شرح زاد المستقنع للخليل

كتاب القضاء
الدرس (1) من القضاء

قال - رحمه الله - كتاب القضاء.
القضاء في اللغة إحكام الأمر وإنفاذه. فيطلق على الإحكام ويطلق الإنفاذ كل على حدة.
وأما في الشرع / القضاء هو تبيّين الحكم الشرعي والإلزام به وفصل الخصومات. والتعريف لخص الحقيقة عمل القاضي.
ثم - قال رحمه الله - (وهو فرض كفاية)
القضاء مشروع بالكتاب والسنة والإجماع. من حيث الأصل
أما الكتاب فقوله تعالى. {فاحكم بينهم بما أنزل الله} [المائدة/49]
وأما السنة فقوله - صلى الله عليه وسلم - إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران , وإذا أخطأ فله أجر.
وأما الإجماع فقد حكاه عدد من أهل العلم أنه مشروع من حيث الأصل. والمؤلف يقول أنه فرض كفاية يعني إذا قام به من يكفي سقط الإثم عن الباقين وإلاّ أثموا جميعا. واستدلوا على كونه فرض كفاية بأمور:


الأمر الأول: أنه لو لم يوجد القضاء لأدى ذلك إلى ضياع الحقوق ووقوع الظلم وهذا محرم.
الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نصب القضاء وأرسلهم.
والقول الثاني: أنه سنة وليس بفرض.
والقول الثالث: أنّ المستحب تركه فرق بين فرض الكفاية والمستحب والترك. واستدل الذين قالوا أنه مستحب تركه. أما الذين قالوا أنه سنة فاستدلوا بأدلة الذين قالوا أنه فرض كفاية. وأما الذين قالوا أنه سنة فقالوا ليخلص نفسه من تبعات تولية القضاء ولئلا يعرض نفسه للفتنة في الدين أو في الدنيا. والراجح الأول أنه فرض كفاية.
ثم - قال رحمه الله - (يلزم الإمام أن ينصب في كل إقليم قاضيا)
الحكم الأول: لحكم تولي القضاء. الحكم الثاني " جعل الإمام قاضيا. الإمام يجب عليه وجوبا أن ينصب قاضيا والدليل على هذا وجوه: الوجه الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل عليا قاضيا وأرسل معاذا قاضيا. وعمر أرسل شريحا قاضيا في الكوفة ومازال النبي - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه ينصبون القضاة.
الثاني: القياس على وجوب الجهاد والخراج ودفع الجباه إرسال الجباه ونحوها من أعمال ولي الأمر الواجبة عليه.
الأمر الثالث: أنّ تولي القضاء فرض كفاية فيجب على ولي الأمر أن يسد هذا الفرض ولا شك أبدا طرفة عين أنه يجب على الولي أن ينصب القضاة وهذا أمر تتفق عليه جميع الشرائع والعقول والأنظمة والقوانين. ولذلك لا تجد بلدا من البلدان إلاّ وفيه قضاة مهما كانت شريعة البلد ودينهم لأنّ أمر الناس لا يستقيم إلاّ بهذا.
ثم - قال رحمه الله - (ويختار أفضل من يجده علما وورعا)


يجب على ولي الأمر إذا أراد أن يختار القاضي أن يراعي هذين الأمرين. الورع والعلم لأنّ العلم يعينه على تحقيق الصواب والورع يحجزه في الوقوع عن في المحرم , والدليل على الوجوب أنه إذا كان تعيين القاضي واجب فهذا مما يحقق المطلوب من تعيين القاضي وهو إقامة العدل ولا شك أنّ هذا واجب وينبغي عليه أن يحرص على البحث عن العالم الورع فإن عرفه بنفسه فذاك وإلاّ سأل والسؤال حينئذ أيضا واجب لأنه يحقق الوجوب الأول.
ثم - قال رحمه الله - (ويأمره بتقوى الله وأن يتحرى العدل ويجتهد في إقامته)
يجب على ولي الأمر أن يأمر القاضي بأمرين الأول: أن يتقي الله. والثاني: أن يتحرى العدل. والدليل على الوجوب أنّ الغرض من القاضي إيصال الحق إلى أصحابه ولا يكون إلاّ بذلك ولا يكون إلاّ بأن يتقي الله ثم يتحرى العدل. وفي الحقيقة التقوى تثمر أن يتحرى. يعني لو كان تقيا فإنه سيتحرى العدل وإنما نص عليه وأكد عليه لأهميته في باب القضاء.
ثم - قال رحمه الله - (فيقول وليتك الحكم أو قلدتك ونحوه)
لا يكون القاضي قاضيا إلاّ بتولية ولي الأمر وتولية القاضي لها ألفاظ صريحة وألفاظ كناية. المؤلف ذكر الألفاظ الصريحة فاللفظ الصريح أن يقول ولي الأمر للقاضي وليتك ولا تنعقد الولاية إلاّ إذا قال القاضي قبلت. فإذا قال قبلت فقد أصبح واليا إما ولاية عامة أو خاصة حسب الولاية التي ولاه إياها الحاكم.
القسم الثاني: الألفاظ غير الصريحة الكناية. من أمثلتها أن يقول اعتمدت عليك , أو أن يقول عولت عليك. حكم هذه الألفاظ أنه لا يكون بها وليا ولا حاكما إلاّ إذا دلت القرينة. وإلاّ فهو ليس بقاضي والتعليل أنّ هذه الألفاظ تحتمل أن يريد تعيينه قاضيا وتحتمل أن يريد استشارته في قضية معينة فقط ولهذا نقول يجب أن توجد هناك قرينة تدل على إرادة توليته القضاء.
ثم - قال رحمه الله - (ويكاتبه في البعد)
مراد المؤلف بهذا أنّ التوليه كما تحصل باللفظ للقريب تحصل بالكتابة للبعيد وأنّ الكتابة مجزئة ويحصل بها التولية ولو لم يشافهه بها والدليل على هذا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل كتابا مع عمرو بن حزم.


والدليل الثاني: أنّ عمر لما ولى شريحا أرسل بالكتاب ليقرأ على الناس في المسجد.
والدليل الثالث: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مازال يرسل الكتب لتبليغ الرسالة ولا يشترط في كل ذلك المشافهة.
مسألة هل يشترط أن يشهد؟ فيه خلاف من الفقهاء من قال لابد أن يشهد وأن يجعل شاهدين على هذا الكتاب يذهبان يشهدان أنّ هذا الكتاب صحيح وهو من الحاكم.
القول الثاني: أنه يشترط إلاّ أن يستفاض الأمر فإن استفاض فنكتفي بالاستفاضة.
القول الثالث: أنه لا يشترط مطلقا لأنّا لا نعلم أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل الشهود مع كتبه والأقرب الأخير.
ثم - قال رحمه الله - (وتفيد ولاية الحكم العامة)
المؤلف يريد أن يبيّن أنه إذا ثبتت للقاضي ولاية عامة فإنها تفيد الصلاحيات المذكورة وهي العشر هذا إذا ثبتت الولاية العامة.
والقول الثاني: أنّ ما يستفاد بالولاية ليس له حد شرعي بل يرجع في معرفته إلى الأعراف وما جرت العادة به فقد تكون أكثر من هذه العشر وقد تكون أقل من هذه العشر. وهذا القول الثاني اختيار شيخ الإسلام - رحمه الله - وهو الصحيح إن شاء الله.
قال - رحمه الله - (الفصل بين الخصوم)
الولاية العامة أول ما تفيد من الصلاحيات الفصل بين الخصوم وتعليل ذلك أنّ القاضي إنما وضع لهذا الغرض ولهذا بدأ به المؤلف. والفصل بين الخصوم يثمر الصلاحية الثانية وهي
قوله - رحمه الله - (وأخذ الحق لبعضهم من بعض) لأنّ ثمرة الفصل بين الخصوم هي أخذ الحق من بعضهم لبعض.
ثم - قال رحمه الله - (والنظر في أموال غير المرشدين)
يعني النظر في نحو صغير أو يتيم أو مجنون أو معتوه وسبب وجوب ذلك على القاضي من وجهين:
الوجه الأول: إما أن لا يوجد ولي على هؤلاء فهذا يؤدي إلى ضياع أموالهم.
الثاني: أن يوجد ولي على هؤلاء من قبل الحاكم أو من قبل الحاكم السابق فإذا لم يلاحظ هذا القاضي عمل الوالي أدى هذا إلى أن يجترئ على سرقة أموالهم فإذا عليه أن يراعي أموال اليتامى سواء كان يوجد والي عليهم أو لا يوجد والي عليهم وسواء كان هو المنصب لهذا الوالي أو المنصب القاضي السابق له.
ثم - قال رحمه الله - والحجر على من يستوجبه لسفه أو فلس)


يعني ويجب على القاضي ومن صلاحياته أن يحجر على من يستحق الحجر سواء كان لفلس أو لسفه وتعليل هذا من وجهين:
الأول: حرصا على نفع المحجور عليه لئلا يتصرف تصرفا يضر بنفسه لاسيما السفيه.
الثاني: حرصا على عدم وقوع الضرر على المتعاملين مع السفيه أو المفلس.
ثم - قال رحمه الله - (والنظر في وقوف عمله ليعمل بشرطها)
معنا قوله في وقوف عمله يعني المنطقة التي يعمل فيها والقاضي يجب أن ينظر في أوقاف العمل ولو كان عليها ناظرا يعني وجود الناظر لا يعفي القاضي من التحقق من جريان الوقف حسب الشرط لئلا تضيع حقوق الموقوف عليهم أو حقوق الواقف من حيث ترتب الأجر على الوقف.
ثم - قال رحمه الله - (وتنفيذ الوصايا)
لأنّ حاجة الميت إلى ذلك قد أعظم من حاجة الحي في الأعمال السابقة لأنّ الميت لا يوجد من يقوم له بتنفذ وصيته وهذا في الحقيقة من
أوجب واجبات القاضي لأنّه دائما ما يقوم الورثة لاسيما إذا كانوا قليلي الدين بتضييع الوصية لأنها تنقص المال عليهم.
ثم - قال رحمه الله - (وتزويج من لا ولي لها)
إذا كانت المرأة لا ولي لها فإنّ القاضي يجب عليه أن يزوجها لإعفافها والقيام على مصالحها وذلك لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - فان اشتجروا فالسلطان ولي من ولي له.
ثم - قال رحمه الله - (وإقامة الحدود)
إقامة الحدود تقدم معنا بكتاب الحدود أنّ المنوط بإقامة الحدود هو الحاكم أو الوالي فإذا قلنا لا يقيم الحدود إلاّ الحاكم والحاكم صار ليس من مهامه إقامة الحدود صار الأمر ضائعا بين هؤلاء وهؤلاء ولم تقم الحدود ولهذا نقول الواجب على القاضي أن يقيم الحدود لأنه المنوط به هذا العمل.
ثم - قال رحمه الله - (وإمامة الجمعة والعيد)
لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كان هو والخلفاء الراشدين - رضي الله عنهم - يقيمون الجمع والأعياد والمقصود بإقامة الجمعة والعيد أن يكون إماما فيها وأشار الفقهاء إلى أنّ هذا من عمل القاضي ما لم ينيب غيره فإذا أناب غيره صار هذا المناب هو الذي يقوم بالإمامة في العيد والجمعة والإنابة هي عمل المسلمين من قرون متطاولة.
ثم - قال رحمه الله - (والنظر في مصالح عمله)


لكف الأذى عن الطرقات وأفنيتها ونحوه. النظر في مصالح المسلمين ومثل عليه بكف الأذى عن الطرقات وكف الأذى عن الأفنية والأفنية هي الأماكن الواسعة أمام الدور لأنّ مصالح الناس تتعلق بهذه الأفنية التي هي أمام الدور ومن المعلوم أنّ هذا انتقل اليوم من القضاة إلى البلديات ومن هنا تعلم أنّ صلاحيات القاضي كانت واسعة جدا والمقصود بالقاضي يعني القاضي الذي له ولاية عامة فالقاضي الذي له ولاية عامة في القديم كان واسع الصلاحيات جدا بشكل كبير به يناط تقريبا جميع الأعمال الشرعية لكن اليوم مع كثرة أصبح لا يمكن أن يناط بالقاضي إلاّ فصل الخصومات وفصل الخصومات أيضا أعمال كثيرة لا يتمكن للقاضي من إنهائها في وقت وجيز ولهذا ناسب جدا إخراج بعض الصلاحيات وإسنادها إلى مرافق أخرى ليتم العمل الوجه المطلوب.
ثم - قال رحمه الله - (ويجوز أن يولى في عموم العمل)
لما بيّن الشيخ الولاية العامة أراد أن يبيّن أنه يجوز أن يولى ولاية خاصة أو بعض ولاية وأنه لا يلزم أن يولى ولاية بل له أن يوليه ولاية خاصة فقال ويجوز أن يولى عموم النظر في العمل وهذا هو الولاية العامة التي تقدمت وذلك بأن يوليه سائر الأحكام في كل البلدان وهذا لأظنه وقع إلاّ اللهم أن يريد مثلا قضية قاضي القضاة وهو أنه مسئول عن جميع القضاة في البلدان أما من حيث مباشرة العمل لا يمكن أن يتولى جميع الأعمال في كل البلدان إلاّ بالإنابة.
ثم - قال رحمه الله - (وأن يولى خاصا فيهما)
كأن يوليه النظر في الحدود في بلد معين فإذا ولاه النظر في الحدود فقط دون الأنكحة والبيوع فقد ولاه ولاية خاصة ثم إما أن يوليه الحدود في كل البلدان فقد ولاه ولاية خاصة في مكان عام أو يوليه الحدود في بلد معين فيكون ولاه عملا خاصا في بلد خاص ولهذا.
قال المؤلف - رحمه الله - (أو في أحدهما)


يعني إما أن يكون عموم النظر في عموم العمل , أو عموم النظر في خصوص العمل. أو خصوص النظر في عموم العمل. وهذا كله وقع في القديم وأما في الحديث فالعمل على توليته عموم النظر في خصوص العمل فكل إنسان مسئول عن القضايا جميعا ولكن في بلد معين إلاّ أنه يبدوا جرى العرف أنه كثير من القضاة يتخصص مثلا في شيء معين فقاضي من القضاة تحال إليه قضايا المعاملات وقاضي من القضاة تحال إليه قضايا الحدود وقاضي آخر قضايا الأحوال الشخصية لإتقانه مثلا لهذا التخصص.
قال - رحمه الله - (يشترط في القاضي عشر صفات)
يعني أنه لا يجوز أن يولى القاضي إلاّ إذا اتصف بهذه العشر صفات. وإلاّ فإنها لا تنعقد له الولاية فهي شروط صحة وأشار شيخ الإسلام - رحمه الله - إلى أنّ هذه الشروط شروط في القاضي العام لا فيما يحكم تحكيما خاصا بين شخصين وإن كان ظاهر عبارات الفقهاء أنّ هذه الشروط شروط في الحاكم العام وفي المحكم تحكيما خاصا.
قال - رحمه الله - (بالغا عاقلا)
كونه بالغا عاقلا مسلما ولو جعل الشيخ المؤلف الإسلام بعد البلوغ والعقل لكان هو المناسب هذه الشروط محل إجماع وذلك لأمرين: الأول: أنّ شروط في العدالة ومنصب القضاء أرفع من العدالة. الثاني: أنّ غير المسلم لا يؤتمن وغير العاقل لا يفهم.
مسألة / نحن نقول يشترط أن يكون بالغا عاقلا أليس كذلك؟ فإذا كان عاقلا جاز أن يولى القضاء قال بعض الفقهاء وهذا ليس على إطلاقه بل المشترط قدر خاص من العقل وهو ما يوجب الفطنة والتنبه. وهذا القول الذي يقول أنّ المشترط ليس مجرد العقل بل قدر زائد يفيد الفطنة والتنبه صحيح وهو أنه يشترط فيه أن يكون ذا فطنة وليس الشرط أن يكون ذكيا بقدر مرتفع لكن الشرط أن لا يكون مغفلا أوساذجا وهذا الذي أشار إليه بعضهم وجيه في الحقيقة.
ثم - قال رحمه الله - (ذكرا)
يشترط أن يكون من يتولى القضاء ذكرا والدليل على هذا من وجوه:
الوجه الأول: حكي إجماعا. فقد حكي الإجماع على هذا الشرط.
الثاني: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. وسواء كان خبر أو دعاء.


القول الثاني: أنه يجوز أن تولى المرأة مطلقا وإلى هذا ذهب اثنان فقط ابن حزم وابن جرير. أما ابن جرير فقد ذهب بعض الفقهاء إلى أنّ هذا لا يثبت عنه وممن ذكر ذلك وجزم به ابن العربي وهو عالم محقق ومال إليه أيضا الشيخ العلامة الشنقيطي أنّ مثل هذا القول لا يثبت عن ابن جرير ولا يتصور من مثله مخالفة النص , أما ابن حزم فهو ثابت عنه واستدل ابن حزم بأمرين: الأول: أنّ الأصل الحل فيجوز أن تولى. الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول والمرأة راعية في بيت زوجها وهي مسئولة عن رعيتها قال ابن حزم فأفاد الحديث أنّ من أهل الولايات فهي والية في بيتها.
القول الثالث: أنه يجوز في غير الحدود وهو هذا القول منسوب إلى الأحناف إلاّ أنّ كثيرا من الأحناف أنكر أن يكون هذا مذهبا لهم وقالوا مقصود الأحناف بهذا أنّ المرأة إذا وليت فإنّ أحكامها تنفذ وإن كان المولي لها آثم ولهذا نجد في بعض كتب الأحناف حكاية الإجماع على عدم جواز تولية المرأة وفي الحقيقة الجزم بأنّ هذا مذهب الأحناف أوليس بمذهب للأحناف والصواب أنهم يقصدون نفوذ الأحكام وإلاّ إن ولاها فهو آثم الجزم بتحديد القولين غير واضح وكتب الأحناف فيها التصريح بهذا والتصريح بهذا. ولكن حكاية هذا الخلاف تنبئك عن أنّ هذا القول الثالث ضعيف بل في ثبوته ضعف يوجد تشكيك في ثبوته من قبل بعض الأحناف أنفسهم والراجح القول الأول بل محكي إجماعا والنص دل عليه. والله أعلم - وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين -


الدرس: (2) من القضاء

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
مازال الحديث في الصفات التي تشترط في القاضي وتوقفنا على شرط أن يكون حرا. ذهب الجماهير إلى اشتراط حرية القاضي وأنه لا يصح تنصيب العبد قاضيا واستدلوا على هذا بأمور:
الأمر الأول: أنه حكي إجماعا الثاني: أنّ العبد لا يقبل في بعض المواضع كشاهد فلئلا يقبل كقاضي كم باب أولى
الأمر الثالث: أنه مشغول بخدمة سيده فكيف يجلس للناس قاضيا.
والقول الثاني: أنّ الحرية ليست بشرط لأنه ليس في النصوص ما يدل على اشتراطها فلو نصب الإمام قاضيا ليس حرا صح ونفذت أحكامه وإلى هذا ذهب بعض محققي الحنابلة واختاره شيخ الإسلام وهو صحيح إن شاء الله إذ لا يوجد ما يمنع أبدا أن يكون العبد قاضيا مادام أعلم وأفقه وأعرف بالأحكام.
ثم - قال رحمه الله - (مسلما)
وتقدم معنا الكلام عن اشتراط الإسلام عند الكلام عن الشرط الأول والثاني في قوله بالغا عاقلا.
ثم - قال رحمه الله - (عدلا)
يشترط أن يكون القاضي عدل لقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} [الحجرات/1] وإذا اشترطنا التبيّن في كلام القاضي صار القاضي غير مقبول الأحكام لأنّ كلامه غير مقبول وهذا لا يصح ولا يجوز هذا هو الدليل الأول.
الدليل الثاني: أنّ العدالة شرط في الشاهد فكيف بالقاضي ولا شك أنه يشترط أن يكون عدلا وأنّ الفاسق لا تصح توليته.
ثم - قال رحمه الله - (سميعا بصيرا متكلما)
يشترط أن يتمتع القاضي بحواسه السمع والبصر والكلام لأنه إذا لم يكن يسمع فكيف يفهم الدعوى ثم يفهم الحجج بعد ذلك فإنه لم يفهم الدعوى ولا الحجج لأنه لا يسمع يشترط أن يكون بصيرا ليفرق بين المدعي والمدعى عليه.
ويشترط أن يكون متكلما ليتمكن من بيان الحكم إذ كيف يتصور بيان الحكم للخصوم وهو لا يتكلم.
والقول الثاني: أنه يشترط سميعا متكلما ولا يشترط أن يكون بصيرا لأنّ الأعمى يتمكن من معرفة الشهود إما بسمعه وتفريقه أو بتعريفه كما يعرف الأدلة إذا كانت بغير اللغة العربية فكذلك يعرف الخصوم بقول من حضر عنده من الثقات هذا فلان وهذا فلان واستقر الأمر على رجحان القول الثاني ومازال قضاة المسلمين منهم الأعمى ومنهم البصير وقد يكون الأعمى أفقه وأقدر في إيصال الحق أحيانا إلى مستحقه لكون سمعه مرهفا يعرف الحجج ولحن القول وهذا هو الراجح.
ثم - قال رحمه الله - (مجتهدا)


يشترط أن يكون القاضي مجتهدا ومقصود المؤلف بقوله مجتهدا يعني الاجتهاد المطلق وحكي الإجماع على أن يكون القاضي مجتهدا واستدلوا على هذا بقوله تعالى {فاحكم بينهم بما أنزل الله} [ص/26] وقوله تعالى {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [النساء/59] والرد إلى غير المجتهد لا فائدة فيه لأنه لن يتمكن من التفقه في النصوص فعلى هذا القول يشترط أن يكون مجتهدا اجتهادا مطلقا وهو الذي يتمكن من استنباط الأحكام من النصوص مباشرة والنظر فيها واستكمال آلة ذلك.
ثم - قال رحمه الله - (ولو في مذهبه)
قوله ولو في مذهبه المؤلف خالف المذهب لأنّ المذهب يجوزن أن يكون القاضي أن يكون مجتهدا في مذهبه بشرط الضرورة فلا بد أن يقيّد بأنه ضرورة والمجتهد في المذهب هو الذي يعرف أصول الإمام ومتقدم قوله ومتأخره ويتمكن من الترجيح بين الأقوال من هذا عرفنا أنّ الاجتهاد ينقسم إلى أقسام: ذكر المؤلف بعضها. فالقسم الأول: المجتهد المطلق وهو ما تقدم معنا الذي لا يتقيد بأصول إمام من الأئمة بل يتفقه في نصوص الكتاب والسنة مباشرة.
الثاني: مجتهد المذهب وهو من يتفقه في نصوص الكتاب والسنة لكن على أصول إمامه.
القسم الثالث: مجتهد المذهب ويسمى أيضا وهو من يعرف أقوال الإمام المتقدم والمتأخر ويستطيع أن يخرّج أقوال الإمام ويستطيع يرجح بين الأوجه داخل المذهب.


القسم الأخير: هو المقلد فالمقلد هو من يأخذ أقوال إمامه بلا استدلال والمطلع على تقسيمات العلماء للمجتهدين يعرف أنّ هذه التقسيمات متداخلة وأنه لا يوجد حد فاصل بين المجتهد المطلق وبين مجتهد المذهب ويضيف بعضهم مجتهد الباب كالذي يجتهد في الفرائض فقط أو في الحدود فقط وبعضهم يقول مجتهد المسألة وهو من يتمكن من الاجتهاد في مسألة واحدة هذه الأقسام تتداخل مع عدا المجتهد المطلق فهو قسم مستقل واضح المعالم لا يكاد يوجد إلاّ في الرجل بعد الرجل في القرن بعد القرن أما المجتهد داخل المذهب والمجتهد المجزئ فيوجد في كل الأعصار. عرفنا الآن أنه يشترط في الأصل إما أن يكون مجتهدا ويجوز أن يكون مجتهد مذهب لكن عند الضرورة يعني إذا لم يوجد سواه. نبّه شيخ الإسلام إلى مسألة وهي أنه في هذه الشروط وفي اشتراط الاجتهاد ينبغي أن يأخذ الأمثل فالأمثل من الموجود بل إنّ المرداوي في الإنصاف يقول استقر الأمر على تقليد أو تنصيب من يقلد من أزمنة ولو اشترطنا الاجتهاد لأنغلق باب القضاء فمن فترة طويلة وكثير من القضاء يعتبرون من قسم التقليد لعدم وجود المجتهد المطلق أو مجتهد المذهب والخلاصة أنّ اشتراط الاجتهاد إلاّ أنه ينبغي أن يأخذ الأمثل فالأمثل من الموجود من أهل العلم في حال تطلّب الإمام أحدا للقضاء وأنه على هذا أي أخذ الأمثل فالأمثل والتجاوز عن بعض الشروط عليه العمل من قرون كثيرة ولو وقفنا مع هذه الشروط لا تكاد تجد قاضيا يصلح للتنصيب.
ثم - قال رحمه الله - (وإذا حكم اثنان بينهما رجلا ... الخ)


أفادنا المؤلف أنه يجوز للإنسان مع خصمه أن يحتكم إلى من يرون الاحتكام إليه ولو لم يكن هذا الرجل منّصباً من الإمام فيجوز أن يحتكم الخصوم إلى رجل لم ينصّبه الإمام واستدلوا على هذا بأنّ أبا الحكم أو من كان يكنى بأبي الحكم جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكم هو الله فلما سميت أبا الحكم فقال إنّ قومي كانوا إذا اختلفوا جاءوا إليّ فقضيت بينهم فرضوا بما قضيت فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أحسن هذا فأقرّ أن يحكم رجل لم ينصب من قبل الإمام بين الناس كما أنّ عمر بن الخطاب وعثمان وعلي كلهم احتكموا إلى غير القاضي فدل النص والأثر عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على جواز الاحتكام لغير القاضي المنّصب.
ثم - قال رحمه الله - (يصلح للقضاء)
أفادنا المؤلف أنّ هذا الرجل المنصّب يجب أن يصلح للقضاء ومن يصلح للقضاء هو من توفرت فيه الشروط العشرة السابقة فلا يصلح أن نجعل حكما بين خصمين إلاّ وهو مستوفي الشروط السابقة.
والقول الثاني: أنّ الحكم المنّصب من قبل شخصين لا يشترط أن يستوفي هذه الشروط بل هذه الشروط خاصة فيمن يوليه الإمام فقط
وهذا القول الثاني هو الراجح وعليه العمل وإذا كنا نقول القاضي نفسه العمل من قرون على عدم استيفاء الشروط فكيف بالمحكم.
ثم - قال رحمه الله - (نفذ حكمه في المال)
إذا حكم خصمان رجلا بينهما فإنّ حكمه نافذ كنفوذ القاضي المحكم وليس لغيره من القضاة حتى الرسميين أن ينقض أحكامه إلاّ في ما يجوز نقض الحكم فيه لأنه حكم أو قاضي شرعي أجاز الشرع تنصيبه ويستثنى من هذا ما إذا رجع الخصوم قبل أن يبّت بالحكم حينئذ لهم أن يرجعوا أما إذا ذكر وبيّن الحكم فإنّ الحكم حينئذ يصبح ملزما للطرفين.


والقول الثاني: أنّ الحكم حكمه يرجع إلى رضا الخصمين فإن حكم ورضوا صار ملزما وإن لم يرضوا انتقلوا إلى من نصبه الإمام والراجح القول الأول لأنّ هذا حكما دل الشرع على اعتباره ومن هنا نقول ينبغي للرجل إذا حكّم أن يتجاوز هذه المسألة الخلافية وأن يشترط على الخصمين أن يقبلا بقوله وأن يوقعا على القبول بقوله. لأمرين: الأول: خروجا من هذه المسألة الخلافية حتى يصبح حكمه لازما لهما. الثاني" حتى لا يصبح هذا المجلس الذي عقد للقضاء مجلس عبث أنهم يجلسون ويحتكمون ويتناقشون ثم يصدر المحكّم حكمه ثم تجد أنّ المحكوم عليه لا يرضى فتكون المسألة عبث وضياع للوقت للخصمين والمحكم فينبغي عليه أن يراعي إلزامهما لهذين الأمرين.
ثم - قال رحمه الله - (والحدود واللعان وغيرها)
أي أنه حكمه نافذ في جميع الأشياء واستدلوا بالعمومات فإنّ النصوص الدالة على تجويز تحكيم غير الحكم المنّصب عامة ليس فيها تخصيص موضوع دون موضوع من القضايا.
والقول الثاني: أنه لا ينفذ إلاّ في الأموال لأنّ الحدود والأنكحة وغيرها أمور حساسة وفتح الباب فيها لغير القاضي الرسمي يؤدي نوعا ما إلى التلاعب والتساهل والراجح إن شاء الله أنّ له أن يحكم بالأموال والأنكحة والمقصود بالأنكحة توابع الأنكحة كالطلاق والخلع والرجعة وليس له أن يحكم في القصاص والحدود ونحوها وبهذا تجتمع إن شاء الله الأدلة.

باب آداب القاضي
قوله باب آداب القاضي. المقصود بآداب القاضي يعني أخلاقه التي ينبغي أن يكون عليها والخلق هو صورة النفس الداخلية لأنّ الإنسان له صورة خارجية وداخلية فالصورة الداخلية هي الأخلاق. لأنك تجد الإنسان جميل الشكل حسن الهندام ثم لا تكاد تعامله معاملة خلطة وصحبة أو معاملة مالية إلاّ وتجد عنده من سوء الخلق وعسر التعامل ما لا يخطر على بالك وهذه الآداب منها آداب واجبة ومنها آداب مستحبة وسيأتي التنبيه على كل واحد منها.
يقول - رحمه الله - (ينبغي أن يكون قويا من غير عنف ليّنا من غير ضعف)


ينبغي أن يجمع بين القوة وعدم العنف لأنه إذا كان عنيفا امتنع صاحب الحق الضعيف , وإذا كان ليّنا اجترأ المبطل القوي فعليه أن يتوازن بين هذين الخلقين ليتمكن الضعيف من أخذ حقه ويرتدع الغشيم القوي من الاعتداء سواء الاعتداء في مجلس القضاء أو الاعتداء على خصمه.
والقول الثاني: أنّ هذا واجب وليس بسنة فيجب عليه أن يتوازن بين الرفق والعنف لأنّ الإخلال بهذين الخلقين يؤدي إلى الإخلال بإيصال العدل إلى مستحقه وإيصال العدل إلى مستحقه واجب فما يخل به محرم وهذا القول وجيه جدا. للعنف يناسب ولا الضعف يناسب بل عليه أن يتوسط بينهما.
ثم - قال رحمه الله - (حليما ذا أناة وفطنة)
ذكر ثلاثة أوصاف أن يكون متأنيا حليما فطنا , فشرط الحلم سببه أنه إذا كان القاضي لا حلم عنده يستطيع أي من الخصمين استفزازه بأي كلمة صار سريع الغضب وإذا غضب أصبح لا يتمكن من تصور القضية على الوجه المطلوب فصار الحلم مهما للحكم الصحيح. ذا أناة: يعني يجب أن يكون متأنيا لأنّ الطيش والسرعة والعجلة مظنة الخطأ في كل شيء لاسيما في باب الأحكام والقضاء وهذا خلق ضروري جدا هو أهم من الحلم الاستعجال يمنع من التصور الكامل. ذا فطنة: ينبغي أن يكون القاضي ذا فطنة لئلا يتمكن الخصم من خداعه وغتره وذهب بعض الفقهاء ومنهم المرداوي إلى أنّ البليد الغبي لا يجوز أن يعيّن قاضيا لأنّ ذهاب الفطنة منه مدعاة لضياع الحقوق وتقدم معنا نظير هذا في شروط القاضي حين الكلام عن شرط العقل وأنّ بعض الفقهاء يقول ليس مجرد العقل وإنما ما هو أكثر من هذا فهذا الكلام يلتقي مع هذا الخلق من أخلاق القاضي وهو أن يكون فطنا وهذا صحيح ومن المعلوم لكل إنسان أنه إذا قيل أن يكون فطنا لا يعني هذا أن يكون من أذكى الناس ولكن يعني أن لا يوصف بالبلادة فإذا وصف بها من خلال التجربة فإنه لا يجوز أن يعيّن قاضيا.
ثم - قال رحمه الله - (وليكن مجلسه في وسط البلد)


يستحب أن يكون مجلس القاضي في وسط البلد سواء اتخذ مكانا خاصا للقضاء أو كان يقضي في بيته لأنّ وجود المجلس في وسط البلد يؤدي إلى سهولة الوصول إلى مجلس القضاء وسهولة رفع القضايا. وهذا قد يكون في زمن الأزمان مهم ولكن الآن الأمر يختلف وسهولة الوصول إلى مجلس القضاء تحقق أينما كان القاضي اليوم لو أردنا نشترط شرطا آخر أو نقول ينبغي تحقيق أمر آخر وهو أن لا تكون المحكمة في مكان فيه زحام هذا الذي يعيق وصول الإنسان إلى مراده من المحكمة لا بعد ولا قرب وإنما مكان الزحام فينبغي أن تكون المحكمة ليست بجوار أي دائرة حكومية ليسهل على الإنسان الوصول إليها هذا هو الذي يعني اليوم ينبغي أن يكون من الآداب.
ثم - قال رحمه الله - (فسيحا)
لأنّ المجلس الضيّق يؤذي القاضي والخصوم وربما استعجل القاضي أو استعجل الخصوم بالخلاص من هذا الضيق مما يؤدي إلى الإخلال بالقضية من حيث الحجج والبراهين وأيضا من حيث تصور القضية والحكم فينبغي أن يكون فسيحا رحبا سهل الجلوس لا يتأذى من فيه
ثم - قال رحمه الله - (ويعدل بين الخصمين في لحظه ولفظه)
هذا الخلق واجب فإن تركه فهو آثم والدليل على وجوبه من وجهين: الأول" أنّ هذا محل إجماع فإنهم أجمعوا أنه يجب أن يعدل في لحظه وفي لفظه يعني في نظره إلى الخصوم وفي طريقة الكلام معهم.
الدليل الثاني: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال من ولي أمر القضاء للمسلمين فليعدل بينهم في لحظه ولفظه. وهذا الحديث إسناده كما قال البيهقي ضعيف لكن معناه لا شك في صحته والنصوص العامة تشهد له.


الدليل الثالث: أنه لو لم يعدل لأدى هذا إلى انكسار الضعيف الذي جار عليه القاضي وعدم القيام بحجته وهذا يؤدي إلى ضياع الحقوق وهذا مما اتفق عليه المسلمون أنّ القاضي يجب أن يكون عادلا في لفظه ولحظه فلو فرضنا أنّ بعض القضاة إذا تكلم أحد الخصمين توجه إليه بوجهه واستقبله وأرعاه سمعه واستعاد الألفاظ منه ليفهمها وإذا تكلم الخصم الآخر صار ينظر في الأوراق أو يلتفت إلى النافذة فلا شك أنه وقع في محرم وأنه آثم ويحتاج إلى التوبة كذلك طريقة الكلام فكونه إذا تكلم مع أحدهما تكلم برفق وعناية وابتعد عن النهر والتشديد واختيار الألفاظ وإذا تكلم مع الآخر زجره واستعجله وأمره أن يلقي بحججه فورا مما يربك الخصم فأيضا لا شك أنه وقع في محظور يعني يجب أن يتوب منه يستثنى من هذا إذا كان أحد الخصمين لجوجا ليس بمؤدب فلا حرج على القاضي أن يغلظ عليه القول وأن يؤدبه لأنّ هذا الإغلاظ ليس بسبيل الحكومة أو المسألة المعروضة وإنما للتأديب فلا شك وأحيانا ينبغي ويتحتم على القاضي أن لا يدع أحد الخصمين لجوجا غضوبا يعتدي على القاضي تارة وعلى الخصم الآخر في مجلس الحكم تارة ويطلق من الألفاظ ما لا يحسب له حسابه ينبغي أن يضبط مجلس الحكم.
ثم - قال رحمه الله - (ومجلسه , ودخولهما عليه)
أيضا يجب عليه أن يسوي بينهما في مجلسه وفي دخولهما عليه ولو قال في دخولهما عليه وفي مجلسه لكان أولى بالتضليل فإنهم يدخلون ثم يجلسون ففي دخولهم لا يقدم أحدا على أحد فلا يأمر بدخول فلان قبل فلان بل يدخلون عليه جملة واحدة فإن كان الباب لا يكفي لأثنين فإنه لا يأمر أحدا بالدخول فإن تقدم أحدهما فتقدمه ليس بأمر القاضي فلا حرج عليه.
الأمر الثاني: أن يجلسهما أمامه متساويين فلا يفضل أحدهما على الآخر وهذا القدر أيضا مجمع عليه إلاّ في مسألة واحدة إذا كان أحد الخصمين كافرا فإنّ الحنابلة يرون أنه يجوز أن يقدم في الدخول وأن يفضل في الجلوس لأنه لا يستوي المسلم والكافر ولأنه لا يمكن أن نسوي بين من أطاع الله وبين من عصى الله.


والقول الثاني: أنه يجب أن يسوي بينهما ولو كان أحدهما كافرا لأنّ الشأن الآن تحقيق العدل ولا يكون إلاّ بذلك فإنّ هذا المجلس مجلس الحكم وليس مجلس تفضيل وهذا القول الثاني يؤيده ظواهر الآثار فإنّ الصحابة احتكموا إلى أهل الذمة في وقائع عديدة ولم ينقل أنّ أحدا من القضاء فضل أحدا منهم على الكافر وهذا القول هو الراجح.
ثم - قال رحمه الله - (وينبغي أن يحضر مجلسه فقهاء المذاهب ويشاورهم فيما أشكل عليه)
قال الإمام أحمد ما أحسن أن يفعل القاضي هذا اشتمل كلام المؤلف على أمرين:
الأمر الأول: أن يحضرهم مجلسه , والأمر الثاني" أن يشاورهم. نبدأ بالمشاورة. المشاورة حكي الإجماع على استحبابها ومستند الإجماع أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - شاور في وقائع عديدة شاور في أحد وشاور في بدر وشاور في حجة الوداع وشاور الرجال وشاور النساء وشاور أبو بكر - رضي الله عنه - وشاور عمر - رضي الله عنه - في ميراث الجدة وعمر شاور في جلد شارب الخمر وشاور في وقائع عديدة فهذه النصوص تدل بمجموعها مع الإجماع على أنه لا شك أنه يستحب أن يشاور.
مسألة الثانية / أن يحضرهم المجلس استدل الحنابلة على هذا بأنّ قاضي المدينة كان يجلس القاسم عن يمينه وسالم عن يساره يعني يحضر الفقهاء بجواره , وكان قاضي الكوفة يحضر اثنين من سادة التابعين أحدهم عن يمينه وأحدهم عن يساره.
الدليل الثاني: أنّ وجود المشاور في مجلس الحكم يؤدي إلى أمرين: الأول: التسريع في البّت في القضية.
الثاني: أنّ المشاور يكون ملما بالقضية سامعا من الخصوم مما يجعل كلامه أتقن لأنه سمع.
والقول الثاني: أنه لا ينبغي إحضارهم عند القاضي لأنّ هذا يشعر لاسيما عند العوام بنقص علمه ولأنّ هذا يربك القاضي والخصوم ولأنهم قد يعترضوا على حكمه. أي القولين أرجح؟ يظهر لي أنا أنه يستحب إحضارهم لأمرين:
الأول: الآثار عن التابعين وهؤلاء ناس لهم عقول ينبغي عدم تخطيها إلاّ بتأني.


الثاني: اليوم أثبتت التجارب أنّ في بعض التجارب في المحاكم اللي يكون من شأن الحكم فيها أن يكون جماعيا بعد المشاورة كما يحصل في بعض الأنظمة أنّ هذا صار سببا في إتقان الحقيقة الحكم والتسريع. بل يكاد القاضي إذا مال إلى قول ثم أيدّه جميع أهل المشورة هل سيتوقف في هذا لن يتوقف طرفة عين وإذا خالفوه كلهم عن قول واحد فسيرجع في الغالب إلى قولهم والمحاذير المذكورة تفاديها سهل جدا بأن تضبط في مجلس الحكم بأن يكون القاضي يتقدم إلى من سيشاورهم بأنه وظيفتهم المشاورة لا الاعتراض وأنّ المداولات تكون سرية وضبط هذه القضية سهل جدا.
ثم - قال رحمه الله - (ويحرم القضاء وهو غضبان)
لا يجوز للقاضي وهو آثم إذا حكم وهو غضبان لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقضي الحاكم بين اثنين وهو غضبان. وهذا الحديث في الصحيحين ولا إشكال في صحته.
الأمر الثاني: أنّ الغضب يحول بين وبين تصور الكلام العادي فضلا عن الحجج والبراهين

والمؤلف يقول - رحمه الله - (وهو غضبان كثيرا)
أفادنا المؤلف أنّ الغضب اليسير لا بأس معه أن يحكم وهذا صحيح لأنّ الغضب اليسير لا يمنع القاضي من أن يتأمل في القضية وأن يتأنى ثم إنّ المداولات أثناء الجلسة يصعب معها أن نشترط على القاضي أن لا يغضب ولا غضب يسير هذا قد يكون فيه صعوبة مع الأخذ والعطاء وتناقل الحجج والاعتراض على القاضي قد يكون اشتراط أن لا يغضب ولا غضبا يسيرا هذا صعب ولهذا نقول هي عبارة جيدة من المؤلف والغضب اليسير لا يمنع القضاء.
ثم - قال رحمه الله - (أو حاقن)
الحاقن هو المحصور بالبول والحاقن هو المحصور بالغائط وإنما ذكر الحاقن لأنه أعظم تشويشا على الذهن فإنّ الحاقن لا يكاد يتصور ما يسمع مطلقا حتى يقضي حاجته وهو من أعظم ما يتأذى به الإنسان ولهذا تعرفون أنّ الفضيل بن عياض أصابه الحصر حتى صار إلى مرحلة عظيمة جدا من الألم وكان لا يطلب الله سبحانه وتعالى إلاّ أمر الآخرة - رحمه الله - ولكنه وصل إلى مرحلة جدا حرجة فقال اللهم بحبي إليك أطلقه. قال فثار كأن لم يكن به شيء - رحمه الله - فدعا لما وصل إلى هذه المرحلة مما ينبئك أنّّ انحصار البول ألمه شديد ويمنع تماما التصور.


ثم - قال رحمه الله - (أو في شدة جوع)
إذا كان القاضي جائع فإنه لا يجوز أن يحكم لكن يشترط أن يكون في شدة جوع , أما الجوع الطبيعي الذي لا يمنعه من التصور ولا يشتت ذهنه فله أن يحكم وهو جائع والحكم وهو جائع لا ينبغي لكن إذا كان في شدة جوع صار محرما وأمره واضح وإذا جاع يأكل قبل أن يحكم والأمر سهل. بخلاف الغضب لأنّه لا نستطيع أن نقول لأنّ بعض الناس لا يتمكن من تهدئة غضبه أليس كذلك؟ ربما يجلس ساعة غضبان ويجلس ساعة ونصف غضبان ولا يستمع لأي كلام لكن الجائع نقول كُلْ وتنتهي المشكلة.
ثم - قال رحمه الله - (أو عطش)
مقصود المؤلف في كل القادم يعني في شدة عطش , شدة همّ , شدة ملل , ولا يقصد أنه مجرد العطش اليسير والملل اليسير والهم اليسير فقوله العطش إذا كان عطشان فإنه لاشك أنه لن يتصور كلام الخصوم فيجب أن ينهي هذا العطش والظمأ بأن يشرب.
(أو همّ) إذا حمل هما بأي سبب من الأسباب بسبب دنيوي أو بسبب أخروي يعني بعض الناس يشيل هم لأنه لا يجد من ينفق على أولاده أو لا يجد من ينفق على نفسه وبعض الناس يشيل هم أو يحمل الهم لكثرة ذنوبه وعدم قيامه بحقوق الله على الوجه الكامل فسواء كان حمل الهم بسبب الأول الدنيوي , أو الأخروي فإنه يحرم عليه أن يحكم بهذا الشرط أن يكون شدة هم.
ثم - قال رحمه الله - (أو ملل أو كسل)
إذا كان في شدة ملل وشدة كسل , فإنه أيضا لا يجوز له أن يحكم لأنّ الملل والكسل ينعكس على نشاط الذهن مما يمنع صاحبه أيضا من تصور القضية وعدم الاستعجال وغالبا من عمل أي عمل مع ملل أو كسل فإنّ طبيعة العمل تكون باستعجال وعدم إتقان لأنه يريد أن ينتهي منها بأي طريقة لأنه ملّ في القضاء لا يجوز هذا لأنه لا يتعلق العمل بك شخصيا وإنما يتعلق بالخصوم.
ثم - قال رحمه الله - (أو نعاس)
إذا كان في شدة نعاس فإنه لا يحكم لأنه لن يتصور ما يقول فيذهب ويستريح ثم يستأنف بعد ذلك الحكم.
ثم - قال رحمه الله - (أو برد مؤلم أو حر مزعج)


هنا لا نقول أو شدة برد مؤلم أو شدة حر مزعج لا فقط مجرد البرد المؤلم والحر المزعج , إذا كان البرد مؤلما والحر مزعجا فإنه لا يحكم لأنه انشغل بالبرودة وانشغل بالحرارة بما لا يتمكن معه من الحكم على الوجه المطلوب , هذه المسائل الست مقيسة على الغضب وإنما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الغضب لأنه الأكثر وقوعا والأكثر ضررا في مجريات القضية فنص عليه وأخذ الفقهاء منه ما عداه
قال - رحمه الله - (وإن خالف فأصاب الحق نفذ)
وإن خالف ما سبق من تحريم الحكم حال الغضب والجوع والألم والهم إلى آخره. فإنّ حكمه ينفذ بشرط أن يصيب. والدليل على هذا أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما حكم بين الأنصاري والزبير بن العوام - رضي الله عنهم - قال الراوي فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال اسقي يا زبير حتى يبلغ الماء الجدر ثم دعه فالنبي - صلى الله عليه وسلم - غضب قطعا لأنّ الصحابي نقل أنه غضب
ولأنّ الأنصاري استثاره بقوله أن كان ابن عمتك يا رسول الله فدل هذا على أنّ القضاء حال الغضب ينفذ والجواب على هذا الحديث من وجهين: الوجه الأول: أنّ القاضي إذا غضب بعد أن بان له وجه القضية فإنه يجوز أن يحكم. لأنّ هذا الغضب لا يؤثر في القضية فإنّ القضية اتضحت له وهذا ما كان مع النبي - صلى الله عليه وسلم -.
الجواب الثاني: أنّ هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه إذا حكم فإنه لا يقر على الخطأ ولو كان حكم وهو غضبان - صلى الله عليه وسلم - والجواب الصحيح الأول.


الدليل الثاني: أنه وإن حكم مخالفا للسنة إلاّ أنه أصاب الحق فدل هذا على نفوذه إذ ليس المقصود من الحكومة والقضاء إلاّ إصابة الحق. والقول الثاني: أنه لا ينفذ لأنه حكم في حال منهي فيها عن الحكم والنهي يقتضي الفساد. والقول بأنّ القاضي يجب عليه أن يعيد الحكم إذا حكم وهو غضبان هو الصحيح وعلمنا الجواب عن أثر أو حديث الزبير أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما حكم بعد أن تبيّنت له القضية ولهذا نقول إذا غضب القاضي من حين بدأت القضية واستثير من قبل أحد الخصوم وغضب فإنه يجب عليه وجوبا أن يؤجل إصدار الحكم إلى مجلس آخر بعد أن يعيد النظر في القضية والأدلة , وإذا استثير من قبل أحد الخصوم بعد أن تمكن من القضية وفهمها في آخر المجلس فإنه لا حرج عليه أن يحكم والحالة هذه.
ثم - قال رحمه الله - (ويحرم قبوله رشوة)
يحرم على القاضي أن يقبل الرشوة لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لعن الراشي والمرتشي. هذا من وجه من وجه آخر أنّ الرشوة تتناقض تماما مع مقصود الشارع من القضاء فإنّ القصد من الرشوة إحقاق الباطل وإبطال الحق بينما القاضي إنما نصب ليحق الحق ويبطل الباطل وتحريم الرشوة محل إجماع والرشوة هي كل ما يدفعه الإنسان لإعاقة الحق أو لتمرير الباطل سواء في مجلس القضاء أو في غيره.
ثم - قال رحمه الله - (وكذا هدية)
يعني كما أنه يحرم عليه قبول الرشوة يحرم عليه قبول الهدية والفرق بينهما أنّ الرشوة تعطى في سياق القضية والهدية تعطى خارج سياق القضية بأنها هدية منفصلة بينما الرشوة مرتبطة بالقضية الهدية محرمة لثلاثة أدلة:
الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم - هدايا العمال غلول. الثاني: أنّ الهدية كما قال شيخ الإسلام نوع من الرشوة فكل حديث دل على تحريم الرشوة دال على تحريم الهدية.
الثالث: حديث ابن اللتبية الذي بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - ساعيا فلما جاء هذا لكم وهذا أهدوه لي فغضب النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطب وقال أفلا جلس في بيت أمه وأبيه فلينظر أيهدى له أو لا.


ثم لما بيّن الشيخ المؤلف تحريم الرشوة والهدية انتقل إلى مواضع جواز الهدية قبل هذا ذكر شيخ الإسلام ضابطا جميلا جدا لهدايا العمال من القضاة والموظفين فقال هدايا العمال هي كل ما لو نزع عن منصبه لم يهدى إليه. ضابط جميل جدا فإذا كان سبب الهدية من بعيد أو قريب المنصب فهي من هدايا العمال ولهذا إذا كان شخص لا يهديك مطلقا فلما عيّنت في مكان أهداك فقطعا سبب الهدية أنك عينت في هذا المكان كذلك الهدايا التي تجري بين الطلاب والمدرسين في المدارس النظامية باعتبار أنّ المدرس في المدارس النظامية موظف
هذه الهدايا سببها أنه مدرس لولا أنه يدرس لم يعطى أما الهدايا التي تكون بين المدرسين والمدير والمدرسات والمديرة فتختلف إن كان لم يهدوها إلاّ لأنها مديرة أو لم يهدوه إلاّ لأنه مدير أو بعد أن أصبح مديرا فلا شك أنها من هدايا العمال وإذا كانت الهدية تجري بينهم عادة ثم وجدت مناسبة لو وجدت وهذا المدير مدرس لأعطوه لم تصبح من هدايا العمال من أبرز الأمثلة أنه جرى العرف بين المدرسات أنه كل من أتى بمولود يعطى هدية فهم يعطون هذه وهذه سواء كانت مديرة أو مدرسة أليس كذلك؟ فهذا ما يظهر لي أنا أنّ إهداء المديرة إذا أتت بولد من هدايا العمال لأنه موجود سواء كانت مديرة أو ليست بمديرة إنما المحرم أنه إذا صارت مديرة بالغوا في الهدية فلا شك أنّ هذا سحت وأنه من هدايا العمال أما إذا أهدوها كما يهدون غيرها وهو أمر جار بينهم وعرف جروا عليه من قديم فليس من هدايا العمال.
ثم - قال رحمه الله - (إلاّ ممن كان يهاديه قبل ولايته)
إذا كان يهاديه قبل الولاية فهذا دليل وقرينة على أنّ الهدية ليست بسبب الولاية وإذا كانت الهدية ليست بسبب الولاية فلا حرج لأنّ الأصل أنّ التهادي بين المسلمين مستحب.
ثم - قال رحمه الله - (إذا لم تكن له حكومة)


يعني أنه يشترط لجواز الهدية أمران: الأول: أن يكون هذا جرى بينهما قبل الولاية. الثاني: أن لا تكون بينهما حكومة. الثالث: أن لا يعلم أنها ستكون بينهما حكومة. فإذا تحققت الشروط جازت الهدية بعد هذا نقول إذا فهم الإنسان المأخذ الشرعي عرف الحكم مباشرة فالمأخذ الشرعي أنّ كل هدية بسبب المنصب فهي من هدايا العمال هذا هو الضابط وما ذكره الفقهاء إنما هو تقريب ولهذا من الخطأ البيّن أن يأخذ طالب العلم القواعد ثم يطبقها بجفاف وعدم فهم لها. مثال يوضح المقصود.
رجل مازال بينه وبين أخيه تهادي بينهما تهادي كتب وطيب وأشياء كثيرة , لما عيّن أحدهما أتى له بخمسين رأس شاة هل بينهما تهادي من قبل؟ هل يشك الإنسان أنه هذا بسبب المنصب؟ لو أخذنا القاعدة بلفظها لقلنا يجوز لكن لما تفهم المقصود تعرف أنّ هذه الهدية محرمة عرفت كيف! وأنا بالغت في الهدية حتى يتضح الحكم وإلاّ قد لا يقع هذا.
ثم - قال رحمه الله - (ويستحب أن لا يحكم إلاّ بحضرة الشهود)
يستحب للقاضي أن لا يشرع في الحكم ولا يبدأ بالنظر في القضية إلاّ بحضرة الشهود لأنهم سبب القضية ولكي يشهدوا على الحكم فيما لو قيل وليشهدوا على الإقرار لو حصل في مجلس القضاء وقوله يستحب يدل على أنه لا يجب فلو أراد أن ينظر في القضية ويناقش ويبدأ ثم يأتي الشهود في مجلس آخر ثم يحكم في مجلس ثالث لا يوجد فيه شهود فهذا جائز ولا حرج فيه.
قال - رحمه الله - (لا ينفذ حكمه لنفسه)
وهذا معلوم لأمرين: الأول: أنّ شهادة الإنسان لنفسه لا تصح فمن باب أولى أن نمنع أن يحكم لنفسه.
الثاني: أنه تقع التهمة بهذا بدرجة كبيرة. الثالث: وهو الأول في الحقيقة أنّ عمر بن الخطاب لما أراد أن يحاكم أبيّا تحاكموا إلى زيد فلم يحاكمه إلى نفسه فلا شك أنه لا يجوز للإنسان أن يجعل نفسه حكما في قضية هو أحد الأطراف فيها.
قال - رحمه الله - (ولا لمن لا تقبل شهادته له)
لا يجوز أن يكون حكم وأحد الخصمين ممن لا تقبل شهادته له كأبيه أو أبنه وسيعقد المؤلف فصلا خاصا فيمن لا تقبل شهادته له فلا يجوز للإنسان أن يحكم لكل شخص لا تقبل شهادته له وعللوا هذا بأنه في حكمه تهمة ومظنة الحيف والميلان وقياسا على الشهادة.


والقول الثاني: أنّ له أن يحكم بين أي خصمين من الأقارب الأدنين أو الأبعدين أو من الأجانب واستدل هؤلاء بأمرين:
الأول: العمومات. فإنها لم تفرق بين القريب والبعيد. الثاني: قياس القريب على الأجنبي وهو قياس غريب في الحقيقة كيف تقيس قريب على الأجنبي ونحن ننازعك في حكم القريب أنه ليس كالأجنبي وأنت تقول القريب كالأجنبي لأنه كالأجنبي أليس كذلك؟ فبعيد هذا القياس.
القول الثالث: أنه لا يجوز أن يحكم لمن لا يجوز أن يشهد له إلاّ إذا حكم بينهما كأن يحكم بين أبويه وبين ولديه وهذا هو الراجح إن شاء الله لأنه حينئذ تتنتفي التهمة لأنّ طرفي الخصومة من أقاربه فلا تهمة في هذا.
ثم - قال رحمه الله - (ومن ادعى على غير برزة لم تحضر)
البرزة هي المرأة التي تخرج بنفسها لقضاء حاجاتها وينبغي أن تعرف أنّ البرزة هي التي تخرج لقضاء حاجاتها وليست المرأة التي تخرج وإنما المرأة التي تخرج لقضاء حاجاتها فإذا كانت تقضي حاجاتها بنفسها فإنها برزة , فإذا لم تكن برزة فإنه يشرع للقاضي أن لا يستدعيها إلى مجلس الحكم واستدلوا على هذا بأمرين: الأمر الأول: أنّ في استدعائها ضرر بها لأنها لم تعتد الخروج فضلا عن حضور مجلس الحكم.
الثاني: أنّ فيه إذهابا لحشمتها وهتكا لتصونها.
والقول الثاني: أنه على القاضي أن لا يحكم بل يرسل إليها من يحكم لها في قضيتها واستدلوا على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها.
القول الثالث: أنه يأتي بها إلى مجلس الحكم واستدلوا على هذا بأنّ هذا الخروج خروج يسير لا يضر فتأتي إلى مجلس الحكم , والراجح المذهب بلا إشكال.
ثم - قال رحمه الله - (وأمرت بالتوكيل)
يعني أنها لا تحضر وتؤمر بالتوكيل لأنّ القضية لا يمكن أن تتم وتستمر إلاّ إذا وكّلت ليستطيع القاضي المضي في الحكومة والحكم فيها.
سؤال / هو يقول إذا كانت برزة لا تحضر وتوكل؟ كل الناس يستطيعون أن يوكّلون! ما هو الجديد؟ ما هو الفرق الآن هي لا تحضر وتوكل؟ كل إنسان يستطيع أن لا يحضر ويوكّل؟ فما هو الجديد؟ الجديد أنه في غير البرزة لا يشرع أن يأتي بها إلى مجلس الحكم لا ينبغي بخلاف سائر الناس فإنه إن شاء وكلّ هو.


ثم - قال رحمه الله - (وإن لزمها يمين أرسل من يحلفها)
وجه ذلك أنه إذا توجهت اليمين فلا بد منها أي لا بد من اليمين وهي لم تحضر الحكم فلن يكون هناك سبيل لليمين إلاّ أن يرسل من تحلف له وينبغي أن يرسل مع من سيأخذ منها اليمين يرسل معه شاهدين يشهدا على اليمين.
ثم - قال رحمه الله - (وكذا المريض)
قوله وكذا المريض لو أنّ المؤلف جعل لهذا قاعدة فقال [وكل من لا يستطيع الحضور إلى مجلس الحكم فهو يوكل ويرسل إليه القاضي من يأخذ اليمين منه إذا توجهت عليه] لكان هذا أضبط من ذكر مثالين المرأة والمريض وإنما ذكر المؤلف المرأة والمريض فقط لأنه الغالب في الأعذار أن تكون امرأة أو أن يكون مريضا فلما كان هذا هو الغالب ذكره واستغنى عن الضابط.

باب طريق الحكم وصفته
قوله باب طريق الحكم وصفته المقصود بهذا الباب بيان كيفية دفع الخصومات والفصل بينها , أو بيان كيفية الفصل بين الخصومات.
يقول الشيخ - رحمه الله - (إذا حضر إليه خصمان قال أيّكما المدعي)
إذا حضر الخصمان فإنه يقول أيّكما المدعي ,أفاد المؤلف أنه لا حرج على القاضي أن يسأل الخصمين أيّهما المدعي لأنه إذا سأل أيكما المدعي فإنه لم يوجه الخطاب إلى أيّ منهما فلم يحصل حيف على أحد من الخصمين فيسأل أيّكما لأنّ القضية لا يمكن أن تبدأ إلاّ إذا قال أيّكما المدعي؟
ثم - قال رحمه الله - (فإن سكت حتى يبدأ جاز)
يعني يجوز أن يدخل خصمان ويجلسوا ويجلس القاضي ويسكت القاضي إلى أن يبدأ , فسؤال القاضي للخصمين أيّهما المدعي ليس بواجب بل أن يسكت لكن من المعلوم أنه ينبغي أن لا يطيل بالسكوت وليس من المقبول أن يسكت الخصمان ويسكت القاضي ويجلسون في مجلس الحكم وهم سكوت لمدة ساعة فإنّ هذا من العبث أليس كذلك ولو قيل أنّ هذا يتنافى مع آداب القاضي أن يطول السكوت لكان هذا وجيه وربما يكون من الآداب الواجبة أو المستحبة وهذا بحث نظري أما اليوم فلا يكاد الخصمان إلاّ وبسرعة تبدأ القضية.
ثم - قال رحمه الله - (فمن سبق بالدعوى قدّمه)


إذا سبق أحدهما بالدعوى صار هو المدعي ولو لم يسأل القاضي أيّكما المدعي وإذا صار هو المدعي فإنه إذا اعترض الآخر وقال أنّ المدعي لم ينظر القاضي إلى كلامه , فإذا الذي يحدد أيّهما المدعي الذي يبدأ منهما فإن بدأو في وقت واحد أقرع بينهما وتحديد أيّهما المدعي وأيّهما المدعى عليه أمر مهم وضروري لأنه ينبني على هذا أحكام كثيرة كما سيأتينا.
ثم - قال رحمه الله - (وإن أقرّ له حكم له عليه)
يعني إذا تبيّن أيّهما المدعي وادعى بمال أو بغيره ثم أقّر المدعى عليه فإنه يجب على القاضي بالإجماع أن يحكم بهذا الإقرار لأنّ الإقرار حجة ملزمة وهو أقوى من البيّنات لأنّ البيّنات تحتمل إحتمالات والإقرار لا يحتمل فيجب عليه أن يحكم بمقتضى الإقرار مباشرة وهذه الصورة نادرة في الوقوع لكن ذكرها المؤلف للترتيب المنطقي بما سيكون في مجلس الحكم ولماذا هي نادرة الوقوع؟ لأنه لو كان سيقر ما احتجنا إلى مجلس القضاء.
قال - رحمه الله - (وإن أنكر قال للمدعي إن كان لك بيّنة فأحضرها إن شئت)
إذا ذكر المدعي دعواه ولم يقر المدعى عليه فإنّ القاضي يقول للمدعي ألك بيّنة ويقول أحضرها إن شئت. أيّ أنّ القاضي ليس له أن يلزم المدعي بإحضار البيّنة فإن أبى المدعي أن يحضر البيّنة وأراد الانتقال إلى يمين المدعى عليه كما سيأتي فله ذلك إنما يعرض عليه القاضي عرض أنه ألك بيّنة؟ أولا. علمنا من هذا أنه لا يلزمه وعلمنا أيضا أنه لا حرج على القاضي أن يقول للمدعي ألك بيّنة وليس هذا من الجور على المدعي عليه , والدليل على هذا ما جاء في الصحيح أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما اختصم الحضرمي وخصمه قال له النبي - صلى الله عليه وسلم - ألك بيّنة؟ فدل هذا على أنّ طلب البيّنة لا حرج فيه ولأنّ في طلب البيّنة الإسراع في الحسم في القضية وإعطاء كل ذي حق حقه.
ثم - قال رحمه الله - (فإن أحضرها سمعها وحكم بها)


يعني إذا أحضر المدعي بيّنته سمعها القاضي ثم حكم بها يعني بعد أن يقول للمدعى عليه أتقدح في هذه البيّنة بقادح فإذا لم يكن عنده قوادح صارت البيّنة سالمة من القوادح وحينئذ يجب عليه أن يحكم بها كما يجب عليه أن يحكم بالإقرار لأنها أصبحت بيّنة سالمة من القوادح فوجب عليه أن يحكم بها وهو أمر بدهي.
ثم - قال رحمه الله - (ولا يحكم بعلمه)
لا يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه سواء علم هذا العلم قبل أن يتولى القضاء أو بعد أن يتولى القضاء , وسواء علم به قبل أن تعرض عليه القضية أو بعد أن تعرض عليه القضية يعني مطلقا لا يجوز له أن يحكم بعلمه مطلقا واستدلوا على هذا بأمرين:
الأمر الأول: أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لما شكى إليه الأعرابي اعتداء من أخذ النصاب الزكوي عليهم بجراح وأعطاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - مقابل الجراح قال لهم إني خاطب بالناس ومخبرهم أنكم رضيتم قالوا نعم. فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطب وقال أنهم اعتدوا على بني فلان وأني أعطيتهم حتى رضوا أكذالك؟ قالوا لا. فَهّم بهم الأنصار يعني ليضربوهم أو يقتلوهم.
فكفّهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ونزل وأعطاهم حتى رضوا. قال أرضيتم؟ قالوا نعم. قال فإني خاطب الناس ومبلغهم قالوا نعم؟ فخطب الناس وقال إني أعطيت بني فلان حتى رضوا كذلك قالوا نعم. في المرة الثانية. وجه الاستدلال أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطاهم في المرة الأخرى مع أنه يعلم أنهم رضوا في المرة الأولى فدل هذا على أنّ القاضي لا يحكم بعلمه.
الدليل الثاني: وعليه المعتمد أنّ فتح باب حكم القاضي بحكمه يؤدي إلى التلاعب والتهمة ويستطيع من خلاله القاضي أن يحكم على من يشاء بما يشاء ويدعي أنه حكم بناء على علمه المسبق.
والقول الثاني: أنه يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه مطلقا واستدلوا على هذا بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهند خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف فحكم النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير نظر ولا استدعاء للمدعى عليه لأنه يعلم أنه كان بخيلا - رضي الله عنه - فحكم بعلمه. والجواب أنّ هذا الحديث فتيا وليس بحكم بدليل أنه لم يطلب المدعى عليه إلى مجلس الحكم ولم يسمع منه.


القول الثالث: أنه يجوز أن يحكم بما استفاض وانتشر وعلمه القاضي وغيره لأنه إذا حكم بما علم واشتهر فإنه لا ينسب إلى تهمة.
والقول الرابع: أنه يجوز أن يحكم بعلمه في حقوق الله دون حقوق الآدمي. والراجح الثالث.
ثم - قال رحمه الله - (وإن قال المدعي: مالي بيّنة أعلمه الحاكم أنّ له اليمين على خصمه)
إذا ادعى المدعي وبيّن ماله من حقوق وطلبت منه البيّنة ولم تكن له بيّنة أعلمه القاضي أنّ له اليمين على خصمه لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للحضرمي شاهداك أو يمينه. فقال يا رسول الله إنه لا يتورع عن شيء فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس لك إلاّ ذلك وهذا في مسلم.
ثم - قال رحمه الله - (على صفة جوابه)
يعني أنّ له للمدعي يمين المدعى عليه على صفة جواب المدعى عليه. لا على صفة دعوى المدعي. صورة هذا أن يقول المدعي أطلبه ألف ريال ثمن سيارة. ويقول المدعى عليه ليس له عندي شيء فاختلف الجواب عن الدعوى , فاليمين تكون على الجواب لا على الدعوى فيقول والله ليس له عندي شيء ولا يلزم المدعى عليه أن يقول والله إنه لا يطلبني ألف ريال ثمن سيارة.
والقول الثاني: أنّ اليمين على صفة الدعوى على صفة جوابه بل إنّ اعتراضه أو رفضه اليمين على صفة الدعوى قرينة على كونه ليس بمحق والراجح أنها على صفة الدعوى.
ثم - قال رحمه الله - (فإن سأل إحلافه أحلفه وأخلى سبيله)
أفاد المؤلف أمرين: الأمر الأول: أنّ القاضي بعد أن يعرف المدعي حقه في اليمين فإنه لا يطلب اليمين من المدعى عليه إلاّ إذا طلبها المدعي قبل ذلك فإنه لا يطلب اليمين.
الثاني: أنه إن طلب اليمين وحلف المدعى عليه فإنه يخلي سبيله أي برئ المدعى عليه ولا يطلبه المدعي شيء لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث السابق ليس لك إلاّ ذلك. فإذا ليس له إلاّ اليمين.
ثم - قال رحمه الله - (ولا يعتد بيمينه قبل مسألة المدعي)


يعني أنه إذا بادر بالقسم فإنّ هذا القسم قسم ليس بشرعي ولا نفع له في مجلس القضاء لأنه جاء في غير وقته بل يجب أن لا يقسم أو أن لا يحلف إلاّ بعد طلب المدعي فإن أقسم قبل ذلك وطلب المدعي أن يحلف مرة أخرى فإنه يجب أن يحلف مرة أخرى لأنّ اليمين الأولى ليست يمينا شرعية يعتد بها في مجلس القضاء.
ثم - قال رحمه الله - (وإن نكل قضى عليه. فيقول إن حلفت وإلاّ قضيت عليك فإن لم يحلف قضى عليه)
أفادنا المؤلف - رحمه الله - إذا توجهت اليمين على المدعى عليه ونكل فإنه يحكم عليه وتكون العين محل الدعوى للمدعي يعني بمجرد النكول ولا نحتاج إلى رد يمين على المدعي واستدلوا على هذا بأنّ ابن عمر - رضي الله عنه - وزيد اختصموا إلى عثمان - رضي الله عنه - في عبد اشتراه زيد من ابن عمر - رضي الله عنهما - وزعم أنّ به عيبا يعلمه ابن عمر - رضي الله عنه - فقال عثمان - رضي الله عنه - احلف أنه ليس فيه عيب تعلمه فأبى أن يحلف فقضى عليه عثمان - رضي الله عنه - ومعنى قضى عليه أنه رد العبد إلى ابن عمر وأخذ زيد المال وفي هذه المسألة خلاف طويل نذكره إن شاء الله الدرس القادم.


الدرس: (3) من القضاء

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
توقفنا بالأمس عند حكم نكول المدعى عليه عن اليمين وذلك عند قول الشيخ (وإن نكل قضى عليه. فيقول إن حلفت وإلاّ قضيت عليك فإن لم يحلف قضى عليه)
إذا توجهت اليمين على المدعى عليه ثم نكل. والنكول هو / أن يأبى أن يحلف فإنه يقضى عليه وتقدم معنا بالأمس القول الأول: وهو المذهب أنه يقضى عليه بمجرد النكول من غير رد لليمين كنا توقفنا على استكمال هذه المسألة.
القول الثاني: أنه لا يقضى عليه بمجرد النكول بل لا بد من رد اليمين لأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - رد اليمين على المدعي.
وهذا الحديث ضعيف.
الدليل الثاني: أنه روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه رد اليمين ولم يقضي بمجرد النكول.


القول الثالث: إذا كان الأمر وحقيقة القضية لا تعلم إلاّ من قبل المدعى عليه فإنها لا ترد اليمين , مثاله قصة ابن عمر مع زيد القصة السابقة , فإنّ ابن عمر المدعى عليه هو الذي يعلم هل في العبد عيب أو لا. لأنّ المشتري لا يعلم عن العبد شيئا قبل العقد فهنا لا ترد اليمين وإن كان الذي يعلم القضية هو المدعي وحده ردت اليمين. مثاله أن يدعي زيد على رجل ميت فالآن المدعي يتفرد بمعرفة القضية لأنّ المدعى عليه ميت فهنا نرد اليمين ولا نكتفي بمجرد النكول لأنّ الورثة قد يأبون اليمين لعدم معرفتهم بالقضية فنرد اليمين ولا نحكم بمجرد النكول وهذا القول الأخير فيه تفصيل جيد تجتمع فيه الآثار المروية عن أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وإذا لم يختص أيّ منهما بالمعرفة لا المدعي ينفرد بالمعرفة ولا المدعى عليه ينفرد بالمعرفة فهنا فيه خلاف والراجح أنه لا ترد اليمين.

ثم - قال رحمه الله - (فإن حلف المنكر ثم أحضر المدعي بيّنته حكم بها ولم تكن اليمين مزيلة للحق)
القاعدة أنّ اليمين مزيلة للخصومة لا للحق فإذا قال المدعي أنه لا بيّنة له ثم أحضرها بعد ذلك فإنها تسمع واستدل الحنابلة على هذا بأنه قد ينسى وقد لا يعلم ببيّنته أصلا ثم يعرف بأنّ له بيّنة بأن يأتي شاهد يشهد في القضية لم يعرفه المدعي فلأجل أنّ المدعي ربما لا يعرف البيّنة يقبل منه أن يحضرها بعد أن لم يأتي ببيّنة.
مسألة / فإن قال المدعي ليس لي بيّنة فإنه إذا أتى بها بعد ذلك لا تقبل لأنه أكذب نفسه.
والقول الثاني: أنها تقبل لأنه حين قال ليس لي بيّنة إنما قال ذلك بناء على أنه لا يعرف لنفسه بيّنة ثم عرفها بعد ذلك فأتى بها فليس في هذا تكذيبا للنفس بل ربما ظهر له ما لم يكن ظهر من قبل وهذا القول الثاني هو الراجح ويتحصل من ذكر المسألتين والخلاف أنه تقبل البيّنة مطلقا سواء لم يأتي بها ابتداء أو قال ليس لي بيّنة فتقبل مطلقا.

فصل
قال - رحمه الله - فصل (ولا تصح الدعوى إلاّ محررة معلومة المدعى به)


ظاهرة عبارة المؤلف أنه يشترط لتصحيح الدعوى أن تكون محررة وأن تكون معلومة المدعى به والواقع أنّ هذا شيء واحد ولهذا عبارة الشيخ في المقنع يقول في المقنع [ولا تصح الدعوى إلاّ محررة تحريرا يعلم به المدعى] فصار هذا الشرط شرطا واحدا وهذا هو الصواب أنه شرط واحد ومعنى هذا الشرط أنّ الدعوى لا تقبل إلاّ وقد بيّن المدعي كل ما يتعلق بالدعوى من حيث قدر المال وصفته وجنسه وسبب وجوبه عند بعض الفقهاء إذا لا تقبل إلاّ وهي محررة أي كاملة مذكور فيها كل ما يتعلق بالحق المدعى واستدل الحنابلة على أنها لا تسمع إلاّ محررة بأنّ الدعوى يترتب عليها أن يحكم القاضي من جهة وأن يلزم المحكوم عليه بدفع الحق من جهة أخرى ولا يتمكن من الحكم ولا بالإلزام من الدفع إلاّ بعد تحرير الدعوى وهذا لا شك وهو بدهي أنّ القاضي لم يحكم إلاّ بعد أن يعرف بماذا يدعي بالضبط المدعي.
والقول الثاني: أنه لا يشترط وأنّ له أن يقول ادعي حقا على فلان فإذا قبل القاضي الدعوى أمره بعد الإجمال بالتفصيل وهذا القول الثاني ليس إلاّ تضيعا للوقت ورجوعا للقول الأول والصواب أنّا نلزم المدعي بأن يبيّن ويحرر الدعوى من الأول ولا نقول نسمع الدعوى ثم نطلب تحريرها بعد ذلك فإنّ هذا تطويل ليس له معنى.
ثم - قال رحمه الله - (إلاّ ما نصححه مجهولا كالوصية وعبدا من عبيده مهراً ونحوه)
القاعدة أنّ كل ما صح مجهولا صحت الدعوى به وما ذكره المؤلف لا يعدوا أن يكون أمثلة , فكل ما صح مجهولا صحت الدعوى به.
ذكر الشيخ ثلاثة أمثلة. المثال الأول: يقول إلاّ ما نصححه مجهولا كالوصية. الوصية تصح بالمجهول كما تقدم معنا فلو قال أوصيت لفلان بشيء أو أوصيت لفلان بأرض أو بسهم فهي مجهولة ومع ذلك نصحح هذه الوصية لأنها ليست من قبيل المعاوضات فإذا ادعى بوصية فله أن يدعي بدعوى غير محررة فيقول فلان أوصى لي وليس بملزم أن يبيّن بماذا أوصى له.
المثال الثاني: وعبد من عبيده مهرا. إذا قالت الزوجة مدعية على الزوج أنه أمهرها أو أصدقها عبدا من عبيده صحت الدعوى وإن كانت مبهمة لأنّ المهر يصح أن يكون مبهما ويبيّن بعد ذلك فإذا ترجع إلى القضية السابقة.
يقول - رحمه الله - (ونحوه)


من أكثر الأمثلة وقوعا أن يعترف أو يقّر بمجهول مثل أن يقول زيد لعمرو عندي لك شيء هذا إقرار بحق مجهول هذا الإقرار صحيح فلعمرو أن يدعي على زيد بقوله أنّ له عنده شيء لأنه أقرّ بمجهول لماذا نصحح هذه الدعوى لأنه لا يمكن أن يدعي إلاّ بمجهول لأنه هو لا يعرف الحق ولو لم نصحح الدعوى بمجهول في هذه الصور لأغلقنا الباب على المدعي أن يدعي أصلا لأنه لا يعرف حقه من الأساس إذا تصح الدعوى بكل ما يصح مجهولا.
ثم - قال رحمه الله - (وإن ادعى عقد نكاح أو بيع أو غيرهما فلا بد من ذكر شروطه)
إذا ادعى عقدا من العقود سواء في قسم المعاملات أو في قسم الأحوال الشخصية أو الأنكحة أو توابعها فإنه لا بد أن يبيّن شروط العقد واستدل الحنابلة على هذا بأنّ المدعي قد يدعي بعقد يرى هو صحته والقاضي لا يرى أنه صحيح ولأجل هذا لا بد أنّ يبيّن شروط العقد.
القول الثاني: أنه لا يشترط وأنه ليس عليه إلاّ أن يدعي بالعقد مجردا بلا بيان لشروطه واستدل هؤلاء بأنّ الأصل في معاملات المسلمين الصحة وحملها على الجواز وهذا يقتضي عدم وجوب السؤال عن الشروط وانتفاء الموانع.
والقول الثالث: أنه يجب أن يبيّن الشروط إذا ادعى بعقد النكاح ولا يجب إذا ادعى بعقد البيع وفرقوا بين العقدين مستدلين بأنّ عقد النكاح من العقود التي يجب التحوط لها والاحتراز لما ينبني عليها من الأنساب واستباحة الأبضاع فناسب أن يشترط هذا الشرط والصحيح القول الثاني إن شاء الله.
ثم - قال رحمه الله - (وإن ادعت امرأة نكاح رجل لطلب نفقة أو مهر أو نحوها سمعت)
إذا ادعت المرأة بحق من حقوق النكاح لا بالنكاح فإنّ الدعوى صحيحة ودل على هذا أمران: الأمر الأول" الإجماع فإنهم أجمعوا على أنها إذا ادعت بعقد نكاح لإثبات النفقة أنّ الدعوى صحيحة وتسمع.
الثاني: أنها دعوى مستوفية الشروط فإنها تدعي بحق مع بيان سببه كما لو قالت هذه السيارة لي اشتريتها من فلان فهي كذلك تقول النفقة واجبة لأنّ فلان زوجي فهي تثبت الحق مع شفعه بسببه وهذه دعوى مستكملة الأركان فتسمع وكما سمعتم هي محل إجماع فلا إشكال فيها.
ثم - قال رحمه الله - (فإن لم تدعي سوى النكاح لم تقبل)


إذا ادعت المرأة على الزوج مجرد النكاح فقط , فقالت فلان زوجي ولم تضف شيئا على هذا لا طلب نفقة ولا سكنى ولا غيره فإنّ الدعوى لا تسمع أصلا ولا تقبل علل الحنابلة هذا بأنّ النكاح من حقوق الزوج لا من حقوق الزوجة وليس للإنسان أن يدعي بحق لغيره بل الدعوى تكون بحق لنفسه.
والقول الثاني: أنّ دعواها صحيحة لأنّ إثبات النكاح يقتضي إثبات الحقوق المترتبة عليه من النفقة والسكنى والمهر وكل ما يترتب على العقد من حقوق للزوجة.
الدليل الثاني: أنّ هذا تماما كما لو ادعت عقد النكاح كعقد البيع فإنّ الإنسان يدعي عقدا للبيع راجيا الحصول على ما يترتب على عقد البيع سواء ادعى أنه مشتري ليأخذ السلعة. أو بائع ليأخذ الثمن. ولا شك أنّ هذا القول الثاني هو الصحيح وأنّ المذهب في هذه المسألة ضعيف وأنّ النكاح لا يتمحض حقا للرجل نعم حقه فيه غالب لكن النكاح فيه حقوق للزوج وفيه حقوق للزوجة.
ثم - قال رحمه الله - (وإن ادعى الإرث ذكر سببه)
إذا ادعى انه يرث من فلان فلا بد أن يبيّن السبب الذي استحق به الإرث لأنّ الشهادة ستكون على وفق هذا السبب وإذا لم يبيّن السبب فإنه لم نتمكن من معرفة صحة الشهادة وهذا صحيح فإذا ادعى أنه وارث فلا بد أن يقول لأنه ابن أو مولى أو والد أو يبيّن سبب الإرث مع اختلاف أسباب الإرث. وهذا بدهي لأنه لا يمكن أن يقول أحد في المحكمة أنا أرث فلان بدون أن يبيّن سبب الإرث وصلة القرابة التي بينهما.
ثم - قال رحمه الله - (وتعتبر عدالة البيّنة ظاهرا وباطنا)
أفاد المؤلف حكم مسألتين: المسألة الأولى" أنه لا بد من العدالة في البيّنة.
المسألة الثانية " أنه تشترط في هذه العدالة أن تكون عدالة ظاهرة وباطنة , أما اشتراط العدالة سيأتينا في كتاب الشهادات ما يتعلق بهذا الشرط مفصلا ودليله العام قوله تعالى {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [البقرة/282] فلا بد من العدالة في الشاهد. لكن المؤلف هو في الحقيقة يريد أن يتكلم عن كون البيّنة توصف بالعدالة الظاهرة والباطنة فالعدالة الظاهرة معروفة وهي أن يكون ظاهر الإنسان الابتعاد عن المحرمات وأداء الواجبات , وأما العدالة الباطنة فهي التي لا تتحقق إلاّ بأمرين: أن يكون المعدل صاحبه صحبة طويلة.


الأمر الثاني: أن يكون المعدل عامله معاملة ماليه بهذين الأمرين يمكن الوقوف على العدالة الباطنة استدل الحنابلة على اشتراط العدالة الظاهرة والباطنة أنّ شاهدا أتى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فطلب من صاحب الشهادة مزكي فجيء بالمزكي فسأله عمر أسافرت معه أعاملته أصحبته فدلت هذه الأسئلة على أنه لا يكتفى بالتعديل المعرفة الظاهرة ولابد من المعرفة الباطنة وهي مقتضى أسئلة عمر - رضي الله عنه -
القول الثاني: أنّ المشترط العدالة الظاهرة فقط دون الباطنة , واستدلوا على هذا بأمرين: الأول" أنّ الأصل في المسلم العدالة ولسنا بحاجة عن السؤال عن باطنه.
الثاني: أنّ عمر نفسه - رضي الله عنه - قال المسلمون عدول بعضهم على بعض , والراجح القول الثاني أنّ العدالة الظاهرة يكتفى بها وعليه العمل واشتراط العدالة الباطنة قد يفضي في صور كثيرة إلى تعطيل الشهادة وإذا صح الأثران عن عمر الأول والثاني فالجمع بينهما أنّ لولي الأمر إذا شك أن يتثبت بما شاء إلى الوصول العدالة الظاهرة أو الباطنة أو الاستقصاء أكثر من ذلك فإنّ القاضي قد يقع في ذهنه أو يخطر في باله كذب الشاهد مع عدالة ظاهره فيحتاج إلى نوع من التثبت.
ثم - قال رحمه الله - (ومن جهلت عدالته سأل عنه وإن علم عدالته عمل بها)
إذا جاء الشاهد إلى القاضي فلا يخلوا الحال من ثلاث. الأول" أن يعلم عدالته حينئذ يجب عليه وجوبا أن يعمل بعلمه بعدالة الشاهد وأن يحكم بمقتضى الشهادة ما لم يوجد مانع.
الثاني" أن يعلم فسقه فإنه لا يجوز والحالة هذه أن يحكم بشهادة هذا الشاهد مطلقا ويجب عليه أن يكتفي بعلمه بعدالة الشاهد وبعلمه بفسق الشاهد وعمل القاضي بعلمه في معرفة الشهود ليس من الحكم بعلمه فإنّ الحكم أو العمل بعلمه في عدالة الشهود جائز أما في العدالة فهو محل إجماع وأما في الفسق فلم أقف على خلاف.
القسم الثالث: أن لا يعلم هل هو عدل أو ليس بعدل فحينئذ يسأل عنه كما صنع عمر - رضي الله عنه - فإنه سأل عن هذا الشاهد وطلب مزكي.
ثم - قال رحمه الله - (وإن جرح الخصم الشهود كلف البيّنة به)


إذا جرح الخصم الشهود فإناّ لا نقبل منه بالجرح إلاّ إذا أتى ببيّنة تثبت هذا الجرح لوجهين: الأول" أنّ الناس يختلفون في الجارح فمن الناس من يعتبر الأمور السهلة من الجوارح ومن الناس من لا يعتبر الأمور الكبيرة من الجوارح فلاختلاف الناس في مقدار ما يجرح به الشاهد صار حتما على القاضي أن يسأل عن سبب وبيّنة الجرح.
الثاني: أنّا لو جعلنا كل خصم يجرح بما شاء لم يبقى للمدعين شهود وبهذا تبطل فائدة الشهادة ولا إشكال أنه إذا جرح سيطالب ببيّنة هذا الجرح.
ثم - قال رحمه الله - (وأنظر له ثلاثا إن طلبه)
يعني أنه إذا جرح الشهود ثم طلب من القاضي أن يمهله ثلاثة أيام ليتمكن من إحضار البيّنة الدالة على جرح الشهود فإنه يجاب إلى هذا الطلب والدليل من وجهين: الأول" أنّ في إلزامه بالبيّنة بأقل من ثلاثة أيام حرج وعسر فإنه قد لا يتمكن من تجميع بيّناته الدالة على جرح الشهود بأقل من ثلاثة أيام.
الثاني" أنّ هذا مروي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهذا صحيح وثلاثة أيام فترة قصيرة لا تخل بمجريات القضية
يستثنى من هذا إذا غلب على القاضي أنّ الخصم أراد تطويل الوقت ليس إلاّ وأنه لا يملك البيّنات على الجرح وأنه مجرد افتراء فإنه لا يمهله لا فائدة من الإمهال.
ثم - قال رحمه الله - (وللمدعي ملازمته)
يعني إذا طلب الإمهال ليجرح البيّنة فإنه يجوز للمدعي أن يلازم المدعى عليه وعللوا هذا بأنّ في الملازمة ضمان في عدم ضياع حق المدعي , والملازمة هي أن يذهب معه حيث ذهب فيصلي معه ويذهب معه إلى السوق ولا يتركه إلاّ إذا دخل بيته. طبيعي أنه إذا دخل بيته لن يدخل معه لكن من حين يخرج إلى أن يرجع فهم من كلام المؤلف أنه لا يحبس وإنما يملك فقط الملازمة وهذا صحيح فإنّ المدعى عليه لا يحبس في الفترة التي طولب فيها الإمهال لأنه لم يثبت عليه حق حتى يحبس ولكن له أن يلازمه.
ثم - قال رحمه الله - (فإن لم يأتي ببيّنة حكم عليه)


يعني إذا لم يتمكن من جرح الشهود فإنه يحكم عليه لأنه بعجزه عن جرح الشهود تبيّن أنّ البيّنة تامة وتقدم معنا في أول صفة الحكم أنه إذا تمت البيّنة فإنّ الواجب على القاضي أن يحكم بها فلذلك نقول إذا عجز فإناّ نحكم عليه ونسلم العين إلى المدعي.
ثم - قال رحمه الله - (وإن جهل حال البيّنة طلب من المدعي تزكيتهم)
إذا جهل حال البيّنة وكأنّ مراد المؤلف ولم يتمكن من السؤال فإنه يكلف المدعي بإحضار مزكي يزكي الشهود وتقدم معنا أنّ القاضي لا يحتاج المزكي إلاّ في حال واحدة. ولا يحتاجهم في حالين: فإذا علم أنهم عدول لا يحتاج المزكين , وإذا علم أنهم فساق لا يحتاج إلى المزكين وإذا لم يعلم احتاج إما أن يسأل أو أن يكلف المدعي بالمزكين. والدليل على تكليف المدعي بالمزكين قصة عمر - رضي الله عنه - فإنه طلب من المدعي أن يأتي بمن يعرف الشهود.
مسألة / فإن عرف القاضي فسقهم وأتى المدعي بمعدلين , فإنه يجب على القاضي أن يعمل بعلمه. لأنه الآن يعلم أنهم فساق وأنتم تعلمون أيهم الذي معه زيادة علم؟ الجارح ولا المعدل؟ الجارح وجه أنّ معه زيادة علم أنّ الأصل العدالة إذا يجب عليه أن يعمل في هذه الصورة بعلمه أنّ الشهود فساق ولا يعمل بتعديل من أتى بهم المدعي إلاّ في صورة واحدة إذا تبيّن له أنّ المزكين يتحدثون عن علم حادث من توبة أو صلاح عمل فحينئذ يجب عليه أن يقبل أما إذا لم يتبيّن له أنّ معهم زيادة علم جاءت بعد علمهم بالفسق فإنه يعمل بعلمه هو.
ثم - قال رحمه الله - (ويكفي فيها عدلان يشهدان بعدالته)
قوله يكفي فيها يعني في التزكية أن يأتي باثنين يشهدان بعدالة هذا الشاهد واستدل الحنابلة على هذا بالآية {وأشهدوا ذوي عدل منكم} [البقرة] والتزكية نوع من الشهادة.
والقول الثاني: أنه يكتفى في المزكي بواحد لأنّ المزكي في الحقيقة يخبر وليس بشاهد فنكتفي بمزكي واحد لكن المزكي الواحد لا بد أن يكون عدلا لأنّ المزكي الذي ليس بعدل يحتاج إلى مزكي طالت القضية فإذا لا بد أن يكون المزكي عدلا أما العدد فإنه لا يشترط في المزكي.
ثم - قال رحمه الله - (ولا يقبل في الترجمة والتزكية والجرح والتعريف والرسالة إلاّ قول عدلين)


لا يقبل في هذه الأمور إلاّ قول عدلين سواء كان تعريف أو ترجمة أو جرح أو رسالة أو تزكية. الترجمة والتزكية والجرح والرسالة أمرها ظاهر والمقصود منها واضح. والتعريف هو على أصح أقوال العلماء تعريف الحاكم بالمدعي والمدعى عليه والمدعى به والشهود يعني تعريف القاضي بأطراف القضية. ذهب المؤلف إلى أنه يشترط في الترجمة وما بعدها التزكية والجرح أن يشهد بها اثنان واستدل بالآية السابقة. والمؤلف - رحمه الله - خالف في هذه المسألة المذهب فالمذهب وهو:
القول الثاني: أنه يشترط العدد المشترط في المترجم والمزكى إلى آخره فإذا كان سيترجم قضية زنا فإناّ نحتاج إلى أربعة مترجمين لأنه في الزنا لا بد من أربعة شهود وهكذا بحسب القضية نشترط على المزكي ومن بعده العدد.
والقول الثالث: أنه يكتفى في الجميع بواحد واستدل أصحاب هذا القول بأنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - اتخذ مترجما واحدا أمره بتعلم لغة اليهود وهو واحد وسينقل للنبي - صلى الله عليه وسلم - الأخبار والقضايا وكل ما يتعلق بشؤون الحكم. والراجح إن شاء الله هو الأخير. لأنّ المترجم والمزكي إلى آخره مجرد ناقل ومخبر وليس بشاهد إلاّ أنه يحسن بالتجربة عدم الاكتفاء بمترجم واحد لأنّ المترجمين غالبا ما يختلفون لأنّ الترجمة تنبني على أمرين أن يكون جيد في اللغة وأن يكون فاهم للقضية فقد يترجم كلاما خطأ لأنه ما فهم موضوع الحكم وقد يترجم ترجمة خطأ لأنه غير جيد في اللغة وهذا موجود كثير ولهذا أنت لو جربت نسخة من الورقة لأثنين من كبار المترجمين ما يتطابقون نعم قد يتفقون ثمانين بالمئة لكن يحصل بينهم خلاف ففي مجال القضاء مع دقته والحساسية التي فيها ينبغي للقاضي أن لا يكتفي بمترجم واحد.
ثم - قال رحمه الله - (ويحكم على الغائب إذا ثبت عليه الحق)


المقصود بالغائب هنا المسافر مسافة القصر والواقع أنّ المؤلف يريد بالغائب هنا كل من أبى الحضور إلى مجلس الحكم فهذا الحكم يتناول كل شخص أبى الحضور إلى مجلس الحكم سواء كان مسافر مسافة قصر أو موجود في البلد ومختفي أو موجود في البلد ولم يختفي لكنه من القوة بحيث يأبى الحضور إلى مجلس الحكم المهم الضابط هو أنه كل من لم يحضر إلى مجلس الحكم معاندة أو سفرا فالحنابلة يرون أنه يحكم عليه واستدلوا على هذا بأمور: الأمر الأول" قصة هند بنت عتبة فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - حكم لها غيابيا فإنّ الزوج لم يحضر - رضي الله عنه -
الثاني: أنّ الامتناع عن الحكم في مثل هذه الصور يؤدي إلى ضياع الحقوق وتقدم معنا الجواب عن حديث هند وأنه فتوى وليس بحكم قضائي.
القول الثاني: أنه لا يحكم على غائب واستدل هؤلاء بأنّ الغائب ربما ملك قادحا في بيّنة المدعي فلا يستقيم مع هذا الحكم عليه مع غيابه يعني والترجيح في هذه المسألة محل إشكال ولكن الأقرب أنه يرجع إلى القاضي فإذا علم أنّ الإنسان مسافر سفرا بعيدا لا بقصد التهرب عن مجلس الحكم فإنه لا يسوغ أبدا أن يحكم عليه غيابيا. وإذا عرف أنه متلاعب ويتأخر فإنّ الحكم الغيابي من أعظم الأمور ردعا للمتلاعبين لأنه يستطيع أنه يغيب عن مجلس الحكم وهذا الغياب يكلف المدعي ما يزيد على أربعة أشهر أو خمسة أشهر بالنظر إلى المواعيد إذا هذا نوع من التلاعب وتأجيل الحقوق فالقول بالحكم مطلقا أو عدمه مطلقا محل نظر والواجب أنه يرجع إلى رأي القاضي.
مسألة / على القول بأنه يحكم له هل نسلم المدعي العين أو تبقى العين إلى حضور المدعى عليه فيه خلاف من الفقهاء من قال تسلم له ومنهم من قال لا تسلم له والصواب أنها تسلم له ولكن بكفيل يضمن إرجاع العين في حال تبيّن عدم صحة ما قاله المدعي وهذا اختيار المرداوي وهو لا شك قول قوي لأنّ المنع من تسليم العين يجعل الحكم غيابيا لا فائدة منه لأنه إذا قلت له احكم ولكن العين لم نسلمك
ما صار في الحكم فائدة وتسليمها إياه مع عدم سماع بيّنة المدعى عليه فيه نوع من الاستعجال. فالوسط أن يسلمها له ولكن نطلب منه كفيل بإحضار العين.


مسألة / إذا حضر الغائب فهو على حججه وبيّناته وقوادحه ولا تعتبر القضية منتهية فإذا حضر وجاء مجلس الحكم وبيّن قوادح وحجج توهن دعوى المدعي فإنّه يأخذ بها ولا يعني الحكم غيابيا أنّ القضية انتهت.
ثم - قال رحمه الله - (وإن ادعى على حاضر بالبلد غائب عن مجلس الحكم وأتى ببيّنة لم تسمع الدعوى ولا البيّنة)
إذا ادعى على من يمكن أن يأتي إلى مجلس الحكم فإنّ الدعوى لا تسمع وأيضا لا تسمع البيّنة فلا تسمع الدعوى ولا البيّنة وهذا واضح جدا ودليلهم أنّ المدعى عليه موجود ويمكن أن يسمع منه فلا يسوغ مطلقا على من يتمكن من القاضي من السماع منه واستدلوا أيضا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلي لا تحكم حتى تسمع من الآخر. وهذا الأثر سواء كان صحيح أو ضعيف فلا إشكال مطلقا في صحته وأنّ جميع أصول الشرع تدل عليه فمثل هذا الأثر يسوغ في الحقيقة الاستدلال به أو بأصله صح أو لم يصح.

باب كتاب القاضي إلى القاضي
الأصل في مشروعية كتاب القاضي إلى القاضي , الكتاب والسنة والإجماع.
فالكتاب قوله تعالى {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} [النمل/30]
وأما السنة فأكثر من أن يحصر فإنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كاتب كسرى وقيصر والنجاشي وملوك العرب والعجم وأرسل الولاة بكتبه مما لا يجعل مجال للشك في مشروعية كتاب القاضي إلى القاضي فإن قيل هذا كتاب والي إلى ملك وليس كتاب قاضي إلى قاضي. فالجواب أنّ الشرع إذا أجاز كتابة الوالي إلى الوالي وهي أعظم فكتابة القاضي إلى القاضي من باب أولى وهذا صحيح بلا إشكال واستدلوا على مشروعيتها بأنّ الحاجة ماسة إليها فإنه دائما ما يحتاج القاضي أن يكتب ببيّنة أو بالحكم إلى قاض آخر.
قال - رحمه الله - مبيّنا نطاق كتاب القاضي إلى القاضي.
قال - رحمه الله - (يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في كل حق حتى القذف لا في حدود الله كحد الزنا ونحوه)
الدعوى أو المدعى به ينقسم إلى ثلاثة أقسام: - القسم الأول: أن يكون أموال. فإذا كان أموالا فإنه يصح فيه كتاب القاضي إلى القاضي بالإجماع.


القسم الثاني: الحدود فالحدود محل خلاف. القول الأول: أنه لا يشرع كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود واستدل هؤلاء بأنّ الحدود مبناها على الدرء بالشبهات وكتاب القاضي إلى قاضي فيه شبهات كثيرة من حيث أنه فيه فرع وأصل ومن حيث وجود الوهم في الكتابة. والقول الثاني: أنها تصح بالحدود قياسا على الشهادة على الشهادة , وقياسا على الأموال هذا القسم الثاني.
القسم الثالث: ما عدا الحدود مثل القصاص والنكاح والطلاق والخلع ونحو هذه الأشياء ففيه خلاف المذهب صحة كتابة القاضي إلى القاضي لأنّ أحكام هذه الأشياء ليست مبنية على الدرء بالشبهات بل على الإثبات.
والقول الثاني: أنه لا يصح أن يكتب فيها من القاضي إلى القاضي قياسا على الحدود. والراجح أنّ كتاب القاضي إلى القاضي يصح في كل الأشياء بلا استثناء فله أن يكتب إلى القاضي الآخر بجميع أنواع القضايا بلا استثناء لأنه لا يوجد دليل صحيح على الاستثناء إلاّ التوهمات وعلل لا تكفي للمنع.
ثم - قال رحمه الله - (ويقبل فيما حكم به لينفذه وإن كان في بلد واحد)
إذا حكم القاضي بشيء وأرسل بالحكم لقاض آخر لينفذه فقط فإنّ القاضي الثاني ملزم بتنفيذ الحكم مطلقا ومعنى مطلقا أي سواء كان القاضي المكتوب إليه قريب أو بعيد والقريب والبعيد في عرف الفقهاء هو مسافة القصر واستدلوا على هذا بأنّ حكم القاضي ملزم واجب التنفيذ فعلى من وصله من الحكام أن يعمل به مقصودهم بهذا الكلام أنّ حكم القاضي أعطاه الشارع قوة للتنفيذ فهو يحمل في طياته بيانا وإلزاما كما تقدم معنا في أول كتاب القضاء فهذه القوة التي جعلها الله في حكم القاضي إذا وصلت إلى القاضي الآخر أصبح ملزما بها وهذا لا إشكال فيه.
ثم - قال رحمه الله - (ولا يقبل فيما ثبت عنده ليحكم به إلاّ أن يكون بينهما مسافة قصر)
إذا كتب له بما ثبت عنده ليحكم القاضي الثاني به فحينئذ لا يجوز إلاّ إذا كان بينهما مسافة قصر فإن كان بينهما دون مسافة القصر فإنه لا يجوز وعللوا هذا بأنّ هذا الكتاب لا حاجة إليه لأنّ القاضي القريب بإمكانه أن يباشر القضية بنفسه.


والقول الثاني: أنه يعمل بما ثبت عند القاضي إذا أرسل به إلى قاض آخر ليحكم به لأنّ الحاجة قد تدعوا إلى هذا والحاجات كثيرة منها على سبيل المثال في وقتنا هذا أن ينظر القاضي في قضية إلى أن تستوي القضية استوفى الشهود والقضية لم يبقى شيء لم يبقى إلاّ مشكلة واحدة وهو أنه بدء في إجازة القاضي الناظر في القضية. وهو لا يريد أن يحكم باستعجال فحينئذ من المصلحة أن نقول اكتب بما ثبت عندك ليحكم به القاضي الآخر بدل أن تعطل القضية لمدة شهر أو لمدة شهرين. فهذه من الأمثلة المعاصرة وهي توجد بكثرة.
من أمثلة ما يسوغ ذلك أن يكون المحكوم عليه من أقرباء أو أصدقاء القاضي مما يستحي معه النطق بالحكم فيرسل به إلى قاض آخر ليحكم به , من أمثلة القضية. وهو مثال مهم أن يكون القاضي المكتوب إليه يجيد هذه القضايا أكثر من القاضي الذي باشر القضية أول مرة فالقاضي الأول أراد أن يجمع كل ما يتعلق بالقضية فإذا لم يبقى إلاّ النظر والحكم أسنده إلى قاض يحسن مثلا هذا النوع من المعاملات فهو في الحقيقة لا شك أنّ القول بصحته مقتضى قواعد الشرع وهو القول الراجح إن شاء الله.
ثم - قال رحمه الله - (ويجوز أن يكتب إلى قاض معيّن وإلى كل من يصل إليه كتابه من قضاة المسلمين)
معنى هذه العبارة أنّ القاضي لا يشترط أن يكتب معيّن بل له أن يكتب إلى معيّن وله أن يكتب إلى من يراه من قضاة المسلمين لأنه لا يوجد دليل على اشتراط أن يكون الكتاب موجه إلى قاض معيّن ولأنّ حكم القاضي ملزم سواء كان لهذا القاضي أو لذاك فلا معنى للتعيين ألسنا اتفقنا أنّ حكم القاضي ملزم إذا لسنا بحاجة إلى التعيين.
والقول الثاني: وهو للأحناف أنه يشترط في كتاب القاضي إلى القاضي أن يعيّن وأن يكتب أنه من فلان إلى فلان لأنّ هذا أضبط للقضية وأدعى لتطبيقها ولئلا يتدافعها القضاة المكتوب إليهم ومذهب الأحناف لا شك أنه هو الراجح إن شاء الله وهو مذهب قوي وكتابة كتاب فيه حكم في قضية من قضايا بين المسلمين إلى غير معيّن فيه نوع من عدم الاهتمام بل يجب أن يكتب إلى قاض معيّن ومن حيث العمل لا يوجد إلاّ الكتابة من قاض معيّن إلى قاضي معيّن.


ثم - قال رحمه الله - (ولا يقبل إلاّ أن يشهد به القاضي الكاتب شاهدين يحضرهما فيقرأ عليهما .... الخ)
يشترط في كتاب القاضي إلى القاضي أن يشهد عليه اثنان من العدول فيقول اشهدوا أنّ هذا الكتاب كتبته أنا لفلان فيبيّن للشهود الكاتب والمكتوب إليه والمكتوب.
والقول الثاني: أنه لا يشترط بل يكفي أن يرسل الكتاب مع واحد واستدل هؤلاء أنّ عمل المسلمين والخلفاء الراشدين والنبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا فإنه يرسل كتبه مع رجل واحد. والأمر كما قال ابن القيم جرى عمل المسلمين على الاكتفاء بواحد. اليوم بطبيعة الحال لا يذهب مع واحد ولا مع اثنين. وإنما يذهب بطريقة آلية ولا يقال إنّ من يحمله هو الواحد لأنّ هذا الواحد لا يعرف شيء عن هذا الخطاب ولأنه سيسلمه لثان وربما انتقل آليا.
هل يجوز كتابة القاضي إلى القاضي بالإيميل؟ يبدوا لي أنا الإيميل إذا كان باسم القاضي الصريح وليس باسم مستعار وأخبر المرسل المرسل إليه بعنوان البريد أنّ هذا جائز بل هو أوثق أحيانا وأسرع من اليدوي.
الفاكس؟ إذا توفرت الضمانات بأن عرف رقم المرسِل والمرسل إليه وكان بينهما تنسيق فكذلك ما يوجد مانع مدام توجد توثقات.

باب القسمة
باب القسمة. القسمة اسم مصدر ومأخوذة من قسمت الشيء بمعنى جعلته أقساما.
وأما في الاصطلاح / فهي تمييز بعض الأنصباء عن بعض. ما هي مناسبة باب القسمة في كتاب القضاء كما سيأتينا أنها تشبه أبواب المعاملات؟ أنه يوجد في القسمة إلزام. والإلزام من شأن القضاء ونحن نقول الآن كما سيأتينا قسمة إجبار وقسمة تراضي مع ذلك بالنسبة لي أنا شخصيا لا أرى أيّ مبرر لوضع القسمة هذه في كتاب القضاء لم أقتنع منذ زمن بترتيب الفقهاء بوضع هذا الباب هنا وهو كما سيأتينا أنسب ما يكون في كتاب إما الشركة أو كتاب البيوع لكن هم روأ هذه القضية أنه فيه إلزام وهذا ليس بمسوغ في الحقيقة من وجهة نظري.
ثم - قال رحمه الله - (لا تجوز قسمة الأملاك التي لا تنقسم إلاّ بضرر أو رد عوض إلاّ برضا الشركاء)
تنقسم القسمة إلى قسمين:
1 - قسمة تراضي.
2 - قسمة إجبار.


بدأ المؤلف بقسمة التراضي وقسمة التراضي هي القسمة التي لا يجوز أن تفعل إلاّ برضا الطرفين بدأ بها معرّفا فقال [لا تجوز قسمة الأملاك التي لا تنقسم إلاّ بضرر أو رد عوض إلاّ برضا الشركاء] إذا ترّتب على القسمة أحد أمرين: الضرر أو العوض. فإنه لا يجوز
القسمة إلاّ برضا الطرفين واستدل الحنابلة على هذا بأمرين: أما إذا ترّتب عليها ضرر فالدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - لا ضرر ولا ضرار فإذا كانت القسمة تقتضي ضررا على أحدهما فإنها لا تجوز.
وأما إذا كانت تقتضي بذل العوض فإنها تصبح من البيع وأخذنا في كتاب البيوع أنّ اشتراط الرضا محل إجماع ولهذا لا يجوز أن يجبر أي منهما على إجراء القسمة إذا كان فيها رد عوض إذن قسمة التراضي هي كل قسمة يترتب عليها ضرر أو دفع عوض وهذا الذي أراد الشيخ بيانه. يقول الشيخ. لا تجوز قسمة الأملاك التي لا تنقسم إلاّ بضرر أو رد عوض. لم يبيّن المؤلف ما هو الضرر والضرر محل خلاف. فالقول الأول: أنّ الضرر هو كل قسمة تنقص من قيمة العين سواء أمكن الانتفاع بالجزء المقسوم أو لم يمكن وهذا هو المذهب
القول الثاني: أنّ الضرر هو أن لا يمكن الإنتفاع بالنصيب بعد القسمة فإن أمكن الانتفاع فليس بضرر وهذا القول الثاني اختيار الشيخ ابن قدامة ويبدوا لي أنّ أرجح الأقوال أنّ الضرر يحصل بنقص القيمة وبعدم الانتفاع. مثال إذا كان زيد وعمرو مشتركين في بيت قيمة البيت قبل القسمة عشرة ملايين وقيمته بعد القسمة خمسة ملايين هل هذا ضرر أو ليس بضرر؟ ضرر واضح كبير لا شك فيه المثال الذي يتعلق بالقول الثاني: أن يشترك زيد وعمرو في متجر لو قسم هذا المتجر لم يتمكن أيٌ منهما أن يعرض بضاعته فالآن بعد القسمة هل ينتفع بقسمه أو لا ينتفع هل هذا ضرر أو ليس بضرر لا شك أنه ضرر ولهذا أنا أقول الراجح إن كان قيل به أنّ الضرر يشمل الأمرين.
ثم - قال رحمه الله - ممثلا (كالدور الصغار , والحمام والطاحون الصغيرين)


بدأ الشيخ بأمثلة الضرر وذكر له ثلاثة أمثلة: المثال الأول: أن تكون الدار صغيرة. لو قسمت لم يستمتع بها أحد منهما لصغرها وعدم كفايتها. الثاني: أن يكون الحمام والحمام هو موضع الاغتسال لا موضع قضاء الحاجة أن يكون هذا الحمام صغيرا إذا قسم لم يقوم بالمهمة المنوطة به من دخول الناس والتنظف.
الثالث: الطاحون الصغير وهو كذلك إذا قسم لم يتمكن من طحن متاع الناس وطعامهم ولهذا نقول لما ترّتب على القسمة الضرر صارت قسمة رضا وليست قسمت إجبار.
ثم بدأ بأمثلة رد العوض فقال - رحمه الله - (والأرض التي لا تتعدل بأجزاء , ولا قيمة كبناء أو بئر في بعضها)
الأرض لا يمكن أن تتعدل إلاّ بالأجزاء أو بالقيمة فإذا لم يمكن أن تتعدل لا بالأجزاء ولا بالقيمة صارت قسمة هذه الأرض من قسمة التراضي أمثلة التعدل بالأجزاء أن يملك زيد وعمرو أرض مساحتها خمسة آلاف أو ستة آلاف وهي أرض لا يوجد فيها بناء ولا أي شيء فهذه الأرض يمكن أن تقسم بالأجزاء بأن يأخذ أحدهما النصف والآخر يأخذ النصف الآخر هذه يمكن أولا يمكن؟ يمكن.
القسم الثاني: التعديل بالقيمة والتعديل بالقيمة أن يملك زيد وعمرو أرضا إلاّ أنّ عليها بناء أو بئر وهذا البناء أو البئر يوجد في جزء من الأرض فإذا قسمنا فالقسم الذي فيه البئر أو البناء لا شك أنه أرفع ثمنا من القسم الذي ليس فيه بئر ولا بناء ويكون التعديل بأن نعطي صاحب الأرض الفارغة من الأمتار ما يرفع قيمتها إلى أن تصبح مساوية للأرض أو للقسم الذي فيه بئر أو بناء. إذا لم يمكن التعديل إلاّ بهذه الطريقة فهي قسمة تراضي ولهذا نقول أنّ النسخة اللي أشار إليها المحقق وهي قوله لبناء النسخة هي الصحيحة هو المعنى المراد فيكون المعنى والأرض التي لا تتعدل بأجزاء ولا قيمة لبناء فيها أو بئر في بعضها. هذه النسخة في الحقيقة جيدة والذين أثبتوا نسخة الكاف اضطروا إلى تأويلها ونحن لا نحتاج إلى تأويل مادام توجد نسخة موافقة للمعنى الصحيح.
ثم - قال رحمه الله - (فهذه القسمة في حكم البيع)


يعني أنّ قسمة التراضي المذكورة والمشروحة سابقا حكمها حكم البيع في جميع الأحكام فيشترط لها شروط البيع وفيها خيار مجلس وفيها خيار عيب وفيها خيار شرط وكل الأحكام التي تنبني على وجود عقد البيع تنبني معنا هنا وله أن يرجع مادام في المجلس وهذه من أعظم حقوق قسمة التراضي والسبب أنهم جعلوا هذه القسمة حكمها حكم البيع أنه يشترط في هذه القسمة التراضي ونحن نقول البيع هو مبادلة مال بمال بعد الرضا وهذا التعريف ينطبق معنا في هذه القسمة فإذا صارت بيعا وهذا صحيح.
ثم - قال رحمه الله - (ولا يجبر من امتنع من قسمتها)
هذا تفريع على تقرير أنها قسمت تراضي فإذا قررنا أنها قسمة تراضي فينبني على هذا أنه لا يجبر أحد منهما وتعليل هذا الحكم أنّ في إجبار أي منهما إدخال الضرر عليه , إما بالقسمة المضرة أو بإلزامه بقبول عوض هو لا يريده وذلك نقول التعليل الأقرب بدل تعليل الحنابلة انه إدخال الضرر أنّ نقول هو إما إدخال الضرر أو إدخال الظلم لأنه في صورة العوض ظلم وفي صورة الضرر ضرر. بقينا في مسألة إذا كان الشرع لا يجيز القسمة إلاّ بالتراضي فما هو السبيل لخلوص أيّ من الشريكين من الشركة كيف يخرج من الشركة إذا كان لا يستطيع القسمة فكيف يخرج من الشركة الفقهاء يرون أنه يخرج بأن يلزم بالبيع فنقول أنتم ملزمون بالبيع ويأخذ الثمن يقسّم على الشريكين فإن أراد أحدهما أن يمتلك العين فنقول أدخل أنت كأي مشتر واشتري فإن أبى أحد منهم البيع أجبره القاضي لأنه لا يمكن رفع الضرر عن الشريك الذي أراد الخروج إلاّ بالإلزام بالبيع هل يوجد طريقة أخرى للخروج من الضرر غير البيع؟ لا توجد طريقة لكن أنا حبيت أشوف واختبركم.
ثم - قال رحمه الله - بادئا بالقسم الثاني (وأما ما لا ضرر , ولا رد عوض في قسمته .... الخ)
القسم الثاني: هو ما لا ضرر فيه ولا رد عوض فهو قسمة إجبار ومعنى قسمة إجبار أنه إذا طلب أحد من الشريكين القسمة أجبر الآخر إجبار عليها لأنه لا ضرر.
يقول - رحمه الله - (كالقرية , والبستان , والدار الكبيرة والأرض والدكاكين الواسعة)


القرية والبستان لفظ لا يطلق إلاّ على كبير ولهذا لم يقل كالقرية الكبيرة ولم يقل كالبستان الكبير لأنّ القرية لا تكون قرية إلاّ وهي كبيرة والبستان كذلك. ثم قال كالقرية والبستان وقلنا أنّ هذه الأعيان كبيرة يمكن أن تقسم بلا ضرر وعلى أيّ منهما.
ثم - قال رحمه الله - (المكيل والموزون)
المكيل يختص بأشياء والموزون بأشياء فالحبوب والثمار والمائعات كلها مكيلة , والذهب والفضة والمعادن كلها موزونة , لكن اشترط شرطا فقال - رحمه الله - (من جنس واحد كالأدهان , والألبان ونحوها)
يشترط في المكيل والموزون أن يكون من جنس واحد لأنه لو كان من جنسين لكانت مبادلة نوع بنوع وهو نوع من البيوع ونحن نقول أنّ البيوع تحتاج إلى الرضا.
ثم - قال رحمه الله - (إذا طلب الشريك قسمتها أجبر الآخر عليها)
يجبر الشريك في قسمة الإجبار على أن يقسم مع شريكه وعللوا هذا بأنّ في هذا الإجبار رفع للضرر عن الشريك الآخر ووجه ذلك أنّ الإنسان إذا تفرد بنصيبه استطاع أن يفعل فيه ما لا يتمكن منه مع شريكه فبإمكانه أن يبني أو أن يغرس ومثلوا بهذين المثالين لأنهما من الأشياء النافعة للشريك متى استقل بقسمها.
ثم - قال رحمه الله - (وهذه القسم إفراز لا بيع)
هذه القسمة ليست بيع ولا يشترط لها شروط البيع وإلاّ لم تكن قسمة إجبار بل هي إفراز يعني مجرد تمييز نصيب أحدهما عن نصيب الآخر.
والقول الثاني: أنها بيع لأنّ كل واحد منهما يشتري نصيب شريكه المشاع والصحيح أنها إفراز وليست ببيع ولو كان في ظاهر العقد يوجد مبادلة لكنها مبادلة صورية وليست مبادلة على سبيل العوض.
ثم - قال رحمه الله - (ويجوز للشركاء أن يتقاسموا بأنفسهم وبقاسم ينصبونه أو يسألوا الحاكم نصبه)
بيّن أنّ القسمة على ثلاثة أنواع:
1 - إما أن يتقاسموا بأنفسهم.
2 - أو أن ينصبوا هم رجلا يقسم بينهم.
3 - أو أن يذهبوا إلى الحاكم.


والجميع جائز بلا خلاف لأنّ الحق بينهما لا يخرج عنهما فلهما أن يستوفياه بماشاءا من الطرق لكن يشترط أن يكون القاسم أمينا عارفا بالقسمة فإن وضعا هما رجلا جاهلا أو فاسقا , فإنّ القسمة ليست بملزمة إلاّ بعد الرضا الثاني. فإذا أتيا برجل متدين وفيه خير وأمانة إلاّ أنه لا يحسن كيفية القسمة فإنّ قسمته ليست بملزمة للطرفين فإن شاء بعد ذلك قبلا وإن شاء ردا.
ثم - قال رحمه الله - (وأجرته على قدر الأملاك)
أجرة القاسم على قدر الأملاك لا على حسب ما اتفقوا عليه فإذا كان أحدهما يملك ثلاثة أرباع العين والآخر يملك ربع العين وأتوا بشخص عارف أمين ليقسم بينهما بأجرة فإنّ على من يملك ثلاثة أرباع العين ثلاثة أرباع الأجرة وعلى من يملك الربع ربع الأجرة.
والقول الثاني: أنه بحسب ما اتفقوا عليه فإذا اتفقوا أن يدفع صاحب الربع نصف الأجرة وصاحب ثلاثة أرباع نصفها صح لعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - المسلمون على شروطهم وهذا القول الثاني هو الصحيح إن شاء الله.
يقول الشيخ - رحمه الله - (فإذا اقتسموا أو اقترعوا لزمت القسمة , وكيف اقترعوا جاز)
إذا اقتسموا وانتهت القسمة فليس لأحد الرجوع سواء اقتسموا هم أو بقاسم أتوا به هم أو حكم بينهما القاضي إذا انتهت القسمة فإنه لا يجوز لهم الرجوع ويعتبر إلزام لأنّ قسمة القاسم كحكم القاضي فهي ملزمة ويستثنى من هذا إذا رجعوا قبل أن يبدأ بالقسمة فلهم ذلك أما بعد القسمة فإنه لا يجوز الرجوع لأنّ هذا يؤدي إلى أنه لا فائدة من القسمة.
يقول الشيخ - رحمه الله - أخيرا (وكيف اقترعوا جاز)
يعني أنّ الشارع الحكيم لم يبيّن طريقة معيّنة محددة لإجراء القرعة بل لهم أن يقترعوا حسب ما يرونه مناسبا بالطريقة التي يرونها مناسبة


الدرس: (4) من القضاء

قال شيخنا حفظه الله:
بسم الله الرحمن الرحيم والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

باب الدعاوى والبيّنات
قال - رحمه الله - باب الدعاوى والبيّنات.
الدعوى في لغة العرب / هي الطلب وأما في الاصطلاح فهي إضافة الإنسان لنفسه استحقاق ما في يد غيره أو ذمته. وأما البيّنات فهي جمع بيّنة والبيّنة في الأصل هي الدلالة الواضحة أو الحجة الواضحة.
وأما في الاصطلاح / فهي عند الفقهاء عبارة عن الشاهدين , أو الشاهد مع اليمين والأربعة شهود ونحو هؤلاء فهذه هي البيّنات عند الفقهاء.
والقول الثاني: أنّ البيّنة هو كل ما أبان الحق سواء كان بالشهود والأيمان أو بغيرها مما يدل على المصيب من المتخاصمين وهذا الثاني هو الذي اختاره ابن القيم وهو الأقرب.
قال - رحمه الله - (المدعي من إذا سكت ترك)
المدعي هو كل من إذا سكت ترك لأنه هو الطالب والطالب إذا سكت ترك وقيل أنّ المدعي هو من يطالب غيره بحق في يده أو ذمته يعني في يد المطلوب أو ذمته. وهذا في الواقع هو الصحيح وهذا هو التعريف. لأنّ قولهم من إذا سكت ترك أخذنا أنه إذا تقدم المدعي إلى مجلس الحكم فإنّ القاضي ينبغي أن لا يستمر في السكوت إلى أن يتكلم أحدهما بل ينبغي أن يبادر فيقول أيّكما المدعي فالتعريف الثاني هذا هو الصواب.
ثم - قال رحمه الله - (والمدعى عليه من سكت لم يترك)
لأنه مطلوب والمطلوب لا بد أن يجيب إما بالإقرار أو بالإجابة عن بيّنة المدعي , وقيل أنّ المدعى عليه هو من يطالب بحق ومن يطالب بحق لغيره وهذا أيضا هو التعريف الأقرب إن شاء الله.
ثم - قال رحمه الله - (ولا تصح الدعوى والإنكار إلاّ من جائز التصرف)
جائز التصرف هو من جمع ثلاث خصال البلوغ والعقل والرشد. يعني التكليف مع الرشد فهذا شرط لصحة الدعوى لأنّ من لا يصح قوله لا يصح تصرفه في الأموال فإذا كنا لا نصح تصرفه فلا نصحح قوله وإذا لم نصحح قوله لم نصحح تصرفه.
ثم - قال رحمه الله - (وإذا تداعيا عينا بيد أحدهما فهي له مع يمينه)


إذا تداعيا عينا هي في يد أحدهما فهي لمن العين بيده لكن مع يمينه ودل على هذا الحكم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لو يعطى الناس بدعواهم لا ادعى قوم دماء ناس وأموالهم. ولكن اليمين على المدعى عليه. فهذا الحديث يعتبر قاعدة هذا الباب وهو أنّ الإنسان لا يعطى بمجرد الدعوى ولهذا تجد المؤلف - رحمه الله - (إذا تدعيا عينا بيد أحدهما فهي له لكن مع يمينه يعني فإنها تبقى معه لأنّ الآخر لم يأتي ببيّنة.
ثم - قال رحمه الله - (إلاّ أن تكون له بيّنة فلا يحلف)
إذا تداعيا عينا بيد أحدهما وأيضا من العين بيده معه بيّنة على أنها له فإنّ العين تبقى بيده بلا يمين إلى هذا ذهب جماهير السلف والخلف
من التابعين والأئمة وجماهير السلف والخلف واستدلوا على هذا بأنّ البيّنة إنما وضعت شرعا لتبيّن مع من الحق فإذا بيّنت أنّ الحق مع صاحب اليد لم نعد بحاجة إلى اليمين.
والقول الثاني: مذهب شريح فإنه ألزم مع البيّنة باليمين يعني لم يكتفي بمجرد بالبيّنة بل أضاف إلى هذا اليمين ولما قيل له ما هذا الذي أحدثت قال أحدث الناس فأحدثت. وهذه العبارة تدل على أنه - رحمه الله - كان متفرد بهذا القول في زمن التابعين لأنّ السائل وصفه بأنه أحدث القول وأيضا شريح لم ينكر ولم يقل بل لي سلف والصحيح إن شاء الله أنّ طلب اليمين مع البيّنة يعود إلى القاضي فإنه إذا شك في بيّنته ورأى أن يلزمه مع ذلك باليمين فله ذلك لاسيما مع فساد الزمان وضعف الذمم وضعف التدين.
ثم - قال رحمه الله - (فإن أقام كل واحد بيّنة أنها له قضي للخارج ببيّنته ولغت بيّنة الداخل)
الداخل هو من العين بيده , والخارج هو من العين ليست بيده فالمذهب إذا تداعى رجلان كل منهما له بيّنة والعين بيد أحدهما فالحكم أنها تعطى لبيّنة الخارج يعني لمن لم تكن العين بيده واستدلوا على هذا بأدلة:
الدليل الأول" أنّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال البيّنة على المدعي واليمين على من أنكر. فحصر النبي - صلى الله عليه وسلم - البيّنة في جانب المدعي فبيّنة المدعي هي المعتبرة.


الثاني" أنّ بيّنة المدعي فيها زيادة والقاعدة أنّ من معه زيادة يقبل. وجه الزيادة يقرره الدليل الثالث وهو أنّ بيّنة من بيده العين قد تكون استفيدت من كون العين بيده فشهد معه لأنه يرى العين بيده وهي أدلة كما ترى وجيهة وترفع الاستغراب الذي قد يقع للناظر في هذه المسألة.
القول الثاني: وهو للجمهور أنها تكون لمن بيده العين لأنّ من بيده العين معه اليد والبيّنة وهذا القول الذي ذهب إليه الجمهور هو القول المتبادر إلى الذهن إذا اجتمع رجلان مع كل منهما بيّنة إلاّ أنّ إحدهما معه أيضا اليد فإنه يرجح باليد وهذا هو الراجح إن شاء الله بقينا في مسألتين إذا كانت العين ليست في يد أيِّ منهما , وإذا كانت العين في يد كل منهما! فالحكم أنهما يتحالفان ويتناصفان العين
لأنه ليس لأحد منهما ما يدل على رجحان جانبه. وهذه المسائل وإن كانت تقرر بهذا الشكل إلاّ أنه لا يخفى على الإنسان أنّ القاضي إذا عرضت عليه القضية لا يجمد على مثل هذه الأقوال بل يتحرر ويلتمس الحق حيث كان ويتأمل في البيّنات وأوضاع المتكلم وأوضاع المتداعيين وطبيعة العين يعني أنا أخشى ما أخشاه أنّ الإنسان يفهم الأقوال قوالب أنّ القاضي إذا جاءه مثل هذه المسائل يحكم بهذه الطريقة أنّ العين بيد فلان إلى آخره هذا هو الأصل ولكن القاضي عليه أن يتحرى وأن يكون مقصوده وهمّه هو إيصال الحق إلى صاحبه بأيّ طريقة كانت.
بهذا انتهى الكتاب وننتقل إلى الشهادات.