إذن: الاستثناء المتصل صحيح، أما الاستثناء المنفصل قد ثبت فيه قاطع في العرف سواءً كان بسكوتٍ طويل أو بكلام أجنبي قاطع فإن الطلاق يقع على ما تلفظ به أولاً ولا يصح هذا الاستثناء.
قال: [وشرطه النية قبل كمالِ ما استثنى منه]
هذا الحكم في الاستثناء وفي الشرط، فلو قال رجل: " نسائي طوالق " ثم استدرك وقال: " إلا فلانة " فهو عندما قال: " نسائي طوالق " لا ينوي استثناء هذه المرأة المستثناة بل نواه بعد إتمامه اللفظ، فالاستثناء لا يصح ويقع الطلاق على كل المستثنى منه فيشترط أن ينوي الاستثناء أثناء تلفظه بلفظ الطلاق، وكذلك الشرط، فلو أن رجلاً قال لامرأته: " أنت طالق" فاستدرك فقال: " إن دخلت الدار " فالشرط هنا لا يصح لأنه لم ينوه أثناء اللفظ قالوا: لأن الشرط والاستثناء يصرفان اللفظ عن مقتضاه فوجب أن يقترنا به لفظاً ونية هذا هو المشهور في مذهب أحمد والشافعي.
وذهب المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وذكر شيخ الإسلام: " أنه هو ما يدل عليه كلام الإمام أحمد، وأن عليه كلام متقدِمي أصحاب الإمام أحمد "، واختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أن الاستثناء يصح وإن لم يستثن مع المستثنى منه.


ويلحق به – فيما يظهر لي – الشرط، [ولكن هذا فيما يقصد به اليمين لا الإيقاع بناءً على ما سبق من قول شيخ الإسلام في التفريق بينهما.] (1)
واستدلوا بأدلة من الكتاب والسنة، فمن ذلك قوله تعالى {ولاتقولن لشيءٍ إني فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} (2) ، فجمهور المفسرين أن هذا فيمن نسي الاستثناء.
والقول الثاني عند المفسرين أنه يعم من نسي الاستثناء ومن لم ينسه، قال ابن القيم: " وهو الصواب ".
وعلى كلا التفسيرين فإن المسألة المتنازع فيها داخلة في هذه الآية "، فالرجل إذا قال: " سأفعل غداً " وقد نسي أن يستثني ثم قال " إن شاء الله " فهذا الاستثناء نافع مع أنه لم ينوه مع لفظه، فكذلك في هذه المسألة المتنازع فيها، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين، أن سليمان عليه السلام قال: " لأطوفن الليلة على سبعين تحمل كل امرأة فارساً يجاهد في سبيل الله " فقال له الملك: " إن شاء الله " فلم يقل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (فلم تحمل شيئاً - أي من نسائه – إلا واحداً قد بقي أحد شقيه، ولو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله) (3) ، فهذا الحديث دل على أن قوله: " إن شاء الله " بعد الكلام نافع ومؤثر، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في المتفق عليه لما نهى عن قطع شوك مكة وحشيشها قال له العباس " إلا الإذخر " فقال: (إلا الإذخر) (4) ، ولم يكن قد نوى الاستثناء وهذا هو القول الراجح لقوة أدلته.
الدرس التاسع والأربعون بعد الثلاثمائة
باب الطلاق في الماضي والمستقبل
قال: [إذا قال: أنت طالق أمس أو قبل أن أنكحك، ولم ينو وقوعه في الحال لم يقع]
__________
(1) ما بين القوسين غير موجود في الأصل.
(2) سورة الكهف.


إذا قال الزوج لامرأته: " أنت طالق أمس " أو: " قبل الأمس " أو نحو ذلك فإن الطلاق لا يقع، وكذلك إذا قال: " أنت طالق قبل أن أنكحك " فالطلاق لا يقع، وذلك لأن فيه رفعاً لاستباحة النكاح في المضي، وذلك ليس للمكلف، فالمكلف إنما له رفع الاستباحة في الحال أو في المستقبل، وأما رفع إباحة الفرج وغيره مما يباح في النكاح في المضي فليس له ذلك.
قوله: " ولم ينو وقوعه في الحال لم يقع " هذا قيد في عدم الوقوع، لكن لو نوى الوقوع في الحال فإن الطلاق يقع، فإذا قال: أنت طالق أمس " وهو ينوي الوقوع في الحال أي أن الطلاق واقع عليها في الحال استناداً إلى وقوعه في المضي فإنه يقع، والقول الثاني في المسألة:أنه لا يقع، وهو أظهر؛ وذلك لأن النية لا يحتملها لفظه، فهو ينوي وقوع الطلاق في الحال، ولفظه في المضي، فكما لو كانت النية مجردة، والنية المجردة لا يقع معها الطلاق.
قال: [وإن أراد بطلاق سبق منه أو من زيد وأمكن قُبل]
الذي لا يقع - فيما تقدم – هو إنشاء الطلاق، لكن لو كان مخبراً، فقال لها: " أنت طالق أمس " من باب الإخبار وليس من باب الإنشاء، فإذا قال: " أنت طالق أمس " وقال أريد بذلك طلاقاً سابقاً مني أو طلاقاً سابقاً من غيري، وأمكن هذا، وذلك بأن يكون صادقاً في قوله فقد طلقها هو قبل، أو طلقها زوج آخر قبله، فإنه يقبل لأن لفظه يحتمله، وأما إذا لم يكن ذلك، وذلك بأن لا يكون طلقها قبل ذلك ولا يكون لها زوج قبله فإن الطلاق يقع، وذلك لأنه حينئذٍ يكون قد أخبر عن قول له فيكون في ذلك إقرار يتعلق به حق غيره وهو المرأة وحينئذٍ لا يقبل إنكاره كما تقدم في المسألة السابقة، لكنه يديّن بنيته التي يدعيها فيما بينه وبين ربه.
قال: [فإن مات أو جُنّ أو خرس قبل بيان مراده لم تطلق]


إذا قال لها: " أنت طالق أمس " ثم جن أو مات أو خرس قبل بيان مراده فإنها لا تطلق إعمالاً للمتبادر من لفظه، فإن المتبادر من لفظه أنه إنشاء، والإنشاء للطلاق في المضي لا يقع معه الطلاق، وأيضاً عصمة النكاح ثابتة فلا تزال بالشك.
فإذا قال: " أنت طالق أمس " من باب الإخبار وادعى أنه ينوي بذلك طلاقاً سابقاً وقد كان طلقها طلاقاً سابقاً، لكنه قال لها ذلك في حالة غضب أو عند سؤالها الطلاق فإنه لا يقبل قوله وذلك لوجود قرينة الحال التي تكذب قوله.
قال: [وإن قال: طالق ثلاثا قبل قدوم زيدٍ بشهر]
إذا قال لها: " أنت طالق ثلاثاً قبل قدوم زيدٍ بشهر " ولا يدري متى يقدم زيد، فيحتمل أن يقدم بعد شهر من اليوم ويحتمل أن يكون بعد شهر من الغد، ويحتمل أن يكون بعد شهر من بعد الغد، ويحتمل أن يكون بعد شهر من بعد أسبوع، ويحتمل أن يكون بعد شهرين، وحينئذٍ تبقى المرأة معلقة ولا يحل له أن يطأها؛ وذلك لأنه في كل يوم يحتمل أن يكون هو اليوم الذي يكون قدوم زيدٍ بعده بشهر، وعليه فلا يحل له أن يطأها وتجب لها النفقة لأنها محبوسة لأجله.
قال: [فقدم قبل مضيه لم تطلق]
فإذا قال:" أنت طالق قبل قدوم زيدٍ بشهر " فقدم زيد بعد أسبوع، فإن المرأة لا تطلق، وذلك كما لو قال:" أنت طالق أمس " لأن طلاقه يكون في المضي، لأن زيداً قدم بعد أسبوع فحينئذٍ يكون الطلاق قد وقع في المضي، لأن قبل قدوم زيد بشهر مضياً.
قال: [وبعد شهرٍ وجزءٍ تطلق فيه يقع]
أي إذا جاء بعد شهر وجزء أي لحظة يقع فيها قول " أنت طالق " فإذا جاء بعد شهر وجزء فإنه يقع الطلاق عليها وذلك لوجود الصفة المذكورة.
قال: [فإن خالعها بعد اليمين بيومٍ، وقدم بعد شهرٍ ويومين صح الخلع، وبطل الطلاق]


إذا قال: " أنت طالق قبل قدوم زيدٍ بشهر " وبعد يوم خالعها، ثم قدم زيد بعد شهر ويومين، فتبين لنا أن المرأة كانت في عصمته حين المخالعة، فعلى ذلك الخلع صحيح لثبوت الزوجية ويبطل الطلاق لأنه صادف امرأة بائناً في الخلع.
قال: [وعكسها بعد شهر وساعة]
أي لحظة يقع بمثلها الطلاق، فإذا قال لها: " أنت طالق قبل قدوم زيدٍ بشهر " ثم خالعها وبعد شهر وساعة قدم زيد، فالمخالعة هنا صادفت بينونة، وعليه فالطلاق صحيح والخلع باطل، والخلع إنما يصح حيث لم يكن حيلة، أما إذا كان حيلة فإنه لا يصح كما تقدم.
قال: [وإن قال: طالقٌ قبل موتي طلقت في الحال]
إذا قال لزوجته: " أنت طالق قبل موتي " فإنها تطلق في الحال، وذلك لأنه ما من وقت إلا وهو قبل موته، أما لو قال: " قبيل موتي " فإن هذا الجزء يفيد التصغير فيكون في الجزء الذي يليه الموت أي في آخر لحظات عمره.
قال: [وعكسه معه أو بعده]
فلوا قال لامرأته: " أنت طالق مع موتي أو بعد موتي " فإن الطلاق لا يقع وذلك لأن البينونة تحصل بالموت فإذا مات الزوج بانت منه امرأته، لذا تعتد وتنكح زوجاً آخر بعده، وعلى ذلك فإن هذا الشرط يصادفها بائناً والبائن لا يقع عليها الطلاق.

فصل
قال: [وأنت طالقٌ إن طرتِ أو صعدت السماء أو قلبتِ الحجر ذهباً ونحوه من المستحيل لم تطلق]
إذا قال لامرأته: " أنت طالق إن طرت إلى السماء أو صعدت السماء أو قلبت الحجر ذهباً " ونحوه من المستحيل فإنها لا تطلق وذلك لأن هذه الصفة لا توجد، فهذه الصفة التي علق الطلاق عليها لا توجد، والطلاق إنما يقع حيث وجدت هذه الصفة والصفة هذه لا توجد لأنها من المستحيلات.
قال: [وتطلق في عكسه فوراً]


إذا قال " أنت طالق لأصعدن (1) السماء " فقد علق الطلاق على عدم فعل المستحيل، وعدم فعله للمستحيل معلوم في الحال، وحينئذٍ يعلم تحقق الأمر الذي علق الطلاق عليه، فيعلم تحققه في الحال فيقع الطلاق فوراً.
قال: [وهو النفي في المستحيل مثل لأقتلن الميت أو لأصعدن السماء ونحوهما]
فهذه أمور مستحيلة، فالميت لا يمكن قتله، وكذلك لأصعدن السماء ونحوهما، ففي مثل هذه المسائل يقع الطلاق في الحال لأنه علق طلاقه على عدم فعله للمستحيل وعدم فعله للمستحيل معلوم في الحال.
قال: [وأنت طالق اليوم إن جاء غدٌ لغو]
إذا قال رجل لامرأته " أنت طالق اليوم إن جاء غدٌ " فإن ذلك يكون لغواً، قالوا: لأن مقتضى لفظه إيقاع الطلاق في هذا اليوم حيث جاء الغد فيه، ومعلوم أن مجيء الغد في اليوم أمر لا يمكن، وعليه فإن هذا يكون من باب اللغو.
والقول الثاني في المسألة وهو قول القاضي من الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الطلاق يقع، وأنه كما لو قال: أنت طالق قبل موتي بشهر.
وعليه فإن الطلاق يقع في الحال لأن مجيء الضد معلوم قطعاً فالراجح أنه يكون طلاقاً اليوم؛ وذلك لأن مجيء الغد أمر معلوم.
قال: [وإذا قال: أنت طالق في هذا الشهر أو اليوم طلقت في الحال]
إذا قال الرجل لامرأته " أنت طالق في هذا الشهر " أو " هذا اليوم " أو " في هذه السنة " فإن الطلاق يقع في الحال، وذلك لأنه جعل اليوم وجعل الشهر وجعل السنة ظرفاً لطلاقه وهذا يحصل في كل جزء من أجزاء اليوم وفي كل جزء من أجزاء الشهر وفي كل جزء من أجزاء السنة.
قال: [وإن قال: في غدٍ أو السبت أو رمضان طلقت في أوله]
إذا قال " أنت طالق في السبت أو في غدٍ أو في رمضان " فإنها تطلق في أوله، وذلك لأنه جعل رمضان ظرفاً لطلاقه فكل جزء من رمضان يصح أن يكون ظرفاً لهذا الطلاق وهذا هو ظاهر لفظه.
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل المراد: إن لم أصعد السماء.


قال: [وإن قال: أردتُ آخر الكل دُين وقبل]
فإذا قال " أنا لم أرد أوله وإنما أردت آخره " قُبل منه في الحكم ودُيِّن بنيته فيما بينه وبين ربه، وذلك لأن نيته يحتملها لفظه، وذلك لأن وسط الشهر وآخره منه.
وعليه فلا تطليق عليه إلا في آخر الشهر، لكن إذا قال " أنت طالق غداً " أو " يوم السبت " ولم يقل " في " فهنا قد جعل الطلاق في غدٍ كله فلا بد وأن يشمل اليوم كله الطلاق، وعليه فلا يحكم عليه بالظاهر في نيته، لأن نيته تخالف ظاهر لفظه ولا يحتملها اللفظ، فإذا قال " أنت طالق غداً أو يوم السبت " وقال أردت آخر النهار، فإن ذلك لا يقبل منه وذلك لأن مقتضى لفظه وقوع الطلاق عليها في اليوم كله وأنها في كل جزء من أجزاء ذلك اليوم طالق وعليه فنيته تخالف ظاهر لفظه، وعلى ذلك فلا يقبل قوله في الحكم.
والمشهور في المذهب: أنه لا يُديّن به فيما بينه وبين ربه.
والذي يترجح وهو قول في المذهب: أنه يدين فيما بينه وبين ربه بنيته؛ وذلك لأن اللفظ يحتمل ذلك من باب المجاز، أي أنت طالق بعض غدٍ أو بعض يوم السبت.
قال: [وأنت طالق إلى شهرٍ طلقت عند انقضائه]
إذا قال لها " أنت طالق إلى شهر " أو " إلى سنة " فإن المرأة تطلق عليه عند انقضاء الشهر وعند انقضاء السنة، وذلك لأنه جعل للطلاق غاية وهي قوله " إلى شهر" والطلاق لا غاية لآخره كما هو معلوم فتعين أن تكون الغاية لأوله، فعلى ذلك قوله " إلى شهر " أي ابتداءً للطلاق بعد مضي الشهر، وكذلك إذا قال " أنت طالق سنة ".
قال: [إلا أن ينوي في الحال فيقع]
فإذا نوى ذلك في الحال فإن الطلاق يقع.
قال: [وطالقٌ إلى سنةٍ تطلق باثني عشر شهراً]
إذا قال " أنت طالق إلى سنة " فإن المرأة تطلق عليه بمضي اثني عشر شهراً.
قال: [فإن عرفها باللام طلقت بانسلاخ ذي الحجة]


فإذا قال " أنت الطلاق إذا قضت السنة " أو قال " إذا مضى الشهر "، فإذا مضى الشهر الذي هو فيه أو مضت السنة التي هو فيها وإن كان في آخرها فإنها تطلق عليه، فلو أن رجلاً قال لامرأته وهو في العاشر من ذي الحجة " أنت طالق إذا مضى الشهر " فهنا " ألا " هي " أل " العهدية الحضورية.
وعليه فتطلق المرأة، إذا مضى هذا الشهر الذي هم فيه.
كذلك إذا قال في شهر ذي القعدة: " أنت طالق إذا مضت السنة " فتطلق عليه إذا مضت السنة التي هو فيها وذلك بانسلاخ شهر ذي الحجة، [وإن قال أردت اثني عشر شهراً قُبِلَ حكماً.
فائدة:
إذا قيل له قد زنت امرأتك فقال: " هي طالق "، ثم تبين أنها لم تكن زنت، فقال أبي عقيل: لا تطلق وجعل السبب كالشرط اللفظي وهو قول عطاء.] (1)

الدرس الخمسون بعد الثلاثمئة
باب تعليق الطلاق بالشروط
أي بالشروط اللغوية كقوله لزوجته " إن دخلت الدار فأنت طالق " والشرط هنا ينقسم إلى قسمين:
شرط محض: وهو الذي يقصد المشترط فيه إيقاع الطلاق مع حصوله - أي مع حصول هذا الشرط -، فإذا قال لزوجته " إن جاء رمضان فأنت طالق " أو قال " إن دخلت الدار فأنت طالق " فهده شروط محضة يقصد فيها إيقاع الطلاق متى حصل الشرط، وفي البخاري معلقاً: أن ابن عمر سأله نافع عن رجل قال لامرأته " أنت طالق البتة إن دخلت الدار " فقال: إن دخلت الدار فهي بائن " (2) .
__________
(1) ما بين القوسين غير موجود في الأصل.
(2) ذكره البخاري في باب الطلاق في الإغلاق والكره بلفظ: وقال نافع: طلق رجل امرأته البتة إن خرجت، فقال ابن عمر: إن خرجت فقد بُتَّتْ منه، وإن لم تخرج فليس بشيء ".


الشرط الذي لا يقصد معه إيقاع الطلاق وإنما يقصد معه الحض أو المنع لنفسه أو لامرأته أو لغيرهما، كأن يقول لامرأته " إن خرجت من الدار بغير إذني فأنت طالق " وهو لا يقصد إيقاع الطلاق بل يقصد منعها من الخروج، أو يقول الآخر " إن لم تدخل في داري فامرأتي طالق " أو يقول " إن لم أفعل كذا فامرأتي طالق " ونحو ذلك مما يقصد معه الحض أو المنع وهو ما يسمى بالحلف بالطلاق، فليس المقصود بالحلف بالطلاق أن يقول " والطلاق " بل المقصود أن تكون الجملة التي فيها تعليق الطلاق - أن تكون فيها - معنى اليمين، فإذا قال للرجل " إن لم تدخل الدار فامرأتي طالق " كأنه قال " والله لأطلقن امرأتي إن لم تدخل الدار ".
فجمهور أهل العلم: أنه يقع الطلاق فيها إذا وقع الشرط وذلك لحصول الشرط الذي علق الطلاق به.
وذهب أهل الظاهر وهو قول طائفة من السلف والخلف وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم الجوزية (1) واختاره الشيخ محمد بن عبد الوهاب: أن الطلاق لا يقع وأنها يمين ويكفرها، واستدلوا بما يأتي:
أن هذه الألفاظ أيمان باتفاق أهل اللغة، وعليه عرف الفقهاء كما ذكر شيخ الإسلام، وعليه فيدخل في عموم قوله تعالى: {قد فرض الله عليكم تحلة أيمانكم} (2) وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إني إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وكفرت عن يميني) (3) .
أن العبرة بالنيات والمقاصد لا بالألفاظ، فالأحكام لا تترتب على الألفاظ إلا إذا كان المتكلم قاصداً المعنى وقاصداً موجب كلامه وهنا ليس الأمر كذلك فهو لا يقصد الطلاق وإنما يقصد الحث والمنع.
__________
(1) كذا في الأصل، ولعل الصواب: ابن قيم الجوزية.


ويستدل على هذا بالقصة التي رواها البيهقي وغيره عن أبي رافع؛ أن مولاته قالت له " أنا يوماً يهودية ويوماً نصرانية وعبيدي كلهم أحرار ومالي كله في سبيل الله وأمشي على قدمي إلى بيت الله إن لم تطلق امرأتك " فسأل ابن عمر وابن عباس وعائشة وحفصة وأم سلمة فكلهم قال " تكفر عن يمينها "، فإذا كان هذا في العتق وفي النفقة وفي الصدقة المستحبة التي يتشوق الشارع إليها إذا كان هذا في ذلك فأولى أن يكون في الطلاق الذي يبغضه الشارع، وهذا هو القول الراجح لقوة أدلته.
قال: [لا يصح إلا من زوج]
لا يصح الطلاق المعلَّق إلا من زوج، فلو قال " إن تزوجت فلانة فهي طالق " ونحو ذلك فلا تطلق عليه عند جماهير أهل العلم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه الترمذي وغيره والحديث حسن: (لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولا عتق له فيما لا يملك ولا طلاق له فيما لا يملك) (1) وهي أجنبية عنه، وقال تعالى {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن} (2) ، فرتب الطلاق على النكاح فلا طلاق قبل نكاح.
قال: [فإذا علقه بشرطٍ لم تطلق قبله]
هو ظاهر، فإذا قال " إن خرجت الدار فأنت طالق "، لم تطلق قبله لعدم حصول الشرط الذي قد علق الطلاق به.
قال: [ولو قال: عجلته]
إذا قال لامرأته " أنت طالق إن جاء شهر رمضان " ثم قال " عجلته " أي عجلت الطلاق المعلق، فهنا لا ينفعه هذا فلا يمكنه أن يعجله بل يقع في الوقت الذي قد شرطه فيه، قالوا: لأنه ليس له من سبيل إلى ذلك فهو معلق بزمن مستقبل فلم يكن إليه من سبيل لا بتقديم ولا بتأخير.
وعليه فإذا أراد أن يطلقها طلاقاً آخر فإنه يطلقها حينئذٍ فإن كانت في عصمته في رمضان طلقت طلاقاً آخر هذا هو مذهب جمهور أهل العلم وهذا هو مذهب جمهور أصحاب الإمام أحمد.


قال شيخ الإسلام: وفي ذكر جمهور الأصحاب نظر وذلك أنه يملك تعجيل الدين ولا فرق بين حقوق الله تعالى وحقوق العباد في الجملة سواء في شرع أو شرط "، وفيما قاله رحمه الله قوة والله أعلم.
قال: [وإن قال سبق لساني بالشرط (ولم أرده وقع في الحال) (1) ]
إذا قال " إن دخلت الدار فأنت طالق " ثم قال " سبق لساني بالشرط، إذن هو يريد أن يوقعه منجزاً، فإنه يقع في الحال؛ لأنه أقر على نفسه بما هو أغلظ بلا تهمة.
قال: [وإن قال: أنت طالق وقال: أردت إن قمتِ لم يقبل حكماً]
إذا قال " أنت طالق " ثم قال " أردت إن قمت " فإن هذا لا يقبل في الحكم لأن هذا خلاف الظاهر، فقوله " أنت طالق " هذا يدل على أنه أراد الطلاق المنجَّز.
وكونه يقول " أردت إن قمت " هذا يجعله طلاقاً معلقاً وهذا خلاف الظاهر المتقدم والحكم إنما يتعلق بظاهر الألفاظ، وأما في الباطن فإنه يدين بنيته فيما بينه وبين ربه.
قال: [وأدوات الشرط إن وإذا ومتى وأي ومن وكلما، وهي وحدها للتكرار]
فالأدوات المتقدمة لا تفيد التكرار سوى " كلما ".
قال: [وكلها ومهما بلا لم أو نية فورٍ أو قرينة للتراخي]
الأدوات المتقدمة وكذلك مهما إذا لم تقترن بها " لم " ولم تقترن بها نية الفورية أو قرينة الفورية فإنها تفيد التراخي.
قال: [ومع لم للفورية]
فإذا اقترنت بهذه الأدوات " لم " فإنها تفيد الفورية إلا بقرينة تدل على التراخي، كأن يقول " إذا لم تفعلي كذا فأنت طالق " أو " متى لم تفعلي كذا " أو " أي وقت لم تفعلي كذا " أو: " كلما لم تفعلي كذا فأنت طالق " فهي تفيد الفورية.
قال: [إلا إن مع عدم نية فورٍ أو قرينةٍ]
وإن اقترنت بها " لم " فإنها لا تفيد الفورية، لكن هذا مع عدم نية الفور أو القرينة.
قال: [فإذا قال: إن قمت أو إذا أو متى أو أي وقتٍ أو من قامت، أو كلما قمت فأنت طالقٌ فمتى وجد طلقت]
__________
(1) ما بين القوسين ليس في الأصل.


فمتى وجد القيام فإنها تطلق في أي يوم وفي أي ساعة.
قال: [وإن تكرر الشرط لم يتكرر الحنث إلا في كلما]
إذا قال " إن قمتِ فأنت طالق " فقامت فإنها تطلق، فإن قامت مرة أخرى فإنها لا تطلق فإن هذه الأدوات لا تفيد التكرار بخلاف " كلما "، فإذا قال " كلما قمت فأنت طالق " فإذا قامت فإنها تطلق فإذا راجعها ثم قامت مرة أخرى فإنها تطلق لأن كلما تفيد التكرار.
قال: [وإن لم أطلقك فأنت طالق ولم ينو وقتاً ولم تقم قرينة بفور (ولم يطلقها) (1) طلقت في آخر حياة أولهما موتاً]
إذا قال لامرأته " إن لم أطلقك فأنت طالق " ولم ينو الفور ولم تقم قرينة على الفورية ولم يطلقها، فإنها تطلق في آخر حياة أولهما موتاً، لأن هذه الأداة للتراخي، فكل وقت يمكنه ألا يطلقها فيه، لكن تضايق الأمر بموت أحدهما، فإذا مات أحدهما علمنا الحنث.
قال: [ومتى لم أو إذا لم أو أي وقتٍ لم أطلقك فأنت طالق ومضى زمن يمكن إيقاعه فيه ولم يفعل (طلقت) (2) ]
إذا قال لامرأته " متى لم أطلقك فأنت طالق " أو إذا لم أطلقك فأنت طالق " أو " أي وقت لم أطلقك فأنت طالق " فهذه الأدوات تفيد الفورية لاقتران " لم " بها فإذا قال ما تقدم ومضى وقت يمكن إيقاع الطلاق فيه ولم يفعل طلقت.
قال: [وكلما لم أطلقك فأنت طالق ومضى ما يمكن إيقاع ثلاث مرتبة فيه طلقت المدخول بها ثلاثاً وتبين غيرها بالأولى]
فإذا قال " كلما لم أطلقك فأنت طالق " ومضى زمن يمكن إيقاع ثلاث طلقات مرتبة فيه فإنها تبين به المدخول بها لأنه يكون بذلك قد وقع عليها الطلاق ثلاثاً، وأما غير المدخول بها فإنها تبين بطلقة ويكون طلاقاً بائناً بطلقة.
__________
(1) هذا الزيادة ليست في الأصل، وإنما في النسخة التي بين يدي.
(2) ليست في الأصل.


قال: [وإن قمت فقعدتِ، أو ثم قعدت أو (إن) (1) قعدت إذا قمت أو إن قعدت إن قمت فأنت طالق لم تطلق حتى تقوم ثم تقعد]
إذا علق طلاقه على شرطين مرتبين فلا يقع الطلاق إلا بهذين الشرطين مرتبين، فإذا قال لها " إن قمت فقعدت فأنت طالق " فإذا قامت فقعدت فإنها تطلق، وإذا قال لها " إن قمت ثم قعدتِ فأنت طالق " فإنها تطلق إذا قامت ثم قعدت " لأنه قد شرط شرطين مرتبين فلا تطلق إلا بقعود مسبق بقيام.
وإذا قال لها " إن قعدت إذا قمت " فإنها تطلق إذا قعدت بعد قيام.
وإذا قال لها: " إن قعدت وإن قمت " بمعنى إن قمت فقعدتِ كأنه قال " إن حصل منك قعود بعد قيام فأنت طالق " فهذا الأسلوب يجعل المتأخر متقدماً والمتقدم متأخراً.
قال: [وبالواو تطلق بوجودهما، ولو غير مرتبين]
إذا قال " إن قعدت وقمت فأنت طالق " فلا يشترط الترتيب بل يكتفي بالجمع، لأن الواو لا تفيد الترتيب، فإذا قال لها " إن خرجت من الدار وذهبت إلى السوق فأنت طالق " فخرجت من الدار لكنها لم تذهب إلى السوق، فلا يقع الطلاق حتى يجتمع المتعاطفان بالواو.
قال: [وبأو بوجود أحدهما]
إذا قال " إن خرجت من الدار إلى السوق أو إلى أهلك فأنت طالق " فخرجت من الدار إلى أهلها أو خرجت من الدار إلى السوق فإنها تطلق بأحدهما لأن " أو " تفيد ذلك، وما تقدم ذكره حيث كان المتلفظ به من أهل اللغة العربية وأما العامة فإنه يحكم عليهم بما تقتضيه ألفاظهم عرفاً.

الدرس الحادي والخمسون بعد الثلاثمائة
فصل
هذا الفصل في الطلاق المعلق بشرط، فهي تبع للمسألة السابقة، وقد تقدم اختيار شيخ الإسلام من أن الشرط الذي بمعنى اليمين أن فيه الكفارة وأنه لا يقع الطلاق به.
قال: [إن (2) قال: إن حضت فأنت طالقٌ طلقت بأول حيضٍ متيقن]
__________
(1) هذه الزيادة في الأصل دون النسخة التي بين يدي.
(2) كذا في الأصل، وفي نسخة بين يدي " إذا ".


وذلك لوجود الصفة المشروطة، أما إذا كان حيضاً مشكوكاً فلا، لأن الأصل بقاء عصمة النكاح فهو المتيقن، فالنكاح هو المتيقن فلا يزول بالشك.
قال: [وإن (1) حضت حيضة تطلق بأول الطهر من حيضةٍ كاملة]
إذا قال لها " إن حضت حيضة فأنت طالق " فهنا علق الطلاق بحيضة كاملة فإذا حاضت مرة واحدة فإنها تطلق وهذا إنما يكون بأول الطهر، فأول طهرها يتم لها حيضة كاملة، فإن قال لها وهي حائض " إن حضت حيضة كاملة فأنت طالق " فإنها لا تطلق حتى تطهر من حيضها الذي هي فيه، فإذا طهرت منه فحاضت حيضة كاملة فإنها تطلق بأول الطهر.
قال: [وفي (2) إذا حِضتِ نصف حيضةٍ تطلق في نصف عادتها]
إذا قال لها " إن حضت نصف حيضة فأنت طالق " فإنها تطلق في نصف عادتها، فإذا كانت عادتها ستة أيام فإذا تم اليوم الثالث فإنها تطلق، وعليه فلا يُعلم نصف العادة حتى يمضي الحيض كله وذلك لأن العادة قد تطول وقد تقصر.
والمشهور في مذهب الإمام أحمد: أن المرأة يقبل قولها في الحيض فإذا قالت " إني قد حضت حيضة " فإن قولها يقبل.
وقال بعض الحنابلة: لا يقبل إلا بيمين لاحتمال كذبها.
__________
(1) كذا في الأصل، وفي نسخة بين يدي " إذا ".
(2) كذا في النسخة التي بين يدي، وأما في الأصل - المذكرة –: " وفيما ".


وعن الإمام أحمد وهو قول أبي بكر من الحنابلة وصوبه صاحب الإنصاف وهو أرجح الأقوال الثلاثة: أنها تعطى خرقة فتضعها في فرجها - فتعطيها بعض النساء الثقات قطعة أو نحوها فتضعها في فرجها –؛ وذلك لأنه لا يمكن أن يعلم الحيض من غير جهتها فلم يقبل فيه القول المجرد، فالقول المجرد إنما يقبل حيث لا يمكن أن يعلم إلا من جهة الشخص وأما إذا كان يمكن العلم به من غير جهته فإنه لا يقبل قولها وهنا يمكن أن يعلم الحيض الذي ادعته وأنكره الرجل، يمكن أن يعلم من غير جهتها، بخلاف ما لو قال لها: " إن كنت تبغضيني فأنت طالق "، فقالت المرأة: " إني أبغضك " فإنه يقع الطلاق، فهو أمر قلبي ولا يطلع عليه غيرها فإن قولها يصدق لأنه لا يعلم إلا من جهتها.

فصل
قال: [إذا علقه بالحمل فولدت لأقل من ستة أشهر طلقت منذ حلف]
إذا قال: " إن كنت حاملاً فأنت طالق " فولدت لأقل من ستة أشهر سواء كان الزوج يطأ أو لا يطأ فحينئذٍ يعلم أنها حاملاً لأنها لما ولدت لأقل من ستة أشهر قطعناً أنها حامل حين حلفه، سواء كان يطأها أو لا يطأها وعليه فإنها تطلق.
وإذا ولدت لأقل من أربع سنين وهو لا يطأها فنقطع أنها حامل وهذا هو أكثر مدة الحمل في المذهب وعليه فتطلق، وقد تقدم أن المدة القصوى للحمل غير محددة كما في كتاب الفرائض فحيث أتت به وهي فراشاً لزوجها وهو لا (1) يطؤها ولو كان بعد أكثر من أربع سنين فهو ابنٌ له، وعليه فتكون حاملاً عند قولها ذلك وإن أتت به لأكثر من أربعة سنين.
قال: [وإن قال: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق]
إذا قال " إن لم تكوني حاملاً الآن فأنت طالق " وهي عكس المسألة السابقة.
قال: [حرم وطؤها قبل استبرائها بحيضة في البائن]
__________
(1) كذا في الأصل.


فهذا الحكم للمسألتين كلتيهما فإنه يحرم عليه الوطء حتى يستبرئها بحيضة، أي حتى تثبت براءة الرحم من الحمل بحيضة واحدة، فإذا حاضت فإنه يعلم أنها ليست بحامل في المسألة الأولى فلا تكون طالقاً، وفي المسألة الثانية يعلم أنها ليست بحامل فتكون طالقاً لكن هذا في البائن فهي التي يحرم وطئها، لكن لو كان طلاقاً رجعياً فله أن يطأ لأن الرجل لا يمنع من وطء امرأته في الطلاق الرجعي.
قال: [وهي عكس الأولى في الأحكام]
وهذا ظاهر، فالحالة الأولى إثبات، والمسألة الثانية نفي.
فعكس الأحكام المتقدمة في المسألة الأولى يثبت عكسها في المسألة الثانية فحيث قلنا المسألة الأولى يقع الطلاق فنقول في المسألة الثانية لا يقع الطلاق.
قال: [وإن علق طلقة إن كانت حاملاً بذكر وطلقتين بأنثى فولدتهما طلقت ثلاثاً]
إذا قال لامرأته " إن كنت حاملاً بذكر فأنت طالق طلقةً، وإن كنت حاملاً بأنثى فأنت طالق طلقتين " فولدتهما طلقت ثلاثاً لوجود الصيغتين اللتين وقع عليهما الطلقات (1) .
ويأتي ما في هذه المسألة من النظر في آخر هذا الدرس.
قال: [وإن كان مكانه: إن كان حملُك أو ما في بطنك لم تطلق بهما]
إذا قال لها مكان قوله إن كنت حاملاً قال " إن كان حملك " أو قال " إن كان ما في بطنك " فإنها لا تطلق إن ولدتهما؛ وذلك لأن قوله هنا " حملك " وقوله " ما في بطنك" ظاهره الحصر بأن يكون ذكراً أو أنثى وهو هنا لم يسم ذكراً ولا أنثى، وعليه فلا يقع الطلاق.

فصل
قال: [إذا علق طلقةً على الولادة بذكر وطلقتين على الولادة بأنثى فولدت ذكراً ثم أنثى حياً أو ميتاً، طلقت بالأول وبانت بالثاني ولم تطلق به]
__________
(1) في الأصل: الطلاقات.


في المسألة المتقدمة فيها تعليق الطلاق على الحمل، وأما هنا فهو تعليق له على الولادة، فإذا قال لامرأته " إن ولدت ذكراً فأنت طالق طلقة وإن ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين " فولدت ذكراً ثم ولدت أنثى حياً كان المولود أو ميتاً ما دام أنه قد تبين في خلق الإنسان، طلقت الأول منهما سواء كان ذكراً أو أنثى، فإن كان ذكراً فإنها تطلق طلقة، وإن كان أنثى فإنها تطلق طلقتين، فإذا ولدت ذكراً فإنها تكون قد طلقت طلقةً، فلما أتت بالثاني فإنها لا تطلق بالثاني لكنها تبين به، لأنها بالثاني تكون قد وضعت حملها والمرأة إذا وضعت حملها فقد خرجت من عدتها وإذا خرجت من عدتها فهي بائن منه.
قال: [وإن أشكل كيفية وضعهما فواحدة]
فإذا أشكل كيفية وضعهما فلا يدري آلذكر سابقٌ أم الأنثى فواحدة، وذلك لأن الأصل بقاء النكاح والطلقة الثانية مشكوك فيها.

فصل
قال: [إذا علقه على الطلاق، ثم علقه على القيام، أو علقه على القيام، ثم على وقوع الطلاق فقامت طلقت طلقتين (فيهما) (1) ]
إذا قال لامرأته " إن طلقتك فأنت طالق " ثم قال لها " إن قمت فأنت طالق " فقامت طلقت طلقتين، الطلقة الأولى بقيامها والطلقة الثانية بطلاقها، فهو قال " إذا طلقتك فأنت طالق ".
وقوله " أو علقه على القيام، ثم على وقوع الطلاق "
إذا قال لها إن قمت فأنت طالق " ثم قال " إن وقع عليك الطلاق فأنت طالق " فقامت فإنه يقع لها الطلاق المعلق الأول، وبوقوعه عليها يقع الطلاق الثاني.
قال: [وإن علقه على قيامها ثم على طلاقه لها فقامت فواحدة]
هذه بعكس المسألة الأولى، فإذا علقها على قيامها ثم على طلاقها.
والفرق بين المسألة الثالثة والمسألة الأولى: أن المسألة الثالثة هي عكس الأولى.
__________
(1) كذا في نسخة التي بين يدي دون الأصل.


والفرق بين المسألة الثالثة والمسألة الثانية: أن المسألة الثانية فيها وقوع الطلاق فإنه قال في المسألة الثانية " ثم علقه على وقوع الطلاق "، أما في المسألة الثالثة فإنه قال " ثم علقه على طلاقها ".
وفرق بين قوله " إن طلقت فأنت طالق " وبين قوله " إن وقع عليك الطلاق فأنت طالق ".
والمسألة الثالثة هي إذا قال لامرأته " إن قمتِ فأنت طالق " ثم قال بعد ذلك " إن طلقتك فأنت طالق " فإذا قامت فلا يقع عليها إلا طلاقاً واحداً، لأن قوله " إن طلقتك فأنت طالق " يقع الطلاق ليس منه إنما بالشرط الذي قد وقع فهو طلاق معلق، بخلاف ما إذا علقه على وقوع الطلاق فإنه متى ما قلنا بوقوع الطلاق فحينئذٍ يحصل الشرط.
قال: [وإن قال: كلما طلقتك أو كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالقٌ فوجدا طلقت في الأولى طلقتين وفي الثانية ثلاثاً]
إذا قال " كلما طلقتك فأنت طالق " ثم قال لها " أنت طالق " فحينئذٍ يقع الطلقة الأولى وهي قوله " أنت طالق " ويقع الطلاق المعلق، ففي هذه المسألة يكون عليها طلقتان.
لكن لو قال " كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق " ثم قال " أنت طالق " فقوله " أنت طالق " هي الطلقة الأولى وهي طلقة منجزة، ثم على قوله " أنت طالق "، وقد قال " كلما وقع عليك الطلاق فأنت طالق " يكون قد وقع طلاقٌ آخر بقوله " كلما " وطلاق ثالث لأن " كلما " تفيد التكرار وقد قال " كلما وقع عليك طلاقي " ولم يقل " كلما طلقتك " وبينهما فرق.
مسألة:
وهي تسمى بالسُريجية؛ نسبة إلى ابن سريج الشافعي، وهي فيما إذا قال الرجل لامرأته " إن وقع عليكِ طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً ".


قال ابن سريج الشافعي - وهو قول محدث في الإسلام، كما قال شيخ الإسلام - قال: " لا يقع شيء "، لأن قوله " أنت طالق " مسبوق بثلاث وعليه فهو طلاق منفي وليس بشيء لأنه طلقة رابعة والطلقة الرابعة ليست بشيء، وما دام أنها ليست بشيء فكذلك ما قبلها، وهو قوله " فأنت طالق قبله ثلاثاً " أي كذلك المعلق عليه ليس بشيء، فما دام منفي فلا يمكن أن نثبت ما يترتب عليه، هذا هو قول ابن سريج وهو كما تقدم قول محدث في الإسلام.
وقال الحنابلة: يقع الطلاق ثلاثاً.
فقوله " أنت طالق " يقع طلقة، وقد قال " إن وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثاً " فنختار من هذه الثلاث اثنتين فتكون طالقاً ثلاث.
واختار شيخ الإسلام ابن تيمية وهو قول ابن عقيل من الحنابلة: أنها لا تطلق إلا واحدة في قوله أنت طالق "، وأما قوله " فأنت طالق قبله ثلاثاً " فعلى القول بصحة طلاق الثلاث، وقد تقدم أن شيخ الإسلام لا يختار هذا القول، وعليه فما نذكره هو دليل ابن عقيل فعلى القول بصحة طلاق الثلاث يكون من الطلاق الماضي والطلاق في المضي لا يقع، فالراجح أنه تقع عليها طلقة واحدة.
وعند قول المؤلف " إذا علق طلقة على الولادة بذكر وطلقتين بأنثى ": إن ولدتهما فإنها تطلق ثلاثاً كما تقدم تقريره وكذلك في الحمل.
وهذا فيه نظر، فإن مراده في الغالب الحمل الواحد والولادة الواحدة، إذ الأصل أن يكون حملاً واحداً وأن تكون الولادة ولادة واحدة، وعليه فيقع على ما نواه، وهو رواية عن الإمام واختار هذا شيخ الإسلام.


فإذا قال الرجل لامرأته " إن كنت حاملاً بذكر فأنت طالق طلقةً، وإن كنت حاملاً بأنثى فأنت طالق طلقتين " فتبين أنها حامل بذكر وأنثى جميعاً فإن هذا ليس مراده بل مراده حيث كان الحمل منفردأ أي منفرداً بالذكورية أو منفرداً بالأنثوية (1) والأمر لم يكن كذلك وهو حمل كلامه على الأصل ونوّعه هنا بالذكورية والأنوثية وعلَّق على هذا التنويع لأن الأصل هو هذا التنويع، وهذا القول هو الراجح في هذه المسألة.

الدرس الثاني والخمسون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [إذا قال: إذا حلفتُ بطلاقك فأنت طالقٌ، ثم قال: أنت طالق إن قمت طلقت في الحال]
تقدم معنى الحلف بالطلاق، وإن معناه أن يعلَّق الطلاق على شيء يريد بذلك الحض أو المنع أو تصديق خبر أو نفيه فهو لا يقصد الطلاق نفسه بل يقصد الحض أو المنع فإذا قال " إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق " ثم قال " أنت طالق إن قمت "، فقوله هنا " أنت طالق إن قمت " هذا حلفٌ بالطلاق فتطلق في الحال وذلك لوجود الصفة.
قال: [لا إن علقه بطلوع الشمس ونحوه لأنه شرطٌ لا حلف]
إذا قال لها " إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق "، ثم قال بعد ذلك " إن طلعت الشمس فأنت طالق " فلا تطلق عليه في الحال وذلك لأن قوله " إن طلعت الشمس فأنت طالق " ليس حلفاً بل هو شرط محض إذ المكلف لا يقصد بمثله الحض أو المنع وهذا ظاهر، وقد تقدم الفرق بين الحلف والشرط وأن عرف الفقهاء على ذلك كما تقدم نقله عن شيخ الإسلام.
قال: [وإن حلفتُ بطلاقك فأنت طالقٌ، أو إن كلمتك فأنت طالقٌ وأعاده مرةً أخرى طلقت مرة]
__________
(1) كذا في الأصل.


إذا قال لامرأته " إن حلفت بطلاقك فأنت طالق " ثم قال " إن حلفت بطلاقك فأنت طالق " فإنها تطلق بالجملة الثانية طلقةً واحدة وذلك لوجود الصفة وهي الحلف بالطلاق، وإذا قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " فإنها تطلق بالجملة الثانية طلقة واحدة، وذلك لأن قوله " إن كلمتك فأنت طالق " كلام وقد علق طلاقها بكلام، وهذا كلام فيقع الطلاق به.
قال: [ومرتين فثنتان وثلاثاً فثلاثٌ]
إذا قال لها " إن حلفت بالطلاق فأنت طالق " ثم قال " وإن حلفت بالطلاق فأنت طالق " طلقت واحدة، ثم قال " إن حلفت بالطلاق فأنت طالق " طلقت ثانية، ثم قال " إن حلفت بالطلاق فأنت طالق " طلقت ثالثة، لوجود الصفة المعلق عليها الطلاق في كل مرة.
هذا ما لم يقصد إفهامها أو التأكيد، أما إذا قصد إفهامها والتأكيد فإنه لا يقع إلا في الأولى، فإذا قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " طلقت واحدة، فإن قال لها ذلك مرة أخرى وقصد إفهامها أو التأكيد فإنها لا يقع عليه طلقة أخرى لأنه لا يقصد الطلاق وإنما يقصد إفهامها قوله أو يقصد التأكيد.

فصل
قال: [إذا قال: إن كلمتك فأنت طالق فتحققي أو قال: تنحي أو اسكتي طلقت]
فتتحققي: أي تبيني قولي وانتبهي له.
إذا قال لزوجته " إن كلمتك فأنت طالق فتحققي أو اسكتي أو تنحي " فإنها تطلق عليه لأنه قال لها " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال لها " فتحققي " أو " اسكتي " وهذا كلام فالصفة قد وجدت وعليه فالطلاق واقع.


وظاهر كلام المؤلف أن ذلك مطلقاً سواء أراد إفهامها أو أراد الابتداء بالكلام وهذا فيه نظر ظاهر، ولذا اختار ابن القيم التفصيل في هذه المسألة، فإذا قال " إن كلمتك فأنت طالق " ثم قال " اسكتي " وأراد بذلك منعها من الكلام ولم يرد بذلك ابتداء كلام يقع به الطلاق، فإن الطلاق لا يقع، وأما إن كان يريد ابتداء كلام يقع به الطلاق فإن الطلاق يقع، والراجح هو ما ذكره ابن القيم؛ لأن هذا هو مقصود الحالف، فمقصود الحالف أن يتكلم بكلام في مجلس آخر وأما أن يقصد أن ذلك يدخل بمجرد الكلام ولو كان يريد به التأكيد أو الإفهام أو نحو ذلك فلا.
قال: [وإن بدأتك بالكلام فأنت طالق، فقالت: إن بدأتك به فعبدي حر، انحلت يمينه]
إذا قال لزوجته " إن بدأتك بكلام فأنت طالق " فقالت له امرأته: " إن بدأتك بالكلام فعبدي حر " فإن يمينه تنحل فلا حنث عليه؛ وذلك لأنها بدأته بالكلام، فإذا تكلم معها بعد ذلك فإنه لا يكون مبتدءاً الكلام.
قال: [ما لم ينو عدم البداءةِ في مجلس آخر]
فإذا كان لا يريد ما يقع بينه وبينها من نقاش وجدال أو نحو ذلك في ذلك المجلس بل يريد ما يكون بعد ذلك، فإن كان هذا مراده ومقصوده فإنه يحنث إن بدأها بالكلام وإن قالت هي له ما قالت، لأنه ينوي مجلساً آخر ووقتاً آخر.


والقول الثاني في المسألة وهو احتمالٌ للموفق ابن قدامة، وقال صاحب الإنصاف في هذا القول " وهو قوي جداً " وهو كما قال، هذا القول مبني على أنه يريد بذلك وقتاً آخر،وعليه فلا يحنث إلا أن يبدأها بالكلام في وقت آخر لأن هذا هو مراده، فالرجل إذا قال لامرأته: " إن بدأتك بالكلام فأنت طالق " فإنه لا يريد ما يقع من الكلام في المجلس الذي وقع فيه الحلف بل يريد وقتاً آخر، وعليه فإذا بدأها في وقت آخر بالكلام فإن الطلاق يقع، ولا عبرة بإجابتها إياه في المجلس الذي وقع فيه الحلف؛ لأن الحالف بمثل هذا إنما يريد وقتاً آخر، هذا هو الجاري في العرف وهذا هو الغالب في إرادة المتكلمين.

فصل
قال: [إذا قال: إن خرجت بغير إذني أو إلا بإذني أو حتى آذن لك، أو إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني فأنت طالق]
هنا قد علق الطلاق بالخروج من البيت بلا إذن، فالوصف الذي علق عليه الطلاق هو الخروج بلا إذن إلا ما استثنى، كأن يقول لها " إن خرجت من الدار إلا لأهلك فأنت طالق " أو قال لها " إن خرجت من الدار فأنت طالق " وأطلق ولم يستثن.
قال: [فخرجت مرة بإذنه ثم خرجت بغير إذنه]
أي قالت له مرة " استأذنك بالخروج إلى السوق مثلاً " فقال لها " قد أذنت لك" فخرجت إلى السوق ثم خرجت بغير إذنه خروجاً آخر فإن الطلاق يقع لوجود الصفة.
قال: [أو أذن لها ولم تعلم]
أي أخبر أباها أو أمها أو أحد أبنائها أنه أذن لها لكن هذا الإذن لم ينقل إليها فخرجت عاصيةً له فإن الطلاق يقع؛ وذلك لوجود الصفة وهي الخروج بلا إذن، والأذن إنما يكون إذناً حيث أعلم به المأذون له فلا إذن إلا بإعلام، فالإذن في اللغة هو الإعلام ومنه سمي الأذان أذاناً لما فيه من الإعلام، فكونها تخرج بإذن لم تخبر به لأنه لا يكون إذناً حتى تعلم به (1) ، والوجه الثاني في المذهب لا تطلق والأول هو الراجح.
قال: [أو خرجت تريد الحمام وغيره]
__________
(1) كذا العبارة في الأصل.


فإذا قال لها " إن خرجت بلا إذن فأنت طالق إلا إلى أهلك "، فخرجت إلى أهلها وإلى غيرهم، فإنها تطلق وذلك لوجود الصفة.
قال: [أو عدلت منه إلى غيره]
ففي المثال السابق: إن خرجت إلى أهلها لكنها عدلت عن أهلها إلى غيرهم فإن الطلاق يقع؛ لأنه خروج غير مأذون به فوجدت الصفة التي علق الطلاق عليها.
إذن: إذا جمعت بين مأذون به وغير مأذون به فإنها تطلق؛ لوجود خروج غير مأذون به.
قال: [طلقت في الكل]
وذلك لوجود الصفة التي علق الطلاق عليها.
قال: [لا إن أذن لها (1) فيه كلما شاءت]
إذا قال الرجل لامرأته: " إن خرجت يوماً من الدهر بلا إذني فأنت طالق " فما هو المخرج من ذلك؟
المخرج أن يقول لها: " أذنت لك في الخروج كلما شئت ".
قال: [أو قال: إلا بإذن زيدٍ فمات زيدٌ ثم خرجت]
إذا قال لها: " لا تخرجي إلا بإذن والدك وإن خرجت بغير إذنه فأنت طالق " فمات والدها فخرجت فلا طلاق، وذلك لأن الميت لا إذن له، ولأن هذا معلوم من حلفه، فإنه إنما أراد حيث كان له إذنٌ وأما الميت فلا إذن له، فكونه يستثنى خروجها بعد موت من شرط إذنه هذا معلوم من حلفه.

الدرس الثالث والخمسون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [إذا علقه بمشيئتها بإن أو غيرها من الحروف لم تطلق حتى تشاء ولو تراخى]
إذا قال لها: " أنت طالق إن شئت أو إذا شئت أو متى شئت " فإنها لا تطلق حتى تشاء أي حتى تشاء بلسانها فتقول: " شئت ذلك:، أما مشيئة القلب فلا عبرة بها؛ وذلك لأن ما في القلب لا يعلق به حكم حتى يُعبَّر عنه باللسان.
__________
(1) كذا في الأصل، وفي نسخة عندي: " لا إن أذن فيه " دون: لها.


" ولو تراخى " فلو قالت بعد يوم أو شهر أو سنة قالت: " شئت " فإنها تطلق عليه، فمتى قالت: " شئت " فإنها تطلق عليه ولو كان ذلك مع التراخي كسائر التعاليق، فكما أنه إذا قال لها: " إذا دخلت الدار فأنت طالق "، فدخلت الدار بعد شهر أو شهرين، فكذلك إذا قال لها: " أنت طالق إن شئت " فإنها تطلق متى قالت: " شئت "، ولو كان ذلك بعد سنة أو سنتين.
وليس له الرجوع كسائر التعاليق، فكما أنه إذا قال لها: " إن دخلت الدار فأنت طالق " فليس له الرجوع، فكذلك: " أنت طالق إن شئت ".
وقال الشافعية: بل هو على الفور، وذلك لأنه تمليك للطلاق فأشبه ما لو قال لها: "اختاري " وقد تقدم أنه إذا قال لها: " اختاري " فإن الخيار يثبت لها في المجلس، والراجح هو القول الأول.
والجواب عن القول الثاني، أن الفرق بين هذه المسألة وبين قوله: " اختاري " ظاهر، فإن قوله: " أنت طالق إن شئت " من باب الشروط، وقوله: " اختاري " من باب الخيار، والخيار على الفور، [ولا يصح رجوعه كبقية التعاليق، وعنه يصح كاختاري.] (1)
قال: [فإن قالت: قد شئتُ إن شئتَ فشاء لم تطلق]
إذا قالت له: " شئتُ إن شئتَ " فهنا شرطت مشيئته وشرط المشيئة ليس بمشيئة فلا تكون طالقاً، فهي لم تقل: " شئت " لكنها علقت مشيئتها بمشيئته فهذا شرط وليس بمشيئة وعليه فلا طلاق.
قال: [وإن قال: إن شئتِ وشاء أبوكِ أو (2) زيد لم يقع حتى يشاءآ معاً، (وإن شاء أحدهما فلا) (3) ]
إذا قال لها: " أنت طالق إن شئت وشاء زيد " فشاءت ولم يشأ زيد فلا طلاق لعدم وجود الصفة وهي مشيئتهما جميعاً، أو قال لها: " إن شئتِ وشاء أبوكِ " لم تطلق حتى يشاءا معاً ولو تراخى أحدهما فالمشيئة ثابتة.
قال: [وأنت طالق أو عبدي حرٌ إن شاء الله وقعا]
__________
(1) ما بين القوسين ليس في الأصل - المذكرة -.
(2) في الأصل: أو شئتِ وشاء زيد.
(3) الزيادة هذه ليست في الأصل.


إذا قال لامرأته: " أنت طالق إن شاء الله " أو قال: " عبدي حر إن شاء الله " فإن زوجته تطلق وعبده يعتق؛ قالوا: لأنه قد علقه على ما لا سبيل إلى علمه وهي مشيئة الله فأشبه تعليقه على المستحيل.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي: أن الطلاق لا يقع، قالوا: لأنه علقه على صفةٍ لا يعلم وجودها، فهو لا يعلم هل شاء الله عز وجل الطلاق أم لم يشأه.
وفصَّل شيخ الإسلام تفصيلاً حسناً في هذه المسألة فقال: إن كان تعليقاً فلا يقع، وإن كان تحقيقاً أو تأكيداً فإنه يقع، فإذا قال ذلك تعليقاً أي علقه على مشيئة الله المستقلة فلا تطلق عليه؛ لأن الله لا يشاؤه في الواقع وقوعاً حتى يتكلم به هذا المكلف، فلا يقال إن الله شاء الطلاق لفلانة من فلان إلا أن يكون قد وقع وحدث، وعليه فإذا قال لها "أنت طالق إن شاء الله " فلا تطلق حتى يقول لها بعد ذلك: " أنت طالق "، وأما إن كان تحقيقاً أو تأكيداً بمعنى قال: " إن شاء الله" يحقق قوله أي قد وقع قوله وشاءه الله عز وجل فهذا هو التحقيق، أو تأكيداً كأن يقول: " إن شاء الله " مؤكداً للطلاق مثبتاً له.
وهذا تفصيل جيد في المسألة.
أما لو قال: " أنت طالق إلاّ أن يشاء الله " فإنها تطلق؛ وذلك لأن قوله: " أنت طالق إن شاء الله " جملة فيها إثبات الطلاق ووقوعه، وفيها تعليق رفعه على مشيئة الله، فقوله: " إلا أن يشاء الله " تعليق لرفع الطلاق على مشيئة الله، ومشيئة الله ليست بمعلومة.
قال: [وإن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله طلقت إن دخلت]


إذا قال لها: " إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله " فإنها تطلق بذلك، وهذا تفريعٌ على المسألة السابقة، ما لم ينو الاستثناء للفعل وهو دخولها فإنها لا تطلق؛ وذلك لأنها إن دخلت فيُعلم أن الله عز وجل قد شاءه، ويكون هذا التعليق كالتعليق على اليمين، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (من حلف على يمين فقال إن شاء الله لم يحنث) (1) رواه الترمذي والنسائي وغيرهما وهو حديث صحيح.
فإذن إن قال لها: " إن دخلت الدار فأنت طالق إن شاء الله " إن كانت المشيئة للفعل المحلوف عليه فلا تطلق إن دخلت، لأن دخولها بمشيئة الله المعلق عليها، وكل يمين علقت بمشيئة فلا حنث فيها للحديث المتقدم بخلاف ما إذا كان التعليق للطلاق.
قال: [وأنت طالق لرضا زيدٍ أو لمشيئته طلقت في الحال]
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الأيمان والنذور باب ما جاء في الاستثناء في اليمين (1531) عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حلف على يمين فقال إن شاء الله فلا حنث عليه، وبلفظ (1532) عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (من حلف فقال إن شاء الله لم يحنث) ، وأخرجه النسائي في كتاب الأيمان والنذور، باب الاستثناء (3828) عن ابن عمر بلفظ: (من حلف فقال إن شاء الله فقد استثنى) ، وبلفظ (3830) : " من حلف على يمين فقال إن شاء الله فهو بالخيار إن شاء أمضى وإن شاء ترك "، وبرقم (3855) عن أبي هريرة، وبلفظ (3856) : " لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته " أي سليمان عليه السلام. وهو في البخاري في كتاب النكاح، باب قول الرجل لأطوفن الليلة على نسائي (5242) بلفظ: عن أبي هريرة قال: قال سليمان.. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لو قال: إن شاء الله لم يحنث وكان أرجى لحاجته "، وهو في مسلم برقم (1654) في باب الاستثناء من كتاب الأيمان.


لأن معنى كلامه " أنت طالق لكون زيد رضي ذلك " و " أنت طالق لكون زيد يشاء ذلك " فإنها تطلق في الحال كما تقدم، لأن معنى كلامه " وقد أوقعت عليك الطلاق لأن أمك تشاء ذلك أو لأن أباك يشاء ذلك.
قال: [فإن قال: أردت الشرط، قُبل حكماً]
أي أردت " أنت طالق إن رضي زيد " أو " أنت طالق إن شاء زيدٌ " فإنه يقبل في الحكم الظاهر، لأن لفظه يحتمل.
وعن الإمام أحمد وهو أحد الوجهين عند الشافعية: أنه لا يقبل في الحكم، وهو الأرجح؛ لأنه يخالف ظاهر قوله، فإذا قال: " أنت طالق لرضا أبيك " فإنها تطلق لأن ظاهر لفظه " أنت طالق لكون أبيك يرضى ذلك " فإذا ادعى أنه أراد الشرط فإن هذا الادعاء يخالفه الظاهر، والادعاء الذي يخالفه الظاهر لا يقبل في الحكم، وأما كونه يُديَّن فيما بينه وبين ربه فهذا ظاهر.

قال: [وأنت طالقٌ إن رأيت الهلال، فإن نوى (1) رؤيتها لم تطلق حتى تراه، وإلا (2) طلقت بعد الغروب برؤية غيرها]
إذا قال لها: " إن رأيت الهلال فأنت طالق " فنقول ما الذي تنويه؟
فإن قال: " نويت أنها طالق إن رأته بعينها " فحينئذٍ لا تطلق إلا إذا عاينته ببصرها، وهنا لفظه يحتمل ذلك، وإن قال: " لم أرد معاينتها بل أريد رؤية الهلال فتطلق بغروب الشمس حيث رأى الهلالَ غيرُها، كما أنها تطلق بتمام الشهر ثلاثين؛ وذلك لأن تمام الشهر ثلاثين في حكم رؤية الهلال شرعاً.

فصل
قال: [وإن حلف لا يدخل داراً أو لا يخرج منها فأدخل أو أخرج بعض جسده أو دخل طاق الباب أو لا يلبس ثوباً من غزلها فلبس ثوباً فيه منه أولا يشرب ماء هذا الإناء (فشرب بعضه) (3) لم يحنث]
طاق الباب: هو العَطْف الذي يكون للباب.
__________
(1) كذا في نسخةٍ بين يدي، وفي الأصل: فإن رؤي رؤيتها.
(2) كذا في نسخة بين يدي، وفي الأصل: أو طلقت.
(3) الزيادة هذه ليست في الأصل.


فلا يحنث في هذه المسائل كلها؛ وذلك لأن فعل البعض ليس كفعل الكل، والحلف إنما هو عن الامتناع عن فعل الكل وليس فعل البعض كفعل الكل، ولذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج رأسه وهو معتكف لعائشة فترجله ولم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج من معتكفه وليس هذا في حكم الخروج من المعتكف.
لكن لو قال: " أنت طالق إن شربت ماء هذا النهر " فقطعاً لا يريد كله ولا يمكن أن تصرف اليمين إلى ذلك، فإذا شرب بعضه فإنه يحنث؛ لأنه يمتنع إرادة الكل فتصرف يمينه على إرادة البعض.
ومبنى الأيمان على نية الحالف، فلو أنه قال: " أنت طالق إن شربت ماء هذا الإناء " وهو ينوي بعضه، فشرب البعض فإنه يحنث فإن الأيمان مبناها على النية، فالأحكام المتقدمة إنما ينظر فيها باعتبار الألفاظ أما لو نوى خلاف ظاهر لفظه فإن الأيمان مبناها على النية.
قال: [وإن فعل المحلوف عليه ناسياً أو جاهلاً حنث في طلاق وعتاقٍ فقط سوى سائر الأيمان]
إذا قال: " إن فعلتُ كذا فامرأتي طالق " أو قال: " إن فعلتِ كذا فأنت طالق " ففعل هو أو فعلت هي نسياناً، أو كان ذلك عن جهل كأن تكون هي لم تعلم باليمين ففعلت ما فعلت، وإذا قال لامرأته: " إن خرجت من الدار فأنت طالق " فنسيت فخرجت، أو قال لأحدٍ من الناس: " إن خرجت امرأتي من الدار فهي طالق " فخرجت من غير أن تعلم بيمينه، أو كان ذلك تقليداً لمفتٍ سواء كان حياً أو ميتاً، فهل يثبت الحنث؟
قال الحنابلة: يثبت الحنث؛ وذلك لأن (1) يمين الطلاق ويمين العتاق فيها حق آدمي ولا فرق فيها بين تعمد ولا خطأ ولا نسيان، [ويعذر عندهم المكره والنائم والمغمى عليه] (2) .
__________
(1) في الأصل: لأن في يمين.
(2) هذه الزيادة ليست في الأصل.


وقال الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وممن اختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: أن الأيمان كلها باقية ولا حنث فيها مع الجهل والنسيان، [وكذا لو عقدها يظن صدقَ نفسه فبان خلاف ذلك أو لقصد الإكرام، قال شيخ الإسلام: "من حلف بالطلاق كاذباً يعلم كذب نفسه لم تطلق " أي لا يلزمه كفارة.] (1)
واستدلوا بقوله تعالى {وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم} (2) ، وبقوله تعالى {ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا} (3) ، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) (4) .
قالوا: وهذه أدلة عامة ليس فيها استثناء.
قالوا: ويمين الطلاق ويمين العتاق المُغلَّب فيها حق الآدمي بل المرأة قد يكون أشد شيءٍ عليها ذلك، وهو فراق زوجها.
قالوا: ولأن حقيقة الحنث هو مخالفة اليمين، والمخالفة إنما تكون مع التعمد، وأما مع عدم التعمد، وعدم القصد فإنه ليس ثمت مخالفة، ولأن مقصود الحالف عدم مخالفته، وإذا خولف أو خالف هو نسياناً أو خطأً فإن مقصوده لا ينتقض، فإذا قال لامرأته: " إن خرجت من الدار فذهبتِ إلى السوق فأنت طالق " وهو يريد ألا تخالفه وألا تعصيه فإنها إذا فعلت ذلك نسياناً أو خطأً فإنها لا تعد عاصية ولا مخالفة؛ لأن العصيان إنما يكون مع التعمد.
وهذا هو الراجح في هذه المسألة.
أما إذا فعل ما حلف عليه مكرهاً:
- فقال الحنابلة: لا يحنث؛ وذلك لأن المكره لا يضاف إليه الفعل، فإذا قال لامرأته: " إن خرجت من الدار فأنت طالق " فأخرجت كرهاً فإنها لا تطلق؛ وذلك لأن المكره لا يضاف إليه الفعل.
__________
(1) الزيادة ليست في الأصل.
(2) سورة الأحزاب.
(3) سورة البقرة.
(4) تقدم.


وكذلك النائم والمغمى عليه؛ لأن عقليهما قد غطيا بعذر، فإذا فعلت ذلك نائمةً أو مغمى عليها فإن الحنث لا يقع كما هو المشهور في المذهب، [وكذا لو عقدها يظن صدق نفسه أو للإكرام أو كاذباً فلا طلاق ولا كفارة.] (1)
قال: [وإن فعل بعضه لم يحنث إلا أن ينويه]
إذا قال: " إن دخلتُ الدارَ فزوجتي طالق " فدخل بعض بدنه إلى الدار، أو قال: " إن شربت ماء هذا الإناء فامرأتي طالق " فشرب بعضه فإنها لا تطلق؛ لأن فعل البعض ليس فعلاً للكل إلا أن ينويه، فإذا نوى منع نفسه من هذا الشيء كلية حتى القليل منه، فإن الأيمان مبناها على النية وإنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فإن قال: " إن شربت هذا الماء الذي في الإناء فامرأتي طالق " وهو ينوي وقوع الطلاق ولو شرب بعضه، فإن شرب بعضه فإن زوجته تطلق عليه.
قال: [وإن حلف ليفعلنه لم يبرأ إلا بفعله كله]
وذلك لأن فعل البعض ليس فعلاً للكل وقد حلف أن يفعله كله، فلا يبرأ حتى يفعله كله.

الدرس الرابع والخمسون بعد الثلاثمائة
باب التأويل في الحلف
ومن التأويل في الحلف التأويل في حلف الطلاق.
قال: [ومعناه أن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره]
هذا هو معنى التأويل في الحلف، هو أن يريد بلفظه ما يخالف ظاهره، فظاهر لفظه له معنى وهو يريد معناً آخر يحتمله اللفظ، كما لو قال: " نسائي طوالق " وهو لا يريد زوجاته بل يريد نساءه من عماته أو خالاته أو غيرهن.
والتأويل في الحلف جائزٌ إن كان دفعاً لظلمٍ، ففي سنن أبي داود بإسنادٍ صحيح عن سويد بن حنظلة قال: " خرجنا نريد النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعنا وائل بن حجر فأخذه عدوٌ له فتحرج القوم أن يحلفوا فحلفت أنه أخي فأخبرت بذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (صدقت، المسلم أخو المسلم) (2) ، فظاهر قوله: " أخي" أنها أخوة النسب وهو يريد أخوّة الدين وقد فعله لدفع الظلم.
__________
(1) هذه الزيادة ليست في الأصل.


قال: [فإذا حلف وتأوَّل يمينه نفعه]
فلو أن رجلاً أكره على طلاق نسائه فقال: " نسائي طوالق " وهو لا يريد بنسائه زوجاته وإنما يريد بناته فهنا لا يقع الطلاق، فينفعه ذلك.
قال: [إلا أن يكون ظالماً]
فيُستثنى من ذلك أن يكون الحالف ظالماً فلو أن رجلاً قال له القاضي: " احلف " فقال: " نسائي طوالق إن كان هذا الشيء ليس لي "، وهو كاذب، فهنا هو ظالمٌ وتأول في الحلف، فهنا يكون عليه الحنث ولا ينفعه هذا التأويل؛ لما ثبت في صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (اليمين على نية المستحلف) (1) ، ولأننا إذا أجزنا ذلك فإنه يكون ذريعة إلى جحد الحق وإبطاله ودمغه، ولا شك أن ما كان ذريعة إلى ذلك، فهو محرم؛ لأن الذرائع لها حكم الأحكام التي تكون ذريعةً إليها.
وظاهر كلام المؤلف أنه إذا لم يكن ظالماً ولا مظلوماً فإن ذلك جائزٌ، فإنه لم يستثن إلا أن يكون ظالماً، وعليه فالأحوال ثلاثة:
أن يتأول يمينه وهو ظالم فلا ينفعه هذا كما تقدم.
أن يتأول يمينه وهو مظلوم فينفعه ذلك.
ألا يكون ظالماً ولا مظلوماً فينفعه ذلك أيضاً في المشهور من المذهب.
والقول الثاني في المسألة وهو ظاهر كلام الإمام أحمد كما ذكر ذلك شيخ الإسلام: المنع من ذلك، وأن ذلك لا ينفعه، وهو الراجح؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اليمين على نية المستحلف) وهذا عام لا يستثنى منه إلا أن يكون الحالف مظلوماً.
قال: [فإن حلَّفه ظالمٌ ما لزيدٍ عندك شيء وله عنده وديعةٌ بمكانٍ، فنوى غيره]
فلو أن ظالماً أراد أخذ مال زيدٍ فقال: " ما لزيدٍ عندك (2) شيء "، وله وديعة عنده فحقيقة الأمر أن له وديعة عنده فقال " ما لزيدٍ عندي شيء " ونوى غير المكان الذي هما فيه، أي ما لزيدٍ عندي في البيت وله عنده في الدكان.
قال: [أو بما الذي]
__________
(2) كذا في الأصل.


أي نوى أن " ما " بمعنى " الذي "، " ما لزيدٍ عندي شيءٌ " أي الذي لزيدٍ عندي شيءٌ، وهذا يصح.
قال: [أو حلف ما زيدٌ هاهنا ونوى غير مكانه]
قيل له: " هل زيد في البيت " فقال: " ما زيدٌ هاهنا " ونوى مكاناً آخر بأن يشير بيده إلى موضع آخر فيقول: " ما زيد هاهنا "، وهذا تأويل سائغ.
قال: [أو حلف على امرأته لا سرقت مني شيئاً فخانته في وديعةٍ ولم ينوها لم يحنث في الكل]
فإذا قال لامرأته: " إن سرقت مني شيئاً فأنت طالق " فخانته المرأة في وديعة عنده ولم ينوِ دخول الخيانة في قوله، لم يحنث؛ وذلك لأن الخيانة ليست بسرقة؛ لأن السرقة إنما تكون من حِرْزٍ وهذه ليست كذلك، أي في حق المودع عنده.
لكن لو نوى بقوله " إن سرقت مني شيئاً فأنت طالقٌ " نوى دخول الخيانة أو كان سبب تهييجها للحلف هو ذلك، أي خشي أن تخونه فحلف على ذلك، فإنه حينئذٍ يحنث في يمينه، لأن هذا السبب الواقع منه قرينة لإرادته دخول الخيانة.

باب الشك في الطلاق
قال: [من شك في طلاقٍ أو شرطه لم يلزمه]
شك لا يدري هل طلق امرأته أم لا، أو شك في شرطه أي هل وقع الشرط أم لم يقع، إذا قال لامرأته: " إن دخلت الدار فأنت طالق " ثم شك لا يدري أدخلت المرأة الدار أم لم تدخلها، لم يلزمه؛ لأن هذا شك، والشك لا يزول به اليقين، فاليقين بقاء عصمة النكاح فلم يزل بهذا الشك الطارئ عليه.
وقال الموفق رحمه الله: " الأولى له إيقاع الطلاق تورعاً " ا. هـ، وفيما ذكره نظر، قال ابن القيم: " الأولى إبقاء عصمة النكاح، ويكره أو يحرم العمل بالشك فإن الطلاق بغيض إلى الرحمن حبيب إلى الشيطان " ا. هـ فمثل هذا لا يقال أن التورع إيقاعه، فالصحيح ما ذكره ابن القيم، [فإن قال كلمة فشك هل هي طلاق أم ظهار لم يلزمه شيء قالوا والأحوط كفارة الظهار ليبرأ بيقين.] (1)
قال: [وإن شك في عدده فطلقةٌ]
__________
(1) هذه الزيادة ليست في الأصل.


إذا شك لا يدري أطلَّق امرأته طلقتين أم طلقة، فاليقين أنها طلقة، والطلقة الثانية مشكوك فيها، واليقين لا يزول بالشك.
قال: [وتباح له]
أي تباح له هذه المرأة لما تقدم من أن الأصل بقاء عصمة النكاح، وهذا الطلاق مشكوك فيه.
قال: [فإذا قال لامرأتيه: إحداكما طالقٌ طلقت المنوية]
إذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق ونوى فلانة منهما [مبهماً] (1) ، فإن المنوية تطلق عليه؛ لأنه قد عيَّنها بنيته، فلفظه مبهمٌ لكن نيته معينة.
قال: [وإلا من قرعت]
وإلا: أي إن لم ينوِ إحداهما فإنه يوضع بينهما القرعة، والقرعة طريقٌ شرعي لإخراج المجهول، فالحق لواحدة منهما غير معينة فوجبت بالقرعة، أي وجب حقها بالقرعة، فيضع بينهما القرعة فمن خرجت عليها القرعة فهي الطالقة بتلك اللفظة التي تلفظ بها.
وقال الشافعية والأحناف: بل يتخير أيتهما شاء، قالوا: لأنه له ابتداءً إيقاع الطلاق وتعيينه، وهنا قد أوقعه ولم يعينه فبقي له حق التعيين استيفاءً لملكه.
والأرجح هو القول الأول؛ وذلك لأنه حق لإحداهما من غير تعيين فوجب بالقرعة كالسفر ببعض النساء، وتقدم لأنه ليس له أن يسافر بإحدى نسائه إلا بقرعة.
فأما ما ذكروه فهو ضعيف؛ وذلك لأنه يملك الطلاق قبل إيقاعه وأما بعد أن أوقعه فإنه ليس له فيه أي ملك، وكان له حق التعيين مع الإيقاع وأما وقد أوقعه ولم يعيِّن فقد خرج عنه حق التعيين.
قال: [كمن طلق إحداهما بائناً ونسيها]
رجل طلق إحدى امرأتيه طلاقاً ثلاثاً بائناً لكنه نسيها ولا بينة، فالحكم أنه توضع بينهما القرعة في الحل وفي الإرث، أي في حلِّها له وفي كونها ترث منه، أما الإرث فهذا ظاهر للتعليل المتقدم فهو حق لواحد غير معين ولا سبيل لنا إلى تعيبن صاحب الحق فحينئذٍ سلكنا هذا الطريق الشرعي وهو القرعة.
__________
(1) ليست في الأصل.


وأما في الحِل فاختار الموفق وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب أكثر أهل العلم كما حكى ذلك الموفق: " أن القرعة هنا لا طريق لها؛ ذلك لأن الزوجة هنا قد اشتبهت عليه، فكما لو اشتبهت زوجته بأجنبية فإنه لا يحل له أن يطأ، وهنا كذلك فقد اشتبهت عليه إحدى المرأتين هذه محرمة عليه بالبينونة وهذه حلال له، ولأن القرعة لا تحل المرأة المطلقة، ومعلوم أن القرعة قد تقع على المرأة المطلقة المنسية، وهذه القرعة لا تحل المرأة التي قد وقع عليها الطلاق ولا ترفع الطلاق عنها.
فإن قيل فما الفرق بينها وبين المسألة المتقدمة؟
فالجواب: أن المسألة المتقدمة الطلاق لم يقع على واحدة بعينها بل الطلاق مبهم فاحتجنا إلى تعينه بالقرعة، وأما في هذه المسألة فإن الطلاق واقع على واحدة بعينها، فإن إحداهما طالق بعينها ولكنها مجهولة، وهذا فرق ظاهر بين المسألتين، فالراجح ما ذكره الموفق وهو مذهب أكثر أهل العلم.
قال: [وإن تبيَّن أن المطلقة غير التي قرعت ردت إليه ما لم تتزوج أو تكن القرعة بحاكم]
هذا تفريع على القول المرجوح، فإذا وقعت القرعة فخرجت على فلانة وتبين للزوج، أي تذكر أن المطلقة غير التي قرعت، وهذا أي التذكر أمر لا يعلم إلا من جهته فيقبل فيه قوله، فإذا تذكر أنها غير التي قرعت فإنها ترد إليه.
ما لم تتزوج: فإذا تزوجت فلا ترد إليه؛ وذلك لأن قوله المجرد عن البينة لا يسقط حق غيره فالمرأة هنا قد تزوجت فأصبحت في عصمة غيره فقوله المجرد لا يسقط حق الغير.
أو تكن القرعة بحاكم، فإذا كانت القرعة من طريق الحاكم فيكون هذا قضاءً وحكماً والحكم لا يرفع بقوله المجرد.
إذن: إذا تزوجت المرأة أو كانت القرعة بحاكم فإنها لا ترد إليه، وأما إذا لم تتزوج ولم يثبت حكم القرعة بحاكم فإنها ترد إليه؛ لأنه شيءٌ لا يعلم إلا من جهته فقبل فيه قوله.


قال: [وإن قال: إن كان هذا الطائر غراباً ففلانة طالق، وإن كان حماماً ففلانة طالق وجُهل لم تطلقا]
لاحتمال أن يكون هذا الطائر ليس بغراب ولا حمام والطلاق لا يقع بالشك.
قال: [وإن قال لزوجته وأجنبية اسمها هندٌ إحداكما (أو هندٌ طالقٌ) (1) طلقت امرأته]
إذا قال لزوجته وامرأة أجنبية عنه اسمها هند إحداكما طالق طلقت امرأته؛ وذلك لأنه لا يملك طلاق الأخرى.
قال: " أو هند طالق طلقت امرأته ":
فإذا قال لامرأته واسمها هند، وامرأة أجنبية [عنه] (2) اسمها هند فقال: " هندٌ طالق " فيقع الطلاق على امرأته؛ وذلك لأن الأخرى ليست بزوجةٍ له، والطلاق لا يقع عليها فهو لا يملك طلاقها.
قال: [وإن قال: أردت الأجنبية لم يقبل حكماً إلا بقرينة]
إذا قال: " أردت الأجنبية " لم يقبل حكماً؛ لأنه يخالف الظاهر، ولكنه يديَّن بنيته فيما بينه وبين ربه، ولا يقبل في الحكم إلا بقرينة، كأن يقول ذلك دفعاً للظلم كأن تكون له زوجة اسمها هند، وأخت اسمها هند فقيل له طلق زوجتك فقال: " هند طالق " وهو لا يقصد طلاق زوجته بل يقصد بذلك أخته، فلما كانت هذه القرينة موجودة فلا يقع الطلاق حكماً.
قال: [وإن قال لمن ظنها زوجته: أنت طالق طلقت الزوجة (وكذا عكسها) (3) ]
إذا قال لامرأة يظنها زوجته وهي ليست بزوجةٍ له قال: " أنت طالق " فإنها تطلق الزوجة، اعتباراً بالقصد، فقصده زوجته [وهو كما لو قال: " امرأتي طالق " ففي المذهب قوة.] (4)
والقول الثاني في المذهب وهو الصحيح من المذهب وهو مذهب الشافعية: أن الطلاق لا يقع اعتباراً بالخطاب؛ لأن الطلاق إنما يقع حيث خوطبت به المرأة أو كان بلفظ ظاهر إرادتها. (5)
__________
(1) ليست في الأصل.
(2) ليست في الأصل.
(3) ليست في الأصل.
(4) هذه الزيادة ليست في الأصل.
(5) هنا في الأصل عبارة: " وهذا القول فيما يظهر لي أظهر "


فالاعتبار هنا بالخطاب لا بالقصد، والنية المجردة عن اللفظ لا يقع معها الطلاق، [والأول أظهر.] (1)
قال: [وكذا عكسها]
فعكس هذه المسألة يقع الطلاق فيها على امرأته، فإذا قال لمن ظنها أجنبية وهي زوجته قال لها: " أنت طالق " يظنها أجنبية عنه فكانت امرأته، فكذلك يقع عليها الطلاق؛ وذلك لأنه واجه امرأته بصريح الطلاق.
والقول الثاني في المسألة وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه لا يقع، وهذا القول الأرجح، وذلك لأن الأعمال بالنيات، فاللفظ قطعاً لا يريد به طلاق امرأته، بل يريد به محادثة ومخاطبة الأجنبية، وعليه فلا يقع الطلاق، لكننا نحكم بالظاهر إلا مع قرينة، ويُدين بنيته فيما بينه وبين ربه.

الدرس الخامس والخمسون بعد الثلاثمائة
باب الرجعة
الرجعة: هي إعادة مطلقة غير بائن إلى ما كانت عليه بغير عقد.
وقد أجمع أهل العلم على أن الرجل الحر إذا طلق امرأته دون الثلاث، والعبد دون اثنتين فلهما الرجعة في العدة، ولا يشترط – إجماعاً – في الرجعة قبول المرأة ولا الولي ولا صداق في ذلك، فهو استدامة للنكاح.
قال: [من طلق بلا عوضٍ زوجةً مدخولاً أو مخلواً بها دون ماله من العدد فله رجعتها في عدتها]
من طلق بلا عوض: تقدم حكم الطلاق بعوض وهو الخلع -، فمن طلق امرأة مدخولاً بها أو في حكم المدخول بها وهي المخلو بها دون ماله من العدد فله رجعتها ما دامت في العدة أما غير المدخول بها فإنها تبين منه بطلقة ولا عدة لها كما تقدم تقريره.
قال: [ولو كرهت]
فله رجعتها ولو كرهت لقوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} (2) ، وقد سماه الله تعالى بعلاً أي زوجاً وهو زوج لها وهو أحق برجعتها.
وظاهر الآية أن ذلك ليس إلى الولي ولا إلى المرأة وتقدم الإجماع عليه.
__________
(1) هذه العبارة ليست في الأصل.
(2) سورة البقرة.


وظاهر كلام المؤلف الإطلاق فيمن يريد الإصلاح وفيمن لا يريده، فكل من أراد الرجعة فله المراجعة كما هو إطلاق المؤلف وهو إطلاق غيره من الفقهاء.
واختار شيخ الإسلام: أنه لا يُمكن من ذلك إلا أن يريد بذلك الإصلاح والإمساك بالمعروف، وعليه فإذا راجعها بغير هذه الإرادة فطلقها فلا يقع الطلاق حينئذٍ؛ وذلك لأنه طلاق بعد رجعة غير صحيحة.
وقوله هو الذي يدل عليه ظاهر القرآن، قال تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحاً} ، فشرط الله تعالى بهذا الحكم إرادة الإصلاح.
قال: [بلفظ راجعت امرأتي ونحوه]
فألفاظ المراجعة: راجعت امرأتي ونحوه من الألفاظ كأن يقول: " رددتها " أو "أمسكتها " وغير ذلك من الألفاظ التي هي صريحة في الرجعة.
قال: [لا نكحتها ونحوه]
فإذا قال في الرجعة: " نكحتها أو تزوجتها ونحوه " فلا يحصل به الرجعة، وذلك لأن هذا اللفظ يكون كناية، قالوا: والرجعة استباحة بُضع مقصود، فلم تصح فيه الكناية كالنكاح.
والقول الثاني في المسألة، وهو وجه عند الحنابلة وممن قال به ابن حامد: أن الرجعة تحصل به مع النية.
وهذا أظهر؛ وذلك لأنه يدل عليها، فهذا اللفظ يدل على الرجعة وقد نوى قائله الرجعة، والعبرة بالمعاني لا بالمباني وبالقصود لا بالألفاظ.
وفرق بين النكاح والرجعة؛ فإن النكاح ابتداء وأما الرجعة فهي إعادة لهذه المرأة في الزوجية، فالمعقود عليها في النكاح أجنبية، وأما المتلفظ لها في الرجعة فهي زوجه كما تقدم في قوله تعالى {وبعولتهن} .
قال: [ويسن الإشهاد]
ويسن له أن يشهد على الرجعة.
قالوا: لأن الرجعة لا تفتقر إلى قبول من المرأة ولا من الولي وما كان كذلك لم تفتقر إلى الإشهاد، وهو قول جمهور العلماء.
والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد: أن الإشهاد شرط في صحة الرجعة فلا تصح الرجعة إلا بالإشهاد، وهو القول القديم للشافعي.


والذي يترجح أن الإشهاد واجب وليس بشرط ويدل على هذا قوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدل منكم} ، وظاهر الأمر الوجوب، ويدل على وجوبها وأنها تصح مع عدم الإشهاد، ماثبت في سنن أبي داود بإسنادٍ صحيح أن عمران بن الحصين سئل عن الرجل يُطلِّق ولا يشهد ويراجع ولا يشهد فقال: " طلقت لغير سنة وأرجعت لغير سنة، أشهد على طلاقها وأشهد على رجعتها ولا تعد " (1) ، فالذي يترجح هو وجوب الإشهاد لكن ليس بشرط في صحتها بل تصح الرجعة ولو لم يشهد، وإنما قلنا بوجوبه لقوله تعالى: {وأشهدوا ذوي عدلٍ منكم} (2) ، ولقول عمران بن الحصين: " وأرجعت لغير سنة "، ولأن عدم الإشهاد ذريعة إلى كتمان الطلاق فقد يطلق الرجل امرأته المرة الأولى ثم يطلقها المرة الثانية ولا يشهد، ثم يطلقها الثالثة، فيكتم الطلقتين الأوليين فيسول له الشيطان إبقاءها عنده بخلاف ما إذا أشهد على الطلقة الأولى والطلقة الثانية فإن الأمر يكون بيِّناً.

قال: [وهي زوجة، لها وعليها حكم الزوجات ولكن لا قسم لها]
هذا هو حكم الزوجة المطلقة الطلاق غير البائن في عدتها، فحكمها حكم الزوجات فلها ما لهن من النفقة والسكن وعليها ما على الزوجات بالمعروف، ومن ذلك أنها لا تخرج من بيتها ولكن لا قسم لها قال تعالى: {واتقوا الله [ربكم] لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة} (3) .
والمشهور في المذهب: أنه يحل له أن يطأها وأنها تتزين له وتتشرف له وله أن يطأها ويخلو بها وغير ذلك من الأحكام.
وقال الشافعية: بل هي محرمة عليه؛ وذلك لأن هذه الطلقة ثبت معها التحريم فهي طلقة وقعت فثبت معها التحريم.
__________
(2) سورة الطلاق 2
(3) سورة الطلاق 1


والذي يقوى عندي – والله أعلم – أن الوطء ينهى عنه، وأما تشرفها له وتزينها له والخلوة بها والسفر بها فهو جائز، وأما الوطء فإنه يمنع منه؛ وذلك لأن في المنع منه سبباً لإرجاعها؛ وذلك لأنه إذا علم أنه لا يمكن من وطئها إلا بأن يراجعها فإن المنع من الوطء يكون ذريعةً إلى إرجاعها والإرجاع محبوب إلى الله تعالى، ولأن هذه الطلقة كما ذكروا ثبت بها التحريم وإنما كان له حق الرجوع، وأما الخلوة بها ونحو ذلك فإنها تستثنى بدليل أن الله تعالى نهاهن من الخروج من بيوتهن ومعلوم أن بقاءها في بيتها يكون فيه خلوة، وغير الخلوة مما تقدم ذكره في السفر بها ونحوه له حكم الخلوة.
قال: [وتحصل الرجعة أيضاً بوطئها]
وتقدم أن الحنابلة يجيزون الوطء فإذا وطئها فإن الرجعة تحصل بها سواء نوى به الرجعة أم لم ينوِ به الرجعة، إذن: بالوطء المجرد تثبت الرجعة.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب المالكية وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الرجعة لا تحصل بالوطء إلا بالنية؛ وذلك لأن الوطء ليس صريحاً في إرادة إرجاعها فاشترط فيه النية، وهذا القول هو الأظهر، وعليه فإذا وطء الرجل امرأته ولم ينو بذلك الرجعة فلا يكون هذا الوطء رجعة بل لا يكون رجعة حتى ينويه.
وأما ما دون الوطء فظاهر كلام المؤلف وهو المذهب: أن الرجعة لا تحصل به فإذا استمتع بها بما دون الوطء كأن يقبلها أو يباشرها فإن الرجعة لا تحصل به في المذهب.
وقال الأحناف: بل تحصل به؛ وذلك لأن الاستمتاع بالمرأة لا يحل إلا بالزوجية، وقولهم أظهر لكن بشرط النية كما تقدم، فإذا باشرها أو قبلها أو نحو ذلك وهو ينوي الرجعة فإن الرجعة تحصل بذلك.
قال: [ولا تصح معلقةً بشرط]


اتفاقاً، فلا يصح أن يراجع امرأته ويعلق هذا بشرط، كالنكاح، فليس له أن يقول: راجعتك إن كان كذا، بل لابد وأن يكون منجزاً كالنكاح، بخلاف الطلاق الذي هو فراق للمرأة، وأما الرجعة ففيها استدامة لنكاحها فأشبه ابتداء النكاح في هذا الحكم.
قال: [فإذا طهرت من الحيضة الثالثة ولم تغتسل فله رجعتها]
عدة المطلقة ثلاثة قروء أي حيضات، فإذا حاضت الحيضة الأولى ثم الثانية ثم الثالثة ثم انقطع عنها الدم فبانقطاع الدم يتم لها ثلاثة قروء، فله أن يراجعها قبل أن تغتسل، فإذا انقطع الدم فجلست ساعة أو ساعتين أو يوم أو يومين أو شهراً أو سنة ولم تغتسل فله أن يراجعها وهو ظاهر المذهب وأن له أن يراجعها وإن فرطت في الاغتسال مدة طويلة، قالوا: لأنه قول عمر وعلي وابن مسعود كما في مصنف عبد الرزاق، قالوا: ولا يعلم لهم مخالف.
ورجَّح الموفق أن ذلك بحيث يلزمها الغسل، فلو طهرت بعد طلوع الفجر فإنها لا تلزم بالغسل حينئذٍ وإنما تلزم به إذا خشي فوات وقت الظهر، فإذا راجعها في هذه الساعات فالرجعة صحيحة، لكن لو أخرت الاغتسال حتى خشي خروج الوقت فإن الرجعة لا تصح وتكون قد خرجت من عدتها، وهذا القول أظهر - على ترجيح هذا القول -.
والقول الثاني في المسألة وهو قول الجمهور وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره الشيخ عبد الرحمن السعدي: أنها بانقطاع الدم في القرء الثالث تكون قد خرجت من عدتها، قالوا: وهذا ظاهر قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} (1) ، فإن قوله (في ذلك) الإشارة هنا تعود إلى العدة المذكورة، وهي ثلاثة قروء، فجعل العدة ظرفاً لأحقية الزوج بالرجعة، ومفهوم هذه الآية أن هذه القروء إذا مضت ولم يراجعها فإنه ليس له أن يراجعها.


وقالوا: ولأن سائر الأحكام كذلك، فما هو الدليل على استثناء هذه المسألة، وإلحاق الشيء بنظيره أولى، ولذا فالحنابلة يقولون بالتوارث (1) فيما إذا طلق امرأته فاستمرت في عدتها ثلاثة قروء فانقطع الدم في القرء الثالث ومات بعد انقطاعه وهي لم تغتسل، فإنه لا توارث بينهما في المذهب، ولا شك أن إلحاق النظير بنظيره أولى، وكذلك اللعان إذا انقطع الدم عنها في القرء الثالث فقذفها بعد انقطاعه وقبل غسلها، فلا نقول بإيقاعه بل يكون قذفاً لأنها تكون أجنبية عنه حينئذٍ.
وهذا القول هو الأرجح من جهة الدليل.
لكن يشكل عليه ما ذكره الحنابلة من أن هؤلاء الصحابة لا يعلم لهم مخالف.
فإن صحَّ ذكر الخلاف في أن بعض الصحابة، كعائشة وابن عمر وزيد بن ثابت كما في الموطأ: أنهم كانوا يرون أن الأقراء هي الأطهار، إن صح أن يكون هذا مخالفة منهم لمن تقدم ذكرهم، فيدفع هذا القول بقولهم.
وإلا فقد يقال إن الصحابة القائلين بأن الأقراء هي الحيضات كلهم قد قالوا: إن انقطع عنها الدم ولم تغتسل فله الرجعة والله أعلم.
لكن من حيث الدليل ما ذهب إليه الجمهور أقوى، وممن اختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن سعدي. والله أعلم.
قال: [وإن فرغت عدتها قبل رجعتها بانت وحرمت قبل عقد جديد]
فإذا فرغت العدة قبل رجعتها فإنها تبين منه وتحرم عليه إلا بعقد جديد يشترط فيه الولي والصداق وغير ذلك، وهذا هو مفهوم قوله تعالى: {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} (2) ، فظاهره أنهم ليسوا بأحق بردهن بعد ذلك أي بعد العدة، وهذا باتفاق العلماء.
قال: [ومن طلَّق دون ما يملك ثم راجع أو تزوج لم يملك أكثر مما بقي وطئها زوجٌ غيره أو لا]
__________
(1) في الأصل: بالتواتر.


فإذا طلق رجل امرأته دون ما يملك من عدد الطلاق كأن يطلقها الحر طلقة أو طلقتين فمضت العدة ولم يراجعها ثم تزوجت بزوج آخر أو لم تتزوج زوجاً آخر ثم عقد عليها زوجها الأول عقداً جديداً فلا يبطل الطلاق بل يبقى عليه طلقة حيث طلقها طلقتين، ويبقى طلقتان حيث طلقها طلقة.
أما حيث لم تتزوج زوجاً آخر فهذا باتفاق أهل العلم لا نزاع بينهم في ذلك، فإذا طلق الرجل امرأته فانتهت عدتها ثم عقد عليها عقداً جديداً فتحسب عليه تلك الطلقة بلا نزاعٍ بين العلماء، والطلاق ثابت وواقع ولا دليل على رفعه.
وأما إذا عقبه عليها زوجٌ آخر فهل يحسب عليه طلاقه الأول أم لا؟
قولان لأهل العلم:
القول الأول، وهو مذهب جمهور العلماء: أنه (1) يحسب عليه الطلاق الأول، وهو قول أكابر الصحابة كما قال ذلك الإمام أحمد، وممن قال به؛ عمر بن الخطاب كما في مصنف عبد الرزاق بإسنادٍ صحيح (2) ، قالوا: والزوج الآخر ليس شرطاً في إحلالها للزوج الأول فلم يكن مؤثراً في إذهاب الطلاق السابق، فكان هذا النكاح الثاني وجوده كعدمه لا يغير من حكم الطلاق شيئاً.
القول الثاني، وهو مذهب الأحناف: (3) أنه لا يحسب عليه الطلاق السابق وهو قول طائفةٍ من الصحابة وممن روي عنه هذا القول: ابن مسعود وابن عمر وابن عباس كما في مصنف عبد الرزاق، قالوا: لأن هذا الحكم أولى من البينونة الكبرى، فإذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً ثم نكحها زوجٌ آخر فإنه ينكحها بعده الأول بلا طلاق سابق إجماعاً، أي لا يحسب عليه الطلاق السابق، فإذا ثبت هذا في البينونة الكبرى فالبينونة الصغرى أولى – والبينونة الصغرى لا يشترط فيها نكاح زوجٍ آخر –.
__________
(1) في الأصل: أن الحكم أنها يحسب عليه الطلاق الأول.
(3) في الأصل: " وقال الأحناف، وهو قول طائفة من الصحابة وممن روي عنه هذا القول ابن مسعود وابن عمر وابن عباس كما في مصنف عبد الرزاق، قالوا: إنه لا يحسب.. "


وفي القولين قوة، لكن القول الأول فيما يظهر لي أرجح، لأنه قول أكابر الصحابة، ولأن ثمت فرقاً بين الطلاق الثلاث الذي تحصل به البينونة الكبرى وبين الطلاق الذي دونه الذي تحصل (1) به البينونة الصغرى حيث نكحت زوجاً آخر؛ وذلك أنها إذا نكحت زوجاً آخر فلا يمكن أن نمكنها من نكاح هذا الزوج ونحسب عليها طلاقاً؛ لأنا إذا حسبنا الطلاق، فالطلاق ثلاث، وعليه فلا يمكن نكاحها، فأبطلنا الطلاق السابق كله واستأنفوا نكاحاً جديداً.
وأما في المسألة الأخرى فإن النكاح إنما تحسب فيه طلقة، وعليه فإنه يمكن إكمال الزواج وإتمامه بينهما؛ لأنا لا نحسب عليهما إلا طلقة أو طلقتين، والمسألة فيها تجاذب كما ذكر ابن القيم، إلا أن الأولى فيما يظهر لي ما ذهب إليه الجمهور، والله أعلم.

الدرس السادس والخمسون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [وإن ادعت انقضاء عدتها في زمن يمكن انقضاؤها فيه أو بوضع الحمل الممكن وأنكره فقولها]
فإذا ادعت المطلقة طلاقاً غير بائن؛ أن عدتها قد انقضت في زمن يمكن انقضاء العدة فيه، أو ادعت أنها وضعت حملاً ممكناً وأنكر ذلك الزوج – فالقول قولها؛ لأن هذا الأمر لا يعلم إلا من جهتها فكان القول قولها ولذا قال تعالى: {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} (2) ، وذلك لأنهن مؤتمنات على ذلك.
قال: [وإن ادعته الحرة بالحيض في أقل من تسعة وعشرين يوماً ولحظة لم تسمع دعواها]
اللحظة هنا لتحقيق انقضاء الدم، فالحرة عدتها ثلاث حيض، وأما الأمة فعدتها حيضتان، فإذا ادعت انقضاء العدة في تسعة وعشرين يوماً فهذا ممكن، وأما أقل من تسعة وعشرين يوماً فهذا لا يقبل، وذلك لما تقدم من أن أقل الطهر ثلاثة عشر يوماً وأن أقل الحيض يومٌ (3) .
__________
(1) في الأصل: " الذي بينه البينونة الصغرى.. "
(3) في الأصل: يوماً.


فإذا حاضت يوماً ثم طهرت ثلاثة عشر يوماً - فهذه أربعة عشر يوماً – ثم حاضت يوماً – فهذه خمسة عشر يوماً – ثم طهرت ثلاثة عشر يوماً – فهذه ثمانية وعشرون يوماً – ثم حاضت يوماً – فهذه تسعة وعشرون يوماً – ثم في لحظه تحقق انقطاع الدم فحينئذٍ تكون بذلك قد انقضت عدتها.
فإن ادعته في أقل من تسعة وعشرين يوماً فإن هذا غير ممكن، وهذا ينبني على ما تقدم من أقل الحيض وأقل الطهر وتقدم ترجيح شيخ الإسلام؛ وأنه ليس لأقل الحيض شيءٌ محدد، خلافاً لما ذهب إليه الحنابلة.
فإن ادعته في هذه المدة فهل يقبل قولها بلا بينة أم لا؟
[القول الأول وهو] (1) المشهور في المذهب أنه: لا يقبل قولها إلا ببينة؛ وذلك لندور ذلك فإنه يندر أن تحيض امرأة في تسعة وعشرين يوماً ثلاث حيض وعليه فلا بد أن تشهد لها نساؤها العدول.
والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد: أنه يقبل قولها؛ لأنه ممكن وهي مؤتمنة على نفسها.
وهذا فيما يظهر لي أظهر؛ فهي مؤتمنة على نفسها فالقول قولها لا فرق بين أن يكون هذا الشيء نادراً أو غير نادر.
قال: [وإن بدأته فقالت: انقضت عدتي فقال: كنتُ راجعتك]
فإذا قالت المرأة لزوجها: " انقضت عدتي " فقال: " كنت راجعتك " فالقول قولها إلا أن يكون له بينة، فإن (2) أتى ببينةٍ تشهد على أنه راجعها قبل انقضاء عدتها فلا شك أن البينة يحكم بها.
لكن إن لم يكن له بينة، فالقول قولها؛ وذلك لأن الظاهر حصول البينونة، والأصل عدم الرجعة، فالأصل عدم ما يدعيه هو، أي الأصل هو البينونة، فهو يدعي خلاف الأصل فيطالب بالبينة، فإن أتى بها وإلا فالقول قولها.
قال: [أو بدأها به، فأنكرته فقولها]
__________
(1) ليست في الأصل.
(2) في الأصل: فإذا.


إذا بدأها هو بذلك فقال: " كنت راجعتك " فقالت: " قد انقضت عدتي قبل أن تراجعني " فالقول قولها؛ لأن الأصل هنا حصول البينونة، وما يذكره من الرجعة خلاف الأصل ولا فرق بين أن يكون قد ابتدأها هو أو ابتدأته هي وما ذكره المؤلف هو قول في المذهب.
وأما المشهور في المذهب فهو خلاف ما ذكره المؤلف: فقد فرقوا بين ما إذا بدأها، وبين ما إذا بدأته، فقالوا: إذا ابتدأته فالقول قولها، وأما إذا بدأها هو فالقول قوله.
وسرّ الفرق عندهم: أنه إذا بدأها هو فإن ذلك يكون قبل الحكم بانقضاء عدتها، لأننا حكمنا بانقضاء عدتها بقولها: انقضت عدتي، وأما [إن] ابتدأته هي فبقولها هذا يكون الحكم بانقضاء العدة، فيكون قوله وهو ادعاء الرجعة بعد الحكم بانقضاء العدة.
لكن الراجح ما تقدم، وهذا التفريق ليس بمؤثر لأن الأصل معها، فالأصل هو حصول البينونة وعدم الرجعة في المسألتين كلتيهما.
مسألة:
المشهور في المذهب وهو ظاهر إطلاق المؤلف هنا: أن المرأة إذا ادعت ما ادعته من انقضاء العدة فإنها لا تطالب باليمين، فالقول قولها بلا يمين، وذلك لأن الرجعة لا يصح بذلها، فالمال يصح بذله فلو أن رجلاً قيل له: "احلف " فقال " لا أحلف " يترتب على ذلك أن هذا المال المدعى عليه يُبذل، فيكون قد بذل هذا المال، والبذل للمال يصح، لكن البذل للفرج لا يصح، فإن امتناعها من الحلف يترتب عليه (1) بذل لفرجها وهذا ممنوع كالحدود، فكما أن الحدود لا يستحلف فيها فكذلك في مثل هذه المسائل، وذلك لأن الرجعة لا يصح بذلها، وذلك لأنه بذل لفرج فلابد وأن يكون بحق.
__________
(1) في الأصل: فإن في امتناعها من الحلف يترتب على ذلك بذل فرجها.. "


والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الشافعية وهو قول في المذهب: أنها تطالب باليمين، فلا يقبل قولها إلا باليمين، وذلك لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: (البينة على المدعي واليمين على من أنكر) (1)
__________
(1) قال في الأربعين النووية عن حديث " لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ": "حديث حسن رواه البيهقي وغيره هكذا وبعضه في الصحيحين ".
أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (10 / 252) في أول كتاب الدعوى والبينات قال: " أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وأبو سعيد بن أبي عمرو قالا ثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ثنا يحيى بن أبي طالب أنبأ عبد الوهاب بن عطاء أنبأ ابن جريج عن عبد الله بن أبي مليكة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى ناس دماء قوم وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه) .
وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرني أبو عمرو بن أبي جعفر ثنا عبد الله بن محمد بن يوسف ثنا أبو طاهر ثنا ابن وهب أخبرني ابن جريج، فذكره بإسناده نحوه، رواه مسلم في الصحيح عن أبي الطاهر عن ابن وهب.

أخبرنا أبو عمر ومحمد بن عبد الله الأديب أنبأ أبو بكر الإسماعيلي أخبرني عمران بن موسى ثنا نصر بن علي الجهضمي ثنا عبد الله بن داود أنبأ بن جريج عن ابن أبي مليكة: أن امرأتين كانت تخرزان في بيت، فخرجت إحداهما وقد انفذ بأشفافي كفها، فرفعت إلى ابن عباس، فقال ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لذهب دماء قوم وأموالهم) ذكروها بالله واقرؤوا عليها {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً} فذكروها فاعترفت، وقال ابن عباس قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (اليمين على المدعى عليه) رواه البخاري في الصحيح عن نصر بن علي، على هذا رواية الجماعة عن ابن جريج.
وأخبرنا أبو عمرو الأديب أنبأ أبو بكر الإسماعيلي أخبرني الحسن بن سفيان ثنا صفوان بن صالح ثنا الوليد هو ابن مسلم ثنا ابن جريج عن ابن أبي مليكة قا ل: رفع إلي امرأة تزعم أن صاحبتها وجأتها بأشفا حتى ظهر من كفها، فسألتُ ابن عباس فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال دماء رجال وأموالهم، ولكن البينة على الطالب واليمين على المطلوب) .
أخبرنا أبو الحسن على بن أحمد بن عبدان أنبأ أحمد بن عبيد الصفار ثنا جعفر بن محمد الفريابي ثنا الحسن بن سهل ثنا عبد الله بن إدريس ثنا ابن جريج وعثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة قال: كنت قاضياً لابن الزبير على الطائف، فذكر قصة المرأتين قال: فكتبتُ إلى ابن عباس، فكتب ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى رجال أموال قوم ودماءهم، ولكن البينة على المدعي، واليمين على من أنكر) وذكر الحديث ".


، وهذا القول أرجح لعموم الحديث.
وأما كونها يترتب على تركها للحلف بذلها لفرجها وهذا لا يصح.
فالجواب: أنه لا يحل لها أن تمتنع من الحلف فإن في امتناعها من الحلف بذلاً لفرجها منها، وبذلها للفرج محرم، والحلف وسيلة إليه فيكون ترك الحلف محرماً عليها، بخلاف ترك الحلف في الأموال فقد يترك الرجل اليمين ويفدي نفسه بماله منها.
وهل يثبت حق الزوج بالنكول أم لا؟
إذا ادعت انقضاء عدتها فقيل لها: احلفي فامتنعت، هذا هو النكول، فهل يقضى للزوج بالرجعة إذا نكلت أم لا؟
قولان لأهل العلم:
القول الأول: أنه لا يحكم بالنكول هنا، وذلك للعلة المتقدمة وهي أن الرجعة فيها بذل للفرج ولا يصح بذله فلم يبذل بالنكول وهو المشهور في المذهب.
القول الثاني، وهو مذهب الشافعية وذكره الموفق احتمالاً وهو الراجح: أنه يقضى بالنكول لكن يستحلف الزوج، فإذا نكلت عن الحلف فحينئذٍ يظهر صدق الزوج ويكون جانبه أقوى من جانبها وعليه فيستحلف لأن من قوي جانبه فالقول قوله بيمينه، فهي في الأصل صاحبة الجنب القوي لما نكلت ضعف جانبها وقوى جانب الزوج وحينئذٍ يستحلف فإن حلف قضي له بالرجعة.

فصل
قال: [إذا استوفى ما يملك من الطلاق حرمت عليه حتى يطأها زوجٌ]
إذا استوفى الزوج ما يملك من عدد الطلاق وهو ثلاث تطليقات للحر، وتطليقتان للعبد، فإنها تحرم عليه زوجته حتى يطأها زوج آخر، لقوله تعالى: {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} (1) .
قال: [في قبل ولو مراهقاً]
__________
(1) سورة البقرة.


أي أن يكون ذلك وطأً في قُبُل ولو كان الواطئ مراهقاً لحصول الوطء منه، ودليل اشتراط الوطء: ما ثبت في الصحيحين أن امرأة رفاعة القرظي جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: " كنت عند رفاعة فطلقني فبتَّ طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هُدبة الثوب "، فقال: (تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتى تذوقي عُسيلته ويذوق عسيلتك) (1) ، أي حتى يذوق منك حلاوة الجماع وتذوقي منه حلاوته، وذلك بالوطء.
قال: [ويكفي تغييبُ الحشَفَة]
وذلك لأن أحكام الوطء تترتب على تغييب الحشفة ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل) (2) .
قال: [أو قدرِها مع جبٍ]
أي المجبوب يكون بقدرها لأنها بمنزلة الحشفة من غيره.
قال: [في فرجها مع انتشارٍ]
أي في فرج المرأة مع انتشار للذكر؛ لأنه مع عدم الانتشار لا يكون قد ذاق عسيلتها.
قال: [وإن لم ينزل]
وذلك لأن ذوق العسيلة يحصل بدونه.
قال: [ولا تحل بوطء دبرٍ]
وذلك لأن الدبر ليس محلاً للوطء الشرعي فلا تترتب عليه الأحكام الشرعية.
قال: [وشبهةٍ]
رجل طلق امرأته ثلاثاً فوطئها رجل يظنها زوجته، فلا تحل للأول؛ وذلك لأن هذا ليس بنكاح.
قال: [وملك يمين]
إذا طلق امرأته ثلاثاً وهي أمة فوطئها سيدها فلا تحل للأول؛ وذلك لأن وطء السيد ليس بنكاح، وقد قال تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} .
قال: [ونكاحٍ فاسد]
كالنكاح بلا ولي – عند من لا يقول به –؛ وذلك لأن إطلاق النكاح يقتضي النكاح الصحيح {حتى تنكح} ، أي حتى تنكح نكاحاً صحيحاً.
قال: [ولا في حيضٍ ونفاس وإحرام وصيام فرض]
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب من أجاز طلاق الثلاث (5260) ، ومسلم (1433) .


فإذا عقد عليها الزوج الثاني ووطئها وهي حائض أو نفساء أو في إحرامٍ منه أو منها أو صيام فرض سواءً كان الصائم هو أو هي أو هما جميعاً، فإن هذا الوطء لا تتحلل به للزوج الأول، وذلك لأنه محرم لحق الله تعالى فلم يحصل به الوطء الذي يترتب عليه التحليل هذا هو المشهور في المذهب.
وذهب الأحناف والشافعية وهو اختيار الموفق: إلى أن هذا الوطء يحصل به التحليل للزوج الأول، وهذا هو الأرجح؛ وذلك لأنه ظاهر القرآن وظاهر السنة فإنه إذا وطئها فقد نكحها، فظاهر قوله تعالى: {حتى تنكح زوجاً غيره} حاصل بذلك، وكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك) حاصل بذلك.
قال: [ومن ادعت مطلقته المحرمة وقد غابت نكاح من أحلها وانقضاء عدتها منه فله نكاحها إن صدَّقها وأمكن]
إذا طلق رجل امرأته طلاقاً بائناً ثم غابت عنه أو غاب عنها فادعت أنها قد تزوجت بعده زوجاً آخر وادعت أن عدتها قد انقضت فله نكاحها إن صدقها، وأمكن ذلك، بمعنى أن يكون الوقت متسعاً لأنها مؤتمنة على نفسها.

الدرس السابع والخمسون بعد الثلاثمائة
كتاب الإيلاء
الإيلاء: هو الحلف، من آلى يولي إذا حلف، والأليَّة هي اليمين.
وعرّف المؤلف الإيلاء بقوله:
[وهو حلف زوجٍ بالله تعالى أو صفته على ترك وطء زوجته في قبلها أكثر من أربعة أشهر]
والأصل في الإيلاء قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم} (1) .
__________
(1) سورة البقرة.


قوله " هو حلف زوجٍ بالله تعالى أو صفته " ظاهر قول المؤلف أنه لو حلف بنذرٍ أو حلف بطلاقٍ أو حلف بعتقٍ فليس بإيلاء وهذا هو المشهور في المذهب، قالوا: لأن حقيقة اليمين أن تكون بالله، فلو قال: " علي صوم الدهر إن وطئتك " فهذا حلف بنذر، أو قال: " علي الطلاق إن وطئتك " فهذا حلف بالطلاق أو قال: " إن وطئتك فعبيدي أحرار " فهذا حلف بالعتق.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الجمهور ورواية عن الإمام أحمد: أنه إيلاء؛ وذلك لأنها يمين في الامتناع عن وطء المرأة فكان إيلاءً.
والصحيح ما ذهب إليه الجمهور، وذلك لأن الحلف بالنذر أو بالطلاق أو بالعتق يمين، سواء قلنا هي يمين حقيقية أو يمين مجازية، فإنها تدخل في قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} .
[قوله:] " على ترك وطء زوجته "؛ سواء كانت الزوجة مسلمة أو ذمية لعموم قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم} ، وأما لو كانت سُرّيته – أي أمته – فليس بإيلاءٍ لأنها لا تدخل في نسائه فلا تدخل في الآية.
" أكثر من أربعة أشهر ": أما إذا كانت المدة أربعة أشهر فأقل فليس بإيلاء، فلو قال لامرأته: " والله لا وطئتك أربعة أشهر أو ثلاثة أشهر " فليس بمولٍ لظاهر الآية، فإن الله تعالى قال: {تربص أربعة أشهر} ، وفي الصحيحين – وهذا لفظ البخاري- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آلى من نسائه شهراً (1) .
الإيلاء الممنوع – وهو محرم لما فيه من ترك الوطء الواجب – إنما يكون في مدة أكثر من أربعة أشهر، وإذا كان يضر بها الشهر والشهران فإنه لا يحل له، ولكن ليس له حكم الإيلاء؛ لظاهر الآية.
قال: [ويصح من كافر]
يصح الإيلاء من كافر لعموم الآية {للذين يؤلون من نسائهم} ، وهذا يعم الكافر والمسلم، أي إذا ترافع إلينا وتقاضى إلينا فإنه يحكم عليه كما يحكم على المسلم في الإيلاء.
قال: [وقنٍّ]


أي عبد، لعموم قوله تعالى: {للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر} ، فالآية عامة في العبد والحر، فلو آلى الرقيق أن لا يطأ زوجته فهذا إيلاء لعموم الآية.
قال: [ومميزٍ]
فإذا كان الزوج صبياً مميزاً لم يبلغ بعد فآلى من زوجته فكذلك هو إيلاء لعموم الآية، ولأن طلاقه يصح فصح إيلاؤه.
والقول الثاني في المسألة وهو اختيار الموفق: أن حلف الصبي ليس بإيلاء لأنه غير مكلف.
والراجح هو القول الأول، وذلك لتعلق ذلك بحق الآدمي – وهي الزوجة-، لكن لا كفارة عليه لأن الكفارة حقٌ لله تعالى وهو ليس بمكلف، لكنه يُتربص به أربعة أشهر فإن فاء وإلا أُمر بالطلاق لعموم الآية، [فهو في حكم الإيلاء كما سيأتي.] (1)
قال: [وغضبان وسكران]
هنا كالطلاق، وقد تقدم التفصيل في مسألة الغضبان، وتقدم أن طلاق السكران لا يقع، فكذلك إيلاؤه، فهاتان المسألتان مبنيتان على طلاق الغضبان وطلاق السكران.
قال: [ومريضٍ مرجو برؤه]
فإذا آلى المريض الذي يرجى برؤه فهو إيلاء لعموم الآية، أما إذا كان غير مرجو الشفاء من هذا المرض، كأن يكون به شلل أو أن يكون مجبوباً أو غير ذلك فلا إيلاء له؛ وذلك لأن الامتناع عن الوطء ليس سببه في الحقيقة اليمين إنما سببه العجز عن الوطء فكانت اليمين لغواً؛ لأنه حلف على شيء مستحيل فقد حلف على ترك ما يستحيل عليه فعله.
قال: [وممن لم يدخل بها]
لعموم الآية، فالآية في المدخول بها من النساء وغير المدخول بها.
قال: [لا من مجنون ومغمى عليه]
لأنهما لا قول لهما، وكذلك النائم، وهي يمين فلم تصح ممن لا قول له، ولذا فالصبي غير المميز لا إيلاء له لأن قوله لا ينعقد.
قال: [وعاجزٍ عن وطء لجبٍ أو شلل]
لأن الامتناع عن الوطء سببه العجز لا اليمين.
قال: [فإذا قال: والله لا وطئتك أبداً] إلى أن قال: [فمول]
__________
(1) هذه الزيادة ليست في الأصل.


إذا قال الرجل لامرأته: " والله لا وطئتك أبداً " فهو مولٍ؛ لأنه قطعاً أكثر من أربعة أشهر، كذلك إن قال: " والله لا وطئتك " لأن الأصل في اليمين التأبيد، أو قال لها: " والله لا وطئتك مدة " ولم يعين هذه المدة بلفظه لكنه عينها في قلبه بأكثر من أربعة أشهر كأن ينوي سنة وتقدم أن الأيمان مبناها على النيات، فهنا لفظه يحتمل أقل من أربعة أشهر ويحتمل أربعة أشهر ويحتمل أكثر من أربعة أشهر فانصرفت اليمين إلى أكثر من أربعة أشهر لنيته.
قال: [أو عين مدة تزيد على أربعة أشهر]
فإذا قال: " والله لا وطئتك سنة " فهو مولٍ.
قال: [أو حتى ينزل عيسى أو يخرج الدجال]
فكذلك لأن ذلك ونحوه يغلب على الظن أنه لا يكون إلا بعد أربعة أشهر.
قال: [أو حتى تشربي الخمر أو تسقطي دينك أو تهبي مالك ونحوه فمولٍ]
في كل هذه الألفاظ يكون مولياً.
قال: [فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه ولو قناً]
لا نقول إن القن يتربص به شهران لعموم الآية، فالآية عامة في العبد والحر وأنه يتربص بهم أربعة أشهر.
قال: [فإن وطئ ولو بتغييب حشفةٍ (1) ]
تقدم أن الأحكام تترتب بتغيب الحشفة.
قال: [فقد فاء وإلا أمر بالطلاق]
فإذا مضت أربعة أشهر من يمينه فإن وطء المرأة بتغييب الحشفة في قبلها فإنه يكون قد فاء، وعليه كفارة اليمين، وهذه المدة يتربصها حيث لا عذر من جهة المرأة أي بأن يكون متمكناً من وطئها هذه المدة، أما إذا كان في المرأة عذر سوى الحيض فإنه تستأنف هذه المدة بعد زوال هذا العذر.
وإذا كانت المرأة ناشزاً أو كانت المرأة نفساء، في أصح الوجهين، أو كانت المرأة محرمة أو غير ذلك من الأعذار التي تكون من جهتها، هذه تقتضي استئناف المدة.
إذا نشزت المرأة أثناء مدة التربص فإنه يتربص به أربعة أشهر أخرى؛ وذلك لأن هذا التربص لهذه المدة حيث أمكنه الوطء وهنا لم يمكنه الوطء لأمر من جهتها.
__________
(1) في الأصل: الحشفة.


وأما إذا كان لأمر من جهته هو، كأن يحبس أو غير ذلك، فإنه يتربص به أربعة أشهر بما فيها هذه المدة التي له فيها عذر، وذلك لأن المانع من جهته هو وليس من جهة المرأة، وهذا حق آدمي فلم يقبل فيه هذا العذر.
وأما الحيض فلا، وذلك لأن الحيض لا يخلو منه شهر، فلو جعلناه عذراً تستأنف بعد زواله مدة التربص لأدى ذلك إلى عدم وطئها أبداً.
قال: " فإذا مضى أربعة أشهر من يمينه " ولا يفتقر هذا إلى حكم حاكم، وذلك لأن الله نص عليه فإذا حلف ألا يطأها قبل شهر وترافعا اليوم إلى القاضي فلا يتربص أربعة أشهر ابتداءً من اليوم بل ابتداءً من اليمين، فلا يُتوقف في مدة التربص على حكم الحاكم وإنما يبتدأ بها – أي عدة التربص – من يمينه، وذلك لأن هذه المدة منصوص عليها فلم يفتقر ذلك إلى حكم حاكم.
قال: " فإن وطئ ولو بتغييب حشفة ": ولو كانت المرأة حائضاً أو نفساء أو كانت محرمة أو كانت صائمة فرضاً، فإن هذا وطء صحيح.
إذا وطئها وهي محرمة، فإنه بذلك لا يكون مولياً، بل يكون قد أفاء، وذلك لأنه وطء، فتنحل به يمينه، أي يكون حانثاً.
إذا حلف ألا يطأها أربعة أشهر وبعد شهرين وطئها وهي حائض أو وطئها وهي محرمة أو وهي صائمة، فبذلك يزول عنه حكم الإيلاء، ويكون حانثاً في يمينه وعليه كفارة يمين.
وكذلك إن وطئها ناسياً أو جاهلاً، فإنه يزول بذلك الإيلاء ويسقط حكمه؛ لثبوت الوطء.
حلف ألا يطأها سنة، فوطئها ناسياً بعد شهر، يزول بذلك ويسقط حكم الإيلاء؛ وذلك لزوال الضرر عنها، فإن الضرر بالامتناع عن الوطء زال بذلك.
لكن هل يحنث أو لا يحنث؟
أصح الروايتين عن الإمام أحمد: أنه لا يحنث، وذلك لما تقدم، وأن من فعل ما حلف ألا يفعله ناسياً أو جاهلاً أو مكرهاً، فإنه لا يحنث.
قال: [وإلا أُمر الطلاق]


مضت الأربعة أشهر، فأبى أن يفيء، يعني أبى أن يطأ المرأة، فإنه يؤمر بالطلاق، يقول له الحاكم: " طلِّق "، لقوله تعالى: {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإن عزموا الطلاق، فإن الله سميع عليم} .
ولا تطلق عليه بمضي الأربعة أشهر، فلا يقع عليه الطلاق حتى يطلق.
ففي صحيح البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: " إذا مضت أربعة أشهر يوقف المُولي، ولا يقع الطلاق حتى يطلِّق " (1) .
يوقف المولي: يقال له: إما أن تفيء، وإما أن تطلق، ولا يقع عليه الطلاق حتى يطلق، رواه البخاري في صحيحه وقال: ويذكر عن عثمان وأبي الدرداء وعائشة واثني عشر من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - " ا. هـ.
وروى كثيراً من هذه الآثار البيهقي في سننه، ولا يُعلم لهؤلاء مخالف، فكان ذلك إجماعاً، خلافاً لأبي حنيفة، فإنه يرى وقوع الطلاق بمجرد مضي المدة المذكورة. لكن الصحيح ما تقدم، فإن الله قال: {فإن عزموا الطلاق} ، ولما تقدم من أثر ابن عمر وأثر من تقدم ذكره، ولا يعلم لهم مخالف.
قال: [فإن أبى طلق حاكمٌ عليه]
إن أبى الطلاق فإنه يطلق القاضي عليه، وذلك لأن الطلاق هنا بحق والطلاق مما تكون فيه النيابة، كما تقدم في الوكالة بالطلاق.
قال: [واحدةٌ أو ثلاثاً أو فسخ]
يعني للقاضي أن يطلق واحدة وله أن يطلق ثلاثاً وله أن يفسخ.
وعن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي: أنه ليس له إلا أن يطلِّق واحدة، كما أنه ليس له أن يأخذ من المدين سوى ما عليه من الحق، فكذلك لا يطلق إلا واحدة، والطلاق الثلاث تقدم أنه محرم.
وذكر القاضي من الحنابلة: أن المنصوص عن الإمام أحمد أن الطلاق يكون بائناً، وفيه – فيما يظهر لي – قوة، وذلك لأنه طلاق من قبل الحاكم فأشبه هذا الفراق الذي يكون في اللعان فإنه طلاق بائن.


لكن لا يكون أبدياً للفرق بينهما، فهذا يتهم امرأته بالزنا – أي الملاعن – وهذا ليس الأمر كذلك فلا يكون أبدياً ولكن يكون بائناً، ولأن المقصود منه إزالة الضرر عن المرأة، وإذا أجزنا له الرجعة فإننا نعيد الضرر إليها.
فالذي يترجح أن الطلاق يكون بائناً، فتكون طلقة واحدة لكن الطلاق يكون بائناً وليس له الرجعة، فإذا انقضت عدة المرأة أو قبل أن تنقضي عدتها فهو خاطب من الخطاب، فإن رضيت ورضي وليها وإلا فلا حق له في نكاحها.
قال: [وإن وطئ في الدبر أو دون الفرج فما فاء]
إن وطء في الدبر أو دون الفرج أي باشرها دون الفرج فما فاء، وذلك لأن الإيلاء امتناع عن الوطء في الفرج كما تقدم، وعليه فلا تكون الفيئة أي الرجوع في وطء سواه أو المباشرة دونه، لأن هذا لا يكون رجوعاً ولا فيئة بل الفيئة والرجوع أن يطأها في فرجها، فإذا أتاها من دبرها أو باشرها دون الفرج فإنه مولٍ ولا يخرج عن حكم الإيلاء بهذا الوطء لأنه ليس بفيئة.
قال: [وإن ادَّعى بقاء المدة]
إن ادعى أن المدة لا زالت باقية ولا بينة للمرأة فالقول قوله، لأنه هو المتلفظ وهو أعلم بقوله من غيره، ولأن الأصل معه وهو بقاء المدة.
إذن: إذا اختلفا هو يقول: " لم تنقض المدة " وهي تقول: " بل انقضت " ولا بينة مع المرأة فالقول قوله لأن الأصل معه.
قال: [أو أنه وطئها وهي ثيب صدِّق مع يمينه]
يعني ادعى أنه وطئها قال: " بل وطئتها "، وهي تقول: " لم يطأني " وهي ثيب صُدق، لأن هذا الأمر لا يعلم إلا من جهته، والحكم والأمر بالطلاق يتعلق به هو فكان القول قوله، لكن مع يمينه، لأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر، فهو منكر لعدم الوطء، وهي تدعي عدم الوطء، فكان القول قوله وعليه اليمين.
قال: [وإن كانت بكراً أو ادعت البكارة وشهد بذلك امرأةٌ عدل صُدِّقت]


إن كانت بكراً وهو يقول أنه قد وطئها، أو ادعت البكارة وشهد بذلك امرأة عدل صُدقت، لقيام ما يدل على كذبه، فإذا ثبت أنها بكر بالبينة فحينئذٍ يحكم بقولها، لأن ثبوت كونها بكراً يدل على كذبه في دعوى الوطء.
قال: [وإن ترك وطأها إضراراً بها بلا يمين ولا عذر فكمُولٍ]
إذا امتنع من الوطء أكثر من أربعة أشهر إضراراً بها بلا يمين فهو مولٍ، وذلك لأن هذا الامتناع بمعنى اليمين، فالذي يحصل من اليمين قد حصل بهذا الامتناع، ولأن حكم الإيلاء إنما شرع لدفع الضرر عنها الحاصل بامتناعه عن الوطء أكثر من أربعة أشهر، فإذا امتنع بلا يمين فكذلك، فعليه: إذا امتنع الرجل من وطء امرأته أكثر من أربعة أشهر فلها أن تطالب بالفيئة أو أن يطلق، وذلك لحصول الضرر هنا الحاصل باليمين.
وكذلك إذا لم يكفِّر كفارة الظهار فمضت أربعة أشهر ولم يكفر كفارة الظهار، ولا يحل له أن يطأها حتى يكفر – لا يحل للمظاهر أن يطأ امرأته حتى يكفر بنص القرآن – فإذا تأخر عن الكفارة هذه المدة فكذلك، لما في ذلك من الضرر عليها، وهذا أيضاً امتناع عن الوطء فهذا فيه إضرارٌ بها فيؤمر بالكفارة، يعني يقال له: " كفر وإلا طلق ".

الدرس الثامن والخمسون بعد الثلاثمائة
كتاب الظهار
الظهار: مشتق من الظهر وهو ما يركب، فالمرأة هي مركوب زوجها فسميت ظهراً.
ويتضح معنى الظهار في الفقه بما يأتي من كلام المؤلف، وأصله قول الرجل لامرأته: " أنتِ علي كظهر أمي "، قال تعالى: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللآئي ولدنهم وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً} (1) .
قال: [وهو محرم]
__________
(1) سورة المجادلة.


فالظهار محرمٌ إجماعاً للآية المتقدمة {وإنهم ليقولون منكراً من القول وزوراً} ، فهو باعتبار الإنشاء منكر؛ لأنه انشأ بتحريم المرأة بهذا اللفظ ولا شك أن هذا التحريم منه منكر، فقد حرم ما هو مباح، وهو خبرٌ كاذب، لأنه أخبر أن امرأته كأمه في الوطء ولا شك أن هذا خبر كاذب.
قال: [فمن شبَّه زوجته أو بعضها ببعض أو بكل من تحرم عليه أبداً]
فمن شبَّه زوجته بجملتها أو بعضها ببعض أو بكل من تحرم عليه، فإذا قال: " أنت علي حرام كأمي " فقد شبه جملة امرأته بجملة أمه، أو ببعض أمه في قوله: " أنت علي كظهر أمي "، وإذا قال: " أنت علي كأمي " فقد شبه جملة امرأته بجملة أمه، وإذا قال: " فرجك علي حرام كأمي " فقد شبّه بعض امرأته بجملة أمه، وإذا قال: " فرجك علي حرام كفرج أمي " فقد شبه بعض امرأته ببعض أمه.
قال: [بنسبٍ أو رضاع]
أو مصاهرة.
فإذا شبه امرأته بمن تحرم عليه على الأبد بنسب أو سببٍ مباح.
بنسب: كأمه، أو بسبب مباح كالرضاع، كأن يقول: " أنت علي حرام كأختي من الرضاع " أو بسبب مباح آخر كالمصاهرة فقال " أنت علي حرام كأمك ".
وظاهر كلام المؤلف: أنه إن شبهها بمن تحرم عليه لا على التأبيد كأخت زوجته أو عمتها أو خالتها، فإن ذلك ليس بظهار، وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب الشافعي؛ وذلك لأنه ليس بمنصوص عليه وليس بمعنى المنصوص عليه، فليس تشبيهاً بالأم، وليس تشبيهاً بمن تكون كالأم، وذلك لأن الأم تحرم على التأبيد، وهنا هذه المرأة وهي أخت زوجته ونحوها لا تحرم على التأبيد، فإذا طلق امرأته أو بانت فيحل له أن ينكحها، وقالوا: هو كما لو قال لامرأته: " أنت علي كزوجتي الحائض أو كزوجتي المُحرِمة ".


والقول الثاني في المسألة وهو المشهور في المذهب، وهو مذهب الإمام مالك: أن هذا ظهار، وهذا هو الراجح، وذلك لأنه تحريم، وكونه على التأبيد أو على غيره بأن يكون إلى أمد هذا غير مؤثر، فقد شبه امرأته بمن تحرم عليه، فأخت زوجته تحرم عليه، فكما لو قال: " أنت علي حرام " وتقدم أن الراجح أنه إذا قال لامرأته: " أنت علي حرام " أنه ظهار فكذلك هنا، وقياس ذلك على امرأته الحائض أو المُحرِمة قياس مع الفارق، والفارق من وجهين:
أن امرأته الحائض يحل له أن يستمتع بها دون الفرج وامرأته المُحرِمة يحل له أن ينظر إليها.
أنه إذا وطئ امرأته الحائض أو المحرمة فعليه الإثم ولا حد، وأما وطء أخت الزوجة فإن فيه حداً فهو زنا.
قال: [من ظهر أو بطن أو عضو آخر لا ينفصل]
هنا في بيان البعض، من ظهر أو بطن أو عضو آخر كاليد أو الفخذ، لا ينفصل أي لابد أن يكون العضو لا ينفصل، أما إذا كان ينفصل كالشعر ونحوه فلا، لما تقدم في كتاب الطلاق.
قال: [بقوله لها: أنت علي أو معي أو مني كظهر أمي أو كيد أختي أو وجه حماتي ونحوه]
فإذا قال لها: " أنت علي كظهر أمي " أو: " أنت معي كظهر أمي " أو: " أنت مني كظهر أمي " ونحو ذلك من الألفاظ التي تدل على الظهار.
فإن قال لها: أنت كأمي، أو: أنت مثل أمي، أو: أنت مثل أختي.
فإن كان ثمت قرينة تدل على إرادة الظهار كأن تكون هناك خصومة أو أن يكون قال ذلك في غضب فهو ظهار، وأما إن لم تكن هناك قرينة فيُدين بنيته ويقبل ذلك حكماً؛ لأن ذلك يحتمل أن يكون في الكرامة أي أني أكرمك كما أكرم أمي، فإن هذا اللفظ يقع.
[قوله:] " أو وجه حماتي " الحماة مراده أم الزوجة (1) .
__________
(1) في الأصل: أخت الزوجة.


وعن الإمام أحمد أن التشبيه الذي يترتب عليه الظهار هو تشبيه جملة امرأته، بأن يقول: " أنت عليَّ " أما إذا شبه بعضها فإن ذلك ليس بظهار، فلو قال: " يدك علي أو فخذك علي كظهر أمي " فإن ذلك ليس بظهار وذلك لأنه ليس بمنصوص عليه.
وذهب جمهور العلماء إلى ما تقدم ذكره وهو الراجح، فسواء شبه جملة امرأته أو بعضها بمن تحرم عليه فهو ظهار؛ وذلك لأن المرأة لا تتبعض عليه حلاً وحرمة.
قال: [أو أنت علي حرامٌ كالميتة والدم فهو مظاهر]
تقدم هذا في درس سابق وأنه ظهار.
قال: [وإن قالته لزوجها فليس بظهار وعليها كفارته]
إذا قالت الزوجة لزوجها: " أنت علي كظهر أبي " فليس بظهار؛ لأن الله قد خصه بالذكور فقال: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} وهذا هو مذهب جماهير العلماء، فإذا قالته المرأة فليس بظهار لكن هل عليها الكفارة أم لا؟
المشهور في المذهب: أن عليها كفارة ظهار كما قال المؤلف قياساً على الزوج.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الجمهور: أنه ليس عليها كفارة الظهار وليس عليها كفارة يمين، وهو رواية عن الإمام أحمد، قالوا: لأنه ليس بظهار فيترتب على ذلك ألا كفارة فيه، فالله عز وجل أوجب الكفارة فيما سماه ظهاراً ونحن لا نسمي هذا ظهاراً فلا تجب فيه كفارة الظهار، وهو كما لو قال لأمته: " أنت علي كظهر أمي " فإن ذلك ليس بظهار عند أهل القولين، فكذلك من باب أولى هذه المسألة فإذا كان قول الرجل لأمته: " أنت علي كظهر أمي " ليس بظهار فأولى من ذلك ألا يكون قول المرأة لزوجها ظهاراً.


والقول الثالث في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد وهو قول عطاء بن أبي رباح: " أن فيه كفارة اليمين "، وذلك لأنه تحريم لشيء على سبيل الظهار فأشبه تحريم الطعام ونحوه، وقد قال تعالى: {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} بعد قوله {يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك} (1) ، وهذا القول الراجح في هذه المسألة، وهو الأقيس على مذهب الإمام أحمد والأشبه بأصوله كما قال ذلك الموفق رحمه الله.

قال: [ويصح من كل زوجة]
يصح الظهار من كل زوجة، أي يصح على كل زوجة، سواء كانت الزوجة حرةً أم أمة، مسلمة أو ذمية لأنها زوجة له، فإذا تزوج أمةً فظاهر منها أو تزوج حرةً فظاهر منها فإن الظهار يقع لعموم قوله تعالى: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم} .
مسألة:
القاعدة هي: أن كل من يصح طلاقه يصح ظهاره.
فلا يصح ظهار الطفل غير المميز ولا ظهار المكره ولا المجنون ولا المغمى عليه ولا النائم، وذلك لأنه لا حكم لقولهم في المسألتين، أي في مسألة الطلاق ومسألة الظهار.
هل يصح ظهار السكران؟
ينبني على الخلاف المتقدم في الطلاق، وتقدم أن طلاقه – على الراجح – أنه لا يقع، فكذلك ظهاره.
هل يصح ظهار (2) الصبي؟
تقدم أن في المسألة قولين، وهذه المسألة تنبني على الخلاف المتقدم، وقد تقدم أن طلاق الصبي يصح.
لكن الذي يترجح لي – في هذا الباب – وهو اختيار الموفق أن ظهار الصبي المميز لا يصح وإن كان طلاقه يقع كما تقدم؛ وذلك لأن الظهار يمين مكفَّرة، ويمين الصبي لا تنعقد، ولأن الظهار منكر من القول وزور، وقد أوجب الله هذه الكفارة لأن الظهار منكر من القول وزور، والصبي مرفوع عنه القلم فهو غير مكلف فليس هذا منه منكراً من القول وزوراً.
__________
(1) سورة التحريم.
(2) في الأصل: طلاق.


وعليه فالذي يترجح أن ظهار الصبي لا يصح، وكذلك إيلاؤه كما تقدم، فالكفارة لا تجب عليه، وقد رجحتُ لكم في الدرس السابق أن إيلاء الصبي يصح، هذا من باب إيقافه بعد أربعة أشهر دفعاً للضرر عن المرأة، وأما من حيث الكفارة فلا، فإنه لا كفارة عليه، وعليه؛ فالذي يتبين أنه لا يسمى إيلاء لكنه يكون في حكم الإيلاء وذلك دفعاً للضرر عن المرأة.

الدرس التاسع والخمسون بعد الثلاثمائة
فصل
قوله: [ويصح الظهار معجلاً]
وتقدمت أمثلته كأن يقول: " أنت علي كظهر أمي ".
قوله: [ومعلقاً بشرط]
كأن يقول: " إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي " أو: " إن قمت فأنت علي كظهر أمي " فهذا معلق بشرط وهو ظهار صحيح، فيصح تعليق الظهار بالشروط قياساً على الطلاق بجامع أن كليهما تحريم للزوجة.
قوله: [فإذا وجد صار مظاهراً]
فإذا وجِد الشرط صار مظاهراً.
قال: [ومطلقاً]
أي يصح الظهار مطلقاً أي غير مؤقت، فإذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " فهنا ظهار منجز مطلق.
قال: [ومؤقتاً]
فيصح الظهار مؤقتاً كأن يقول لها: " أنت علي كظهر أمي في هذه السنة " أو " أنت علي كظهر أمي في هذا الشهر، أو: أنت علي كظهر أمي في هذا اليوم " وهكذا، ويدل على صحة تأقيته دليلان؛ دليل من الأثر ودليل من النظر.
أما الدليل الأثري؛ فهو ما رواه الترمذي وغيره في قصة سلمة بن صخر وفيه أنه ظاهر من امرأته حتى ينسلخ شهر رمضان فأصاب فيه فأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فأمره بالكفارة " (1) .
وأما الدليل النظري؛ فهو أن الظهار يمين يمتنع بها المتلفظ من وطء امرأته فأشبه الإيلاء، والإيلاء يصح تأقيته كأن يقول: " والله لا وطئتك هذا الشهر ".
إذن: قياساً على الإيلاء بجامع أن كليهما يمين تمنع من الوطء.
قال: [فإن وطئ فيه كفَّر]
لأنه يكون قد حنث في يمينه.
قال: [وإن فرغ الوقت زال الظهار]


فإذا فرغ الوقت الذي حدده فإن الظهار يزول، فإذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي في شهر رمضان " فمضى شهر رمضان ولم يطأها، فيزول الظهار وليس عليه كفارة.
لأنه حينئذ لا يكون قد حنث، فالتحريم مؤقت في شهر رمضان، وقد مضى هذا الشهر فزال بمضيه الظهار.
قال: [ويحرم قبل أن يكفِّر وطء ودواعيه ممن ظاهر منها]
يحرم على المظاهر أن يطأ المرأة التي قد ظاهر منها، فإذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " فلا يحل له أن يطأها حتى يكفر وهذا بالإجماع.
ودليله قوله تعالى: {والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} .
وكذلك دواعي الوطء من قبلة أو مسٍ أو نحو ذلك فلا تحل له حتى يكفر، في أصح قولي العلماء وهو المشهور في المذهب وهو أحد قولي الشافعي.
والقول الثاني في المسألة وهو القول الثاني في مذهب الشافعي وأحمد: أن ذلك يحل له لقوله تعالى {من قبل أن يتماسا} وهو كناية عن الوطء.
والراجح هو القول الأول، ويدل عليه الأثر والنظر.
أما الأثر؛ فهو ما روى الترمذي وأبو داود ورواه الإمام احمد والحديث حسن من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمظاهر: (فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله به) (1) ، ويدخل في ذلك النهي عن فعل ذرائع الوطء من قبلة أو مباشرة أو مس أو نحو ذلك.
أما دليل النظر: فهو أن لفظ المظاهر يقتضي ذلك فإنه قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " وهذا يقتضي المنع من الدواعي لأن الدواعي محرمة عليه تجاه أمه، وقد شبه امرأته بأمه، ولأن القبلة والمس ونحوهما من ذرائع الوطء، والشرع إذا حرم الشيء حرم ذرائعه الموصلة إليه.
قال: [ولا تثبت الكفارة في الذمة إلا بالوطئ]
__________
(1) أخرجه الترمذي في كتاب الطلاق واللعان، باب ماجاء في المظاهر يواقع قبل أن يكفر (1120) ، انترنت / موقع الإسلام / بواسطة ردادي. ولم أجده بهذا اللفظ في أبي داود وأحمد.


لا تثبت الكفارة في ذمة المظاهر إلا بالوطء، فلو عزم على الوطء فنقول له: يجب عليك أن تكفر ولا يحل لك أن تطأ حتى تكفِّر إذ شرط الحل الكفارة.
لكن لا تتعلق في ذمته حتى يطأ، فلو قُدِّر أنه مات وقد عزم على أن يعود ولم يطأ بعد فإنها لا تجب في ماله، أو ماتت المرأة قبل أن يطأها فإنها لا تجب عليه.
قال: [وهو العود]
فالعود هو الوطء في أصح أقوال العلماء، ففي العود المذكور في قوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا} ، فيه لأهل العلم ثلاثة أقوال:
القول الأول وهو قول أهل الظاهر: أن المراد بذلك أن يعود للمظاهرة لفظاً، فيظاهر منها مرةً أخرى، أي بأن يقول لها مرة أخرى: " أنت علي كظهر أمي "، فإذا قال الرجل لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " فلا كفارة، فإذا كرر فقال: " أنت علي كظهر أمي " فحينئذٍ تجب عليه الكفارة
وهذا القول ضعيف تبطله السنة؛ فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيحين أوجب على أوس بن الصامت الكفارة (1) ولم يعد في لفظه، ولحديث سلمة بن صخر المتقدم فإنه أصاب من امرأته فأوجب النبي - صلى الله عليه وسلم - الكفارة ولم يشترط أن يعود في لفظه، وهذا القول لم يسبق إليه الظاهرية أحد من السلف الصالح من الصحابة والتابعين.
القول الثاني وهو مذهب الشافعية: أن العود هو أن يمسكها بعد أن ظاهر منها زمناً يمكنه أن يطلقها فيها بمعنى لحظة يمكن أن يطلق فيها، فلو قال: "أنت علي كظهر أمي " ثم سكت فعليه الكفارة لكن لو قال: " أنت كظهر أمي " ثم قال مباشرة: " أنت طالق " فحينئذٍ لا كفارة عليه، أما إذا أمسكها بعد تلفظه بالظهار زمناً يمكنه أن يطلقها فيه فإن عليه الكفارة، قالوا: لأن مقتضى الظهار البينونة،فإمساكها هو العود، وهذا القول ضعيف من وجهين:
الوجه الأول: أنا لا نسلِّم أن الظهار يقتضي البينونة لكنا نقول إنه يقتضي التحريم.


الوجه الثاني: أن الله عز وجل قال: {ثم يعودون لما قالوا} ولفظة (ثم) تفيد التراخي، وهذا الإمساك الذي تقدم ذكره عن الشافعية ليس بمتراخٍ.
والقول الثالث في المسألة وهو قول جمهور العلماء: أن العود هو الوطء كما ذكر المؤلف هنا، وهو أصح الأقوال، أي ثم يعودون لما قالوا من تحريم المرأة فيستبيحونه أي فيستبيحون ما حرموه بوطء المرأة.
وعليه فقوله تعالى: {ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة} معناه؛ ثم يعزمون على العود، فإذا عزموا على العود فتجب عليهم الكفارة من قبل العود، وقد نصر هذا القول، وذكر الأدلة وذكر الأقوال وبسط الكلام فيه الحافظ ابن القيم في زاد المعاد.
قال: [ويلزم إخراجها قبله عند العزم عليه]
لقوله تعالى: {من قبل أن يتماسا} ، فهو شرطٌ في حلها.
قال: [وتلزمه كفارة واحدة بتكريره قبل التكفير من واحدةٍ]
أي من واحدةٍ من نسائه، فإذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " قال ذلك في يوم السبت مثلاً ولم يكفر، ثم قال في يوم الاثنين: " أنت علي كظهر أمي " ولم يكفر، ثم قال في يوم الثلاثاء " أنت علي كظهر أمي " ولم يكفر فلا تجب عليه إلا كفارة واحدة، كاليمين، فإن الظهار نوع من الأيمان.
والرجل إذا قال: " والله لا دخلت دار فلان" ثم كرر ذلك قبل أن يكفر فإنها يمين واحدة، وهنا كذلك.
أما إذا قال لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " ثم كفر، ثم قال لها: " أنت علي كظهر أمي " فإنه يجب أن يكفر عن ظهاره الثاني وذلك كاليمين.
قوله: " من واحدةٍ " أما لو كان من عدة نساء، فإنه يقول لامرأته: " أنت علي كظهر أمي " ثم يقول للثانية كذلك، فإن الأعيان قد تعددت فعليه لكل واحدة كفارة.
قال: [ولظهاره من نسائه بكلمة واحدة]


إذا قال لنسائه: " أنتن علي كظهر أمي " فلا يجب عليه إلا كفارة واحدة كاليمين، فهو كما لو قال: " والله لا أكلت هذا اليوم ولا شربت ولا وطئت ولا خرجت " ففعل هذه الأشياء كلها، فلا تجب عليه إلا كفارة واحدة؛ لأنها يمين واحدة، وكذلك إذا قال لنسائه: " أنتن علي كظهر أمي " فهو ظهار واحد، أما لو قال لكل واحدة منهن: " أنت علي كظهر أمي " فالحكم يختلف ولذا قال المؤلف:
[وإن ظاهر منهن (بكلمات) (1) فكفارات]
فإذا قال للأولى: " أنت علي كظهر أمي " وقال للثانية كذلك وقال للثالثة كذلك، فيجب أن يكفر كل ظهار كالأيمان، لأن الظهار حينئذٍ أيمان متعددة في أعيان متعددة فوجب لكل يمين كفارتها.

الدرس الستون بعد الثلاثمائة
فصل
قال: [كفارته عتق رقبة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً]
للآية الكريمة، وذلك واجب على الترتيب اتفاقاً، فيجب عليه أن يعتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً، كما رتبت الآية الكريمة وكما ثبت في حديث أوس بن الصامت وفي حديث سلمة بن صخر.
ثم فصَّل في الرقبة وهي الأصل في الكفارة.
فقال: [ولا تلزم الرقبة إلا لمن ملكها أو أمكنه ذلك بثمن مثلها]
فلا تلزم الرقبة إلا لمن ملكها، أو أمكنه أن يملكها بثمن مثلها أو بثمن زائد لكن لا يُجحف بماله، فإذا كان ثمن مثلها عشرة آلاف، فأمكنه أن يشتريها بعشرة آلاف أو بأكثر من عشرة آلاف لكن ذلك لا يجحف بماله فيجب عليه أن يشتريها فيعتقها.
قال: [فاضلاً عن كفايته دائماً]
أي فاضلاً عن كفايته سنته تلك، كما فسَّر ذلك بعض الشراح.
قال: [وكفاية من يمونه، وعما يحتاجه من مسكن وخادمٍ ومركب وعرض بذلة]
البذلة: الثوب الخَلِق.
قال: [وثياب تجملٍ، ومالٍ يقوم كسبه بمؤنته]
كأن يكون له دكان أو له آلة يعمل عليها ويحصل منها نفقته ونفقة من يمون.
__________
(1) ليست في الأصل.


قال: [وكتب علم ووفاء دين]
فلا تجب إلا أن تكون فاضلة عن حاجته، وذلك لأن ما استغرقته حاجة الإنسان فهو كالمعدوم، فهذه الأشياء المذكورة هو محتاج إليها، وما استغرقته حاجة الإنسان هو كالمعدوم، أي كما لو لم يجده، فكما لو لم يكن عنده كتب وكما لو لم يكن عنده خادم وكما لو لم يكن عنده آلة ونحو ذلك.
فما استغرقته حاجة الإنسان فهو كالمعدوم؛ وذلك لأن ما تستغرقه حاجة الإنسان من الحرج أن يُكلف ببيعه والاستغناء عنه ومعلوم أن الحرج مرفوع في الشريعة الإسلامية، {ما جعل عليكم في الدين من حرج} (1) .
مسألة:
اعلم أن القاعدة في المذهب؛ أن المعتبر في الكفارات كلها وقت الوجوب.
ووقت الوجوب في كفارة الظهار هو العَوْد أي الوطء، فإذا وطئ فهذا هو وقت وجوب كفارة الظهار عليه، فلو كان موسراً قادراً على أن يعتق رقبة عند وطئه ثم أعسر فتتعلق الرقبة في ذمته فليس له أن ينتقل إلى الصيام ولا إلى الإطعام بعد الصيام.
والعكس بالعكس، فلو أنه كان عند الوطء معسراً، والواجب على المعسر هو الصيام؛ لأنه غير قادر على الإعتاق، فإذا أيسر فلا يجب عليه أن يعتق رقبة؛ لأنا ننظر إلى حاله أثناء الإيجاب، فالواجب عليه هو الصيام، لكن إن شاء أن يعتق رقبة فله ذلك لأنها هي الأصل، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد في الكفارات كلها، وهكذا في كفارة اليمين وغيرها.
واليمين وقت وجوبها الحنث، فلو أن رجلاً حلف ألا يفعل كذا ففعله وكان موسراً فعليه الإطعام أو الكسوة أو تحرير الرقبة، لكنه أعسر بعد ذلك فنقول له: لا يجزئك أن تصوم بل عليك أن تعتق أو تطعم متى تيسر لك الأمر.
والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد حكاها عنه ابن عقيل: أن المعتبر في الكفارات هو الأداء، وعليه فمتى أراد أن يؤدي نقول: انظر إلى حالك هل أنت موسر أو معسر.
__________
(1) سورة الحج، الآية الأخيرة.


وهذا فيما يظهر لي أقوى، وهو ظاهر الآية الكريمة: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} ، فإن لم يجد في حال كان في عسر أو يسر فإنه يصوم شهرين متتابعين فإن لم يستطع في أي حال كان، فإنه يطعم ستين مسكيناً.
قال: [ولا يجزئ في الكفارات كلها إلا رقبة مؤمنة]
فلا يجزئ في الكفارات كلها إلا رقبة مؤمنة، وهذا هو مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة.
فلا يجزئ في الكفارات إلا أن تكون الرقبة مؤمنة، وذلك لقوله تعالى في كفارة القتل: {فتحرير رقبة مؤمنة} (1) ، والقاعدة هي تقييد المطلق بالمقيد إذا اتحد الحكم، ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما ثبت في صحيح مسلم: (أعتقها فإنها مؤمنة) (2) .
وأما أبو حنيفة فاستدل بالإطلاق في الآية الكريمة في الظهار: {فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا} ولم يشترط أن تكون الرقبة مؤمنة، لكن كما تقدم يُقيد المطلق على المقيد؛ لأن الحكم متحد وإن كان السبب مختلفاً.
قال: [سليمة من عيب يضر بالعمل ضرراً بيناً]
فيشترط أن تكون الرقبة سليمة من العيوب التي تمنع العمل أو تضر به ضرراً بيناً وهذا باتفاق العلماء، وذلك لأن المقصود من العتق تمليك العبد منافعه وتمليكه من التصرف بنفسه، فاشترط فيمن يعتق أن يكون ممن يتمكن من العمل، أما إذا كان لا يتمكن من العمل أو يتمكن منه بضعفٍ شديد فإنه لا يصح عتقه.
قال: [كالعمى والشلل ليدٍ أو رجلٍ أو قطعهما أو أقطع الإصبع الوسطى أو السبابة أو الإبهام أو الأنملة من الإبهام أو أقطع الخنصر والبنصر من يد واحدة]
__________
(1) سورة النساء.
(2) أخرجه مسلم في كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته (537) ، وبعد حديث (2227) .


كل هذه المسائل في قول المؤلف تضر بالعمل ضرراً بيّناً، وحيث أن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً فإن بعض ما ذكره المؤلف قد لا يضر بالعمل ضرراً بيناً لا سيما مع اختلاف الزمان، فقد يكون الأعمى في زمن ما، عماه يضر به ضرراً بيناً، بينما يكون في زمان آخر يمكنه أن يعمل كما يكون هذا في زمننا، فالمقصود أنه حيث تثبت العلة في هذا المعيب وهو أن يكون عيبه قد أضر به ضرراً بيناً بعمله فإنه لا يصح إعتاقه ولا يجزئ.
وأما إن كان هذا العيب لا يضر به ضرراً بيناً ويمكنه الاستفادة من منافع نفسه فإن عتقه صحيح.
إذن: ما ذكره المؤلف من الأمثلة ليس بمسلم في كل زمن، ولذا ورد عن الإمام أحمد في مقطوع الإصبع؛ أنه يجزئ إعتاقه لقدرته على العمل.
قال: [ولا يجزئ مريض ميؤوس منه ونحوه]
للعلة المتقدمة.
قال: [ولا أم ولد]
فلا يجزئه تحرير أم الولد؛ وذلك لوجود سبب آخر يقتضي تحريرها وهو كونها قد ولدت من سيدها فإنها تعتق بموته، وعليه فإعتاقه هو (1) ليس هو السبب المستقل في إعتاقها.
قال: [ويجزئ المدَّبر]
فالمدبَّر يجزئ إعتاقه وذلك؛ لأن المدبر يصح بيعه كما تقدم وعليه فيصح عتقه فكذلك هنا في باب الكفارات.
قال: [وولد زنا والأحمق والمرهون والجاني والأمة الحامل ولو استثنى حملها]
فلو حرر أمةً وهي حامل فإن ذلك يجزئ، وأيضاً لو حرر ولد الزنا أو الأحمق أو المرهون أو الجاني فإن ذلك يجزئ؛ وذلك لأن هؤلاء داخلون في عموم الآية، وما فيهم من العيب لا يضر بعملهم فلا مانع من إجزاء إعتاقهم.

فصل
قال: [يجب التتابع في الصوم]
__________
(1) كذا في الأصل، والأولى حذفه.


وهو أن يصوم شهرين متتابعين، لقوله تعالى: {فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين} (1) ، فإن نوى في أثناء الشهرين صياماً آخر كنذر أو تطوع أو قضاء صوم رمضان فإنه يكون بذلك قد أبطل تتابع صومه وعليه فلا يجزئه هذا الصوم بل لابد أن يستأنف الصيام من جديد لأن الله أوجب التتابع.
قال: [فإن تخلله رمضان]
كأن يصوم شهر شعبان ثم صام رمضان ثم أفطر يوم العيد ثم صام ثلاثين يوماً، فصيامه مجزئ؛ وذلك لأن المتخلل له هو رمضان وهذا باتفاق العلماء، وصوم رمضان ليس بقاطع؛ وذلك لأن صيام تلك الأيام متعين – أي صيام أيام رمضان – وعليه فيكون معذوراً بصومها الذي قطع في الظاهر عليه صيام الشهرين المتتابعين، وعليه فلا ينقطع التتابع بل يصح للعذر، بخلاف النذر وقضاء الصوم فإنه لا يتعين عليها (2) صومها في ذلك اليوم الذي صامه فيه أثناء الشهرين.
قال: [أو فطرٌ يجب كعيدٍ وأيام تشريق وحيضٌ وجنون ومرضٌ مخوفٌ ونحوه]
فإذا تخلل صيامه أيام عيد أو أيام تشريق أو حيض للمرأة أو نفاس للمرأة أيضاً أو جنون أو مرض مخوف ونحو ذلك فإن التتابع لا ينقطع لهذا الفطر، وذلك لأن هذا عذر لا صنع للمكلف فيه، وهذا باتفاق أهل العلم.
قال: [أو أفطر ناسياً أو مكرهاً أو لعذرٍ يبيح الفطر لم ينقطع]
فإذا أفطر ناسياً أو مكرهاً أو جاهلاً أولعذرٍ يبيح الفطر من سفرٍ أو مرضٍ لا يكون مخوفاً ويجوز معه الفطر في نهار رمضان فإن التتابع لا ينقطع، في المشهور من المذهب.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب المالكية والأحناف: أن التتابع ينقطع فيجب عليه الاستئناف فيبدأ من جديد واستدلوا؛ بأن هذا العذر الواقع إنما هو باختياره، والنسيان والإكراه والجهل وإن كان عذراً في المكلف لكنه قاطعٌ للتتابع.
__________
(2) كذا في الأصل، ولعل الصواب: عليه.


والقول الأول هو الراجح في هذه المسألة قياساً على صيام رمضان، فإذا كان صوم رمضان وهو فرض من فرائض الإسلام ومبنى من مبانيه العظام، إذا كان يجوز فيه مع هذه الأعذار المتقدمة الفطر فصيام الكفارات أولى في ذلك.
قال: [ويجزئ التكفير بما يجزئ في فطرةٍ فقط]
الفطرة: هي صدقة الفطرِ.
فيجزئ التكفير بما يجزئ في صدقة الفطر من تمرٍ أو أقطٍ أو قمح أي بر أو شعير، مما تقدم في صدقة الفطر مما ورد في الصحيحين من حديث ابن عمر (1) ، فلا يجزئ إذن: أن يكفر بالأرز ولا بغيره من قوت البلد، هذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد ولا دليل عليه.
والراجح – في هذه المسألة – ما اختاره شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم وهو: أن أي طعام يعد في العرف طعاماً فإنه يجزئ التكفير به، وذلك لإطلاق الآية الكريمة {فإطعام ستين مسكيناً} ، فالله لم يحدد ولم يقدر لنا الإطعام فرجع ذلك إلى العرف، فالأرز عندنا طعام من أوسط ما نطعم أهلنا، وكذلك بعض الأُدم فإنها من الطعام في العرف.
قال: [ولا يجزئ من البر أقل من مدٍ ولا من غيره أقل من مدين]
لا يجزئ من البر - وهو القمح - إلا ربع الصاع، ولا يجزئ من التمر ونحوه كالشعير إلا نصف الصاع.
قال: [لكل واحدٍ ممن يجوز دفع الزكاة إليهم]
إذن: يصح أن تدفع الطعام إلى المؤلفة قلوبهم، ويصح أن تدفع إلى الغارمين وغير ذلك من الأصناف الثمانية المذكورة في سورة التوبة، وهذا قول ضعيف.
والراجح وهو اختيار ابن القيم: أن دفعها لا يجزئ إلا للمساكين وهو ظاهر القرآن، فإن الله قال: {فإطعام ستين مسكيناً} ، والآية المتقدمة: {إنما الصدقات للفقراء …..} (2) إنما هي في زكاة المال.
قال: [وإن غدَّى المساكين أو عشاهم لم يجزئه]
فلو وضع للمساكين قمحاً وهذا القمح خمسة عشر صاعاً لكنه مطبوخ فذلك لا يجزئه في المشهور من المذهب، وذلك لاشتراط التمليك فيشترط أن يُملكهم هذا الطعام.
__________
(2) سورة التوبة.


والقول الثاني في المسألة وهو رواية عن الإمام أحمد وهو مذهب مالك وأبي حنيفة واختيار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم: أن ذلك يجزئ؛ وذلك لإطلاق الآية الكريمة: {فإطعام ستين مسكيناً} وقد تقدم في سنن الدارقطني، أن أنس بن مالك: " كان يصنع الثريد فيطعمه المساكين كفارةً لفطره في نهار رمضان " (1) ، وهذا هو القول الراجح وهو ظاهر القرآن.
قال: [وتجب النية في التكفير من صومٍ وغيره]
وهذا ظاهر لأن الأعمال بالنيات، فلو أعتق رقبة ولم ينو أنها كفارة لظهار، أو صام ولم ينو أنه كفارة لظهار فإن ذلك لا يجزئ لأن الأعمال بالنيات.
مسألة:
ولا يجزئه إلا أن يطعم ستين مسكيناً لظاهر الآية الكريمة وهو مذهب الجمهور، خلافاً لأبي حنيفة فلو أعطى واحداً طعام ستين مسكيناً فإن ذلك يجزئ في مذهب أبي حنيفة، والجمهور على خلافه.
والراجح مذهب الجمهور؛ لظاهر الآية الكريمة، فقد قال تعالى: {فإطعام ستين مسكيناً} فقد نص الله على العدد فلا يجزئه أن يدفع خمسة عشر صاعاً من البر لمسكين واحد.
قال: [وإن أصاب المظاهر منها ليلاً أو نهاراً انقطع التتابع]
إذا جامع المظاهر امرأته التي ظاهرها ولو ليلاً فإن التتابع ينقطع، فعليه أن يستأنف صيام الشهرين من جديد.
هذا هو القول الأول في المسألة وهو مذهب جمهور العلماء؛ وذلك لأن الله عز وجل أوجب صيام شهرين متتابعين قبل التماس فإذا مسها في ليلة فإنه لم يصم الشهرين المتتابعين كما أمره الله تعالى.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الشافعية: أنه إن جامعها ليلاً فإن ذلك لا يضر بتتابعه لكنه يأثم، وذلك لأنه صام الشهرين المتتابعين، وما فعله لا يضر بتتابعه فقد فعل ما أمره الله من الصيام فقد صام شهرين متتابعين.
والقولان فيهما قوة، والذي يقوى لي - والله أعلم - هو القول الثاني، وذلك لأن القول الأول منتقَض بمسألتين:


المسألة الأولى: أن من جامع امرأته فإنه يجب عليه أن يكفر بعد ذلك كما تقدم في قصة أوس بن الصامت وفي قصة سلمة بن صخر، فإنهما قد وطئا قبل أن يكفرا، ومع ذلك فقد أمرهما النبي - صلى الله عليه وسلم - بالكفارة.
والمسألة الثانية: أنهم قالوا: إذا جامع امرأته أثناء إطعامه فإنه يأثم لكن الإطعام يصح، فلو أنه أطعم في يوم عشرة مساكين ثم جامع امرأته قبل أن يتم إطعام ستين مسكيناً، فإن الإطعام عندهم مجزئ، فيكون آثماً لكونه مس امرأته قبل أن يطعم ستين مسكيناً، وهذا ينقض قولهم المتقدم، فالأرجح فيما يظهر لي مذهب الشافعية والله أعلم.
وأعلم أن الإطعام كالصيام، فليس له أن يمس امرأته قبل أن يطعم، والله عز وجل لم يذكر ذلك في الإطعام في كفارة الظهار؛ لما في ذكره من الإطالة ويكتفي بإلحاق النظير بنظيره، ولأنهما متماثلان فكلاهما كفارة، بل اشتراط ذلك في الإطعام أولى؛ وذلك لأن الإطعام في الغالب زمنه يسير فقد يكفّر بالإطعام في ساعة واحدة بخلاف الصيام فإنه يكون في شهريين متتابعين.
قال: [وإن أصاب غيرها ليلاً لم ينقطع]
فإذا أصاب غيرها من نسائه ليلاً فإن التتابع لا ينقطع، وهذا ظاهر لأن غيرها لم تحرم عليه بالظهار، فليس له أن يطأ هذه المرأة التي ظاهرها، أما لو وطئ غيرها من نسائه فلا حرج عليه في ذلك.

الدرس الحادي والستون بعد الثلاثمائة
كتاب اللعان
اللعان: مشتق من اللعن لقوله تعالى: {والخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين} (1) .
__________
(1) سورة النور.


وأما تعريفه: فهو أن يقذف الرجل امرأته بالفاحشة فيشهد على نفسه بذلك أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ثم الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين والخامسة أن غضب الله عليها إن كان من الصادقين، والغضب أقبح من اللعنة، وكان الغضب هنا، لأن الغضب لمن يعلم الحق ويترك القول به، والذي يغلب على الظاهر أن الرجل صادقٌ في قوله، إذ يبعد في الغالب أن الرجل يرمي امرأته على رؤوس الأشهاد بالفاحشة ويلعن نفسه بالخامسة إلا وهو صادقٌ في دعواه، وأن المرأة قد اضطرته إلى ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [يشترط في صحته أن يكون بين زوجين]
لقوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} (1) ، فلو قذف أجنبية عنه فإما أن يأتي بأربعة شهود فتُحدَّ المرأة وإما أن يجلد ثمانين جلدة، وهو حد القذف.
فحكم اللعان مختص بالزوج فقد يرى الرجل من امرأته ما يكره، وليس ثمت من يشهد له، وقد رأى ذلك بعينه أو تيقن حصول ذلك فيحتاج إلى نفي الولد منه وحينئذٍ فيُلاعن امرأته فيشهد على نفسه أربع شهادات إنه لمن الصادقين.
واختُلف هل هي أيمان أم شهادات:
القول الأول وهو مذهب الجمهور: أنها أيمان مؤكدة بالشهادة.
القول الثاني وهو مذهب أبي حنيفة: أنها شهادات.
وينبني على هذا الخلاف من يصح لعانه، فإن قلنا: إن اللعان شهادات فلا يصح إلا ممن تصح شهادته، فالفاسق لا تصح شهادته وعليه فلا يصح لعانه وكذلك الكافر والعبد، وإن قلنا: إن اللعان أيمان فإنه يصح ممن تصح يمينه فيصح من العبد ويصح من الكافر ويصح من الفاسق؛ لأن أيمانهم منعقدة صحيحة.
استدل أهل القول الثاني القائلين بأنها شهادات، بلفظ الشهادة في قوله تعالى: {ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} ، فدل على أنهم شهداء فما يحصل منهم فهو شهادة.


واستدل أهل القول الأول، بقوله تعالى: {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} فقوله (بالله) من ألفاظ القسم، قالوا: والشهادة تأتي في القرآن وفي لغة العرب بمعنى اليمين، ومنه قوله تعالى: {فيقسمان بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما وما اعتدينا} (1) ، أي ليميننا، ولقوله تعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله} (2) ، ثم قال بعد ذلك {اتخذوا أيمانهم جنة} ، فقولهم (نشهد) يمين.
ومن شعر العرب قول بعضهم: ((فأشهد بالله أني أحبها)) .
فقوله (أشهد) ؛ أي يمين، وهو من الشعر المحتج به، وقد أورده ابن القيم في زاد المعاد، وهذا القول هو القول الراجح.
وأما قوله تعالى {ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم} فهذا من باب الاستثناء المنقطع، أي لم يكن لهم شهداء لكن أنفسهم.
ويدل على القول الراجح حديث لكنه ضعيف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لولا الأيمان لكان لي ولها شأن) (3) رواه أبو داود
وعلى القول الراجح فمن صحت يمينه صح لعانه، وعليه فالفاسق يصح لعانه وكذلك الكافر والعبد.
وأما غير البالغ فلا يصح لعانه؛ لأن يمينه لا تصح، فلو قذف الصبي امرأته بالزنا فلا لعان؛ وذلك لأن يمينه لا تصح.
ويدل على صحة قول الجمهور عموم قوله تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} ، فهو عامٌ في الحر والعبد وفي المسلم والكافر وفي العدل والفاسق، ولأن ذلك موضع ضرورة فيحتاج إليه الكافر ويحتاج إليه العبد ويحتاج إليه الفاسق، فهو موضع حاجة، لأنه يحتاج إلى اللعان لينفي الولد عنه.
قال: [ومن عرف العربية لم يصح لعانه بغيرها وإن جهلها فبلغته]
من عرف العربية فيشترط في صحة لعانه، أن يكون بها، لكن إن جهلها فبلغته كما تقدم في النكاح.
__________
(1) سورة المائدة 107.
(2) سورة المنافقون 1.
(3) أخرجه أبوداود في كتاب الطلاق، باب في اللعان (2256) .


والقول الثاني في المسألة وهو أحد الوجهين في مذهب الشافعي: أن اللعان يصح بغير اللغة العربية مع القدرة عليها، وهذا هو القول الراجح في هذه المسألة، وذلك لأن اللعان يمين، واليمين تصح بغير اللغة العربية مع القدرة عليها، واللعان نوع من الأيمان، فلو حلف بالله عز وجل في لغته فإنها يمين فكذلك اللعان.
قال: [فإذا قذف امرأته بالزنا فله إسقاط الحد باللعان]
إذا قذف امرأته بالفاحشة في قبل أو دبر، فله إسقاط الحد باللعان، إذن: إن قذف امرأته بالزنا فعليه حد القذف، لكن يدرأ عنه الحد أن يلاعن، ولذا قال - صلى الله عليه وسلم - كما في البخاري: (البينة وإلا حدٌ في ظهرك) (1) .
قال: [فيقول قبلها أربع مرات أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه ويشير إليها، ومع غيبتها يسميها وينسبها]
أي ينسبها بما تتميز به فيذكر اسمها ويذكر ما يحتاج إليه من نسبها لتتميز عن بقية نسائه.
قال: [وفي الخامسة: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين]
فيقول هذه الخامسة: وأن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين، فيقول: أشهد بالله لقد زنت زوجتي هذه، أو نحوها من الألفاظ التي يرميها بها في الزنا، فلو قال: " أشهد بالله أن ما في بطنها ليس مني "، فهذا كافٍ في رميها بالزنا.
قال: [ثم تقول هي أربع مرات: أشهد بالله لقد كذب فيما رماني به من الزنا]
ونحو ذلك من الألفاظ التي تبرئ بها نفسها.
قال: [ثم تقول في الخامسة: وأن غضب الله عليها إن كان من الصادقين]
ويستحب أن يحضر ذلك جماعة من الناس، ففي البخاري عن سهل بن سعدٍ قال: (فتلاعنا وأنا مع الناس عند النبي - صلى الله عليه وسلم -) (2) .
__________
(1) سيأتي.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب اللعان ومن طلق بعد اللعان (5308) .


ويستحب أن يكون ذلك في المسجد كما في البخاري من حديث سهل بن سعد: " أن ذلك كان في المسجد " (1) .
ويستحب أن يتلاعنا قياماً؛ وذلك لأنه أردع في حقهما.
ويستحب للحاكم أن يعظهما وأن يذكرهما، وأن يأمر رجلاً يضع يده على فيِّ الرجل في الخامسة، ويقول له: " إنها موجبة "، ففي صحيح مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ذكر الملاعن ووعظه وأخبره أن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة وحد القذف أهون من عذاب الله في الآخرة، ثم دعا المرأة فوعظها كذلك) (2) ، وفي سنن أبي داود والنسائي بإسنادٍ صحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (أمر رجلاً أن يضع يده عند الخامسة على فيه، ويقول: " إنها موجبة ") (3) ، أي موجبة للعنة الله تعالى.
قال: [فإن بدأت باللعان قبله ... إلى أن قال: لم يصح]
إذا بدأت المرأة باللعان قبل الرجل فلا يصح اللعان في مذهب جمهور العلماء، خلافاً لأبي حنيفة، وذلك لأن الله عز وجل قد شرع بذكر لعانه قبل ذكر لعانها، والحكمة من أن لعان الرجل قبل لعان المرأة من وجهين:
الوجه الأول: أن الرجل قاذفٌ مدعي فبُدئ به أولاً، لأنه هو القاذف لها وهو الذي رماها بهذه الفاحشة العظيمة.
والوجه الثاني: أن الرجل جانبه أقوى، فالغالب أنه صادقٌ في دعواه، إذ يبعد أن يرمي امرأته بالزنا في هذا المشهد بين الناس إلا وهو صادق في دعواه.
قال: [أو أنقص أحدهما شيئاً من الألفاظ الخمسة … إلى أن قال: لم يصح]
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب التلاعن في المسجد (5309) .
(2) أخرجه مسلم في كتاب اللعان، (1493) .
(3) أخرجه أبو داود في باب في اللعان من كتاب الطلاق (2255) ، وأخرجه النسائي في الطلاق، باب الأمر بوضع اليد في المتلاعنين عند الخامسة (6 / 175) ، سنن أبي داود [2 / 688] .


لأنه خلاف ما أمر الله عز وجل به، فلا يصح إلا أن يأتي كل واحدٍ منهما بالألفاظ الخمسة، فلو قال: " أشهد بالله إنها زانية، وأشهد بالله إنها زانية، أشهد بالله إنها زانية – ثم قال: " وأن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين "، لم يصح لعانه، أو قال: " أشهد بالله إنها زانية، أربعاً "، ثم سكت ولم يقل: " وأن لعنة الله علي إن كنت من الكاذبين، فإن لعانه لا يصح حتى يأتي باللعان كما أمره الله عز وجل، وكذلك المرأة.
قال: [أولم يحضرهما حاكمٌ أو نائبه … إلى أن قال: لم يصح]
لأنها دعوى فيها يمين، فاشترط فيها حضور الحاكم أو نائبه كسائر الدعاوى، فلو كانت بين يدي من ليس بحاكم أو كان ذلك في بيتها فلا تثبت الأحكام التي تقدم ذكرها، فهو لعان غير صحيح.
قال: [أو أبدل لفظة أشهد بأقسم أو أحلف]
فلو قال: " أقسم بالله " أو قال: " أحلف بالله إنها زانية " لم يصح حتى يقول: " أشهد بالله "، وذلك لأن قوله: " أقسم بالله " يمين غير مؤكدة بالشهادة، بينما قوله " أشهد بالله " يمين مؤكدة بالشهادة، فإذا قال: " أقسم بالله " أو " أحلف بالله " فهو خلاف ما أمره الله تعالى به فلا يصح حتى يقول: " أشهد بالله " أو " أشهد والله " المقصود أنه يجمع بين اليمين والشهادة.

قال: [أو لفظة اللعنة بالإبعاد، أو الغضب بالسخط لم يصح]
إذا أبدل لفظة اللعنة بالإبعاد فقال في الخامسة: " وأن إبعاد الله تعالى لي من رحمته إن كنت من الكاذبين "، أو أبدلت المرأة لفظ الغضب بالسخط فقالت في الخامسة: " وأن سخط الله علي إن كان من الصادقين "، فلا يصح.


والقول الثاني في المسألة وهو أحد القولين في مذهب الإمام أحمد: أن ذلك يصح؛ لأنه وإن لم يكن منصوصاً عليه لكنه بمعنى المنصوص والعبرة بالمعاني لا بالمباني، فقوله: " أبعدني الله من رحمته " بمعنى قوله: " لعنني الله تعالى "، وكذلك المرأة قولها: " وأن سخط الله علي " هو كقولها: " وأن غضب الله علي "، هذا هو القول الراجح. والله أعلم

الدرس الثاني والستون بعد الثلاثمائة
فصل
قال رحمه الله: [وإن قذف زوجته الصغيرة أو المجنونة بالزنا عُزر ولا لعان]
إذا قذف امرأته الصغيرة التي لا يوطأ مثلها فإنه يعزر ولا لعان، وذلك لأن اللعان يمين فلا يصح إلا من مكلف، وهذه الصغيرة ليست بمكلفة فلم يصح لعانها، فلا يلاعن الزوج وإنما يُعزر، وكذلك المجنونة لأنها غير مكلفة.
أما إن قذف امرأته الصغيرة التي يوطأ مثلها – وهي في المشهور من المذهب بنت تسع سنين – فإن اللعان يثبت لكن لا يصح حتى تبلغ، وعليه فيتربص لها حتى تبلغ، فإن طالبت بحق القذف على زوجها الذي قذفها فحينئذٍ للزوج أن يلاعن ليدرأ الحد عن نفسه، وتلاعن هي أيضاً لأنها أصبحت مكلفةً.
قال: [ومن شرطه قذفها بالزنا لفظاً، كزنيتِ أو يا زانية أو رأيتك تزنين في قبل أو دبر]
فشرطه أن يرميها بالزنا، قال تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} أي بالزنا، وقال المؤلف: " في قبل أو دبر "، أما إن كان في قبل فظاهر.
وأما إذا كان في دبر فهذا هو مذهب جمهور الفقهاء من الحنابلة وغيرهم، وهذا القول متفرع عن ثبوت حد القذف في رمي المرأة بالزنا في دبر.


وقال الأحناف: بل إن كان في دبر فلا لعان، وهذا متفرع عن قولهم من أن المرأة إذا قذفها زوجها بالزنا من دبر فإن الحد أي حد القذف لا يقام، وإنما فيه التعزير، فاللعان لا يثبت عندهم، وذلك لأن اللعان إنما يشرع لدفع الحد وهنا لا حد، فإذا قذف امرأته في دبرها فلا حد، وعليه فلا لعان، وفيما ذهب إليه الأحناف قوة، ويأتي تحقيقه إن شاء الله في الكلام على القذف.
وأما إن قذفها بمباشرة دون الفرج كأن يقول: " قد بوشرت "، أو قد باشرك فلان، أو قد خلا بك فلان أو قد قبلك أو نحو ذلك فلا لعان وذلك لأنه لا حد – أي لا حد قذف -، واللعان متفرع عن الحد، فاللعان إنما يشرع لدرء حد القذف عن الزوج وهنا لا حد في ذلك وعليه فلا لعان.
قال: [فإن قال: وطئت بشبهةٍ أو مكرهةً أو نائمة أو قال: لم تزن ولكن ليس هذا الولد مني فشهدت امرأة ثقة أنه ولد على فراشه لحقه نسبه ولا لعان]
فإذا قال لامرأته: وطئت بشبهة أو مكرهةً أو نائمة أو لم تزنِ ولكن هذا الولد ليس مني، ثم شهدت امرأة أنه ولد على فراشه لحقه نسبه ولا لعان.
أما كونه لا لعان، فلأن الحد لا يثبت بمثل ذلك، فإذا قال الرجل لامرأته: " وطئتِ بشبهة أو إكراه أو نحو ذلك " فإنه لا حد في ذلك، ويأتي تقريره إن شاء الله في الكلام على حد القذف.
لكن هل ينفى الولد أم لا؟
هنا قال: إن شهدت امرأة ثقة بأنه ولد على فراشه لحقه نسبه، وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الولد للفراش وللعاهر الحجر) (1) متفق عليه
فإذا أثبتت البينة – وتكفي شهادة امرأة واحدة – أنه قد ولد في فراشه فإنه يثبت بذلك لحوق النسب.
قال: [ومن شرطه أن تكذبه الزوجة]
فمن شرط اللعان أن تكذبه الزوجة، وأما إن صدقته في دعواه فأقرت أنها قد زنت فلا لعان أو ثبتت بالبينة وهي أربعة شهود أنها قد زنت فلا لعان، فاللعان إنما يشرع حيث تنكر المرأة، ولذا فإنها تلاعن بعده.
__________
(1) سيأتي صْ 136.


قال: [وإذا تم اللعان سقط عنه الحد والتعزير]
فإذا تم اللعان سقط عنه الحد فيما يثبت فيه الحد، والتعزير فيما يثبت فيه التعزير، ويثبت التعزير إن كانت ذميةً أو أمةً أو نحو ذلك.
ودليل هذه المسألة قوله - صلى الله عليه وسلم -: (البينة وإلا حدٌ في ظهرك) (1) .
قال: [وتثبت الفرقة بينهما بتحريم مؤبد]
فإذا تم اللعان فإن الفرقة تثبت بينهما بتحريم مؤبد فلا تحل له أبداً، ففي الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا سبيل لك عليها) (2) ، وفي مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بدأ بالرجل فشهد أربع شهادات ثم ثنى بالمرأة ثم فرق بينهما) (3) ، وفي سنن أبي داود من قول سهل بن سعد: (مضت السنة أن المتلاعنين يفرق بينهما ولا يجتمعان أبداً) (4) .
ولا يتوقف ذلك – أي التفريق – على حكم حاكم بل يثبت من غير حكم حاكم؛ وذلك لثبوته بنص الشارع.
ويثبت هذا الحكم وإن كذب نفسه بعد ذلك، فإذا لاعنها بحضرة الحاكم وكان اللعان صحيحاً قد توفرت فيه الشروط ثم كذَّب نفسه بعد ذلك فإنها لا تحل له، لكن يحد أو يعزر ويلحقه الولد في نسبه، لأنه أقر بما يدل على كذبه في يمينه، وإنما درء عنه الحد ليمينه وقد كذبها بقوله، وحينئذٍ فيبقى عليه الحد – أي حد القذف – ويلحقه النسب.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب الشهادات، باب إذا ادعى أو قذف (2671) بلفظ: (البينة أو حد في ظهرك) .
(2) أخرجه البخاري في كتاب الطلاق، باب قول الإمام للمتلاعنين: إن أحدكما كاذب فهل منكما تائب (5312) ، (5311) ، وأخرجه مسلم (1493) .
(3) أخرجه مسلم في كتاب اللعان (1493) .
(4) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب في اللعان (2250) .


واعلم أن اللعان إن كان مجرداً عن نفي الولد فلا ينفى الولد بل يلحق الزوجَ ولده، وذلك لأن اللعان إنما فيه رميها بالزنا، ورميها بالزنا لا يوجب نفي الولد، لكن إن نفاه صراحةً أو تضمنا فإنه ينتفي عنه، فإن قال: " أشهد بالله أنها زانية وأن ما في رحمها ليس مني "، فإنه ينفى عنه؛ لأنه قد نفاه في لعانه وهنا صراحة.
وأما تضمناً فبأن يقول مثلاً: " أشهد بالله إنها قد زنت في طهر لم أجامعها فيه "، فيُعلم أنها قد حملت من غير زوجها بقذفه.
وأما إذا لم ينفه في اللعان فإنه لا ينتفي.
فإن قيل: فما هو الجواب عما روى أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (قضى في اللعان ألا يُدعى الولد لأبيه) (1) ، فالجواب: أن هذا من حديث سهل بن سعد، وفي البخاري أن الرجل قد أنكر حملها.
مسألة:
هل يشترط لنفي الولد أن ينفيه بلعان عند الوضع أم يكفي نفيه عند الحمل؟
قال الحنابلة في المشهور عندهم: يشترط أن ينفيه عند الوضع، قالوا: لأنه – وهو حمل – غير مستيقنٍ منه، فقد يكون – ريحاً - أو شيئاً آخر واللعان لا يتعلق بشرط، وهنا لا بد أن يعلق النفي على كونه موجوداً فيقول: " إن كان الولد موجوداً فليس مني "، واللعان لا يتعلق بشرط.
والقول الثاني، وهو قول المالكية والشافعية وهو قول في مذهب الإمام أحمد: أن نفي الولد يثبت وإن نفاه وهي حامل لم تضع بعد.
وهذا هو القول الراجح وهو الذي يدل عليه حديث سهل بن سعد المتقدم ففيه أنها كانت حاملاً فأنكر حملها، ولم يصح أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره باللعان لنفي الولد عند الوضع، ولا أنه فعل ذلك عند النبي - صلى الله عليه وسلم -.
أما قولهم أنه ليس بمستيقن:


فالجواب عنه: أنه مظنون وهنا أمارات تدل عليه، والشارع يعلق الأحكام بمثل ذلك، بدليل اختلاف نفقة الحامل عن الحائل، والتوقف عن القصاص في الحامل، والفطر في رمضان للحامل وغير ذلك، مع أنه مظنون وليس بمستيقن.
مسألة:
وجماهير أهل العلم على أنه إن أقرَّ به أو ظهر منه ما يدل على الرضا فليس له أن ينفيه بعد ذلك.
ومثال ظهور ما يدل على الرضا؛ كأن يُدعى له فيؤمن، أو يُهنأ به فيسكت ويرضى بذلك ونحو ذلك، فليس له أن ينفيه بعد ذلك.
كما أنه إذا أمكنه أن ينفيه ولم ينفه، فليس له أن ينفيه بعد ذلك؛ وذلك لأنه خيار لدفع الضرر فكان على الفور، فإذا تراخى ولم ينف مع إمكان النفي فليس له أن ينفي بعد ذلك.
لكن لو ادعى عدم علمه بذلك وأمكن جهله بذلك، فإن قوله يقبل وله أن ينفيه.
استدراك:
وعند قول المؤلف: [ولكن ليس هذا الولد مني فشهدت امرأة أنه ولد على فراشه لحقه نسبه ولا لعان]
فإذا شهدت البينة - ويكفي في ذلك امرأة ثقة – أنه ولد على فراشه فهو ولده ولا لعان.
فإن لم تشهد البينة فهل يشرع اللعان لنفي الولد أم لا؟
في هذه المسألة لا لعان بقذف المرأة بالزنا، فهو لم يقذفها بما يوجب عليه حد القذف، لكن هل له أن يقول: " أشهد بالله أن هذا الولد ليس مني " يقول ذلك أربعاً أم لا؟
قال أكثر الحنابلة: له أن يلاعن لنفي الولد، وعليه فيلاعن هو وحده لنفي الولد.
والمشهور في المذهب: أنه ليس له أن يلاعن؛ وذلك لأن اللعان إنما شرع بعد القذف، قال تعالى: {والذين يرمون أزواجهم} ، وهنا لا قذف، فاللعان إنما شرع لدرء حد القذف عن الزوج وهذا حيث كانت المرأة مرمية بالزنا، وهنا ليست مرمية بالزنا وعليه فلا لعان، وهذا أظهر.
فالشرع إنما شرع اللعان حيث كان مسبوقاً بقذف وهنا لا قذف وعليه فيلحقه الولد وليس له أن ينفيه، وكما قال - صلى الله عليه وسلم -: (الولد للفراش) (1) .
مسألة:
__________
(1) سيأتي صْ 136.


إذا نكلت المرأة عن اللعان فهل يقضى بنكولها؟
بمعنى: لاعن الرجل امرأته لكن المرأة نكلت عن اللعان فهل يقضى بنكولها فيفرق بينهما وينفى الولد إن نفاه وتحد المرأة أم يخلى سبيلها أم تسجن حتى تقر بالزنا أو تلاعن؟ ثلاثة أقوال لأهل العلم:
القول الأول، وهو المشهور في المذهب: أن سبيلها يخلى، وهو قول ضعيفٌ جداً.
القول الثاني: أنها تسجن حتى تقر بالزنا أو تلاعن.
القول الثالث وهو مذهب المالكية والشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام وهو القول الراجح في المسألة: أنها إن نكلت فإنها تُحد، وهذا هو ظاهر قوله تعالى: {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين} (1) ، فحد القذف ثابت في حق الرجل حتى يلاعن، فإذا لاعن الرجل فنكلت المرأة فعليها الحد، ويدرأ عنها العذاب أن تلاعن.
وقال الحنابلة: الحد لا يثبت بلعان الزوج فقط بدليل مطالبة المرأة بالملاعنة بعده، ولا يثبت بالنكول فقط لأن الحدود تدرأ بالشبهات، والنكول فيه شبهة.
الجواب عن هذا: أن يقال إنها لا تحد بهذا بمفرده ولا بهذا بمفرده؛ بل تحد بمجموعهما، فإنها تحد بيمين الزوج أولاً وبنكولها ثانياً، فإذا اجتمعا فإن الحد يثبت عليها باجتماعهما جميعاً، والشيئان قد يحكم باجتماعهما ما لا يحكم به بانفرادهما، وأما بالنكول فقط أو اليمين فقط فلا يقضى عليها بالحد.

الدرس الثالث والستون بعد الثلاثمائة
فصل
هذا الفصل فيمن يَلْحق نسبه.
قال رحمه الله: [من ولدت زوجته من أمكن كونه (2) منه لحقه]
فمن ولدت زوجته ولداً أمكن أن يكون هذا الولد - ذكراً كان أو أنثى - منه لحقه ذلك؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الولد للفراش) (3) ، ثم بين المؤلف هذا الإمكان المذكور بقوله:
[بأن تلده بعد نصف سنة منذ أمكن وطؤه أو دون أربع سنين منذ أبانها]
__________
(1) سورة النور.
(2) في الأصل: من أمكن أنه منه.. "
(3) سيأتي.


أي أن تلده بعد ستة أشهر لأن أقل الحمل ستة أشهر لقوله تعالى: {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} (1) ، وقد ذكر تعالى في آية آخرى أن فصاله أربعٌ وعشرون شهراً؛ أي سنتان وهو قوله: {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين} (2) ، فبقي للحمل ستة أشهر، وهو قول علي بن أبي طالب وغيره من الصحابة ولا يعلم لهم مخالف.
أو دون أربع سنين: لأن أكثر الحمل أربع سنين في المذهب (3) ، قالوا: لوقوع ذلك فقد وقع من بعض النساء – وهي ثقة وامرأة صدقٍ – أنها قد ولدت لأربع سنين.
والقول الثاني في المذهب وهو اختيار ابن سعدي: أنه لا يتقيد بأربع سنين، بل قد يكون أكثر من ذلك، وقال: " لأنه الموافق للواقع " وهو كما قال.
فالمسألة مسألة وقوع، فإذا وقع الحمل لأربع سنين فلا مانع أن يقع أكثر من ذلك، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (الولد للفراش..)
قوله: " منذ أمكن وطؤه " أي أن تلد بعد نصف سنة منذ أمكن وطؤه.
فإذا عقد على المرأة وأمكن وطؤه (4) ثم ولدت بعد نصف سنة فإن الولد يلحق به.
فإذا عقد على امرأة وهو وهي في بلد واحد ولم يدخل بها، فهنا يمكن الوطء لكننا لم نتحقق من الوطء لعدم الدخول، فهنا يلحق به.
لكن لو تحققنا وعلمنا عدم إمكان الوطء، كأن يكون هو في بلد وهي في بلد آخر بعيد ويُعلم أنه لا يخفى مسيره من تلك البلدة إلى هذه البلدة، فحينئذٍ قد تحققنا أنه لم يطأها فلا يلحق به، هذا هو تحرير مذهب الحنابلة في هذه المسألة.
إذن: يعلقون الإلحاق بإمكان الوطء، لكن لو تحققنا أنه لم يطأها فإنه لا يلحق به، ولذا فلو كان مجبوب الذكر والأنثيين فإنه لا يلحق به، وذلك لأننا نقطع أن مثله لا يولد له.
__________
(1) سورة الأحقاف 15.
(2) سورة البقرة.
(3) في الأصل: لأن أكثر الحمل في المذهب أربع سنين.
(4) في الأصل: الوطء.


واختار شيخ الإسلام وهو رواية عن الإمام أحمد واختاره طائفة من متأخري أصحابه ومنهم والد شيخ الإسلام، واختاره ابن القيم: أن إمكان الوطء غير كافٍ في الإلحاق، بل حتى يعلم الوطء وذلك بالدخول، فإذا بنى بالمرأة ودخل بها فولدت منه لستة أشهرٍ أو دون أربع سنين – على المذهب – منذ أبانها فحينئذٍ يلحق به.
إذن: لا تكون المرأة فراشاً حتى يتحقق الوطء، وذلك بالبناء بها، وهذا هو القول الراجح، فإن مجرد العقد مع إمكان الوطء لا تعدُّ فيه المرأة فراشاً لا في اللغة ولا في العرف، فلا يقال: " إن المرأة فراشٌ للرجل " وهو لم يبنِ بها، لا في لغة العرب ولا في عرف الناس، وهذا ظاهر.
قال: [وهو ممن يولد لمثله كابن عشر]
هذا قيد آخر، وهو أن يكون ابن عشر سنين، أي من تم له عشر سنين وشرع في السنة الحادية عشرة قالوا: لقوله النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر وفرقوا بينهم في المضاجع) (1) ، فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالتفريق بينهم في المضاجع، فدل على أن مثلهم يطأ، فعليه يلحق بهم النسب.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الصلاة، باب متى يؤمر الغلام بالصلاة (495) قال: " حدثنا مؤمل بن هشام يعني اليشكري حدثنا إسماعيل عن سوار أبي حمزة قال أبو داود: وهو سوار بن داود أبو حمزة المزني الصيرفي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين، وفرقوا بينهم في المضاجع) .


والقول الثاني في المسألة، وهو قول في مذهب الإمام أحمد وهو قول طائفةٍ من كبار الصحابة كأبي بكر، و [هو قول] (1) أبي الخطاب وابن عقيل: أنه لا يلحق به حتى يبلغ، أي ينزل فإذا ثبت إنزاله، أي ثبت احتلامه فإنه يلحق به، وهذا ظاهر جداً، وذلك لأن الولد يكون من الماء، ومن لم يبلغ فلا ماء له فكيف يكون منه الولد، وكيف يلحق به.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: (وفرقوا بينهم في المضاجع) ، فهذا لأن ابن عشر مظنة البلوغ ومظنة المراهقة، فلذا يمنع من المبيت عند البنت لأنه مظنة الوطء.
والقول الثاني هو الراجح، فلا يلحق به الولد حتى يبلغ.
قوله: [ولا يحكم ببلوغه إن شك فيه]
فعلى المذهب - عندما يلحق به الولد – فهل تثبت الأحكام الأخرى فيه فيكون في حكم المكلفين؟
الجواب: لا تثبت الأحكام الأخرى [– كالزنا والقتل –] (2) مع الشك فلا تلحق به الأحكام الأخرى حتى يثبت بلوغه، واليقين لا يزول بالشك.
قال: [ومن اعترف بوطء امرأته (3) في الفرج أو دونه فولدت لنصف سنة فأزيد لَحِقَهُ ولدها إلا أن يدعي الاستبراء ويحلف عليه]
اعلم أن المشهور في المذهب وهو قول الجمهور وهو الراجح: أن الأمة لا تكون فراشاً إلا بالوطء، ودليله: دليل المسألة التي تقدم ذكرها.
إذاً: الحنابلة فرقوا بين الحرة والأمة، فقالوا: إن الأمة لا تكون فراشاً إلا بالوطء، أما بمجرد إمكان الوطء فلا، وأما الزوجة فإنها تكون فراشاً بمجرد إمكان الوطء، ففرقوا بين الزوجة والسُرِّيَّة.
__________
(1) هذه الزيادة ليست في الأصل.
(2) ليست في الأصل.
(3) كذا هنا في المطبوع، والصواب: أمته، كما في الأصل وفي النسخة التي بين يدي.


وهنا: اعترف رجل أنه قد وطئ أمته في الفرج فولدت لنصف سنة فأزيد فإنه يلحقه ولدها، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الولد للفراش) ، إلا أن يدعي الاستبراء، أي يدعي أنه قد استبرأها بحيضة فيقول مثلاً: " أنا قد وطئت هذه الأمة لكني استبرأتها بحيضة فقد حاضت بعد وطئي بها، ثم بعد ذلك حملت، وعليه: فلا يكون الحمل منه، لأنه قد استبرأها بحيضة.
فيقبل قوله؛ وذلك لأن هذا أمرٌ خفي، لا يعلم إلا منه فيقبل قوله فيه، لكن يحلف على ذلك لحق الولد، فإن هذه اليمين تمنع الولد من نسبه إلى هذا الرجل، فهذه اليمين قد تعلق بها حق الآدمي.
وكذلك لو اعترف أنه وطئ أمته دون الفرج ثم ولدت لنصف سنة فأزيد فكذلك أي يلحق الولد به، وذلك لأنه لا مانع من أن يلج ماؤه فرجها، وهو واقع، ثم هي (1) فراشٌ له وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الولد للفراش) .
قال: [وإن قال وطئتها دون الفرج أو فيه ولم أنزل أو عزلت لحقه]
إذا قال: " أنا قد وطئتها في الفرج ولم أنزل "، أو قال: " عزلت "، فإنه يلحقه أيضاً.
أو قال: " وطئتها دون الفرج ولم أنزل، أو قال: عزلت " فإنه يلحقه أيضاً، وعن الإمام أحمد: أن قوله يقبل ولا يلحقه النسب.
والقول الذي يترجح لي في هذه المسألة: هو التفصيل، فيقال: إن اعترف أنه وطئها في فرجها ثم ادعى أنه لم ينزل أو أنه قد عزل فإن الولد يلحقه.
__________
(1) في الأصل: وهي فراش.


ويدل عليه ما ثبت في مسلم: أن رجلاً قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: يا رسول الله إن عندي جارية وأنا أعزل عنها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إن ذلك لا يمنع مما أراد الله شيئاً) (1) ، ويدل عليه ما ثبت عند الشافعي بإسنادٍ صحيح أن عمر قال: " ما بال رجال يطؤون ولائدهم ثم يعزلون، لا تأتيني أمة اعترف سيدها أنه يطؤها إلا ألحقت به ولدها فاعزلوا بعد ذلك أو اتركوا ".
وأما إن كان قد اعترف [أنه] (2) قد وطئها دون فرجها وقال: إنه لم ينزل، أو قد عزل، فالذي يترجح أنه لا يلحق به، وأن قوله يقبل بيمينه؛ وذلك للفرق بين المسألتين؛ فهنا لم يطأها، والولادة إنما تكون بالوطء.
وكونه قد عزل عنها أو لم ينزل عندما باشرها فيما (3) دون الفرج؛ هذا يمنع من أن يتسرب شيءٌ منه إلى فرجها بخلاف ما لو أنزل فإنه لا يمنع من تسرب شيءٍ إلى فرجها.
فلا ينسب الولد إليه، لأنه لا ولد إلا بجماع، وهنا لا جماع وكذلك لا مظنة، لأنه لو كان قد باشرها دون الفرج فأنزل فـ[ـإنه] لا مانع من أن يكون تسرب شيءٌ إلى فرجها فيكون ذلك مظنة، وأما هنا فليس الأمر كذلك، والله أعلم.
قال: [وإن أعتقها أو باعها بعد اعترافه بوطئها فأتت بولد لدون نصف سنة لحقه والبيع باطل]
إذا أعتق أمةً أو باعها بعد اعترافه بوطئها فأتت بولدٍ لدون نصف سنة فحينئذٍ نعلم أنه منه، لأنه لو كان نصف سنة فأكثر لاحتُمل أن يكون من هذا المشتري الجديد، لكن هنا لدون نصف سنة فحينئذٍ نعلم أنه منه فنلحق الولد به (4) ، والبيع يكون باطلاً، لأنها تكون أم ولدٍ له، وقد تقدم أن المشهور في المذهب وهو مذهب الجمهور: أن أم الولد لا يحل بيعها.
وهنا مسائل:
__________
(1) أخرجه مسلم في كتاب النكاح، باب حكم العزل (1437) أو (1439) .
(2) ليست في الأصل.
(3) في الأصل: بما.
(4) في الأصل: فنلحقه الولد.


المسألة الأولى: أن الشبه غير معتبر مع الفراش، فإذا ثبت الفراش فإن الولد يلحق بصاحب الفراش وإن ثبت الشبه لمدّعٍ غيره، ففي الصحيحين عن عائشة قالت: اختصم سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة في غلامٍ، فقال سعد بن أبي وقاص: هو ابن أخي عتبة عهد إليّ أنه ابنه وانظر إلى شبهه، وقال عبد بن زمعة: هو أخي ولد على فراش أبي من وليدته، فنظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوجد به شبهاً بيِّناً بعتبة – إذاً هنا تعارض الشبه والفراش، فالشبه لعتبة والفراش لزمعة – فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هو لك يا عبد بن زمعة، الولد للفراش وللعاهر الحجر) ، ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (احتجبي منه يا سودة بنت زمعة) (1) ، وسودة هي زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرها أن تحتجب منه احتياطاً لوجود الشبه.
المسألة الثانية: أنه إذا لم يثبت فراش فادعى رجل أن هذا ابنٌ له – أي من الزنا – فهل يلحق به أم لا؟
قولان لأهل العلم:
القول الأول وهو مذهب الجمهور: أنه لا ينسب إليه.
القول الثاني، وهو قول إسحاق وطائفة من التابعين وهو اختيار شيخ الإسلام: أنه ينسب إليه حيث لم يعارض الفراش أي ليس ثمة فراش معارض، قالوا: لأن هذا - أي المُلحق به – أحد الزانيين ونحن نلحقه بأمه، فإذا ثبت أن هذه المرأة قد زنت وأن هذا ولد لها من الزنا فإنه يلحق بها ويرثها وترثه ويتصل بقرابتها كاتصال ولدها وهي أحد الأبوين الزانيين، فكذلك الآخر إذا ادعاه وليس ثمة معارض وهو الفراش.
__________
(1) أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب شراء المملوك من الحربي وهبته وعتقه (2218) ، وفي كتاب المغازي، باب من شهد الفتح (4303) ، وفي كتاب الفرائض، باب من ادعى أخاً وابن أخ (6765) ، وأخرجه مسلم (1457) .


فهذا الذي ادعاه أبوه من الزنا، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في حكايته لقصة جريج أنه قال للولد: من أبوك، فقال: الراعي " (1) ، والراعي أبوه من الزنا.
وقال الجمهور: بل لا يلحق به، واستدلوا بما روى أبو داود في سننه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " قضى أن كل مُسْتَلْحق يُسْتلْحَق بعد أبيه الذي يُدعى له، إن كان من أمة يملكها يوم أصابها فادعاه ورثته فإنه يلحق به، ثم إن ألحق به وكان هناك ميراثٌ قد قسم فليس له منه شيء، وما أدرك مما لم يقسم فله منه نصيبه ".
__________
(1) صحيح البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب إذا هدم حائطاً.. (2302) . انترنت.


فإذا استلحق مستلحق ولداً بعد أبيه فإن هذا الولد إن كان من أمة يملكها هذا الأب يوم أصابها ثم ادعى الورثة أن ولد هذه الأمة التي كانت ملكاً لأبيهم أنه أخٌ لهم فحينئذٍ يلحق به، وحينئذٍ فما قسم من الميراث فليس له منه شيء، وما لم يقسم بعد فله منه نصيبه – إلا أن ينكره أبوه، ولا يلحق به إن أنكره الذي يدعى له – فإن كان أبوه الذي ينسب له الابن وهو مالك الأمة إن كان قد أنكره وهو حيٌ فإنه لا ينسب إليه بعد ذلك؛ لأن الورثة يقومون مقامه، فنحن إنما قبلنا استلحاقهم لأنهم يقومون مقامه، وهنا قد أنكر هو فلا يمكن بعد ذلك أن يثبتوا هم ما أنكره هو – وإن كان من أمة لا يملكها أو حرة قد عاهر بها فإنه لا يلحق به ولا يرثه – وهذا هو الشاهد – وإن كان قد ادعاه الذي يُدعى له – أي وإن كان هذا الأب يدعي في حياته أن هذا ولد له – وإنما هو ولد زنيةٍ من أمة كان أو حرة " (1) والحديث إسناده جيد.
وفيه أنه لو كان هذا المُدعى من أمةٍ لا يملكها من يُدعى أنه أبٌ، أو من حرة قد زنا بها فإنه لا يلحق به ولا يرث منه ولا يرثه.
__________
(1) أخرجه أبو داود في كتاب الطلاق، باب في ادعاء ولد الزنا (2265) قال: " حدثنا شيبان بن فرّوخ، حدثنا محمد بن راشد ح، وحدثنا الحسن بن علي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن راشد - وهو أشبع - عن سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى أن كل مُسْتَلحَقٍ استُلحق بعد أبيه الذي يدعى له ادعاه ورثته فقضى أن كل من كان من أمة يملكها يوم أصابها فقد لحق بمن استلحقه، وليس له مما قسم قبله من الميراث شيء، وما أدرك من ميراث لم يقسم فله نصيبه، ولا يلحق إذا كان أبوه الذي يدعى له أنكره، وإن كان من أمة لم يملكها أو من حرة عاهر بها، فإنه لا يلحق به ولا يرث، وإن كان الذي يدعى له هو ادعاه فهو ولد زنْيَة من حرة كان أو أمة ".


وهذا هو القول الراجح؛ لثبوت هذا الحديث، وقال ابن القيم: " إن ثبت هذا الحديث وجب القول بموجبه والمصير إليه، وإلا فالقول كما قال إسحاق ومن وافقه "، والحديث إسناده جيد.
والذي يَسْتلحقُ هو الأب أو من يقوم مقامه وهم ورثته، ويشترط أن يتفقوا على ذلك، فإن خالف بعضهم فإنه لا يلحق لأنهم يقومون كلهم مقامه.
المسألة الثالثة: أن من وطئ امرأةً في شبهة - أي وطئ امرأة يظنها زوجته- فحملت من هذا الوطء فإنه يلحق به، وذلك لأنه وطءٌ يعتقد الواطئ حله؛ فأشبه الوطء بعقدٍ فاسد كالنكاح بلا ولي، فإن الرجل إذا نكح امرأةً بلا ولي وهو يعتقد حل ذلك فإن الولد ينسب إليه بلا خلاف، فكذلك إذا وطئها بنكاح شبهة لأنه يعتقد حل هذا الوطء.
المسألة الرابعة: القاعدة عند أهل العلم: " أن الولد يلحق بأبيه " لقوله تعالى: {ادعوهم لآبائهم} (1) ، إلا المنفي باللعان فإنه ينسب لأمه كما تقدم.
وينسب لأمه في الحرية والرق فإذا كانت أمه حرة فهو حر وإن كان أبوه رقيقاً، وإن كانت أمه رقيقةً فهو رقيق وإن كان أبوه حراً.
وأما في الدين فإنه يلحق بأخيرِهِما، فإن كان أحد الأبوين مسلماً والآخر كتابياً فإنه يلحق بالمسلم منهما سواءً كان أباً أو أماً، وإن كان أحدهما نصرانياً ولآخر وثنياً فإنه يلحق بالنصراني سواءً كان أباً أو أماً.
تم بحمد الله تعالى شرح كتاب الطلاق والإيلاء والظهار واللعان من زاد المستقنع، شرحه فضيلة الشيخ / حمد بن عبد الله الحمد، حفظه الله تعالى ونفع به.
__________
(1) سورة الأحزاب.