شرح زاد
المستقنع للحمد بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
باب ما يختلف به عدد الطلاق
من حرية أو عبودية أو غير ذلك من الأسباب التي يختلف بها عدد الطلاق.
قوله: [يملك من كله حر أو بعضه ثلاثاً]
فإذا كان الزوج كله حراً أو كان مبعضاً أي بعضه حر وبعضه عبد فإنه يملك
ثلاث تطليقات بإتفاق أهل العلم سواءً كانت الزوجة حرةً أو أمة، أما دليل من
كان كله حراً فهو ظاهر في كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وقد
أجمع أهل العلم عليه، وأما المبعض: فلأننا لو قلنا بأنه يكون بالنظر إلى
حريته وعبوديته لبعضنا الطلاق بأن يكون له ثلاثة أرباع نصاب الطلاق والطلاق
لا يتبعض لذلك ثبت له ثلاث تطليقات.
قوله: [والعبد اثنتين]
اتفاقاً، فقد اتفق أهل العلم على أن للعبد تطليقتين، وفي أبي داود والترمذي
أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (طلاق العبد – أي البائن – تطليقتان)
والحديث إسناده ضعيف، لكن العمل عليه عند أهل العلم، وقد روي ذلك عن طائفةٍ
من الصحابة ولا يعلم لهم مخالف.
قوله: [حرةً كانت زوجتاهما أو أمة]
فإذا كانت تحت العبد حرة فإن تطليقه البائن تطليقتان، وكذلك إذا كانت الأمة
تحت الحر فإن تطليقه ثلاث تطليقات، فالمعتبر في الطلاق هو النظر إلى الزوج
لا إلى الزوجة هذا هو مذهب جمهور العلماء خلافاً لأبي حنيفة، ودليل هذا قول
النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي رواه ابن ماجة وغيره: (إنما الطلاق لمن
أخذ بالساق) ، فالطلاق حق للزوج فكان النظر إليه فيه.
قوله: [فإذا قال أنت الطلاق]
إذا قال الرجل لامرأته " أنت الطلاق ".
قوله: [أو طالقٌ]
إذا قال لامرأته " أنت طالق ".
قوله: [أو علي]
أي قال " علي الطلاق " وحنث.
قوله: [أو يلزمني]
إذا قال يلزمني الطلاق إن فعلت كذا ثم فعل.
قوله: [وقع ثلاثاً بنيتها]
أي بنيته الثلاث، فالضمير في قوله بنيتها
أي بنية الثلاث فإذا قال لامرأته ما تقدم وكان قد نوى الطلاق ثلاثاً فإنه
يقع ثلاثاً، وذلك لأن هذه الألفاظ المتقدم ذكرها تحتمل الثلاث والواحدة وهي
في الطلقة الواحدة أظهر أي من جهة العرف لا من جهة اللغة لأن الللام تفيد
الاستغراق لغةً فيكون ثلاثاً في اللغة؛ لكن في عرف العامة هي واحدة، لكنه
لما نوى أن تكون ثلاثاً فعين ذلك، لأنه نوى ما يحتمله لفظه.
قوله: [وإلا فواحدة]
فإذا لم ينوِ أن تكون ثلاثاً فإنها تكون واحدة، فإذا قال لامرأته: " أنت
طالق " ولم ينو شيئاً فإنها تطلق واحدة وذلك لأن الواحدة أقل ما يصدق عليه
هذه الألفاظ، فأقل ما يصدق عليه الاسم المتقدم هو الواحدة، وهذه المسألة
وما بعدها من المسائل تتفرع على القول بطلاق الثلاث البائن بلفظة واحدة، أو
في مجلس واحد أو في مجالس متعددة بلا رجعه، وقد تقدم أنه قول مرجوح والراجح
أن طلاق الثلاث بكلمة واحدة طلقة واحدة.
قوله: [ويقع بلفظ كل الطلاق أو أكثره أو عدد الحصى أو الريح أو نحو ذلك
ثلاثٌ ولو نوى واحدة]
إذا قال لامرأته: " أنت طالق كل الطلاق أو
أكثر الطلاق أو منتهاه أو غايته أو عدد الحصى أو الريح أو أنت طالق مائة
طلقة أو ألف طلقة " أو نحو ذلك فإنه يقع الطلاق ثلاثاً ولو نوى واحدة، فلا
عبرة بنيته وذلك لأن صريح لفظه يخالف نيته، فصريح لفظه الطلاق المتعدد الذي
يحصل معه البينونة، فهنا ما نواه لا يحتمله اللفظ فإذا قال لها: " أنت طالق
أكثر الطلاق " ونوى أن تكون واحدة فإن نيته لا يحتملها لفظه كما أنه لو
قال: " أنت طالق واحدة " ونوى أن يكون ثلاثاً فإن هذا الطلاق لا يكون إلا
واحدة، وذلك لأن هذه النية لا يحتملها اللفظ، فإن قال لزوجته " أنت طالق
عُظم الطلاق " أو " أنت طالق أقبح الطلاق " أو " أنت طالق كالجبل " أو "
عُظم الطلاق " فإن لم ينوِ ثلاثاً فإنها تكون واحدة، وذلك لأن هذه الألفاظ
لا ترجع إلى العدد وإنما ترجع إلى كيفية الطلاق، فترجع إلى الطلاق نفسه
كيفاً لا عدداً فإن نوى ثلاثاً فإنها تقع ثلاثاً لأن اللفظ يحتمل ذلك لكن
إن لم ينوِ شيئاً أو نوى أن تكون واحدة فإنها تقع واحدة لأن لفظه ليس فيه
تصريح بالعدد بخلاف قوله: " أنت طالق أكثر الطلاق " أو " منتهاه " فهو يعود
إلى العدد.
قوله: [وإن طلق عضواً أو جزءاً مشاعاً أو معيناً أو مبهماً]
إذا طلق عضواً كأن يطلق يداً أو رجلاً أو كبداً أو جزئاً مشاعاً كالنصف
والربع فيقول: " نصفك طالق"، أو معيناً أي جزئاً معيناً كأن يقول: " النصف
الفوقاني منك طالق" أو مبهماً كأن يقول: " جزئك طالق "، فالحكم أنها تطلق
طلقة وذلك لأن المرأة لا تتبعض بالحل والحرمة، وفيها ما يقتضي التحريم وما
يقتضي الإباحة فغلب جانب الحرمة.
قوله: [أو قال نصف طلقة أو جزء من طلقة طلقت]
إذا قال لها: " أنت طالق نصف طلقة أو جزء
طلقة " أي سواء أبهم كقوله: " جزء طلقة " أو حدد كقوله: " جزءاً من طلقة "
فإنها تطلق، وذلك لأن الطلاق لا يتبعض فإذا طلق النصف أو الربع فإنها تقع
عليه طلقة واحدة.
قوله: [وعكسه الروح]
فإذا قال لها: " روحك طالق " فإنها لا تطلق، هذا هو أحد القولين في المذهب
قالوا: لأن الروح ليست بعضو وليست شيئاً يتمتع به وهو المذهب عند
المتأخرين.
والقول الثاني في المسألة وهو قول في مذهب الإمام أحمد، وقال صاحب الإنصاف
هو المذهب واختاره الشيخ عبد الرحمن بن سعدي؛ أنه إذا طلق الروح فإنها تطلق
عليه وذلك لأنه لا حياة للمرء بلا روح، فإن قوام البدن الروح، فعليه يقع
الطلاق، ولا شك أن هذا أولى من تطليق يدها أو رجلها ونحو ذلك، فالراجح أن
طلاق الروح يقع فتطلق به المرأة، لأنه لا حياة لليد بدون روح.
قوله: [والسن والشعر والظفر ونحوه]
إذا قال: " شعرك طالق " أو " أو سنك طالق " أو " ظفرك طالق " ونحوه كالسمع
والبصر، فإنها لا تطلق عليه، قالوا: لأن هذه الأشياء تنفصل عن الإنسان مع
سلامته من غير عطب، فإن الشخص قد يحلق شعره ويقلم أظفاره ويقلع سنه ولا
يتضرر شيء منه.
والقول الثاني في المسألة وهو قول الشافعية والمالكية؛ أن الطلاق يقع، لأن
المذكور وهو الظفر والشعر والسن ونحوها مما استباحه الناس بالنكاح فيقع
الطلاق بتطليقه، والأول أولى وذلك لأن الأصل بقاء عصمة النكاح وما ذكره أهل
القول الأول من الاستدلال فيه قوة فإن هذه الأشياء المذكورة تنفصل مع
السلامة، بخلاف الإصبع مثلاً فإنها لا تنفصل إلا مع عطب فإنها تجرح البدن
ويتأذى البدن بذلك وكذلك اليد والرجل أو نحو ذلك.
قوله: [وإذا قال لمدخول بها: أنت طالق وكرره وقع العدد، إلا أن ينوي
تأكيداً يصح أو إفهاماً]
إذا قال لامرأته التي قد دخل بها: " أنت
طالق، أنت طالق، أنت طالق " وقع العدد، فإذا قال لها: " أنت طالق، أنت طالق
" فإنه يقع الطلاق اثنتين وإذا قال: " أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق "
فإنها تقع ثلاثاً، إلا أن ينوي تأكيداً، فإذا كانت بنيته تأكيد الطلاق أو
إفهامها أو إفهام السامع فإنه تقبل نيته حكماً، وتقبل أيضاً في الباطن
ويدين بذلك فيما بينه وبين ربه بما ادعاه بنيته، وذلك لأنه أعلم بلفظه وهذا
اللفظ يحتمل التأكيد والإفهام ويحتمل التعدد فلما ثبت هذان الاحتمالان قبلت
نيته، لكن لابد أن يكون ينوي تأكيداً يصح، وأن يكون اللفظ يحتمل ذلك، فإذا
قال لها: " أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق " وقال نويت التأكيد فإنه يقبل
معه لأن هذه الجمل قد اتصلت، لكن إذا قال لها اليوم: " أنت طالق " وقال لها
غداً: " أنت طالق " وقال أريد التأكيد، فإن هذا لا يقبل منه لأن هذا لا
يكون منه تأكيداً، فالتأكيد متصل بالكلام كسائر التوابع والإفهام نوع منه.
إذن: إنما يقبل منه حيث أمكن التأكيد أو أمكن الإفهام أما إذا كان لا يمكن
مع لفظه التأكيد والإفهام فإنه لا يقبل منه.
قوله: [وإن كرره ببل أو بثم أو بالفاء أو قال بعدها، أو قبلها أو معها
طلقةٌ وقع اثنتان]
إذا قال لها: " أنت طالق بل طالق " أو: "
أنت طالق ثم طالق " أو: " أنت طالق فطالق " أو: " أنت طالق وطالق " أو قال:
" أنت طالق بعدها طلقة " أو: " أنت طالق قبلها طلقة " أو: " أنت طالق معها
طلقة " وقعت طلقتان، وذلك لأن مثل هذه الألفاظ ظاهرة في التغاير، فالثلاث
الأول حروف عطف، وحروف العطف الأصل فيها المغايرة، فعليه ظاهر لفظه أنت
طالق طلاقاً آخر، كذلك إذا قال لها: " أنت طالق بعدها طلقة " أو: " أنت
طالق قبلها طلقة " أو: " أنت طالق طلقة معها طلقة " ونحو ذلك، فإنه لا يقبل
ادعاؤه التأكيد ولا ادعاؤه الإفهام، لأن التأكيد والإفهام هنا احتمال بعيد،
لكن لو كان في الباطن أراد التأكيد فإنه يدين بذلك فيما بينه وبين ربه،
وأما في الحكم الظاهر فإن القاضي يحكم عليه بما يقتضيه لفظه.
قوله: [وإن لم يدخل بها بانت بالأولى ولم يلزمه ما بعدها]
إذا كانت المرأة غير مدخول بها وقال لها: " أنت طالق ثم طالق " أو نحو ذلك،
فإنها تبين بالأولى وحينئذٍ تكون عليها طلقة واحدة لأن غير المدخول بها
تبين بطلقة واحدة فقوله لها: " أنت طالق " فبهذه اللفظة الأولى تبين منه،
فإذا كرر بعدها طلقتين مثلاً فإن هاتين الطلقتين الأخريين قد وقعتا في حالة
البينونة، وطلاق البائن لا يمضي، فعلى ذلك له أن يتزوجها من غير اشتراط أن
تنكح زوجاً غيره، فيعقد عليها عقداً جديداً.
قوله: [والمعلق كالمنجَزِ في هذا]
المعلق كقوله: " إذا دخلت الدار فأنت طالق طالق "، فالمنجز أي كقوله: " أنت
طالق أنت طالق أنت طالق "، فلو أن رجلاً قال لامرأة غير مدخول بها: " إذا
دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق " فإنها تبين منه بالأولى إذا دخلت
الدار، ولا يقع عليها الثاني ولا الثالث لأنها أصبحت بائناً بالأولى.
فصل
هذا الفصل في الاستثناء في الطلاق وأحكامه
قوله: [ويصح منه استثناء النصف فأقل من عدد الطلاق والمطلقات]
يصح من الزوج أن يستثني النصف فأقل من عدد
الطلاق ومن عدد المطلقات، هذه المسألة ترجع إلى ما هو مرجح في علم الأصول
وهو مذهب الحنابلة من صحة استثناء النصف فأقل، أما استثناء الكل أو الأكثر
فإنه لا يصح فإذا قال لزيد " علي مائة ريال إلا مائة " فهذا استثناء كل ولا
يصح، فيكون قد أقر بمائة ولا يصح استثناؤه، ولو قال لزيدٍ: "على مائة إلا
تسعين" فلا يصح الاستثناء ويكون قد أقر بالمائة أما إذا استثنى النصف فأقل
كأن يقول: " له علي مائة إلا خمسين" أو: " له علي مائة إلا أربعين" فإن
الاستثناء يصح، فعلى ذلك إذا طلق امرأته ثلاثاً واستثنى الكل فقال: " أنت
طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً " أو الأكثر فقال: " أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين "
فإن الاستثناء لا يصح وتكون طالقاً ثلاثاً، أما إذا استثنى النصف فأقل كأن
يقول: " أنت طالق اثنتين إلا واحدة " أو " أنت طالق ثلاثاً إلا واحدة " فإن
الاستثناء يصح ولذا قال المؤلف:
[فإذا قال: أنت طالقٌ طلقتين إلا واحدة، وقعت واحدة، وإن قال: ثلاثاً إلا
واحدة فطلقتان]
كذلك في المطلقات، فلو قال: " نسائي الأربع طوالق إلا واحدة، فيصح
الاستثناء ولو قال: "نسائي الأربع طوالق إلا اثنتين"، فيصح الاستثناء.
قوله: [وإن استثنى بقلبه من عدد المطلقات صح دون عدد الطلقات]
فإذا استثنى بقلبه من عدد المطلقات صح ذلك، كأن يقول: " نسائي طوالق وله
ثلاث " واستثنى بقلبه فلانه فإن هذا الاستثناء يصح في الحكم، وأما في
الباطن أي في النية فلا إشكال فيه أنه يصح أي بأن يدين في ذلك فيما بينه
وبين ربه، وأما في الحكم فكذا لك في المذهب، وذلك لأن اللفظ العام قد يراد
به الخصوص وحينئذٍ فهذه النية تصرف اللفظ إلى بعض أفراده.
والقول الثاني وهو رواية عن الإمام أحمد
وهو مذهب الشافعية أن الطلاق يقع كما تلفظ به ولا عبرة بنيته، وهذا هو
القول الراجح، وذلك لأن الحكم إنما يعتبر بالظاهر، والظاهر من لفظه أن
نساءه كلهن طوالق، فيحكم عليه بما اقتضاه ظاهر لفظه، وأما نيته فهي بينه
وبين ربه، فإن لم يكن هناك ترافع أمام القاضي فإنه إن علم من نفسه الصدق
فإنه يبقي امرأته وأما إن علم من نفسه الكذب فإنها لا تحل له إن كان الطلاق
بائناً وإلا فإنه يحسبها طلقة، وأما في الطلقات فلا لا ديناً ولا حكماً،
فلا يدين بذلك ولا يحكم به؛ أي بالاستثناء، فإذا قال رجل لامرأته: " أنت
طالق ثلاثاً " ونوى في قلبه إلا واحدة فلا يعتبر بهذا الاستثناء المنوي غير
المتلفظ به في الحكم وذلك للتعليل المتقدم في المسألة السابقة، وكذلك لا
يدين بنيته فلا يقال: " إن كنت صادقاً فيما نويته فهي امرأتك " لا يقال
ذلك، وذلك لأن العدد نص فيما يتناوله؛ أي ليس هناك احتمال، فإن قال: " أنت
طالق ثلاثاً " فليس هناك أي احتمال أخر ممكن بخلاف ما إذا قال " نسائي
طوالق " فإنه يحتمل أن يريد البعض فالنية إنما تصرف اللفظ المحتمل إلى أحد
محتملاته وأما ما لا يحتمله اللفظ فلا، وإلا لجاز العمل بالنية المجردة في
النكاح والطلاق ونحو ذلك، وهذه المسألة متفرعة على قول جمهور أهل العلم من
إيقاع طلاق الثلاث ثلاثاً وإلا فالراجح أن طلاق الثلاث واحدة، ومثل ذلك إذا
قال: " نسائي الأربع طوالق " أو قال: " ثلاثتكن طوالق " ونوى إلا واحدة فلا
عبرة بنيته لأن قوله: " نسائي الأربع " وقوله: " ثلاثتكن " هذا عدد والعدد
نص فيما يتناوله وعليه فالنية لا تصرفه كما تقدم تقريره.
قوله: [وإذا قال: أربعكن إلا فلانة طوالقٌ صح الاستثناء]
وذلك لأن هذه المرأة قد خرجت باستثناء صحيح.
قوله: [ولا يصح استثناء لم يتصل عادة]
يشترط في الاستثناء أن يتصل في العادة،
يتصل لفظاً أو حكماً، اتصاله لفظاً: بأن يتبع المستثنى المستثنى منه، فإن
قال: " نسائي طوالق إلا فاطمة " فقوله: " إلا فاطمة " فاطمة هي المستثنى
وقوله " نسائي طوالق " المستثنى منه، فهنا قد تبع المستثنى المستثنى منه
تبعه لفظاً فالاستثناء صحيح.
وأما اتصاله حكماً: فهو لم يتبعه لفظاً لكنه تبعه حكماً، وذلك فيما إذا كان
هناك فاصل بين المستثنى والمستثنى منه، وكان الفاصل لا يقطع في العادة، كأن
يقول: " نسائي طوالق " ثم يعطس أو يسعل ثم يقول: " إلا فلانة " فلا تطلق
عليه وذلك لأن الاستثناء متصل في العادة لكنه ليس متصل لفظاً بل هو متصل
حكماً.
قوله: [فلو انفصل وأمكن الكلام دونه بطل]
فإذا قال: " نسائي طوالق " ثم تكلم بكلام أجنبي أو سكت سكوتاً طويلاً يقطع
في العرف ثم قال: " إلا فلانة " فإن الطلاق يقع على كل نسائه ولا يصح
استثناؤه، وذلك لوجود الانقطاع، فهذا الطلاق الذي تلفظ به لا يمكن رفعه
بمثل هذا الاستثناء المنقطع أما الاستثناء المتصل فإنه يجعل اللفظ جملة
واحدة، أي يجعل المستثنى منه والمستثنى جملة واحدة لا يقع الكلام إلا
بتمامها.
قوله: [وشرطه النية قبل كمالِ ما استثنى منه]
هذا الحكم في الاستثناء وفي الشرط، فلو قال رجل: " نسائي طوالق " ثم استدرك
وقال: " إلا فلانة " فهو عندما قال: " نسائي طوالق " لا ينوي استثناء هذه
المرأة المستثناة بل نواه بعد إتمامه اللفظ، فالاستثناء لا يصح ويقع الطلاق
على كل المستثنى، وكذلك الشرط، فلو أن رجلاً قال لامرأته: " أنت طالق" ثم
استدرك فقال: " إن دخلت الدار " فالشرط هنا لا يصح لأنه لم ينوه أثناء
اللفظ قالوا: لأن الشرط والاستثناء يصرفان اللفظ عن مقتضاه فوجب أن يقترنا
به لفظاً ونية في المنجز والمعلق فتدخل فيه يمين.
وختار شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم، وذكر
شيخ الإسلام: " أنه هو ما يدل عليه كلام الإمام أحمد، وأن عليه كلام
متقدِمي أصحاب الإمام أحمد "، واختاره من المتأخرين الشيخ عبد الرحمن بن
سعدي: أن الاستثناء يصح وإن لم ينوِ المستثنى منه فيما يقصد به اليمين لا
الإيقاع.
واستدلوا بأدلة من الكتاب والسنة، فمن ذلك قوله تعالى {ولاتقولن لشيءٍ إني
فاعل ذلك غداً إلا أن يشاء الله} ، فجمهور المفسرين أن هذا فيمن نسي
الاستثناء.
والقول الثاني عند المفسرين أنه يعم من نسي الاستثناء ومن لم ينسه قال ابن
القيم: وهو الصواب: " وعلى كلا التفسيرين فإن المسألة المتنازع فيها داخلة
في هذه الآية "، فالرجل إذا قال: " سأفعل غداً " وقد نسي أن يستثني ثم قال
" إن شاء الله " فهذا الإستثناء نافع مع أنه لم ينوه مع لفظه، فكذلك في هذه
المسألة المتنازع فيها، ومن ذلك ما ثبت في الصحيحين، أن سليمان عليه السلام
قال: " لأطوف الليلة على سبعين تحمل كل امرأة فارساً يجاهد في سبيل الله "
فقال له الملك: " إن شاء الله " فلم يقل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم
-: (فلم تحمل شيئاً - أي من نسائه – إلا واحداً قد بقي أحد شقيه، ولوا قال
إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله) ، فهذا الحديث دل على أن قوله: " إن شاء
الله " بعد الكلام نافع ومؤثر، ومن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - في
المتفق عليه لما نهى عن قطع شوك مكة وحشيشها قال له العباس " إلا الإذخر "
فقال: (إلا الإذخر) ، ولم يكن قد نوى الاستثناء وهذا هو القول الراجح لقوة
أدلته.
والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
|