شرح زاد المستقنع للخليل

الدرس: (1) من الحدود

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

كتاب الحدود
الحد في لغة العرب/ المنع.
وأما في الاصطلاح / فله معنى عام ومعنى خاص. أما معناه العام فحدود الله محارمه لقوله تعالى {تلك حدود الله فلا تقربوها} [النساء/13] أي محارم الله فهذا هو المعنى العام.
أما المعنى الخاص. فالحدود الممنوعات الشرعية التي رتب عليها الشارع عقوبة محددة. فالزنا من الحدود لأنّ الله رتب عليه عقوبة محددة وهي الجلد أو الرجم كما سيأتينا بينما التقبيل من المحرمات إلاّ أنّ الشارع لم يرتب عليه عقوبة محددة شرعا فليس من الحدود إذا الحدود هي الأشياء التي منعها الشارع وأوجب على من فعلها حدا معيّنا أو عقوبة مقدرة معيّنة من قبل الشارع فجميع المحذورات أو المحرمات التي فيها التعزيرات ليست من الحدود.
ثم - قال رحمه الله - (لا يجب الحد)
الحدود مشروعة بالإجماع فإنّ السنة جاء فيها ما يشبه التواتر بإقامة الحدود من قِبل النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن خلفاءه الراشدين وستأتينا الأدلة في كل باب من أبواب الحدود اللاحقة. كما أنّ إقامة الحدود محل إجماع من الفقهاء لم يخالف فيه أحد فهي واجبة وفريضة متعيّنة دل عليها النص المتواتر وإجماع الأمة.
ثم - قال رحمه الله - (لا يجب الحد إلاّ على بالغ عاقل)
لا يجب الحد على غير البالغ العاقل بالإجماع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع القلم عن ثلاثة. إذا لا يجب إقامة الحد على غير مكلف وهذا محل إجماع والمؤلف - رحمه الله - سيبيّن في هذا الفصل قبل أن يبدأ بالحدود بمسائل سيذكر مسائل تشترك مع جميع الحدود مسائل عامة تشترك فيها جميع الحدود ثم إذا انتهى من هذه المسائل العامة سيعود إلى كل حد ويعقد له بابا خاصا.

يقول - رحمه الله - (ملتزم)


الملتزم يقصد به من التزم الأحكام الشرعية. وهو المسلم والذمي والدليل على أنّ الذمي يحكم فيه قوله تعالى {وأن احكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة/49] فالذمي تجب إقامة الحد عليه فيما يرى هو أنه محرم والنبي - صلى الله عليه وسلم - أقام حد الرجم على اليهودي واليهودية. أما إقامة الحدود على المسلم فهو محل إجماع باقي الحربي والمستأمن هؤلاء لا تقام عليهم الحدود التي هي لحق الله.
وتقام عليهم الحدود التي هي لحق الآدمي كالقذف. إذا صاروا ثلاثة أقسام. المسلم والذمي والحربي والمستأمن كل واحد له حكمه في إقامة الحدود.
قال - رحمه الله - (عالم بالتحريم)
يشترط لإقامة الحد أن يكون من اقترف الذنب عالما بالتحريم لا بالعقوبة والدليل على هذا من وجهين: الأول: أنّ الصحابة رفعوا الحد عمن ادعى الجهل بتحريم الفعل.
الثاني: أنّ قاعدة الشرع كما يقول شيخ الإسلام أنه لا تكليف إلاّ بعد العلم فهذا الشخص الذي لا يعلم يعتبر غير مكلف بهذا الأمر ويشترط لقبول دعوى عدم العلم أن يتصور منه عدم العلم كأن يكون في البوادي أو في قرية نائية أما من يعيش بين المسلمين فلا يقبل منه أن يقول لا أعلم أنّ شرب الخمر محرم أو أنّ الزنا محرم ولو ادعى لم يقبل منه ويقام عليه الحد.
ثم - قال رحمه الله - (فيقيمه الإمام أو نائبه في غير مسجد)
أفادنا المؤلف أنّ المعني بإقامة الحدود هو الإمام فقط , وليس لغيره كائنا من كان أن يقيم الحدود والدليل على هذا أن الذي كان يقيم الحدود هو النبي - صلى الله عليه وسلم - فقط وخلفائه الراشدون وعلى هذا جرت الأمة إلى وقتنا هذا فهو إجماع محفوظ يستثنى من هذا أنه يجوز للسيد أن يقيم الحد على عبده ويختص هذا بحد واحد وهو الجلد وليس له أن يقيم حد القتل أو القطع. والدليل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم - إذا زنت أمة أحدكم فليقم عليها الحد ولا يثرب. فدل هذا على أنه للسيد أن يجلد الأمة وأن يقيم عليها الحد إذا زنت. وأما الحدود التي تقتضي القتل أو القطع فإنه لا يجوز له أن يقيمه , ولا يستثنى من إقامة الحدود إلاّ هذه المسألة ونحن نقول لا يقيم الحد إلاّ الحاكم لما تقدم من أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - هو الذي تولاه.


والدليل الآخر: أنّ إقامة الحدود تحتاج إلى اجتهاد في إثباتها والنظر في البيّنات وهذا موكول إلى الحاكم ولأجل أن لا يحصل فيه تلاعب في الإثبات أو في النفي.

ثم - قال رحمه الله - (في غير مسجد)
لا يجوز إقامة الحد في المسجد لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن إقامة الحدود في المساجد وهذا الحديث يعني حسنه المتأخرون.
وأنا قلت لكم مرارا أنّ تحسين المتأخرين يحتاج إلى إعادة نظر لكن على كل حال أنا أقول لكم أنه حسنه المتأخرون ولم أجد وقتا للبحث في إسناده بدقة لكن حسنه المعاصرون.
الدليل الثاني: أنّ الله سبحانه وتعالى أمر بإيجاد المساجد لإقامة ذكر الله لا لإقامة الحدود.
الأمر الثالث: أنه لم يحفظ أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام أيّ حد في مسجده.
مسألة / فإن أقيم الحد في المسجد فإنه لا يجب إعادته بل يعتبر مجزأ.
ثم - قال رحمه الله - (ويضرب الرجل في الحد: قائما)
يعني أنّ الرجل لا يضرب جالسا وإنما يضرب وهو قائم والدليل على هذا من وجهين: الأول" أنّ ضرب المجلود قائما مروي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - إلاّ أنّ هذا الأثر فيه ضعف.
الدليل الثاني: أنّ ضربه قائما يؤدي إلى توزيع الضرب على كامل الجسد.
والقول الثاني/ أنه يضرب جالسا لا قائما لأنه ليس في النصوص الشرعية ما يدل على أنه لا بد أن يكون قائما فيجزئ إقامة الحد عليه ولو كان جالسا. والراجح إن شاء الله أنّ هذا الأمر فيه سعة ويرجع إلى الإمام. والأحسن أن لا يضرب إلاّ قائما.
ثم - قال رحمه الله - (بسوط)
يعني أنّ الجلد يكون بهذه الأداة وهي السوط واستدلوا على هذا بأمرين:
الأمر الأول: أنّ المتبادر إلى الذهن في لغة العرب عند إطلاق كلمة الجلد أنه يكون بالسوط.
الثاني: أنه نقل أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - جلد بالسوط.
القول الثاني/ أنّ الجلد يكون في شرب الخمر بالنعال والأيدي وأطراف الثياب واستدلوا على هذا بأنّ رجلا شرب الخمر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فجلد بأطراف الثياب والأيدي والنعال. والراجح القول الأول.
والجواب عن هذا الحديث من وجهين:
الوجه الأول: أنّ الجلد بهذه الطريقة كان في أول الإسلام ثم نسخ.


والوجه الثاني: من الجواب أن يقال أنه يرجع في كيفية الضرب إلى رأي الإمام بحسب اختلاف الشارب والراجح والله أعلم أنه لا يضرب إلا بالسوط. لأنّ العبرة والنكاية والتأديب لا يكون إلاّ بهذا وإن ضرب بعض الصحابة بمثل هذا الضرب فهذا لكون الخير عندهم منتشر فاكتفوا بمثل هذا أما في وقتنا بل في وقت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أسرف الناس في شرب الخمر فكيف في الأوقات التي تليه ولهذا نقول الراجح أنه لا يجوز الضرب إلاّ بالسوط.
ثم - قال رحمه الله - (لا جديد ولا خلق)
يعني أنه لا يضرب بسوط جديد ولا يضرب بسوط خلق , والدليل على هذا من وجهين:
الوجه الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أوتي بسوط جديد فرده ثم أوتي بسوط خلق فرده ثم قال النبي - صلى الله عليه وسلم - بين هذين.
الدليل الثاني: أنّ الجلد بالسوط الجديد يجرح الجلد والجلد بالسوط القديم لا يحصل منه التأديب المرجو فصار الأمر إلى السوط المتوسط.
ثم - قال رحمه الله - (ولا يمد , ولا يربط , ولا يجرد)
استدل الحنابلة على عدم المد والربط والتجريد بما روي عن ابن عباس أنه قال ليس في ديننا مد ولا ربط ولا تجريد , وهذا الأثر أيضا فيه ضعف.
والقول الثاني: أنه لا بد في الجلد من التجريد ومعنى التجريد أن يقع السوط على الجلد واستدلوا على هذا بأنّ الأصل إذا قيل الجلد أن يجلد الإنسان يعني على جلده والراجح أنه لا مد ولا ربط ولا تجريد في الدين لأمرين:
الأول: أنّ من جلد وعليه ثيابه يصدق عليه أنه مجلود.
الثاني: أنّ هذه الطريقة لم تنقل عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد كانت هذه الطريقة معمول بها عندنا فكان يمد على الأرض مدا لا يربط وإنما يمسك مسكا قويا ويجلد جلدا قويا وربما أغمي عليه لكن هذا الأمر ترك وصار الآن الجلد على مقتضى كلام الفقهاء يجلد قائما ولا يجرد ولا يربط. لكنهم أحيانا يربطونه إذا أبى الوقوف أو اشتد عليه الألم ثم أبى الوقوف يربطونه ولا يربطونه ابتداء.
ثم قال ـ رحمه الله - (بل يكون عليه قميص أو قميصان)


يعني يجوز أن يلبس قميصا أو يلبس قميصين لأنّ هذا اللبس لا يمنع من الشعور بالألم ويحصل مع الغرض أفادنا المؤلف أنّ ما عدى ذلك من الألبسة الثخينة لا يجوز أن تلبس كما لو لبس الفرو أو لبس ثياب الشتاء المتينة أو لبس أكثر من قميصين كأن يلبس ثلاثة أو أربعة كل هذا لا يجوز لأنّ المقصود من الجلد لا يحصل مع وجود هذه الأشياء فنجعل الإنسان يلبس ثوبه المعتاد لا زيادة ولا نقص.
قال - رحمه الله - (ولا يبالغ بضربه بحيث يشق الجلد)
لا يجوز أن يبالغ في الضرب إلاّ أن يصل إلى مرحلة شق الجلد وتعليل هذا أنّ المقصود من الجلد التأديب لا الإهلاك فلا يصل بالجالد أن يدميه ويشق جلده وإنما يضربه ليؤدبه ويشعره بالألم فقط.
قال - رحمه الله - (ويفرق الضرب على بدنه)
ندبا لا وجوبا يعني ينبغي للجالد أن يفرق الضرب وأن لا يجعل الضرب يقع على موضع واحد علل الحنابلة هذا بأنه إذا فرقه فقد وزع الألم على جميع الجسد.
والقول الثاني / أنّ تفريق الضرب واجب ولا يجوز له أن يضرب في موضع واحد لا يتعداه وهذا القول اختاره القاضي من الحنابلة وهو القول الراجح بلا إشكال إن شاء الله , لأنّ الضرب في موضع واحد يؤدي إلى شق الجلد وهم يقولون أنه لا يشق الجلد فكيف يجعل توزيع الضرب مندوبا فقط بل هو واجب لأنه لو ضربه مائة جلدة في موضع واحد فلا شك أنه سينشق الجلد ويخرج الدم بكثرة.
قال - رحمه الله - (ويتقى الرأس , والوجه , والفرج , والمقاتل)
يعني وجوبا وقول الشيخ والمقاتل المقاتل عند الحنابلة هي الأعضاء المذكورة مع أنّ عبارة المؤلف توهم أنّ المقاتل شيء آخر أليس كذلك؟ بينما الحنابلة يرون أنّ المقاتل هي الرأس والوجه والفرج فيجب عليه وجوبا أن يجتنب وقوع السوط على الرأس أو الوجه أو الفرج واستدلوا على هذا بأمرين: أنّ ضرب الرأس والوجه والفرج قد يؤدي إلى فقد أحد الحواس. والمقصود هو التأديب لا إفقاده الحواس.
الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى بالحديث الصحيح عن ضرب الوجه , وهذا يشمل ما لو كان إقامة الحدود أو غيره ولهذا لا يجوز له مطلقا أن يضربه مع الرأس أو الوجه أو الفرج لأنه مقتل.
قال - رحمه الله - (والمرأة كالرجل فيه)


يقصد بفيه يعني صفة الجلد فهي كالرجل في الصفات المذكورة إلاّ ما سيستثنيه المؤلف إذن المرأة كالرجل تماما يسمح لها بلبس الثياب وهذا واجب تضرب بسوط وسط ولا تضرب في موضع واحد وجميع الصفات المتقدمة تنطبق على الرجل والمرأة إلاّ أنّ المرأة لها حكم واحد يختص بها.
قال - رحمه الله - (إلاّ أنها تضرب جالسة وتشد عليها ثيابها وتمسك يداها لئلا تنكشف)
تختص المرأة بهذه الأمور تضرب جالسة وتشد عليها الثياب وتمسك مع يديها الدليل على هذا أولا ذهب إلى هذا الاستثناء الجماهير جماهير العلماء على هذا الاستثناء وهي أنها تضرب جالسة وتشد عليها الثياب وتمسك مع يديها استدلوا على هذا بأمرين:
الأول: أنه مروي عن الصحابة.
الثاني: أنّ المطلوب في المرأة الستر والصيانة وربما لو ضربت قائمة لأنكشف منها شيء.
القول الثاني/ مذهب أبي يوسف - رحمه الله - أنها تضرب قائمة كالرجل واستدل على هذا بأنها تلاعن قائمة فكذلك تضرب قائمة وهذا القول من الشيخ الفقيه أبي يوسف ضعيف جدا حتى أنّ الإنسان لا يستبعد صدوره منه مع فقهه ومعرفته وأي شبه بين الملاعنة وإقامة الحد حتى تقاس على كونها تلاعن قائمة بل كونها تلاعن قائمة فيه معنى معقول وهو تعظيم أمر الملاعنة لأنّ الإنسان إذا أقسم قائما فهو أعظم منه إذا أقسم جالسا بينما في الجلد لا يقصد التعظيم وإنما يقصد وجود الألم والتأديب وهذا يحصل للقائم والجالس. فهو في الحقيقة قول ضعيف والراجح مذهب الجماهير.
قال - رحمه الله - (وأشد الجلد جلد الزنا , ثم القذف , ثم الشرب , ثم التعزير)
أشد الحدود حد الزنا لأنّ الله قال فيه {ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله} [النور/2] فنص على أنه يجب إذا أراد أن يجلد أن لا تأخذه بهم رأفة وإنما يجلد جلدا قويا يوجع ويؤلم حتى يحصل التأديب.
الدليل الثاني: أنّ الداعي إلى الزنا من نفس الإنسان أقوى من إلى غيره من المحرمات.
والقول الثاني: أنّ الحدود على حد سواء فلا يوجد فيها شيء أغلظ من الآخر , والراجح أنّ الزنا أغلظ من غيره لنص الآية على عدم الرأفة في المجلود.
ثم - قال رحمه الله - (ومن مات في حد فالحق قتله)


الحدود تنقسم إلى قسمين: القسم الأول" جميع الحدود عدى حد الشرب فهذه الحدود إذا مات فيها الإنسان فلا يضمن لأنه ضرب بأمر الشارع ولا إشكال فيها.
القسم الثاني: حد الخمر فهذا ذهب الجماهير أيضا إلى أنه لا ضمان فيه.
والقول الثاني: في حد الخمر أنه إذا جلده أكثر من أربعين جلدة فإنه يضمن لأنّ الزائد على الأربعين ليس فيه سنة وهو من باب التعزير فيضمن صاحبه يعني يضمن المجلود. والراجح القول الأول أنه لا ضمان ولو زاد على الأربعين.
والجواب من وجهين: الأول لا نسلم أنّ ما زاد على الأربعين تعزير بل هو حد سيأتينا الكلام عن هذه المسألة.
الثاني: أنه لو سلمنا أنه تعزير فمن يحكم عليه الحاكم بجلد تعزيرا ويموت أيضا لا يضمن لأنّ التعزير أذن به الشارع ولهذا نقول الراجح إن شاء الله أنه لا ضمان حتى في حد الخمر ولو زاد عن الأربعين.
ثم - قال رحمه الله - (ولا يحفر للمرجوم في الزنا)
يعني لا يشرع أن يحفر للمرجوم في الزنا والدليل على هذا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم امرأة ورجلا. وامرأة ورجلا. وفي الجميع لم يحفر فهو رجم اليهودي واليهودية. ولم يحفر. ورجم ماعزا - رضي الله عنه - ولم يحفر , ورجم امرأة الرجل الذي زنى بها خادمه وهو حديث العسيف كما سيأتينا ولم يحفر , فجاءت السنة في رجم الرجل والمرأة. والرجل والمرأة جميعا بلا حفر فدل هذا على أنّ الحفر لا يشرع.
القول الثاني: أنه يشرع الحفر إذا ثبت ببيّنة ولا يشرع إذا كان بإقرارها وهذا خاص بالمرأة.
القول الثالث: يشرع الحفر للمرأة مطلقا سواء ثبت ببيّنة أو بإقرارها واستدل أصحاب القول الثالث على قولهم بما ثبت في صحيح مسلم أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حفر للغامدية وهذه المسألة فيها إشكال السنة فيها جاءت على جميع هذه الوجوه فلو قيل يرجع إلى رأي الإمام في الحفر وعدمه وينظر هو الأنسب لكان هذا جيدا لأنّ السنة فيها الحفر وفيها عدم الحفر.


الدرس: (2) من الحدود

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

باب حد الزنا
في الدرس السابق تكلمنا عن باب العاقلة وما تحمله وبقي علينا مسألة نتحدث عنها وهي مسألة إذا لم يكن له عصبة إذا كان القاتل خطأ لم يكن له عصبة وهذه المسألة يعبر عنها بالترتيب فيمن يدفع الدية فالآن إذا قتل الإنسان شخصا قتلا خطأ فقلنا أنّ الدية تكون على العاقلة حسب التفصيل السابق. فإذا لم يكن له عاقلة يعني لم يكن له عصبة فينتقل بعد ذلك الوجوب إلى بيت المال فإذا لم يؤدي بيت المال الدية فاختلف حينئذ الفقهاء هل تجب على القاتل أو لا تجب. فمن الفقهاء من قال تجب القاتل لأنه إنما اسقط عنه لأنّ العاقلة سيحملون الدية مواساة فإذا لم يحملوها بقي الأصل وهو وجوب الضمان على الجاني ومن الفقهاء من قال بل لا يحمله القاتل لأنّ الشارع جعل الدية واجبة على العاقلة والراجح أنه يجب على القاتل إذا لم تحمل العاقلة أو لم توجد أن يؤدي الدية فصار الترتيب حينئذ
العاقلة. بيت المال. القاتل. العاقلة فإن لم يمكن أو لم يدفعوا أو لم يوجدوا , فبيت المال فإن لم يدفع , انتقل حينئذ إلى القاتل.
نعود إلى درس اليوم الذي توقفنا عنده وهو قوله باب حد الزنا.
قال المؤلف - رحمه الله - باب حد الزنا.
الزنا هو الوطء في القبل أو في الدبر بغير نكاح ولا ملك ولا شبهة. وهذا التعريف عند الجماهير واشترط الأحناف أن يكون الوطء في القبل ليسمى زنا. والأقرب إن شاء الله مع الجمهور وهو أنه يطلق على الوطء في القبل والدبر زنا. هذا أولاً.
ثانيا" الزنا بهذا التعريف المتقدم محرم بإجماع الأمة وهو من كبائر الذنوب كما قال تعالى {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} [الإسراء/32] واعتبره النبي - صلى الله عليه وسلم - من الكبائر وهو أمر مجمع عليه بين الأمة.
قال - رحمه الله - باب حد الزنا. (إذا زنى المحصن رجم حتى يموت)


إذا زنى المحصن وسيأتي في كلام المؤلف من هو المحصن , فإنّ حكمه الرجم حتى الموت فتبيّن بهذا أنّ مقصود الفقهاء بكلمة الرجم أن يستمر إلى الموت وليس المقصود مجرد رميه بالحجارة. واعتبار عقوبة الزاني المحصن الرجم محل إجماع بين الأمة لم يختلفوا فيه قط وإنما خالف فيه الخوارج فقط ولا عبرة بقولهم وخالفوا أي الخوارج مستدلين بأنّ الله لم يذكر الرجم فيي القرآن.
والصواب ولا نحتاج نقول الصواب وقول الإجماع هو الحق إن شاء الله والرجم جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قولا وفعلا بما يشبه أن يكون متواترا فلا شك في ثبوته وأنّ قول الخوارج شاذ لا عبرة به وستأتي الأدلة التفصيلية في مسائل الباب.
لما قرر المؤلف أنّ حد المحصن الرجم أراد أن يبيّن من هو المحصن
فقال - رحمه الله - (والمحصن: من وطئ امرأته المسلمة)
المحصن له شروط لا يكون الإنسان محصنا إلاّ بها ذكرها المؤلف في هذه العبارة وما يليها سنأتي عليها واحدا واحدا.
الأول: الوطء فيشترط لثبوت الإحصان في حق المسلم أن يطأ والمقصود بالوطء هنا يعني في القبل فقط والدليل على هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الثيب بالثيب جلد مائة والرجم. وجه الاستدلال أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الثيب. والثيب في لغة العرب لا تكون إلاّ على الوطء في القبل , فالوطء في غير القبل لا يعتبر وطأ يحصل به الإحصان وهذا القدر لا خلاف فيه ولله الحمد إذا لا إحصان بلا وطء.
* مسألة / يشترط في هذا الوطء أن لا يقل عن تغييب الحشفة أو تغييب قدرها لمن لم تكن له حشفة , وما دون ذلك لا يعتبر وطء لأنّ الشارع الحكيم علقّ الأحكام على تغييب الحشفة في باب الغسل وغيره وكذلك هنا لا يعتبر وطأ يحصل به الإحصان إلاّ إذا غيّب الحشفة فهذا هو الشرط الأول. إذا الشرط الأول من وطء امرأته المسلمة أو الذمية. ثم انتقل إلى الشرط الثاني
فقال رحمه الله - (في نكاح)


يشترط في الوطء أن يكون في نكاح فإن كان الوطء في شبهة أو في زنا يعني وطأ يحكم عليه بأنه زنا أو بسبب الشبهة فإنه لا يحصل به الإحصان وهذا أيضا محل إجماع إذا لا بد أن يكون الوطء في نكاح. أما كون صحيح أو غير صحيح فسيتطرق لها المؤلف المهم الآن الذي يعنينا أنه لابد أن يكون في نكاح , أما في الزنا ووطء الشبهة فلا.
ثم - قال رحمه الله - (صحيح) الشرط الثالث.
يشترط في النكاح أن يكون صحيحا , فإن كان نكاحا فاسدا أو باطلا أو وطء شبهة فإنه لا يعتبر وطأ يحصل به الإحصان.
وقبل أن ننتقل للقول الثاني دليل القول الأول القياس على وطء الشبهة وتقدم معنا أنّ وطء الشبهة هذا لا يعتبر وطأ يحصل به الإحصان.
والقول الثاني: أنّ الوطء في العقد الفاسد يحصل به الإحصان واستدل أصحاب هذا القول بأنه وطء في نكاح يصح عن بعض العلماء.
ويثبت به النسب فصار سببا في الإحصان وفي الحقيقة المسألة هذه فيها تردد يحتمل أن نقول يشترط أن يكون وطأ صحيحا بالإجماع لأنّ الشارع الحكيم كما سيأتينا يتشوف إلى درء الحدود بالشبهات وهذه شبهة ويحتمل أن نقول نحن نعامل العقد الفاسد معاملة الصحيح في أشياء كثيرة منها مر معنا الطلاق ومر معنا إثبات النسب كما أنّ العاقد في العقد الفاسد يعتقد صحة العقد وهذا يجعله قريب من العقد الصحيح وفي المسألة تردد وإن كان الإنسان يميل نوعا ما إلى أنه يحصل الإحصان بالعقد الفاسد لأنه يطأ وهو يرى أنه يطأ زوجته.
ثم - قال رحمه الله - (وهما بالغان عاقلان)
يشترط للإحصان أن يكون الوطء من مكلف فإن كان الواطئ ليس مكلفا فلا يعتبر هذا الوطء محصنا وإلى هذا ذهب الجماهير عامة الأمة على هذا القول أنه يشترط في الإحصان أن يكون الواطئ مكلفا لأنّ غير المكلف وطئه لا يساوي وطء المكلف ولأنّ غير المكلف مرفوع عنه القلم والمؤاخذة فلا يعتبر وطئه حينئذ وطأ يحصل به الإحصان.
ثم - قال رحمه الله - (حُرَان)


اشترط الفقهاء جميعا ولم يخالف إلاّ أبو ثور فقط اشترطوا أن يكون الواطئ حرا ليحصل الإحصان فإن كان الواطئ عبدا فوطئه لا يثمر الإحصان واستدلوا على هذا بقوله تعالى {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء/25] والرجم لا يتجزأ إذاً بناء على هذا الأمة لا تدخل في الرجم وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله وقول أبي ثور ضعيف أو ضعيف جدا لأنه من بداية الفقه ونحن نرى أنّ قاعدة الشارع تنصيف العبد في العدد والطلاق وأشياء كثيرة فعلمنا أنّ الشارع الحكيم جعل العبد على النصف من الحر.
ثم - قال رحمه الله - (فإن اختل شرط في أحدهما فلا إحصان لواحد منهما)
لما أنهى المؤلف شروط الإحصان أراد أن يبّن أنّ هذه الشروط تشترط في كل واحد من الزوجين حال الوطء. بناء على هذا إذا وطئ من لم تكتمل فيها الشروط فلا إحصان , وإذا وطئت أي المرأة وقد اكتملت فيها الشروط لكن الواطئ لم تكتمل فيه الشروط فلا إحصان وعللوا هذا بأنّ الوطء الكامل إنما يكون إذا استوفى الزوجان الشروط.
والقول الثاني: أنّ هذه الشروط تشترط في أحدهما لا في كليهما , فمن اكتملت فيه الشروط فهو محصن بغض النظر عن الموطوء.

ثم - قال رحمه الله - (وإذا زنا الحر غير المحصن جلد مائة جلدة)
أنهى المؤلف الكلام عن زنا المحصن وانتقل إلى الكلام عن زنا غير المحصن وبيّن أنّ حده هو الجلد مائة جلدة وكون الزاني غير المحصن يجلد مائة جلدة محل إجماع لقوله تعالى {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور/2] فدل على هذا الحكم النص والإجماع وهو أمر ظاهر في غير المحصن.
ثم - قال رحمه الله - (وغرّب عاما)
يعني أنه يجب في غير المحصن مع الرجم التغريب وإلى هذا ذهب الجمهور وأنّ التغريب جزء مكمل للحد واستدلوا على هذا بالأحاديث الصحيحة المشتهرة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك. ففي حديث العسيف قال [وعلى الغلام مائة جلدة وتغريب عام] وفي حديث البكر بالبكر. قال [جلد مائة وتغريب سنة] وفي حديث أبي هريرة وفي البخاري ومسلم قال عليه أي المحصن [الجلد والتغريب] هذه الأحاديث كلها في الصحيح وهي ثابتة ثبوتا قطعيا ولهذا ذهب الجمهور إلى أنّ التغريب جزء من الحد.


والقول الثاني: أنّ التغريب عقوبة تعزيرية وأنّ الحد هو الجلد فقط. واستدل هؤلاء بأنّ الصحابة غربوا تعزيرا , واستدلوا بدليل آخر وهو أنّ الآية لم يذكر فيها التغريب أنّ الآية فيها الجلد دون التغريب. وهذا القول ضعيف والأحاديث ظاهرة جدا ولا يمكن العدول عنها مطلقا ولو لم يذكر في الآية فإنّ السنة جاءت مكملة للقرآن ومبيّنة له ومفصلة لأحكامه.
مسألة / نص عبارة المؤلف أنّ المرأة كذلك ولذلك قال - رحمه الله - (ولو امرأة)
يعني تغرّب ولو كانت امرأة وإلى هذا أيضا ذهب الجمهور لعموم الأدلة وهو أمر واضح.
والقول الثاني: أنه لا تغريب على المرأة لأنّ المرأة إذا غرّبت خشي أن تقع في الزنا مرة أخرى لاسيما مع البعد عن عصبتها ومحارمها.
والقول الثالث: أنها تغرّب كالرجل إلاّ إن خيف عليها الفتنة , والراجح إن شاء الله القول الأخير إلاّ أنه ينبغي أن تحمل المرأة جميع النفقات التي ترتب على ما يستدعي الأمن عليها فمثلا نفقة المحرم الذي يصونها وما يتعلق به من نفقات السفر والسكن والأكل كلها تحمل على هذه الزانية ولا تحمل على بيت المال على الصحيح من قولي الفقهاء. فإذا نغرّبها كما في النصوص ونلزمها بما يترتب على الأمن من فتنتها في مالها. فإذا لم نتمكن من ذلك لعدم وجود المحارم أو لرفض المحارم السفر معها وغلب على الظن أنها إن سافرت ستقع في الفتنة فالشرع جاء بتحصيل المصالح ودفع المفاسد فلا تغرّب.
ثم - قال رحمه الله - (والرقيق خمسين جلدة)
الرقيق عليه نصف ما على الحر فيجلد خمسين جلدة لقوله تعالى {فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب} [النساء/25] ولأنّ الصحابة أفتوا في أبواب كثيرة بأنّ العبد على النصف من الحر.
ثم - قال رحمه الله - (ولا يغرّب)
العبد لا يغرّب وإنما يكتفى فيه بحد الجلد واستدلوا على هذا بدليلين: الأول" أنّ تغريبه يضر بسيده ويمنع عنه منافعه.
الثاني: ما جاء في حديث أبي هريرة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إذا زنت أمة أحدكم فاجلدوها , ثم إذا زنت فاجلدوها , ثم قال في الثالثة أو في الرابعة شك الراوي فإن زنت فبيعوها ولو بضفير. ففي الحديث لم يذكر التغريب وإنما ذكر الحد وهو الجلد فقط.


وأنها في الرابعة أو في الثالثة تباع.
والقول الثاني: أنها تغرب ستة أشهر.
ثم - قال رحمه الله - (وحد لوطي كَزَان)
قوله وحد لوطي فهم من كلام المؤلف أنّ العقوبة التي نوقعها على اللوطي حد وليس تعزيرا , وإلى هذا ذهب الجمهور أنها حد وإنْ اختلفوا في حده إلاّ أنه حد. لأنّ اللواط فاحشة فهو يستوي في هذا مع الزنا.
والقول الثاني: أنّ اللواط عقوبته التعزير بحسب ما يرى الإمام لأنه ليس في النصوص الدلالة الواضحة على حد اللواط. والأقرب والله أعلم أنه حد.
واللواط: هو أن يأتي الرجل الرجل.
ثم - قال رحمه الله - (كزان)
لما قرر أنّ اللواط عقوبته على سبيل الحد يعني أنها من الحدود أراد أن يبيّن ما هو الحد فقال كزان يعني أنّ عقوبة اللوطي كعقوبة الزاني إن كان محصنا رجم , وإن كان غير محصن جلد , واستدلوا أي أصحاب هذا القول وهم الحنابلة على قولهم بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أتى الرجل الرجل فهما زانيان. وهذا الحديث ضعيف. واستدلوا بدليل آخر أنّ الصحابة حكموا بهذا.
والجواب عليه: أنّ الصحابة لم يحكموا بهذا عينا وإنما اختلفوا كما سيأتينا.
القول الثاني: أنّ حد اللوطي القتل مطلقا , محصنا كان أوغير محصن. واستدل أصحاب هذا القول بأدلة:
الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -:" من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به". هذا الحديث ضعفه الأئمة ولكن احتج به أحمد تقدم معنا هذا مرارا أنّ الإمام أحمد قد يحتج بحديث ولا يعني هذا أنه يصحح الحديث.
الدليل الثاني: إجماع الصحابة على قتله وإنما اختلفوا في كيفية القتل حكى هذا الإجماع ابن القيم - رحمه الله - وغيره لكن في حكاية الإجماع هذا إشكال وهو أنه روي عن بعض الصحابة كعبد الله بن الزبير أنه قال حد اللوطي حد الزاني. فكأنه ألحقه به. لكن جمهور الصحابة على أنه يقتل. والراجح القول الثاني أنه يقتل وترجيح هذا القول ظاهر جدا لأنه عليه أبو بكر وعمر وعلي وعثمان ولا مجال للخروج عن فتوى الأئمة الأربعة إذن الراجح أنه ليس كزان وإنما يقتل مطلقا.


مسألة/ اختلف الصحابة في كيفية القتل فمن الصحابة من قال يحرق. وعلى رأسهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ومنهم من قال يرجم يعني ولو لم يكن محصنا وهذا معلوم من الخلاف السابق وعلى رأس هؤلاء عمر - رضي الله عنه - ومنهم من قال يلقى من أعلى بناية في البلد ويتبع بالحجارة. ومنهم من قال - رضي الله عنهم - يوضع تحت الحائط ويهدم عليه وممن قال بهذه الطريقة علي - رضي الله عنه - وقال بها عمر أيضا. والراجح أنّ كيفية القتل يرجع فيها إلى رأي الإمام والدليل على هذا أنّ الواحد من الخلفاء - رضي الله عنهم - كأبي بكر وعمر روي عنه القتل بأكثر من طريقة ما يدل على أنها تخضع لرأيه ونظره بحسب الظروف وأنه ليس شيئا محددا أو طريقة معيّنة للقتل ويلاحظ أنّ أحكام الصحابة جميعا قاسية وفيها شدة لا تخفى وهذا يتناسب مع الجرم لأنّ هذه الجريمة أيضا جريمة شنيعة فلهذا جعل الصحابة فيها القتل بطريقة غير طبيعية كما أنّ الجاني هنا أتى جريمة تخرج عن الفطرة والطبيعة.
ثم - قال رحمه الله - (ولا يجب الحد إلاّ بثلاثة شروط)
بدأ المؤلف بشروط وجوب حد الزنا وسيبيّن هذه الشروط بتفصيل الشرط الأول
قال - رحمه الله - (أحدها: تغييب حشفته الأصلية كلها في قبل أو دبر)
الشرط الأول لوجوب حد الزنا أن يقع الوطء. سواء كان الوطء في قبل أو في دبر فبمجرد حصول الوطء يتحقق الشرط وهذا بخلاف الإحصان. لذلك كثير من الناس يخلط بين شروط الإحصان وشروط وقوع الحد العقوبة. بينهما فرق نحن نتحدث الآن عن شروط وقوع العقوبة. كذلك هنا لا يكتفى بالوطء بما دون تغييب الحشفة فلا بد من تغييب الحشفة وأشار المؤلف إلى أنّ الوطء سواء كان في القبل أو في الدبر , أما في القبل فهو إجماع وأما في الدبر فذهب الحنابلة كما ترون إلى أنه وطء يوجب العقوبة واستدلوا على هذا بأنه وطء في فرج أصلي فأوجب العقوبة.


والقول الثاني: أنّ الوطء في الدبر يأخذ حكم اللواط لا حكم الزنا فإذا جامع امرأة في دبرها فإنّا نعتبره لوطي نقيم عليه الحد المذكور في الخلاف السابق وهذه مسألة مهمة جدا لأنه ينقل الإنسان من حد الزنا إلى حد اللواط. وهذه المسألة أيضا فيها نوع من الإشكال لكن الأقرب والله أعلم أنه زنا لأنه وطء لإمرأة يختلف عن اللواط.
مسألة / علم من كلام المؤلف أنّ السحاق وهو إتيان المرأة المرأة , وأنّ الجماع بين الفخذين , وأنواع الاستمتاعات ليست من الزنا الذي يوجب الحد لماذا؟ لتخلف شرط الوطء لأنه لا يوجد في هذه الأشياء وطء وهذا صحيح وإنما من فعل ذلك يعزر تعزيرا ولا يقام عليه حد الزنا.
قال المؤلف - رحمه الله - (تغييب حشفته الأصلية كلها في قبل أو دبر أصليين)
أخرج المؤلف بهذا الحشفة والقبل والدبر أو الزوائد. فالوطء في القبل أو الدبر الزائد لا يعتبر زنا وإنما اشترط أن يكون في الأصلي لأنّ الوطء عند الإطلاق ينصرف إلى هذا أي الأصلي ولأنّ الاستمتاع لا يكمل إلاّ به.
ثم - قال رحمه الله - (حراما محضا)
هذا القيد لا حاجة إليه لأنه يشير به إلى انتفاء الشبهة وهو الشرط الثاني وهو شرط مستقل برأسه.
ثم - قال رحمه الله - (انتفاء الشبهة)
ذهب الجماهير إلى أنه يشترط لإقامة الحد انتفاء الشبهة واستدلوا على هذا بأمرين: الأول" أنّ هذا حكي إجماعا حكاه ابن المنذر.
الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -:" ادرءوا الحدود بالشبهات". وهذا الحديث ضعيف , لكن درء الحدود بالشبهات في الحقيقة لا شك فيه أولا للآثار المتكاثرة عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - الدالة بمجموعها على أنهم يحبون درء الحد ما أمكن.
الثالث: هذا الإجماع المحكي. وإذا كنا نقول أنه يشترط لإقامة الحد عدم وجود الشبهات فهذا لا يعني أن نقبل بكل شبهة ولهذا سيأتينا أنّ ابن المنذر وهو ممن حكى الإجماع على درء الحدود بالشبهات ينازع في بعض المسائل التي ستأتينا ويرى وجوب إقامة الحد مع وجود هذه الشبهة التي يعتبرها الحنابلة من الشبهات.
قال - رحمه الله - (فلا يحد بوطء أمة له فيها شرك أو لولده)


لا يحد إذا وطئ أمة له فيها شرك , لأنه بشركه في هذه الأمة يعتبر مالكا لبعض الفرج. وهذا هو وجه الشبهة ونحن نقول في تعريف الزنا من غير نكاح ولا ملك ولا شبهة وهذا يملك بعض الفرج فصار في هذا شبهة. (أو لولده) أي أو كان لولده شرك في هذه الأمة، فلو كان ابنه يملك بعض هذه الأمة ووطئ الأب الأمة فإنه لا حد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أنت ومالك لأبيك. وإلى هذا ذهب الجمهور.
والقول الثاني: وإليه ذهب أبو ثور وابن المنذر أنه يحد وأنّ هذا لا يعتبر شبهة والراجح مذهب الجماهير.
ثم - قال رحمه الله - (أو وطئ امرأة ظنها زوجته أو سريته)
إذا وطئ امرأة ظنها أنها زوجته إما لوجود ظلمة أو لكونه أعمى أو لأي سبب من الأسباب وكذلك إذا وطئ أمة يظن أنها من سرياته فإنه لا حد عليه وهذا قد يكون قليل الوقوع لكن المثال الكثير الوقوع أو الذي قد يقع أكثر من مثال المؤلف أن تقدم له المرأة على أنها زوجة له وهي ليست بزوجة له كأن يحصل خطأ في تعيين الزوجة وهذا يحصل كثير إذا تزوج اثنان أختين في ليلة واحدة فقد تدخل عليه من ليست بزوجته وهذا الوطء وطء شبهة ولا يحد به لأنه يظن أنّ هذه المرأة زوجته.
ثم - قال رحمه الله - (أو في نكاح باطل اعتقد صحته)
إذا وطئ في نكاح باطل كأن يتزوج امرأة في عدتها وهو يظن أنّ هذا النكاح صحيح , ويوجد شرط آخر ومثله يجهل هذا الأمر إذا اجتمعت هذه الأمور درءنا عنه الحد لأمرين: الأول" لوجود شبهة وهي الجهل ونحن نشترط أن يكون مثله يجهل هذا الأمر.
الثاني: أنّ رجلا تزوج امرأة في عدتها فدرء عمر - رضي الله عنه - الحد عنه. وهذا لا إشكال فيه إذا تحققنا وعلمنا أنّ مثله يجهل مثل هذا الحكم.
ثم - قال رحمه الله - (أو نكاح او ملك مختلف فيه ونحوه)
إذا وطئ في نكاح مختلف فيه فإنه لا يحد سواء كان يرى هو صحة النكاح أو لا يرى صحة النكاح فإذا تزوج بلا ولي وهو يرى أنّ النكاح بلا ولي لا يصح فإناّ لا نقيم عليه الحد لوجود الشبهة وهو الإختلاف في هذا العقد.


والقول الثاني: أنّّ النكاح الفاسد أي المختلف فيه يكون شبهة إذا كان الزوج يظن صحة هذا النكاح وإذا كان لا يظن الصحة وإنما يرى الفساد فإنه يحد لأنه في الواقع لا عذر له. وهذا القول الثاني هو الصحيح.
المسألة الثانية: في ملك مختلف فيه يعني أن يشتري أمة بعقد مختلف في تصحيحه فحينئذ لا يحد لوجود الشبهة والشبهة هي الاختلاف في تصحيح العقد وفساده. وهذه الشبهة شبهة صحيحة بل إنّ الجهل ببعض الشروط المتعلقة بالبيع أكثر منه في بعض أحكام النكاح فإنّ أحكام النكاح معلومة لغالب الناس لكن أحكام البيوع مجهولة لكثير من الناس.
قال - رحمه الله - (أو أكرهت على الزنا)
إذا أكرهت المرأة على الزنا فإنها لا تحد وهذا لا إشكال فيه لقول النبي صلى الله عليه وسلم عفي لأمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه , فالزنا الواقع عليها هي معفو عنها فيه بسبب الإكراه وفهم من كلام المؤلف أنّ الرجل ليس كذلك وهو مذهب الحنابلة أنّ الإكراه ليس بعذر ولا شبهة في حق الرجل واستدلوا على هذا بأنّ الإكراه ينافي الانتشار فإذا تمكن من الوطء علمنا أنه لا يوجد إكراه لأنّ الانتشار والإكراه لا يجتمعان.
والقول الثاني: أنّ الإكراه يتصور في حق الرجل وهو متصور في صورتين أو في حالين:
الحال الأولى: لا إشكال فيه وذلك بأن يكره بأمر خارج عن الجسد كأن يمنع عنه الطعام فإذا منع عنه الطعام فهذا إكراه أليس كذلك؟
فيقول إما أن تطأ أو تبقى بلا طعام فهذا إكراه يتصور معه الانتشار.
الحال الثانية: أن يكون إكراه مع الإيذاء الجسدي وهذا قد يتصور إذا قيل له إما أن تطأ أو تضرب أو ضرب فعلا أو مس بعذاب فإنه قد يتمكن من الانتشار والجماع ليتفادى هذا الضرر الواقع عليه. والراجح هو القول الثاني وهو أنه يتصور وقوع الزنا مع الإكراه في حق الرجل.
قال - رحمه الله - (الثالث: ثبوت الزنا ولا يثبت إلاّ بأحد أمرين)
الشرط الثالث أن يثبت الزنا وعبر عنه الشيخ بقوله الثالث. ثبوت الزنا ولا يثبت إلاّ بأحد أمرين إلى آخره ....


الزنا لا يثبت إلاّ بأحد أمرين: إما الإقرار أو الشهادة وبدأ بالإقرار لأنه أقوى فإذا أقّر الإنسان على نفسه بأنه زنى ثبت الحكم في حقه وأقيم عليه الحد لكن ذكر المؤلف - رحمه الله - ثلاثة شروط لهذا الإقرار:
الشرط الأول: (أن يقر به أربع مرات في مجلس أو مجالس).
فالشرط الأول أن يقر أربع مرات فإن أقر مرة أو مرتين أو ثلاث فإنه لا يقام عليه الحد واستدلوا على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقم الحد على ماعز إلاّ لما اعترف أربع مرات. وروي أنه ردد المرأة التي اعترفت أربعا لكن حديث ماعز في التكرار أصح.
واستدلوا على هذا بأنّ الحدود تدرأ بالشبهات وفي تكرار الاعتراف أربع مرات ما ينفي الشبهة.
القول الثاني: أنه لا يشترط أربع مرات بل لو اعترف مرة واحدة قبل منه وأقيم عليه الحد واستدلوا على هذا بأنّ زوجة الرجل الذي زنى بها العسيف أقيم عليه الحد باعتراف مرة لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال واغدوا يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها ولم يطلب منه أن يعترف أكثر من أربع مرات.
والقول الثالث: أنّ هذا يرجع فيه إلى الإمام فإن رأى أنه لابد من التكرار في حق رجل فيكرر وله أن لا يقيم الحد بعد الاعتراف الأول وإن رأى أنه يكتفي بمرة فله ذلك وله أن يقيم الحد بعد الاعتراف الأول وهذا القول تجتمع به الأدلة وهو القول الراجح إن شاء الله.
ثم - قال رحمه الله - (في مجلس أو مجالس)
الاعتراف لا يشترط أن يكون في مجلس واحد بل يمكن أن يكون في مجلس ويمكن أن يكون في مجالس واستدلوا على هذا أنّ ماعزا - رضي الله عنه - اعترف في مجلس والمرأة الغامدية في مجالس ولكن الإمام أحمد روي عنه أنه يشترط في الاعتراف أن يكون في مجلس واحد وأشار إلى تضعيف الأحاديث التي فيها الاعتراف في أكثر من مجلس.
ثم - قال رحمه الله - (ويصرح بذكر حقيقة الوطء)
يشترط في الاعتراف بعد أن يصدر أربع مرات أن يكون في الاعتراف التصريح بحقيقة الوطء واستدلوا على هذا بأنّ اسم الزنا قد يطلقه بعض الناس على ما ليس بزنا فيظن هو أنه زنا وليس كذلك فلا نكتفي منه بكلمة زنيت بل لابد من التصريح.


الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لماعز: لعلك قبلت أو غمزت قال - رضي الله عنه - لا يا رسول الله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: أفنكتها , لا يكني قال ماعز - رضي الله عنه - نعم , وهذا اللفظ في صحيح البخاري وهو ثابت لا شك فيه إن شاء الله.
فإذا لا بد أن يصرح بحقيقة الوطء ولو قيل أنّ هذا يختلف باختلاف المعترف والألفاظ عند الناس فاليوم الزنا أصبح يطلق على الزنا الذي هو الوطء لا ينصرف إلى شيء سواه فإذا كان هذه الحقيقة العرفية موجودة في زمن فلو قيل يكتفى بكلمة زنيت عن التصريح بحقيقة الوطء لكان هذا القول له وجه من القوة.
ثم - قال رحمه الله - (ولا ينزع عن إقراره حتى يتم عليه الحد)
هذا هو الشرط الأخير وهو الثالث في الإقرار أن يقر وأن تكون أربع في مجالس وأن يصرح بحقيقة الوطء وأن لا يرجع والدليل على هذا أنّ ماعزا لما هرب - رضي الله عنه - قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أفلا تركتموه يتوب فيتوب الله عليه. وفي قوله أفلا تركتموه يتوب دليل على أنّ رجوعه مقبول.
والقول الثاني: أنه لا يشترط الرجوع ولا يقبل منه لأنه لما هرب - رضي الله عنه - لحقه الصحابة وأجهزوا عليه. وجه الاستدلال أنّ رجوعه لو كان صحيحا للزم الصحابة الدية لأنه يعتبر قتل بالخطأ ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلزمهم بالدية والراجح الأول وهو المذهب فإذا رجع يقبل منه.
ثم - قال رحمه الله - (الثاني: أن يشهد عليه في مجلس واحد)
الطريقة الثاني ة لإثبات جريمة الزنا الشهود أن يشهد عليه أربعة كما قال تعالى [النور/35] {لولا جاؤوا عليه بأربعة شهداء} [النور 13] وهذا الأمر وهو إثباته بشهادة أربعة مجمع عليه.
ثم - قال رحمه الله - (في مجلس واحد)
يشترط أن تكون الشهادة في مجلس واحد فإن شهدوا في مجلسين لم يقبل منهم وأقيم عليهم حد القذف. والدليل على هذا أنّ ثلاثة شهدوا على المغيرة - رضي الله عنه - وتطلبوا الرابع فلم يشهد فأقام عمر - رضي الله عنه - عليهم الحد. وجه الاستدلال. نحن نتكلم أن يكون الشهادة في مجلس واحد , أنّ عمر - رضي الله عنه - لم ينتظر إكمال الرابع ففي هذا دليل على أنّ شهادته في غير هذا المجلس لا عبرة بها.


والقول الثاني: أنه لا يشترط أن تكون الشهادة في مجلس واحد لعموم الآية فإذا شهد عليه أربعة أقيم عليه الحد.
والجواب عن أثر عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنّ عمر علم أنه لا يوجد شاهد رابع أو أنهم هم لم يقولوا لدينا شاهد رابع والجواب عليه ظاهر لهذا لو شهد عليه أربعة ولو في مجالس قبل منهم.
يقول - رحمه الله - (بزنا واحد)
يعني يجب أن يشهدوا على المجرم بزنا واحد , والزنا الواحد يتحقق أنه زنا واحد إذا شهدوا عليه في زمان ومكان واحد فإن شهد عليه بعضهم في يوم والآخرون في يوم آخر أو بعضهم في مكان والآخرون في مكان آخر فإنّ الشهادة لم تكتمل إذا يجب أن يجتمع الأربعة على زنا واحد ولا يجوز أن يجتمعوا على أكثر من زنا ولو كان الواقع أنهم شهدوا عليه أربعة أنه زنا لكن الشارع متشوف لدرء الحدود ولهذا اشترطوا أن يكون بزنا واحد.
ثم - قال رحمه الله - (يصفونه أربعة)
معنى يصفونه أي يصرحون بالوطء فيقولون رأينا ذكره في فرجها , ولا يكتفى أن يقولوا رأيناه يزني بل يجب أن يقولوا ذكره في فرجها
كالرشاء في البئر , وهل يجب أن يقولوا كالرشاء في البئر بعبارة أخرى هل يجب أن يمثلوا يضربوا مثال أو لا يجب. الصواب أنه لا يجب وأنّ هذا من باب التأكيد فإن ذكروا المثل فذاك وإلاّ فالواجب أن يصرحوا بالوطء فيقولوا رأينا ذكره في فرجها هذا هو الواجب فقط الدليل استدل الحنابلة على هذا بأنه إذا كان المعترف يطلب منه أن يصرح بحقيقة الوطء فالشهود من باب أولى وهذا صحيح.
ثم - قال رحمه الله - (ممن تقبل شهادتهم)
ومن تقبل شهادته هو المسلم العدل الحر الذكر , فمن اتصف بهذه الصفات قبل منه وإلاّ فلا وسيأتينا باب خاص بالشهادات في آخر كتاب القضاء.
ثم - قال رحمه الله - (سواء أتوا الحاكم جملة أو متفرقين)


يريد المؤلف أن يبيّن أنّ الحنابلة يشترطون أن يكون الاعتراف في مجلس واحد لكن لا يشترط أن يأتوا إلى هذا المجلس دفعة واحدة بل لو جاءوا متفرقين بأن جاء الأول ثم جاء بعد مدة الثاني , ثم جاء بعد مدة الباقون فهم الآن شهدوا في مجلس واحد فلا يشترط المجيء دفعة واحدة إلى مجلس الحكم والدليل على هذا أنه لا يوجد دليل من السنة يشترط أن يأتوا إليه أي إلى مجلس الحكم دفعة واحدة.
قال - رحمه الله - (وإن حملت امرأة لا زوج لها ولا سيد لم تحد بمجرد ذلك)
أراد المؤلف أن يشير إلى أنّ إثبات جريمة الزنا لا تكون إلاّ بطريقين , الإقرار أو الشهادة وأنّ مجرد الحمل لا يدل على وقوع الزنا واستدل الحنابلة على هذا بأدلة: الدليل الأول" أنّ امرأة زنت وحملت في عهد علي - رضي الله عنه - ولم يقم عليها الحد حتى اعترفت.
وفي هذا دليل على أنّ علي - رضي الله عنه - لم يعتبر الحمل بيّنة بحد ذاته.
الثاني: أنّ امرأة عابدة صالحة حملت فلما جيء بها إلى عمر - رضي الله عنه - قالت إنما كنت ساجدة فتغشاني البعير وأكرهني. يعني أنها مكرهة فلم يقم عليها الحد.
القول الثاني: أنّ الحمل قرينة وعلامة على الزنا وأنّ الحامل التي لا زوج لها يقام عليها الحد واستدلوا على هذا بما صح عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - الرجم حق ثابت على المحصن إذا زنا إذا قامت البيّنة أو كان الحبل أو الاعتراف.
الدليل الثاني: أنها لن تحمل إلاّ بعد الزنا لأنّا نفترض أن لا زوج لها.
القول الثالث: أنّ الحامل إذا ادعت شبهة لم يقم عليها الحد وإذا لم تدعي شبهة أقيم عليها الحد واستدل أصحاب هذا القول بالجمع بين الآثار المروية عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فإنه تارة يرى إقامة الحد وتارة لم يقم الحد فالجمع بين هذه الآثار هو هذا القول الثالث والراجح إن شاء الله هو القول الثالث. لكن لا يخفاكم أنّ القول الثالث من حيث الحصيلة والنتيجة يشبه أي الأقوال؟ الأول لماذا؟ لأنها لو كانت تدرأ عن نفسها حد الحمل لا اعترفت. لما لم تعترف وأنكرت فإنه بدهي أنها ستأتي بشبهة بلا شك على كل حال هذا القول الثالث هو الراجح إن شاء الله.

باب حد القذف
قال - رحمه الله - باب حد القذف


القذف في أصل اللغة / الرمي بقوة لبعد فإذا رمى الإنسان حجرا رمية ضعيفة فإنه لا يعتبر رمى في لغة العرب , وأما في الاصطلاح / فالقذف هو وصف الآخرين بالزنا أو اللواط.
والقذف محرم بالكتاب والسنة والإجماع.
قال المؤلف - رحمه الله - (إذا قذف المكلف)
يشترط لإقامة حد القذف أن يكون القاذف مكلفا فإن لم يكن مكلفا فلا يقام عليه الحد لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع القلم عن ثلاثة. والمرفوع عنه القلم لا يؤاخذ بما يقول.
ثم - قال رحمه الله - (إذا قذف المكلف بالزنا محصنا)
قوله بالزنا يعني أو باللواط كما سيأتينا. ثم قال (محصنا) يشترط في المقذوف أن يكون محصنا فإن لم يكن محصنا فلا يعتبر رميه قذفا وأما من هو المحصن فسيذكره المؤلف بدقة وتفصيل.
قال - رحمه الله - (جلد ثمانين جلدة)
نحن قلنا جلد الحر ثمانين بالإجماع ولا إشكال فيه لكن العبد جلده على النصف واستدلوا بما تقدم معنا بأنّ الحر دائما ضعف العبد وأنّ العبد في فقه الصحابة على النصف من الحر في أبواب كثيرة.
والقول الثاني: أنه يجلد الحد كاملا لئلا تشيع الفاحشة في الذين أمنوا. والدليل الثاني: العمومات ويشكل على هذا القول شيء واحد وهو القول الثاني أنه مروي عن الخلفاء الراشدون أنه أي العبد على النصف في هذا الباب من الحر وهذا في الحقيقة إذا جاء عن الخلفاء الراشدين لا مناص عنه وإلاّ القول بالذات في حد القذف بأنه يقام عليه الحد كاملا وجيه حتى ينكف الناس عن الترامي بمثل هذه الفاحشة.
ثم - قال رحمه الله - (والمعتق بعضه بحسابه)
يعني إذا كان بعضه حرا وبعضه عبدا فإنه يحسب بحسابه من عدد الجلدات فإذا كان نصفه حر ونصفه عبد فسنأخذ نصف الحد بالنسبة للحر أربعين ونصف الحد بالنسبة للعبد عشرين. فيكون حده كم؟ ستون.
ثم - قال رحمه الله - (وقذف غير المحصن يوجب التعزير)
إذا قذف غير المحصن فالواجب على القاذف التعزير فقط ردعا له ولكن لا يقام عليه الحد لأنّ الحد يتعلق بقذف المحصنين فقط.
ثم - قال رحمه الله - (وهو حق للمقذوف)
أي أنّ حد القذف حد للمقذوف ويترتب على هذا أنّ المقذوف إذا أسقط حقه سقط الحد ولو بعد بلوغ الحاكم.


والقول الثاني: أنّ القذف من الحدود التي لا تسقط بإسقاط صاحب الحق لحقه فيها. والقول الثاني أحوط وأمنع من انتشار هذا السباب والفسوق.
ثم - قال رحمه الله - (والمحصن هنا: الحر المسلم)
بدأ المؤلف هنا ببيان من هو الذي إذا رمي بهذه الفاحشة استحق راميه بالعقوبة فبدأ بشروط المحصن:
الشرط الأول" يقول الشيخ أن يكون حرا مسلما والدليل على أنه لا بد من أن يكون حرا مسلما أنّ العبد والكافر حرمتهما أقل من حرمة المسلم والله سبحانه وتعالى إنما ذكر المحصنات الغافلات فنص على المسلمة الحرة وغيرها لا يساويها في هذه وهذا الشرط صحيح.
ثم - قال رحمه الله - (العاقل)
يعني أنّ قذف المجنون لا يوجب الحد لأنّ المجنون لا يلحقه العار بقذفه بالزنا وفي الحقيقة لم أقف على خلاف في مسألة قذف المجنون ولو قيل أنّ قذف المجنون. الجمهور يرون أنّ قذف المجنون لا يوجب الحد.


الدرس: (3) من الحدود

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
مازال المؤلف في بيان شروط من هو المحصن الذي إذا قذف استحق على قاذفه الحد ومنا تحدثنا بالأمس عن الحر والمسلم والعاقل عن هؤلاء الثلاثة تحدثنا وقلنا أنّ في بعض المسائل خلاف ونذكره اليوم
فقوله - رحمه الله - (الحر المسلم)
اشترط الحنابلة والجمهور أن يكون المقذوف حرا فإن كان عبدا فإنّ قاذفه لا يحد حد القذف تقدم معنا دليل الجمهور وهو أنّ حرمة العبد أقل من حرمة الحر.
القول الثاني: أنّ قاذف العبد يستحق العقوبة. وأن يحد حد القذف لأنّ العبد المسلم العدل خير وأولى من الحر الفاسق بغير الزنا , وهذا القول هو الراجح إن شاء الله أنه إذا قذف شخص عبدا فإنه يستحق أن يحد.


الصورة الثانية: أن تكون الأمة زوجة لحر وله منها ولد فهذه الزوجة ذهب بعض الفقهاء أيضا إلى أنّ قاذفها يحد وإن كانت أمة لتكميل حق الزوج لأنّ قذف الزوجة هنا يؤذي الزوج والزوج حر وإذا كنا نقول أنّ قذف العبد عموما يستحق من فعله العقوبة والحد ففي هذه الصورة من باب أولى لأنه اعتدى على حق الأمة وعلى حق الزوج الحر.
ثانيا: قول المؤلف - رحمه الله - (المسلم)
ذهب الجماهير إلى أنّ قذف الكافر لا يوجب حد القذف واستثنى بعض الفقهاء الذمية إذا كانت تحت مسلم وزاد بعضهم قيدا وله منها ولد فإنّ قذفها في هذه الحال يؤدي إلى الضرر والعيب والشين والعار على الزوج ولهذا أوجبوا عليه الحد وهذا القول له وجهة من النظر قوية وحفظا لحق الأزواج المسلمين نحد من قذف زوجاتهم وإن كن من أهل الكتاب.
ثم - قال رحمه الله - (العفيف)
يشترط في المقذوف أو فيمن يوصف بالزنا أن يكون عفيفا والمقصود بالعفيف هنا هو من لم يقارف الزنا ولا اللواط. ومن الفقهاء من قال يشترط أن يكون عفيفا في الظاهر فقط ومنهم من قال يشترط أن يكون عفيفا في الظاهر والباطن , والفرق بين القولين أنه إذا قذف وهو عفيف في الظاهر يجب أن نبحث عن باطنه بالسؤال والمعرفة حتى نتيقن أنه عفيف في الظاهر والباطن والراجح أنه يكتفى بكونه عفيفا في الظاهر ولا يشترط البحث عن عفته في الباطن فإذا قذف وجب الحد على قاذفه.
ثم - قال رحمه الله - (الملتزم)
الملتزم هو من ينقاد لشرائع الإسلام وأحكامه ويشمل المسلم والكتابي الذمي المستأمن والمعاهد , ولكن لا يخفى عليكم أنّ بين قول الشيخ الملتزم وبين قوله المسلم تعارض لأنّ المسلم يخرج ما دل عليه الملتزم إذا الملتزم يدل على الذمي والمسلم ينفي الذمي ولهذا ذهب بعض الحنابلة إلى أنّ هذه العبارة من المؤلف خطأ وسبقت قلم. وما ذهب إليه هؤلاء صحيح لأنه لا يمكن أن نجمع بين أن يكون مسلما
وبين أن يكون ملتزما لأنّ مدلول الالتزام أعم أو أخص من الإسلام؟ أعم فكيف تخصص بالمسلم ثم تقول الملتزم ولهذا لعلها سبقت قلم.
ثم - قال رحمه الله - (الذي يجامع مثله)


يشترط في المقذوف أن يكون ممن يجامع مثله وتقدم معنا مرارا من هو الذي يجامع مثله في المرأة وفي الرجل والخلاف في حده في الرجل وفي حده في المرأة فهنا يشترط أن يكون المقذوف ممن يجامع مثله فإن لم يكن كذلك فلا قاذفه الحد والسبب في هذا أنّ قذف من لا يجامع مثله لا يترتب عليه عيب ولا شين للمقذوف للعلم قطعا بكذبه إذا يرميه بما لا يتصور وقوعه منه فعلم كذبه فارتفع الشين والعيب للمقذوف إلاّ أنّ من فعل هذا فإنه يجب أن يعزر ليرتدع عن إطلاق مثل هذه الألفاظ وإن لم يجب عليه حد القذف.
ثم - قال رحمه الله - (ولا يشترط بلوغه)
يعني لا يشترط في المقذوف لكي نحد قاذفه أن يكون بالغا واستدل الحنابلة على هذا بأنّ المقذوف غير البالغ حر له وصف يعيبه إذا أطلق عليه الزنا واللواط فوجب في قاذفه الحد. واستدلوا أيضا بأنّ القذف يشين البالغ وغير البالغ يعيب البالغ ويعيب غير البالغ لأنه يتصور منه الوطء فإذا قال يا زاني فربما ظن فيه أنه زاني حقيقة.
والقول الثاني: أنه يشترط في المقذوف أن يكون بالغا لأنّ غير البالغ يشبه الكيف في كليهما ولهذا فلا يجب على قاذفه الحد والراجح إن شاء الله بلا إشكال القول الأول كيف وقد تقدم معنا في الدرس السابق أنّ المجنون لو كان فيه خلاف لرجحنا وجوب القذف المقيس عليه وهو المجنون لو كان فيه خلاف لرجحنا وجوب القذف فكيف نقيس على من هو حكمه لم يثبت تماما فلذلك نقول الراجح إن شاء الله بلا إشكال وجوب الحد وإن كان المقذوف لم يبلغ. ثم انتقل المؤلف إلى صريح القذف وكنايته.
يقول - رحمه الله - (وصريح القذف)
تنقسم ألفاظ القذف إلى صريحة وكناية وتقدم معنا في الطلاق الكلام عن الصريح والكناية فاللفظ الصريح في الشيء هو ما لا يقبل إلاّ معناه هذا من حيث المعنى وأيضا يتعلق بهذا حكم آخر مهم وهو أنه في اللفظ الصريح لا يقبل من قائله تفسيره بغير مدلوله إلاّ ببيّنة.
فالصريح عند المؤلف يقول - رحمه الله - وصريح القذف يا زاني يا لوطي ونحوه , الصريح عند الحنابلة هو أحد ثلاثة ألفاظ:


اللفظ الأول: يا زاني اللفظ الثاني: يا لوطي. اللفظ الثالث: لفظ الصريح في الوطء كا يا نايك أو يا منيوكة. وألحق الحنابلة باللفظ الصريح بالوطء يا عاهر فصارت الألفاظ كم؟ أربعة يا زاني يا لوطي يا عاهر أو استخدام اللفظ الصريح في الوطء. فهذه أربعة ألفاظ صريحة لا تقبل التأويل وإن ادعى قائلها أنه أراد غير هذا المعنى لم يقبل منه ويقام عليه إذا استوفى الشروط الحد هذا بالنسبة للصريح
قال - رحمه الله - (وكنايته: يا قحبة)
انتقل المؤلف إلى الكنايات تقدم معنا أنّ الحكم الذي يميز الكناية عن الصريح هو أنّ الكناية إذا فسره بغير لفظه الظاهر منه قبل من هذا التفسير لا احتمال اللفظ للمعنيين فهذا هو الفرق المهم بين الصريح والكناية فالمؤلف يقول أنّ الكنايات هي أن
يقول - رحمه الله - (يا قحبة ويا فاجرة ويا خبيثة وفضحت زوجك أو نكست رأسه أو جعلت له قرونا ونحوه)
المؤلف يعتبر هذه الألفاظ كنايات ويعتبر أنّ لها أكثر من معنى فمعنى قوله مثلا ياقحبة ويا فاجرة. تحتمل أنه يريد يا من تستعدين لتكوني قحبة أو فاجرة , فإذا هي الآن ليست كذلك.
والقول الثاني: في هذه الألفاظ أنها صرائح إلاّ بقرينة فنعتبر أنّ هذه الألفاظ صرائح مع دلالة الحال وإلى هذا القول ذهب ابن عقيل والقاضي وغيرهم من محققي الحنابلة.
والقول الثالث: أناّ نقبل منه تفسيرها بغير الظاهر منها إذا دلت القرينة وإلاّ فلا وبين القول الثاني والثالث تقارب والراجح أنّ اعتبار اللفظ صريح أو كناية يرجع فيه للعرف فبعض الألفاظ تعتبر صرائح عند قوم وإن كانت في اللغة كناية , وتعتبر بعض الألفاظ كنايات وإن كانت في اللغة صرائح فنرجع في تفسيرها إلى العرف وهو الذي يبيّن مقصود القائل ويليه في القوة القول الثاني أنها صرائح إذا دلت قرينة الحال وأضعف الأقوال المذهب لأنّ كلمة يا قحبة ويا فاجرة ويا خبيثة دلالتها على وقوع الزنا ظاهرة جدا فصرفها إلى معنى آخر بعيد ولهذا نقول إما نقول أنّ الراجح رجوع العرف أو أنها صرائح مع دلالة الحال.


تنبيه!! بعض هذه الألفاظ يختلف عن بعض في القوة فمثلا قول المؤلف (فضحت زوجك أو نكست رأسه أو جعلت له قرونا) هذه قد تكون كنايات , لأنّ نكست رأسه قد يقال فيما إذا ألمت المرأة بعمل يعتبر عيب في العرف وإلاّ لم يتعلق بالعرض كاللؤم مع الضيف أو القسوة مع أهل الزوج ونحو هذه الأشياء التي تعتبر خطأ عرفي يستوجب تنكيس رأس الزوج فهذا المعنى قريب جدا.
وكذلك فضحت زوجك قد تقال لهذه المعاني التي ذكرت وقد تقال لما إذا اشتكت الزوجة الزوج في المحاكم يطلق عليها أو يسميها بعض الناس فضحت زوجك لكونها أخرجته إلى المحكمة.
وأيضا الأخير جعلت له قرونا يحتمل احتمالا بيّنا أن يكون المقصود أنه أصبح طوع أمرك بشكل كامل فهذه الألفاظ الثلاث تحتمل أن تكون كنايات لكن الخلاف الذي ذكرت هو في يا قحبة ويا فاجرة ويا خبيثة. وإن كان بعض الفقهاء يحكي الخلاف في الألفاظ جميعا لكن الأقرب أنّ الخلاف الذي ذكرت في يا قحبة ويا فاجرة ويا خبيثة وأما الألفاظ الثلاثة الأخيرة فما قالها المؤلف من أنها كنايات صحيح ومتوجه.
قال - رحمه الله - (وإن فسره بغير القذف قبل)
هذه ثمرة كون هذه الألفاظ كنايات ولكن المؤلف لم يبيّن هل يقبل مع اليمين أو بلا يمين وهو موضع خلاف بين الفقهاء فمن الفقهاء من يرى أنه لا يقبل منه إلاّ باليمين , ومن الفقهاء من قال يقبل منه بغير اليمين لأنّ هذه اليمين لا يقضى على صاحبها بالنكول. والأقرب أنه لا بد من اليمين سدا لباب انتشار مثل هذه الألفاظ بين المجتمع ولأنّ اليمين إن لم توجب الحكم بالنكول فقد توجب التعزير فيما لو نكل عنها. لما انتهى المؤلف من قذف الواحد انتقل إلى قذف المجموعة.
قال - رحمه الله - (وإن قذف أهل بلد أو جماعة)
إذا قذف الإنسان أهل بلد أو جماعة كثيرة لا يتصور عادة وقوع الزنا منهم فإنه لا يحد , السبب تقدم معنا السبب هو في الغالب من أسباب منع الحد لأنه معلوم أنه كذب فإنّ السامع يقطع بكذب من اتهم جماعة كبيرة أو أهل بلد بأسرهم ولكن مع ذلك ينبغي أن يعزر تعزيرا بالغا لئلا تنتشر ألفاظ السوء بين المسلمين.


مسألة / لم يذكر المؤلف ما إذا قذف جماعة إلاّ أنه يتصور وقوع الزنا منهم فإذا قذف جماعة يتصور وقوع الزنا منهم فإنه يحد لأنه يلحقهم العار بهذا القذف وهذه المسألة أولى من المسألة التي ذكرها المؤلف لأنه في المسألة الثانية إثبات حد القذف ونحن في باب حد القذف لكن يبقى النظر هل يحد بعدد أهل المجلس أو يحد مرة واحدة وهذا يختلف باختلاف القذف فإن قذف بألفاظ متعددة كل واحد من أهل المجلس فإنه يحد بعدد أهل المجلس لأنّ لكل واحد منهم حقا فله أن يستوفيه وإن قذف أهل المجلس بكلمة واحدة بأن قال أنتم زناة أو أنتم لوطية أو نحو هذه الألفاظ فإنه يحد حدا واحد. والدليل على هذا أنّ هذا اللفظ أوجب قذفا واحدا والله تعالى رتب على القذف الواحد حد واحد ولهذا يحد على هذه اللفظة مرة واحدة. إذا عرفنا الآن الحكم إذا قذف من يتصور منهم وإذا قذف من لا يتصور منهم ولكن هل يتصور الزنا من جماعة؟ جدا بأن تكون مجموعة معروفة بالفسق والفجور ومزاولة الأعمال المخلة بالآداب بكثرة فإذا قذفهم صار هذا متصور في حقهم ويرجع إلى رأي القاضي في مسألة هل يتصور وقوع الزنا من هذه المجموعة أو لا يتصور وقوع الزنا من هذه المجموعة.
قال - رحمه الله - (ويسقط حد القذف بالعفو ولا يستوفى بدون الطلب)
هذه المسألة تقدمت معنا وهي مسألة أنّ القذف حق من حقوق المقذوف لا يستوفى إلاّ بطلبه ويسقط بعفوه ولو وصل إلى الحاكم وكل هذه المسائل المترتبة على أنّ حد القذف حق للمقذوف وتقدمت معنا هذه المسألة وذكر الخلاف فيها وأنّ القول الثاني أنه حق لله لا يسقط إذا وصل الحاكم لأنه حد والحدود لا تسقط إذا وصلت إلى الحاكم.

باب حد المسكر
قوله باب حد المسكر: المسكر هو الشراب الذي ينشأ منه السكر. والسكر هو لذة ونشوة يغيب معها العقل المدرك حتى يصبح لا يعلم ما يقول وظاهر هذا التعريف من الفقهاء ليس خاصا بالحنابلة. ظاهر هذا التعريف أنّ السكر لا بد أن يشتمل على معنيين لذة ونشوة وطرب. والمعنى الثاني فقد للعقل , وهو كذلك إذ ليس في المسكرات شيء إلاّ وفيه المعنيان.
ثم - قال رحمه الله - (كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام)


هذا ضابط للأشربة ودليله قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أسكر كثيره فقليله حرام. وفي هذا الحديث دليل للقاعدة المشهورة أنّ ما أدى إلى الحرام فهو حرام لأنّ المسكر القليل الذي لا يسكر يؤدي إلى الحرام وإن لم ينتج عنه هو بنفسه حرام والحرام هو ماذا.؟
السكر فإنّ الإنسان إذا شرب كمية قليلة لن يسكر والمحرم هو السكر ومع ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول ما أسكر كثيره فقليله حرام فدل هذا دلالة واضحة جدا لهذه القاعدة العظيمة التي نحن في مثل هذه الأوقات أحوج ما نكون إليها في تقرير كثير من المسائل لاسيما ما يتعلق بالمعاملات المعاصرة وما يتعلق بأشياء كثيرة ما يتعلق بزينة المرأة وكل شيء يتوسع فيه الناس نحتاج إلى هذه القاعدة فهذا الحديث دليل لهذه القاعدة. وفي الحديث دليل على أنّ جميع أنواع الخمر محرمة ففيه رد على الأحناف الذين يرون أنّ القليل الذي لا يسكر يكون محرما إذا كان من العنب فقط وإذا كان من غير العنب فلا يحرم إلاّ الكثير منه في هذا الحديث رد عليهم لأنه عام كل ما أسكر كثيره فقليله حرام سواء كان من العنب أو من غيره.
قال - رحمه الله - (وهو خمر من أي شيء كان)
يعني شراب كل شراب يسكر فهو خمر شرعا من أي شيء كان لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - كل مسكر خمر وكل خمر حرام
ولحديث أنس في الصحيح أنّ تحريم الخمر نزل والخمر يومئذ من البسر والتمر أي وليس من العنب إذا الحديث دال على أنّ كل أنواع الأشربة التي تسكر تسمى شرعا خمرا ويدل على هذا الاشتقاق اللغوي ما يشتق من التغطية وزوال العقل وهذا تشترك فيه الأشربة التي أصلها من العنب والتي أصلها من غيره مما يصنع منه الخمر كالشعير والتمر والبسر والزبيب وغيره إذا دل الحديث والمعنى على صحة مذاهب الجماهير أنّ الخمر هو الشراب المسكر من أي نوع كان.


والقول الثاني: أنّ الخمر لا يسمى خمرا إلاّ إذا كان من العنب وما عداه لا يحرم إلاّ كثيره المسكر والصواب مع الجماهير لم سمعت من أدلة صحيحة وصريحة في الموضوع وهذه لمسألة من المسائل التي ثرب على الأحناف فيها والأئمة شنو عليهم حملة بسبب مخالفة صرائح النصوص ومن المعلوم أنّ هذه المسألة هي إلى باب الأشربة والأطعمة أقرب منها إلى باب حد المسكر إنما ذكرها المؤلف هنا ليتبيّن الشراب الذي إذا شربه الإنسان استوجب حد السكر.
قال - رحمه الله - (ولا يباح شربه للذة)
شربه يعني المسكر وقوله للذة يحتمل أنّ معنى كلام المؤلف أنه يحرم ولو كان قصد الشارب من الشرب اللذة والسكر ويحتمل أنّ قصد المؤلف أنّ شرب الخمر محرم ولو شربه للذة لا للسكر ودليل هذا المعنى الثاني قوله - صلى الله عليه وسلم -:"ما أسكر كثيره فقليله حرام".
فإذا شرب الإنسان الخمر للذة لا ليسكر فهو أيضا محرم للحديث ويظهر لي أنا أنّ المعنى الثاني أقرب. لأنّ المعنى الأول موجود بقول الشيخ كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام. كأنه يقول كل شرب المسكر حرام فإذا عرفنا هذا المعنى وقلنا لا يباح شربه للذة يعني إذا شربه ليلتذ بالسكر صار إعادة للمعنى الأول هكذا يبدوا لي أنّ المعنى الثاني أحسن.
ثم - قال رحمه الله - (ولا لتداو)
لا يجوز شرب الخمر ولو كان قصد الشارب التدواي لا السكر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنها ليست دواء بل هي داء , ولقول ابن مسعود - رضي الله عنه - إنّ الله لم يجعل شفاء الأمة في ما حرم عليها. وهذا الأثر أيضا ثابت في الصحيح فهذان دليلان على أنّ الخمر ليس بدواء بل داء.
قال - رحمه الله - (ولا عطش)
لا يجوز للإنسان أن يشرب الخمر ولو كان في ضرورة لدفع العطش لأنّ الخمر لا يحصل منه ري بل فيه حرارة تزيد من إحساس الشارب بالعطش وإذا كان شربه لا يرفع الضرورة صار محرما ولو في الضرورة والكلام الآن عن حال العطش وهذا صحيح.
قال - رحمه الله - (ولا غيره إلاّ لدفع لقمة غص بها ولم يحضره غيره)


إذا غص الإنسان بلقمة ولم يحضره إلاّ الخمر جاز له بالإجماع شرب الخمر لدفع هذه الغصة لأنه حينئذ في حال ضرورة ونفع الخمر فيها متعيّن ومعلوم لأنه من المعلوم أنّ الخمر إذا شرب سيدفع اللقمة ويزيل الغصة ولهذا لم يختلفوا لقوله تعالى {إلا ما اضطررتم إليه} [الأنعام/119] وهذا مما اضطر إليه الإنسان ووجه الضرورة أنه لا يوجد غير هذا الشراب وقد غص بالطعام.
قال - رحمه الله - (وإذا شربه)
ظاهر كلام المؤلف أنّ شرب الخمر يوجب الحد ولو لم يسكر لأنه رتب العقوبة على الشرب ولا على السكر؟ على الشرب فبمجرد ما يشرب الإنسان الخمر فقد استوجب حد الشرب ولو لم يسكر وإلى هذا ذهب الجماهير واختاره الحافظ الفقيه ابن القيم ودليله ظاهر وواضح لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أسكر كثيره فقليله حرام. فدل هذا الحديث على أنّ الذنب هو شرب الخمر لا السكر
وهذا صحيح وهو أنّ الإنسان يحد بمجرد شرب الخمر ولا يشترط أن يسكر بل بمجرد الشرب يحد حد الشرب.
ولهذا لو أنّ المؤلف قال باب حد شرب الخمر كما عبر غيره من الفقهاء باب حد شرب الخمر لكان أدق من قوله حد المسكر فكأنّ الحد يتعلق بالقدر المسكر بينما الحد يتعلق بالشرب.
قال - رحمه الله - (المسلم مختارا عالما أنّ كثيره يسكر)
يشترط لإقامة الحد أن يكون مسلما مكلفا مختارا عالما وتقدمت معنا أدلة هذه الشروط مرارا تكرارا كما تقدم معنا ذكر هذه الشروط في بداية كتاب الحدود وهو أنه لا تقام الحدود مع الإكراه أو الجهل أو عدم التكليف.
ثم - قال رحمه الله - (فعليه الحد ثمانون جلدة مع الحرية)
حد شرب الخمر مما اختلف فيه الفقهاء اختلافا كثيرا على أقوال:
القول الأول: أنّ الحد الواجب الذي لا يجوز النقص عنه ثمانون جلدة واستدلوا على هذا بأنّ عمر - رضي الله عنه - استشار الصحابة
وأشاروا عليه وأصبح هذا إجماع منهم على أنّ الحد ثمانون.
القول الثاني: أنّ الحد أربعون وإلى الثمانين تعزير واستدلوا على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وأول خلافة عمر كانوا يجلدون أربعين جلدة ثم زاد الحد في عهد عمر فدل على أنّ هذه الزيادة من اجتهادات الإمام.


الدليل الثاني: أنّ عمر - رضي الله عنه - كان إذا أوتي بالرجل وقع الشرب منه زلة جلده أربعين , وإذا أوتي بالرجل المنهمك جلده ثمانين ولو كان حدا لم يختلف من شخص لآخر وهذا القول اختاره ابن القيم.
القول الثالث: أنّ شرب الخمر لا حد فيه وأنه تعزير كله يرجع فيه إلى رأي الإمام واستدلوا على هذا بأمرين:
الأول: روي عن ابن عباس أنه قال لم يجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخمر حدا.
الثاني: أنه جاء في الحديث الصحيح أنّ رجلا شرب الخمر في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فجلدوه بالنعال والجريد وأطراف الثياب والأيدي وهذا ليس حدا وإنما تعزيرا.
والجواب عليه: أنّ في هذا الحديث الذي فيه الجلد بالنعال والأيدي وأطراف الثياب أنه ضربوه أربعين ضربة , فأثبت في الحديث العدد
والراجح القول الثاني وإن كان العمل على المذهب. أنّ الحد ثمانون جلدة لا ينقص منها وفي الواقع لا فرق من حيث الواقع وبين القول الثاني والراجح لماذا؟ لأنّ عمر إنما زاده لانهماك الناس والناس ما زالوا منهمكين فإذا سيستمر الحد ثمانون جلدة وإنما يتضح الخلاف فيما إذا صار شرب الخمر قليلا يقع في النادر حينئذ يكون للخلاف ثمرة في الواقع.
ثم - قال رحمه الله - (وأربعون مع الرق)
لما تقدم في الزنا والقذف وإذا كان ينصف في الزنا والقذف وهي أعظم من الشرب ففي الشرب من باب أولى.

باب التعزير
قوله - رحمه الله - باب التعزير
التعزير في اللغة هو الرد والمنع. وقيل إنّ التعزير من الأضداد فهو يطلق على النصرة ويطلق في نفس الوقت على التأديب أي أنّ معنى النصرة ومعنى التأديب معان أصلية في لغة العرب لهذا اللفظ.
وأما في الاصطلاح / فذكره المؤلف بقوله وهو التأديب , قوله وهو التأديب فيه نقص ولو قال وهو التأديب في المعصية لا حد فيها ولا كفارة لكان تعريفا أوضح وهذا التعريف الثاني اختاره الشيخ المجد في المحرر وهو تعريف محرر إذا التعزير هو التأديب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة , والمؤلف جعل تعريف الشيخ ابن مفلح كأنه من الأحكام ولهذا يقول وهو واجب في كل معصية لا حد فيها ولا كفارة والواقع أنّ هذا هو التعريف.
قوله - رحمه الله - (وهو واجب)


أشار المؤلف إلى أنّ قيام الإمام بالتعزير في المعاصي التي ليس فيها حدود واجب ومتعيّن فكل معصية يجب أن يؤدب فيها.
والقول الثاني: أنّ التعزير أمر مندوب وليس بواجب فإن شاء الإمام صنعه وإن شاء تركه.
والقول الثالث: أنّ التأديب يرجع فيه إلى المصلحة لا إلى التشهي فإذا رأى الإمام أنّ المصلحة في التأديب والزجر على معصية معيّنة فعليه أن يفعل وإن رأى أن لا يفعل فذاك إليه. لأنه ثبت في السنة في أحاديث كثيرة أنّ بعض الصحابة ألمّ بذنب لا يوجب العقوبة ولم يصدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - تعزير له ولا تأديب فعلمنا أنه أمر يرجع فيه إلى رأي الإمام بحسب المصلحة لا حسب التشهي
قال - رحمه الله - (وهو واجب في كل معصية)
ظاهره أنه واجب في كل معصية يعني فعل محرم ومرادهم - رحمهم الله - في كل معصية سواء كان فعل محرم أو ترك واجب وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام أنه في فعل المحرم وترك الواجب.
ثم - قال رحمه الله - (لا حد فيها ولا كفارة)
يعني أنه لا يشرع الجمع بين الحد والتعزير وهذا أمر مسلم فيه ويستثنى من هذا صور يسيرة جاء في الشرع الجمع فيها بين الحد والتعزير منها المسكر منها الزيادة على الأربعين فيها جمع بين الحد والتعزير وما عدى الصور المستثناة فإنه لا يجوز الجمع بين الحد والتعزير لأنّ الحد يكفي عن التعزير وهو العقوبة التي اختاره الله.
يقول - رحمه الله - (لا حد فيها ولا كفارة)
إذا كان العمل المحرم فيه كفارة فإنه لا يجوز أن نجمع مع الكفارة تعزير مثال ذلك الظهار فالظهار ذنب ومعصية لا حد فيها لكن فيها كفارة فلا يجوز أن نؤدب المظاهر بغير الكفارة كذلك القتل شبه العمد نفس الشيء فيه كفارة فإذا قتل الإنسان شبه عمد فإنه لا يجوز أن نؤدبه وإنما نكتفي فيه بالكفارة وأيضا هل نقول قتل الخطأ؟ نعم لأنه ليس فيه ذنب , فيه كفارة لكنه ليس بذنب ولا معصية لأنه خطأ لا يؤاخذ عليه الإنسان. يفهم من كلام المؤلف أنه يجوز أن نجمع بين الدية والتأديب لأنه استثنى الحد والكفارة فقط.
إذا يجوز أن نجمع بين التأديب الدية وهو كذلك وتمثيل الحنابلة يدل على هذا فإنهم مثلوا بشبه العمد وشبه العمد فيه دية فإذا وجود الدية لا يمنع من وجوب التأديب.


قال - رحمه الله - (كاستمتاع لا حد فيه)
الاستمتاع الذي لم يصل إلى ما يوجب حد الزنى فإنه فيه التأديب والتعزير ونحن تقدم معنا أنّ حد الزنا لا يكون إلاّ بماذا؟ بالوطء فكل استمتاع من الرجل بالمرأة لم يصل إلى الوطء ففيه التعزير فقط.
يقول - رحمه الله - (وسرقة لا قطع فيها)
سيأتينا أنواع كثيرة للسرقات التي ليس فيها قطع كالسرقة من غير حرز وسرقة الأب من مال أبنه والشبه التي ستأتينا كثيرة في باب حد قطع السرقة فكل ما يمنع من القطع فإنه يجب أن نؤدب وأن نعزر هذا السارق.
قال - رحمه الله - (وجناية لا قود فيها)
تقدم معنا جملة من الجنايات لا قود فيها وهي الجنايات الخمس الأولى فهذه الجنايات التي تقدمت معنا ليس فيها قصاص إلاّ أنه فيها تأديب وتعزير وإذا كانت الجناية لا قصاص فيها وفيها دية فهل فيها تعزير؟ نعم كما تقدم معنا أنّ الدية لا تمنع التعزير وإنما الذي يمنعه الحد أو الكفارة.
ثم - قال رحمه الله - (وإتيان المرأة المرأة)
هو السحاق تقدم معنا أنه فقد شرطا من شروط إقامة حد الزنا وهو الوطء ولذلك فيه التأديب فقط.
ثم - قال رحمه الله - (والقذف بغير الزنا ونحوه)
إذا قذف بغير الزنا كأن يقول يا فاسق يعني بغير الزنا لكونه يشرب الخمر أو لأي موجب من موجبات الفسق أو الشتم الدارج بين الناس فإنّ هذا لا يستوجب حد القذف فكل لفظ فيه عيب وشتم لم يصل إلى حد القذف فإنّ فيه التعزير.
قال - رحمه الله - (ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات)
المؤلف يريد أن يبيّن الحد الأعلى للتعزير لكنه لم يتحدث عن الحد الأدنى والسبب في هذا أنّ الجماهير يرون أنه لا يوجد حد أدنى للتعزير لهذا لم يذكره.
والقول الثاني: أنّ الحد الأدنى للتعزير ثلاث جلدات. لأنّ الأقل من هذا المقدار لا يحصل فيه ردع ولا زجر ولا له أثر. والراجح القول الأول والجلد ولو كان جلدة واحدة أحيانا يكون له أثر وهو العيب والتشهير وإن لم يصب بالألم إلاّ أنه يصاب بماذا؟ بالعيب والتشهير مجرد أن يقال فلان جلد هذا فيه تأديب وتعزير وإن لم يشعر بالألم ولهذا نقول الراجح مذهب الجماهير.
وأما أكثره فيقول الشيخ - رحمه الله - (ولا يزاد في التعزير على عشر جلدات)


لا يجوز الزيادة على عشر جلدات مطلقا في أي تعزير لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" لا يجلد أحد فوق عشر جلدات إلاّ في حد من حدود الله".
القول الثاني: أنه لا حد لأكثره إلاّ أنه لا يتجاوز في الجنس الواحد الحد المشروع مثال هذا إذا سرق سرقة لا توجب القطع لا يجوز أن نصل به إلى القطع. وإذا قذف قذفا لا يوجب إقامة الحد لتخلف شرط من الشروط فإنه لا يجوز أن نصل به إلى حد القذف. وإذا باشر امرأة وقبلها وضمها ومكث معها ساعات فإنه لا يجوز أن نصل به إلى حد الزنا وهكذا.
القول الأخير: أنه لا حد لأكثره مطلقا. لأنه جاء في الشرع التعزير ولم يأتي له حد فالنبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ من مانع الزكاة شطر ماله. وهم بتحريق التاركين للصلاة. وغرم من أخذ من الحائط بغير إذن صاحبه مثلي قيمته إلى غير هذا من أنواع التعزيرات وحرق رحل الغال إذا صح. وفي هذا كله إقرار لمبدأ التعزير ولا يوجد دليل على التحديد.
وأجاب أصحاب القول الثالث عن الحديث بأنّ المقصود بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حد من حدود الله , يعني لا يجوز الزيادة في الأمور المحرمة لحق الله فخرج بهذا تأديب الرجل ولده فلا يجوز أن يزاد فيه عن عشر وتأديب الرجل لزوجته فلا يجوز أن يزاد فيه عن عشر. والراجح القول الثاني لأنه وسط بين القولين. ولأنّ تجاوز الحد الشرعي في معصية فيها يعني في جنسها حد ظلم للجاني وجه الظلم أنّ الشارع يرى أنّ جناية هذا الشخص لم تصل لأن يقام عليه الحد ونحن أوصلناها الحد وزيادة وهذا فيه ظلم وبعد عن العدل لهذا نقول الراجح إن شاء الله أنه لا حد فيه إلاّ أنه لا يتجاوز فيه الحد في الجنس.
قال - رحمه الله - (ومن استمنى بيده بغير حاجة عزر)
الاستمناء ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: أن يستمني بيد زوجته وهذا جائز بالإجماع.
القسم الثاني: أن يستمني بيد أجنبية وهذا محرم بالإجماع.
القسم الثالث: أن يستمني بيده وهذا هو محل الخلاف.


فالحنابلة يرون أنّ الاستمناء محرم إلاّ لحاجة واستدلوا بالآية {والذين هم لفروجهم حافظون} [المؤمنون/5] {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} [المؤمنون/6] {فمن ابتغى وراء ذلك فأولئك هم العادون} [المؤمنون/7] واستخراج المني باليد خارج عن ذلك فصاحبه من العادين.
القول الثاني: أنه يجوز مطلقا لأنه ليس في الأدلة الشرعية ما يدل على منعه.
القول الثالث: أنه يكره.
والقول الرابع: أنه يجوز للضرورة لأنّ ممارسته خير من الوقوع في الزنا وهذا الأخير هو الراجح وهو قريب من المذهب إلاّ أنّ المذهب عبارتهم يعني بغير حاجة خفيفة. والنص دل على المنع لذلك نقول أنّه الراجح محرم إلاّ للضرورة. ويلحق بالضرورة الحاجة الماسة التي تقرب من الضرورة لأنّ كثيرا من الفقهاء يلحق الحاجة الماسة جدا بالضرورة. على كل حال أنه لا يجوز إلاّ للضرورة. والدليل على ذلك أما المنع فالآية. وأما الجواز لأنه خير من الوقوع في الزنا. والضرورة هنا الوقوع في الزنا أو الضرورة القسم الثاني احتباس المني بما يتحقق معه مضرة الجسم مضرة بالغة.

باب القطع في السرقة
بيّن المؤلف في العدوان أنّ السرقة فيها القطع , وقطع السارق من حيث هو دل عليه الشارع الكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب فقوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما} [المائدة/38]
وأما السنة فقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:" لا تقطع يد في أقل من ربع دينار". وأحاديث كثيرة ستأتي معنا.
وأما الإجماع فلم يختلفوا ولله الحمد أنّ على السارق القطع إذا استكمل الشروط.
والمؤلف - رحمه الله - (إذا أخذ الملتزم)
يعني أنّ الحد إنّما يقام على الملتزم وهو المنقاد لأحكام الشرع وهو المسلم والذمي والمستأمن والمعاهد.
ثم - قال رحمه الله - (نصابا من حرز مثله من مال معصوم)
خالف الشيخ المؤلف الأصل , فهنا ذكر الشروط التي إذا تحققت وجب القطع ثم سيرجع في الصفحة القادمة ويذكر الشروط مرتبة وفي صنعه هذا ماذا؟ تكرار. الشيخ ابن قدامة صاحب الأصل لم يصنع هذا وإنما بدأ بتعريف السرقة ثم انتقل إلى الشروط بلا تكرار وهذا هو المنهج الصحيح. ولهذا سنمر بسرعة على هذه الشروط التي ذكرها لأنه سيرجع ويذكرها واحدا واحدا.


(نصابا) والنصاب هنا ثلاثة دراهم أو ربع دينار وسيأتي ما يتعلق فيه من خلاف. (من حرز مثله) الحرز هو ما يحفظ فيه المال وهو من شروط القطع (من مال معصوم) وتقدم معنا من هو المعصوم (لا شبهة فيه) كسرقة الإنسان من مال ابنه وأيضا ستأتينا.
ثم - قال رحمه الله - (على وجه الاختفاء قطع)
هنا عرّف الشيخ السرقة. فالسرقة هي أخذ المال على وجه الاختفاء بغير علم المسروق. وهذا التعريف ضروري جدا لأنه يخرج أعمال كثيرة لا قطع فيها لأنها لا يصدق عليها التعريف.
قال - رحمه الله - (فلا قطع على منتهب)
المنتهب هو الذي يأخذ المال على وجه القهر والغلبة اعتمادا على قوته. فهذا الأخذ يسمى نهب.
ثم - قال رحمه الله - (ولا مختلس)
الاختلاس هو خطف الشيء اعتمادا على أمرين: السرعة والغفلة.
ثم - قال رحمه الله - (ولا غاصب)
الغصب هو أخذ المال قهرا وبهذا يكون قريب من النهب ولهذا يقولون النهب والغصب كأنّ معناهما واحد أو متقارب ولاشك أنه في لغة العرب يوجد فرق بين النهب والسرقة لأنّ القول الصحيح أنه لا يوجد في لغة العرب لفظان لهما نفس المعنى تماما لكن أنا لم أقف على معنى واضح للتفريق وهو يوجد يحتاج فقط إلى بحث.
ثم - قال رحمه الله - (ولا خائن)
الخائن هو المفرط بالأمانة على أي وجه كان فإذا فرط في الأمانة فهو خائن.
ثم - قال رحمه الله - (ولا خائن في وديعة)
جاحد الوديعة لا قطع عليه بالإجماع لأنّ جحد الوديعة وما تقدمه من النهب والغصب والاختلاس لا يصدق عليه حد السرقة.
ثم - قال رحمه الله - (أو عارية أو غيرها)
كذلك لا قطع في العارية ولا قطع في غيرها والمقصود بغيرها يعني جميع الأمانات , والمؤلف خالف في هذه المسألة المذهب فالمذهب يرون وجوب القطع في العارية. أولا نبقى مع المؤلف فالمؤلف يرى أنه لا قطع في العارية ويستدل على هذا بالقياس على الأمانات فإنّ الوديعة لا قطع فيها إجماعا والتعليل أنها من الأمانات فالعارية كذلك من الأمانات.
والقول الثاني: أنّ جحد العارية يوجب القطع , واستدل أصحاب هذا القول بأنّ امرأة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت تستعير المتاع ثم تجحده فقطعها النبي - صلى الله عليه وسلم -.


وأجاب القائلون بعدم القطع عن هذا الحديث بأنّ هذه المرأة قطعت لأنها سرقت وأما وصفه إياها في الحديث بأنها تجحد المتاع فهو وصف تعريفي يعني المرأة التي من شأنها أنها كانت تجحد العارية. والراجح أنه يجب فيها القطع لأنّ النص لا يمكن الخروج عنه فإنه ذكر أنّ المرأة كانت تجحد وتقطع يعني لذلك والفرق بين العارية والوديعة. أنّ العارية لا يمكن التحرز منها بخلاف الوديعة فإنها تكون بإرادة المودع فهو الذي بإرادته وضع المتاع عند الشخص الآخر فهو يستطيع أن يمتنع بخلاف العارية لأنّ الناس تعارفوا على عيب وذم من يمتنع عن إعارة جيرانه. إذا هذا هو الفرق بين العارية والوديعة والراجح كما قلت المذهب وهو وجوب القطع بجحد العارية.
قال - رحمه الله - (ويقطع الطرار الذي يبط الجيب أوغيره ويأخذ منه)
عرّف الشيخ - رحمه الله - الطرار بأنه الذي يبط , والبط في لغة العرب/ هو الشق فإذا شق جيبه وأخذ ما فيه فإنه يقطع وعللوا هذا بأنها سرقة من حرز فإنه جرى العرف أن يضع الإنسان ماله في جيبه.
والقول الثاني: أنه لا قطع على الطرار لأنه أشبه بالمختلس منه بالسارق والراجح؟ لأنه شبهه بالسارق من البيوت أكبر من المختلس لأنّ المختلس يعتمد على الغفلة والسرعة. وهذا لا يسرع وإنما ببطء يأخذ ما يريد ويذهب خفية ومع هذا تبقى المسألة مترددة ليست بذاك الوضوح لكن الأقرب أنه سارق تقطع يده لذلك واليوم أصبحت هذه الصنعة حرفة مما يتأكد معها القول بالقطع حتى يرتدع الناس فإنّ غالب السرقات لا سيما في الحرمين تكون عن طريق إما شق الشنط أو شق الجيوب والقطع الذي يحصل أحيانا يكون من أكبر الأسباب في ردع مثل هؤلاء.
قال - رحمه الله - (ويشترط أن يكون المسروق مالا محترما)
بدأ المؤلف بالشروط بدأ بالشرط الأول:
وهو أن يكون المال المسروق محترما شرعا , فإذا لم يكن محترما فإنه لا يقطع بسرقته وهذا من حيث هو في الجملة محل إجماع. فإنهم أجمعوا لوجوب القطع أن يكون المال المسروق محترما لكن اختلفوا في مسألة أخرى وهي هل يشترط في المال المحترم أن لا يكون من الأموال التي يسرع إليها الفساد أو لا يشترط؟ على قولين:


فالجمهور لم يشترطوا هذا الشرط فسرقة أي مال محترم ولو كان مما يسرع إليه الفساد يوجب القطع واستدلوا على هذا بعموم الأدلة.
وذهب الأحناف إلى أنه إذا سرق مالا يسرع إليه الفساد فلا قطع واستدلوا على هذا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من أخذ من ثمر الحائط بفيه من غير أن يأخذ خبنة فلا حرج عليه ومن أخذ فإنه عليه قيمته مثلين ومن أخذ المال بعد وضع الثمر في الجرين فعليه القطع. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - قسم الثمار إلى ثلاثة , إن أخذ من الشجرة ولم يتزود فلا شيء عليه. وإن تزود وأخذ وخرج بلا إذن فعليه ضعفي قيمة ما أخذ , وإن أخذ بعد أن وضع في الجرين وهو مخزن الطعام للتيبيس فعليه القطع. فالأحناف فهموا من هذا الحديث أنه لم يقطع في الصورة الأولى والثانية بسبب أنّ الثمرة كانت رطبة يسرع إليها الفساد وقطع في الصورة الثالثة لما كان في الجرين لأنه يبس وصار لا يسرع إليه الفساد هكذا هم فهموا الحديث. والجمهور لم يفهموا الحديث كهذا الفهم وإنما قالوا إنما لم يقطع النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصورة الأولى لأنه ليس من حرز وقطع في الصورة الثالثة لأنه من حرز فالمناط هو كونه في حرز أو ليس في حرز وليس المناط أن يكون يابسا أو رطبا والراجح إن شاء الله مذهب الجمهور وأنه لا يشترط في المال أن يسرع إليه الفساد بل من سرق أي مال محترم بشرطه فإنه يقطع.
ثم - قال رحمه الله - (فلا قطع بسرقة آلة لهو)
آلة اللهو من الأعيان التي لا قيمة لها شرعا فلا يقطع بسرقتها. مسألة ولو إذا كسرت صارت قيمتها تبلغ نصابا فكذلك لا قطع في سرقتها.
ثم - قال رحمه الله - (ولا محرم كالخمر)
الخمر يقاس على الخنزير عين لا قيمة لها شرعا فلا يقطع بسرقتها وإنما يعزر كما تقدم معنا.
ثم - قال رحمه الله - (ويشترط أن يكون نصابا)
ذهب الجماهير من الأئمة إلى أنه يشترط في المال المسروق أن يبلغ نصابا واستدلوا بالأدلة التي ستأتينا في تحديد النصاب وهي أدلة صريحة وواضحة.
والقول الثاني: أنه يقطع في القليل والكثير لعموم الآية والراجح مذهب الجماهير من الأئمة بلا إشكال لوضوح النصوص في تحديد نصاب معيّن لا يقطع في أقل منها.


ثم - قال رحمه الله - مبيّنا النصاب (وهو ثلاثة دراهم أو ربع دينار أو عرض قيمته كأحدهما)
ذهب الحنابلة إلى أنّ النصاب مقدر بأصلين الفضة والذهب وأنه إذا بلغت قيمة العرض أيّا منهما فإنه يقطع بأخذه ولهذا يقول - رحمه الله - وهو ثلاثة دراهم أو ربع دينار واستدل الحنابلة على هذا بأنّ رجلا سرق مجن والمجن هو الترس في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقطعت يده لأنه قوّم المجن فبلغ ثلاثة دراهم.
والدليل الثاني لهم: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا قطع في أقل من ربع دينار فجاءت النصوص باعتبار الذهب والفضة.
القول الثاني: أنّ الأصل في النصاب هو الفضة ويقدر به الذهب والمتاع لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سرق الرجل المجن قدره بالفضة ولم يقدره بالذهب.
القول الثالث: أنّ الذهب أصل بنفسه لنفسه فقط , والفضة أصل لنفسها وتقوّم بها الأعيان.
والقول الأخير: أنّ الأصل هو الذهب فقط وما عداه يقوّم به. والراجح المذهب لأنّ النصوص اعتبرت الذهب والفضة فنقدر المتاع بهما فإذا صار قيمة المتاع إذا اعتبرناه بالدراهم نصابا وإذا اعتبرناه بالذهب ليس بنصاب يقطع أو لا يقطع؟ يقطع عند الحنابلة ولا يقطع عند القائلين بأنّ الأصل في التقويم هو الذهب فهذه المسألة ينبني عليها الحكم بشكل واضح بأنّا نقدر الأعيان المروقة إما بالذهب أو بالفضة والراجح كما قلت إن شاء الله المذهب.
ثم - قال رحمه الله - (وإن نقصت قيمة المسروق أو ملكها السارق لم يسقط القطع)
معنى هذا الكلام أنّ السارق إذا سرق المتاع ثم لما سرقه نقصت قيمته فإنه لا يسقط القطع , لأنّ الشرط هو أن يخرج المسروق بقيمته من حرزه ثم نقصه بعد ذلك لا قيمة له بدليل أنه لو أخرجه ثم استعمله فإنّ القيمة ستنقص بهذا الاستعمال والقطع لابد منه.
ثم - قال رحمه الله - (أو ملكها السارق)


إذا ملكها السارق بهبة أو ببيع أو بإرث فإنّ القطع لا يسقط مقصود المؤلف يعني إذا وصلت إلى الحاكم فإنه إذا ملكها بعد وصولها إلى الحاكم فإنّ القطع لا يسقط فإذا قال السارق للمسروق سأشتري منك السلعة بعد أن وصلت إلى الحاكم فإنه لو اشترى لا يسقط القطع أما إذا اشتراها قبل أن تصل القضية إلى الحاكم وترفع إليه فإنّ القطع يسقط حينئذ.
ثم - قال رحمه الله - (وتعتبر قيمتها وقت إخراجها من الحرز)
تعتبر القيمة وقت الإخراج من الحرز لأنه وقت السرقة والسرقة هي سبب القطع فلما كانت السرقة هي سبب القطع اعتبرنا وقتها ففي الوقت الذي يخرج فيه المتاع من الحرز نعتبر القيمة في ذلك الوقت لا قبل ولا بعد فإذا أخرج السلعة من الحرز فلما أخرجها وصارت خارج الحرز ارتفعت وبلغت نصابا فلا قطع ولو أخرجها ثم نزلت وصارت أقل من النصاب فيجب القطع.


الدرس: (4) من الحدود

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
قال - رحمه الله - (وتعتبر قيمتها وقت إخراجها من الحرز)
هذا تقدم معنا وأنّ سببه أنّ الإخراج هو سبب وجوب القطع فاعتبرنا وقته وتقدم في الدرس السابق.
ثم - قال رحمه الله - مفرعا على هذا القيد (فلو ذبح فيه كبشا أو شق فيه ثوبا فنقصت قيمته عن نصاب ثم أخرجه)
هذه المسائل مفرعة أنّ الوقت الذي يعتبر فيه القيمة هو الإخراج من الحرز فإذا ذبح الكبش قبل أن يخرجه من الحرز فإنّ هذا الكبش بذبحه تنزل قيمته فإذا نزلت قيمته عن النصاب فإنه لا قطع فيه فإذا ذبحه ثم أخرجه فلا قطع قيمة الكبش بسبب الذبح قبل إخراجه كذلك إذا شق فيه ثوبا يعني في الحرز قبل أن يخرجه ونقصت قيمته عن النصاب ثم أخرجه فلا قطع للسبب ذاته وهو أنه نقصت قيمته عن النصاب ويستوي في هذا ما إذا صار النقص أو وقع النقص بفعل السارق أو بغير فعله مثل أن يسقط الشيء بلا سبب من السارق ثم تنقص قيمته ومثل أن يقوم هو بتكسير الشيء وتنقص قيمته فالصورتين لهما نفس الحكم. يستثنى من هذا ما إذا صنع هذا الصنع حيلة لأنّ الحيل لا تسقط الواجبات ولا تبيح المحرمات فإذا فعل هذا حيلة ليتخلص من القطع فإنه لا تنفعه هذه الحيلة ويقطع.
ثم انتقل الشيخ - رحمه الله - إلى الشرط الثالث من شروط وجوب إقامة حد السرقة.
فقال - رحمه الله - (وأن يخرجه من الحرز)
ذهب الحنابلة بل الأئمة الأربعة إلى أنّ الحرز شرط فإذا سرق من غير حرز فلا قطع والأئمة الأربعة بل الجماهير استدلوا على هذا بالحديث السابق فيمن أخذ من ثمر الحائط وفي آخر الحديث فإذا أواه الجرين ثم أخذ فإنه يقطع فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - القطع في صورة واحدة وهي ما إذا وصلت الثمرة إلى الجرين لأنه حرز ولم يجعل القطع فيما دون ذلك لما إذا أخذ من الشجرة وأخرجه خارج البستان أو أكل منه داخل البستان فلا قطع لعدم تحقق شرط الحرز.
والقول الثاني: أنّ السارق يقطع وإن أخرجه من غير حرز لأنه أخذ المال بغير حق والصواب مع القول الأول. بل القول الثاني فيه شذوذ والعمل على خلافه بين قضاة المسلمين على مدار الأعصار فهو شاذ في الحقيقة.
ثم - قال رحمه الله - مبيّنا الحرز (وحرز المال ما العادة حفظه فيه)
لما بيّن أنّ الحرز شرط لوجوب القطع انتقل إلى بيان ماهية الحرز. والحرز هو ما يحفظ فيه الشيء وتحديد كون المكان المأخوذ منه حرزا أو لا يرجع فيه إلى العرف والسبب في هذا أنّ الشارع لما بيّن وجوب اعتبار الحرز ولم يبيّن حد الحرز رجعنا فيه إلى العرف.


يقول الشيخ - رحمه الله - (ويختلف باختلاف الأموال والبلدان وعدل السلطان وجوره)
فذكر عدة اعتبارات يختلف فيها اعتبار الشيء حرزا أو لا. الأول" طبيعة المال فمن الأموال ما يوضع في صندوق ومنها ما يوضع في البيت بلا صندوق ومنها ما يوضع في الدكان ومنها ما يوضع في الشارع فهو يختلف باختلاف طبيعة المال ويختلف باختلاف طبيعة البلدان وطبيعة البلدان تختلف باعتبارين , باعتبار طبيعة الناس وخفة الدين وكثرة السرقة أو باعتبار السلطان وهو الذي أشار إليه في قوله وعدل السلطان وجوره فكلما كان السلطان عادلا مقيما للحدود انتشر الأمن وخفت السرقة وكلما كان العكس حصل عكسه.
ثم - قال رحمه الله - (وقوته وضعفه)
هناك بين عدل السلطان وجوره وبين قوته وضعفه فقد يكون عادلا ضعيفا وقد يكون صاحب جور وقوي والحقيقة المؤثر في الحكم هنا المؤثر الأول القوة , والضعف أكثر منه في العدل والجور فإنّ السارق يخشى السلطان القوي أكثر من خشيته للسلطان العادل لكن بطبيعة الحال أنّ غالب السلاطين إذا كانوا أهل عدل فإنهم سيقومون بما أوجب الله عليهم من حفظ الأموال والأنفس والأعراض ويكون في هذا كف للسارق على كل حال الأموال تختلف بهذا الاعتبار ولهذا قال كأنه مبيّنا للقيد الأول كأنه يشرح قوله باختلاف الأموال.
ولهذا يقول - رحمه الله - (فحرز الأموال والجواهر والقماش في الدور والدكاكين والعمران وراء الأبواب والأغلاق الوثيقة)


هذا النوع من الأموال وهي الجواهر والنقود والأقمشة يكون حفظها بأمرين: أن تكون خلف الأبواب وخلف الأغلاق فيشترط أن تكون الأبواب مغلقة وأن تكون أيضا محكمة بالأقفال بلا هذين القيدين يكون المال ليس في حرز مثله , وفهم من كلام المؤلف أنّ المال إذا كان داخل بيت والباب مقفل ومغلق لا يشترط مع هذا أن نضع المال في صندوق بل صرح الحنابلة بما يدل على أنهم لا يرون هذا صراحة في مسألة أخرى وهي قولهم فإذا كان الباب مفتوحا فإن كانت الأموال في الصناديق فهي حرز وإلاّ فلا , فهم من مجموع هذه المسائل أنّ الحنابلة يرون أنّ الباب المغلق والمقفل بقفل أنّ هذا حرز ولا يشترط أن يكون في صندوق وما دام المؤلف أرجع أو أحال على العرف فعندنا الأعراف لا تكتفي في النقود بوضعها داخل المنازل ولو أغلقت الأبواب بل جرت العادة أن تحفظ داخل المنزل في وعاء خاص إما في صندوق أو تجوري أو دولاب المهم أن توضع في مكان خاص وليست توضع في البيت هكذا بدون حفظ ربما في القديم كانت العادة أن توضع الأشياء في البيوت بلا حفظ ربما ولكن العرف الآن أنه لا بد أن توضع في صندوق. فمثلا لو كان صاحب البيت تاجر مجوهرات فليس من المنطق أبدا أن يأتي بكراتين من المجوهرات ويضعها في مجلس الرجال كمستودع للمجوهرات ثم إذا سرقت يقول أنها سرقت من حرز لأنّ وضعها في هذا المكان ليس وضعا لها في الحرز بل لا بد أن تكون في مكان آمن يأمن معه عليها من السراق.


المهم أنّ هذا يرجع إلى الأعراف وقضية حساسة وتستحق في الحقيقة تطويل وتوضيح لأنه غالب الشروط التي تختل هو الحرز فمثلا السيارات هي إذا وضعت بجوار البيت حرز؟ أو لا بد تدخل في البيت هذه مسألة؟ من المعاصرين من يقول وضعها في الشارع أي مال في الشارع ليس في حرز في أردت أن تحفظ السيارة لابد أن تدخلها في داخل البيت فهذه المسألة ترجع إلى قضيتنا وهي هل هذا حرز أو ليس بحرز فمثلا في السيارات يبدوا لي أنا بوضوح وجلاء بدون خفاء أنّ وضعها في الشارع بجوار البيت حرز وأنّ هذه السيارة إنما تحفظ في مثل هذا والناس إنما اعتادوا إدخال السيارات في البيوت في وقت قريب قبل مثلا عشر سنوات أو قبل عشرين سنة كان الناس لا يعرفون أو غالب الناس لا يعرفون إدخال السيارة إلى داخل المنزل فوضع السيارة في الشارع مع إقفال السيارة وإحكام قفلها يعتبر حرز فإذا سرق يجب أن يقطع هذه مسألة على سبيل التمثيل لتعرف أهمية معرفة الحرز وما يعتبر حرزا تقطع به اليد وما لا يعتبر. ثم انتقل المؤلف إلى الأموال الأخرى.
فقال - رحمه الله - (وحرز البقل)
البقل يقول الخليل هو كل نبات ليس من الشجر , أي نبات لا يعتبر شجرة فهو من البقل وقيل أنّ البقل هو ما تخضر به الأرض ومفهوم هذا يعني سواء كان يأكل أو لا يأكل وقيل إنّ البقل هو كل نبات لا ساق له وهذه الأقوال كما لا يخفى متقاربة ومعناها واحد
من أمثلة البقل الخس والبصل والجرجير ونحوها.
يقول - رحمه الله - (وقدور الباقلاء)
الباقلاء اختلفوا فيه , فالقول الأول: أنه الفول الأخضر.
والقول الثاني: أنّ الباقلاء شيء والفول بنوعيه شيء آخر وأما الراجح فلم أستطع أن أرجح لأني ما أعرف الباقلاء يعني شكله ولا طريقته وأما الكتب فهم مختلفون ويبدوا لي أنّ الباقلاء قريب من الفول وإن كان يختلف عنه. على كل حال لو قال الشيخ والفول لكان أشهر لكن ربما كان الباقلاء أشهر في زمنهم والفول أشهر في زماننا.
ثم - قال رحمه الله - (ونحوهما)
يعني نحو هذه البقول والشجر.
قال - رحمه الله - (وراء الشرائج)
هي أعواد إما أن تكون من القصب أو من الخشب ويشترط أن تصف بجوار بعضها وتربط وبهذا تكون حرزا لما ورائها.


يقول الشيخ - رحمه الله - (إذا كان في السوق حارس)
فتبيّن معنا أنها لا تكون حرز إلاّ بأمرين: وجود الشرائج , ووجود الحارس. وهذا عرف في زمنهم أنها لا تحفظ إلاّ بمثل هذا في زمننا لا يشترط وجود لا الشرائج ولا الحارس بل وجود في مكانها في السوق الذي تباع به عادة يعتبر حرز تحفظ الأموال في مثله ولا يعتبر التاجر مفرط إذا وضعها فيه فإن سرقت قطع السارق متى بلغ قيمة المسروق النصاب.
قال - رحمه الله - (وحرز الحطب والخشب الحظائر)
الحظائر هي الأماكن التي تعد لبهيمة الأنعام ويشترط الحنابلة مع وضع الخشب في الحظائر أن يكون الخشب مربوط بعضه إلى بعض فإذا ربط المالك الخشب بعضه إلى بعض ووضعه في حظيرة فهذا يعتبر حرز فإن ألقى الحطب في الحظيرة بلا ربط بعضه إلى بعض فليس بحرز لأنه مع الربط يصعب مع السارق إخراجه وبلا ربط يسهل على السارق إخراجه هكذا قرر المؤلف وكأنهم كانوا يضعون الخشب في أحواش البهائم وأما الآن فإنّ الحطب لا توضع في أحواش البهائم وإنما لها أماكن خاصة وهذا يعود بنا إلى قضية العرف.
ثم - قال رحمه الله - (وحرز المواشي الصير)
الصير هي حظائر الغنم معنى هذا أنّ وضع البهائم في الحظائر المعتادة يعتبر حرز وإذا لا يشترط في المزارع لكي نقطع السارق أن يكون على المزرعة جدار مبني وأن يكون لها باب مغلق. إنما إذا وضعنا الأغنام في حظائر معتادة فإنّ السرقة منها تعتبر سرقة يقطع بمثلها.
حرز البهائم إذا خرجت من الحظائر لترعى يحصل بأمرين: أن يوجد الراعي وأن يكون الراعي غالبا وليس دائما ينظر إليها فإذا عرف عن الراعي الإهمال وأنه نصف الوقت ينظر إليها ونصفه لا ينظر إليها فإنّ السارق منها لا يقطع وإذا عرف أنّ الراعي ينظر إليها غالبا ويحرص على حمايتها مع وجوده في الوقت كله فإنّ هذا يعتبر حرز ويقطع السارق بسرقة ما يوازي النصاب وكما قلت مرارا أنّ هذا يرجع إلى العرف واليوم مثلا يكثر من بعض الشباب الفارغ سرقة الأغنام لبيعها والانتفاع بثمنها فهل يشترط أنا نقول لصاحب المزرعة
أغلق بابك وأحكم جدارك ولا تكتفي بوضع مثل هذه الأغنام في الحظائر أو لا يقال مثل هذا. من وجهة نظري أنه في وقتنا هذا تنقسم الأغنام إلى قسمين:


القسم الأول: الأغنام مرتفعة الثمن يعني يوجد من الأغنام ما قيمته خمسمائة ألف ستمائة ألف الواحدة بغض النظر عن مشروعية هذه الأسعار نحن نتحدث عن السرقة ولسنا نتحدث عن البيع والشراء بأسعار مرتفعة مثل هذه الأغنام ومثل هذه الإبل المرتفعة في الحقيقة حرزها لا يكون بوضعها في الحظيرة فقط بل يجب أن يحترز المالك وأن يضعها خلف جدار مغلق باب مغلق لارتفاع ثمنها لأنها أصبحت الآن بمعنى الأثمان التي الحنابلة يشترطون أن تكون خلف الأبواب المغلقة الآن أصبحت بمعناها بل أكثر أحيانا قيمتها ما يمكن أن يخزن في البيت من الأثمان والأموال. أما سائر الأغنام التي تباع في الأسواق واعتاد الناس على وضعها في الحظائر سواء حظائر خاصة أو الحظائر العامة التي توجد في المبيعة العامة هذه تعتبر حرز ويقطع بها.
قال - رحمه الله - (وأن تنتفي الشبهة)
ثم انتقل الرابع من الشروط. الشبهة مرت معنا كثيرا والشبهة عبارة عن نقص في الجناية يوجب منع إقامة الحد وهذا النقص قد يكون له أسباب كثيرة والشبهة تدرأ الحدود وأخذنا الخلاف فيما سبق على قولين وأنهم استدلوا بآثار الصحابة وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ادرءوا الحدود بالشبهات. وأنّ القول الثاني أنّ الحد لا يدرأ بالشبهة لأنّ النصوص الآمرة بإقامة الحدود عامة وأنّ الراجح بلا إشكال إن شاء الله الدرء الشبهات حسب نظر القاضي لورود ذلك عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -.
قال - رحمه الله - (فلا يقطع بالسرقة من مال أبيه وإن علا)
إذا سرق الابن من مال أبيه فإنه لا يقطع التعليل من هذا أنّ النفقة واجبة على الأب للابن ولهذا إذا سرق فقد سرق من مال له فيه حق فصارت هذه شبهة تمنع القطع.
والقول الثاني: أنه إذا سرق تقطع وأصحاب هذا القول استدلوا بالعمومات على المذهب إذا قتل الابن الأب يقتل. لكن إن سرقه لا يقطع ففرقوا بين القصاص والسرقة وهو في الحقيقة تفريق وجيه وهو الراجح والقول الثاني فيه ضعف. لأنّ سرقة الابن من مال أبيه فيها شبهة كبيرة.
قال - رحمه الله - (ولا من مال ابنه وإن سفل)


السرقة من مال الابن لا توجب القطع لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - أنت ومالك لأبيك. والشبهة فيها واضحة وهي أقوى بكثير من المسألة السابقة فإذا سرق فإنه لا يقطع لكونه سرق مالا جعل له فيه الشارع حظا وحقا. طبعا في قول ثاني أنه يقطع والغريب أنه هذا القول الثاني اختاره ابن المنذر مع أنّ ابن المنذر مع الذين يرون دفع الحدود بالشبهات ودرءها بها لكن في مثل هذه المسألة الواضحة وهي أخذ الأب من مال الابن يرى القطع وهو عجيب كيف نقطع الأب وهو له أن يتملك من مال ابنه ابتداء فربما قال الأب لم أسرق وإنما نويت التملك قبل أن آخذ أليس كذلك؟ فقطع الأب في الحقيقة فيه بعد ولولا أنّ ابن المنذر من المحققين المتأنيين في اختياراتهم لقلنا أنّ هذا قول منكر أو ضعيف جدا لأنه يخالف قواعد الشرع.
قال - رحمه الله - (والأب والأم في هذا سواء)
يريد المؤلف أن يبيّن أنّ الأم لا تنقص عن الأب في هذا الباب والسبب في هذا أنّ حق الأم على الابن أكبر من حق الأب على الابن فلا أقل من أن تساويه في درء العقوبة بالشبهة وهذا صحيح فالأم في هذا الباب كالأب ولا ينبغي أن يختلف في هذه المسألة كما اختلف في مسألة هل لها أن تتملك في مال ابنها أو لا فإنّ في هذه المسألة بر الأم يقتضي أن لا تقطع. وهذا الابن الذي يضيق على أمه إلاّ أن تسرق هو يحتاج من يعزره ويعاقبه لأنّ الأم لم تسرق إلاّ بعد أن ضيق عليها الابن.
قال - رحمه الله - (ويقطع الأخ وكل قريب بسرقة مال قريبه)
يعني أنّ سائر الأقارب بما فيهم الأخ لا يساوي الأب ولا يساوي الأم لأنّ هذه القرابة قرابة لا تمنع الشهادة فلا تقاس على قرابة الأب
الدليل الثاني: العمومات.
والقول الثاني: أنه لا يقطع لأنّ نفقة الأقارب قد تجب على المسروق منه وهذه شبهة تؤدي إلى درء الحدود. والراجح القول الأول لأنّ هذه الشبهة في الحقيقة ضعيفة.
قال - رحمه الله - (ولا يقطع أحد من الزوجين بسرقته من مال الآخر)
إلى هذا ذهب الحنابلة واستدلوا بدليلين: الدليل الأول" أنه جرت العادة أنّ كل من الزوجين يتبسط بمال الآخر وهذه العادة تؤدي إلى شبهة تمنع إقامة الحد.


الدليل الثاني: أنّ عبدا سرق مال زوجة سيده فرفعه إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فلم يقم عليه الحد. وإذا كان عمر لم يقم الحد على عبد الزوج فكيف بالزوج.
والقول الثاني: إقامة الحدود بين الزوجين يعني في السرقة , وهؤلاء يستدلون بالعمومات.
والقول الثالث: إقامة الحد على الزوج دون الزوجة , لأنّ للزوجة حق في مال الزوج وليس للزوج حق في مال الزوجة. والقول الثالث فيه قوة لأنه في الحقيقة إذا أخذ هذا الزوج من مال زوجته فلا شبهة , ويليه في القوة المذهب.
قال - رحمه الله - (ولو كان محرزا عنه)
ولو كان محرزا عنه , أما إذا لم يكن محرزا عنه فلا قطع بالإجماع لتخلف شرط الحرز سواء كان زوج وزوجة أو غيرهما وإنما ذكر المؤلف هذا القيد لعله لوجود الزوج والزوجة في بيت واحد دائما مما يتعذر معه وجود المال في الحرز وإلاّ لنا أن نقول لماذا لم يقل ولو كان محرزا عن الأم ولو كان محرزا عن الأب ولو كان محرزا عن الأخ , يعني المسائل هذه من باب واحد , خص الزوجين بلو كان محرزا عنه لعله لهذا السبب.
قال - رحمه الله - (وإذا سرق عبد من مال سيده)
إذا سرق العبد من مال سيده لم يقطع بالإجماع وهو مروي عن عمر وابن مسعود , ولما أقل لم يقطع بالإجماع يعني الإجماع المحكي.
والقول الثاني: أنه يقطع وهو مذهب الظاهرية وهذا القول نوع من الشذوذ وتمسك بالعمومات مع وجود الآثار عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - واجتماع العلماء على عدم القول بالقطع.
ثم - قال رحمه الله - (أو سيد من مال مكاتبه)
إذا سرق السيد من مال المكاتب فلا قطع لأمرين: الأمر الأول" أنّ المكاتب عبد ما بقي عليه درهم.
الثاني: أنّ السيد يتمكن. وأبطل العقد الذي بين العبد والسيد. ولهذا لا قطع بينهما.
قال - رحمه الله - (أو حر مسلم من بيت المال)
فلا قطع لأنّ لكل مسلم حق في بيت المال فإذا سرق فقد سرق من مال له فيه حق وهذا شبهة وفهم من كلام المؤلف أنّ العبد لو سرق فإنه يقطع لأنّ العبد ليس له حق في بيت المال وإنما حقه على السيد يعني من جهة النفقة.


والقول الثاني: أنّ العبد المملوك لسيد مسلم لا يقطع لأنّ لسيده حق في بيت المال , ستأتينا قاعدة أنّ من سرق من مال من لو سرق من مال من يملك منه من لو سرق منه لم يقطع لم يقطع كما سيأتينا قاعدة في آخر هذا الباب. والعبد لو سرق من مال السيد لم يقطع فإذا سرق من مال لسيده فيه حق أيضا لم يقطع وهذا صحيح ولا معنى للتفريق بين العبد والحر لأنّ لكل منهم حق في بيت المال هذا حق مباشر وهذا حق من طريق سيده.
قال - رحمه الله - (أو غنيمة لم تخمس)
إذا سرق الإنسان سواء اشترك في المعركة أو لم يشترك من الغينمة قبل التخميس فلا قطع. والخمس هو المال الذي يكون لله ولرسوله يعني لبيت المال من مجموع الغنيمة فإذا سرق من الغنيمة قبل أن تخمس فقد سرق من مال له فيه حق باعتبار أنّ له حق في بيت المال فلا يقطع وفي الحقيقة الشبهة درء الحدود بالشبهات الشبهات أحيانا تكون قوية , يعني مثل هذه الشبهة فيها ضعف لأنّ الغنيمة الذي يكون لبيت المال وسيصرف من بيت المال على جميع المسلمين عن طريق. يعني الشبهة هذه فيها ضعف كما أنّ فيها .... الذين جاهدوا
تحت راية الإمام لأنّ الغنيمة ..... وتقدم معنا مرارا أنه يوجد في الأعيان ما يكون له نفس القيمة وخير من بعضه أليس كذلك
هنا في هذه المسألة تداخل .....
قال - رحمه الله - (أو فقير من غلة وقف على الفقراء)
إذا سرق من غلة جاءت من وقف موقوف على الفقراء وهو فقير فلا قطع لأنه يستحق بالوصف من هذه الغلة وهذا الاستحقاق هو الشبهة التي دُرِء بها عنه الحد.

قال - رحمه الله - (أو شخص من مال فيه شركة له)
يعني إذا سرق أحد الشركاء من مال الشركة فلا قطع وإن كان الملك فيه على سبيل الشيوع أو بعبارة أدق إن كان الملك فيه على سبيل الشيوع لأنّ له حق في هذا المال فلا قطع.
قال - رحمه الله - (أو لأحد ممن لا يقطع بالسرقة منه لم يقطع)


إذا سرق من مال لأحد ممن لا يقطع من السرقة منه حق فيه لم يقطع , فإذا سرق من مال أبوه شريك فيه لم يقطع لأنّ السرقة من مال الأب لا توجب القطع , وإن سرق من مال لسيده فيه شركة لم يقطع وهكذا وهي قاعدة عند المؤلف. أو لأحد مما لا يقطع بالسرقة منه , يعني أو سرق من مال مشترك لأحد لا يقطع بالسرقة منه. بهذا انتهى الشرط الرابع وتلاحظ أنه أطال الشيخ في الشرط الرابع في الشبهات وأنواعها وتفصيلها لأنه ليس لها ضابط معين فأراد أن يبيّن المسألة بكثرة الأمثلة.
قال - رحمه الله - (ولا يقطع)
فيه دليل على أنّ السرقة لا تثبت إلاّ بأحد أمرين: الشهادة أو الإقرار. ولا يوجد سبيل ثالث لإثبات أنّ فلانا سرق هذه العين تبيّن من كلام المؤلف أنّ وجود العين المسروقة في بيت شخص من الأشخاص لا يعني أنه السارق ولا يقام عليه الحد بهذا السبب مهما كانت الملابسات لأنه يحتمل أن يوضع فيه هذه العين ليتهم ويحتمل أن تسقط من صاحبها ويوجد احتمالات كثيرة فلا يتعيّن أن يكون سارقا فلا يقطع.
يقول الشيخ - رحمه الله - (إلاّ بشهادة عدلين)
أي أنه لا يمكن أن نقيم الحد إلاّ بشهادة عدلين فلا يقام بشهادة امرأتين ولا بشهادة رجل وامرأة ويشترط في هذين الرجلين ما يشترط في باب الزنا أن يكون مسلم حر عدل وإلاّ لم تقبل شهادته.
قال - رحمه الله - (أو إقرار مرتين)
يشترط في الإقرار أن يكون مرتين استدل الحنابلة على هذا بأنّّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اعترف عنده رجل بسرقة فأعاد عليه مرتين فدل هذا على اشتراط التكرار في إثبات حد السرقة وهذا الحديث ضعيف.
والقول الثاني: أنه لا يشترط أن يعترف مرتين بل إذا اعترف مرة واحدة كفى وأقيم عليه الحد وهذا هو القول الراجح لعدم وجود أي دليل يدل على أنه ينبغي تكرار الاعتراف.
قال - رحمه الله - (ولا ينزع عن إقراره حتى يقطع)
هذا هو الشرط الثاني في الإقرار وهو أن يستمر على إقراره إلى أن يقطع فإن رجع في أي مرحلة من المراحل قبل أن يتم القطع فإنّ الحد يدرأ بذلك تقدمت معنا هذه المسألة في الزنا وقلنا إنّ الإقرار يقبل الرجوع عنه لدليلين: الأول قوله - صلى الله عليه وسلم -:" ادرؤوا الحدود بالشبهات".


والثاني: القياس على الزنا عند من يرون أنّ ماعز أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقبول رجوعه.
والقول الثاني: أنّ الإقرار لا يمكن الرجوع فيه ولا يقبل من صاحبه الرجوع لأنه ليس في الأدلة ما يدل على قبول الرجوع ممن اعترف ولأنّ هذا قد يؤدي إلى تعطيل الحدود لأنه كلما اعترف إنسان لقن الرجوع ثم يرجع ولا يقام الحد والمسألة فيها احتمال كبير والقول الذي عليه الجمهور كما قلت لكم في الزنا قول قوي وهو أنه الرجوع عن الإقرار يعتبر ويدرأ به الحد وذلك لوجود عدد كبير من الآثار عن علي وعثمان وبعضها مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - لكن المرفوع قد لا يصح لكن الآثار كثيرة جدا ولم أتمكن من الوقوف على أسانيدها لكنها كثيرة بشكل ملفت للانتباه وهو أنهم رأوا - رضي الله عنهم - أنّ الحد يدرأ بالشبهة وأحيانا يكتفون بشبهة بسيطة جدا وروي عن بعضهم تلقين الرجوع عن الإقرار لكن كما قلت لم أقف على صحة هذا الإسناد. فروي عن علي أنه أوتي بسارق. فقال له أسرقت؟ قل لا. وروي عن عثمان أنه جيء بزاني فقال له أزنيت؟ قل لا. فمثل هذه الآثار والمطلع على مجموع الآثار يقوم عنده ظن قوي أنّ هذا موجود بين الصحابة وهو درء الحدود بالشبهات ولو قيل أنه يختلف باختلاف المجرم أو من أتى بجناية فأحيانا ينبغي أن يقبل منه وأحيانا أن لا يقبل لكان هذا أيضا له وجه.
قال - رحمه الله - (وأن يطالب المسروق منه بماله)
الشرط السادس لإقامة الحد أن يطالب المسروق منه بماله بأن يأتي إلى القاضي ويطلب استرداد المال فإن اعترف السارق أو شهد عليه شاهدان ولم يطلب المسروق منه ماله فلا يقام الحد لأنّ الحد أقيم لحق الله ومراعاة للمسروق منه ولأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع رجلا بطلب المسروق منه.
والقول الثاني: أنه لا يشترط أن يطالب بماله بل إذا ثبت بالأدلة الشرعية أنه سرق أقيم عليه الحد وإلى هذا ذهب عدد من المحققين منهم ابن المنذر ومنهم شيخ الإسلام وغيرهم - رحمهم الله - أنه لا يشترط أن يطالب المسروق منه بماله بل متى ثبتت السرقة أقيم الحد وهذا القول هو الراجح.
قال - رحمه الله - (وإذا وجب القطع قطعت يده اليمنى من مفصل الكف وحسمت)


إذا استوفت الجناية الشروط السابقة فإنّ السارق تقطع يده اليمنى من مفصل الكف ولا خلاف في هذا وهو أنه يبدأ باليمنى وتقطع من مفصل الكف وقد اتفقوا على البداية باليمنى. ثم إذا سرق مرة أخرى وهذا لم يذكره المؤلف ولعله تركه لندرته وإلاّ فهو مهم في الحقيقة ثم إذا سرق مرة أخرى فإنها تقطع رجله اليسرى روي هذا عن الصحابة وفيه حديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تقطع اليد اليمنى ثم الرجل اليسرى. وهذا الحديث لا يسلم إسناد من أسانيده من ضعف إلاّ أنه يتقوى بمجموع الطرق فيما يبدوا لي
ويصل إلى الحسن.
القول الثاني: أنه إذا قطعت يده اليمنى ثم سرق مرة أخرى تقطع يده اليسرى لقوله تعالى {فاقطعوا أيديهما} [المائدة/38] وهذا القول ضعيف جدا أولا مخالف للآثار وثانيا مخالف للحديث الذي يمكن تحسينه. وثالثا لا ينسجم بطبيعة الشرع بأنه يقيم الحدود بما لا يخل بالمقاصد الأساسية. والإنسان إذا قطعت منه اليدين أصبح عاجز عن أداء مهامه.
مسألة / إذا سرق الثالثة عند الحنابلة لا يقطع منه شيء وإنما يحبس حتى يتوب. ودليل الحنابلة أنه روي عن علي أنه أوتي بالثالثة يعني بسارق سرق المرة الثالثة فحبسه ولم يقطع منه شيئا.
والقول الثاني: وهو مذهب الجمهور أنه إذا قطعت في المرة الثانية الرجل اليسرى تقطع في الثالثة اليد اليسرى وبالرابعة الرجل اليمنى.
واستدل الجمهور على أنّ هذا صح عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - واستدلوا أيضا بحديث أبي هريرة أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقطعه على هذا التوالي وهذا الحديث أيضا يمكن تحسينه والراجح إن شاء الله مذهب الجمهور وهو الذي جنى على نفسه بتكرار السرقة وإذا قطعت منه الأربع في الغالب لن يسرق. ولا لا لأنه ما يستطيع أن يسرق لأنه انتهى الجوارح فإن سرق قتل لأنه تبيّن أنّ هذا فاسد الطبع لا يمكن كف شره إلاّ بالقتل ويقتل تعزيرا في المرة الخامسة.
يقول - رحمه الله - (وحسمت)
ظاهر عبارة المؤلف أنّ الحسم واجب والحسم هو أن تغمس اليد في الزيت الحار لتمتلئ العروق من الزيت فينحبس الدم.


والقول الثاني: أنّ الحسم سنة وليس بواجب وربما كانت هذه الطريقة في السابق وأما اليوم فالطبيب يتمكن من إيقاف الدم بغير الحسم ولا أدري اليوم كيف هل في الساحة بعد القطع يوقفون الدم. ما عندي علم بهذا أما في القديم فكانوا يحضرون إقامة الحد ثم بمجرد ما يقطع تغمس يده في هذا الزيت الحار وفي الحقيقة غمس اليد ربما يكون أصعب بلحظة وإذا كان السيف حاد وسحبت اليد بقوة وبان المفصل بشكل واضح سيكون القطع سهل بخلاف الغمس اليد في الزيت الحار لأنه إذا غمسها في الزيت الحار ينبغي أن ينتظر قليلا إلى أن يعمل الزيت عمله يعني ما يغمسها ويخرجها بسرعة وفيه ألم واضح في الحقيقة المهم أنه غمس اليد في الزيت إذا لم يتمكنوا من إيقاف الدم إلاّ به فقول الحنابلة أنه واجب صحيح لأنه به تنحفظ النفس وإذا تمكنوا من إيقاف الدم بغيره فهو سنة وعليهم أن يوقفوا الدم بطريقة أخرى.
قال - رحمه الله - (ومن سرق شيئا من غير حرز ثمرا كان أو كثرا أو غيرهما أضعفت عليه القيمة ولا قطع)
الكثر هو جمار النخل , المؤلف يريد أن يبيّن أمرين: الأمر الأول أنّ السرقة من غير الحرز لا يوجب القطع وهذا تقدم معنا شرط مستقل. المسألة الثانية التي يريد المؤلف أن يبيّنها أنّ من سرق ثمرا أو نحو الثمر فإنه تضاعف عليه القيمة فيدفع القيمة ومثلها , والحنابلة ذهبوا إلى أنه تضاعف القيمة في نوعين من المال فقط الثمر والماشية فقط واستدلوا على هذا بأنّ الثمر فيه الحديث المتقدم من أخذ ثمرا من حائط فإن أكل منه بفيه فلا حرج عليه وإن أخذ منه فعليه القيمة مضاعفة واستدلوا على الماشية أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من أخذ شاة من غير مراحها فعليه القيمة ومثلها فقال الحنابلة جاء النص في هذين النوعين فمن سرق شيئا من هذين النوعين من غير حرزه فعقوبته أن تضاعف عليه القيمة وإن سرق من غيره فلا يعاقب بمثل هذا وإنما يعزر بأمر آخر.
والقول الثاني: أنّ من أخذ أي مال من غير حرز فإنّه يعقب بمثل هذا وأنّ هذا الحكم لا يختص بالثمر والماشية بل هي قاعدة عند هؤلاء
أنّ من سرق من غير حرز يعاقب بمثل هذا وهذا القول الثاني أحسن وأقوى وهو أنّ هذا الحكم عام لا يختص بالثمر ولا بالماشية.


باب حد قطاع الطريق
قطاع الطريق في الاصطلاح هم من يخرجون على المارة لسرقة المال بالقهر والغلبة هؤلاء هم قطاع الطريق الأصل فيهم قوله تعالى {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض} [المائدة/33] فهذه الآية نص في عقوبة قاطع الطريق , قال ابن عباس معلقا على الآية نزلت في المسلمين فهذه الآية أصل في هذا الباب.
يقول الشيخ - رحمه الله - (وهم الذين يعرضون للناس بالسلاح .... إلى آخره)
يشترط لمن خرج على الناس ليعتبر من المفسدين ومن قطاع الطرق أن يتحقق فيه ثلاثة شروط ذكرها المؤلف بقوله الذين يعرضون للناس بالسلاح , هذا الشرط الأول أن يخرجوا بالسلاح واشتراط خروجهم في السلاح محل إجماع من حيث الأصل يعني في الجملة لكن اختلفوا فيما لو خرجوا بالعصي والحجارة ونحوها فهل يعتبر هذا خروج وقطع للطريق أو لا على قولين:
القول الأول: أنه يعتبر خروج لأنّ العصا أداة للقتل والقطع وهي من جملة السلاح.
والقول الثاني: أنهم إذا خرجوا بمجرد العصي والحجارة فإنهم ليسوا قطاع طريق لأنّ السلاح عند الإطلاق يطلق على السيف ونحوه من المحددات التي تقطع والراجح القول الأول أنهم متى خرجوا وأخافوا الناس ولو بغير سلاح حاد فإنهم من قطاع الطريق.
ثم - قال رحمه الله - (في الصحراء أو البنيان)
هذا الشرط الثاني أن يخرجوا في الصحراء أو البنيان أما إذا خرجوا في الصحراء فهو موضع إجماع يعتبرون من قطاع الطرق وأما إذا خرجوا في البنيان فالمذهب كما ترى أنهم قطاع طريق لأنّ الخروج في البنيان أعظم لأنّ المدن اعتيد فيها الأمن والاطمئنان وقطع الطريق فيها مما يوجب الفوضى.


الدرس: (5) من الحدود

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
بدأ المؤلف في الكلام عن أحكام الصيال
فقال - رحمه الله - (ومن صال على نفسه , أو حرمته , أو ماله آدمي أو بهيمة)
الصيال في لغة العرب / الإقدام بقوة.
وأما في الاصطلاح/ فهو الاستطالة على الغير بغير حق وعرفنا بذلك تعريف الصيال لغة واصطلاحا. والصيال محرم لأنه من أذية المسلم ومن الاعتداء عليه وهو محرم بأدلة الشرع العامة.
يقول المؤلف - رحمه الله - (ومن صال على نفسه أو حرمته أو ماله)
هذه الثلاثة أصناف هي التي يصال عليها عادة إما النفس أو المال أو العرض وسيبيّن المؤلف لا حقا حكم دفع الصائل بكل واحدة من هذه الثلاثة.
يقول المؤلف - رحمه الله - (فله الدفع عن ذلك بأسهل ما يغلب على ظنه دفعه به)
قوله فله الدفع عبارة تدل على أنّ الدفع جائز لكن المؤلف لا يريد هذا فإنه سيبيّن ما حكم الدفع بعبارة خاصة بهذه المسألة لكنه يريد أن يبيّن أنه من حيث الأصل له أن يدفع الصائل واشترط المؤلف في دفع الصائل أن يبدأ بالأخف فالأخف , فلا يجوز له أن يدفعه بشيء مع قدرته على أن يدفعه بأخف منه والدليل على هذا أنّ دفع الصائل إنما جاز ضرورة والضرورة تقدر بقدرها فلا يجوز له أن يزيد عن ما يحصل به دفع الضرورة.
والدليل الثاني: أنّ الأصل في أموال وأنفس المسلم الحرمة والعصمة وإنما جاز لكونه صائلا فلا يستباح منها إلاّ ما يدفع صياله واستثنى الفقهاء من هذا الحكم العام وهو أنه لا بد أن يبدأ بالأخف فالأخف صورا.
فالصورة الأولى" إذا ظن أنه لن يدفع إلاّ بالقتل فله أن يبدأ به فإذا غلب على ظنه أنّ هذا الصائل لن يندفع بالأخف فالأخف بل لن يندفع إلاّ بالقتل فله أن يقتله.


الصورة الثانية" أن يخشى المعتدى عليه أن يبادر الصائل بقتله فله أيضا أن يبادر هو بقتل الصائل. والذي يظهر لي أنّ هذه الاستثناءات لا نحتاج إليها وإن كان جملة الفقهاء ذكروها والسبب في ذلك أنه عند التأمل في الأمور التي استثناها الفقهاء ستجد أنه ينطبق عليها أنه لا يمكن دفعه بالأخف فالأخف فإذا ينطبق عليها الشرط ولسنا بحاجة إلى استثناءها لكن الفقهاء - رحمهم الله - لما رأوها خارجة عن صورة الدفع بالأسهل فالأسهل جعلوها مستثناة وإلاّ هي عند التأمل لا تستثنى فمثلا الذي يخشى أن يبادر الصائل بقتله هل يستطيع أن يدفع بالأخف فالأخف لو دفع بالأخف فالأخف ذهبت نفسه فإذا هو لا يستطيع في الواقع وهكذا جميع الأمثلة التي ذكروها كمستثنيات من هذه القاعدة.
ثم يقول المؤلف - رحمه الله - (فإن لم يندفع إلاّ بالقتل فله ذلك ولا ضمان عليه)
إذا لم يمكن أن يندفع الصائل إلاّ بقتله فله أن يقتله ولا ضمان عليه ونفي الضمان يشمل القصاص والكفارة والدية , والسبب في نفي الضمان أنه فعل فعلا مأذونا له فيه شرعا وما أذن به الشارع فإنه لا يترتب عليه ضمان , وهذا صحيح بل سينتقل المؤلف إلى مرتبة أعلى
فيقول - رحمه الله - (فإن قتل فهو شهيد)
والدليل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -[من قتل دون ماله فهو شهيد] هذا الحديث في البخاري لكن الحديث المشهور من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون عرضه فهو شهيد ومن قتل دون نفسه فهو شهيد. خارج الصحيح إنما الذي في الصحيح المال فقط لكنه يدل على الدفع عن النفس وعن العرض وأنّ من قتل في سبيل الدفع عنهما فهو شهيد.
ثم - قال رحمه الله - (ويلزمه الدفع عن نفسه وحرمته دون ماله)


انتقل المؤلف إلى حكم دفع الصائل إذا صال على النفس أو المال أو العرض , نبدأ بالنفس إذا صال على النفس فاختلف الفقهاء في حكم دفعه على أقوال: القول الأول: وهو المذهب أنه إذا صال عليه في فتنة فإنه لا يدفع يعني لا يجب عليه وإن صال في غير فتنة فإنه يجب عليه أن يدفع واستدلوا على هذا التفصيل بالجمع بين الأدلة. فقالوا لا يجب الدفع حال الفتنة لأنّ عثمان - رضي الله عنه - منع عبيده أن يدفعوا ومنع أبناء الصحابة أن يدفعوا حتى قتل , ولو كان منعه محرم لأنكر عليه الصحابة فلما لم ينكروا علمنا أنّ الدفع ليس بواجب. الدليل الثاني: أمير المؤمنين عثمان اشتهرت عنه العبارة [من ألقى سيفه فهو حر] قال لعبيده من ألقى سيفه فهو حر يعني كالملزم لهم بعدم الدفع.
والدليل الثالث: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن خشيت أن يبهرك شعاع السيف فغطي رأسك. فدل الحديث على أنّ له أن يستسلم إذا هدده بالسلاح الصائل وأن يغطي رأسه حتى لا ينظر أثناء قتله وهو مبالغة في جواز ترك الدفع وأما الدليل على وجوب الدفع في غير الفتنة فقوله تعالى {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [البقرة/195] فإنّ ترك الدفع يؤدي إلى الهلاك.
والقول الثاني: أنّ الدفع واجب مطلقا واستدلوا بالآية السابقة.
والقول الثالث: أنّ الدفع واجب مطلقا إذا كان الصائل كافر ولا يجب مطلقا إذا كان الصائل مسلم واستدلوا بالأدلة الأولى للحنابلة
والراجح إن شاء الله مذهب الحنابلة ففيه الجمع بين النصوص.
المسألة الثانية / حكم الدفع إذا كان الصيال على العرض. إذا كان الصيال على العرض فجب الدفع بالإجماع وتعليل ذلك أنه ليس من سبيل شرعا لإباحة الأبضاع فليس للإنسان أن يبيح عرضه لأحد ولهذا وجب عليه أن يدفع فمسألة الدفع عن العرض أيضا واضحة وهي محل إجماع.
المسألة الثالثة والأخيرة: الدفع عن المال وفيه خلاف فذهب الجماهير من الفقهاء والأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد إلى أنّ الدفع عن المال سنة وليس بواجب واستدلوا على هذا بأنّ بذل المال مجانا جائز فترك الدفع عنه من باب أولى.


والقول الثاني: وهو للأحناف وجوب الدفع عن المال واستدلوا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - من قتل دون ماله فهو شهيد. وهذا اللفظ في البخاري كما تقدم معنا. واستدلوا أيضا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - قاتل من أراد أن يأخذ مالك. والراجح مذهب الجمهور والحديث الذي فيه من قتل دون ماله فهو شهيد. لا يدل على وجوب الدفع وإنما يدل على جوازه وأنّ صاحبه إذا قتل فهو شهيد فعرفنا الآن حكم الدفع في الأحوال الثلاثة إذا صال الإنسان على نفسه أو ماله أو عرضه.
قال - رحمه الله - (ومن دخل منزل رجل متلصصا فحكمه كذلك)
التلصص هو الدخول بغرض السرقة , ودفعه يكون كذلك يشير إلى أنه يجب أن يدفع بالأخف فالأخف , وهذا الحكم لا يختص بمن دخل الدار طلبا للسرقة بل يعم كل شخص دخل الدار بغير إذن ولو للفرجة ولو للتلقط الأخبار كل شخص دخل دار المسلم بغير إذنه فإنّ له أن يدفعه بالأخف فالأخف إلى أن يصل إلى القتل. فلو دخل الإنسان هكذا بيتك لا يريد شيء إنما يريد الإطلاع على البيت فلك أن تقول أخرج فإن لم يخرج فلك أن تخرجه باليد فإن حصل قتال وقتلته فهو هدر. لأنه معتد على حرمة المنزل فيدفع دفع الصائل الأخف فالأخف ولهذا لو أنّ المؤلف - رحمه الله - عمم العبارة فقال [ومن دخل الدار بغير إذن فكذلك] لكان أولى ليشمل جميع الصور.

باب قتال أهل البغي
قوله باب قتال أهل البغي.
البغي في لغة العرب / هو الظلم والعدوان.
وأما في الشرع فذكره المؤلف وسنقف مع تعريف المؤلف وهو يتكون من ثلاث جمل. والبغي والظلم محرم في جميع الشرائع.
والدليل على هذا الباب وهو قتال أهل البغي قوله تعالى {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي} [الحجرات/9] وجه الاستدلال عند الفقهاء أنّ الآية أجازت قتال كل من امتنع عن الحق فاستدلوا بها على قتال أهل البغي , وإلاّ اقتتال طائفتان من المسلمين ليس هو البغي المقصود في تعريف الفقهاء ولكن استدلوا به من حيث أنّ الله أجاز قتال الفئة الباغية بكونها خرجت عن الطاعة ولم تستجب للأوامر فكذلك الباغية وهي التي تخرج عن الإمام.
يقول الشيخ - رحمه الله - معرفا لأهل البغي من يكونوا أهل البغي.


يقول - رحمه الله - (اذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة على الإمام بتأويل سائغ فهم بغاة)
الفقهاء - رحمهم الله - يرون أنه لا يمكن أن نسمي الخارجين بغاة إلاّ إذا توفر فيهم ثلاثة شروط فإن تخلف أي شرط انتقلوا من كونهم من البغاة فأصبحوا قطاع طرق. نبدأ مع شروط المؤلف
يقول - رحمه الله - (اذا خرج قوم لهم شوكة ومنعة)
الشرط الأول" أن يخرجوا فإذا اجتمع نفر لهم شوكة ومنعة وعندهم شبهة لها تأويل سائغ لكنهم لم يخرجوا فقط اجتمعوا فإنهم ليسوا بغاة ويجب أن تعرف أنّ هناك فرقا كبيرا بين أن نحكم على مجموعة أنهم بغاة وبين أن نحكم عليهم قطاع طريق وسيأتينا أنّ لهذا الخلاف ثمرات في كيفية التعامل معهم كبيرة جدا فيجب أن نعرف متى نطلق على هذه المجموعة أنهم بغاة لنطبق عليهم الأحكام التي سيذكرها المؤلف إذا الشرط الأول الخروج.
الثاني: لهم شوكة ومنعة. فإذا اجتمعوا وخرجوا واعترضوا وأبدوا شبهه لكن لا شوكة لهم ولا منعة فلا يجوز للإمام أن يعاملهم معاملة البغاة لأنهم ليس لهم شوكة وقوة ومنعة وشيء يرجعون إليه في الدفاع عن أنفسهم.
الشرط الثالث: قوله شوكة ومنعة على الإمام بتأويل سائغ. يجب أن يكون سبب الخروج تأويل ويجب أن يكون التأويل سائغ فإن لم يكن لهم تأويل فهم قطاع طرق وإن كان لهم تأويل ليس بسائغ فهم أيضا قطاع طرق وسيأتينا الأدلة على هذه الشروط من آثار الصحابة لكن الذي يعنينا الآن أنه يشترط في الفئة الخارجة لكي تسمى بغاة أن توجد فيهم هذه الشروط الثلاثة. الخروج والقوة والتأويل.
مسألة/ الخارجون عن الإمام لا يخرجون عن ثلاث أصناف:
الصنف الأول: الذين يخرجون بقوة ومنعة بلا تأويل فهؤلاء قطاع طرق.
القسم الثاني: الخوارج وهم الذين يخرجون عن الإمام ويكفرون المسلمين ويستحلون دماءهم فهؤلاء خوارج.


القسم الثالث: قوم من أهل العدل لهم شبهه وتأويلات سائغة خرجوا على الإمام بشوكة وقوة فهؤلاء هم المقصودون بهذا الباب وهم البغاة. قال شيخ الإسلام [والفرق بين الخوارج والبغاة من وجهين: الوجه الأول: أنّ الخوارج يقاتلون ابتداء ويفرح بقتالهم فإنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب فرح واستبشر بأنه هو الذي تولى قتال الخوارج بحث النبي - صلى الله عليه وسلم - على قتلهم. بينما البغاة سيأتينا أنهم لا يبدأون بالقتال إلاّ بعد أحكام معينة.
الفرق الثاني" أنّ البغاة من المسلمين بالإجماع , بينما الخواج اختلف السلف والخلف في تكفيرهم فمنهم من رأى أنهم خرجوا عن الدين ومنهم من رأى أنهم من المسلمين وهذا فرق كبير بينهم وبين البغاة. فإنّ البغاة لم يختلفوا فيهم أهل العلم أنهم من المسلمين] ولهذا فإنّ الخلط بين البغاة والخوارج خطأ وإن كان البغاة والخوارج يجب أن يقاتلوا لكن يجب أن يعرف الإنسان الفرق بين البغاة والخوارج كما ذكرها الشيخ - رحمه الله -
قال - رحمه الله - (وعليه أن يراسلهم فيسألهم ما ينقمون منه فإن ذكروا مظلمة أزالها وإن ادعوا شبهة كشفها)
يجب على الإمام قبل أن يقاتل البغاة أن يسأل عن الشبهة التي أوجبت خروجهم والمظلمة التي يدعون ويجب عليه إذا بينت له أن يسعى في رفع الظلم وكشف الشبهة. والدليل على هذا أنّ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - راسل أهل البصرة مرارا وراسل الخوارج مرارا قبل أن يقاتلهم فدل هذا على وجوب المراسلة قبل البدء بالقتال.
والدليل الثاني: قوله تعالى {فأصلحوا بينهما} [الحجرات/9] فإنّ الإصلاح يستدعي المراسلة قبل البدء بالقتال وهذا صحيح لا يجوز للإمام أن يقاتلهم حتى يعرف الشبهة التي عندهم فإن أمكنه كشف الشبهة وبيان الحق واقتنعوا فبها ونعمت وإلاّ فإنه كما سيذكر المؤلف يقاتلهم.
قال - رحمه الله - (فإن فاءوا وإلاّ قاتلهم)


يعني فإن رجعوا بعد أن بيّن لهم وكشف المظالم وإلاّ قاتلهم وجوبا فإنّ الإمام إذا لم يقاتل الفئة الباغية فهو آثم لما يدخلونه على الناس من الشبهات وإخلال بالأمن فيجب عند الحنابلة على الإمام أن يقاتلهم واستدلوا على هذا بقوله تعالى {فقاتلوا التي تبغي} [الحجرات/9] فأمر بقتال الفئة الباغية إذا لم ترجع إلى الحق بعد أن بيّن لها الحق بنصوص الكتاب والسنة. المؤلف - رحمه الله - وعفا عنه ترك بعض المسائل المذكورة في الأصل وهي في الحقيقة من أهم مسائل الباب فترك ثمرة الحكم على قوم بأنهم بغاة يعني ما يترتب على هذا الحكم من فروع فقهية في الحقيقة تركه لهذا يعتبر من وجهة نظري نقص ظاهر ومخل بالباب لأنه يجب أن ترتب الأحكام بعد أن تعرف حقيقة البغاة.
فنقول إذا قاتل الإمام البغاة فإما أن يرجعوا ويتوبوا ويعرفوا الحق أثناء القتال أو يهزموا بأن يتمكن الإمام من هزيمتهم. فإذا حصل أي من الأمرين: ترتب على هذا ثلاثة أحكام:
الحكم الأول: أنه لا يجوز الإجهاز على جريحهم ولا إتباع مدبرهم. فلا يتبع المدبر ولا يجهز على الجريح. وإنما يتوقف القتال. والدليل على هذا أنّ أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - أمر أصحابه بذلك في معاركه مع الخوارج ومع أهل الشام.
الحكم الثاني: أنه لا يجوز للإمام أن يسبي نسائهم ولا أن يصطفي أموالهم وهذا الحكم أيضا مستفاد من سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - التي وافقه عليها الصحابة فإنه لما هزم أهل الشام في بعض المعارك لم يسبي نسائهم ولم يصطفي أموالهم وكانت هذه النقطة من النقاط التي اعترض فيها الخوارج على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقالوا إذا قاتلتهم أن تسبي نسائهم وأموالهم.
أو أن تكف عن قتالهم. فما استطاعت عقولهم أن تجمع بين القتال لتوحيد الأمر وبين الكف عنهم لأنهم إخوان لنا. ولكن أمير المؤمنين ومن معه من الصحابة استوعبوا هذا الحكم الشرعي فنهى علي بن أبي طالب أحدا من أفراد الجيش أن يسبي امرأة منهم أو أن يأخذ
مالا لهم بل إنه لما انتهت المعركة أمر بإرجاع الأعيان الموجودة إلى أصحابها من البغاة.


الحكم الثالث: أنّ ما أتلفه أهل العدل على أهل الظلم فإنه لا يضمن بالإجماع من الأموال والأنفس. وما كان باقيا بعينه لشخص معلوم فإنه يرد. ولهذا لما انتهت المعركة قال أمير المؤمنين علي لأهل الظلم الذين خرجوا عليه من وجد ماله فليأخذه وكان أحد أصحاب علي - رضي الله عنه - يطبخ في قدر لهذا الرجل فجاء ليأخذها , فقال لو تنتظر إلى أن ينضج الطعام فقط فضرب القدر وسكب ما فيه وأخذ القدر وذهب , وإنما كان ذلك بحزم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنّ كل من وجد ماله بعينه
فإنه يأخذه.
المسألة الثالثة: ما أفسده أهل البغي على المسلمين فهو لا يضمن على الصحيح. والدليل على هذا أنه لما وقعت الفتنة بين أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - - ورضي الله عنهم - لم ينقل قط أنّ أحدا من الذين دخلوا في القتال ضمن شيئا من المال أو من الدم
والقول الثاني: أنّ أهل الظلم يضمنون لأهل العدل ما أفسدوه عليهم ويضمنون الأنفس كذلك لأنهم ظالمون والأصل وجوب الضمان على من أتلف مال المسلم أو نفسه , والصحيح كما قلت إن شاء الله الأول لأنّ هذا مروي عن الصحابة فهذه الأحكام الثلاثة أو الأربعة هي التي أسقطها المؤلف وهي كما ترون هي ثمرة الحكم على قوم أنهم من البغاة أو من قطاع الطرق أو إلى آخره. تقدم معنا في قطاع الطرق أنهم يضمنون أو لا يضمنون؟ وإذا تابوا هل يضمنون؟ تقدم معنا أنّ ضمانهم دائما وأبدا ثابت. تابوا قبل القدرة أو لم يتوبوا قبل القدرة. وهذا فرق كبير بين قطاع الطرق وأهل البغي.

قال - رحمه الله - (وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو رياسة فهما ظالمتان وتضمن كل واحدة ما أتلفت على الأخرى)
إذا حصل قتال بين طائفتين ليس مع أحدهما الإمام وكان سبب القتال كما قال المؤلف عصبية أو رياسة فإنه لا تأتي معنا الأحكام السابقة من عدم الضمان من قبل الجهتين بل يجب الضمان على الجهتين وعلل الحنابلة هذا بأنّ هذا القتال لم يأذن فيه الشارع بل هو معصية وإذا كان الشارع لم يأذن به فإنّ الأصل فيمن أتلف مالا أو نفسا أن يضمنها ولهذا جعلوا الضمان عليهم وهذا صحيح إذا اقتتلت طائفتان.

باب حكم المرتد
قال - رحمه الله - باب حكم المرتد
الردة لغة / الرجوع.


وأما في الاصطلاح / فهو الإتيان بما يخرج عن الملة. وهذا تعريف الردة.
أما تعريف المرتد / فذكره المؤلف - رحمه الله - بقوله (وهو الذي يكفر بعد إسلامه)
المرتد هو الذي يكفر بعد إسلامه , والكفر قد يكون بالقول أو بالفعل أو بالاعتقاد أو بالشك. ولا يخرج عن هذه الأنواع.
فالقول بالكفر. بأن يسب الله أو يسب رسوله أو يسب الدين من حيث هو دينه.
وأما بالاعتقاد. فكأن يعتقد أنّ لله شريكا يدبر الكون معه.
وأما بالفعل. فكأن يسجد للصنم أو يهين القرآن إهانة لا تصدر عن مسلم.
وأما الشك فكأن يشك بخبر الله الذي جاء في القرآن أو أن يشك بكفر من أجمعت الأمة على كفره كالمشرك العابد للوثن واليهودي والنصراني. فهذه أجناس الكفر لا تخرج عنها وإنما تتعدد الأمثلة. المؤلف سيذكر جملة من الأمثلة هي تعتبر كالأصول في المكفرات.
يقول - رحمه الله - (فمن أشرك بالله)
يعني فهو مرتد والدليل على هذا أدلة كثيرة منها قوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء/116] وعدم المغفرة تكون مع الخروج عن دين المسلمين وما عداه فيغفر إما من الله أو بالتوبة. والشرك مناقض لأصل الدين الذي أرسلت من أجله الرسل ولهذا لا شك في كفر من أتى بخصلة من خصال الشرك الأكبر.
ثم - قال رحمه الله - (أو جحد ربوبيته)
إذا جحد أنّ الله هو الخالق البارئ المصور المدبر لهذا الكون فهو كافر , ودليل كفره أنه مكذب لما تواتر في كتاب الله وسنة رسوله وأجمع عليه المسلمون من أنّ الله سبحانه وتعالى هو الرب المدبر.
ثم - قال رحمه الله - (أو وحدانيته)
كلمة الوحدانية أحيانا نجد أنّ العلماء يطلقونها على الربوبية فيقولون الوحدانية التفرد بالربوبية , وأحيانا يطلقونها على الإلوهية وإن كان كأنه يعني يبدوا لي أنّ استعمالها في الربوبية أكثر منه في الإلوهية لكنهم يستعملونها في الإلوهية ولهذا نقول الوحدانية هي التفرد بالربوبية والإلوهية. فكأنه جمع بين الأول والثاني لأنّ الأول يتعلق بالإلوهية والثاني يتعلق بالربوبية.
ثم - قال رحمه الله - (أو صفة من صفاته)


إذا جحد وأنكر صفة من صفات الله فهو كافر لكن يشترط لهذا أن لا ينكرها بتأويل سائغ أو ينكرها ومثله يجهل هذه الصفة يعني بتأويل أو جهل يقبل من مثله إذا أنكرها بغير تأويل ولا جهل فهو كافر فإذا جاء شخص وقال الله سبحانه وتعالى ليس بصيرا ولا سميعا ولا يتكلم ولا ينزل وليس له يد ولا عين ولا قدم فإنكاره لهذه الصفة إن كان جهلا ومثله يجهل هذه الصفة فلا يكفر لحديث الذي أنكر صفة القدرة حين أمر أولاده أن يحرقوه ثم ينثروه في الريح.
وأما إن كان يعلم هذه الصفة ومثله لا يجهلها فإن كان بتأويل سائغ مقبول له وجه من اللغة فإنه لا يكفر وإلاّ فإنه يكفر وهذه الشروط تقلص ولا توسع التكفير بإنكار الصفات؟ يصعب أن تكفر بإنكار صفة لأنّ غالب الذين ينكرون الصفات عندهم تأويل سائغ إما من اللغة او من ظواهر النصوص فإن جاء أحد ينكر صفة بغير تأويل سائغ ففي الغالب ستجد أنّ فيه من المكفرات سوى إنكار الصفات شيء كثير مثل الصوفية الحلولية أو الملحدة أو المستهزئين بالكتاب الذين ينكرونه على صفة الاستهزاء فلا تجد إنسان لا يُكَفر إلاّ بمجرد إنكار الصفة إلاّ بنطاق ضيق جدا في الحقيقة.
ثم - قال رحمه الله - (أو اتخذ لله صاحبة أو ولدا)
إذا زعم أنّ الله اتخذ صاحبة أو ولدا فإنه يكفر لأنّ القرآن مليء بنفي الصاحبة والولد {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله} [المؤمنون/91] وإذا أثبت هو أنه لله ولد أو له صاحبة فإنه يكفر ولا نقول هنا بتأويل أو بغير تأويل لأنه لا يوجد تأويل سائغ في إثبات الولد لله ولا في إثبات الصاحبة. فبمجرد ما يعتقد أنّ لله ولدا فهو كافر أو له زوجة فهو كافر.
ثم - قال رحمه الله - (أو جحد بعض كتبه أو رسله)
إذا جحد بعض الكتب أو بعض كتاب أو جحد أحدا من الرسل فإنه يكفر , أولا لأنه مكذب لما جاء في الكتاب والسنة.
وثانيا: لقوله تعالى {أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض} [البقرة/85] فالكفر ببعض الحق كفر بكل الحق.
المكفر هذا والذي قبله لا يكاد يوجد بين المسلمين. لا زعم أنّ لله صاحبة ولا إنكار صفة بغير تأويل وبغير جهل.
ثم - قال رحمه الله - (أو سب الله أو رسوله فقد كفر)


سواء سبهما على سبيل الاستحلال أو ليس على سبيل الاستحلال، والسب في اللغة/هو التنقص والشتم.
وأما في الاصطلاح فالسب يرجع فيه إلى العرف فما اعتبر سبا فهو سب وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام - رحمه الله - وهو ضابط وتعريف متقن جدا لأنّ السب يختلف جدا باختلاف الأوقات والأعراف والأزمان فما اعتبر في عرف من الأعراف سبا فهو سب , وسب الله وسب رسوله من المكفرات بل هو أعظم وأشنع مكفر على الإطلاق , يعني المكفرات القولية , والدليل على كفر صاحبه مع ظهوره وجلائه من وجهين: الأول: أنه لا يسب الله سبحانه وتعالى أو رسوله إلاّ وقد خرج من قبله التعظيم الواجب. وإذا لم يعظم الله ولم يعظم رسوله فهو كافر.
الدليل الثاني: قوله تعالى {قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون} [التوبة/65] {لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [البقرة/190] وجه الاستدلال أنّ الآية دلت على كفر المستهزئ والساب أشنع منه بمراحل فمن سب الله أو سب رسوله نسأل الله السلامة والعافية فهو كافر خارج عن الملة.
قال - رحمه الله - (ومن جحد تحريم الزنا أو شيئا)
جحد المحرمات الظاهرة كفر والجحد هو الإنكار , والمحرمات الظاهرة هي المحرمات المعلومة من دين الإسلام بالضرورة سواء أنكر تحريم شيء محرم أو أنكر وجوب شيء واجب , ويلتحق بما علم من الدين بالضرورة كل ما أجمع عليه العلماء إجماعا عاما لا إجماعا خاصا فما أجمع عليه إجماعا عاما يعني معلوم للعامة فإنكاره كفر كتحريم الخمر ووجوب الصلاة والزكاة ووجوب بر الوالدين وتحريم الشرك هذه إجماعات عامة. أما الإجماعات الخاصة كتحريم جواز الجمع بين المرأة وعمتها أو المرأة وخالتها ونظائر هذه المسائل التي هي إجماعات خاصة يعلمها الفقهاء فإنكارها ليس بكفر لأنه يتصور ممن أنكرها الجهل.
يقول المؤلف - رحمه الله - (ومن جحد تحريم الزنا أو شيئا من المحرمات الظاهرة المجمع عليها بجهل عرف ذلك وإن كان مثله لا يجهله كفر)


إذن إذا أنكر شيئا من المحرمات الظاهرة إما أن يكون جاهلا فيعرف فإنّ أقر فذاك وإلاّ فهو كافر أو يكون عالما فيكفر مباشرة من دون تعريف وهذا صحيح إذا أنكر الإنسان شيئا معلوما من الدين بالضرورة فهو كفر لأنه تكذيب للكتاب وتكذيب للسنة فيعرف فإن رجع وإلاّ أتممنا عليه الكفر إلاّ إذا كان عالما فيكفر ابتداء بلا تعريف. ثم عقد المؤلف فصلا لبيان حكم المرتد. ... فصل
يقول المؤلف - رحمه الله - (فمن ارتد عن الإسلام وهو مكلف)
سيأتينا أنّ الحكم أنّ من ارتد عن الإسلام فهو كافر لكن اشترط المؤلف بعض الشروط. فيقول وهو مكلف فبيّن المؤلف أنّ غير المكلف ارتداده لا يعتبر فإذا ارتد فلا نقيم عليه الحد ولا نعتبره في أحكام الدنيا ولا في أحكام الآخرة مرتدا وهذا أمره واضح بالنسبة للصغير دون التمييز وبالنسبة للمجنون.
مسألة / داخل هذا الشرط المميز. المميز هل تعتبر ردته أو لا تعتبر؟ فيه خلاف بين الفقهاء.
القول الأول: أنها لا تعتبر ردته لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - رفع القلم عن ثلاثة. وإقامة حد الردة من جملة العقوبات وهي مرفوعة عن من لم يكلف.
القول الثاني: أنّ إسلامه معتبر وردته معتبرة , فإن ارتد قتل واستدل هؤلاء بأنّ علي - رضي الله عنه - والزبير بن العوام - رضي الله عنه - اسلموا ولهم ثمان سنين. عقول كبيرة في الحقيقة طفل عمره ثمان سنوات دين جديد في قريش مع الأهوال الموجودة في أول البعثة يسلم عقل كبير بمعنى الكلمة لا ينتهي عجب الإنسان من طفل يكون بهذا التفكير والمستوى ولهذا لم يسلم إلاّ طفلان علي والزبير لأنه بعض الكبار ما أسلموا إللي عقولهم كبيرة ما أسلموا فكيف. دليل على انه - رضي الله عنهم - لهم عقول راجحة فاستدل الحنابلة وهو وجه عند الحنابلة أنه إذا دلت النصوص على اعتبار إسلامه فنعتبر ردته فنصحح الإسلام والردة.
والقول الثالث: أنّ إسلامه صحيح وردته لا تعتبر , جمعا بين النصوص وهذا القول اختاره ابن مفلح ومال إليه ابن قدامة ولا شك أنه أقوى الأقوال المذكورة وهو إن شاء الله الراجح.


تنبيه!! وعلى جميع الأقوال إذا ارتد المميز فإنه لا يقتل ولو اعتبرنا ردته صحيحة وإنما ينتظر به إلى أن يكلف وننتظره بعد التكليف لمدة ثلاثة أيام على المذهب ثم إذا لم يرجع أقيم عليه حد الردة وهذا بلا خلاف واستدلوا على هذا بأنّ الصبي ليس من أهل العقوبات فلا نقيم عليه الحد إلاّ بعد أن يبلغ.
ثم - قال رحمه الله - (مختارا)
يشترط للردة أن يأتي بهذه الردة قولا أو عملا أو اعتقادا مختارا فإن كان مكرها فإنه لا يكفر لقوله تعالى {إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان} [النحل/106] ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عفي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه. وهذا محل إجماع أنه إذا أكره على الكفر فإنه لا يكفر.
ثم - قال رحمه الله - (رجل أو امرأة)
إذا ارتد الرجل فحكمه إذا استوفى الشروط القتل بالإجماع , وإذا ارتدت المرأة ففيها خلاف. فالمذهب وهو مذهب الجماهير أنّها تقتل لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من بدل دينه فاقتلوه. ولأن امرأة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ارتدت فقتلها.
والحديث الأول في الصحيح والحديث الثاني ضعيف.
القول الثاني: أنّ المرأة إذا ارتدت فإنها تسبى وتكون أمة واستدلوا على هذا بأنّ أمير المؤمنين أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - لما ارتدت بنو حنيفة وقاتلهم سبى النساء وعاملهم معاملة الإماء. وأهدى علي - رضي الله عنه - إحدى نساء بنو حنيفة وهي أم محمد بن الحنفية , وجه الاستدلال أنّ الصحابة أقرّوه على هذا العمل ولم ينقل إنكار فهو إجماع من الصحابة على طريقة ابن قدامة.


القول الثالث: أنها تحبس أبدا حتى تسلم أو تتوب وتضرب لترجع واستدل هؤلاء بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن قتل النساء فقال ولا تقتل امرأة. والجواب أنّ هذا الحديث في الكافرة الأصلية أما المرتدة فليست كذلك والراجح المذهب لكن لم أجد جوابا عن عمل أبي بكر الصديق , الراجح المذهب لعموم الأدلة ووضوحها ليس في ذهني ولم أجد جوابا كيف يخرج أهل العلم صنيع أبي بكر الصديق , ربما تحتاج مراجعة أكثر المهم أنا لم أجد وليس في ذهني بعد التأمل ما يجاب به عن مثل هذا العمل إلاّ أن يقال هناك فرق بين الردة الجماعية والردة الفردية ولكن هذا لم أرى أحدا أشار إليه وإلاّ لو قيل هناك فرق بين الردة الجماعية والفردية لكان وجيه لأنه كما سيأتينا حصلت ردة كثيرة في زمن الصحابة في زمن عمر وعثمان ما نقل أنه سبيت النساء إلاّ أنّ الردة التي حصلت في زمن الصحابة هي من قبل الرجال على كل حال الراجح المذهب ولكن نلتمس لاحقا الجواب عن أثر أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -
ثم - قال رحمه الله - (دعي إليه ثلاثة أيام)
يشترط قبل قتل المرتد أن يدعى إلى الدين لمدة ثلاثة أيام , والدليل على هذا أنّ رجلا قدم إلى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وسأله كعادته عمر - رضي الله عنه - عن أخبار القوم الذين جاء منهم فقال حصل وحصل وارتد رجل وقتلناه , فقال عمر بن الخطاب أفلا حبستموه وأطعمتموه كل يوم رغيفا ثلاثة أيام ثم قتلتموه اللهم إني لم أشهد ولم أحضر ولم أرضى فدل هذا الأثر أنّ عمر - رضي الله عنه - يرى أنّ صنيعهم منكر وأنه كان يجب عليهم وجوبا الانتظار.
الدليل الثاني: روي نحوه عن علي - رضي الله عنه - وفيه ضعف.
الدليل الثالث: روي نحوه عن عثمان.
الدليل الرابع: روي في الحديث المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال ينتظر بالمرتد ثلاثة أيام وهذا الحديث معلول بالإرسال فقط مرسل وأنتم تعرفون أنّ المراسيل ليست في الضعف كغيرها وأنها تصلح للاستئناس والاحتجاج متى احتفت بفتاوى وقد احتفت الآن بفتاوى عمر - رضي الله عنه - وغيره من الصحابة.


القول الثاني: أنه يستحب ولا يجب الانتظار ثلاثة أيام فلولي الأمر أن يقتله بمجرد ما يرتد واستدلوا على هذا بأنّ أبا موسى الأشعري - رضي الله عنه - لما ذهب إلى اليمن أرسل له النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذ فلما قدم ودخل المجلس ثنى له أبو موسى الوسادة فرأى رجلا مربوطا فقال ما بال هذا قال إنه ارتد قال لا أجلس حتى يقتل فلم يجلس حتى قطعت رقبته فقالوا في هذا الحديث أنه لم ينتظر به لمدة ثلاثة أيام وإنما قتل في المجلس.
والجواب على هذا الحديث. أولا أنّ سنة عمر المؤيدة بفتاوى غيره من الصحابة وبالحديث المرسل أولى من فتوى معاذ وفتوى أبي موسى الأشعري.
ثانيا: أنه يحتمل وليس احتمالا بعيدا أنّ هذا المرتد بقي عند أبي موسى الأشعري لمدة ثلاثة أيام.
الدليل الثاني لأصحاب القول الثاني: عموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - من بدل دينه فاقتلوه. ولم يقل استتيبوه ثلاثة أيام. والراجح الأول إن شاء الله لأنّ القاعدة عند الفقهاء تقول لأن يخطئ الوالي بترك العقوبة خير من أن يخطئ بظلم المعاقب. لا نقول ينتظر ثلاثة أيام لاسيما مع هذا الأثر الصحيح الصريح من أمير المؤمنين عمر - رضي الله عنه -
ثم - قال رحمه الله - (وضييق عليه)
يعني أنه يجب في أثناء الثلاثة أيام أن يضييق عليه إما في المكان أو المطعم أو في المشرب أو في الجميع لقول عمر - رضي الله عنه - أطعمتموه كل يوم رغيفا. فهذا دليل على أنه يجب أن يضييق عليه ولا ينتظر بالمرتد لمدة ثلاثة أيام ويوضع في المكان المريح وإنما يوضع في مكان يحصل عليه فيه ضيق ليراجع نفسه.
ثم - قال رحمه الله - (فإن لم يسلم قتل)
لعموم النصوص السابقة لقوله - صلى الله عليه وسلم - من بدل دينه فاقتلوه ولقتل معاذ ولقتل الصحابة الذين نقلوا إلى عمر فإنّ عمر لم ينكر القتل وإنما أنكر عدم الانتظار ثلاثة أيام فقتل المرتد يشبه أن يكون متواتر.
ثم - قال رحمه الله - (بالسيف)


يعني أنه يجب أن يقتل بالسيف لا بغيره لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من بدل دينه فاقتلوه ولا تعذبوه بعذاب الله. وفسروا العلماء جميعا عذاب الله النار. ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنّ الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة والقتل بالسيف من الإحسان فلا يجوز أن يقتل إلاّ بالسيف.
ثم - قال رحمه الله - (ولا تقبل توبة من سب الله ..... ألخ)
بدأ المؤلف ببيان من لا تقبل منهم التوبة فإذا ارتد فلا نقبل منه الرجوع ومقصود المؤلف بقوله لا تقبل منه التوبة يعني في أحكام الدنيا، أما في أحكام الآخرة فإن صدقت توبته فهي مقبولة بالإجماع إنما نحن نتحدث عن أحكام الدنيا أما في بينه وبين الله فهي مقبولة وهذا بلا خلاف.

قال - رحمه الله - (من سب الله)
من سب الله ثم قال تبت فإناّ نقول التوبة غير مقبولة لأنّ الذنب الذي اقترفته عظيم يدل على أنّ فيك من الخبث والفساد ما لا يتصور الرجوع عنه فلا نقبل منه ونقتله ولو زعم أنه تاب توبة نصوح.
القول الثاني: أنّ من سب الله تقبل توبته ويقبل منه ويرفع عنه الحد أولا لعموم النصوص الدالة على قبول توبة التائب.
الثاني: أنّ الذين استهزءوا بالله وبرسوله قبلت توبة بعضهم لقوله تعالى {إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة} [التوبة/66] وقوله إن نعف عن طائفة منكم هذا العفو بالتوبة لأنّ الكافر لا يعفى عنه والمسلم لا يعفى عنه بالكبائر إلاّ بالتوبة فدل على قبول توبته.
الدليل الثاني: أنه جاء في بعض النصوص أنّ فريقا من الذين استهزءوا قبل منهم النبي - صلى الله عليه وسلم - التوبة لكن لم يظهر لي صحة هذا الأثر وهي مروية ذكرها الحنابلة لكن يغلب على ظني أنها ليست بصحيحة يعني أنه لم يثبت أنه رضي النبي - صلى الله عليه وسلم - وقبل توبة أحد من الذين استهزءوا لكن هو مروي أنه قبل والآية واضحة في تقوية هذا الأثر لكنه من حيث الإسناد لا أظن أنه يصح يحتاج إلى مراجعة لم أرجع إسناده لكن لا أظنه يصح. والراجح أنّ التوبة مقبولة.
قال - رحمه الله - (أو رسوله)


لا تقبل توبة من سب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفس الدليل السابق أنّ توبة الرسول وهو سيد الخلق ونبي الله دليل على أنه فسد قلبه بما لا يصلح بعده أضف إلى هذا أنّ في سب الرسول حقا للرسول ولا نعلم هل صفح عنه أو لا.
والقول الثاني: أنّ ساب الرسول - صلى الله عليه وسلم - تقبل توبته ويرفع عنه الحد.
والقول الثالث: أنّ ساب الرسول - صلى الله عليه وسلم - تقبل توبته ويعتبر من المسلمين يرث ويورث ويغسل ويكفن ويدفن مع المسلمين إلاّ أنه مع ذلك يقتل لحق رسول - صلى الله عليه وسلم - لأنه سب الرسول ولا نعلم هل صفح عنه الرسول أو لا فصارت الأقوال ثلاثة , أنها لا تقبل توبته مطلقا. أنها تقبل مطلقا. أنها تقبل لكن مع ذلك يقتل. هذا القول الثالث نصره شيخ الإسلام بأدلة كثيرة جدا متنوعة بطرق مختلفة في الصارم المسلول حتى قال البعلي وهو اختصر الصارم المسلول كما تعلمون في الكتاب اختصره وقال أتى بأنواع وأصناف من الأدلة لا يمكن للمنصف إذا رآها إلاّ أن يقرّ بصحتها وهو كذلك استدل بأدلة كثيرة - رحمه الله - وأثبت أنه سب الرسول فلا مناص من قتله لكن إن تاب قبلت توبته ودفن مع المسلمين وإن لم يتب قتل ردة وصار مع الكافرين.

ثم - قال رحمه الله - (ولا من تكررت ردته)
من تكررت ردته ولو لمرة واحدة كما هو ظاهر كلام المؤلف أنها لا تقبل توبته لقوله تعالى {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا} [النساء/137] فقالوا الآية حكمت عليه بالمرة الثانية أنه لن تقبل توبته.
القول الثاني: أنه إذا ارتد مرة تقبل وإذا ارتد الثانية لم تقبل واستدل هؤلاء بالآية واستدلوا أيضا بأنّ ابن مسعود - رضي الله عنه - أوتي برجل ارتد فعفا عنه فلما أوتي به المرة الثانية مع جماعة عفا عمن معه وقتله وقال قد جئت قبل هذه مرة. لكن هذا الأثر عن ابن مسعود فيه ضعف.


القول الثالث: أنّ من تكررت ردته فإنه تقبل توبته لكن ينبغي بالنسبة لمن تكررت ردته أن يستقسي الإمام وأن يعاقبه عقوبة بليغة حتى يتبيّن له أنه تائب وليس متلاعب لكنه إذا تبيّن أنه تاب فإنه يقبل منه لاسيما إذا كانت الردة سببها الشهوة وليست الشبهة فإنّ من ردته بسبب الشهوة قد تتكرر لكن يتوب توبة نصوح ,أما من كانت ردته بسبب الشبهة فهذا الذي ينبغي أن يتثبت في حاله الإمام
ثم - قال رحمه الله - (بل يقتل بكل حال)
هذه ثمرة عدم قبول التوبة أنّ مصيره القتل بكل حال مهما أظهر من الرجوع والتوبة.
قال - رحمه الله - (وتوبة المرتد وكل كافر إسلامه بأن يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدا رسول الله)
توبة كل مرتد مهما كان نوع الردة إسلامه ثم بيّن بماذا يكون الإسلام فقال بأن يشهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدا رسول الله. الدليل على هذا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأنّ محمدا رسول الله ومفهوم كلام المؤلف أنه إذا ارتد ثم شهد أن لا إله إلاّ الله وأنّ محمدا رسول الله فإنه لا ينبغي الكشف عن حقيقة سبب الردة وهل رجع عنها وهل تاب وأقلع وإنما نكتفي منه بالتوبة فإذا أشرك صار يسجد للأصنام ثم تاب فإنّا نقبل منه ولا نقول هل ترى الآن أنّ السجود للصنم شرك أو لا وإنما نقبل منه ونكل باطنه إلى الله. ثم لما بيّن المؤلف - رحمه الله - أنّ التوبة تقبل بمجرد الشهادتين أراد أن ينبه إلى مسألة وهي قسم من المرتدين لا تقبل توبتهم بمجرد الشهادتين.
يقول - رحمه الله - (ومن كان كفره بجحد فرض ونحوه)
إذا جحد فرض بأن قال الصلاة ليست بواجبة أو الحج ليس بواجب أو جحد نحو الفرض كأن يجحد أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رسالته عامة للثقلين فهذا له توبة خاصة.
يقول فيها - رحمه الله - (فتوبته مع الشهادتين إقراره بالمجحود به)


توبة الجاحد لا تحصل إلاّ بأن يأتي بأمرين: الشهادتين وأن يقر بالذي جحد لأنه إذا لم يقر بالمجحود فإناّ لا نعلم هل رجع عنه أو لم يرجع ولهذا يجب أن يشهد ويجب أن ينطق ويقول رجعت عن جحد وجوب كذا وكذا وأنا أرى الآن أنه واجب أو رجعت عن تحريم كذا وكذا وأنا أرى الآن أنه محرم تصريحا ولا نكتفي منه أنه يقول تبت وأشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمدا رسول الله بل يجب مع الشهادتين أن يقر بما جحد أو بطريقة أخرى.
قال - رحمه الله - (أو قوله: أنا بريء من كل دين يخالف الإسلام)
يعني مع الشهادتين فالشهادتان ثابتتان لكن إما أن يقر بالمجحود أو يقول أنا بريء من كل دين يخالف دين الإسلام إلى هذا ذهب الحنابلة.
والقول الثاني أنّ الجاحد لا تقبل توبته إلاّ بالشهادتين وأن يقر ولا تقبل توبته بمجرد أن يقول أنا بريء من كل دين يخالف دين الإسلام.
والقول الثالث: أنه إن كان كفره بإنكار أصل من أصول الإسلام ظاهر فإنه يكتفى من أن يقول أنا بريء من دين يخالف دين الإسلام وإلاّ فإنه يجب أن يقر بما جحد وإلى هذا القول مال الشيخ العلامة ابن قدامة وعلل هذا بأنه يوجد من المبتدعة من الذين يكفرون ببدعتهم من يرى أنّ الإسلام هو الملة التي هو عليها فلا ينفعه أن يقول أنا بريء من كل دين يخالف دين الإسلام لأنّ دين الإسلام عنده هو ما هو عليه ولا شك أنّ هذا التنبيه من ابن قدامة جيد وأنا ما نقبل من المنكر إذا كان لم ينكر شيئا ظاهرا من الإسلام إلاّ إذا أقر واعترف بما جحده من دين الإسلام وغالب الكفر بالجحود غالبا يكون من القسم الثاني وهو إنكار شيء غير معلوم من الدين بالضرورة ولهذا الأقرب والأحسن أن يقال أنّ الكافر جحودا لا يقبل منه إلاّ بالشهادتين وأن يقر بما جحد مطلقا فنقول أقرّ بما جحدت واشهد الشهادتين ويكون هذا مقبولا منك.