الإحكام
شرح أصول الأحكام كتاب الصلاة
في الأصل الدعاء وفي الشرع أقوال وأفعال مخصوصة مفتتحة بالتكبير مختتمة
بالتسليم وهي آكد أركان الإسلام بعد الشهادتين وأفضل الأعمال بعدهما لجمعها
لمتفرق العبودية وتضمنها لأقسامها. وهي دين الأمة ضرورة. وفرض عين بالكتاب
والسنة والإجماع فرضها الله -عز وجل- على نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -
ليلة المعراج في السماء دون غيرها.
فدل على تأكد فرضيتها. وأحاديث كل صلاة من الصلوات الخمس وأحاديث الركعات
وما تشتمل عليه كل ركعة والركوع والسجود والاعتدال منهما وترتيب ذلك مستفيض
متواتر تواترًا معنويًا وفي فضلها وتحتمها آيات وأحاديث كثيرة وثبت أنهن
كفارات لما بينهن.
(قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا} يعني الكفار {إِلاَّ لِيَعْبُدُوا
اللَّهَ} يوحدوه بالعبادة ويفردوه {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} قال
ابن عباس ما أمروا في التوراة والإنجيل إلا بإخلاص العبادة لله
(1/128)
موحدين {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ
مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا
فَاعْبُدُون} {حُنَفَاء} مائلين عن الأديان كلها إلى دين الإسلام مقبلين
على الله معرضين عن كل ما سواه.
{وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ} وما أمروا إلا ليؤدوا الصلاة المكتوبة بأركانها
وواجباتها في أوقاتها {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} عند محلها {وَذَلِكَ دِينُ
الْقَيِّمَة} أي الذي أمروا به هو الملة والشريعة المستقيمة وقرن الله
الصلاة بالإيمان في قوله: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ
الصَّلاةَ}، وقال {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ
الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} وغير ذلك من الآيات وقرنها بالتوحيد
يفيد عظم شأنها.
(وفي الصحيحين عن ابن عمر قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - بني
الإسلام) وهو الاستسلام لله واسم للدين والشريعة (على خمس) أي قواعد أو
دعائم وفي رواية "على خمسة" أي أركان مثل الإسلام ببناء أقيم على خمسة
أعمدة لا يستقيم إلا بها.
قطبها (شهادة أن لا إله إلا الله) أي جزم أن لا معبود بحق إلا الله (وأن
محمدًا رسول الله) ولا بد مع التكلم بهما من العلم بمعناهما والعمل
بمقتضاهما باطنًا وظاهرًا.
قال تعالى: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُون} (وإقام
الصلاة) أي المداومة عليها (وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج بيت الله
الحرام).
فدل هذا الحديث على أن الإسلام لا يستقيم إلا بهذه
(1/129)
الخمسة الأركان لا يثبت بدونها فما انتقص
من هذه الدعائم الخمس زال الإسلام بفقده. وثنى بالصلاة بعد الشهادتين
وقدمها على بقية الأركان لعظم شأنها ولا يقدم إلا الأهم.
وعن معاذ مرفوعًا "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة".
(ولهما من حديث معاذ أخبرهم) يعني أهل اليمن حين بعثه إليهم معلمًا (إن
الله افترض) وفرض فرضًا وافتراضًا أوجب "عليهم" يعني بعد التوحيد (خمس
صلوات في كل يوم وليلة) تكرر بتكرر الأيام والسنين. فرض عين على كل مسلم
مكلف بإجماع المسلمين. وعن ابن عمر مرفوعًا: "أمرت أن أقاتل الناس حتى
يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. ويقيموا الصلاة. ويؤتون
الزكاة. فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام،
وحسابهم على الله –عز وجل" متفق عليه.
فدلت هذه الأحاديث على آكدية فرضيتها. وللبخاري عن أنس "من صلى صلاتنا
واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فذلك المسلم الذي له ذمة الله وذمة رسوله فلا
تخفروا الله في ذمته".
وأجمعوا على أنه إذا أسلم لم يجب عليه قضاء ما تركه حال كفره لقوله –عليه
الصلاة والسلام- "الإسلام يجب ما قبله".
(وللخمسة) وغيرهم عن عمرو بن شعيب وسبرة وعلي
(1/130)
وعائشة وغيرهم من طرق بألفاظ متقاربة
(وصححه الترمذي) والحاكم والنووي وغيرهم أن النبي – - صلى الله عليه وسلم -
قال (مروا أبناءكم) وفي لفظ "صبيانكم" أي يلزم كل ولي أن يأمر الصبي
(بالصلاة لسبع) سنين إذا فهم الخطاب. قال شيخ الإسلام ويجب على كل مطاع أن
يأمر من يطيعه بالصلاة حتى الصغار لقوله "مروهم بالصلاة" ومن عنده صغير
مملوك أو يتيم أو ولد فلم يأمره فإنه يعاقب الكبير إذا لم يأمر الصغير
ويعزر تعزيرًا بليغًا لأنه عصى الله ورسوله.
(واضربوهم عليها لعشر) سنين ضربًا غير مبرح وجوبًا لتمرينه عليها حتى
يألفها (وفرقوا بينهم في المضاجع) أي المراقد لأن بلوغ العشر مظنة الشهوة
ونومهما في فراش واحد ذريعة إلى نسج الشيطان بينهما المواصلة المحرمة لا
سيما مع الطول والرجل قد يعبث في نومه بالمرأة في نومها إلى جانبه وهو لا
يشعر. وفي لفظ "أولادكم" وللترمذي "علموا الصبي الصلاة ابن سبع سنين" قال
النووي وغيره والصبي يتناول الصبية بلا خلاف. وكذا لفظ الأولاد يشمل الذكر
والأنثى.
(وعن جابر قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - بين الرجل وبين
الكفر ترك الصلاة) أي الذي يمنع من كفره كونه لم يترك الصلاة فإن تركها لم
يكن بينه وبين الكفر حائل (رواه مسلم) وأهل السنن وصححه الترمذي وغيره
وللطبراني عن ثوبان مرفوعًا "بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة" وقال
إسناده صحيح على شرط
(1/131)
مسلم وأتى به معرفًا بالألف واللام والمراد
به الكفر الأكبر المخرج من الملة.
(وعن بريدة مرفوعًا العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة) أي الميثاق المؤكد
بالإيمان الذي بيننا معشر المسلمين في إجراء أحكام الإسلام هو الصلاة وقال
في أمراء الجور "لا تقاتلوهم ما صلوا" (فمن تركها فقد كفر) فلا يسمى تاركها
مسلمًا ولا مؤمنًا وإن كان معه شعبة من شعب الإسلام والإيمان ولا تنفع صلاة
من صلى بلا وضوء عمدًا (رواه الخمسة وصححه الترمذي والعراقي وغيرهم.
قال ابن القيم والأدلة تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا
بفعل الصلاة فهي مفتاح ديوانه ورأس مال ربحه وقال ابن رجب وردت أحاديث
متعددة تدل على أن من تركها فقد خرج من الإسلام. وقال عبد الله بن شقيق كان
أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يرون من الأعمال شيئًا تركه كفر
إلا الصلاة.
وحكى إسحاق إجماع أهل العلم عليه، فترك الصلاة كسلاً من غير جحود لها كفر
مستقل في قول جمهور السلف وهو الذي تدل عليه السنة. بل نقل ابن راهويه
وغيره الإجماع
عليه.
وقال ابن القيم قد شهد بكفره الكتاب والسنة واتفاق الصحابة وأما من جحد
وجوبها فهو كافر بإجماع المسلمين وإن فعلها لأنه مكذب لله ورسوله وإجماع
الأمة ويكون مرتدًا بلا
(1/132)
خلاف. وإن ادعى الجهل عرف. قال الشيخ نص
جمهور العلماء على أنه إذا ضاق الوقت ولم يصل قتل ولو قال أنا أقضيها. وقال
ابن رجب ظاهر كلام أحمد وغيره أن من تركها كفر بخروج الوقت عليه ولم
يعتبروا أن يستتاب. ولا أن يدعي إليها للأخبار. وحكي الإجماع عليه كالمرتد،
وكترك الصلاة ترك ركن أو شرط مجمع عليه اختاره الشيخ وقال إذا ترك الصلاة
عمدًا لا يشرع له قضاؤها ولا تصح منه بل يكثر من التطوع وليس في الأدلة ما
يخالف هذا بل يوافقه.
باب الأذان
أي والإقامة وما يتعلق بهما من الأحكام لما ذكر الصلاة أعقبها بالأذان
مقدمًا له على الوقت لأنه إعلام به. والأذان في الأصل الإعلام {وَأَذِّن
فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أعلمهم به من الأذن وهو الاستماع لأنه يلقي في
آذان الناس ما يعلمهم به. وشرعًا إعلام بوقت الصلاة بألفاظ مخصوصة.
والإقامة إعلام بالقيام إلى الصلاة وهما مشروعان بالكتاب والسنة والإجماع.
وقال الشيخ وغيره هما فرض كفاية إجماعًا. ليس لأهل قرية ولا مدينة أن
يدعوهما، ومن أطلق السنية قال يعاقب التارك فالنزاع لفظي. وفرض الكفاية هو
ما يلزم جميع المسلمين إقامته وإذا قام به من يكفي سقطت الفرضية عن الجميع.
قال تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ} أيها المسلمون
(1/133)
بالآذان والإقامة كما أمرتم {اتَّخَذُوهَا}
يعني اليهود والمنافقون {هُزُوًا} سخرية وهزأ واستهزأ سخر {وَلَعِبًا} ضحكة
وباطلاً وذلك أنه إذا نادى منادي رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وقام
المسلمون إلى الصلاة قالت اليهود قد قاموا لا قاموا وصلوا ويضحكون على طريق
الاستهزاء فأنزل الله هذه الآية.
ويقال إن المنافقين كانوا إذا سمعوا النداء حسدوا المسلمين عليه، فقالوا
لقد بدعت شيئًا لم يسمع بمثله من أين لك صياح كصياح العير، فأنزل الله
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ} وأنزل {وَإِذَا
نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} ذلك الفعل
منهم {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُون} يعني أن هزوهم ولعبهم لمن أشغال
السفهاء والجهال الذين لا عقل لهم. ويأتي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} ومن
المعلوم بالضرورة أن المراد بالنداء هو الأذان المشروع للصلوات الخمس.
(وعن أنس أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -) كان إذا غزا بنا قومًا لم
يكن يغير بنا حتى يصبح و (ينظر) يعني قبل أن يغير على العدو (فإن سمع
أذانًا) يعني لصلاة الصبح ويعم سائر الأوقات (كف عنهم) وقال البخاري: باب
ما يحقن بالأذان من الدماء ففيه حقن الدماء عند وجود الأذان (وإن لم يسمع
أذانًا أغار عليهم) قال فخرجنا إلى خيبر فانتهينا إليهم ليلاً فلما أصبح
ولم يسمع أذانًا ركب يعني فأغار عليهم (رواه البخاري).
(1/134)
فالأذان شعار دار الإسلام الذي يستحل دماء
أهل الدار وأموالهم بتركه فيقاتل أهل بلد تركوهما وحكي إجماعًا حتى
يفعلوهما لما يلزم من الإجماع على تركهما من استخفافهم بالدين بخفض أعلامه
الظاهرة. وهكذا حكم شعائر الإسلام الظاهرة. وإن كانوا مستقيمين على دين
الإسلام فإن موجب القتال أعم من أن يكون لأجل الردة.
(وعن مالك بن الحويرث) هو ابن سليمان الليثي وفد إلى النبي – - صلى الله
عليه وسلم - وسكن البصرة وتوفي سنة أربع وتسعين قال أتيت النبي – - صلى
الله عليه وسلم - في نفر من قومي هم بنو ليث بن بكر بن عبد مناف قال فأقمنا
عنده عشرين ليلة وكان رحيمًا رقيقًا فلما رأى شوقنا إلى أهلينا (قال – -
صلى الله عليه وسلم -) ارجعوا فكونوا فيهم وعلموهم و (إذا حضرت الصلاة) أي
دخل وقتها (فليؤذن لكم أحدكم متفق عليه) والأمر يقتضي الوجوب والمراد في
الفرائض المتعينة وهي الصلوات الخمس كما هو معلوم من الدين بالضرورة لا
النوافل فلا أذان لها ولا إقامة. وفي رواية "إذا سافرتما فأذنا وأقيما".
وعن أبي الدرداء مرفوعًا: "ما من ثلاثة لا يؤذن ولا تقام فيهم الصلاة إلا
استحوذ عليهم الشيطان" رواه أحمد وغيره. ويؤيده أنه – - صلى الله عليه وسلم
- لم يتركهما حضرًا ولا سفرًا وليس شرطًا فتصح بدونهما لكن يكره واتفقوا
على سنيته وفيه أنه لا يجزئ إلا بعد دخول الوقت وهو إجماع إلا الفجر بعد
نصف
(1/135)
الليل لما في الصحيحين إن بلالاً يؤذن
بليل. وظاهر الخبر يجزئ من مميز لصحة صلاته كالبالغ.
قال الشيخ والأشبه إن الأذان الذي يسقط به الفرض ويعتمد لا يباشره صبي
قولاً واحدًا.
وقال المؤذن الراتب لا يكون إلا عدلاً. ولأبي داود "وليؤذن لكم خياركم".
وترتيب الفاسق مؤذنًا لا ينبغي قولاً واحدًا. وقال يعمل بقول المؤذن في
الوقت مع إمكان العلم بالوقت. وهذا مذهب أحمد والشافعي وسائر العلماء
المعتبرين كما شهدت به النصوص خلافًا لقول بعض أصحابنا ولم يزل الناس
يعملون بالآذان من غير نكير فكان إجماعًا. وقال ابن القيم أجمع المسلمون
على قبول أذان المؤذن الواحد وهو شهادة منه بدخول الوقت.
(وعن جابر أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - أتى المزدلفة) في حجة
الوادع منصرفة من عرفة (فصلى بها المغرب والعشاء) جمعًا (بآذان واحد
وإقامتين رواه مسلم) زاد أبو داود من حديث ابن عمر بعد قوله: "بإقامة واحدة
لكل صلاة"، وللترمذي في قصة الخندق أنهم شغلوه عن أربع صلوات "فأذن وأقام
لكل صلاة" فدل على مشروعية الأذان والإقامة في نحو تلك المواطن.
(وله عن أبي قتادة) في الحديث الطويل (في نومهم عن الصلاة) أي صلاة الفجر
وكان عند قفولهم من غزوة خيبر
(1/136)
(ثم أذن بلال) أي: بأمره – - صلى الله عليه
وسلم - كما في سنن أبي داود "ثم أمر بلالاً أن ينادي بالصلاة فنادى بها"
(فصلى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - كما كان يصلي كل يوم) ففيه دلالة
على شرعية التأذين للصلاة الفائتة بنوم. ويلحق بها المنسية. وله من حديث
أبي هريرة "أنه أمر بلالاً بالإقامة" قال ابن رشد وغيره والأمر بالأذان
منقول بالتواتر والعلم به حاصل ضرورة. ولا يرده إلا كافر يستتاب. فإن تاب
وإلا قتل.
(وعن معاوية) بن أبي سفيان الأموي أمير المؤمنين صحب النبي – - صلى الله
عليه وسلم - وكتب له وولاه عمر الشام ثم استقل واجتمع عليه الناس عشرين سنة
ومات سنة ستين (أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال "إن المؤذنين) أي
المنادين للصلوات الخمس (أطول الناس أعناقًا) أي رقابًا لأن الناس في كرب
الموقف متطلعون أن يؤذن لهم في دخول الجنة. وفي صحيح ابن حبان من حديث أبي
هريرة "يعرفون بطول أعناقهم" وقيل رؤساء سادة (يوم القيامة) وظاهره الطول
الحقيقة (رواه مسلم) وغيره وهذا ما لم يكن القصد الدنيا ونحوها فليس من
أعمال الآخرة.
وعن ابن عمر مرفوعًا "ثلاثة على كثبان المسك يوم القيامة يغبطهم الأولون
والآخرون رجل نادى بالصلوات الخمس في كل يوم وليلة" رواه الترمذي وغيره
ولأبي داود "عجب ربك من راعي غنم يؤذن للصلاة" الحديث وفي الصحيح "لو يعلم
الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا
(1/137)
عليه لاستهموا" ولأحمد بسند صحيح "يغفر له
منتهى صوته ويستغفر له كل رطب ويابس" وفي فضله أحاديث كثيرة. وقال بعض أهل
العلم الأذان أفضل من الإمامة قال الشيخ هذا أصح الروايتين. وإمامته – -
صلى الله عليه وسلم - وخلفائه متعينة ففي حقهم أفضل لخصوص أحوالهم.
(وعن عثمان بن أبي العاص أنه – - صلى الله عليه وسلم - قال له) وذكر أنه
آخر ما عهد إليه (اتخذ مؤذنًا) ففيه الأمر بالأذان (لا يأخذ على أذانه) أي
ندائه للصلاة (أجرًا) أي عوضًا يسمى له، لا رزق من بيت المال لعدم متطوع
(رواه الخمسة) وغيرهم (وحسنه الترمذي) وقال العمل عليه عند أهل العلم. وقال
ابن عمر لرجل إني لأبغضك في الله لأنك تأخذ على أذانك أجرًا ولا يعرف له
مخالف من الصحابة.
وقال مالك يؤجر نفسه في سوق الإبل أحسن من أن يعمل لله بالإجارة وكذا
الإقامة لأنهما قربة لفاعلهما. وكذا يحرم دفعها وهو مذهب أبي حنيفة وإحدى
الروايتين عن أحمد. وقيل يجوز مع الفقر اختاره شيخ الإسلام. قال وكذا كل
قربة.
(وعن عبد الله بن زيد) بن عبد ربه الأنصاري الخزرجي شهد العقبة والمشاهد
ومات بالمدينة سنة اثنتين وثلاثين (قال طاف بي) جواب لما اهتم به أي مر بي
(وأنا نائم) حال من المفعول قال الجوهري طيف الخيال مجيئه في النوم أي تخيل
لي
(1/138)
(رجل) فاعل طاف أي تشبه له في المنام يحمل
ناقوسًا خشبة أو حديدة طويلة يضربها النصارى إعلامًا للدخول في صلاتهم فقلت
يا عبد الله أتبيع الناقوس قال، وما تصنع به قلت ندعو به إلى الصلاة قال
أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك قلت بلى (قال تقول الله أكبر) فذكر الحديث
وله طرق
وألفاظ.
وسببه والله أعلم أنه لما كثر الناس ذكروا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء
يجمعهم لها. فقالوا لو اتخذ ناقوسًا. فقال رسول الله – - صلى الله عليه
وسلم - "ذلك للنصارى"، فقالوا لو اتخذنا بوقًا قال "ذلك لليهود" فقالوا لو
رفعنا نارًا قال "ذلك للمجوس" فافترقوا فرأى عبد الله تلك الرؤيا قال
الحاكم هذه أمثل الروايات في قصة عبد الله ويقال أصح منه حديث ابن عمر كان
المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحينون الصلاة وليس ينادي بها أحد
فتكلموا يومًا في ذلك فقال بعضهم اتخذوا ناقوسًا مثل ناقوس النصارى، وقال
بعضهم اتخذوا قرنًا مثل قرن اليهود قال فقال عمر ألا تبعثون رجلاً ينادي
بالصلاة. فقال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "يا بلال قم فناد
بالصلاة" وقيل غير ذلك.
(فذكر الأذان) يعني ذكر عبد الله بن زيد -رضي الله عنه- كلمات الأذان
(بتربيع التكبير) أي تقول الله أكبر. الله أكبر. الله أكبر الله أكبر وتثني
ما سواه وهو الشهادتان والحيعلة والتكبير ويفرد كلمة التوحيد. والمراد
بالتثنية في الجملة وإلا فقد
انعقد الإجماع على إفراد التهليلة (والإقامة فرادى) لا تكرير في
(1/139)
شيء من ألفاظها (إلا قد قامت الصلاة) فتكرر
قال فلما أصبحت أتيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فأخبرته، يعني
أخبره بتلك الرؤيا التي رأها. ولأبي داود وهو مهتم لهم رسول الله – - صلى
الله عليه وسلم - فأري الأذان فدل على مشروعيته لاهتمامه – - صلى الله عليه
وسلم - في أمر يجمعهم لها.
(فقال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إنها لرؤيا حق) أي صادقة مطابقة
للوحي. والحكمة التنويه بقدره والرفع لذكره قال فقم (فألقه على بلال) أي ما
رأيت "فليؤذن به" (فإنه أندى) أي أرفع وأحسن وللترمذي وأمد (صوتًا منك)
يعني فيكون أبلغ في الإعلام المقصود منه. وقال لأبي سعيد الخدري "إذا كنت
في غنمك فارفع صوتك بالنداء". ولأبي داود أنه قال لأبي محذورة "ثم ارجع فمد
صوتك" ولحديث يغفر له "مدى صوته" قال فجعلت ألقيه عليه ويؤذن به.
قال فسمع ذلك عمر وهو في بيته فخرج يجر رداءه يقول والذي بعثك بالحق يا
رسول الله لقد رأيت مثل الذي رأى فقال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -
"فلله الحمد" رواه أحمد وأبو داود و (صححه البخاري) والترمذي وابن خزيمة
وغيرهم ولأحمد كان بلال يؤذن بذلك فرفع صوته في الفجر الصلاة خير من النوم
قال ابن المسيب فأدخلت في التأذين لصلاة الفجر.
(ولأحمد عن أبي محذورة) أوس بن المغيرة الجمحي مؤذن.
(1/140)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة
أمره به منصرفة من حنين توفي سنة تسع وخمسين (نحوه) أي نحو حديث عبد الله
بن زيد بتربيع التكبير كما هو مذهب الجمهور أبي حنيفة والشافعي وأحمد
وغيرهم بغير ترجيع. ولمسلم عنه بترجيع الشهادتين يخفض صوته بهما ثم يعيدهما
رافعًا بهما صوته. وهو مذهب طائفة من أهل العلم. والأذان بغير ترجيع هو
المشهور من حديث عبد الله بن زيد. وكان بلال يؤذن كذلك إلى أن مات.
والنبي - صلى الله عليه وسلم - أقره عليه بعد ما رجع من فتح مكة وعليه عمل
أهل المدينة وهو مذهب أحمد وأبي حنيفة وأكثر أهل العلم.
وقال أحمد هو آخر الأمرين والترجيع مذهب أهل مكة. قال شيخ الإسلام كل منهما
أذان صحيح عند جميع سلف الأمة وعامة خلفها وكل واحد منهما أذان صحيح عند
جمع سلف الأمة وعامة خلفها وكل واحد منهما سنة. ومن تمام السنة أن يفعل هذا
تارة وهذا تارة لأن هجر ما وردت به السنة وملازمة غيره قد يفضي إلى أن تجعل
السنة بدعة.
(وفيه) أي في حديث أبي محذورة فإن كان صلاة الصبح قلت (الصلاة خير من
النوم) الصلاة خير من النوم، ورواه أهل السنة وغيرهم من غير وجه وصححه ابن
خزيمة ويستحب أن يستقبل القبلة فيهما كغيرهما إجماعًا سوى الحيعلتين
ويقولهما ولو أذن قبل الفجر لخبر بلال. وقال أنس إنه من السنة وأخرج
الترمذي من حديث بلال لا تثويب في شيء من الصلوات إلا
في صلاة الفجر وهو الذي اختاره أهل العلم وعمل المسلمين
(1/141)
عليه قال بلال ونهاني أن أثوب في العشاء
وكذا يكره النداء بعد الأذان في الأسواق وغيرها مثل أن يقول الصلاة
والإقامة. قال الشيخ إذا كانوا يسمعون النداء وإلا فلا ينبغي أن يكره. فإن
تأخر الإمام أو أماثل الجيران فلا بأس أن يمضي إليه من يقول قد حضرت
الصلاة. وما سوى التأذين قبل الفجر من التسبيح ونحوه يرفعون أصواتهم به
بدعة.
(وعن أنس قال أمر) بضم الهمزة يعني أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فإنه لا يأمر في الأصل إلا رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - و (بلال)
نائب فاعل وللنسائي "أمر النبي – - صلى الله عليه وسلم - بلالاً" وسبب ذلك
قول أنس. ذكروا النار والناقوس فذكروا اليهود والنصارى وتقدمت الرواية
الثانية عن أنس ورؤيا عبد الله بن زيد فبدأ الأذان كان: عن مشورة أوقعها
النبي – - صلى الله عليه وسلم - بين أصحابه فافترقوا فرأى عبد الله بن زيد
فقص، فقال عمر ألا تبعثون مناديًا فأمر بلال (أن يشفع الأذان) أي أن يأتي
بكلماته مثنى مثنى أو أربعًا أربعًا كالتكبير في أوله والكل يصدق عليه أنه
شفع كما فسره حديث عبد الله بن زيد وأبي محذورة. وهذا بالنظر إلى الأكثر
وإلا فكلمة التوحيد في آخره مفردة (ويوتر الإقامة) أي يفرد ألفاظها (متفق
عليه).
وظاهره أنه يفرد التكبير في أولها ولكن الجمهور على أن التكبير في أولها
مكرر مرتين. وهو بالنظر إلى تكريره في الأذان
(1/142)
أربعًا كأنه غير مكرر فيها وكذلك يكرر في
آخرها. وفي رواية للبخاري وغيره "إلا الإقامة" يعني فيشفعها بقوله. قد قامت
الصلاة. قد قامت الصلاة لا يوترها. وعن ابن عمر نحوه قال البغوي وهذا قول
أكثر العلماء. وشفع الأذان وإيتار الإقامة مستفيض.
والحكمة في تكرير الأذان لأنه لإعلام الغائبين فاحتيج إلى تكريره كما شرع
فيه رفع الصوت والمحل بخلاف الإقامة فإنها لإعلام الحاضرين فتفرد لأنه لا
حاجة إلى تكرار ألفاظها.
ولأبي داود "إن بلالاً يؤذن على بيت امرأة من بني النجار من أطول بيت حول
المسجد إلى أن بنى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - مسجده.
فكان يؤذن على ظهر المسجد" وقد رفع له شيء فوق ظهره.
وبنى سلمة المنائر بأمر معاوية. وتقدم شرعية رفع الصوت وكان مؤذنوا رسول
الله – - صلى الله عليه وسلم - يؤذنون قيامًا. وقال القاضي عياض وغيره مذهب
كافة العلماء أنه لا يجوز من قاعد. وميل الشيخ إلى عدم إجزاء أذان القاعد.
وقال في الإنصاف لا يصح إلا مرتبًا متواليًا بلا نزاع.
(وعن أبي جحيفة) وهب بن عبد الله السوائي العامري توفي رسول الله – - صلى
الله عليه وسلم - ولم يبلغ الحلم ولكنه سمع منه. جعله على بيت المال وتوفي
بالكوفة سنة أربع وسبعين (قال رأيت بلالاً يؤذن) ولعله رآه كذلك على
الاستمرار لاستمرار عمل.
(1/143)
الناس عليه (واتتبع فاه ههنا وههنا) أي
أنظر إلى فيه يمنة ويسرة كما فسره بقوله (يقول يمينًا وشمالاً حي على
الصلاة) أي هلم إليها (حي على الفلاح) الفوز والخلود في النعيم المقيم. وحي
اسم فعل بمعنى أسرع. والمراد هلموا وعجلوا إلى طلب ذلك (متفق عليه).
ففيه مشروعية الالتفات في الحيعلتين. وإنما اختصتا بذلك لأن غيرهما ذكر.
وهما خطاب للآدمي كالسلام في الصلاة يلتفت فيه دون ما عداه. وفائدة التفاته
أنه أرفع لصوته.
ويعرفه من يراه على بعد قال الشيخ لم يستثن العلماء إلا الحيعلة. وأما
الإقامة فالسنة أن يقولها مستقبل القبلة (زاد أبو داود ولم يستدر) يعني
بجملة بدنه. وعن أحمد وغيره لا يدور إلا إذا كان على منارة قصدًا لإسماع
أهل الجهتين وفاقًا لكبر البلد (وفي رواية واصبعاه) قال النووي وغيره
المسبحتان (في أذنيه) لأنه أرفع لصوته ولا يتعين وضع المسبحتين ولكنهما
أولى من الإبهامين وغيرهما (صححه الترمذي) وقال العمل عليه عند أهل العلم
يستحبون أن يدخل أصبعيه في أذنيه في الأذان.
(وله عن جابر وضعفه أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال إذا
أذنت فترسل) أي: رتل ألفاظ وتمهل ولا تسرع في سردها بل أقطع الكلمات بعضها
من بعض لأن المراد منه الإعلام للبعيد وهو مع الترسل أكثر إبلاغًا (وإذا
أقمت فاحدر) أي أسرع لأنه إبلاغ للحاضرين فكان الإسراع بها أنسب (واجعل بين
(1/144)
أذانك وإقامتك بقدر ما يفرغ الأكل من أكله)
أي تمهل وقتًا بقدر فراغ الآكل من أكله والمتوضيء من وضوئه ليتمكن من
الصلاة. وتمامه "والشارب من شربه والمعتصر إذا دخل لقضاء الحاجة". وله شاهد
من حديث أبي هريرة ومن حديث سلمان رواهما أبو الشيخ ومن حديث أبي بن كعب
رواه عبد الله ابن الإمام أحمد وكلها ضعيفة.
لكن المقصود من الأذان نداء الغائب فلا بد من وقت يتسع للذاهب للصلاة
وحضورها وإلا لضاعت فائدة الأذان.
قال ابن بطال لا حد لذلك غير تمكن حضور المصلين وبالجملة قد أمر المؤذن أن
يفصل بين الأذان والإقامة ليدرك المصلون الجماعة. ومن أذن فهو يقيم ويجوز
غيره. قال الوزير اتفقوا في الرجل يؤذن ويقيم غيره أن ذلك جائز. وقال في
الجامع ينبغي للمؤذن أن لا يقيم حتى يحضر الإمام ويأذن له في الإقامة لأن
وقتها منوط بنظر الإمام.
(وفي الصحيحين) وغيرهما من غير وجه بألفاظ متقاربة فمن حديث أبي سعيد (إذا
سمعتم النداء) يعني الأذان للصلوات الخمس (فقولوا مثل ما يقول المؤذن) أي
قولاً بمثل ما يقول المؤذن حين تسمعونه على أي حال من طهارة أو غيرها إلا
حال الجماع والتخلي. وفي صحيح مسلم من حديث عمر "إذا قال المؤذن الله أكبر
فقال أحدكم الله أكبر" إلى آخر الأذان كلمة كلمة وأجمعوا على سنيته وأوجبه
أبو حنيفة وأهل الظاهر.
ويدل على الندبية إجابته عليه الصلاة والسلام- المؤذن بـ
(1/145)
"على الفطرة، وخرجت من النار" ويقطع
القراءة والذكر ويجيبه لأنه يفوت، وهذه الأذكار لا تفوت فيقدم الإجابة وإن
لم يجبه حتى فرغ استحب له التدارك ما لم يطل الفصل. ويجيب ثانيًا وثالثًا
اختاره الشيخ ما لم يكن غير مدعو به فلا تتأكد إجابته.
وللبخاري من حديث معاوية ومسلم من حديث عمر نحو حديث أبي سعيد.
(سوى الحيعلتين) يعني حي على الصلاة حي على الفلاح (فيقولوا لا حول ولا قوة
إلا بالله) يعني عند كل واحدة منهما والحكمة في إبدال الحوقلة من الحيعلة
أن الحيعلة دعاء إلى الصلاة معناها هلموا، وإنما يحصل الأجر فيهما
بالإسماع، فأمر السامع بالحوقلة؛ لأن الأجر يحصل لقائلها سواء أعلنها أو
أخفاها، ولمناسبتها لقول المؤذن وتكون جوابًا له بأن تبرأ من الحول والقوة
على إتيان الصلاة والفلاح إلا بحول الله وقوته.
وعن ابن مسعود: ولا حول عن معصية الله إلا بعصمته ولا قوة على طاعة الله
إلا بمعونته وفي حديث عمر "من قال مثل ما يقول صدقً من قلبه دخل الجنة".
ولأبي داود عن أبي أمامة أن بلالاً أخذ في الإقامة فقال رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - في سائر ألفاظ الإقامة نحو حديث عمر في الأذان فلما أن
قال قد قامت الصلاة قال "أقامها الله وأدامها" وسنده ضعيف ورجح بعضهم أن
المجيب يقول في الإقامة كما يقول
(1/146)
في الأذان فإنه يستدل به على الإجابة فيها.
وكذا الصلاة خير من النوم لإطلاق الأذان عليها وهو مذهب الجمهور وما سواه
لا تقوم له حجة.
(ولمسلم) من حديث عبد الله بن عمرو "إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول"
يعني كلمة كلمة كما تقدم (ثم صلوا علي) أي قولوا اللهم صل على محمد ومعناها
الطلب من الله أن يثني عليه ويعلي ذكره والصلاة بمعنى التعظيم والتكريم لا
تقال لغيره - صلى الله عليه وسلم - (فإنه من صلى علي صلاة واحدة) يعني قال
اللهم صل على محمد ونحوه مما ثبت عنه (صلى الله عليه) أي أثنى الله عليه
(بها عشرًا) الحسنة بعشر أمثالها وجاء "صلت عليه الملائكة بها عشرًا" فله
مثل أجر المصلي الذي حصل له ليس المرد أنه يحصل للمصلي أكثر من النبي - صلى
الله عليه وسلم - (ثم سلوا الله لي الوسيلة) فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي
إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل الله لي الوسيلة حلت
عليه"، وفي لفظ "حلت له الشفاعة" فدل على مشروعية الصلاة عليه - صلى الله
عليه وسلم - بعد إجابة المؤذن. وسؤال الوسيلة له - صلى الله عليه وسلم -.
(وللبخاري عن جابر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "من قال حين
يسمع النداء) أي الأذان بالصلاة بعدما يجيبه ويصلي على النبي - صلى الله
عليه وسلم - (اللهم رب هذه الدعوة التامة) بفتح الدال أي دعوة الأذان
الكاملة الشاملة التي لا يدخلها تغيير ولا تبديل (والصلاة القائمة) أي
الدائمة التي لا يغيرها ملة ولا تنسخها
(1/147)
شريعة (آت) أي اعط نبينا (محمدًا) - صلى
الله عليه وسلم - (الوسيلة) وهي منزلة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وداره وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش.
وقد فسرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث المتقدم.
(والفضيلة) الرتبة الزائدة على سائر الخلق (وابعثه) أي يوم القيامة فأقمه
(مقامًا محمودًا) أي الشفاعة العظمى في موقف القيامة الذي يحمده فيه
الأولون والآخرون (الذي وعدته) في كتابك الكريم في قولك جل ذكرك (عسى أن
يبعثك ربك مقامًا محمودًا) وعسى من الله واجب إنك لا تخلف الميعاد (حلت له
شفاعتي يوم القيامة) أي استحقها ووقعت ووجبت له. وله في القيامة ثلاث
شفاعات يختص بها.
وشفاعات له ولسائر النبيين والصالحين. نسأل الله بأسمائه الحسنى أن يشفعه
فينا - صلى الله عليه وسلم -.
(وعن أنس مرفوعًا لا يرد الدعاء بين الأذان والإقامة) رواه الخمسة وغيرهم و
(حسنه الترمذي) وصححه ابن القيم وغيره أي فادعوا "قالوا فما نقول قال سلوا
الله العفو والعافية في الدنيا والآخرة" وورد اثنتان لا تردان الدعاء عند
النداء وعند البأس" رواه أبو داود. وله عن ابن عمر مرفوعًا "قل كما يقول
المؤذن فإذا فرغت فسل تعطه".
ودل الحديث على أن هذا من جملة الأوقات التي ترجى فيها الإجابة. ولا يقال
لا يجاب في غيرها بل ينبغي توخي الدعاء فيها وإكثاره رجاء الإجابة ويستحب
أن يقول رضيت بالله ربًا
(1/148)
وبالإسلام دينًا وبمحمدٍ – - صلى الله عليه
وسلم - نبيًا. وعند أذان المغرب اللهم إن هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك
وأصوات دعاتك فاغفر لي. ورأى أبو هريرة –رضي الله عنه- رجلاً خرج بعد
الأذان من المسجد فقال: "إن هذا قد عصى أبا القاسم – - صلى الله عليه وسلم
- " قال ابن عبد البر أجمعوا على القول بهذا الحديث لمن لم يصل وكان على
طهارة.
قال الشيخ إن كان التأذين للفجر قبل الوقت لم يكره الخروج وأما خروجه لعذر
فلا يحرم.
باب شروط الصلاة
الشروط جمع شرط. والشرط لغة العلامة (فقد جاء اشراطها) علاماتها. والشرط ما
لا يوجد المشروط مع عدمه.
ولا يلزم أن يوجد عند وجوده وشروط الصلاة هي ما يجب لها قبلها ويجب
استمرارها فيها. وهي تسعة الإسلام. والعقل والتمييز. وهذه شروط في كل عبادة
إلا التمييز في الحج.
والرابع رفع الحدث. وهو الوضوء المعروف وتقدم. وتأتي الخمسة الباقية وهي
الوقت. وستر العورة. وإزالة النجاسة. واستقبال القبلة. والنية. وبدأ بالوقت
لأنه آكد شروط الصلاة.
(قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا
مَّوْقُوتًا} مفروضًا مقدرًا محدودًا كلما مضى وقت جاء وقت والمراد الوقت
الذي عينه الله لأداء هذه العبادة فلا
(1/149)
تجزئ قبله بإجماع المسلمين ولا يجوز
إخراجها عنه إجماعًا على أي حال كان من خوف أو أمن إلا في حالة جمع
الصلاتين في وقت إحداهما. قال عمر: الصلاة لها وقت شرطه الله لها لا تصح
إلا به وهو سبب وجوبها لأنها تضاف إليه وتتكرر بتكرره والعلم بدخوله أو
غلبة الظن على دخوله شرط في صحة الصلاة وإن صلى مع الشك أعاد إجماعًا.
(وقال: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} أي ميلها إلى جهة المغرب.
وأصل الدلوك الميل فالشمس تميل إذا زالت وغربت {إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} أي
ظهور ظلمته وهو وقت صلاة العشاء (وقرآن الفجر) يعني صلاة الفجر تسمية لها
ببعض أفرادها معظم أركانها القراءة من إطلاق الجزء الأعظم على الكل. فمن
قوله تعالى {لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ} أخذ الظهر والعصر
والمغرب والعشاء. وقوله {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} صلاة الفجر.
وقد ثبتت السنة بذلك. بل تواترت أقواله – - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله
بتفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام مما تلقوه خلفًا عن سلف
وجيلاً بعد جيل وقرنًا بعد قرن عن سيد المرسلين – - صلى الله عليه وسلم -
{إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} يشهده ملائكة الليل وملائكة
النهار. ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء. وفي الصحيحين "تجتمع ملائكة الليل وملائكة
النهار في صلاة الفجر وصلاة العصر".
(1/150)
(وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله – -
صلى الله عليه وسلم - قال: وقت الظهر) أي أول دخول وقت الظهر المحدد للفعل
من الزمان (إذا زالت الشمس) أي مالت عن كبد السماء إلى جهة المغرب بإجماع
المسلمين لقوله {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} وقال النبي – -
صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر حين زالت الشمس "هذا حين دلكت الشمس" رواه
ابن جرير وغيره. والظهر لغة الوقت. وشرعًا صلاة هذا الوقت (وكان ظل الرجل
كطوله) أي ويستمر وقت صلاة الظهر من زوال الشمس إلى أن يصير ظل كل شيء مثله
إجماعًا.
ويعرف زوال الشمس بزيادة الظل بعد تناهي قصره.
وتحول الشمس عن خط المسامتة وبحدوث الظل بعد عدمه.
وأجمعوا على أنها لا تصح قبل الزوال. وعن جابر أن جبرائيل "صلاها بالنبي –
- صلى الله عليه وسلم - حين زالت الشمس في اليوم الأول. وفي اليوم الثاني
حين صار ظل كل شيء مثله. وقال الوقت ما بين هذين الوقتين" فتضبط ما زالت
عليه الشمس من الظل ثم تنظر الزيادة عليه فإذا بلغت قدر الشاخص فقد انتهى
وقت الظهر (ما لم تحضر العصر) أي يدخل وقتها وحضور وقتها بمصير ظل كل شيء
مثله كما هو مفهوم هذا الخبر فمتى خرج وقت الظهر دخل وقت العصر. وإذا دخل
وقت العصر لم يبق شيء من وقت الظهر (ووقت العصر) والعصر الزمان أو الغداة
أو العشي ومنه سميت صلاة العصر. أي ويستمر وقت
(1/151)
صلاة العصر المختار من مصير الفيء مثله بعد
فيء الزوال من غير فضل بينهما (ما لم تصفر الشمس) ويأتي والشمس بيضاء نقية.
وقال ابن عبد البر أجمع العلماء على أن من صلاها والشمس بيضاء نقية فقد
صلاها في وقتها. وأصرح حديث في تحديد وقتها حديث جبرائيل أنه صلاها بالنبي
– - صلى الله عليه وسلم - في اليوم الأول وظل الرجل مثله. وفي اليوم الثاني
وظل الرجل مثليه.
وقال النبي – - صلى الله عليه وسلم - "الصلاة ما بين هذين الوقتين"، وهذا
مذهب جماهير العلماء ومن صلاها في ذلك الوقت فقد صلاها في وقتها. ثم يدخل
وقت الضرورة قال الشيخ وهو الصحيح الذي تدل عليه الأحاديث الصحيحة المدنية.
وقال نقول بما دل عليه الكتاب والسنة والآثار من أن الوقت للصلوات الخمس
وقت اختيار وهو خمسة. ووقت ضرورة وهو ثلاثة (ووقت صلاة المغرب) إذا وجبت أي
غربت وفي لفظ "إذا غربت" وهو سقوط قرص الشمس جميعه بحيث لا يرى منه شيء وهو
إجماع ولا يجوز قبل الغروب إجماعًا. ويمتد من سقوط قرص الشمس (ما لم يغب
الشفق) الأحمر عند جماهير أهل العلم وفي رواية "ما لم يسقط ثور الشفق" أي
ثورانه وانتشاره.
وفي حديث جبريل "فأقام المغرب حين وجبت الشمس.
(1/152)
فلما كان في اليوم الثاني أخر المغرب حتى
كان عند سقوط الشفق الأحمر". ثم قال "الوقت ما بين هذين الوقتين" وفي لفظ
"إذا صليتم المغرب فإنه وقت إلى أن يسقط الشفق" وهو أصح الأقوال لهذا
الخبر. وخبر أبي موسى وبريدة وغيرهم ولعموم قوله – - صلى الله عليه وسلم -
"وقت كل صلاة ما لم يدخل وقت التي بعدها" وإنما خص منه الفجر بالإجماع فما
عداه داخل في عمومه. فالمغرب لها وقتان. وقت اختيار. وهو إلى ظهور الأنجم.
ووقت كراهة وهو ما بعده إلى مغيب الحمرة. فالشفق بياض تخالطه حمرة ثم تذهب
ويبقى بياض خالص بينهما زمن قليل. فيستدل بغيبوبة البياض على مغيب الحمرة.
قال شيخ الإسلام وما بين العشائين ثمن الليل وما بين طلوع الفجر وطلوع
الشمس سبعه ووقت الفجر يتابع الليل فيكون في الشتاء أطول. والعشاء بالعكس
(ووقت صلاة العشاء) من غيبوبة الشفق الأحمر إجماعًا. والأحاديث متظاهرة
بذلك وقال ابن عمر الشفق الحمرة. فإذا غاب الشفق فقد وجبت الصلاة. وسميت
بالعشاء لأنها تفعل فيه. وتسمى بالعتمة. ولا يكره ما لم يكثر حتى يغلب على
الاسم ويستمر وقت العشاء (إلى نصف الليل الأوسط) عند جماهير أهل العلم
للأخبار المستفيضة في ذلك. ويمتد إلى طلوع الفجر عند الأكثر كما هو معروف
عن ابن عباس وغيره لحديث أبي قتادة رواه مسلم.
(1/153)
(ووقت صلاة الصبح) أوله (من طلوع الفجر)
وهو ضوء النهار أو حمرة الشمس في سواد الليل وهو في آخر الليل كالشفق في
أوله سمي به لانفجار الصبح، وقال عليه الصلاة والسلام: "الفجر فجران: فجر
يحرم الطعام وتحل فيه الصلاة، وفجر تحرم فيه الصلاة" أي صلاة الصبح "ويحل
فيه الطعام" صححه ابن خزيمة والحاكم.
وله في صفة الفجر الذي يحرم الطعام أنه يذهب مستطيلاً في الأفق ومد يديه عن
يمينه وعن يساره وفي الآخر "أنه كذنب السرحان" ويمتد وقت الفجر المختار إلى
أن يسفر جدًا. والضرورة يمتد (ما لم تطلع الشمس" رواه مسلم) ولحديث جبريل
"صلى الفجر حين برق الفجر. وفي اليوم الثاني حين أسفر جدًا". وقال البخاري
هو أصح شيء في المواقيت.
وقال الوزير وغيره أجمعوا على أن أول وقت صلاة الفجر طلوع الفجر الثاني
وآخر وقتها المختار إلى أن يسفر ووقت الضرورة إلى أن تطلع الشمس اهـ. وجاء
نحوه من طرق مستفيضة عن النبي – - صلى الله عليه وسلم -
وقال شيخ الإسلام استعمل فقهاء الحديث في هذا الباب جميع النصوص الواردة في
أوقات الجواز والاختيار فوقت الفجر ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس.
ووقت الظهر من الزوال إلى مصير ظل كل شيء مثله سوى في الزوال. ووقت العصر
إلى اصفرار الشمس. ووقت المغرب
إلى مغيب الشفق. ووقت العشاء إلى منتصف الليل. وهذا بعينه
(1/154)
قول رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - في
الحديث الذي رواه مسلم. وليس حديث في المواقيت أصح منه. وكذا صح معناه من
غير وجه من فعله - صلى الله عليه وسلم -.
وقال ولا يأثم بتعجيل صلاة يستحب تأخيرها ولا تأخير ما يستحب تعجيلها إذا
أخرها عازمًا على فعلها ما لم يضق الوقت عن فعل جميع العبادة لصلاة جبريل
بالنبي - صلى الله عليه وسلم - في أول الوقت وفي آخره. وقوله "الوقت ما بين
هذين الوقتين" ولأن وقت الوجوب موسع فهو كالتكفير موسع في الأعيان، وقال في
قوله – - صلى الله عليه وسلم - "أفضل الأعمال عند الله الصلاة في وقتها".
الوقت يعم أول الوقت وآخره.
والله يقبلها في جميع الوقت. لكن أوله أفضل من آخره لفعله – - صلى الله
عليه وسلم - وحثه على المسارعة إلا حيث استثناه الشارع كالظهر في شدة الحر.
وكالعشاء إذا لم يشق على المأمومين. وهي أحب الأعمال إلى الله إذا أقيمت في
وقتها المستحب قال والمواقيت التي علمها جبرائيل النبي وعلمها لأمته وذكرها
العلماء هي الأيام المعتادة فأما اليوم الذي قال فيه – - صلى الله عليه
وسلم - "يوم كسنة قال اقدروا له" فله حكم آخر تكون فيه الصلاة بقدر الأيام
المعتادة لا ينظر فيه لحركة الشمس كما في قوله "ولهم رزقهم فيها بكرة
وعشيًا" أي على مقدار البكرة والعشي في الدنيا اهـ. وعلى قياسه فاقدروا
الوقت، كبلغار يقدر له.
وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان يصلي الظهر بالهاجرة) أي
(1/155)
استمر فعله لها بالهاجرة ولهما "يصلي الظهر
بالهجير حين تدحض الشمس" أي تميل والهاجرة شدة الحر نصف النهار من الهجر
وهو الترك لترك الناس التصرف من شدة الحر. والهجير والهاجرة نصف النهار من
زوال الشمس. فيسن تعجيلها في غير شدة الحر بلا نزاع. وقال الترمذي هو الذي
اختاره أهل العلم من أصحاب النبي – - صلى الله عليه وسلم - وغيرهم.
(و) يصلي (العصر والشمس نقية) أي لم يدخلها شيء من الصفرة وعن بريدة
"والشمس بيضاء نقية" وعن أبي موسى "والشمس مرتفعة" رواهما مسلم. ولهما من
حديث أبي برزة "يصلي العصر ثم يرجع أحدنا إلى رحله في أقصى المدينة والشمس
حية" أي بيضاء قوية الأثر وفي لفظ "والشمس مرتفعة" وأصرح حديث فيه وظل
الرجل كطوله ويسن تعجيلها بلا نزاع وقال الله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى
الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} وثبت بالنصوص الصحيحة الصريحة أنها
العصر فنص عليها تأكيدًا في الحض على المحافظة عليها بخصوصها. وثبت عن
النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه قال "من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله".
قال الشيخ وتفويتها أعظم من تفويت غيرها فإنها الوسطى. وعرضت على من قبلنا
فضيعوها. ومن حافظ عليها
فله الأجر مرتين. وتأخيرها مكروه لما فيه من التشبه باليهود قال وهذا قول
سائر الأمة وهذه العلة منصوصة (والمغرب
إذا وجبت الشمس) وعن سلمة: "إذا غربت الشمس
(1/156)
وتوارت بالحجاب" صححه الترمذي وقال العمل
عليه عند أهل العلم. وعن رافع "كنا نصليها مع النبي – - صلى الله عليه وسلم
- فينصرف أحدنا وأنه ليبصر مواقع نبله" متفق عليه. فيسن تعجيلها قال شيخ
الإسلام وغيره باتفاق المسلمين (والعشاء أحيانًا وأحيانًا) أي يقدمها
أحيانًا وأحيانًا يؤخرها (إذا رأهم اجتمعوا) لها في أول وقتها (عجل) رفقًا
بهم (إذا رآهم أبطئوا) عن أوله (أخر) مراعاة لما هو الأرفق بهم.
وفيه مشروعية ملاحظة أحوال المؤتمين والمبادرة بالصلاة مع اجتماع المصلين
لأن انتظارهم بعد الاجتماع ربما كان سببًا لتأذي بعضهم وملله. وتأخير صلاة
العشاة أفضل لقوله – - صلى الله عليه وسلم - "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم
أن يؤخروا العشاء إلى ثلث الليل" صححه الترمذي وقال هذا الذي اختاره أكثر
أهل العلم. وفي الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - "أخرها إلى نصف الليل
وقال إنكم في صلاة ما انتظرتموها" وعن أبي برزة "وكان يستحب أن يؤخر من
العشاء وكان يكره النوم قبلها والحديث بعدها" قال الشيخ لو قيل بتحديدها
إلى نصف الليل الذي ينتهي إلى طلوع الفجر وثلثه بالذي ينتهي إلى طلوع الشمس
لكان متوجهًا.
(والصبح كان يصليها بغلس) وهو اختلاط ضياء الفجر بظلمة الليل (متفق عليه)
ولمسلم من حديث أبي موسى "فأقام الفجر حين انشق الفجر والناس لا يكاد يعرف
بعضهم بعضًا" ولهما من حديث أبي برزة "وكان ينفتل من صلاة الغداة حين
(1/157)
يعرف الرجل جليسه. وكان يقرأ بالستين إلى
المائة" فدل على أنه يدخل فيها والرجل لا يعرف جليسه. ولهما في صلاة النساء
معه كن يشهدن صلاة الفجر متلفعات بمروطهن لا يعرفهن أحد من الغلس".
وأما حديث "أسفروا بالفجر" فالمراد صلوا صلاة الفجر مسفرين اسفارًا يتيقن
معه طلوع الفجر لمواظبته – - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه على التغليس.
ومحال أن يتركوا الأفضل. وقال ابن القيم حديث "اسفروا" بعد ثبوته إنما
المراد به دوامًا لا ابتداء فيدخل فيها مغلسًا ويخرج منها مسفرًا كما كان
يفعله فقوله موافق لفعله – - صلى الله عليه وسلم -.
(ولهما عن أبي هريرة مرفوعًا) يعني إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم -
(إذا اشتد الحر) أي تقوى وهج النار (فأبردوا بالصلاة) أي أخروها إلى أن
يبرد الوقت ليحصل الخشوع الذي هو لب الصلاة وروحها (فإن شدة الحر من فيح
جهنم) أي شدة غليانها وحرها وسعة انتشارها وتنفسها أجارنا الله منها بمنه
وكرمه أي: وعند شدة الحر يذهب الخشوع.
قال شيخ الإسلام أهل الحديث يستحبون تأخير الظهر مطلقًا سواء كانوا مجتمعين
أو متفرقين وبذلك جاءت الأحاديث الصحيحة التي لا دافع لها. وكل الفقهاء
يوافقهم أو الأغلب قال النووي ولا يجاوز بالإبراد نصف الوقت.
(1/158)
(وعنه) أي عن أبي هريرة –رضي الله عنه-
(مرفوعًا) إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (من أدرك من) صلاة
(الصبح ركعة قبل أن تطلع الشمس) أي وأضاف إليها ركعة أخرى بعد طلوعها (فقد
أدرك الصبح) يعني صلاة الصبح أداء ووقعت موقعها وأجزأت لوقوع ركعة في الوقت
ولو كان التأخير لغير عذر لكنه
آثم.
(ومن أدرك ركعة من العصر) ففعلها (قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر) وإن
لم يوقع الثلاث إلا بعد الغروب إجماعًا (متفق عليه) وليس المراد من أتى
بركعة فقط فللبيهقي "وركع بعد طلوع الشمس". وفي رواية "من أدرك ركعة قبل أن
تطلع الشمس فليصل إليها أخرى". فكذا العصر. ولا تكره في حقه. وإن كان وقت
كراهة.
ومفهومه أن من أدرك دون ركعة لا يكون مدركًا للصلاة. وفي رواية سجدة بدل
ركعة. قال الراوي وغيره إنما هي الركعة فمن أدرك دونها لا يكون مدركًا
للصلاة. وهو الذي استقر عليه الاتفاق. قال شيخنا هذا دليل على أن الصلاة لا
تدرك أداء إلا بإدراك ركعة كاملة وهو أصح القولين. وقال شيخ الإسلام وتعليق
الإدراك بسجدة مجردة لم يقل به أحد من العلماء.
وقال من دخل عليه الوقت ثم طرأ عليه مانع من جنون ونحوه لا قضاء عليه وهو
قول مالك ورواية عن أبي حنيفة وهو
(1/159)
الأظهر في الدليل. لأن القضاء إنما يجب
بأمر جديد ولا أمر هنا يلزمه بالقضاء لأنه أخر تأخيرًا جائزًا فهو غير مفرط
وليس عنه عليه الصلاة والسلام حديث واحد بقضاء الصلاة بعد وقتها وليس
كالنائم والناسي فإن وقتهما إذا ذكرا.
(وعن أنس أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال من نسي صلاة) ولمسلم إذا
رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها (فليصلها إذا ذكرها) فإن في التأخير آفات
وفي لفظ فإن الله يقول: (أقم الصلاة لذكرى) وفي قراءة للذكرى أي أقم الصلاة
لذكرها لأنه إذا ذكرها فقد ذكر الله. وعن أبي قتادة في نومهم عن الصلاة قال
"إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة فإذا نسي أحدكم صلاة أو
نام عنها فليصلها إذا ذكرها" صححه الترمذي.
فالنائم أو الناسي غير مكلف حال نومه أو نسيانه إجماعًا {رَبَّنَا لاَ
تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} قال الله تعالى (قد فعلت)
رواه مسلم. ثم صرح بأن القضاء كفارة لهما فقال (لا كفارة لها إلا ذلك) أي
فعلها إذا ذكرها (متفق عليه) وفي رواية "فهو وقتها" وفيه أحاديث كثيرة
مستفيضة والأمر يقتضي الوجوب وأجمع أهل العلم على وجوب فعل الصلاة إذا فاتت
بنوم أو نسيان من حين يذكر. وقال ابن القيم ثبت بالنص والإجماع أن المعذور
بالنوم والنسيان وغلبة العقل يصلي إذا زال عذره. ولا يجوز تأخيرها إلى وقت
آخر بالاتفاق بل هو من الكبائر العظام اهـ.
(1/160)
وتجب المبادرة على الفور عند جمهور العلماء
وكون النبي – - صلى الله عليه وسلم - لم يصل في المكان الذي ناموا فيه لا
يدل إلا على التأخير اليسير الذي لا يصير صاحبه مهملاً معرضًا بل له أن
يفعل ما فيه تكميل الصلاة من اختيار بقعة واجتماع مصلين ونحو ذلك. ودليل
الخطاب منه أن العامد لا يقضي لأنه لا يسقط الإثم وتقدم. وفيه دلالة على
عدم وجوب قضاء تلك الصلاة. ورواية فليقض مثلها خطأ من راويها حكاه الحافظ
وغيره.
(ولهما عن جابر في قصة الخندق) وذلك أنه جاء عمر بعدما غربت الشمس فجعل يسب
كفار قريش وقال يا رسول الله ما كدت أصلي حتى كادت الشمس تغرب فقال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - "ما صليتها فتوضأ وتوضأنا" وفيه تصريح بصلاته
جماعة (فصلى العصر بعدما غربت الشمس) ولمسلم "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة
العصر" (ثم صلى بعدها المغرب) وهي الحاضرة فدل على وجوب فعل الفائتة على
الفور وتقديمها على الحاضرة ما لم يضق وقتها ولترتيبه الأربع الصلوات.
وروي وجوب الترتيب ولو كثرت الفوائت عن أحمد وأبي حنيفة وغيرهما. وعن أحمد
لا يجب الترتيب، وفاقًا للأئمة الثلاثة. قال في المبهج مستحب وقال ابن رجب
إيجاب قضاء سنين ببقاء صلاة في الذمة لا يكاد يقوم عليه دليل قوي وقال
النووي المعتمد في المسألة أنها ديون عليه فلا يجب ترتيبها إلا
(1/161)
بدليل ظاهر وليس للموجبين دليل اهـ. ويسقط
الترتيب بنسيانه اتفاقًا وبخشية خروج وقت اختيار الحاضرة. قال القاضي رواية
واحدة.
فصل في ستر العورة
أي في أحكام ستر العورة. وأحكام اللباس وستر العورة أحد شروط الصلاة والفصل
لغة الحاجز بين الشيئين واصطلاحًا هو الحاجز بين مسائل العلوم وأنواعها.
قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ} خاطبهم تعالى بعد ما ذكر أنه امتن عليهم
بلباس يواري سوءاتهم فقال {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} أي لباس زينتكم والزينة
اللباس وهو ما يواري السوأة وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع وفيه دليل على
أن ستر العورة واجب في الصلاة والطواف وفي كل حال {عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}
أي عند كل صلاة وطواف. وحكى ابن حزم وغيره الاتفاق على أن المراد ستر
العورة.
وقال غير واحد بل أمر بقدر زائد على ستر العورة في الصلاة وهو أخذ الزينة
فإنه علق الأمر باسم الزينة لا ستر العورة إيذانًا بأن العبد ينبغي له أن
يلبس أحسن ثيابه وأجملها في الصلاة للوقوف بين يدي الرب تبارك وتعالى وأداء
حقه. ويسن لبس الثياب البيض كما سيأتي. والنظافة في الثوب والبدن باتفاق
أهل العلم. وحكى غير واحد أنه لا خلاف في وجوب ستر العورة في الصلاة وبحضرة
الناس وفي الخلوة على الصحيح إلا لغرض صحيح.
(1/162)
وقال الوزير اجمعوا على أن ستر العورة واجب
وأنه شرط في صحة الصلاة إلا مالكًا فقال واجب وقال بعض أصحابه هو شرط. وقال
ابن عبد البر وغيره اجمعوا على فساد صلاة من ترك ثوبه وهو قادر على
الاستتار به وصلى عريانًا.
(وقال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "الفخذ عورة" رواه الخمسة إلا
النسائي) ورواه غيرهم فرواه البخاري تعليقًا وأحمد عن ابن عباس وجرهد
الأسلمي ولفظه "غط فخذك فإن الفخذ عورة" حسنه الترمذي وهو في الموطأ وسنن
أبي داود عن علي "لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت" في أحاديث أخر
من وجوه وإن كانت لا تخلو من مقال فكثرتها تثبت أن له
أصلاً.
وعورة الرجل من السرة إلى الركبة عند جماهير أهل العلم وليستا من العورة.
قال الوزير اتفقوا على أن السرة ليست عورة. وقال مالك والشافعي وأحمد ليست
الركبة من العورة. وأما الفخذ فتظاهرت الأحاديث: أنه عورة.
(ولهم) أي الخمسة إلا النسائي (عن عائشة أن النبي – - صلى الله عليه وسلم -
قال لا يقبل الله صلاة حائض) المراد المكلفة ولو بالاحتلام وإنما عبر
بالحيض لأنه الأغلب (إلا بخمار) هو ما تغطي به رأسها وعنقها ويقال له
النصيف والحديث صححه
(1/163)
ابن خزيمة وغيره وقال الترمذي العمل عليه
عند أهل العلم أن المرأة إذا أدركت فصلت وشيء من عورتها مكشوف لا تجوز
صلاتها.
وله من حديث ابن مسعود وصححه "المرأة عورة". وللطبراني من حديث أبي قتادة،
"لا يقبل الله من امرأة صلاة حتى تواري زينتها ولا من جارية بلغت المحيض
حتى تختمر". ولأبي داود من حديث أم سلمة أتصلي المرأة في درع وخمار وليس
عليها إزار. قال "إذا كان الدرع سابغًا يغطي ظهور قدميها". وله من حديث ابن
عمر "يرخين شبرًا" صححه الترمذي.
فلا بد في صلاتها من تغطية رأسها ورقبتها ومن تغطية بقية بدنها حتى ظهور
قدميها. لا وجهها في الصلاة بحيث لا يراها أجنبي فليس الوجه عورة في
الصلاة. قال الموفق والقاضي إجماعًا وقال جمع وكفيها وهو مذهب مالك
والشافعي. وقال الشيخ وقدميها وما عدا ذلك عورة بالإجماع. قال شيخ الإسلام
والتحقيق أن الوجه ليس بعورة في الصلاة. وهو عورة في باب النظر إذا لم يجز
النظر إليه.
(وعن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال إن كان الثوب واسعًا) ضد
الضيق (فالتحف به) أي ارتد به ولمسلم "فخالف بين طرفيه" وذلك بأن يجعل منه
شيئًا على عاتقه والالتحاف بالثوب التغطي به والمراد لا يشد الثوب في وسطه
فيصلي مكشوف المنكبين بل
(1/164)
يتزر به ويرفع طرفيه فيلتحف بهما فيكون
بمنزلة الإزار والرداء وهذا إذا كان الثوب واسعًا (وإن كان ضيقًا) ضد
المتسع الكافي للارتداء (فاتزر به. متفق عليه) وذلك جائز من غير كراهة.
وبه يجمع بين الأحاديث ففي الصحيحين "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس
على عاتقه منه شيء" وللبخاري "من صلى في ثوب واحد، فليخالف بين طرفيه"
ولهما " صلى في ثوب واحد متوشحًا به". ولما سئل عن الصلاة في الثوب الواحد
قال: "أو لكلكم ثوبان" قال النووي وغيره لا خلاف في جواز الصلاة في الثوب
الواحد واجمعوا على أن الصلاة في الثوبين أفضل. وقال عمر إذا وسع الله
عليكم فأوسعوا.
(ولهما) من غير وجه (نهى عن اشتمال الصماء) فمن حديث أبي سعيد "نهى عن
اشتمال الصماء" بالمد ضرب من الاشتمال سميت بذلك لأنه لا منفذ لها وفسره من
حديث أبي هريرة "أن يشتمل الصماء بالثوب الواحد ليس على أحد شقيه منه شيء"
وللبخاري وغيره من حديث أبي هريرة "نهى عن لبستين اشتمال الصماء والصماء أن
يجعل ثوبه على أحد عاتقيه فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب. والأخرى احتباؤه
بثوبه وهو جالس ليس على فرجه منه شيء" والنهي عنهما لكونهما مظنة الانكشاف.
وللبخاري "نهى أن يحتبي الرجل في الثوب الواحد ليس على فرجه منه شيء".
(1/165)
والاحتباء أن يقعد على إليتيه وينصب ساقيه
ويلف عليه ثوبًا. ولأبي داود عن أبي هريرة "نهى عن السدل في الصلاة" وهو
طرح ثوبه على كتفيه ولا يرد طرفه على الآخر. قال الشيخ هذا التفسير هو
الصحيح فإن رد أحد طرفيه على الكتف الأخرى أو ضم طرفيه لم يكره. وإن طرح
القباء على الكتفين من غير أن يدخل يديه في الكمين فلا بأس بذلك باتفاق
الفقهاء وليس من السدل المكروه وفيه "وأن يغطي فاه" قال ابن حبان لأنه من
زي المجوس. وفي الصحيحين "ولا أكف شعرًا ولا ثوبًا" واتفقوا على كراهته في
الصلاة والحكمة أنه يسجد معه.
(وللخمسة) من حديث أبي موسى وغيره (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال: حرم لباس الحرير والذهب على ذكور أمتي وأحل لإناثهم) ورواه غيرهم من
طرق عن غير واحد و (صححه الترمذي) وإن كانت طرقه لا تخلوا من مقال فبكثرتها
يعضد بعضها بعضًا. وتثبت أن للحديث أصلاً ويشهد له ما في الصحيحين وغيرهما
من حديث عمر وأنس "لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في
الآخرة". ومن حديث عقبة "أهدي إلى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فروج
حرير فلبسه ثم صلى فيه ثم انصرف فنزعه نزعًا شديدًا كالكاره له ثم قال لا
ينبغي هذا للمتقين". وللبخاري من حديث حذيفة "نهانا عن لبس الحرير والديباج
وأن نجلس عليه".
وتواترت الأحاديث والآثار بتحريمه على الذكور. وحكى
(1/166)
الإجماع على ذلك غير واحد من أئمة
المسلمين. وقال ابن القيم والنهي عن لبسه والجلوس عليه متناول لافتراشه كما
هو متناول للإلتحاف به وذلك لبسه لغة وشرعًا قال الشيخ والجمهور على أن
الإفتراش كاللباس وقد ثبت النص بتحريم افتراش الحرير وغلط من رخص في إلباسه
الدابة أو تحليتها بذهب أو فضة.
قال وما حرم لبسه لم تحل صناعته ولا بيعه لمن يلبسه من أهل التحريم ولا
يخيط لمن يحرم عليه لبسه لما فيه من الإعانة على الإثم والعدوان.
(ولمسلم عن عمر "نهى – - صلى الله عليه وسلم - عن لبس الحرير إلا موضع
إصبعين أو ثلاثة أو أربعة) ففيه إباحة مقدار إصبعين أو ثلاثة أو أربعة
كالطراز والسجاف ويحرم الزائد عند جماهير العلماء، و"رخص لعبد الرحمن بن
عوف والزبير في لبس الحرير لحكمة كانت بهما" متفق عليه. ويجوز لبسه عند
التحام القتال قال شيخ الإسلام باتفاق المسلمين، وفي السنن "نهى عن لبس
الذهب إلا مقطعًا" أي إلا قطعًا يسيرة منه. وكره الكثير منه الذي هو عادة
أهل السرف.
وحكى شيخ الإسلام فيه أربعة أقوال ثم قال والرابع وهو الأظهر أنه يباح يسير
الذهب في اللباس والسلاح فيباح طراز الذهب إذا كان أربع أصابع فما دونها.
ولما ذكر علم الحرير قال وفي العلم الذهب نزاع بين العلماء والأظهر جوازه
واستدل بهذا الخبر وقال ولبس الفضة إذا لم يكن فيه لفظ عام بالتحريم لم
(1/167)
يكن لأحد أن يحرم منه إلا ما قام الدليل
الشرعي على تحريمه فإذا جاءت السنة بإباحة خاتم الفضة كان ذلك دليلاً على
إباحة ذلك وما هو في معناه وما هو أولى منه بالإباحة والتحريم يفتقر إلى
دليل.
(وعن جابر نهى) يعني رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (عن الصورة في
البيت) أي أن تجعل في البيت لامتناع دخول الملائكة (وأن تصنع) أي تعمل
وصانعها هو المصور العامل لها على أي شكل (صححه الترمذي) وفي الصحيحين "لا
تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة". وللبخاري "لم يكن يترك في بيته
شيئًا فيه تصاليب إلا نقضه" وللترمذي وصححه "أتاني جبرائيل فقال إني أتيتك
الليلة فلم يمنعني أن أدخل البيت الذي أنت فيه إلا أنه كان فيه تمثال رجل
وكان في البيت قرام ستر فيه تماثيل".
فدلت هذه الأحاديث وغيرها على تحريم التصوير على هيئة الحيوان وهو إجماع.
وكذا تحريم استعماله على الذكر والأنثى وتوعد فاعله بالعذاب في جهنم. ففي
الصحيحين عن ابن عباس مرفوعًا "كل مصور في النار يجعل له بكل صورة صورها
نفس يعذب بها في جهنم" والصورة التمثال والشكل وصوره تصويرًا جعل له صورة
وشكلاً ونقشه ورسمه، فالنهي عام سواء كان على ثوب أو ورق أو غير ذلك، جزم
به غير واحد من أهل العلم بالحديث وهو قول أكثر أهل العلم وهو ظاهر النصوص
الصحيحة الصريحة.
(1/168)
ويؤيد التعميم وقوع الاسم عليه لا محالة.
وحديث النمرقة وقوله "ولا صورة إلا لطخها" وقوله "إلا نقضه" وغير ذلك من
الأحاديث وتحداهم بقوله – - صلى الله عليه وسلم - يقول الله تعالى: ومن
أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي فليخلقوا حبة أو ليخلقوا ذرة" وحديث "إن الذين
يصنعون هذه الصور يعذبون يوم القيامة يقال لهم أحيوا ما خلقتم".
ويحرم التصليب وجعله في ثوب ونحوه لقول عائشة "لم يكن يترك شيئًا فيه تصليب
إلا قضبه" رواه أبو داود وغيره قال الشيخ ولا تجوز الصلاة في ثوب فيه
تصاوير لأنه يشبه حامل الصنم ولا يسجد على الصورة لأنه يشبه عباد الصور.
(وعن ابن عمر قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - من جر ثوبه) أي
على الأرض (خيلاء) بالمد عجبًا وبطرًا وكبرًا مأخوذ من التخيل وهو التشبه
بالشيء فالمختال يتخيل في صورة من هو أعظم منه تكبرًا والمخيلة والكبر
والبطر والزهو والخيلاء بمعنى (لم ينظر الله إليه يوم القيامة" متفق عليه)
ولمسلم "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم
عذاب أليم" وذكر منهم "المسبل" أي المرسل ثوبه ونحوه أسفل من الكعبين. وهذا
من أعظم الوعيد وأبلغ الزجر فهو من أكبر الكبائر.
وجر الثوب يستلزم الخيلاء والخيلاء تستلزم جر الثوب ولو لم يقصده.
ولا يجوز للرجل أن يجاوز بثوبه كعبه ويقول لا أجره خيلاء
(1/169)
لأن النهي قد تناوله لفظًا إذ حكمه أن يقول
لا أمتثل والحال دال على التكبر. ولأبي داود "والإسبال في الإزار والقميص
والعمامة" وله من حديث أبي هريرة "بينما رجل يصلي مسبلاً إزاره قال له رسول
الله – - صلى الله عليه وسلم - "اذهب فتوضأ مرتين" فقال له رجل أمرته أن
يتوضأ. فسكت. ثم قال "إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره وإن الله لا يقبل صلاة
رجل مسبل" ووجه أنه معصية وكل من واقع المعصية فإنه يؤمر بالوضوء والصلاة.
وذكر الشيخ الإسلام وابن القيم أن كل ما زاد في اللباس في الطول والعرض
حرام. وقال في الإنصاف هذا هو الصواب الذي لا يعدل عنه. وقد يجوز من غير
خيلاء ولا استمرار كما في الصحيح عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه
قال للصديق "إنك لست ممن يفعل ذلك خيلاء" ويجوز في الحرب لإرهاب العدو لأنه
–عليه الصلاة والسلام- رأى بعض أصحابه يمشي بين الصفين مسبلاً يختال في
مشيته فقال "إنها للبسة يبغضها الله إلا في هذا الموطن" ويجوز لحاجة كستر
ساق قبيح ونحوه.
(وللخمسة) من حديث ابن عباس (إلا النسائي "البسوا من ثيابكم البياض) البياض
لون الأبيض وقماش تعمل منه ملابس بيض. (فإنها من خير لباسكم) وعن أبي
الدرداء يرفعه "أحسن ما زرتم الله به في مساجدكم البياض" ولفظ الحاكم "خير
ثيابكم البياض فألبسوها أحياءكم" ولأحمد والنسائي والترمذي وصححه وغيرهم من
حديث سمرة "البسوا ثياب
(1/170)
البياض فإنها أطيب وأطهر".
والحديث ظاهر الدلالة على مشروعية لبس البياض ولا يجب لما ثبت عنه – - صلى
الله عليه وسلم - من لبس غيره من غير وجه فثبت أنه لبس الحبرة برديمان سميت
حبرة لتحسينها بالتخطيط. ولبس مرطًا مرجلاً من شعر أسود. ولبس الخميصة.
وصبغ ثيابه بالزعفران. ولبس حلة حمراء. وكره الأحمر القاني. قال ابن القيم
وفي لباس الأحمر من الثياب والجوخ نظر. وأما كراهته فشديدة جدًا. والبرد
الأحمر ليس هو أحمر مصمتًا كما ظنه بعض الناس فإنه لو كان كذلك لم يكن
بردًا وإنما فيه خطوط حمر فيسمى أحمر باعتبار ما فيه من ذلك. والذي يقوم
عليه الدليل تحريم لباس الأحمر أو كراهيته كراهة شديدة. فأما غير الحمرة من
الألوان فلا يكره.
وعن عمران بن حصين مرفوعًا "إن الله يحب إذا أنعم على عبده نعمة أن ترى أثر
نعمته على عبده" رواه البيهقي، وقال كان هديه – - صلى الله عليه وسلم - في
اللباس ما يسره الله ببلده، فكان يلبس القميص والعمامة والإزار. والرداء.
والجبة. والفروج ويلبس من القطن والصوف وغير ذلك. ويلبس ما يجلب من اليمن
وغيرها. فسنته تقضي أن يلبس الرجل ما يسره الله ببلده.
ونهي – - صلى الله عليه وسلم - عن لباس الشهرة. ففي الحديث "من لبس ثوب
شهرة ألبسه الله ثوب مذلة" رواه أبو داود وغيره. ونهى عن
(1/171)
الشهرتين وهما الفاخر من اللباس المرتفع في
الغاية أو الرذل في الغاية. قال الشيخ يحرم لبس الشهرة وهو ما قصد به
الارتفاع أو إظهار التواضع لكراهة السلف لذلك.
وروى أبو عوانة والعكبري وغيرهما بأسانيد صحيحة "تمعددوا واخشوشنوا
وانتعلوا وامشوا حفاة" لتعتاد الأرجل الحر والبرد فتصلب وتقوى. وهو مشهور
عن عمر. وعنه "ائتزروا وارتدوا والقوا الخفاف والسراويلات" استغناء عنها
بالأزر وهو زي العرب "وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل وإياكم والتنعم وزي
الأعاجم وعليكم بلباس أبيكم إسماعيل وإياكم والتنعم وزي الأعاجم وعليكم
بالشمس فإنها حمام العرب وتمعددوا واخشوشنوا واخلولقوا واقطعوا الركب
وانزوا وارموا الأغراض". وفي لفظ "وعليكم بالمعدية وذروا التنعم" وهو مشتهر
بألفاظ. ولأحمد عن معاذ مرفوعًا "إياكم والتنعم فإن عباد الله ليسوا
بالمتنعمين".
ومما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - في اللباس وغيره التشبه
بالنساء.
ففي الصحيح "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المتشبهات من النساء
بالرجال. والمتشبهين من الرجال بالنساء" وهو عام ولما أتي - صلى الله عليه
وسلم - بثياب فيها خميصة سوداء ألبسها أم خالد ولا خلاف في إلباسه النساء.
(1/172)
فصل في اجتناب
النجاسة
أي في أحكام اجتناب النجاسة وما تصح الصلاة فيه واجتناب النجاسة شرط من
شروط الصلاة المجمع عليها سواء في ذلك. بدن المصلي. وثوبه. وبقعته. والآيات
والأحاديث تدل على وجوب التطهر من النجاسات ولا نزاع في ذلك.
قال تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّر} قال ابن سرين اغسلها بالماء. وقال ابن
زيد أمره الله أن يطهر الثياب من النجاسات التي لا تجوز الصلاة معها وذلك
أن المشركين كانوا لا يطهرون ثيابهم. والأمر بالشيء نهي عن ضده. والنهي في
العبادة يقتضي الفساد. وقال بعضهم طهر أعمالك عن الشرك.
واختار الأول ابن جرير والآية تشمل ذلك كله. واحتج بالآية على أن اجتناب
النجاسة شرط جمع منهم ابن عقيل. والشيخ تقي الدين وغيرهم. قال الوزير وغيره
واجمعوا على أن طهارة البدن والثوب وبقعة المصلي شرط في صحة الصلاة.
(وعن أبي سعيد أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - صلى) يعني بالناس في
نعليه (فخلع نعليه) وهو في الصلاة فخلع الناس نعالهم. فلما انصرف قال لهم
لم خلعتم نعالكم قالوا رأيناك خلعت فخلعنا (فقال أتاني جبريل فأخبرني أن
بهما خبثًا) وفي لفظ "أذى" وفي لفظ "قذرًا" والمراد النجاسة (رواه أبو
داود) ورواه أحمد وابن حبان والحاكم وابن خزيمة فدل على وجوب اجتناب
النجاسة في الصلاة وتقدم حكاية الإجماع أنها شرط وهو قول الجمهور.
(1/173)
ولأحمد عن جابر أنه سئل - صلى الله عليه
وسلم - أصلي في الثوب الذي آتي فيه أهلي. قال "نعم إلا أن ترى فيه شيئًا
فتغسله" وللخمسة إلا الترمذي عن معاوية قلت لأم حبيبة هل كان رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - يصلي في الثوب الذي يجامع فيه قالت "نعم إذا لم يكن
فيه أذى" وحديث تعذيب من لم يتنزه من البول وحديث غسل المذي.
وغسل الحيض. وحديث "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول والقذر" وغير ذلك
مما يدل على وجوب اجتناب النجاسة.
وفي الحديث دليل على أنه إذا أزالها سريعًا صحت صلاته وقيل إن علم بعد
صلاته أنها كانت عليه أعاد لأنه ترك شرطًا.
وعن أحمد وغيره واحد لا يعيد. وهو مذهب مالك. وقول ابن عمر وابن المنذر
واختاره المجد والموفق والشيخ وغيرهم وأفتى به البغوي وتبعوه. وقال النووي
هو أقوى في الدليل وهو المختار.
وقاله طائفة من العلماء لأن من كان مقصوده اجتناب المحظور إذا فعله مخطئًا
أو ناسيًا لا تبطل صلاته ولا إثم عليه.
قال في الإنصاف وغيره وهو الصحيح عند أكثر المتأخرين قال تعالى {وَلَيْسَ
عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ} والفرق بين طهارة الحدث
والخبث أن طهارة الحدث من باب الأفعال المأمور بها فلا تسقط بالنسيان
والجهل. ويشترط فيها النية وطهارة الخبث من باب التروك والمقصود منها
اجتناب الخبث فلا يشترط فيها فعل العبد ولا قصده. ودل الحديث على سنية
الصلاة في النعلين. ولأبي داود "خالفوا اليهود فإنهم لا يصلون في نعالهم".
(1/174)
(وعن أبي قتادة أنه – - صلى الله عليه وسلم
- "كان يصلي وهو حامل أمامة" بنت زينب بنت رسول الله – - صلى الله عليه
وسلم - "كان يصلي وهو حامل أمامة" بنت زينب بنت رسول الله – - صلى الله
عليه وسلم - تزوجها علي بعد فاطمة (متفق عليه) وإنما جاز للعفو عما في
بطنها كالنجاسة في جوف المصلي فيعفى عن حمل الحيوان الطاهر في الحياة غير
مأكول وأما المأكول فمن باب أولى لطهارة ما في جوفه. ولأحمد من حديث أبي
هريرة في قصة الحسن والحسين نحوه.
(وعن أبي مرثد الغنوي) كناز بن الحصين وهو مرثد بن أبي مرثد من بني غنم بن
غني أسلم هو وأبوه وشهد بدرًا وقتل يوم غزوة الرجيع شهيدًا في حياته – -
صلى الله عليه وسلم - (قال سمعت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يقول
"لا تصلوا إلى القبور) مدفن الموتى. أي لا تكون قبلتكم في الصلاة. والنهي
يقتضي التحريم. والمقدار في ذلك ما يعد استقبالاً لها عرفًا.
ولمسلم عن جندب: "ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم
وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك" وفي
الصحيحين "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تجعلوا بيوتكم قبورًا" وقال ابن
حزم وغيره أحاديث النهي عن الصلاة في المقبرة متواترة لا يسع أحدًا تركها.
وقال غير واحد هو أصل شرك العالم. وقال شيخ الإسلام بعد أن ذكر أحاديث
النهي عن اتخاذ القبور مساجد فهذا كله يبين لك أن السبب ليس هو مظنة
النجاسة وإنما هو مظنة
اتخاذها أوثانًا كما قال الشافعي وغيره أكره أن يعظم مخلوق
(1/175)
حتى يجعل قبره مسجدًا مخافة الفتنة على من
بعده من الناس. وذكره معناه الأثرم وغيره عن سائر العلماء.
وكلما دخل في اسم المقبرة أو حدثت المقبرة بعده حوله أو في قبلته فصلاته
فيها كصلاته إليها. ولو وضع القبر والمسجد معًا لم يجز ولم تصح الصلاة فيه
(ولا تجلسوا عليها) أي على القبور (رواه مسلم) وفي وطئها أحاديث أخر كقوله
لأن يجلس أحدكم على جمرة فتخرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير له من أن يجلس على
قبر" رواه مسلم" وللطبراني عن ابن مسعود "لأن أطأ على جمرة أحب إلي من أن
أطأ على قبر مسلم" وله من حديث ابن لهيعة في رجل جالس على قبر لا تؤذ صاحب
القبر ولا يؤذيك ويأتي نحو ذلك.
(وعن أبي سعيد مرفوعًا "الأرض كلها مسجد" وتقدم "جعلت لي الأرض مسجدًا
وطهورًا فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فعنده مسجده وطهوره" وغير ذلك من
النصوص وخص منه ما يأتي فمنه قوله (إلا المقبرة) وهو كلما قبر فيه لأنه جمع
قبر وكلما دخل في اسم المقبرة مما حول القبر لا يصلي فيه لما يفضي إليه ذلك
من الشرك وقال الشيخ بل عموم كلامهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر
واحد. والنهي عن الصلاة إليها متفق عليه من غير وجه.
ومما خص قوله (والحمام) وهو المغتسل المعروف (رواه
(1/176)
الخمسة إلا النسائي) وقال الترمذي فيه
اضطراب وصححه الحاكم وغيره. وورد النهي عن الحمام معللاً بأنه محل
الشياطين. وروى عنه – - صلى الله عليه وسلم - "الحمام بيت الشيطان" وعن ابن
عباس لا يصلي إلى حش. ولا في حمام ولا في مقبرة. قال ابن حزم لا نعلم لابن
عباس مخالفًا من الصحابة. ولا فرق بين مكان نزع الثياب وموقد النار وكل ما
يغلق عليه باب الحمام.
والظاهر التحريم وهو قول طائفة. والجمهور على الكراهة ما لم يكن فيه نجاسة.
(وعن أبي هريرة مرفوعًا) يعني إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه قال
(لا تصلوا في أعطان الإبل صححه الترمذي) ورواه أحمد وغيره وصححه وله طرق
وشواهد. والأعطان واحدها عطن ما تقيم فيه وتأوي إليه قاله أحمد وغيره. وقيل
ما تقف فيه لترد الماء ومباركها عنده. قال أهل اللغة لا تكون إلا عند الماء
أما في البرية وعند الحي فالمأوى. قال الشيخ وغيره والأول أجود. ومعاطن
الإبل في الأصل وطنها غلب على مبركها حول الماء والأولى الإطلاق كما هو
ظاهر الحديث.
ولا فرق بين أن تكون طاهرة أو نجسة. ولا أن تكون فيها إبل حال الصلاة أولا
لعموم هذا الحديث. وحديث "لا تصلوا في مبارك الإبل فإنها خلقت من الشياطين"
وقال "جن خلقت من جن". فعلل الأماكن بالأرواح الخبيثة وهو مذهب أحمد
(1/177)
وفقهاء الحديث. قال والفقهاء الذين لم
ينهوا عنها إما أنهم لم يسمعوا النصوص أو لم يعرفوا العلة والسنة في ذلك
قوية نصًا وقياسًا. وقال ابن عبد البر النهي عن الصلاة في معاطن الإبل جاء
معناه من وجوه كثيرة بأسانيد حسان وأكثرها متواتر.
وقال الشيخ أيضًا نهى عن الصلاة في معاطن الإبل لأنها مأوى الشياطين. كما
نهى عن الصلاة في الحمام لأنه مأوى للشياطين. فإنه مأوى الأرواح الخبيثة
ومأوى الأرواح الخبيثة. ومأوى الأرواح الخبيثة أحق بأن تجتنب الصلاة فيه،
وفي موضع الأجسام الخبيثة. بل الأرواح الخبيثة تحب الأجسام الخبيثة.
(وله بسند ضعيف عن ابن عمر نهى) يعني النبي - صلى الله عليه وسلم - (أن
يصلي في سبع) أي مواطن وفي لفظ "مواطن" يعني مواضع والموطن ما أقيم فيه
(المزبلة) وهي الموضع الذي يلقى فيه الزبل ومثله سائر النجاسات (والمجزرة)
وهي المكان الذي تنحر فيه الإبل وتذبح فيه البقر والغنم لأنه محل النجاسة
فتحرم الصلاة فيها اتفاقًا. ومع الحائل فيه خلاف والأكثر على الكراهة.
ويقال المجزرة مأوى الشياطين. وكذا المزبلة ولا خلاف في طهارة الدارسة
العافية من آثار أهلها مزبلة كانت أو مجزرة أو
كنيسة.
(والمقبرة) بفتح الباء وتثلث فتحرم الصلاة فيها
وإليها لأنها أصل شرك العالم وتقدم (وقارعة الطريق) ما تقرعه
(1/178)
الأقدام بالمرور عليها وهو ما كثر سلوك
السالكين فيها لما في ذلك من شغل الخاطر المؤدي إلى ذهاب الخشوع الذي هو لب
الصلاة وروحها. عند الجمهور تصح مع الكراهة (وفي الحمام وفي أعطان الإبل)
وتقدما (وفوق ظهر بيت الله) الحرام إذا لم يكن بين يديه شاخص منها لأنه مصل
على البيت لا إلى البيت.
وقال الموفق والصحيح جواز الصلاة فيها وهو قول أكثر أهل العلم لعموم جعلت
لي الأرض مسجدًا وطهورًا. ولابن المنذر وغيره بسند صحيح جعلت لي كل أرض
طيبة أي طاهرة مسجدًا واستثنى منه المقبرة. والحمام ومعاطن الإبل. بأحاديث
صحيحة ففيما عداها يبقى على العموم. وحديث ابن عمر يرويه العمري وقد تكلم
فيه فلا يترك به الحديث الصحيح اهـ. والجمهور على صحة الفريضة فيه وفوقه
إذا استقبل شاخصًا.
فأما النافلة فتصح إجماعًا لصلاته عليه الصلاة والسلام فيه متفق عليه.
والحجر منه ستة أذرع وشيء فمن استقبل ما زاد لم تصح صلاته ألبتة وقال غير
واحد من كان فرضه المعاينة لم تصح لأن الحجر في المشاهدة ليس من الكعبة
فعمل به في الطواف دون الصلاة احتياطًا. ولو غيرت مواضع النهي بما يزيل
اسمها كجعل الحمام دارًا. ونبش المقبرة. ونحو ذلك صحت.
(1/179)
وتحرم في الحش. وهو ما أعد لقضاء الحاجة
لمنع الشرع من الكلام وذكر الله فيه فالصلاة أولى قال. ابن عباس لا يصلين
إلى حش ولا يعلم له مخالف. قال الشيخ وكره عامة السلف الصلاة في مسجد في
قبلته حش. قال ولا فرق عند عامة أصحابنا وغيرهم بين أن يكون الحش في ظاهر
جدار المسجد أو باطنه وهو المنصوص عن أحمد والمأثور عن السلف.
وذكر مواضع الأجسام الخبيثة ثم قال ولهذا كانت الحشوش محتضرة تحضرها
الشياطين والصلاة فيها أولى بالنهي عن الصلاة في الحمام ومعاطن الإبل
والصلاة على الأرض النجسة. ولم يرد في الحشوش نص خاص لأن الأمر فيها كان
أظهر عند المسلمين من أن يحتاج إلى بيان. ولهذا لم يكن أحد من المسلمين
يقعد في الحشوش ولا يصلي عليها. وإذا سمعوا نهيه عن الصلاة في الحمام
وأعطان الإبل علموا أن الصلاة في الحشوش أولى وأحرى.
وتكره في الكنيسة المصورة والبيعة وقال هما كالمسجد على القبر وكل مكان فيه
تصاوير لخبر عائشة وتكره في أرض الخسف وأرض بابل وتكره في الرحى وعلله بما
يلهي المصلي من الصوت ويشغله. وقال النووي الصلاة في مأوى الشيطان مكروهة
بالاتفاق. وذكر مثل مواضع الخمر والحانة ومواضع المكوس ونحوها من المعاصي
الفاحشة لقوله: "إن هذا موضع حضرنا فيه الشيطان" وتكره إلى نار لأنه من فعل
المجوس
(1/180)
ويحرم أن يصلي في الأرض المغصوبة لما فيها
من استعمال مال الغير بغير إذنه كما لو ستر عورته بمغصوب وذكر بعضهم غير
ذلك.
فصل في استقبال القبلة
أي في بيان أحكام استقبال القبلة. واستقبالها شرط من شروط الصلاة لا تصح
بدونه مع القدرة إجماعًا وقال شيخنا شرعية استقبال القبلة من العلم العام
عند كل أحد وأنه من شرائط صحة الصلاة.
(قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي حول وجهك
نحو المسجد الحرام وتلقاءه والشطر الناحية والمراد به الكعبة والحرام
المحرم واستقباله لا يجب في غير الصلاة فتعين أن يكون فيها وقد كان – - صلى
الله عليه وسلم - يحب أن يوجه إلى قبلة أبيه إبراهيم فأنزل عليه القرآن
وذلك بعد ما صلى ستة عشر شهرًا إلى بيت المقدس {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْْ} أي
في بر أو بحر أو شرق أو مغرب {فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} أي قبل
البيت {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ
الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُون}.
(وعن ابن عمر في صلاة أهل قباء) قال بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ
جاءهم آت فقال "إن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة
قرآنًا و (قد أمر أن يستقبل القبلة فاستقبلوها) أنتم
(1/181)
وتحولوا إلى جهة الكعبة (وكانت وجوههم إلى
الشام) وهذا تفسير من الراوي فإنه لما أنزل على رسول الله – - صلى الله
عليه وسلم - القرآن في تحويل القبلة.
وكان أول صلاة صلاها قبل البيت صلاة العصر في أصح الروايات. وصلى معه – -
صلى الله عليه وسلم - قوم فخرج رجل ممن صلى معه فمر على أهل مسجد قباء وهم
راكعون قبل بيت المقدس فقال أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله – - صلى الله
عليه وسلم - قبل مكة (فاستداروا) كما هم (إلى الكعبة) أي البيت الحرام
(متفق عليه) ولهما "أنه صلى ركعتين قبل الكعبة وقال هذه القبلة" أي أن أمر
القبلة قد استقر على هذا البيت فلا نسخ بعد اليوم فكونوا إليه أبدًا فهو
قبلتكم.
وقال للمسيء "ثم استقبل القبلة فكبر" وقال "قبلتكم أحياء وأمواتًا" رواه
أبو داود وغير ذلك مما تواتر نقله قولاً وفعلاً خلفًا عن سلف.
وقال ابن رشد ما نقل بالتواتر كاستقبال القبلة وأنها الكعبة لا يرده إلا
كافر يستتاب فإن تاب وإلا قتل فلا تصح بدونه إلا لعاجز كالمربوط. والمصلوب.
وعند اشتداد الحرب في حال الطعن والكر والفر. وكهرب من سيل. أو نار ونحو
ذلك فتصح في ذلك إلى غير القبلة إجماعًا لأنه شرط عجز عنه فسقط كغيره من
الشروط لقوله {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} وفيه دلالة على أنه
إذا صلى باجتهاد فبان أنه أخطأ فلا إعادة عليه وهو إجماع. وفيه أنه يستدير
إلى الجهة التي ظهرت له ويبني على ما
(1/182)
مضى من الصلاة قال الموفق لا نعلم فيه
خلافًا.
(وعن أبي هريرة مرفوعًا "ما بين المشرق والمغرب قبلة) بالنسبة إلى المدينة
وما وافق قبلتها (صححه الترمذي) ورواه ابن ماجه والحاكم وغيرهم. ويعضده
حديث أبي أيوب ولكن شرقوا أو غربوا. وقال تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ
فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي جهته وناحيته فلسائر
البلدان من السعة مثل ما للمدينة وعكسها بين الجنوب والشمال. قال ابن عبد
البر وهذا صحيح لا مدفع له ولا خلاف فيه بين أهل العلم.
وقال أحمد هذا في كل البلدان إلا بمكة عند البيت فإنه إذا زال عنه شيئًا
وإن قل فقد ترك القبلة. وبين القاضي وغيره أنما وقع عليه اسم مشرق ومغرب
فالقبلة ما بينهما وينبغي أن يتحرى أوسط ذلك لا يتيامن ولا يتياسر. وتعرف
دلائل القبلة في الحضر بمحاريب المسلمين إجماعًا لاتفاقهم عليها. وفي السفر
بالقطب والشمس والقمر وغير ذلك.
وإن اجتهد فأخطأ صحت لما تقدم ولحديث "فلما طلعت الشمس إذا نحن صلينا إلى
غير القبلة فنزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} ضعفه
الترمذي. وللطبراني "صلى في غيم إلى غير القبلة. وقال قد رفعت صلاتكم بحقها
إلى الله" وتقدم أن من اتقى الله ما استطاع لا إعادة عليه ولا إثم. قال ابن
القيم ولم يعرف في الشريعة موضع واحد أوجب الله على العبد فيه أن يوقع
الصلاة ثم يعيدها مرة أخرى إلا لتفريط في فعلها
(1/183)
أولاً. كتارك الطمأنينة. والمصلي بلا وضوء.
ونحوه وأما أن يأمره بصلاة فيصليها ثم يأمره بإعادتها بعينها فهذا لم يقع
قط وأصول الشريعة ترده.
(وعن ابن عمر كان – - صلى الله عليه وسلم - يسبح) أي يتنفل (على راحلته) أي
بعيره الذي كان يركبه (قبل أي جهة)
أي ناحية (توجه) إليها وأصل الجهة الوجهة، والوجهة اسم للمتوجه إليه وفي
لفظ "حيث كان وجهه" ولهما من حديث عامر بن ربيعة" يصلي علي راحلته حيث
توجهت "وللشافعي من حديث جابر "رأيته يصلي وهو علي راحلته النوافل"
قال ابن القيم وسائر من وصف صلاته – - صلى الله عليه وسلم - على راحلته
أطلقوا أنه كان يصلي عليها قبل أي جهة توجهت به ولم يستثنوا من ذلك تكبيرة
الإحرام ولا غيرها. فالمتنقل السائر في سفر يجوز له التطوع على راحلته
حيثما توجهت به إجماعًا حكاه النووي والحافظ وغيرهما لهذا الخبر ولقوله
تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ} قال ابن عمر: نزلت
في التطوع خاصة ولمسلم وغيره كان يصلي على راحلته وهو مقبل من مكة إلى
المدينة فنزلت {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ}، ولأن إباحته
كذلك تخفيف لئلا يؤدي إلى تقليله أو قطعه.
والجمهور على أنه يجوز التنفل عليها في طويل السفر وقصيره وأجيز في الحضر
للإطلاق في الأحاديث (ويوتر عليها)
(1/184)
فدل على أنه ليس بواجب (غير أنه) – - صلى
الله عليه وسلم - لا يصلي عليها) أي لا يصلي على راحلته (المكتوبة) أي
الفريضة (متفق عليه) وفي لفظ " ولم يكن يصنع ذلك في المكتوبة" أي الصلاة
على الراحلة ويأتي ذكر صحة الفريضة على الراحلة إذا كان مستقبل القبلة في
هودج ونحوه للعذر. ولو كانت سائرة كالسفينة فإنها تصح فيها إجماعًا.
(وللبخاري "يومئ برأسه) ولأحمد عن جابر "ولكن يخفض السجود عن الركوع يومئ
إيماء" (وللترمذي) "فجئت وهو يصلي على راحلته نحو المشرق" (والسجود أخفض من
الركوع) وصححه وفي هذا الباب عن جماعة من الصحابة والحديث يدل على أن سجود
من صلى على الراحلة يكون أخفض من ركوعه إن قدر وجوبًا اتفاقًا وإن عجز سقط
بلا نزاع ولا يلزمه وضع الجبهة على السرج ولا بذل غاية الوسع في الإنحناء
بل يخفض بمقدار يفترق به السجود عن الركوع.
وقال بعض أهل العلم ويركع ويسجد إن أمكنه بلا مشقة كراكب محفة واسعة وراحلة
واقفة وإلا يمكنه فيومئ إلى جهة سيره وسجوده أخفض من ركوعه. وكذا المسافر
الماشي قياسًا على الراكب. قال الشيخ وهو الأظهر لأن الركوع والسجود وما
بينهما يتكرر في كل ركعة ففي الوقوف له وفعله بالأرض قطع لمسيره فأشبه
الوقوف في حالة القيام.
(1/185)
فصل في النية
النية شرط من شروط الصلاة إجماعًا. ولا تسقط بحال إجماعًا لأن محلها القلب
فلا يتأتى العجز عنها. قال عبد القادر النية قبل الصلاة شرط وفيها ركن وعن
أحمد رواية أنها فرض.
(قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ} فنفى أن يكون أمرنا بشيء إلا بعبادته مفردين له نياتنا بدينه
الذي أمرنا به والإخلاص عمل القلب وهو محض النية فأمر تعالى بإخلاصها له
فدلت الآية على وجوب الإتيان بالنية في العبادة وصدورها خالصة لوجهه
والرياء المحض لا يكاد يصدر من مؤمن في فرض صلاة وصوم.
وقد يصدر في نحو صدقة وحج وهذا لا يشك مسلم أنه حابط وإن شارك العلم الرياء
فإن كان من أصله فالنصوص طافحة ببطلانه وإن كان العلم لله ثم طرأ عليه
الرياء ودفعه لم يضر بلا خلاف. وإن استرسل معه فخلاف رجح أحمد وغيره أنه لا
يبطل بذلك ذكره ابن رجب. وقال الشيخ المرائي بالفرائض كل يعلم قبحه. وأما
بالنوافل فلا يظن الظان أنه يكتفي فيه بحبوط عمله لا له ولا عليه بل هو
مستحق للذم والعقاب ولا يترك عبادة خوف رياء.
(وتقدم حديث "إنما الأعمال بالنيات) وأن العمل الذي لم ينو ليس بعبادة ولا
مأمورًا به فلا يكون فاعله متقربًا إلى الله
(1/186)
وهذا أمر مجمع عليه. فإن النية روح العمل
ولبه وقوامه وهو تابع لها يصح بصحتها ويفسد بفسادها. والنية لغة القصد وهو
عزم القلب على الشيء وشرعًا العزم على فعل العبادة تقربًا إلى الله تعالى
والتلفظ بها بدعة لم يفعله رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ولا أصحابه.
قال الشيخ وتلميذه لم ينقل عنه – - صلى الله عليه وسلم - ولا عن أصحابه أنه
تلفظ قبل التكبير بلفظ النية لا سرًا ولا جهرًا فإن النية تتبع العلم ومن
علم ما يريد فعله قصده ضرورة.
قال أحمد إذا خرج من بيته يريد الصلاة فهو نية أتراه كبر وهو لا ينوي
الصلاة فمن خرج للصلاة فقد نواها وإن كان مستحضرًا لها إلى حين الصلاة أجزأ
قال الشيخ باتفاق العلماء وذهب الأئمة إلى الاكتفاء بوجودها قبل التكبير
واختار النووي وغيره الاكتفاء بالاستحضار العرفي بحيث لا يعد غافلاً عن
الصلاة اقتداء بالأولين في تساهلهم. ويجب أن ينوي عين صلاة معينة فرضًا
كالظهر أو نفلاً كالوتر لتميز عن غيرها. فلو كان عليه صلاة رباعية وصلى
أربع ركعات لم ينو بها ما عليه لم تجزئه إجماعًا وإلا أجزأته نية صلاة
مطلقة إجماعًا كصلاة الليل لعدم التعيين فيها.
وإن قطع النية في أثناء صلاة بطلت لأنها شرط في جميعها أشبه ما لو سلم لا
إن نوى الخروج منها بناء على ظن التمام ككلام من ظن التمام لخبر ذي اليدين
وهو قول جمهور العلماء من السلف والخلف وعامة أهل الحديث. ولا أثر للشك في
النية.
(1/187)
قال الشيخ يحرم خروجه للشك في النية للعلم
أنه ما دخل إلا بالنية ولا أثر للشك بعد الفراغ إجماعًا. ولا يشترط في
الأداء ولا في القضاء نيتهما. قال الشيخ قد اتفق العلماء فيما أعلم على أنه
لو اعتقد بقاء وقت الصلاة فنواها أداء ثم تبين أنه صلى بعد خروج الوقت صحت
صلاته. ولو اعتقد خروجه فنواها قضاء ثم تبين له بقاء الوقت أجزأته صلاته
اهـ. فإن علم بقاء الوقت أو خروجه ونوى خلافه لم يصح لأنه متلاعب.
(وعن ابن عباس قال قام النبي – - صلى الله عليه وسلم - يصلي من الليل) يعني
منفردًا في بيت ميمونة (فقمت عن يساره فأدارني عن يمينه متفق عليه) ولمسلم
معناه من حديث أنس ومن حديث جابر في الفرض ونحوه من حديث عائشة وغير ذلك.
فدلت هذه الأحاديث على جواز الاقتداء بمن لم ينو إمامته. قال النووي وهو
صحيح على المشهور من مذاهب أهل العلم فإنها تحصل الجماعة للمأموم وإن لم
ينو الإمام الإمامة لأن الغرض حصول الجماعة وقد حصلت بواسطة الاقتداء لأن
صلاته حينئذ وقعت جماعة كما صلى الناس بصلاة النبي – - صلى الله عليه وسلم
- وهو في حجرته وهو مذهب الأئمة الثلاثة. والرواية الثانية عن أحمد اختارها
الموفق والشيخ وغيرهما لأنه ثبت في النفل والأصل المساواة والحاجة داعية
إلى ذلك فصح كحالة الاستخلاف.
وقال الشافعي لأنه ثبت في النقل بحديث ابن عباس
والأصل المساواة بل قد دل على ذلك قصة جابر وجبار وهي في
(1/188)
الفرض. قال شيخنا فالدليل واضح وأما
المأموم فيجب أن ينوي أنه مقتد اتفاقًا. وقال في الإنصاف يشترط نية حاله
بلا نزاع ولأن الجماعة يتعلق بها أحكام وإنما تتميز بالنية ولا يتصور أن
المأموم لا ينوي أنه مؤتم. فإن من وجد إمامًا يصلي أو شخصًا يصلي فإن نوى
أنه يقتدي به فهو مأموم وقد حصلت له نية الاقتداء وإن نوى أن يصلي لنفسه
ولم ينو أنه مقتد بذلك الإمام فهو منفرد.
أما إذا أحرم بالصلاة منفردًا ثم في أثناء الصلاة نوى أن يقتدي بشخص آخر
فروى مسلم من حديث المغيرة بن شعبة في صلاة عبد الرحمن بن عوف وأنه صلى معه
النبي – - صلى الله عليه وسلم - ركعة فلما سلم قام النبي – - صلى الله عليه
وسلم - وقام معه المغيرة فركعا الركعة التي سبقا بها والصديق تأخر واقتدى
بالنبي – - صلى الله عليه وسلم - قال في الإنصاف وإن سبق اثنان فائتم
أحدهما بصاحبه في قضاء ما فاتهما جاز. وهو المذهب سواء نوياه حال دخولهما
أولا.
(ولهما عن جابر في صلاة معاذ) وذلك أنه مد في القراءة (فتأخر رجل فصلى
وحده) والقصة مشهورة. ومن حديث أنس فدخل حرام وهو يريد أن يسقي نخلة فدخل
المسجد مع القوم فلما رأى معاذًا طول تجوز في صلاته ولحق بنخله يسقيه.
فدل على أنها تصح صلاة من فارق إمامه لعذر. ولا نزاع في ذلك ومحل إباحة
المفارقة للعذر إن استفاد بمفارقته تعجيل لحوقه لحاجته قبل فراغ إمامه.
(1/189)
فإن كان إمامه يعجل ولا يتميز إنفراده عنه
بنوع تعجيل لم يجز الإنفراد فيه ذكره ابن عقيل وغيره. وقال في الفروع لم
أجد خلافه. وإذا زال عذر مأموم بعد المفارقة لم يلزمه الدخول معه وله ذلك
وعدم الرجوع أولى لأنه قد فارق إمامه بوجه شرعي فينبغي أن يبقى على
مفارقته. وإن فارقه في ثانية جمعة لعذر أتمها جمعة.
(و) لهما أيضًا (عن سهل في صلاة أبي بكر) وذلك أن رسول الله – - صلى الله
عليه وسلم - ذهب إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم فحانت الصلاة فجاء المؤذن
إلى أبي بكر فقال أتصلي بالناس فأقيم قال نعم قال فصلى أبو بكر (فجاء رسول
الله – - صلى الله عليه وسلم - والناس في الصلاة فتخلص حتى وقف في الصف) ثم
اتسأخر أبو بكر في الصف (وتقدم) النبي – - صلى الله عليه وسلم - (فصلى)
الحديث ويأتي قصة صلاته – - صلى الله عليه وسلم - لما مرض.
وفيهما دلالة على جواز إمامة إمام الحي الراتب بمن أحرم بهم نائبه لغيبة
ونحوها وبنائه على صلاة نائبه وجواز عودة النائب مأمومًا. وصحة صلاة
المأمومين خلفهما. وجواز الاستخلاف لعذر. ويأتي أن عمر وعليًا استخلفا.
وقال النووي وغيره جاء الاستخلاف عنهما وغيرهما من الصحابة ولم يحك ابن
المنذر منعه عن أحد وهو مذهب مالك والشافعي وأبي حنيفة فيتمونها جماعة.
ويجوز فرادى احتج أحمد بأن معاوية لما طعن صلوا وحدانًا.
(1/190)
باب آداب المشي إلى
الصلاة
التي ينبغي أن يتأدب بها عند التوجه إليها والخروج لها.
والآداب جمع أدب الظرف وحسن التناول وما يحترز به من جميع أنواع الخطأ ومشى
مر وسار على الرجل سريعًا وغير سريع.
(عن أبي هريرة عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال إذا أتيتم الصلاة) أي
توجهتهم إليها (وفي لفظ إذا سمعتم الإقامة) يعني للصلاة (فامشوا) إليها
(وعليكم السكينة) أي التأتي في الحركات واجتناب العبث (والوقار) يعني في
الهيئة كغض الطرف وخفض الصوت وعدم الالتفات. والسكينة هي التي تورث الخضوع
والخشوع وغض الطرف وجمعية القلب على الله بحيث يؤدي عبوديته بقلبه وبدنه
(متفق عليه).
وقوله تعالى {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي اقصدوا واهتموا ليس
المراد السعي السريع. وقال الشيخ إن خشي فوات الجمعة أو الجماعة بالكلية
فلا ينبغي أن يكره له الإسراع لأن ذلك لا ينجبر إذا فاته والحكمة في شرع
هذا الأدب بينه – - صلى الله عليه وسلم - بقوله "فإن أحدكم إذا كان يعمد
إلى الصلاة فإنه في صلاة" رواه مسلم أي فإنه في حكم المصلي فينبغي اعتماد
ما ينبغي للمصلي اعتماده. واجتناب ما ينبغي اجتنابه. فلا يتكلم بمستهجن.
ولا يتعاطى ما يكره.
(1/191)
ويستحب كونه متطهرًا لقوله - صلى الله عليه
وسلم - «إذا توضأ أحدكم فأحسن الوضوء ثم خرج عامدا ُ إلي المسجد فلا يشبكن
بين أصابعه فإنه في صلاة» رواه أبو داود وغيره 0ويسن أن يقارب خطاه لتكثر
حسناته
ففي الصحيحين "إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج عامداً إلي المسجد لم يخط خطوة
إلا رفعت له بها درجة وحطت عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد فإذا دخل المسجد
كان في صلاة ما كانت الصلاة تحبسه. والملائكة يصلون على أحدكم ما دام في
مصلاه الذي صلى فيه يقولون "اللهم اغفر له اللهم ارحمه اللهم تب عليه ما لم
يؤذ أو يحدث فيه".
وفي ذلك أحاديث كثيرة ولأبي داود وغيره فإذا أتى المسجد فصلى في جماعة غفر
له فإن جاء وقد صلوا بعضًا فصلى ما أدرك وأتم ما بقي كان كذلك، وإن أتى
المسجد وقد صلوا كان كذلك وفي رواية "أعطاه الله أجر من صلاها وحضرها" وهذا
قول الجمهور.
(ولمسلم عن ابن عباس سمعته) يعني الرسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يقول
حين خرج إلى الصلاة اللهم اجعل في قلبي نورًا) أي عظيمًا كما يفيده التنكير
(وفي لساني) أي نطقي (نورًا واجعل في بصري نورًا) ليتجلى بأنوار المعارف
(وأمامي نورًا وخلفي نورًا ومن فوقي نورًا ومن تحتي نورًا) لأكون محفوظًا
بالنور من جميع الجهات (واعطني نورًا وزدني نورًا) لينكشف به الحق.
(1/192)
ويستحب أن يقول إذا خرج من بيته ولو لغير
الصلاة "بسم الله آمنت بالله. اعتصمت بالله. توكلت على الله. لا حول ولا
قوة إلا بالله. اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو
أظلم أو أجهل أو يجهل علي" صححه الترمذي وأن يقول "اللهم إني أسألك بحق
السائلين عليك يعني الإثابة وبحق ممشاي هذا فإني لم أخرج أشرًا ولا بطرًا
ولا رياء. ولا سمعة. خرجت اتقاء سخطك. وابتغاء مرضاتك.
أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت"
رواه أحمد وغيره وفيه "أقبل الله عليه بوجهه. واستغفر له سبعون ألف ملك"
يعني إذا قال ذلك. رواه عطية عن أبي سعيد مرفوعًا.
(وعن فاطمة) الزهراء بنت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - زوجة علي ولدت
له الحسن والحسين وبقيت بعد رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ستة أشهر
(قالت كان – - صلى الله عليه وسلم - إذا دخل المسجد) أي إذا أراد دخول
المسجد (قال "بسم الله والسلام على رسول الله) ولابن ماجه وغيره عن أنس
مرفوعًا "بسم الله اللهم صلى على محمد" والنووي من حديث ابن عمر وفيهما
مقال (اللهم اغفر لي ذنوبي) أي معاصي وإثمي واحدها ذنب والغفر الستر مع
المحو والتجاوز عن السيئات (وافتح لي أبواب رحمتك) لما كانت متوجهًا
للعبادة ناسب سؤال الرحمة.
(وإذا خرج قال) يعني "بسم الله. والسلام على رسول الله
(1/193)
اللهم اغفر لي ذنوبي (وافتح لي أبواب فضلك)
لما كان متوجهًا للأمور المباحات غالبًا ناسب أن يطلب فضل الله (رواه أحمد)
ورواه ابن ماجه وغيره وفيه مقال. ويشهد له ما رواه مسلم وغيره إذا دخل
أحدكم المسجد فليقل "اللهم افتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج فليقل. اللهم إني
أسألك من فضلك" وسؤال الفضل عند الخروج موافق لقوله {فَإِذَا قُضِيَتِ
الصَّلاَةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ}
وينبغي لداخل المسجد والخارج منه أن يجمع بين التسمية والصلاة والسلام على
رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وسؤال المغفرة والدعاء بالفتح لأبواب
الرحمة وأبواب الفضل وفاقًا.
وينبغي أيضًا أن يقول في بعض الأحيان "أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم
وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم. اللهم صلى على محمد اللهم اغفر لي
ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك وإذا خرج قال. وافتح لي أبواب فضلك. وإذا قال
ذلك قال الشيطان حفظ مني سائر اليوم". ولا يهجر ما جاء به الشرع من أي نوع
من الأدعية. ويسن عند الدخول أن يقدم رجله اليمنى لما تقدم أنه – - صلى
الله عليه وسلم - يحب التيامن في شأنه كله ويأمر به. وكذا يسن تقديم اليسرى
عند الخروج. وقاعدة الشرع المستمرة استحباب البداءة باليمن في كل ما كان من
باب التكريم والتزيين وما كان بضدها استحب فيه التياسر.
(وعن أبي قتادة مرفوعًا إذا دخل أحدكم المسجد) خرج
(1/194)
مصلى الجنائز فليس بمسجد والعيد لما يأتي
(فلا يجلس) نهى الداخل إلى المسجد عن الجلوس فيه (حتى يصلي ركعتين) يعني
تحية المسجد أو ما يقوم مقامهما من صلاة فرض ونفل (متفق عليه) وجاء بلفظ
الأمر من غير وجه.
وحكى النووي الإجماع على سنيتها في جميع الأوقات قال الشيخ والصحيح قول من
استحب ذلك وظاهر الخبر الوجوب بشرط الطهارة وعدم الإطالة للجلوس. وإن لم
يطل فينبغي التدارك لقوله - صلى الله عليه وسلم - "قم فاركعهما" وفي
المرقاة ما يفعله بعض العوام من الجلوس أولاً ثم القيام باطل لا أصل له.
وأما المسجد الحرام فالداخل يبدأ بالطواف ثم يصلي ركعتي الطواف. وإن أراد
الجلوس قبل الطواف فكغيره من سائر المساجد.
فصل في الصفوف
أي في مشروعية تسوية الصفوف في صلاة الجماعة وفضيلة ميامنها وإكمال الأول
فالأول.
(عن أنس قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سووا صفوفكم) وفي لفظ
"أقيموا صفوفكم" أي اعدلوها وسووها. ولهما أيضًا "رصوا صفوفكم" أي لاصقوها
حتى لا يكون بينكم فرج.
ويأتي قوله"رصوا صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق".وفي
(1/195)
لفظ "حاذوا بين المناكب وسدوا الخلل ولينوا
بأيدي إخوانكم ولا تذروا فرجات للشيطان ومن وصل صفًا وصله الله. ومن قطعه
قطعه الله" رواه أبو داود وغيره. فالتسوية مسنونة إجماعًا وكذا محاذات
المناكب والأكعب.
وقال (فإن تسوية الصف من تمام الصلاة متفق عليه) وللبخاري "فإن إقامة الصف
من حسن الصلاة" وفي رواية "فإن تسوية الصف من إقامة الصلاة" ولهما "لتسوون
صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم" أي يمسخها ويحولها عن صورتها والأمر
بتعديل الصفوف متواتر لا نزاع فيه والجمهور أنه مسنون وظاهر كلام الشيخ
وجوبه وقال: من ذكر الإجماع على استحبابه فمراده ثبوت استحبابه لا نفي
وجوبه.
(ولهما عنه "كان – - صلى الله عليه وسلم - يقبل علينا بوجهه) قبل أن يكبر
(فيقول تراصوا) أي تلاصقوا بغير خلل (واعتدلوا) أي على سمت واحد فلا يتقدم
أحد على أحد ولا يتأخر. ولأبي داود "اعتدلوا وسووا صفوفكم" وعن أنس "كان
إذا قام إلى الصلاة قال هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله استووا وتعادلوا"
ولأحمد "سووا صفوفكم وحاذوا بمناكبكم ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم"
وسره أن مخالفة الصفوف مخالفة في الظواهر واختلاف الظواهر سبب اختلاف
البواطن. ولمسلم عن أبي سعيد "كان يمسح مناكبنا" وللبخاري "فكان أحدنا يلزق
منكبه بمنكب
(1/196)
صاحبه" فثبت من غير وجه التفاته عن يمينه
وعن شماله استووا تراصوا وكذا خلفاؤه يتعاهدون ذلك.
(وعن عاشة مرفوعًا "إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف" رواه أبو
داود) وفيه وفي غيره من الأحاديث كحديث ابن عباس وحديث البراء: استحباب
الكون في يمين الصف.
ويمينه يصدق على الملاصق للإمام وعلى من وراءه من يمين كل صف, والبعد من
اليمين ليس بأفضل من قرب اليسار. وقال الشيخ وقوف المأموم بحيث يسمع قراءة
الإمام وإن كان في الصف الثاني أو الثالث أفضل من الوقوف في طرف الصف الأول
مع البعد عن سماع قراءة الإمام لأن الأول صفة في نفس العبادة فهي أفضل من
مكانها.
(وعن أبي هريرة مرفوعًا) إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه قال (لو
يعلم الناس ما في النداء) يعني من الأجر وفيه دلالة على فضيلة الآذان وبيان
ما فيه (والصف الأول) ومن الأجر يعني لتسارعوا إلى الصف الأول حتى أخذوا
المواضع منه (ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا) أي يضربوا القرعة عليه
(لاستهموا) أي لاقترعوا (متفق عليه) ولأحمد وأبي داود من حديث البراء "إن
الله وملائكته يصلون على الصفوف الأول" وله من حديث أنس "أتموا الصف الأول
ثم الذي يليه"
ولمسلم "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها. وخير
(1/197)
صفوف النساء آخرها. وشرها أولها" وله من
حديث أبي سعيد أنه – - صلى الله عليه وسلم - "رأى في أصحابه تأخرًا فقال له
تقدموا وأتموا بي وليأتم بكم من بعدكم لا يزال أقوام يتأخرون حتى يؤخرهم
الله" فالتقدم مشروع. وتستحب المحافظة على إدراك تكبيرة الإحرام بأن يتقدم
إلى المسجد قبل وقت الإقامة وقد جاء في فضل الصف الأول فالأول وإدراك
تكبيرة الإحرام أحاديث كثيرة وأما النساء فالأفضل بعدهن عن الرجال لما تقدم
ولأمن الفتنة وأما إذا أمتهن امرأة فصفوفهن كصفوف الرجال أفضلها أولها.
باب صفة الصلاة
أي كيفيتها وهي الهيئة الحاصلة للصلاة وبيان ما يكره فيها وأركانها
وواجباتها وسننها وما يتعلق بذلك وهذا شروع في المقصود بعد الفراغ من
مقدماته.
(قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} لما
ذكر تعالى أنه اصطفى رسلاً من البشر إلى الخلق أمرهم بإقامة ما جاءت به
الرسل من العبادات الشرعية وهو الصلاة قيل كان الناس أول ما أسلموا يسجدون
بلا ركوع ويركعون بلا سجود فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود. وأجمع
المسلمون أنها لا تصح بدون ركوع وسجود.
{وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} وحدوه بالعبادة {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ}
صلة الرحم ومكارم الأخلاق {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} تسعدون
(1/198)
وتفوزون بالجنة والآيات في الأمر بها
كثيرة. وبينت السنة ما جاء مجملاً في القرآن العزيز أتم بيان. وصح عنه – -
صلى الله عليه وسلم - أنه قال "صلوا كما رأيتموني أصلي" فقوله وفعله بيان
للواجب وبيان الواجب واجب كما تقرر في الأصول.
(وعن أبي هريرة أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال) أي للمسيء في
صلاته وهو خلاد بن رافع (إذا قمت إلى الصلاة) أي إذا أردت القيام إلى
الصلاة وأنت على غير طهر (فأسبغ الوضوء" أي أتمه كما تقدم "ثم استقبل
القبلة" وتقدم أن وجوب استقبالها إجماع في الجملة (فكبر) أي تكبيرة الإحرام
وفي حديث رفاعة عند أحمد وغيره (ثم يقول الله أكبر)، ومن حديث أبي حميد عند
ابن ماجه وغيره وصححه ابن خزيمة وغيره "إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائمًا
ورفع يديه ثم قال الله أكبر" ونحوه لأحمد وغيره من النصوص الصحيحة الصريحة
في تعيين التكبير للدخول في الصلاة. ونقل الخلف عن السلف.
فتكبيرة الإحرام ركن لا تنعقد إلا به مع القيام في الفرض للقادر. ولأحمد
وغيره "تحريمها التكبير" وحديث يقتتح الصلاة بالتكبير". وعلى هذا عوام أهل
العلم لنقلهم ذلك عنه – - صلى الله عليه وسلم - نقلاً متواترًا. وتكبيره
تعالى جامع لإثبات كل كمال له وتنزيهه عن كل نقص وعيب. وحكمته ليستحضر عظمة
من يقف بين يديه وأنه أكبر من كل شيء وأعظم وأجل فيخشع ويذل له تبارك
وتعالى متخليًا عن الشواغل متهيئًا للدخول عليه دخول العبد
(1/199)
على الملك بالتعظيم والإجلال لما في هذا
اللفظ من التعظيم والتخصيص وغيره لا يقوم مقامه كما قال ابن القيم وغيره.
بل لا يؤدي معناه فلا تنعقد الصلاة إلا به ويستحيي أن يشتغل بغيره من
استحضر كبرياءه وعظمته ولهذا أجمع العلماء على أنه ليس للعبد من صلاته إلا
ما عقل منها وحضر قلبه.
(ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن) وللنسائي وأبي داود من حديث رفاعة" فإن
كان معك قرآن فاقرأ" وله في رواية "بأم القرآن وبما شاء الله" فدلت مع
غيرها على وجوب القراءة في الصلاة بالفاتحة أو ما تيسر. قال الشيخ ويلزمه
قراءة قدرها من أي سورة شاء. فإن لم يعرف إلا آية كررها بقدرها.
فإن عجز لزمه قول سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
لحديث إن كان معك قرآن فاقرأ وإلا فاحمد الله وهلله وكبره فإن لم يعرف
شيئًا وقف بقدر الفاتحة اتفاقًا.
ويحرم أن يترجم عنه بلغة أخرى لقوله قرآنًا عربيًا وقوله بلسان عربي ولأنه
معجزة باللفظ والمعنى. وقال لا يقرأ القرآن بغير العربية سواء قدر عليها أو
لم يقدر عند الجمهور وهو الصواب الذي لا ريب فيه. ولا يدعى الله ويذكر بغير
العربية. واللسان العربي شعار الإسلام وأهله. واللغات من أعظم شعائر الأمم
التي بها يتميزون.
(ثم اركع حتى تطمئن راكعًا) ولأحمد وغيره "وإذا ركعت
(1/200)
فاجعل راحتيك على ركبتيك وأمدد ظهرك ومكن
ركوعك" وفي رواية "ثم تكبر وتركع حتى تطمئن مفاصلك وتسترخي" ففيه إيجاب
الركوع والاطمئنان فيه. وهما ركنان. وأجمعوا على مشروعية الانحناء حتى تبلغ
كفاه ركبتيه. وقال الشيخ الركوع في لغة العرب لا يكون إلا إذا سكن حين
انحنائه. وأما مجرد الخفض فلا يسمى ركوعًا. ومن سماه ركوعًا فقد غلط على
اللغة والشرع. قال وهذا مما لا سبيل إليه ولا دليل عليه. وإن حصل الشك لم
يكن ممتثلاً بالاتفاق وعن عقبة بن عمرو "أنه ركع فجافى يديه ووضع يديه على
ركبتيه وقال هكذا رأيت رسول الله يصلي" رواه أحمد وأبو داود.
(ثم ارفع) أي من الركوع (حتى تعتدل قائمًا) ولابن ماجه بسند جيد "حتى تطمئن
قائمًا" ولأحمد "فأقم صلبك حتى ترجع العظام" أي التي انخفضت حال الركوع
تعود "إلى ما كانت عليه" حال القيام للقراءة. وذلك بكمال الاعتدال ونحوه
أيضًا على شرط الشيخين فالاعتدال والطمأنينة ركنان في كل ركعة إجماعًا. وفي
السنن وصححه الترمذي "لا تجزئ صلاة الرجل حتى يقيم صلبه في الركوع والسجود"
أي عند رفعه منهما وقال لمن تركها "صل فإنك لم تصل".
فنفى أجزاء الصلاة بدون الطمأنينة ونفى مسماها الشرعي بدونها وأمر بالإتيان
بها وهذا شرع محكم صحيح
(1/201)
صريح لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا قال الشيخ
وهو صريح في أنه لا تجزئ الصلاة حتى يعتدل الرجل من الركوع وينصب من
السجود. وفي الصحيح أن حذيفة رأى رجلاً لا يقيم صلبه في الركوع والسجود
فقال "لو مت لمت على غير الفطرة التي فطر الله عليها محمدًا – - صلى الله
عليه وسلم - " وفي لفظ "على غير سنة محمد – - صلى الله عليه وسلم - " وكان
– - صلى الله عليه وسلم - يطيل الرفع بقدر الركوع وفي صحيح مسلم "حتى نقول
قد أوهم"
(ثم اسجد) أي على سبعة أعضاء (حتى تطمئن ساجدًا) وللنسائي "ثم يكبر ويسجد
حتى يمكن وجهه وجبهته حتى تطمئن مفاصله وتسترخي" ولأبي داود من حديث رفاعة
تكبيرات النقل وذهب أحمد وأهل الحديث وغيرهم إلى وجوبها واستقر عمل الأمة
عليه. وثبت عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه واتفقت الأمة على
ذلك (ثم ارفع) من السجود (حتى تطمئن جالسًا) وهو ركن بلا نزاع. وفي
الصحيحين عن عائشة "إذا رفع من السجدة لم يسجد حتى يستوي قاعدًا". ولحديث
أبي حميد وغيره. وفي رواية "فإذا رفعت رأسك فاجلس على فخذك اليسرى".
(ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا) كالأولى فهذه الأركان مجمع عليها (ثم افعل ذلك)
أي جميع ما ذكرت من الأفعال والأقوال (في صلاتك) أي ركعات صلاتك (كلها) إلا
تكبيرة الإحرام فإنها مخصوصة بالركعة الأولى لما علم شرعًا من
(1/202)
عدم تكرارها (متفق عليه) وهو في السنن
وغيرها بألفاظ متقاربة.
واعلم أن هذا الحديث حديث جليل تلقته الأئمة بالقبول واستدلوا به على وجوب
ما ذكر فيه وأنها لا تسقط بحال لأنها لو سقط على أحد لسقطت عن هذا الأعرابي
الجاهل. ولا ريب أن هناك أركانًا أخر يأتي الكلام فيها.
(وعن أبي حميد) عبد الرحمن بن سعد الأنصاري الخزرجي (الساعدي) نسبة إلى
ساعدة وهو أبو الخزرج المدني غلب عليه كنيته توفي في آخر ولاية معاوية
(قال) وهو في عشرة من أصحاب النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنا أعلمكم
بصلاة رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قالوا فاعرض فقال: (رأيت رسول
الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا كبر) يعني للإحرام (جعل يديه) أي كفيه
(حذو) أي مقابل (منكبيه) من حذوته احذوه وحاذيته محاذاة وازنته ولفظ أهل
السنن وغيرهم وصححه الترمذي "إذا قام إلى الصلاة اعتدل قائمًا ورفع يديه
حتى يحاذي منكبيه ثم يكبر".
قال ابن عمر رفعهما زينة الصلاة. وقال الشافعي وغيره تعظيم واستسلام وخضوع
لله تعالى واتباع لسنة نبيه – - صلى الله عليه وسلم - وقيل رفعهما إشارة
إلى رفع الحجاب بين العبد وبين ربه. وقيل ليستقبل بجميع بدنه. ورفعهما معًا
في فرض أو نقل ندب بلا نزاع رواه عنه – - صلى الله عليه وسلم - خمسون
صحابيًا منهم العشرة حتى قيل بوجوبه.
(1/203)
(وإذا ركع أمكن يديه من ركبتيه) كما في
حديث المسيء (ثم هصر ظهره) أي ثناه في استواء من غير تقويس وفي رواية "حنى"
وهو بمعناه. وفي رواية "غير مقنع رأسه ولا مصوبه" وفي رواية "ثم فرج بين
أصابعه". ولابن ماجه عن وابصة "وكان إذا ركع سوى ظهره حتى لو صب عليه الماء
لاستقر" أي سكن على ظهره في قعر عظم الصلب. وسوى الشيء تسوية جعله سويًا.
(قإذا رفع رأسه) أي من الركوع (استوى) زاد أبو داود فقال "سمع الله لمن
حمده اللهم ربنا لك الحمد. ورفع يديه" وفي رواية "حتى يحاذي بهما منكبيه"
معتدلاً " (حتى يعود) أي يرجع (كل فقار) أي من عظام الظهر (مكانه) والمراد
منه كمال الاعتدال ففي رواية "ثم مكث قائمًا حتى يقع كل عضو موضعه" وهو
معنى ما تقدم من قوله "حتى ترجع العظام".
ولمسلم عن عائشة "وإذا رفع رأسه من الركوع لم يسجد حتى يستوي قائمًا" وتقدم
أن هذا الاعتدال ركن.
(فإذا سجد وضع يديه) أي على الأرض (غير مفترش) أي لهما وعند ابن حبان "غير
مفترش ذراعيه" (ولا قابضهما) أي وغير قابض يديه بأن يضمهما إليه. ولفظ
الترمذي وغيره "كان إذا سجد جافى عضديه عن جنبيه ووضع يديه حذو منكبيه وفرج
بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه" وله أن يعتمد بمرفقيه على فخذيه
إن طال السجود لقوله "استعينوا بالركب" رواه أبو داود (واستقبل بأطراف
أصابع
(1/204)
رجليه القبلة) قال الشيخ وإذا رفع قدميه في
السجود فإنه مع رفعهما بالتلاعب أشبه منه بالتعظيم والإجلال ولو لم يضعهما
لم يصح السجود.
(وإذا جلس في الركعتين) جلوس التشهد الأول (جلس على رجله اليسرى ونصب
اليمنى) ولفظ السنن وغيرهما "ثم ثنى رجله وقعد عليها واعتدل حتى يرجع كل
عظم في موضع" وفي الصحيحين عن عائشة "وكان يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى"
وعن عبد الله بن زيد قال "كنا نعلم إذا جلسنا في الصلاة أن يفرش الرجل منا
قدمه اليسرى وينصب قدمه اليمنى. وإن كانت إبهام أحدنا لتنثني فيدخل يده حتى
يعدلها" ولم يحفظ عنه – - صلى الله عليه وسلم - في هذا الموضع جلسة غيرها.
(وإذا جلس في الركعة الأخيرة) من ثلاثية أو رباعية للتشهد الأخير جلس
متوركًا بلا نزاع فـ (قدم رجله اليسرى) ففرشها وفي لفظ "أفضى بوركه اليسرى
إلى الأرض" (ونصب الأخرى) يعني اليمنى ولأبي داود "وأخرج قدميه من ناحية
واحدة" (وقعد على مقعدته) أي جلس على عجيزته وكيفما جلس في التشهدين وبين
السجدتين جاز إجماعًا وهاتان الهيئتان قارقتان بين ما يسن تخفيفه فيكون
الجالس فيه متهيئًا للقيام أو مستقرًا وكل منهما مذكرة للمصلي حاله فيهما
(رواه البخاري) وأهل السنن وغيرهم قولاً وفعلاً وفيها قالوا صدقت.
(1/205)
(وعن ابن عمر أن رسول الله – - صلى الله
عليه وسلم - كان يرفع يديه حذو) أي مقابل (منكبيه) وفي رواية "حتى يكونا
حذو منكبيه" (إذا افتتح الصلاة) وتقدم أنه متواتر عن النبي – - صلى الله
عليه وسلم - (وإذا كبر للركوع) رفعهما كذلك (وإذا رفع رأسه) أي اراد أن
يرفعه (من الركوع) رفعهما كذلك وكان لا يفعل ذلك في السجود (متفق عليه)
ولمسلم عن مالك بن الحويرث نحو حديث ابن عمر لكن قال "حتى يحاذي بهما فروع
أذنيه".
ويمكن الجمع بأن يحاذي بظهر كفيه المنكبين وبأطراف أنامله الأذنين كما في
حديث وائل وهذا مذهب الجمهور. أو هذا مرة وذاك أخرى وفي حديث أبي حميد عند
أبي داود نحو حديث ابن عمر ونقل البخاري عن الحسن أن الصحابة كانوا يفعلون
ذلك. قال علي بن المديني حق على المسلمين أن يرفعوا أيديهم عند الركوع
والرفع منه لهذا الخبر.
(وفي رواية "وإذا قام من الركعتين) رفعهما كذلك" وفي حديث أبي حميد "ثم إذا
قام من الركعتين رفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه" كما صح عند افتتاح الصلاة
رواه مسلم وصححه الترمذي من حديث علي وصححه البخاري في جزء رفع اليدين وقال
ما زاده ابن عمر وعلي وأبو حميد في عشرة من الصحابة صحيح. وقال ابن بطال
هذه زيادة يجب قبولها. وقال الشيخ مندوب إليه عند محققي العلماء العاملين
بالسنة. وقد ثبت في الصحاح والسنن ولا معارض لها ولا مقاوم اهـ.
(1/206)
وينبغي أن يبتدئ رفع يديه مع ابتداء
التكبير وينهيه معه لأن الرفع للتكبير فكان معه وهذا مذهب الجمهور. ولأحمد
وأبي داود من حديث وائل "كان يرفع يديه مع التكبير". وفي الصحيح عن ابن عمر
"حين يكبر" ولا استصحاب في انتهائه وصححه النووي وغيره وإن فرغ قبله حطهما
ولم يستدم الرفع وإن كان ثبت تقديم التكبير على الرفع فقد قال الحافظ وغيره
لم أر قائلاً به.
(ولمسلم عن وائل) يعني ابن حجر أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (وضع
يده اليمنى على اليسرى) ولفظ أحمد وأبي داود بسند صحيح "وضع كفه اليمنى على
كفه اليسرى والرسغ على الساعد" ونحوه عن ابن مسعود. وفي الصحيح من حديث سهل
"كانوا يؤمرون" ووضع اليدين إحداهما على الأخرى متواتر عن النبي – - صلى
الله عليه وسلم - والتابعين ومن بعدهم وهو أقرب للخشوع وأمنع من العبث.
قال الوزير أجمعوا على أنه يسن وضع اليمين على الشمال في الصلاة إلا في
إحدى الروايتين عن مالك فقال يباح والأخرى مسنون. وقال ابن عبد البر لم يأت
عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - فيه خلاف ولم يحك عن مالك ولا غيره.
ولأبي داود وغيره عن ابن مسعود أنه "وضع اليسرى على اليمنى فرآه النبي – -
صلى الله عليه وسلم - فوضع يده اليمنى على اليسرى" ولا خلاف في ذلك (زاد
ابن خزيمة) وغيره (على صدره) وصححه ولأحمد عن هلب رأيته يضع هذه على صدره
(1/207)
قال النووي رواتهما كلهم ثقات.
وصح عن علي من فعله فوق السرة. وعنه مرفوعًا تحت السرة وسنده ضعيف. وقال
ابن القيم لما ساق حاله - صلى الله عليه وسلم - في صلاته ثم كان يمسك شماله
بيمينه فيضعهما عليها فوق المفصل ثم يضعهما على صدره. وقال في موضع لم يصح
موضع وضعهما. وعن أحمد وغيره هو مخير والأمر فيه واسع.
(وعن عمر رضي الله عنه أنه كان) يجهر بهؤلاء الكلمات يعني بعد تكبيرة
الإحرام يعلمهن الناس في مسجد رسول الله بحضرة الأكابر من الصحابة –رضي
الله عنهم. وقال الحافظ وابن القيم هو بهذا الوجه في حكم الرفع (يقول
سبحانك اللهم) أي أنزهك التنزيه اللائق بجلالك وأصل التسبيح التنزيه
والتقديس ثم استعمل في مواضع تقرب منه اتساعًا.
(وبحمدك) أي وبكل ما يليق تسبيحك به وبحمدك سبحتك وبنعمك التي توجب علي
حمدًا سبحتك لا بحولي ولا بقوتي. فيشاهد بقلبه ربًا منزهًا عن كل عيب
محمودًا بكل حمد.
وحمده يتضمن وصفه بكل كمال (وتبارك) أي كمل وتقدس (اسمك) من باب مجد والمجد
كثرة صفات الجلال ولا يقال تبارك إلا له سبحانه وتعالى (وتعالى جدك) أي
تعاظم شأنك وارتفع قدرك جاء على بناء السعة فدل على كمال العلو ونهايته
والجد العظمة.
(1/208)
(ولا إله غيرك) أي لا معبود بحق سواك بل
أنت المستحق للعبادة وحدك لا شريك لك بما اتصفت به الصفات التي تستلزم أن
تكون المحبوب غاية المحبة المخضوع له غاية الخضوع (رواه مسلم) ورواه أحمد
والترمذي وغيرهما عن أبي سعيد مرفوعًا وقال العمل عليه عند أكثر أهل العلم.
ولأبي داود والحاكم نحوه عن عائشة قال أحمد وأنا أذهب إليه ولولا أن النبي
– - صلى الله عليه وسلم - كان يقوله في الفريضة ما فعل ذلك عمر وأقره
المسلمون. وروي عن أبي بكر وابن مسعود.
قال المجد وغيره واختيار هؤلاء. وجهر عمر به يدل على أنه الأفضل وأنه الذي
كان النبي – - صلى الله عليه وسلم - يداوم عليه غالبًا. وقال الضحاك
والربيع في قوله تعالى {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُوم} أي إلى
الصلاة تقول سبحانك اللهم إلخ. ولاشتماله على أفضل الكلام بعد كتاب الله.
ولأنه خاص في الثناء على الله وغيره من الاستفتاحات وإن كانت أصح منه فإنما
هي متضمنة للدعاء والثناء على الله أفضل من جنس الدعاء عند الافتتاح
وعامتها في قيام الليل. وقال أحمد إنما هي في التطوع ولأنه إنشاء للثناء
على الرب متضمن للأخبار عن صفات كماله ونعوت جلاله وغير ذلك مما يرجح الأخذ
به.
ويجوز الاستفتاح بكل ما ورد. قال الشيخ الاستفتاحات الثابتة كلها سائغة
باتفاق المسلمين ولم يكن – - صلى الله عليه وسلم -
يداوم على استفتاح واحد قطعًا. والأفضل أن يأتي بالعبادات
(1/209)
المتنوعة على وجوه متنوعة كل نوع منها على
حدته ولا يستحب الجمع.
(وقال ابن المنذر) محمد بن إبراهيم النيسابوري الإمام المشهور صاحب
التصانيف المتوفى سنة ثلاثمائة وتسع عشرة (جاء عن النبي - صلى الله عليه
وسلم -) وكذا قال أبو حيان عن عبد الله بن عمرو وأبي هريرة وجبير ابن مطعم
(أنه كان يقول) - صلى الله عليه وسلم - يعني في صلاته (قبل القراءة) وكذا
خارج الصلاة (أعوذ بالله) أي ألجأ إلي الله واعتصم به (من الشيطان الرجيم)
المطرود المبعد عن رحمة الله لا يضرني في ديني ولا في دنياي أو يصدني عن
فعل ما أمرت به 0أويحثني علي فعل ما نهيت عنه فإنه لا يكفه إلا الله 0
والشيطان اسم لكل متمرد عات من الجن والإنس من شطن أي بعد لبعده عن الخير
أو من شاط إذا هلك. والرجيم بمعني المرجوم أي المطرود المبعد أو بمعني راجم
أي يرجم غيره بالإغواء. والتعوذ بهذا اللفظ مجمع عليه.
لقوله تعالى {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ} أي إذا أردت قراءة القرآن
{فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم} فإنك إذا استعذت بالله
منه فقد أويت إلى ركنه الشديد واعتصمت بحوله وقوته من عدوك الذي يريد أن
يقطعك عن ربك ويباعدك منه.
وكيف ما تعوذ به من الوارد فحسن. ومنه ما رواه الترمذي وغيره من حديث أبي
سعيد "كان إذا قام إلى الصلاة
(1/210)
استفتح ثم قال: أعوذ بالله السميع العليم
من الشيطان الرجيم. من همزه ونفخه ونفثه" ونفثه الشعر. ونفخه الكبر. وهمزه
الموتة خنق يشبه الجنون. وحكى ابن جرير وغيره الإجماع على استحباب التعوذ
قبل القراءة وأوجبه عطاء والثوري للآية والأخبار ولدرء الشيطان. وما لا يتم
الواجب إلا به فهو واجب. وعامة السلف أنه سنة واختار الشيخ التعوذ عند أول
قراءة.
(وعن أنس أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون
الصلاة بالحمد لله رب العالمين) أي القراءة في الصلاة بهذا اللفظ (متفق
عليه) ولمسلم "صليت خلف النبي – - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر
وعثمان فلم أسمع أحدًا منهم يقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم" (زاد أحمد "لا
يجهرون ببسم الله الرحمن الرحيم) وإسناده على شرط الصحيح وفيه دليل على
أنهم كانوا لا يسمعون من خلفهم لفظ البسملة عند قراءة الفاتحة في الصلاة
جهرًا فلا يسن الجهر بها فيها. قال الترمذي وعليه العمل عند أكثر أهل العلم
من أصحاب النبي – - صلى الله عليه وسلم - ومن بعدهم.
وقال الشيخ المداومة على الجهر بها بدعة مخالفة للسنة الصحيحة الصريحة عن
رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - والسلف. والأحاديث الصريحة في الجهر
بها كلها موضوعة. وذكر الطحاوي أن ترك الجهر بالبسملة في الصلاة تواتر عن
النبي – - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه وذكر الشيخ أنه يستحب الجهر بها
للتأليف. وأنه يستحب الجهر بها
(1/211)
وبالتعوذ والفاتحة في الجنازة ونحوها
تعليمًا للسنة اهـ. وأما التعوذ والاستفتاح فيسر بهما إجماعًا وليست
البسملة من الفاتحة ذكره القاضي إجماعًا سابقًا.
وقال الشيخ البسملة آية من كتاب الله في أول كل سورة سوى براءة وليست من
السور على المنصوص. وهو أوسط الأقوال وأعدلها وبه تجتمع الأدلة. وتستحب
البسملة في ابتداء جميع الأفعال المهمة وهي تطرد الشيطان. ومستحبة تبعًا لا
استتقلالاً. وتكتب أوائل الكتب كما كتبها سليمان ونبينا عليهما الصلاة
والسلام.
وذكر بعض أهل العلم أربعة أقسام: قسم تجب فيه وهو الوضوء والغسل والتيمم.
وعند الصيد. والتزكية. وقسم تسن فيه: قراءة القرآن. والأكل والشرب والجماع
وعند دخول الخلاء ونحو ذلك. وقسم لا تسن فيه كالصلاة والأذان والحج
والأذكار والدعوات. وقسم تكره فيه وهو المحرم. والمكروه. لأن المقصود بها
البركة. والزيادة. وهذان لا تطلب فيهما. وقيل تحرم عند أكل الحرام.
وفي البزازية اختلف في كفره.
(وعن عبادة) بن الصامت بن قيس الخزرجي الأنصاري السلمي أحد النقباء شهد
العقية والمشاهد واستقضاه عمر على
(1/212)
الشام ومات بالرملة سنة أربع وثلاثين وله
اثنتان وسبعون (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال لا صلاة) أي
مجزئة (لمن لم يقرأ بأم القرآن، متفق عليه) ولابن حبان "لا تجزئ صلاة لا
يقرأ فيها بفاتحة الكتاب" ففيه دلالة على نفي إجزاء الصلاة الشرعية إذا لم
يقرأ فيها المصلي بفاتحة الكتاب لأن الصلاة فرضت مركبة من أقوال وأفعال لا
تصح بدونها. والمركب ينتفي بانتفاء جميع أجزائه وبانتفاء البعض. وتقدم أمره
– - صلى الله عليه وسلم - المسيء بقراءة الفاتحة. وسمي كل ركعة صلاة. وفي
بعض ألفاظه قال الراوي فوصف الصلاة هكذا أربع ركعات حتى فرغ ثم قال "لا تتم
صلاة أحدكم حتى يفعل ذلك" ولغير ذلك من الأخبار وجمهور العلماء مالك
والشافعي وأحمد وغيرهم أنها ركن في كل ركعة.
ولمسلم من حديث أبي هريرة "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي
خداج" وسمعت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يقول "قال الله تعالى:
قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال {الْحَمْدُ للهِ
رَبِّ الْعَالَمِين} قال الله حمدني عبدي فإذا قال {الرَّحْمنِ الرَّحِيم}
قال أثنى علي عبدي وإذا قال {مَلِكِ يَوْمِ الدِّين} قال مجدني عبدي، وإذا
قال {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِين}، قال هذا بيني وبين عبدي
نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال {اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم صِرَاطَ
الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ
الضَّالِّين}، قال هذا لعبدي ولعبدي ما سأل".
وهي أفضل سورة في القرآن لما في الصحيح "أعظم سورة
(1/213)
في القرآن وهي السبع المثاني والقرآن
العظيم الذي أوتيه" وهي أم القرآن لأن فيها تقرير الإلهيات والمعاد
والنبوات، قال الحسن أودع فيها معاني القرآن كما أودع فيه معاني الكتب
السابقة. وقال ابن كثير وغيره. قد اشتملت على حمد الله. وتمجيده والثناء
عليه، وعلى المعاد والنبوات وإثبات القدر، والإرشاد إلى سؤال الله، والتضرع
إليه، وتوحيده بالألوهية، وتنزيهه عن أن يكون له شريك، أو مماثل، وإلى
سؤاله الهداية إلى الصراط المستقيم، والتثبيت عليه، والترغيب في الأعمال
الصالحة، والتحذير من مسالك أهل الغضب والضلال.
وجمعت معانيها في إياك نعبد وإياك نستعين. ففيها سر الخلق وأمر الدنيا
والآخرة ويستحب أن يقرأها مرتلة لقوله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ
تَرْتِيلاً} محسنة لقوله عليه الصلاة والسلام "زينوا القرآن بأصواتكم" قال
شيخ الإسلام هو التحسين والترنم بخشوع وحضور قلب وتفكر وتفهم ينفذ اللفظ
إلى الأسماع. والمعاني إلى القلوب لا صرف الهمة إلى ما حجب به أكثر الناس
بالوسوسة في خروج الحروف وترقيقها وتفخيمها وإمالتها والنطق بالمد الطويل
والقصير والمتوسط وشغله بالفصل والوصل والإضجاع والإرجاع والتطريب وغير ذلك
مما هو مفض إلى تغيير كتاب الله والتلاعب به حائل للقلوب قاطع لها عن فهم
مراد الرب من كلامه.
(1/214)
ويستحب أن يقف عند كل آية، وإن كانت متعلقة
بما بعدها.
قالت أم سلمة "كان يقطع قراءته آية آية" وقال الشيخ وقوف القاري على رؤوس
الآي سنة وإن كانت الآية الثانية متعلقة بالأولى تعلق الصفة بالموصوف، وتصح
الصلاة بقراءة وافقت مصحف عثمان. وصح سندها اتفاقًا، وبما خالفه.
وصح سنده لصلاة الصحابة بعضهم خلف بعض. قال شيخ في أصح القولين وقال الذي
عليه السلف أن كل قراءة وافقت العربية أو أحد المصاحف العثمانية وصح
إسنادها فهي قراءة وافقت العربية أو أحد المصاحف العثمانية وصح إسنادها فهي
القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها وهي من الأحرف السبعة.
(ولهما) أي البخاري ومسلم (عن أبي هريرة مرفوعًا إذا أمن الإمام فأمنوا)
يعني إذا شرع في التأمين فأمنوا أنتم حتى يقع تأمينكم وتأمينه معًا. أو إذا
أراد التأمين لكي يتوافق تأمينكم وتأمينه ويكون بعد سكتة لطيفة ليعلم أنها
ليست من الفاتحة. ولهما أيضًا "إذا قال (ولا الضالين) فقولوا آمين" ففيها
مشروعية تأمين الإمام والمأموم معًا جهرًا. ولأحمد وغيره من حديث وائل "كان
يقول آمين يمد بها صوته" صححه الحافظ.
ولأبي داود قال "آمين يرفع بها صوته ويأمر بذلك" وللحاكم والبيهقي وصححاه
من حديث أبي هريرة "حتى يسمع أهل الصف الأول فيرتج المسجد".
وفي رواية "إذا قال الإمام ولا الضالين فقولوا آمين فإن الملائكة تقول آمين
وإن الإمام يقول آمين (فإنه من وافق تأمينه
(1/215)
تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه)،
وفي لفظ: «إذا قال أحدكم آمين، وقالت الملائكة: أمين فوافق أحدكم الآخر غفر
له ما تقدم من ذنبه»، وجمهور أهل العلم علي المقارنة وسنية التأمين. وحكي
وجوبه علي المأمومين. وآمين بفتح الهمزة مع المد ويجوز القصر والإمالة وهي
اسم فعل معناه اللهم استجب لنا ما سألناك من الهداية إلي الصراط المستقيم
إلخ. وليست من الفاتحة إجماعاً. وإنما هي طابع الدعاء وينبغي أن يؤمن
المأموم وإن لم يسمع قراءة الإمام ولا تأمينه لبعد ونحوه لكونه
معلوماً.
(وعن أبي قتادة أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في صلاة الظهر
والعصر في الركعتين الأوليين) تثنية أولى (بفاتحة الكتاب) أي في كل ركعة
منهما (وسورتين) أي في كل ركعة سورة وفي رواية سورة سورة. وسميت سورة
لارتفاعها وشرفها كسور بلد. أو لكونها قطعة من القرآن. أو لتمامها وكمالها،
وفيه دلالة على مشروعية قراءة سورة في كل ركعة بعد الفاتحة من الأوليين.
ولا نزاع في ذلك، وعن أبي برزة وخباب وغيرهما نحو ذلك. بل نقل نقلاً
متواترًا وأمر به معاذًا وغيره. وليست قراءة السورة بعد الفاتحة واجبة فلو
اقتصر على الفاتحة أجزأته اتفاقًا.
و (ويسمعنا الآية أحيانًا) أي تكرر منه ذلك وللنسائي من حديث البراء نسمع
منه الآية بعد الآية من سورة
لقمان والذاريات. ولابن خزيمة عن أنس (سبح). و (هل أتى)
(1/216)
وكأنه من هنا علموا مقدار قراءته وفيه
دلالة على جواز الجهر في السرية أحيانًا وأنه لا سجود على من فعل ذلك
(ويطول الركعة الأولى) أي السورة فيها أطول من الثانية. أو بترتيل القراءة
فيها، ويقال بسبب دعاء الاستفتاح والتعوذ وجمع البيهقي وغيره بين هذا وهذا.
وحزر بعض الصحابة بثلاثين ثلاثين في الظهر وأنه إنما يطيل الأولى إن كان
منتظرًا لآحد وفي رواية عبد الرزاق قال ظننا أنه يريد بذلك أن يدرك الناس
الركعة الأولى. ولمسلم عن أبي سعيد "كانت صلاة الظهر تقام فيذهب الذاهب إلى
البقيع فيقضي حاجته ثم يأتي أهله فيتوضأ ويدرك النبي – - صلى الله عليه
وسلم - في الركعة الأولى مما يطيلها (ويقرأ في الأخريين) تثنية أخرى
(بفاتحة الكتاب) من غير زيادة عليها (متفق عليه).
وفي لفظ "كان يقرأ في الظهر في الأوليين بأم الكتاب وسورتين في الركعتين
الأخريين بفاتحة الكتاب ويسمعنا الآية أحيانًا ويطول، وفي الركعة الأولى ما
لا يطيل في الثانية. وهكذا في العصر. وهكذا في الصبح" فدل على أنه هو السنة
في جميع الصلوات. وفيه دليل على مشروعية قراءة الفاتحة في الأربع الركعات
في كل واحدة كما تقدم. ولهما عن جابر قال عمر لسعد لقد شكوك في كل شيء قال
أما أنا فأمد في الأوليين وأحذف في الأخريين ولا آلو ما اقتديت به من صلاة
رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال صدقت ذلك الظن بك. وهذا الخبر
يحتمل
(1/217)
ما هو أعم من القراءة كالأذكار والركوع
والسجود.
قال شيخ الإسلام ويستحب إطالة الركعة الأولى من كل صلاة على الثانية.
ويستحب أن يمد في الأوليين ويحذف في الأخريين لهذا الخبر. وعامة فقهاء
الحديث على هذا اهـ. وما روى مسلم عن أبي سعيد "كنا نحزر قيام رسول الله –
- صلى الله عليه وسلم - في الظهر والعصر فحزرنا قيامه في الركعتين الأوليين
من الظهر قدر (ألم تنزيل) السجدة. وفي الأخريين قدر النصف من ذلك. وفي
الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر. والأخريين على النصف من
ذلك": فحزر وتقدير، وظاهر حديث أبي قتادة أنه لا يزيد في الأخريين من الظهر
على أم الكتاب وهو متفق على صحته وخبر مجزوم به فيتعين الأخذ به.
ويحتمل أنه – - صلى الله عليه وسلم - فعل ذلك لما أخرجه مالك "أن أبا بكر
رضي الله عنه قرأ في ثالثة المغرب {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا} الآية"
قال الموفق وغيره أكثر أهل العلم يرون أنه لا تسن الزيادة على فاتحة الكتاب
في غير الأوليين من كل صلاة. قال ابن سيرين لا أعلم أنهم يختلفون في أنه
يقرأ في الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة. وفي الأخريين بفاتحة الكتاب وهو قول
مالك وأحمد وأصحاب الرأي واحد قولي الشافعي. قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب
فإن زاد على الفاتحة لم يكره.
(وعن سليمان بن يسار) مولى ميمونة أم المؤمنين أخي عطاء وأحد الفقهاء
السبعة المتوفى سنة مائة من الهجرة (قال
(1/218)
كان فلان) يريد عمرو بن سلمة وكان أميرًا
على المدينة (يطيل الأوليين من الظهر ويخفف العصر) ولعله في الغالب وإلا
فقد تكون العصر طول الظهر إذا قرأ في الظهر بالليل والغاشية ونحوها. أو
تقارب وتقدم الكلام فيهما (ويقرأ في المغرب بقصار المفصل) اسم مفعول من
فصلت الشيء جعلته فصولاً متمايزة ومنه سمي حزب المفصل لفصل بعضه من بعض. أو
لكثرة الفصل بين سوره بالبسملة. أو لأحكامه.
وهو الحزب السابع من القرآن لما روى أبو داود عن أوس سألت أصحاب رسول الله
– - صلى الله عليه وسلم - كيف تحزبون القرآن قالوا ثلاثًا. وخمسًا. وسبعًا.
وتسعًا. وإحدى عشرة. وثلاث عشرة وحزب المفصل واحد والأكثر على أن قصار
المفصل من الضحى إلى آخره (وفي العشاء بوسطه) أي وسط المفصل من عم إلى
الضحى (وفي الصبح بطواله) من ق إلى عم عند الأكثر.
(فقال أبو هريرة ما صليت وراء إمام قط) ظرف مبني على الضم أي ما صليت وراء
إمام فيما مضى من عمري (أشبه صلاة) في معظم الصلاة أو أكثر الأحوال لا
دائمًا ولا في جميع أجزائها (برسول الله) أي بصلاة رسول الله – - صلى الله
عليه وسلم - (من هذا) أي ما أشبه صلاته بصلاة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - رواه أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم و (صححه الحافظ) اشتهر بهذا
اللقب واسمه أحمد بن علي الكناني الشافعي المعروف بابن حجر العسقلاني
المتوفى سنة اثنتين وثلاثين وثمانمائة. وقال الشيخ
(1/219)
محمد بن عبد الوهاب في مجموع الحديث رواته
ثقات.
وقال غير واحد من أهل العلم. السنة أن يقرأ في الصبح والظهر بطوال المفصل.
ويكون الصبح أطول. وفي العشاء والعصر بأوسطه. وفي المغرب بقصاره. والحكمة
في تطويل الصبح لأن الناشئة أشد مواطأة للقلب واللسان ويشهد هذه الصلاة
ملائكة الليل وملائكة النهار. ولأنها هي والظهر وقت غفلة بالنوم في آخر
الليل والقائلة. فتطويلهما ليدرك المتأخرون لغفلة أو نوم ونحوهما. وتخفيف
العصر لكونها وقت العمل.
والمغرب لحاجة الناس إلى عشاء صائمهم وضيفهم ووقتها ضيق. والعشاء لغلبة
النوم إلا أن وقتها متسع فأشبهت العصر.
وهديه – - صلى الله عليه وسلم - أن لا يقتصر على قصاره في المغرب والمداومة
على ذلك خلاف السنة. ولعل مرادهم في الغالب. وقد أنكر زيد بن ثابت على
مروان مواظبته على قصار المفصل ولو كان الأمر كذلك لما سكت مروان. وقال ابن
عبد البر وغيره ثبت أنه قرأ في المغرب بالمص وبالصافات والدخان وسبح والتين
والمرسلات وكان يقرأ فيها بقصار المفصل. وتقدم أنه كان يطول في الظهر
والفجر ويأتي أنه كان يقرأ فيها بـ (ألم) السجدة و (هل أتى على الإنسان).
وفي صحيح مسلم أنه كان يقرأ في الظهر بالليل إذا يغشى وفي العصر نحو ذلك.
وفي الصبح أطول من ذلك. وقصة معاذ
(1/220)
يكفيك أن تقرأ بـ (الشمس وضحاها) و (الليل
إذا يغشى) و (سبح اسم ربك الأعلى) وإن قرأ على خلاف ذلك في بعض الأوقات
فحسن لما ثبت عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - من قوله وفعله.
(وعن حذيفة قال كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه) أي
حال ركوعه في فرض ونفل (سبحان ربي العظيم) الذي لا أعظم منه تبارك وتعالى
(و) يقول (في سجوده سبحان ربي الأعلى) ووصفه تعالى بأفعل التفضيل في هذه
الحال في غاية المناسبة ولهذا "أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد" لأنه
أذل ما يكون لربه وأخضع له (رواه مسلم) ورواه الخمسة وصححه الترمذي وغيره.
وهذا الحديث مفسر لحديث عقبة أنه لما نزلت (فسبح باسم ربك العظيم) قال رسول
الله – - صلى الله عليه وسلم - "اجعلوها في ركوعكم" ولما نزلت (سبح اسم ربك
الأعلى) قال "اجعلوها في سجودكم" رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم
وغيرهم والحديثان يدلان على مشروعية هذا التسبيح في الركوع والسجود. ومذهب
مالك والشافعي وأبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أحمد وجمهور العلماء أنه سنة
وقال أبو حامد هو قول العلماء عامة لحديث المسيء. فلو كان واجبًا لأمره به.
وعن أحمد وجمهور أهل الحديث أنه واجب مرة للأمر به.
ولمسلم عن ابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "ألا وإني
نهيت
(1/221)
أن أقرأ القرآن راكعًا أو ساجدًا" لأن
القراءة أشرف الذكر فناسب أشرف الذكر في أشرف الأحوال وهو حالة القيام. قال
"فأما الركوع فعظموا فيه الرب. وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن أنه
يستجاب لكم" فهذه أحاديث صحيحة: صريحة في الأمر به وظاهرها الوجوب وهذا
مذهب أحمد وقيل أدنى الكمال ثلاث قال ابن القيم. وحديث تسبيحه في الركوع
والسجود ثلاثًا لا يثبت. والأحاديث الصحيحة بخلافه اهـ.
وقال أنس كان عمر بن عبد العزيز أشبه الناس بصلاة رسول الله – - صلى الله
عليه وسلم - وكان مقدار تسبيحه عشرًا وعن عائشة قالت "كان رسول الله – -
صلى الله عليه وسلم - يقول في ركوعه وسجوده سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر
لي" ولا ينافي التعظيم في الركوع لأنه زيادة على التعظيم ولأن المطلوب أن
يكون التعظيم معظمه والدعاء معظم السجود. وإن دعا في ركوعه وسجوده بغير ذلك
مما ورد فحسن ومنه "اللهم إني لك سجدت" إلخ و "اللهم إني لك ركعت".
(وله عن ابن عباس كان – - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه من الركوع قال
اللهم ربنا لك الحمد) وهو في الصحيحين وغيرهما من غير وجه ومجمع على أنه
مشروع في حق كل مصل بعد قول إمام ومنفرد سمع الله لمن حمده. لما في
الصحيحين وغيرهما أنه كان – - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك وقال "صلوا
كما رأيتموني أصلي" وقال لبريدة "إذا رفعت رأسك من الركوع فقل سمع الله لمن
حمده ربنا ولك
(1/222)
الحمد أي أجاب تعالى وسمع سمع قبول وإجابة
لمن حمده. فاستجب ربنا ولك الحمد علي ذلك والواو عاطفة علي مقدر بعد قول
ربنا وهو استجب أو حمدناك فجمع بين الدعاء والاعتراف.
والحديث أيضاً لمسلم. عن أبي سعيد بلفظ ربنا بك الحمد. وفي الصحيح عن أنس
وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا ولك الحمد جمعاً بين اللهم
والواو. ولهما من حديث أبي هريرة فقولوا ربنا لك الحمد. ويجمع بينهما
الإمام والمنفرد، والمأموم ربنا ولك الحمد فقط. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة
وأحمد وجمهور أهل العلم 0
ثم أخبر عن هذا الحمد بقوله (ملء السموات وملء الأرض) أي حمداً ملء العالم
العلوي والسفلي وما بينهما (وملء ما شئت) أي وملء غير السموات والأرض مما
شئت مما لا علم للعباد به (من شئ بعد) بالضم للقطع عن الإضافةٍ ونية المضاف
إليه و (أهل) بالنصب على الاختصاص أو النداء أو بالرفع أي أنت أهل (الثناء)
يعني الوصف بالجميل والمدح (والمجد) العظمة ونهاية الشرف (أحق) بالرفع خبر
مبتدأ محذوف (ما قال العبد) ما مصدرية فما قال في موضع المصدر تقديره هذا
أي قول ربنا ولك الحمد أحق قول العبد (وكلنا لك عبد) مملوك خاضع متذلل.
(لا مانع لما أعطيت) أي لا حائل بيننا وبين محض
(1/223)
فضلك (ولا معطي لما منعت) أي لما حرمتنا
إياه والمنع ضد الإعطاء (ولا ينفع ذا الجد منك الجد) أي لا ينفع ذا الحظ
منك حظه وغناه. وإنما ينفعه العمل الصالح. وعن رفاعة كنا نصلي وراء النبي –
- صلى الله عليه وسلم - فقال رجل ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا
مباركًا فيه. فلما انصرف قال من المتكلم قال رجل أنا قال رسول الله – - صلى
الله عليه وسلم - "رأيت بضعة وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول رواه
البخاري" ولمسلم أيضًا أنه – - صلى الله عليه وسلم - كان يقول "اللهم طهرني
بالثلج والبرد والماء البارد اللهم طهرني من الذنوب والخطايا كما ينق الثوب
الأبيض من الدنس" وكان عليه الصلاة والسلام يقول "لربي الحمد لربي الحمد"
يكررها.
(وعن وائل بن حجر قال رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "إذا سجد
وضع ركبتيه قبل يديه) وعن أنس قال رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -
"انحط بالتكبير حتى سبقت ركبتاه يديه" رواه الدارقطني والبيهقي والحاكم
وفيه مشروعية وضع الركبتين قبل اليدين.
قال ابن القيم وهذا هو الصحيح ولم يرو من فعله – - صلى الله عليه وسلم - ما
يخالف ذلك. ولحديث أبي هريرة "إذا سجد أحدكم فلا يبرك كما يبرك البعير
وليضع ركبتيه قبل يديه" رواه الأثرم وابن أبي شيبة ولفظه "إذا سجد أحدكم
فليبدأ بركبتيه قبل يديه ولا يبرك بروك الفحل".
ورواية "يديه قبل ركبتيه" لعله منقلب على بعض الرواة وأصله. ليضع ركبتيه
قبل يديه يدل عليه أول الحديث وآخره من
(1/224)
رواية ابن أبي شيبة وغيره. وروي عن بعض
الصحابة ما يوافق ذلك. ولم ينقل عنهم خلافه وهو قول جمهور السلف وحكاه أبو
الطيب عن عامة الفقهاء والخطابي عن أكثرهم وابن المنذر عن عمر وغيره وسفيان
والشافعي وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأي.
(وإذا نهض) يعني من السجود للإتيان بالركعة الثانية (رفع يديه قبل ركبتيه"
رواه الأربعة) ورواه ابن خزيمة وابن السكن في صحيحهما وغيرهم. ولأبي داود
"نهي أن يعتمد على يديه إذا نهض في الصلاة" وقال علي "من السنة أن لا يعتمد
بيديه على الأرض إلا أن يكون شيخًا كبيرًا لا يستطيع" وفيها مشروعية رفع
اليدين عند النهوض قبل رفع الركبتين. وجاء عن النبي – - صلى الله عليه وسلم
- أنه ينهض في الصلاة على صدور قدميه. قال الترمذي والعمل عليه عند أهل
العلم. وروى ابن أبي شيبة وغيره من غير وجه أن أصحاب رسول الله – - صلى
الله عليه وسلم - ينهضون في الصلاة على صدور أقدامهم. وأخرج عبد الرزاق
والبيهقي وغيرهم عن غير واحد من أكابر الصحابة.
وما روي أنه – - صلى الله عليه وسلم - إذا رفع رأسه جلس واعتمد على الأرض
ففي حالة الكبر. ولا خلاف في جوازه لكبر أو مرض أو ضعف ونحوه وبه تجتمع
الأدلة وأما جلسة الاستراحة فلم يذكرها كل واصف لصلاته – - صلى الله عليه
وسلم -. ومجرد فعلها لا يدل على أنها من سنن الصلاة. قال الترمذي والعمل
عليه عند أهل العلم ويحمل.
(1/225)
أيضًا أنه في آخر عمره عند كبره جمعًا بين
الأخرا، وهو اختيار شيخ الإسلام وغيره.
(وعن ابن عباس أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال "أمرت أن أسجد
على سبعة أعظم) سمى كل واحد عظمًا وإن اشتمل على عظام باعتبار الجملة وفي
لفظ "أمر النبي – - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد على سبعة أعضاء" والعضو
كل عظم وافر من الجسد وفسرها بقوله (الجبهة) ما بين الحاجبين إلى الناصية
(وأشار بيده إلى أنفه) وللنسائي قال ابن طاوس ووضع يده على جبهته وأمرها
على أنفه وقال هذا واحد. قال القرطبي هذا يدل على أن الجبهة الأصل في
السجود والأنف تبع لها. ولمسلم "الجبهة والأنف".
وحكى ابن المنذر إجماع الصحابة أنه لا يجزئ السجود على الأنف وحده وذهب
أحمد وجمهور الفقهاء إلى أنه يجب أن يجمع بينهما. واحتج أبو حنيفة بأن
الإشارة تدل على أنه المراد ولا شك أن الجبهة والأنف حقيقة في المجموع.
وقوله عليه الصلاة والسلام "الجبهة والأنف" جعلا لهما كالعضو الواحد.
ولو كان كل واحد منهما عضوًا مستقلاً للزم أن تكون الأعضاء ثمانية. ولأحمد
من حديث وائل "رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يسجد على الأرض
واضعًا جبهته وأنفه".
(واليدين) والمراد بهما الكفان ولمسلم من حديث البراء "إذا سجدت فضع كفيك
وارفع مرفقيك" وللترمذي "أمر
(1/226)
بوضع اليدين ونصب المرفقين" وقال وهو الذي
أجمع عليه أهل العلم واختاروه (والركبتين) موصل ما بين أسافل أطراف الفخذ
وأعالي الساق (وأطراف القدمين) أي أن يجعل قدميه قائمتين على بطون أصابعهما
وعقباه مرتفعتان فيستقبل بظهور قدميه القبلة (متفق عليه) وتقدم في حديث أبي
حميد "واستقبل بأطراف أصابع رجليه القبلة".
فيشرع أن يسجد على رجليه ثم ركبتيه يضعهما على الأرض قبل يديه لما تقدم من
قوله "ثم يديه" وكان – - صلى الله عليه وسلم - يضع يديه حذو منكبيه وأذنيه
باسطًا كفيه وأصابعه لا يفرج بينهما ولا يقبضهما. ثم يضع الجبهة مع الأنف.
قال الترمذي وهو الذي اختاره أهل العلم أن تكون يداه قريبًا من أذنيه قال
الموفق والجميع حسن. والخبر يدل على وجوب السجود على الأعضاء السبعة وهو
إجماع إلا ما تقدم عن أبي حنيفة في الأنف أو الجبهة.
والسجود على هذه الأعضاء السبعة هو غاية خشوع الظاهر. وأجمع العبودية لسائر
الأعضاء وفرض أمر الله به ورسوله وبلغه رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -
الأمة بقوله وفعله. ومن كمال هذا السجود مباشرة المصلي بأديم وجهه فيعفره
بالتراب استكانة وتواضعًا.
والاعتماد على الأرض بحيث ينالها ثقل رأسه. ومن كماله ارتفاع أسافله على
أعاليه تذللاً بين يدي ربه وانكسارًا له.
وتقدم قوله "فيمكن وجهه وجبهته حتى تطمئن مفاصله
(1/227)
ويسترخي" ولذلك إذا رأى الشيطان ابن آدم
ساجدًا "اعتزل ناحية يبكي ويقول يا ويله أمر بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت
بالسجود فعصيت فلي النار" وفي الأثر ما من حالة يكون عليها العبد أحب إلى
الله من أن يراه ساجدًا يعفر وجهه بالتراب.
وثبت من طرق "ما سجد العبد من سجدة إلا كتب له بها حسنة وحط عنه بها خطيئة"
وشرع تكرير السجود في كل ركعة لأنه أبلغ ما يكون في التواضع وأفضل أركان
الصلاة الفعلية وسرها الذي شرعت لأجله وخاتمتها وغايتها وثمرتها وما قبله
مقدمات له فكان تكرره أكثر من تكرر سائر الأركان والأحاديث في فضله والحث
عليه وعظيم أجره كثيرة معلومة.
(وفي السنن) أي سنن أبي داود والترمذي وابن ماجه وغيرهم وحسنه النووي وصححه
الحاكم (عنه) أي عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي – - صلى الله عليه
وسلم - كان يقول بين السجدتين) أي حال اعتداله من السجدة الأولى. وتقدم أنه
ركن يجلس فيه على رجله اليسرى وينصب اليمنى لحديث أبي حميد وعائشة وغيرهما
فيقول (اللهم اغفر لي وارحمني واهدني وعافني وارزقني).
قال ابن القيم لما فصل بركن بين السجدتين شرع فيه من الدعاء ما يليق به
ويناسبه وهو سؤال المغفرة والرحمة والهداية والعافية والرزق. وفي السنن
وغيرها بسند جيد من حديث
(1/228)
حذيفة. كان يقول بين السجدتين "رب اغفر لي
رب اغفر لي".
وله أن يدعو بغير ذلك واختار الشيخ الدعاء بما ورد وقال الكمال فيه كالكمال
في تسبيح الركوع والسجود وكان عليه الصلاة والسلام يطيل فيه بقدر السجود.
(وعن ابن عمر أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قعد للتشهد)
أي جلس للتشهد جلس فيه كجلوسه بين السجدتين يفرش رجله اليسرى وينصب اليمنى.
وإن كان في التشهد الأخير قعد على مقعدته كما تقدم والجلوس للتشهد الذي
يعقبه السلام ركن من أركان الصلاة لا تتم إلا به. قال الوزير اتفقوا على أن
الجلسة في آخر الصلاة فرض من فروض الصلاة.
(وضع يده اليمنى على ركبته اليمنى واليسرى على اليسرى) وللخمسة من حديث
وائل "وضع كفه اليسرى على فخذه وركبته اليسرى وجعل حد مرفقه الأيمن على
فخذه اليمنى".
والأحاديث بوضع يده اليمنى على فخذه اليمنى واليسرى على اليسرى مستفيضة وهو
مجمع عليه (وعقد ثلاثة وخمسين) في أعداد كانت معروفة عند العرب بأن تكون
الثلاثة مضمومة إلى أدنى الكف لا مقبوضة والإبهام مفتوحة تحت المسبحة
معطوفة على طرف الراحة. وللخمسة من حديث وائل "ثم قبض ثنتين من أصابعه وحلق
حلقة". وفي لفظ "وحلق إبهامه مع الوسطى". ولمسلم من حديث ابن الزبير "ووضع
إبهامه على إصبعه الوسطى" وورد غير ذلك.
(1/229)
وقال ابن القيم الروايات المذكورة كلها
واحدة فإن من قال قبض أصابعه الثلاث أراد به أن الوسطى كانت مضمومة ولم تكن
منشورة كالسبابة. ومن قال قبض اثنتين أراد أن الوسطى لم تكن مقبوضة مع
البنصر بل الخنصر والبنصر متساويتان في القبض وقد صرح بذلك من قال وعقد
ثلاثة وخمسين. فإن الوسطى في هذا العقد تكونمضمومة ولا تكون مقبوضة مع
البنصر (واشار بأصبعه السبابة) لا بغيرها ولو عدمت (رواه مسلم) وأحمد
والنسائي وغيرهم.
وسميت سبابة لتحريكها وقت السب. وسباحة لأنه يشير بها للتوحيد، والحكمة في
الإشارة بها ليجمع في توحيده بين القول والفعل والاعتقاد، وفي حديث وائل
"ثم رفع إصبعه فرأيته يحركها يدعو بها" قال ابن القيم كان لا ينصبها نصبًا
ولا ينيمها بل يحنيها شيئًا ويحركها. وينبغي أن ينظر إليها لخبر ابن الزبير
وأحاديث الإشارة بها في التشهد بلغت حد التواتر. وكذا ينبغي الإشارة بها
إذا دعا في صلاة وغيرها للخبر.
(وعن ابن مسعود أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال إذا قعد أحدكم
في الصلاة) يعني في التشهد (فليقل) أي سرًا إجماعًا لقول ابن مسعود من
السنة إخفاء التشهد رواه الترمذي وغيره وقال العمل عليه عند أهل العلم. وفي
لفظ علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التشهد كفي بين كفيه كما
يعلمني السورة من القرآن، وكذا في حديث ابن عباس وفي لفظ علمه التشهد وأمره
أن يعلمه
(1/230)
الناس وفي لفظ كنا نقول قبل أن يفرض علينا
التشهد السلام على الله من عبادة، فقال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -
"لا تقولوا السلام على الله فإن الله هو السلام.
ولكن قولوا (التحيات) أي جميع التعظيمات (لله) ملكًا واستحقاقًا وكان ملوك
الأرض يحيون بتحيات متنوعة فقيل للمسلمين في هذه الجلسة التي تمثل في
الخدمة بين يدي الله عز وجل جاثيًا على الركب كهيئة الملقي نفسه بين يدي
سيده راغبًا وراهبًا معتذرًا إليه قولوا "التحيات لله" فهو سبحانه أولى
بالتعظيمات من كل من سواه، فإن التحيات تتضمن العظمة والحياة والبقاء
والدوام وغير ذلك مما لا يستحقه إلا الحي الباقي الذي لا يموت ولا يزول
ملكه تبارك وتعالى (والصلوات) أي الخمس أو العبادات كلها التي يراد بها
تعظيم الله كلها لله وحده وهو مستحقها ولا تليق بأحد سواه.
(والطيبات) أي الأعمال الصالحة لله أو الطيبات من الكلمات والأفعال والصفات
والأسماء ونحو ذلك مما هو ثناء على الله وكل عمل تعمله فهو كله لا حق فيه
لغير الله (السلام) اسم من أسماء الله لسلامته تعالى من كل نقص وعيب. وإذا
كان اسم الله يذكر على الأعمال توقعًا لاجتماع معاني الخيرات فيه وكان
المقام مقام طلب السلامة أتى في لفظها بصيغة اسم السلام الذي تطلب منه
السلامة.
والسلام في الأصل مصدر بمعنى السلامة واسم من التسليم أو
(1/231)
سلام الله (عليك أيها النبي)
دعاء له – - صلى الله عليه وسلم - بالسلامة وتضمن معنيين ذكر الله وطلب
السلام والنبيء بالهمز من النبأ لأنه مخبر عن الله وبلا همز إما تسهيلاً أو
من النبوة وهي الرفعة أو الطريق لأنه الطريق إلى الله، وهو من ظهرت المعجزة
على يده وقارن ظهورها دعوى النبوة ولم يؤت نبي قبله – - صلى الله عليه وسلم
- ولا رسول معجزة إلا وله مثلها وزيادة. بل دلائل نبوته – - صلى الله عليه
وسلم - لا تحصر (ورحمة الله وبركاته) جمع بركة وهي النماء والزيادة وخصوه
أولاً بالسلام عليه لعظم حقه عليهم وقدموه على التسليم على أنفسهم لذلك ثم
أتبعوه بالسلام عليهم في قولهم:
(السلام علينا) أي الحاضرين من الإمام والمأموم والملائكة لأن الاهتمام بهم
أهم. ثم أردفوه بتعميم السلام في قولهم: (وعلى عباد الله الصالحين) جمع
صالح وهو القائم بما عليه من حقوق الله وحقوق عباده وفي رواية "فإنكم إذا
فعلتم ذلك فقد سلمتم على كل عبد صالح في السماء والأرض" قال الترمذي من
أراد أن يحظى بهذا السلام الذي يسلمه الخلق في الصلاة فليكن عبدًا صالحًا
وإلا حرم هذا الفضل العظيم.
(أشهد أن لا إله إلا الله) أي أجزم واقطع أن لا معبود بحق إلا الله وحده
فالشهادة خبر قاطع والقطع من فعل القلب واللسان مخبر بذلك. وإن كان ابتداء
هذه الكلمة العظيمة نفيًا فالمراد به الإثبات ونهاية التحقيق إثبات
الألوهية الحقة لله تعالى
(1/232)
وحده ونفيها عن كل ما سواه فهي كلمة
التوحيد والعروة الوثقى وكلمة التقوى والصراط المستقيم ولأجلها أرسلت الرسل
وأنزلت الكتب ولا يصح لعبد دين إلا بها. والمراد معرفة معناها والعمل
بمقتضاها لا مجرد قولها باللسان.
(وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) بصدق ويقين وذلك يقتضي متابعته – - صلى الله
عليه وسلم - وأتى بهاتين الصفتين رفعًا للإفراط والتفريط ولفظهما ثبت في
جميع الأصول الستة وغيرها وإضافتهما إلى الله إضافة تشريف وتكريم (متفق
عليه) وقال البزار والذهبي وغيرهما أصح حديث في التشهد حديث ابن مسعود روي
من نيف وعشرين طريقًا. قال الحافظ والبغوي لا خلاف في ذلك. وقال مسلم اتفق
الناس عليه. وقال الترمذي والعمل عليه عند أكثر أهل العلم.
وقال أبو حنيفة وأحمد وجمهور الفقهاء وأهل الحديث التشهد به أفضل لمرجحات
كثيرة منها الاتفاق على صحته وتواتره وهو أصح التشهدات واشهرها ولأمره – -
صلى الله عليه وسلم - ابن مسعود أن يعلمه الناس وكونه محفوظ الألفاظ لم
يختلف في حرف منه.
وكون غالبها يوافق ألفاظه فاقتضى أنه هو الذي يأمر به النبي – - صلى الله
عليه وسلم - غالبًا. واتفق العلماء على جواز التشهدات الثابتة كلها. وقال
شيخ الإسلام كلها سائغة باتفاق المسلمين.
وظاهر الأمر به يقتضي وجوبه. وقال عمر لا تجزئ صلاة
(1/233)
إلا بتشهد وصرح بفرضيته راويه. وهو مذهب
الشافعي وأحمد وغيرهما ولا نزاع في مشروعيته لنقل الخلف عن السلف عن النبي
– - صلى الله عليه وسلم - نقلاً متواترًا. والأولى تخفيف التشهد الأول وعدم
الزيادة عليه لحديث: "كان يجلس في الأوليين كأنه على الرضف" رواه أبو داود
وغيره. ولحديث: "نهض حين فرغ من تشهده" قال الطحاوي: من زاد عليه فقد خالف
الإجماع وقال أحمد من زاد عليه فقد أساء. وهو واجب عنده وعند الشافعية يسجد
لتركه.
(ولهما عن كعب بن عجرة) بن عدي البلوي ثم القضاعي حليف الأنصار نزل الكوفة
وتوفي بالمدينة سنة اثنتين أو ثلاث وخمسين وله خمس وسبعون (أن رسول الله –
- صلى الله عليه وسلم -) خرج عليهم فقالوا قد عرفنا كيف نسلم عليك. فكيف
نصلي عليك، ولمسلم عن أبي مسعود " أمرنا الله أن نصلي عليك فكيف نصلي عليك"
ولأحمد وابن خزيمة "إذا نحن صلينا عليك في صلاتنا فـ (قال قولوا اللهم صل
على محمد) والصلاة من الله ثناؤه على عبده في الملإ الأعلى كما حكاه
البخاري عن أبي العالية وأمرنا الله أن نصلي عليه – - صلى الله عليه وسلم -
ليجتمع له ثناء أهل السماء والأرض.
(وعلى آل محمد) تقدم أنهم أهل بيته أو أتباعه. وفي لفظ: "اللهم صل على محمد
وأزواجه وذريته" وقيل هم القرابة من غير تخصيص وإليه ذهب جماعة من أهل
العلم. ولا شك
(1/234)
أنهم أحق من غيرهم، وتجوز الصلاة على غير
النبي – - صلى الله عليه وسلم - منفردًا إذا لم يكثر ولم يتخذ شعارًا (كما
صليت على آل إبراهيم) إسماعيل وإسحاق وأولادهما، وروي "على إبراهيم وآل
إبراهيم". واستشكل التشبيه هنا بعض أهل العلم وذكروا فيه أقوالاً ولعل
المراد بالتشبيه في الصلاة لا في القدر.
وقال ابن القيم شرعت الصلاة على آل محمد – - صلى الله عليه وسلم - مع
الصلاة عليه تكميلاً لقرة عينه بإكرام آله والصلاة عليهم, وأن يصلي عليه
وعلى آله كما صلي على أبيه إبراهيم وآله والأنبياء كلهم بعد إبراهيم من
آله. ولذلك كان المطلوب لرسول الله – - صلى الله عليه وسلم - صلاة مثل
الصلاة على إبراهيم وعلى جميع الأنبياء من بعده وآله المؤمنين فلهذا كانت
هذه الصلاة أكمل ما صلي عليه بها وأفضل، فحصل له أعظم مما حصل لإبراهيم
وغيره، وإذا كان المطلوب بالدعاء إنما هو مثل المشبه به وله نصيب وافر من
المشبه ظهر به فضله على كل الأنبياء بما هو اللائق به, وإبراهيم هو الخليل
عليه السلام ابن آزر ولد قبل المسيح بألفي عام ومعناه أب رحيم.
(إنك حميد) أي محمود على كل حال مستحق لجميع المحامد (مجيد) أي ماجد
والماجد هو المتصف بالمجد وهو كمال الشرف والكرم والصفات المحمودة.
قال ابن عبد البر وغيره الصلاة على رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -
رويت من طرق متواترة بألفاظ متقاربة اهـ. وأوجبه طائفة من أهل العلم من
الصحابة
(1/235)
والتابعين والفقهاء وهو مذهب الشافعي في
التشهد الذي يعقبه السلام للآية والأخبار، وعند أحمد وجماعة أنه ركن.
وعن فضالة سمع رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يدعو في صلاته ولم
يحمد الله ولم يصل على النبي – - صلى الله عليه وسلم - فقال عجل هذا ثم
دعاه فقال: "إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه والثناء عليه ثم يصلي على
النبي – - صلى الله عليه وسلم - ثم يدعو بما شاء" صححه الترمذي فالدعاء
بعده مشروع إجماعًا (وبارك على محمد) البركة الثبوت والدوام أي أثبت له
وأدم ما أعطيته من الشرف والكرامة (وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم)
وروي إبراهيم وآل إبراهيم في العالمين (إنك حميد مجيد) محمود على كل حال
متصف بالمجد وهو كمال الشرف.
(وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا تشهد
أحدكم) ولمسلم "إذا فرغ أحدكم من التشهد الأخير" (فليستعذ بالله من أربع)
وأجمعوا على سنيته وقيل بوجوبه والتعوذ بالإلتجاء والاعتصام، وفي الصحيحين
عن عائشة كان يدعو في صلاته (يقول اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم) لفظة
أعجمية وقيل عربية سميت بها لبعد قعرها من الجهومة وهي الغلظ وقدمه لأنه
أشد وأبقى وتواترت الأحاديث بالإستعاذة منها، والعذاب في الأصل الضرب
والنكال والعقوبة ثم استعمل في كل عقوبة مؤلمة.
(1/236)
(وأعوذ بك من عذاب القبر) وتواترت أيضًا
بالاستعاذة من عذاب القبر، والإيمان به وبنعيمه من أصول أهل السنة
والجماعة. قال الشيخ ويقع على الأبدان والأرواح إجماعًا وقد ينفرد أحدهما
(ومن فتنة المحيا والممات) الحياة والموت ففي الحياة ما يعرض للإنسان من
الابتلاء والافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات ونحو ذلك، والممات عند
الموت أضيف إليه لقربه منه أو فتنة القبر وما بعده وقد تواترت الأحاديث
بالاستعاذة منه. وفي حديث الكسوف "إنكم تفتنون في قبوركم" ومنه سؤال
الملكين ولا يكون تكرارًا لعذاب القبر لأن عذاب القبر متفرع على ذلك.
(ومن فتنة المسيح الدجال) بالحاء المهملة على المعروف وقيل بالخاء قال أبو
الهيثم وغيره المسيح بالمهملة ضد المسيخ بالمعجمة عيسى مسحه الله إذ خلقه
خلقًا حسنًا ومسخ الدجال إذ خلقه خلقًا ملعونًا اهـ. سمي بذلك لمسحه الارض
ذهابه فيها أو لأنه ممسوح العين اليمنى أعورها. قال عليه الصلاة والسلام
(إنه أعور) وسمي دجالاً لخدعه أو لكذبه أو لتمويهه على الناس وتلبيسه من
الدجل وهو التغطية (متفق عليه).
وهذه الأربع هي مجامع الشر كله فإن الشر إما عذاب الآخرة وإما سببه.
والعذاب نوعان عذاب في البرزخ وعذاب في الآخرة وأسبابه الفتنة وهي نوعان.
كبرى وصغرى.
فالكبرى فتنة الدجال وفتنة الممات. والصغرى فتنة الحياة التي
(1/237)
يمكن تداركها بالتوبة بخلاف فتنة الممات
وفتنة الدجال فإن المفتون فيهما لا يتداركهما فأمرنا الله بالتعوذ منها.
وفي حديث عائشة " اللهم إني أعوذ بك من المغرب والمأثم" وتقدم أمره – - صلى
الله عليه وسلم - بالدعاء بما أحب وبما شاء. وقال الشيخ الدعاء في آخرها
قبل الخروج مشروع مسنون بالسنة المستفيضة وإجماع المسلمين اهـ.
وقد كان غالب دعائه - صلى الله عليه وسلم - بعد التشهد قبل السلام. وعامة
الأدعية المتعلقة بالصلاة إنما فعلها فيها وأمر بها فيها، وهو اللائق بحالة
المصلي فإنه مقبل على ربه يناجيه ما دام في الصلاة فلا ينبغي للعبد أن يترك
سؤال مولاه في حال مناجاته والقرب منه والإقبال عليه. وآكده عند خروجه من
هذه العبادة على هذه الهيئة إذ كان منطرحًا فيها بين يدي ربه، وقد شرع له
أمام استعطافه كلمات التحيات مقدمة بين يدي سؤاله فكأنه توسل إلى الله
بعبوديته وبالثناء عليه والشهادة بالوحدانية ولرسوله – - صلى الله عليه
وسلم - بالرسالة ثم الصلاة على رسوله، ثم قيل له تخير من الدعاء أحبه إليك
فهذا الحق الذي عليك وهذا الحق الذي لك.
وفي الصحيحين عن أبي بكر الصديق –رضي الله عنه- أنه قال لرسول الله – - صلى
الله عليه وسلم - علمني دعاء أدعو به في صلاتي قال قل: "اللهم إني ظلمت
نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني
إنك أنت الغفور الرحيم"
وقال علي كان آخر ما يقول بين التشهد والسلام "اللهم اغفر لي ما قدمت وما
أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أنت أعلم به
(1/238)
مني أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا
أنت" ومنه قوله: "اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجله وأوله وآخره وعلانيته
وسره" وغيره ذلك مما ورد.
(وعن ابن مسعود أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - كان يسلم عن يمينه
وعن يساره) يقول ملتفتًا عن يمينه: (السلام عليكم ورحمة الله) ويقول
ملتفتًا عن يساره (السلام عليكم ورحمة الله) حتى يرى بياض خده (رواه
الخمسة) وغيرهم (وصححه الترمذي) وقال العمل عليه عند أكثر أهل العلم من
الصحابة والتابعين ومن بعدهم وأصله في مسلم وله من حديث عامر بن سعد عن
أبيه قال: كنت أرى النبي – - صلى الله عليه وسلم - يسلم عن يمينه وعن يساره
حتى يرى بياض خده" قال أحمد ثبت عندنا من غير وجه أنه - صلى الله عليه وسلم
- كان يسلم عن يمينه وعن يساره حتى يرى بياض خده قال العقيلي والأسانيد
صحاح ثابتة في حديث ابن مسعود ولا يصح في تسليمه واحدة شيء. وقال البزار
روي عن ابن مسعود من غير وجه.
وفي الباب أحاديث كثيرة وأجمع العلماء على مشروعيتهما وهو فعله الراتب – -
صلى الله عليه وسلم - وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" وقال ابن القيم ثبتت
بها السنة الصحيحة المحكمة عن خمسة عشر صحابيًا ما بين صحيح وحسن عن النبي
– - صلى الله عليه وسلم - وقال البغوي التسليمة الثانية زيادة من ثقات يجب
قبولها والواحدة غير ثابتة عند أهل النقل فيسلم وهو جالس ندبًا إجماعًا
يبتدئ السلام
(1/239)
متوجهًا إلى القبلة وينهيه مع تمام التفاته
وهو سنة فيهما.
(ولهم) أي للخمسة (إلا النسائي عن علي مرفوعًا تحريمها) أي تحريم الصلاة
(التكبير) لا تحريم لها غيره وتقدم (وتحليلها التسليم) أي تحليل ما كان
حرامًا فيها حاصل بالتسليم جعل تحليلاً لها يخرج به المصلي كما يخرج بتحليل
الحج منه، وليس لها تحليل سواه ولا يخرج من الصلاة بدونه. وهو منها وأحد
أركانها.
قال النووي وغيره جمهور العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم أنه واجب.
وقالوا أيضًا إن السلام للتحليل من الصلاة ركن من أركانها وفرض من فروضها
لا تصح إلا به هذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير السلف والخلف
والأحاديث الصحيحة المشهورة مصرحة بذلك. قال في محاسن الشريعة فيه معنى
لطيف كأن المصلي مشغول عن الناس ثم أقبل عليهم كغائب حضر. اهـ.
والحكمة أنه ما دام في صلاته فهو في حمى مولاه فإذا انصرف ابتدرته الآفات
فإذا انصرف مصحوبًا بالسلام الذي جعل تحليلاً لها لم يزل عليه حافظ من الله
إلى وقت الأخرى وجعل هذا التحليل دعاء الإمام لمن وراءه بالسلامة التي هي
أصل كل خير وأساسه. وشرع لمن وراءه أن يتحلل بمثل ما تحلل به وذلك دعاء له
وللمصلين معه. ثم شرع لكل مصلي
(1/240)
وإن كان منفردًا لتوقف الخروج إلا به
ولقوله: "إنما يكفي أحدكم أن يسلم على أخيه عن يمينه وعن شماله السلام
عليكم ورحمة الله فإذا قلت ذلك فقد قضيت صلاتك".
فينوي به الخروج من الصلاة والسلام على الحفظة وعلى الحاضرين. وينبغي له
حذف السلام وأن يقف على آخر كل تسلميه لحديث أبي هريرة صححه الترمذي وعليه
أهل العلم وقال النخعي التكبير جزم والسلام جزم فيسكن الهاء من لفظ
الجلالة.
فصل في الذكر بعدها
أي في الدعاء والذكر المشروع بعد الصلاة وقد أجمع العلماء على استحبابه
بعدها.
(عن ثوبان) مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صحابي مشهور اشتراه ثم
أعتقه فخدمه إلى أن مات. يقال أنه من حكمي بن سعد بن حمير مات بالرملة سنة
أربع وخمسين (قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف من
صلاته) أي سلم منها (استغفر ثلاثًا) بلفظ استغفر الله. وقيل للأوزاعي كيف
الاستغفار قال
تقول استغفر الله، استغفر الله وهو إشارة إلى أن العبد لا يقوم بحق عبادة
مولاه لما يعرض له من الوساوس والخواطر
فشرع له الاستغفار ثلاثًا يبدأ به قبل كل شيء بعد السلام حال
(1/241)
قعوده تداركًا لذلك. وشرع له أن يضيف ربه
بالسلام ويعظمه ويمجده.
(وقال) يعني رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - عقب الاستغفار ثلاثًا
(اللهم أنت السلام ومنك السلام) الأول من أسماء الله تعالى والثاني نطلب
السلامة من شرور الدنيا والآخرة (تباركت) بلغت في البركة نهايتها (يا ذا
الجلال والإكرام العظمة والكبرياء والغنى المطلق والفضل التام (رواه مسلم
والخمسة وغيرهم وهذا من عظائم صفاته تعالى، ولذا قال – - صلى الله عليه
وسلم - "ألظوا" أي إلزموا وثابروا "بياذا الجلال والإكرام" ومر – - صلى
الله عليه وسلم - برجل يصلي وهو يقول يا ذا الجلال والإكرام فقال قد استجيب
لك.
(وعن عبد الله بن الزبير أنه كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة –حين يسلم- لا
إله إلا الله وحده لا شريك له) في ألوهيته ولا ند له في ذاته ولا في صفاته
ولا في أفعاله (له الملك) ظاهرًا وباطنًا (وله الحمد) في الأولى والآخرة
(وهو على كل شيء قدير لا حول ولا قوة إلا بالله لا إله إلا الله ولا نعبد
إلا إياه له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن) على ذاته وصفاته وأفعاله
(لا إله إلا الله مخلصين له الدين) أي مخلصين العبادة لله وحده لا شريك له
والدين اسم لجميع ما يتعبد به (ولو كره الكافرون) جميعهم إخلاصنا الدين
لله.
(قال) يعني عبد الله الزبير (وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(1/242)
يهل بهن) أي يرفع بهن صوته وفي لفظ كان
يقول بصوته الأعلى (دبر كل صلاة رواه مسلم) ودبر كل شيء آخره وعقبه. ويوضحه
قوله حين يسلم فينبغي أن يلي السلام بعد الاستغفار. وفيه دلالة على
مشروعيته والجهر به ففي الصحيح أن رفع الناس أصواتهم بالذكر حين ينصرف
الناس من المكتوبة كان على عهد رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -.
ولهما عن المغيرة بن شعبة أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في
دبر كل صلاة مكتوبة لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد
وهو على كل شيء قدير. اللهم لا مانع لما أعطيت. ولا معطي لما منعت. ولا
ينفع ذا الجد منك الجد" وقال لمعاذ "لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول اللهم
أعني على ذكرك وشركك وحسن عبادتك" رواه أبو داود وغيره بسند جيد وهذه
الكلمات عامة لخير الدنيا والآخرة.
(وله عن أبي هريرة قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - من سبح
الله) أي قال سبحان الله (دبر كل صلاة) أي عقب كل فريضة (ثلاثًا وثلاثين
وحمد الله) أي قال الحمد لله (ثلاثًا
وثلاثين) مرة (وكبر الله) أي قال والله أكبر (ثلاثًا وثلاثين) مرة فتلك تسع
وتسعون" ولهما عنه "تسبحون وتحمدون وتكبرون ثلاثًا وثلاثين فتلك تسع
وتسعون" (وقال تمام المائة لا إله
إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على
كل شيء قدير غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد
(1/243)
البحر) وهو ما يعلوا عليه عند اضطرابه.
وسببه أن فقراء المهاجرين قالوا يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات
العلي والنعيم المقيم. فقال وما ذاك قالوا يصلون كما نصلي، ويصومون كما
نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق. ويعتقدون ولا نعتق فقال ألا أعلمكم شيئًا تدركون
به من سبقكم وتسبقون به من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما
صنعتم قالوا بلى قال تسبحون" الحديث.
وورد بألفاظ. قال الشيخ وغيره لعله من تصرف الرواة وهذا أجمعها. ويستحب أن
يعقده. والاستغفار بالأنامل لحديث بسرة وغيره.
(وعن أبي ذر مرفوعًا من قال بعد صلاة الصبح) وفي لفظ "في دبر صلاة الفجر
وهو ثان رجليه قبل أن يتكلم" (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك
وله الحمد يحي ويميت) زاد الطبراني "وهو حي لا يموت بيده الخير" (وهو على
كل شيء قدير عشر مرات كتب له كذا وكذا) أي كتب له عشر حسنات. ومحي عنه عشر
سيئات، ورفع له عشر درجات، وكان يومه ذلك في حرز من كل مكروه وحرز من
الشيطان ولم ينبغ لذنب أن يدركه في ذلك اليوم إلا الشرك بالله رواه الخمسة
وصححه الترمذي.
(زاد أحمد عن معاذ والمغرب) أي قال ذلك بعد صلاة
(1/244)
المغرب والصبح وللترمذي والنسائي من حديث
عمارة بن شبيب نحوه، وقال على أثر المغرب؛ ولأحمد وغيره نحوه من حديث أم
سلمة ولا خلاف في استحبابه وأخرجه الرافعي بلفظ "إذا صليتم صلاة الفرض
فقولوا عقب كل صلاة عشر مرات" الحديث.
والمراد بعد قول ما تقدم في حديث ابن الزبير وروى أحمد وأبو داود والنسائي
وابن ماجه وغيرهم من حديث الحارث اللهم أجرني من النار سبع مرات ويسبح بعد
ذلك.
ولأحمد وغيره عن أبي أمامة وغيره يقرأ سرًا بعد كل صلاة آية الكرسي وصححه
في المختارة. وقال ابن القيم له طرق تدل على أن له أصلاً ويقرأ سورة
الإخلاص والمعوذتين لحديث عقبة رواه أهل السنن. وعن سعد بن أبي وقاص أنه
كان يعلم بنيه هؤلاء الكلمات كما يعلم الغلمان الكتابة ويقول إن رسول الله
– - صلى الله عليه وسلم - كان يتعوذ بهن دبر الصلاة. "اللهم إني أعوذ بك من
البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أرد إلى أرذل العمل، وأعوذ بك من
فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر" رواه البخاري وللترمذي وصححه من حديث
علي كان إذا سلم من الصلاة قال اللهم اغفر لي ما قدمت وتقدم. ولمسلم من
حديث البراء كان يقول بعد الصلاة رب قني عذابك يوم تبعث عبادك، ووردت أذكار
غير ما تقدم.
ويستحب للعبد إذا فرغ من صلاته واستغفر الله وذكره وهلله وسبحه وحمده وكبره
بالأذكار المشروعة عقب الصلاة مما
(1/245)
تقدم وغيره أن يصلي على النبي – - صلى الله
عليه وسلم - ويدعو بما شاء فإن الدعاء عقب هذه العبادة مستجاب، وللترمذي
وصححه من حديث فضالة "إذا صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه والصلاة
على النبي – - صلى الله عليه وسلم - ثم ليدع بما شاء" وقالت عائشة الذكر
بعدها مثل مسح المرآة بعد صقالها فقمن أن يستجاب للداعي حينئذ. وأما دعاء
الإمام مستقبل القبلة مستدبر المأمومين، فقال الشيخ وغيره بدعة، وقال لم
ينقل أنه يدعو هو والمأمومون جميعًا بعد الخروج من الصلاة ولا استحب ذلك
أحد من الأئمة.
فصل فيما يكره فيها
أي فيما يكره في الصلاة ويستحب ويباح وما يتعلق بذلك.
قال تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُون} لما أخبر تعالى أنه
قد أفلح المؤمنون أثنى عليهم بهذه الصفات الجليلة التي أهمها كونهم في
صلاتهم خاشعين خاضعين متذللين متضرعين. والخشوع الإخبات والتطامن والذل وهو
قريب من الخضوع إلا أن الخضوع في البدن، والخشوع في القلب والبصر والصوت،
وأصل ذلك وأساسه حضور القلب بين يدي الرب.
والثواب مشروط بحضوره وحضوره فراغه عن غير ما هو ملابس له، وهو هنا العلم
بالفعل والقول الصادرين عن
المصلى، وقال ابن القيم: الخشوع قيام العبد بين يدي الرب
(1/246)
بالخضوع والذل والجمعية عليه.
وفي الأثر إذا صلى تخشع وتضرع وتمسكن وإلا فهي خداج، وفيه أول ما يرفع من
هذه الأمة الخشوع، ومن فاته الخشوع لم يكن من أهل الفلاح.
(وعن عائشة قالت سألت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - عن الالتفات في
الصلاة فقال هو اختلاس) أي اختطاف بسرعة على غفلة (يختلسه الشيطان من صلاة
العبد رواه البخاري) سماه اختلاسًا تصويرًا لقبح تلك الغفلة بالمختلس لأن
المصلي يقبل على ربه ويترصد الشيطان فوات ذلك عليه فإذا التفت اغتنم الفرصة
فسلبه تلك الحال وللترمذي وغيره وصححه عن أنس مرفوعًا "إياك والالتفات في
الصلاة فإنه هلكة".
ولأحمد وغيره من حديث أبي ذر "لا يزال الله مقبلاً على العبد ما لم يلتفت"
أي ما لم يزل مقبلاً على صلاته بقلبه ووجهه فجمع أنواع الخضوع والخشوع لأن
الخضوع في الأعضاء والخشوع في القلب فإذا صرف وجهه انصرف عنه والحكمة في
التحذير منه لما فيه من نقص الخشوع والإعراض عن الله.
ودلت هذه الأحاديث على كراهة الالتفات في الصلاة لغير حاجة وهو إجماع. وقال
ابن عبد البر جمهور الفقهاء على أن الالتفات لا يفسد الصلاة إذا كان يسيرًا
ولا يكره لحاجة لفعله عليه الصلاة والسلام لما بعث طليعة إلى الشعب ولم يكن
من
(1/247)
فعله الراتب وقال ابن شهاب، فلما نزلت
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُون الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُون}
جعل نظره إلى الأرض، وإن استدار بجملته أو استدبر القبلة في غير شدة خوف
بطلت لتركه الاستقبال بلا عذر قال في الإنصاف بلا نزاع.
(ولمسلم عن جابر قال: قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - لينتهين) أي
ليتركن (أقوام) جمع قوم الجماعة من الرجال (يرفعون أبصارهم إلى السماء في
الصلاة) أي إلى ما فوقهم مطلقًا (أولا ترجع إليهم) أي أو لتسلبن بسرعة وله
عن أبي هريرة نحوه وللبخاري من حديث أنس "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى
السماء في صلاتهم فاشتد قوله في ذلك حتى قال لينتهين أو لتخطفن أبصارهم"
وفي هذه الأحاديث الوعيد الشديد في ذلك والنهي الأكيد المفيد تحريمه، وقال
ابن حزم تبطل به الصلاة، واتفقوا على كراهته.
ويكره تغميض عينيه لأنه فعل اليهود ومظنة النعاس لا إن احتاج إليه. قال ابن
القيم ولم يكن من هديه – - صلى الله عليه وسلم - تغميض عينيه والصواب أن
يقال إن كان تفتيحها لا يخل بالخشوع فهو أفضل وإن كان يحول بينه وبين
الخشوع لما في قبلته من الزخرفة والتزويق أو غيره مما يشوش عليه قلبه فهناك
لا يكره التغميض قطعًا. والقول باستحبابه في هذه الحال أقرب إلى أصول الشرع
ومقاصده من القول بالكراهة.
(1/248)
(وفي السنن نهى عن الإقعاء) وهو أن يفرش
قدميه ويجلس على عقبيه. وعند العرب الإقعاء جلوس الرجل على إليتيه ناصبًا
قدميه مثل إقعاء الكلب. ولفظ ابن ماجه وغيره من حديث أنس "إذا رفعت رأسك من
السجود فلا تقع كما يقعي الكلب" وعن علي مرفوعًا "لا تقع بين السجدتين "
وللبيهقي وغيره "نهى عن الإقعاء في الصلاة" ولأحمد "واقعاء كاقعاء الكلب"
فيكره اتفاقًا لهذه الأخبار وغيرها ولأنه يتضمن ترك الاقتراش المسنون
بالقول والفعل، ولا تبطل به الصلاة.
وأما ما رواه مسلم وغيره عن ابن عباس الاقعاء على القدمين هو السنة فقال
البيهقي وغيره هو أن يضع أطراف أصابع رجليه على الأرض ويضع إليتيه على
عقبيه ويضع ركبتيه على الأرض يعني بين السجدتين وهذا غير ما تقدم مما نهي
عنه.
وقال الموفق وغيره لا أعلم أحدًا قال باستحبابه على تلك الصفة وتقدم النهي
عن افتراشه ذراعيه ساجدًا.
وفي الصحيحين عن أنس "اعتدلوا في السجود ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط
الكلب" وذلك بأن يمدهما على الأرض ملصقًا لهما بها، ويكره أن يعتمد على يده
أو غيرها وهو جالس لما رواه أحمد وأبو داود وغيرهما من حديث ابن عمر "نهى
أن يجلس الرجل في الصلاة وهو معتمد على يده" وكذا يكره أن يستند إلى جدار
ونحوه من غير حاجة اتفاقًا.
(1/249)
(وفي الصحيحين) من حديث أبي هريرة (نهي)
يعني رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (أن يصلي الرجل مختصرًا) أي أن
يضع الرجل يده في الصلاة على خاصرته والخاصرة ما بين الحرقفة والقصيري أو
ما فوق الطفطفة والشراسيف جمعها خواصر.
والخصر الوسط وهو المستدق فوق الوركين والجمع خصور، والخصر والخاصرة
مترادفان. قال هشام يضع يده على خصره وهو يصلي وعلل أنه فعل الكفار أو
المتكبرين. وصح أنه راحة أهل النار فلا يليق في الصلاة ولأنه فعل اليهود،
وقيل أنه فعل الشيطان، فنهي عنه كراهة للتشبه باليهود أو الشيطان، ومذهب
أهل الظاهر أنه محرم والجمهور أنه مكروه.
(ولأحمد النهي عن التشبيك) يعني تشبيك الأصابع وهو إدخال بعضها في بعض في
الصلاة ولفظه عن أبي سعيد أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان
أحدكم في المسجد فلا يشبكن فإن التشبيك من الشيطان" لما فيه من العبث أو
لما فيه من التشبه بالشيطان "وإن أحدكم لا يزال في صلاة ما دام في المسجد
حتى يخرج منه" قال في مجمع الزوائد إسناده حسن، وعن كعب بن عجرة مرفوعًا
"إذا توضأ أحدكم ثم خرج عامدًا إلى الصلاة فلا يشبكن بين يديه فإنه في
صلاة" رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه وغيرهما.
واتفق الفقهاء على كراهته فيها، وما في قصة ذي اليدين وشبك بين أصابعه،
وحديث أبي موسى "المؤمن للمؤمن
(1/250)
كالبنيان وشبك بين أصابعه" فقيل في السهو
لاشتباه الحال عليه.
وفي حديث أبي موسي لقصد التشبيه وما تقدم محمول علي التشبيك للعبث وهو منهي
عنه في الصلاة. وللترمذي وغيره "أنه رأى رجلاً يعبث في صلاته بلحيته فقال
لو خشع قلب هذا لخشعت "ولابن ماجه" رأى رجلاً قد شبك أصابعه في الصلاة ففرج
بين أصابعه " لما في ذلك من إذهاب الخشوع.
(ولابن ماجه والقعقعة) أي فرقعة الأصابع في الصلاة وغمز مفاصلها حتى تصوت.
ولفظه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تقعقع أصابعك في الصلاة "
وهو فعل معروف في أصابع اليدين وقد يفعل في أصابع الرجلين لأنه من العبث
المنهي عنه وهو مكروه اتفاقا ً وقيل حكمه النهي عنه أنه يجلب النوم. وكذا
يكره فتح فمه ووضعه فيه شيئاًِ وتمطيه ونحو ذلك مما يذهب الخشوع." وإذا
تثاءب أحدكم في الصلاة فليكظم ما استطاع "وإن غلبه غطى فمه لقوله "وليمسك
بيده على فيه " رواه مسلم.
(وعن أبي ذر مرفوعاً إذا قام أحدكم في الصلاة) أي دخل فيها (فلا يمسح
الحصى) وفي لفظ التراب أي من محل السجود أو من جبهته "فإن الرحمة تواجهه"
رواه الخمسة وحسنه الترمذي وفي الصحيحين من حديث معيقيب قال في الرجل يسوي
التراب حيث يسجد " إن كنت فاعلاً فواحدة"
(1/251)
ولأحمد عن أبي ذر سألت النبي - صلى الله
عليه وسلم - عن كل شيء حتى سألته عن مسح الحصى فقال " واحدة أودع أو أترك
المسح " ولابن ماجه " من الجفا أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل الفراغ من
صلاته" وللبزار نحوه. وهذه الأحاديث دلت على كراهة مسح الحصى في الصلاة وهو
مذهب جمهور العلماء
وحكاه النووي اتفاقاً. وروى عن مالك وغيره جوازه ورخص فيه ابن عمر وغيره
مرة واحدة وفي الحديثين الإذن فيها عند الحاجة لئلا يصيبه ما يؤذيه أو يشغل
باله من تراب أو حصى أو قذى أو غير ذلك. أو الحكمة أن لا يفوته حظه من
الرحمة فلا يغير ما يسجد عليه. ولا علي ما يعلق بجبهته ولأنه ينافي الخشوع
والتواضع ويشغل المصلي. والأولى أن يسوي موضع سجوده قبل الدخول في الصلاة
والتقييد بالحصى أو التراب للغالب ولا يدل علي نفيه عما عداه.
(وعن عائشة في قصة خميصة) وهي كساء مربع (لها أعلام) خطوط واحدها علم
أهداها له أبو جهم ولفظه عنها أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - "صلى في
خميصة لها أعلام فنظر إلى أعلامها نظرة فلما انصرف (قال اذهبوا بها) ولفظه
بخميصتي هذه إلى أبي جهم وائتوني بانبجانية أبي جهم" وهي كساء غليظ لا علم
فيه (فإنها) أي الخميصة ذات الأعلام (ألهتني) آنفًا (عن
صلاتي" متفق عليه) وفي رواية "كنت أنظر إلى علمها وأنا
في الصلاة فأخاف أن يفتنني" قال ابن بطال إنما طلب منه ثوبًا
(1/252)
غيرها ليعلمه أنه لم يرد عليه هديته
استخفافًا به.
وعن أنس قال كان قرام وهو ستر من صوف ذو ألوان لعائشة سترت به جانب بيتها
فقال لها النبي – - صلى الله عليه وسلم - "أميطي عنا قرامك هذا فإنه لا
تزال تصاويره تعرض لي في صلاتي" رواه البخاري ففيهما دلالة على كراهة ما
يشغل عن الصلاة من النقوش ونحوها مما يذهل القلب ويذهب الخشوع الذي هو لب
الصلاة وروحها وهذا إجماع وفيه مبادرته - صلى الله عليه وسلم - إلى صيانة
الصلاة عما يلهي المصلي وإزالة ما يشغله عن الإقبال عليها. وقال الطيبي فيه
إيذان بأن للصور والأشياء الظاهرة تأثيرًا في القلوب الطاهرة والنفوس
الزكية فضلاً عما دونهما.
وفيه كراهة الصلاة على المفارش والسجاجيد المنقوشة وكراهة تزويق المساجد
ونقشها واستقبال كل ما يشغل المصلي.
وقال أحمد كانوا يكرهون أن يجعلوا في القبلة شيئًا حتى المصحف اهـ.
واتفق أهل العلم على كراهة استقبال ما يلهي المصلي من صورة أو نار أو وجه
آدمي ونحو ذلك. قال شيخ الإسلام المذهب الذي نص عليه الأصحاب وغيرهم كراهة
دخول الكنيسة المصورة، فالصلاة فيها وفي كل مكان فيه تصاوير أشد كراهة وهذا
هو الصواب الذي لا ريب فيه ولا شك.
وتقدم ذكر عدم الجواز ولأن محل الصور مظنة الشرك فإن غالب شرك الأمم كان من
جهة الصور والقبور، وكذا استقبال نار من
(1/253)
سراج أو قنديل أو شمعة أو نار حطب لأنه
يذهب الخشوع ولما فيه من التشبه بالمجوس في عبادتهم النيران. والصلاة إليها
تشبه الصلاة لها.
وحكى القاضي وغيره اتفاقهم على كراهة الصلاة إلى وجه آدمي. وعزر عمر من صلى
إلى وجه أدمي. وفي الصحيحين عن عائشة كان "يصلي حذاء وسط السرير وأنا
مضطجعة بينه وبين القبلة. وتكون لي الحاجة فأكره أن أقوم فاستقبله فانسل
انسلالاً" ولأبي داود "نهى عن الصلاة إلى المتحدث" فكل ما يشغله عن حضوره
فمكروه لخبر عائشة وغيره.
(ولمسلم عنها مرفوعًا) يعني إلى رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - أنه
قال (لا صلاة بحضرة طعام) أي تتوق نفسه إليه وكذا إذا كان تائقًا إلى شراب
أو جماع فيبدأ بما تاق إليه ولو فاتته الجماعة لا الوقت. وفي الصحيحين من
حديث أنس "إذا قدم العشاء فابدءوا به قبل أن تصلوا المغرب" وورد بإطلاق لفظ
الصلاة والحديث دال على الوجوب والجمهور حملوه على الندب واتفقوا على كراهة
ابتدائها وهو تائق إلى طعام ونحوه.
(ولا وهو يدافعه الأخبثان) أي ولا صلاة والمصلي يدافعه البول أو الغائط.
ويلحق بهما مدافعة الريح لأن ذلك مما يقلقه ويشغله عن حضور قلبه في الصلاة
وكذا حر وبرد شديد وجوع وعطش مفرط بغير خلاف ونحو ذلك ما يزعجه ويشغل باله.
قال شيخ
(1/254)
الإسلام وإذا كان على وضوء وهو حاقن يحدث
ثم يتيمم إذ الصلاة بالتيمم وهو غير حاقن أفضل من صلاته بالوضوء وهو حاقن،
وقال صلاته بالاحتقان مكروهة، وفي صحتها روايتان.
وصلاة المتيمم صحيحة لا كراهة فيها بالاتفاق. اهـ
فيبدأ بالخلاء ونحوه ليزيل ما يدافعه ولو فاتته الجماعة. وللحاكم والبيهقي
وغيرهما لا يصلي أحدكم وهو حاقن حتى يتخفف، وألحق بذلك ما في معناه مما
يمنع الخشوع الذي هو لب الصلاة، وفي الصحيح عن أبي الدرداء من فقه الرجل
إقباله على حاجته حتى يقبل على صلاته وقلبه فارغ وإن ضاق الوقت عن فعل جميع
الصلاة في الوقت وجبت في جميع الأحوال وحرم اشتغاله بغيرها لتعين الوقت
لها.
(وعن أبي هريرة أن رسول – - صلى الله عليه وسلم - "أمر بقتل الأسودين في
الصلاة الحية والعقرب) والحية تكون للذكر والأنثى.
والعقرب واحدة العقارب وتسميتها بالأسودين من باب التغليب كالقمرين
والعمرين ولا يسمى بالأسود في الأصل إلا الحية (رواه الخمسة وصححه الترمذي)
وابن حبان والحكم وله شواهد. فدل على جواز قتل الحية والعقرب في الصلاة من
غير كراهة وهو مذهب جمهور العلماء. وقال الخطابي رخص أهل العلم في قتل
الأسودين في الصلاة إلا النخعي والسنة أولى ما اتبع.
(1/255)
وقال أحمد يجوز أن يذهب إلى النعل فيأخذه
ويقتل به الحية والعقرب ثم يعود إلى مكانه. وفي الصحيحين "كان يصلي وهو
حامل أمامة فإذا سجد وضعها وإذا قام حملها" وصلى على المنبر وتكرر صعوده
ونزوله. وأمر برد المار وفتح الباب لعائشة فكذا سائر ما يحتاج إليه المصلي
من الأفعال.
وله دفع عدو من سيل وسبع وسقوط جدار ونحوه وكل صائل عليه من حيوان وغيره
فإن طال الفعل من غير ضرورة كحالة خوف وهرب من عدو وحكة لا يصبر عنها بطلت
إجماعًا ولو سهوًا. إذا كان من غير جنس الصلاة لأنه يقطع الموالاة ويمنع
متابعة الأركان ويذهب الخشوع فيها ويغلب على الظن أنه ليس فيها. وكل ذلك
مناف لها أشبه ما لو قطعها.
(وعن حذيفة قال صليت مع رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة)
فافتتح البقرة وآل عمران (فإذا مر) أي في قراءته (بآية تسبيح) أي فيها
تسبيح لله تعالى (سبح وإذا مر بسؤال سأل وإذا مر بتعوذ تعوذ رواه مسلم)
ولأبي داود عن عوف نحوه ولفظ حديث عائشة عند أحمد "فلا يمر بآية فيها تخويف
إلا دعا الله –عز وجل- واستعاذ ولا آية فيها استبشار إلا دعا الله عز وجل
ورغب إليه" وله من حديث أبي ليلى "فمر بذكر الجنة والنار فقال أعوذ بالله
من النار. ويل لأهل النار" وأما المأموم فمأمور بالإنصات والاستماع.
(1/256)
قال النووي وغيره فتستحب هذه الأمور لكل
قارئ في صلاة وغيرها وهو مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف.
قال أحمد إذا قرأ {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ
الْمَوْتَى} في الصلاة وغيرها قال سبحانك فبلى في فرض ونفل ورواه أبو داود
مرفوعًا إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال شيخ الإسلام ويقول في
الصلاة كل ذكر ودعاء وجد سببه في الصلاة. قال ويحمد الله إذا عطس في نفسه.
وله الفتح على إمامه للأمر به ورد السلام إشارة لأنه – - صلى الله عليه
وسلم - كان يفعله.
(وعن سهل) بن سعد بن مالك الساعدي الأنصاري من مشاهير الصحابة مات بالمدينة
سنة إحدى وتسعين وله مائة سنة –رضي الله عنه- (مرفوعًا إذا نابكم شيء) أي
نزل بكم أمر من الأمور (في صلاتكم) كأن يريد أحدكم تنبيه الإمام على أمر
سها عنه أو تنبيه المار أو من يريد منه أمرًا وهو لا يدري أنه يصلي فينبهه
على أنه يصلي قال: (فلتسبح الرجال) وفي رواية من نابه شيء من صلاته فليسبح
أي يقول الرجل سبحان الله وهو في البخاري بهذا اللفظ (ولتصفق النساء) يعني
بظهر كفها على بطن الأخرى، وفي لفظ "وإنما التصفيق للنساء" فهو إذن وإباحة
لهن في التصفيق في الصلاة عند نائبة تنوب
(متفق عليه) ولهما عن أبي هريرة "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء" زاد مسلم
"في الصلاة" وهو المراد من السياق
وذهب إلى هذا جمهور العلماء. وما روي عن مالك أن المشروع
(1/257)
في حق الجميع التسبيح. وعن أبي حنيفة من
فساد صلاتها إذا صفقت لا يلتفت إليه مع ثبات النص عن الشارع - صلى الله
عليه وسلم - وثبت عنهم وجوب الأخذ بالنص وأنه مذهبهم وقال النووي وغير واحد
هو السنة. وقال الحق انقسام التنبيه في الصلاة إلى ما هو واجب ومندوب ومباح
بحسب ما يقتضيه الحال.
(ولهما عن أنس مرفوعاً) يعني إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال
(إذا كان أحدكم في الصلاة) وفي لفظ " إذا قام أحدكم في صلاته " فريضة كانت
الصلاة أو نافلة (فإنه يناجي ربه) وفي رواية للبخاري " فإن ربه بينه وبين
القبلة " وهذا قرب خاص من عبده حال مناجاته كقوله " أقرب ما يكون العبد من
ربه وهو ساجد" وهو سبحانه علي في دنوه. قريب في علوه. واسع عليم بكل شيء.
وبكل شيء محيط "ما السموات السبع والارضون السبع في كف الرحمن إلا كخردلة
في يد أحدكم".
(فلا يبصقن بين يديه) البصاق من الفم ويقال بالسين والزاي وكلها من باب نصر
وأفصحهن بالصاد. وفي لفظ "قبل قبلته" وفي لفظ "قبل وجهه" قال الحافظ وغيره
هذا التعليل يدل على أن البصاق في القبلة حرام سواء كان في المسجد أولا ولا
سيما المصلي (ولا عن يمينه) وفي الصحيح "فإن عن
يمينة ملكًا" ولابن أبي شيبة "فإن عن يمينه كاتب الحسنات" وظاهر حديث أبي
هريرة وأبي سعيد كراهة ذلك داخل الصلاة
(1/258)
وخارجها وهو مقيد بالصلاة في هذا الحديث
الصحيح وغيره.
وقال مالك وغيره لا بأس به خارج الصلاة وكذا قيده جمهور الفقهاء بالصلاة.
وأرشد – - صلى الله عليه وسلم - إلى أي جهة يبصق فقال: (ولكن عن شماله تحت
قدمه) وفي لفظ "عن يساره أو تحت قدمه ثم أخذ طرف ردائه فبصق فيه ورد بعضه
على بعض فقال أو يفعل هكذا" وبصقه في ثوبه ونحوه لا نزاع فيه. ولو كان في
المسجد وأولى من كونه عن يساره لئلا يؤذي به. ولهما من حديث أبي هريرة "أو
تحت قدمه اليسرى" وفي رواية "فيدفنها" وخص المسجد بما يأتي.
(ولهما عنه) رضي الله عنه (مرفوعًا) أي إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال (البزاق في المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) وهو ظاهر في عدم جواز
البصاق في المسجد عن اليسار وغيرها قال النووي إذا بصق في المسجد فقد ارتكب
الحرام وعليه أن يدفنه. ومن رآه يبصق فيه لزمه الإنكار عليه ويدفنه إن قدر
ولما رأى عليه الصلاة والسلام بصاقًا في جدار المسجد وهو يخطب نزل فحكه
ودعا بزعفران ولطخه به.
وتظاهرت الأخبار بتنظيف المساجد وإزالة القذى عنها.
(وفي السنن أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال إذا صلى أحدكم) يعني
إمامًا كان أو منفردًا حضرًا أو سفرًا فرضًا كانت الصلاة أو نفلاً ولو لم
يخش مارًا (فليصل إلى سترة) ولمسلم عن عائشة
(1/259)
سئل عنها فقال "كمؤخرة الرحل" ولهما من
حديث ابن عمر "يأمر بالحربة فتوضع بين يديه" ولمسلم من حديث طلحة قال: "إذا
وضع أحدكم مثل مؤخرة الرحل فليصل ولا يبال من يمر وراء ذلك" وللحاكم من
حديث سبرة "استتروا في صلاتكم ولو بسهم" (وليدن منها) فرواه أبو داود وابن
ماجه من حديث أبي سعيد وأبو داود والنسائي من حديث سهل ولفظه "إذا صلى
أحدكم إلى سترة فليدن منها لا يقطع الشيطان صلاته".
وثبت أنه كان إذا صلى إلى جدار جعل بينه وبينه كممر شاة. وهذا الحديث وغيره
دليل على سنية اتخاذ السترة والدنو منها. وحكاه أبو حامد إجماعًا، وقال
الموفق وغيره لا نعلم فيه خلافًا، وقال البغوي استحب أهل العلم الدنو من
السترة بحيث يكون بينه وبينها قدر من إمكان السجود وكذلك بين الصفوف
والحكمة منع من يجتاز بقربه وأنه لا يقطع الشيطان عليه صلاته. وكف البصر
عما وراءها. وشغل القلب عما هو مطلوب من الحضور والخضوع والمراقبة. وليس
اتخاذ السترة بواجب لحديث ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام "صلى في قضاء
ليس بين يديه شيء" رواه أحمد وأبو داود وله شواهد.
(ولأبي داود عن أبي هريرة مرفوعًا) يعني إلى النبي – - صلى الله عليه وسلم
- أنه قال: (إذا صلى أحدكم فليجعل تلقاء وجهه شيئًا) من
أي شيء كان جدارًا أو حربة أو غير ذلك يستره من المار بين
(1/260)
يديه (فإن لم يجد فلينصب عصا) أي يرفعها
وفيه عدم الفرق بين الدقيقة والغليظة كما في قوله ولو بسهم. ويستحب انحرافه
عن الشيء الشاخص لفعله – - صلى الله عليه وسلم - رواه أحمد وغيره وسدًا
لذريعة التشبه بالسجود لغير الله.
(فإن لم يكن) معه عصا ولفظ أحمد وابن ماجه "فإن لم يجد عصا (فليخط خطًا)
قال أحمد وغيره كالهلال وكيفما خط أجزأه (ثم لا يضره من مر بين يديه) أي لا
ينقص من صلاته لفظ أحمد ولفظ أبي داود "ثم لا يضره من مر أمامه" (صححه
أحمد) وابن المديني وابن حبان وقال الحافظ لم يصب من زعم أنه مضطرب بل هو
حسن. وأشار الشافعي إلى ضعفه. وقال البيهقي لا بأس به في مثل هذا. وقال
النووي وإن لم يثبت ففيه تحصيل حريم للمصلي. وقد اتفق العلماء على جواز
العمل بالحديث الضعيف في فضائل الأعمال. وهذا منها.
وقوله ثم لا يضره من مر بين يديه يدل على أنه يضره إذا لم يفعل إما بنقصان
صلاته أو بطلانها وهذا إذا كان إمامًا أو منفردًا. أما المأموم فسترة
الإمام سترة له لأنه – - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي إلى سترة دون
أصحابه واتفقوا على أنهم مصلون إلى سترة فلا يضرهم مرور شيء بين أيديهم.
وفي الصحيحين عن ابن عباس "أقبلت على حمار أتان ورسول الله – - صلى الله
عليه وسلم - يصلي بالناس فمررت بين يدي بعض الصف فلم ينكر ذلك على أحد" قال
(1/261)
ابن عبد البر لا خلاف بين العلماء أن
المأمون لا يضره من مر بين يديه.
(وعن أبي ذر قال: قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يقطع صلاة المرء
المسلم) أي يبطلها أو ينقص ثوابها (إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل"
الخشبة التي يستند إليها الراكب والمراد رحل البعير والرحل أصغر من القتب
وفي لفظ آخرة وهو أفصح.
والمراد المثل وإلا فيجزئ السهم كما مر وفاعل يقطع (المرأة والحمار والكلب
الأسود) أي يقطع الصلاة مرور أحدها بين يدي المصلي إن لم يكن سترة أو
مرورها بينه وبين سترته "قلت ما بال الأسود فقال الأسود شيطان" أي في
الكلاب فإن الشيطان كل شيء ما رده (رواه مسلم) والخمسة وغيرهم وفي لفظ
"ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل".
واختلف أهل العلم في العمل بهذا الحديث لقوله "لا يقطع الصلاة شيء" ونحوه
فذهب مالك والشافعي وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف أنه لا
يبطل الصلاة مرور شيء. ولم يأمر أحدًا بإعادة صلاته من أجل ذلك وتأولوا أن
المراد نقص الصلاة بشغل القلب بهذه الأشياء. قالوا وصح عن عمر لا يقطع
الصلاة شيء مما يمر بين يدي المصلي وأوردوا أحاديث وكلها ضعيفة.
قال ابن القيم وقد صح عنه – - صلى الله عليه وسلم - أنه يقطع الصلاة.
المرأة
(1/262)
والحمار والكلب الأسود. ثبت ذلك عنه من
رواية أبي ذر وأبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن مغفل ومعارض هذه الأحاديث
قسمان صحيح غير صريح وصريح غير صحيح فلا يترك لمعارض هذا شأنه وقال الشيخ
مذهب أحمد وجماعة من الصحابة يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأولد
البهيم. قال: والصواب أن مرور المرأة والكلب الأسود والحمار بين يدي المصلي
دون سترة يقطع الصلاة واختاره الموفق وغيره.
(ولهما عن أبي سعيد مرفوعًا "إذا صلى أحدكم إلى شيء بستره من الناس) جدارًا
كان أو بعيرًا أو حربة أو عصا أو خطًا أو غير ذلك مما تقدم ونحوه (فأراد
أحد أن يجتاز) أي يمضي (بين يديه فليدفعه) ولمسلم "إذا كان أحدكم يصلي فلا
يدعن أحدًا يمر بين يديه وليدرأ ما استطاع" (فإن أبي) أي عن الاندفاع
(فليقاتله) ولهما فليدفع في نحره. قال القرطبي يدفعه بالإشارة ولطيف المنع
فإن لم يمتنع عن الاندفاع قاتله أي دفعه دفعًا أشد من الأول.
وأجمعوا على أنه لا يلزمه أن يقاتله بالسلاح لمخالفة ذلك قاعدة الصلاة من
الإقبال عليها والاشتغال بها والخشوع فيها.
وحكى القاضي عياض وغيره الإجماع على أنه لا يجوز له المشي من مكانه كثيرًا
ليدفعه ولا العمل الكثير في مدافعته لأن ذلك أشد في الصلاة من المرور. وعن
أحمد وغيره للمصلي أن يجتهد
(1/263)
في رده ما لم يخرج بذلك إلى إفساد صلاته
بكثرة العمل فإن أصر فله قتاله ولو مشى يسيرًا لقوله فإن أبى فليقاتله
(فإنما هو شيطان).
ولمسلم عن ابن عمر "فلا يدع أحدًا يمر بين يديه فإن أبي فليقاتله فإن معه
القرين وهو الشيطان أزه على المرور" وهو في نفسه شيطان فإن شيطان كل جنس
متمرده. ولا تفسد صلاته لكن لا يقاتله بسيف ولا بما يهلكه بل بالدفع باليد
واللكز فإن مات بذلك فدمه هدر. قال الشيخ وغيره لأن الشارع أباح قتاله وقال
القاضي عياض فإن دفعه بما يجوز فهلك فلا قود عليه اتفاقًا. والأمر بدفعه
وإن كان ظاهره الوجوب فقال النووي لا أعلم أحدًا من الفقهاء قال بوجوب هذا
الدفع بل صرحوا بأنه مندوب وفيه أن اتخاذ السترة مندوب.
وفيه جواز إطلاق لفظ الشيطان على الإنسان الذي يريد إفساد صلاة المصلي
وفتنته في دينه. ويحرم مروره بين يدي المصلي وسترته وبقربه إن لم يكن سترة.
وأما البعيد فلا يتعلق به حكم وقال الموفق لا أعلم أحدًا حد البعيد في ذلك
ولا القريب. والصحيح تحديد ذلك بما إذا مشى إليه المصلي ودفع المار بين
يديه للأمر به فتقيد بدلالة الإجماع بما يقرب منه. وفي الصحيحين عن أبي
جهيم مرفوعًا "لو يعلم المار بين يدي المصلي ماذا عليه لكان أن يقف أربعين
خيرًا له من أن يمر بين يديه".
(1/264)
ولمسلم "لأن يقف أحدكم مائة عام خير له من
أن يمر بين يدي أخيه وهو يصلي" وفيه غلظ تحريمه. قال ابن القيم لوعد من
الكبائر لكان له وجه وتكره صلاته في الموضع الذي يحتاج فيه إلى المرور.
وتنقص صلاة من لم يرد مارًا بين يديه وهو قادر على رده إلا بمكة وإن غلبه
لم يرده اتفاقًا.
باب سجود السهو
سها عن الشيء سهوًا ذهل وغفل قلبه عنه إلى غيره. وفي النهاية السهو في
الشيء تركه من غير علم وعن الشيء تركه مع العلم به. وفي المشارق السهو في
الصلاة النسيان فيها وجاء لفظ السهو والنسيان في الشرع بمعنى. وقال غير
واحد النسيان والسهو والغفلة ألفاظ مترادفة معناها ذهول القلب عن المعلوم
الحاصل في الحافظة.
وقال ابن القيم كان سهوه – - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة من إتمام نعمة
الله على أمته وإكمال دينهم ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو. وفي
الموطأ أو انسى لأبين. والنسيان في القرآن نسيان ترك ونسيان سهو. وقد وضع
الله سبحانه وتعالى الآصار والأغلال عن هذه الأمة ببركة نبيها محمد – - صلى
الله عليه وسلم - وكانت بنوا إسرائيل إذا نسوا شيئًا مما أمروا به عجلت لهم
العقوبة. فمن لطفه تعالى بهذه الأمة ورأفته بهم وإحسانه إليهم أمرهم أن
يسألوه ترك مؤاخذتهم فقالوا ما (قال تعالى) عنهم {رَبَّنَا لاَ
(1/265)
تُؤَاخِذْنَا} أي لا تعاقبنا {إِن
نَّسِينَا} أي تركنا فرضًا على وجه النسيان وجعله بعضهم من النسيان الذي هو
السهو أو فعلاً حرامًا كذلك {أَوْ أَخْطَأْنَا} أي الصواب في العلم جهلاً
منا بوجهه الشرعي وثبت أن الله استجاب هذا الدعاء ورفع المؤاخذة بالنسيان.
فقال الله تعالى نعم" رواه مسلم من حديث أبي هريرة ومن حديث ابن عباس "قال
الله قد فعلت، {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا
حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا}، قال الله قد فعلت، {رَبَّنَا
وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قيل هو من حديث النفس
والوسوسة "قال الله قد فعلت".
ولابن ماجه وابن حبان من حديث ابن عباس "إن الله وضع عن أمتي الخطأ
والنسيان وما استكرهوا عليه" فرفع الله المؤاخذة عن هذه الأمة ببركة نبيها
– - صلى الله عليه وسلم -. ولابن أبي حاتم عن أم الدرداء "إن الله تجاوز
لأمتي عن ثلاث عن الخطأ والنسيان والاستكراه" قال الحسن أما تقرأ بذلك
قرآنًا {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} فأما
حديث النفس فمعفو عنه ولا سجود من أجله لأن الشرع لم يرد به ولا يمكن
التحرز منه.
وأما الزيادة والنقص والشك في بعض الصور نسيانًا فجاءت السنة بمشروعية سجود
السهو له جبرانًا كقوله: إذا نسي أحدكم" "إذا سها أحدكم فليسجد سجدتين"
وأجمع المسلمون على ذلك في الجملة ولا تبطل بشيء منه ولا بأكل
(1/266)
وشرب سهوًا وهو من خصائص هذه الأمة فضلاً
من الله ونعمة.
(وعن أبي هريرة قال صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إحدى صلاتي العشي
ركعتين ثم سلم) والعشي ما بين زوال الشمس وغروبها وللبخاري "الظهر أو
العصر" وفي لفظ "صلى بنا" فهو ظاهر أن أبا هريرة حضرها (ثم قام إلى خشبة
المسجد) وللبخاري في مقدم المسجد (فوضع يده عليها) وفي رواية "فقام إلى
خشبة معروضة في المسجد (فوضع يده عليها) وفي رواية "فقام إلى خشبة معروضة
في المسجد فاتكأ عليها" كأنه غضبان ووضع يده اليمنى على اليسرى وشبك بين
أصابعه.
(وخرج سرعان الناس) بفتح السين والراء ويروى بإسكانها وبضم السين والمراد
أول الناس خروجًا من المسجد وفي رواية خرجت السرعان من أبواب المسجد
(فقالوا أقصرت الصلاة وفي القوم أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه) أي بأنه سلم
على الركعتين وفي رواية "فهاباه أن يكلماه".
ومعناه أنه غلب عليهما احترامه وتعظيمه عن الاعتراض عليه - صلى الله عليه
وسلم - (وفي القوم رجل يقال له ذو اليدين) وفي حديث عمران رجل يقال له
الخرباق وهو عمير بن عمرو السلمي وكان في يده طول فالخرباق لقب لذي اليدين
لقب به عمير لطول كان في يديه.
(فقال يا رسول الله أنسيت أم قصرت الصلاة)
أي شرع الله قصر الرباعية إلى اثنتين. (فقال
(1/267)
لم أنس) أي في ظنه - صلى الله عليه وسلم -
(ولم تقصر) وفي رواية لمسلم "كل ذلك لم يكن. فقال بلى قد نسيت" وذلك رحمة
من الله لهذه الأمة وبيان ولا يستمر بل يتضح له الحال (فقال أكما يقول ذو
اليدين فقالوا نعم) ولأبي داود "أصدق ذو اليدين فأوموا أي نعم. وفي رواية
له فقال الناس نعم (فصلى ركعتين ثم سلم) وفي رواية "فتقدم فصلى ما ترك ثم
سلم" قال الموفق وغيره إذا كان السلام سهوًا ولم يطل الفصل أتى بما ترك ولم
تبطل صلاته إجماعًا. قال العراقي وغيره من غير فرق بين من سلم من ركعتين أو
أكثر أو أقل. ولو سلم التسليمتين وتكلم. وإن كلام الناسي لا يبطل الصلاة.
وكذا من ظن التمام وهو قول جمهور العلماء من السلف والخلف. ومذهب الشافعي
وأحمد وجميع أئمة الحديث وهو مدلول هذا الحديث المتفق على صحته.
وأما من تكلم عامدًا لا يريد إصلاح شيء من أمرها فقال ابن المنذر وغيره
أجمع أهل العلم على أن صلاته فاسدة لتظاهر الأدلة على ذلك. والعلم من يعلم
أنه في صلاة وأن كلامه محرم فيها. قال الشيخ ولا بد في كلامه من لفظ دال
على المعنى دلالة وضعية تعرف بالعقل. والقهقهة كالكلام تبطل بالإجماع (ثم
كبر ثم سجد) أي للسهو (مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر ثم وضع رأسه
وكبر فسجد مثل سجوده أو أطول ثم رفع رأسه وكبر ثم سلم متفق عليه) قال الشيخ
وهو قول عامة
(1/268)
أهل العلم. ودل على أفضلية سجود السهو عن
النقص بعد السلام واختاره.
ودل على أن سجود السهو لا يتعدد بتعدد أسباب السهو لأنه - صلى الله عليه
وسلم - سها فسلم وتكلم بعد سلامه وسجد لها سجودًا واحدًا، ويأتي قوله: "إذا
نسي أحدكم فليسجد سجدتين" وهو يتناول السهو في موضعين فأكثر. وحديث "لكل
سهو سجدتان" وإن كان فيه مقال فالسهو اسم جنس ومعناه لكل صلاة فيها سهو
سجدتان وإن حصل للمصلي سهوان كأن زاد في صلاته من جنسها وسلم عن نقص أو حصل
له شك فيغلب سجودًا أفضليته قبل السلام. وما يقال في سجود السهو وفي الرفع
كسجود صلب الصلاة لإطلاقه في الأخبار فلو كان غير معروف لبين. ولا يتشهد
فيه ولو كان بعد السلام اختاره الشيخ وغيره.
وعليه العمل كسجود قبل السلام ذكره في الحلاف إجماعًا لأنه لم يذكر في
الأحاديث الصحيحة بل الأحاديث الصحيحة تدل على أنه لا يتشهد. وفي رواية أبي
داود قلت فيه تشهد قال لم أسمع فيه تشهدًا. وللبخاري قلت لمحمد في سجدتي
السهو تشهد قال ليس في حديث أبي هريرة، وقال قتادة: لا يتشهد، وحديث عمر أن
الذي فيه ذكر التشهد طرف من حديث أبي هريرة وضعفه ابن عبد البر وغيره.
وقالوا المحفوظ ليس فيه تشهد.
(ولهما عن ابن مسعود قال صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) قال
إبراهيم زاد أو نقص ويأتي في متن الحديث ثبوته في الزيادة
(1/269)
(فلما سلم قيل له يا رسول الله أحدث في
الصلاة شيء قال وما ذاك) وفي لفظ قال لا وما ذاك استفهام منه - صلى الله
عليه وسلم - (قالوا صليت كذا) وكذا وفي رواية فقيل له أزيد في الصلاة فقال
"وما ذاك فقالوا صليت خمسًا (فثنى رجليه) أي صرفهما عن حالتهما التي كانتا
عليها.
(واستقبل القبلة فسجد سجدتين ثم سلم) لأن الزيادة سهو وهي نقص في المعنى
فشرع لها السجود لينجبر النقص.
فإن كان في ركعة زائدة جلس في الحال بغير تكبير وبنى على فعله قبل تلك
الزيادة لئلا يغير هيئة الصلاة ولم تبطل صلاته قال الشيخ بالسنة وإجماع
المسلمين ويسجد له وجوبًا (ثم أقبل علينا بوجهه) الشريف - صلى الله عليه
وسلم - (فقال إنه لو حدث في الصلاة شيء أنبأتكم به) وفيه أن الأصل في
الأحكام بقاؤها على ما قررت عليه.
(ولكن إنما أنا بشر) مثلكم في البشرية وبين وجه المثلية بقوله: (أنسى كما
تنسون) ولا يقر عليه - صلى الله عليه وسلم - بل يقع له - صلى الله عليه
وسلم - تبيان ذلك أما متصلاً بالفعل أو بعده وفائدته في مثل ذلك بيان الحكم
الشرعي إذا وقع مثله لغيره زاد النسائي واذكر كما تذكرون (فإذا نسيت
فذكروني) وفيه الأمر بالتنبيه وظاهره الوجوب.
ويتأكد في حق المأمومين لارتباط صلاتهم بصلاته بحيث
(1/270)
تبطل ببطلانها. ويلزم من نبه الرجوع إلى
ثقتين ما لم يجزم بصواب نفسه. ويجوز إلى قول واحد إن ظن صدقه. وظاهره أنهم
تابعوه - صلى الله عليه وسلم - على الزيادة، فدل على أن متابعة المؤتم
للإمام فيما ظنه واجبًا لا تفسد صلاته فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم
يأمرهم بالإعادة.
وهذا في حق الصحابة -رضي الله عنهم- في مثل هذه الصورة لتجويزهم التغيير في
عصر النبوة.
أما بعده فينتظرونه قعودًا حتى يتشهد ويسلمون معه أو يفارقونه للعذر
ويسلمون لأنفسهم. قال شيخ الإسلام وغيره وانتظار المأموم حتى يسلم معه أحسن
(فإذا شك أحدكم في صلاته) هل زاد أو نقص والشك في اللغة التردد بين وجود
الشيء وعدمه (فليتحر الصواب) وفي لفظ لمسلم "وليتحر أقرب ذلك إلى الصواب"
وفي لفظ "فليتحر أو في الذي يرى أنه الصواب" رواه أبو داود.
والتحري هو البناء على غالب الظن. قال الشيخ وغيره وعلى هذا غالب أصول
الشرع وهي الرواية المشهورة عن أحمد.
وروي عن علي وغيره وهو مذهب أصحاب الرأي. وقال أبو الفرج التحري سائغ في
الأقوال والأفعال. وقال النووي من شك ولم يترجح له أحد الطرفين بنى على
الأقل بالإجماع.
بخلاف من غلب على ظنه أنه صلى أربعًا مثلاً (فليتم عليه) بضم الياء وكسر
التاء (ثم ليسجد سجدتين) وفي رواية
للبخاري "فليتم ثم يسلم ثم يسجد سجدتين) وفي رواية للبخاري "فليتم ثم يسلم
ثم يسجد سجدتين" ولمسلم "سجد
(1/271)
بعد السلام والكلام" ولأحمد وأبي داود من
حديث عبد الرحمن بن جعفر مرفوعًا "من شك في صلاته فليسجد سجدتين بعد ما
يسلم" وصححه ابن خزيمة.
فدلت هذه الروايات على أفضلية سجود السهو بعد السلام لأنه تحرى وأتم صلاته.
وإنما السجدتان إرغام للشيطان فتكون بعده. وكما أن السجود مشروع في الفريضة
فكذا في النافلة وهو مذهب جماهير العلماء قديمًا وحديثًا لأنه لا فارق
بينهما في الحكم. ولأن الجبران وإرغام الشيطان يحتاج إليه في النفل كما
يحتاج إليه في الفرض. وترجم له البخاري. وإن نسي سجود السهو سجد إن قرب
الزمن وإن طال عرفًا لم يسجد وصحت صلاته لأنه جابر فلم تبطل بفواته حكاه
الوزير اتفاقًا.
(وعن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا شك
أحدكم في صلاته فلم يدر كم صلى ثلاثًا أم أربعًا فليطرح الشك) أي يرم به
ويبعده. ولأحمد "فليلق الشك (وليبن) أي وليأت بركعة فيتم ما بقي من صلاته
(على ما استيقن) منها ولمسلم من حديث عبد الرحمن بن عوف "إذا شك أحدكم في
صلاته فلم يدر زاد أو نقص فإن كان شك في الواحدة أو اثنتين فليجعلها واحدة
وإن لم يدر اثنتين صلى أم ثلاثًا فيجعلها اثنتين فإن لم يدر ثلاثًا صلى أم
أربعًا فليجعلها ثلاثًا حتى يكون الشك في الزيادة".
(1/272)
فدل على أن الشاك في صلاته يجب عليه البناء
على اليقين وهو مذهب جماهير العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وقيل يعيد
والأحاديث ظاهرة بخلافه ولا منافات بين ما ورد الأمر بالبناء على الأقل
والبناء على اليقين وتحري الصواب فإن التحري هو طلب ما هو الأحرى إلى
الصواب. وأمر به - صلى الله عليه وسلم - وبالبناء على اليقين. والبناء على
الأقل عند عروض الشك، فإن أمكن الخروج بالتحري عن الشك وهو لا يكون إلا
بالاستيقان بأنه قد فعل من صلاته كذا فلا شك أنه مقدم على البناء على الأقل
لأنه - صلى الله عليه وسلم - قد شرط في جواز البناء على الأقل عدم الدراية،
والمتحري الصواب قد حصلت له الدراية، ومن بلغ به تحريه إلى اليقين فقد بنى
على ما استيقن. وحكى النووي عن الجمهور أن التحري هو البناء على اليقين
وفرق أحمد بينهما.
(ثم يسجد سجدتين قبل أن يسلم فإن كان صلى خمسًا) في رباعية (شفعن) أي
السجدتان (صلاته) صيرتهما شفعًا لأن السجدتين قامتا مقام ركعة وكان المطلوب
من الرباعية الشفع (وإن كان صلى تمامًا) لأربع (كانتا ترغيمًا للشيطان)
إلصاقًا لأنفه بالرغام بما جعله الله للمصلي من الجبر للنقص الذي سعى
اللعين في إدخاله عليه في صلاته ليلبسها عليه. والرغام بزنة غراب التراب
(رواه مسلم).
وفي حديث عبد الرحمن بن عوف ثم يسجد إذا فرغ من صلاته وهو جالس قبل أن
يسلم" صححه الترمذي. ولأبي داود
(1/273)
وابن ماجه نحوه من حديث أبي هريرة قال أحمد
أنا أقول كل سهو جاء فيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه يسجد فيه
بعد السلام فإنه يسجد فيه بعد السلام، وسائر السهو يسجد فيه قبل السلام.
وقال شيخ الإسلام أظهر الأقوال وهو رواية عن أحمد الفرق بين الزيادة
والنقصان وبين الشك مع التحري والشك مع البناء على اليقين. فإذا كان السجود
لنقص كان قبل السلام لأنه جابر للصلاة لتتم الصلاة به، وإن كان لزيادة كان
بعد السلام لأنه إرغام للشيطان لئلا يجمع بين زيادتين في الصلاة، وكذا إذا
شك وتحرى فإنه أتم صلاته وإنما السجدتان إرغام للشيطان فتكون بعده. وكذلك
إذا سلم وقد بقي عليه بعض صلاته ثم أكملها وقد أتمها والسلام فيها زيادة
والسجود في ذلك بعد السلام ترغيم للشيطان. وإذا شك ولم يبن له الأرجح فيعمل
هنا على اليقين. فإما أن يكون صلى خمسًا أو أربعًا. فإن كان صلى خمسًا
فالسجدتان يشفعان له صلاته كأنه صلى ستًا لا خمسًا. وهذا إنما يكون قبل
السلام. فهذا القول الذي نصرناه يستعمل في جميع الأحاديث الواردة في ذلك.
وقال وما شرع من السجود قبل السلام يجب فعله قبله.
وما شرع بعده لا يفعل إلا بعده وجوبًا وهذا أحد القولين في مذهب أحمد وغيره
وعليه يدل كلامهم وقال القاضي وغيره لا خلاف بين أهل العلم في جواز الأمرين
السجود قبل السلام أو بعده وقال البيهقي كذا ذكره بعض الشافعية والمالكية
إجماعًا.
(1/274)
وإنما الخلاف في الأولى والأفضل. فلو سجد
للكل جاز قبله أو بعده.
(وعن ابن بحينه) عبد الله بن مالك الأسدي ويقال الأزدي اشتهر بأمه بحينة
بنت الحارث صحابي مات سنة ست وخمسين (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى
بهم الظهر فقام في الركعتين الأوليين) أي قام في الركعة الثالثة (ولم يجلس)
عقب الركعتين الأوليين (فقام الناس معه) وفي رواية "فسبحوا به فمضى" (حتى
إذا قضى الصلاة وانتظر الناس تسليمه كبر وهو جالس وسجد سجدتين قبل أن يسلم
ثم سلم متفق عليه) ورواه الخمسة وغيرهم بألفاظ متقاربة.
وفيه دليل على أن من ترك الجلوس للتشهد الأول سهوًا يجبره بسجود السهو ولا
نزاع في ذلك. وفي رواية لمسلم "يكبر لكل سجدة وهو جالس وسجد الناس معه مكان
ما نسي من الجلوس". وللترمذي وصححه أن المغيرة "صلى بهم ركعتين ولم يجلس.
فسبح به من خلفه فأشار إليهم أن قوموا فلما فرغ من صلاته سلم ثم سجد سجدتين
وسلم ثم قال هكذا صنع بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
ولأبي داود وابن ماجه من حديث المغيرة "إذا قام أحدكم من الركعتين فلم
يستتم قائمًا فليجلس فإن استتم قائمًا فلا يجلس
(1/275)
وليسجد سجدتين، وله طرق وآثار تشهد له.
وللبيهقي من حديث أنس تحرك للقيام في الركعتين الأخيرتين من العصر فسبحوا
به فقعد ثم سجد للسهو قال الحافظ رجاله ثقات.
والحاصل إن هذه الأحاديث دلت على وجوب متابعة الإمام إذا قام من الثنتين
ولم يجلس للتشهد. وإن علم قبل أن يستتم قائمًا لزمه الرجوع. قال في الإنصاف
لا أعلم فيه خلافًا لأنه أخل بواجب وذكره قبل الشروع في ركن فلزمه الإتيان
به.
وإن شرع في القراءة حرم رجوعه اتفاقًا لظاهر النهي. فإن في حديث المغيرة
وغيره حجة على أن من استتم قائمًا لا يجلس لتلبسه بفرض فلا يقطعه وعليه
السجود للسهو. وقال ابن القيم في قوله فأشار إليهم أن قوموا قاعدة أن من
ترك شيئًا من أجزاء الصلاة التي ليست بأركان سهوًا سجد له قبل السلام. وأخذ
من بعض طرقه أنه إذا ترك ذلك وشرع في ركن لم يرجع إلى المتروك لأنه لما قام
سبحوا به فأشار إليهم أن قوموا.
باب صلاة التطوع
أي باب أحكام صلاة العبد التطوع وفضلها وأحكام أوقات النهي وغير ذلك.
والتطوع لغة فعل الطاعة وتطوع بالشيء تبرع به. وشرعًا وعرفًا طاعة غير
واجبة. وقال الأزهري التطوع ما تبرع به من ذات نفسه مما لم يلزمه فرضه وفي
(1/276)
القاموس صلاة التطوع النافلة. والنفل
والنافلة الزيادة ويرادفه السنة والمندوب والمستحب والمرغب فيه. وقال بعضهم
التطوع ما لم يثبت فيه نص بخصوصه والسنة: ما واظب عليه النبي - صلى الله
عليه وسلم - والمستحب ما لم يواظب عليه ولكنه فعله.
وأفضل ما يتطوع به الجهاد في سبيل الله. وفي فضله والحث عليه آيات وأحاديث
كثيرة معلومة. وتعلم العلم وتعليمه. وقال شيخ الإسلام تعلم العلم وتعليمه
يدخل بعضه في الجهاد وأنه نوع من أنواعه من جهة أنه من فروض الكفايات. وقال
أحمد ومالك وأبو حنيفة أفضل ما تطوع به العلم وتعليمه والعلم لا يعدله شيء
وهو الميراث النبوي. والناس إليه أحوج منهم إلى الطعام والشراب.
قال النووي اتفق جماعات السلف على أن الاشتغال بالعلم أفضل من الاشتغال
بنوافل الصلاة والصوم والحج ونحو ذلك من أعمال البدن. ثم بعد العلم نوافل
الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيره ذلك مما ندب إليه الشارع. وكذا كل ما
يتعدى نفعه وفي فضل كل نوع من أنواع التطوعات آيات وأحاديث كثيرة وتختلف
الأفضلية باختلاف الوقت وحال العامل.
(قال تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا}) فعل غير المفترض عليه من صلاة
وزكاة وصوم وحج وطواف وغير ذلك من سائر الطاعات. قال الحسن وغيره أراد سائر
الأعمال يعني من تطوع
(1/277)
خيرًا في العبادات {فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ}
يثيب على القليل بالكثير {عَلِيم} بقدر الجزاء فلا يبخس أحدًا ثوابه يعطي
العبد فوق ما يستحقه يشكر اليسير ويعطي الكثير. وقال تعالى: {فَمَن
تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} وغير ذلك من الآيات الدالة على
عظيم ثوابه تعالى لمن تقرب إليه بالنوافل.
وفي الحديث القدسي "وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي من أداء ما افترضت عليه
ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع
به. وبصره الذي يبصر به. ويده التي يبطش بها. ورجله التي يمشي عليها. ولئن
سألني لأعطينه. ولئن استعاذني لأعيذنه"
(وعن أبي هريرة في حديث المحاسبة) قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- يقول: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة فإن أتمها"
ولفظ الترمذي "أول ما يحاسب به من عمله صلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وإن
فسدت فقد خاب وخسر" فإن انتقص فريضة شيء (قال الله عز وجل انظروا هل لعبدي
من تطوع فإن كان له تطوع أكملت منه الفريضة) "ثم يفعل بسائر الأعمال
المفروضة مثل ذلك" (رواه الخمسة) بألفاظ متقاربة وصححه الحاكم وابن القطان.
وله شواهد منها عن تميم الداري مرفوعًا "أول ما يحاسب
(1/278)
به العبد يوم القيامة صلاته فإن كان أتمها
كتبت له تامة وإن لم يكن أتمها قال الله لملائكته انظروا هل تجدون لعبدي من
تطوع فتكملون به فريضته. ثم الزكاة كذلك. ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك
"رواه أبو داود وغيره. وللحاكم من حديث ابن عمر "أول ما افترض الله على
أمتي الصلوات الخمس. وأول ما يرفع من أعمالهم الصلوات الخمس. وأول ما
يسألون عنه الصلوات الخمس. فمن كان ضيع شيئًا منها يقول الله تبارك وتعالى
انظروا هل تجدون لعبدي نافلة من صلاة تتمون بها ما نقص من الفريضة. وانظروا
في صيام عبدي" وذكر الزكاة.
قال: "فيؤخذ ذلك على فرائض الله وذلك برحمة الله وعدله فإن وجد له فضل وضع
في ميزانه وقيل له أدخل الجنة مسرورًا.
وإن لم يوجد له شيء من ذلك أمرت الزبانية فأخذت بيديه ورجليه ثم قذف في
النار" وفيها دليل على أن ما نقص من فرض الصلاة أكمل من التطوع. وكذا ما
نقص من الخشوع. وقال شيخ الإسلام التطوع تكمل به صلاة الفرض يوم القيام إن
لم يكن أتمها. وفيه حديث مرفوع وكذلك الزكاة وبقية الأعمال.
وقيل هو الحكمة في مشروعيته لأنه من جنس الفريضة. فأمكن الجبران به عند
التعذر.
(وعن ربيعة) بن كعب بن مالك الأسلمي من أهل
الصفة كان خادمًا للنبي - صلى الله عليه وسلم - ملازمًا له حضرًا وسفرًا
يكني أبا
(1/279)
فراس مات سنة ثلاث وستين (قال قال لي رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - سل) وكان يبيت مع النبي - صلى الله عليه وسلم
- ويأتيه بوضوئه وحاجته فقال له يومًا سل (فقلت أسألك مرافقتك في الجنة)
سمت همته –رضي الله عنه- إلى أشرف المطالب وأعلى المراتب وعزفت نفسه عن
الدنيا وشهواتها فسأل مرافقة خير الخلق النبي الكريم في خير دار جنات
النعيم (قال أو غير ذلك) أي أوتسأل غير هذه الرتبة الرفيعة (قلت هو ذاك)
الذي أرغب فيه قال (فأعني على نفسك بكثرة السجود رواه مسلم).
فدل الحديث على أن التطوع بالصلاة من أفضل الأعمال، وأعظم القرب التي بها
ارتفاع الدرجات عند الله إلى حد لا يناله إلا المقربون. وإن كان الحديث
ينصرف إلى الفرائض لكن الإتيان بالفرائض لا بد منه لكل مسلم وإنما أرشده -
صلى الله عليه وسلم - إلى شيء يختص به ينال به ما طلبه. وعبر عن الصلاة
بالسجود تسمية لها ببعض أفرادها والسجود بعضها. قال تعالى: "وكن من
الساجدين) أي المصلين ولمسلم وغيره عن ثوبان سمعت النبي - صلى الله عليه
وسلم - يقول "عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها
درجة. وحط بها عنك خطيئة" وذلك أنه سأله عن عمل يدخله الله به الجنة وورد
في فضل التطوع بالصلاة أحاديث كثيرة.
وآكد التطوع بالصلاة صلاة الكسوف لأنه عليه الصلاة والسلام فعلها وأمر بها.
وأجمع عليها. ثم صلاة الاستسقاء لأنه
(1/280)
يشرع لها الجماعة مطلقًا أشبهت الفرائض، ثم
التراويح لأنها تسن لها الجماعة. والتطوع لما تسن له الجماعة أفضل. ثم صلاة
الوتر عند بعض أهل العلم والأشبه أنها آكد من التراويح فقد قيل بوجوبها،
وقال الشيخ ما تنازع الناس في وجوبه فهو آكد ثم السنن الرواتب وقدمت
لاتصالها بالفرائض ولتأكدها.
ويكره تركها وتسقط عدالة من دوام عليه ويأثم.
(وعن ابن عمر قال حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل
الظهر وركعتين بعدها. وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين بعد
الصبح متفق عليه) وفيه "كانت ساعة لا يدخل على النبي - صلى الله عليه وسلم
- فيها أحد. حدثتني حفصة أنه كان إذا أذن المؤذن وطلع الفجر" وفي رواية
"وتبين الفجر صلى ركعتين" فلو صلاهما قبل طلوع الفجر لم يجزئه، وفي لفظ
"قبل الغداة" يعني صلاة الفجر، وفي رواية في بيته سوى الظهر، وفي رواية
وركعتين بعد الجمعة في بيته.
ولمسلم عن عائشة "كان يصلي قبل الظهر ركعتين وبعدها ركعتين، وبعد المغرب
ركعتين. وبعد العشاء ركعتين وقبل الفجر اثنتين" صححه الترمذي. وحكى الوزير
وغيره اتفاق الأئمة على أن النوافل الراتبة عشر، ويسن الفصل بين الفرض
والسنة بكلام أو قيام لما رواه مسلم من حديث معاوية "أمرنا أن لا نوصل صلاة
بصلاة حتى نتكلم أو نخرج" وجاء عن عمر أنه جبذ رجلاً قام إثر فراغه فقال
عليه الصلاة والسلام يا عمر
(1/281)
أصاب الله بك. وذلك لئلا يتخذ ذريعة إلى
تغيير الفرض وأن يزاد فيه ما ليس منه.
(ولهما عن عائشة أربعًا قبل الظهر) قال الطبري الأربع كانت في كثير من
أحواله والركعتان في قليلها.
(ولمسلم عن أم حبيبة مرفوعًا) يعني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أنه قال: (من صلى ثنتي عشرة ركعة في يومه وليلته) وفي نسخ في يوم وليلة كأن
المراد كل يوم وليلة تطوعًا وفي رواية "سوى المكتوبة (بني له بهن بيت في
الجنة) وللترمذي وصححه "أربعًا قبل الظهر وركعتين بعدها. وركعتين بعد
المغرب. وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الفجر".
ولفظ النسائي "ركعتين قبل العصر". ولم يذكر العشاء، وما رواه الترمذي هو ما
اتفق عليه ابن عمر وعائشة.
واستحب الجمهور المواظبة على الأربع قبل الظهر. ورجح ابن القيم أنها ورد
مستقل سببه انتصاف النهار لقوله عليه الصلاة والسلام "إنها ساعة تفتح فيها
أبواب السماء فأحب أن يصعد لي فيها عمل صالح" رواه أحمد وقال كان - صلى
الله عليه وسلم - يحافظ في اليوم والليلة على أربعين ركعة. سبع عشرة
الفرائض، واثنتي عشرة التي روت أم حبيبة، وإحدى عشرة صلاة الليل فكانت
أربعين ركعة.
(وللخمسة عنها قال "من حافظ على أربع) أي ركعات
(1/282)
(قبل الظهر وأربع بعدها حرمه الله على
النار) صححه الترمذي وغيره، وفي رواية "لم تمسه النار) والحديث يدل على
تأكد استحبابها. وكفى بهذا الترغيب باعثاً على المحافظة
عليها.
(وعن ابن عمر مرفوعاً رحم الله امرءاً صلى أربعاً قبل العصر) رواه أحمد
وأبو داود وغيرهما و (حسنه الترمذي) وصححه ابن خزيمة وابن حبان وأنكره شيخ
الإسلام وفي السنن عن علي " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل
العصر أربع ركعات " وللطبري من حديث عبد الله بن عمرو"من صلى أربع ركعات
قبل العصر لم تمسه النار " وفيه أحاديث آخر ضعيفة لكن تدل بمجموعها على
استحباب صلاة أربع قبل العصر.
(وعن عبد الله بن مغفل) بن غنم أحد العشرة الذين بعثهم عمر إلى البصرة
يفقهون الناس توفى بها سنة ستين (قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
صلوا قبل المغرب) صلوا قبل المغرب (ثم قال في الثالثة لمن شاء) أي أن يصلي
قبل المغرب (كراهية أن يتخذها الناس سنة) أي طريقة مألوفة لا يتخلون عنها
(رواه البخاري) ولابن حبان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " صلى قبل
المغرب ركعتين " ولمسلم "كنا نصلي ركعتين بعد غروب الشمس. وكان - صلى الله
عليه وسلم - يرانا فلم يأمرنا ولم ينهنا".
لكن ما ليس براتب لا يلحق بالراتب ولا تستحب المواظبة عليه ليضاهي السنن
الراتبة. وللشيخ قاعدة معروفة وهي أن ما
(1/283)
ليس من السنن الراتبة لا يداوم عليه حتى
يلحق بالرواتب. ولأبي داود عن عائشة "ما صلى العشاء قط فدخل علي إلا صلى
أربع ركعات أو ست ركعات"وفي الصحيح عن ابن عباس وذكر مبيته عند خالته
ميمونة قال" فصلى أربع ركعات" وتقدم في رواية النسائي "قبل العصر ركعتين".
وقال الشيخ: وأما قبل العصر وقبل المغرب والعشاء فلم يكن يصلي, لكن ثبت عنه
في الصحيح أنه قال " بين كل أذانين صلاة ثم قال في الثالثة لمن شاء" فمن
شاء أن يصلي تطوعاً فهو حسن لكن لا يتخذ ذلك سنة. ولا يكره أن يصلي فيها
بخلاف ما فعله - صلى الله عليه وسلم - ورغب فيه فإن ذلك أوكد من هذا.
(وعن عائشة قالت "لم يكن النبي - صلى الله عليه وسلم - على شيء من النوافل)
الرواتب وغيرها (أشد تعاهداً) أي محافظة (منه على ركعتي الفجر متفق عليه)
وفي رواية "معاهدة" ولمسلم "ما رأيته إلى شيء من الخير أشد منه إلى
الركعتين قبل الفجر" ولابن خزيمة ولا إلى غنيمة.
(ولمسلم ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها) أي أجرهما خير من الأرض وما
عليها. وهذا تمثيل وإلا فذرة من ذرات الآخرة خير من الدنيا وما فيها
والحديثان يدلان على أفضليتهما واستحباب تعاهدهما وثبت عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه كان لا يدعهما حضراً ولا سفراً وحض عليهما حتى قال " ولو
طردتكم
(1/284)
الخيل "رواه أبو داود. وحكى عن الحسن
وجوبهما وقال بعضهم أفضل من الوتر. وقال الشيخ يسن ترك غيرهما في السفر ولم
ينقل أنه صلى راتبة غيرهما فيه ويتطوع بغير الرواتب أفضل ونقله بعضهم
إجماعاً.
(ولهما عنها كان يخفف الركعتين قبل الصبح حتى إني لأقول اقرأ فيهما بأم
الكتاب أم لا) وذلك لإسراعه بقراءتها واجمعوا على سنية تخفيفهما إلا ما روي
عن بعض الحنفية وقال القرطبي معنى الحديث أنه كان يطيل في النوافل فلما خفف
في قراءة ركعتي الفجر صار كأنه لم يقرأ بالنسبة على غيرهما من الصلوات لا
النقر المنهي عنه.
(ولمسلم عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قرأ في ركعتي
الفجر) وللخمسة إلا النسائي من حديث ابن عمر رمقت رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - شهراً "فكان يقرأ في الركعتين قبل الفجر " (قل يا أيها
الكافرون) و (قل هو الله أحد) وله شواهد. ولابن ماجه وكان يقول "نعم
السورتان يقرأ بهما" ذلك لما جمعتاه من توحيد العلم والعمل. وتوحيد المعرفة
والإرادة وإيجاب عبادته وحده. والتبري من عبادة ما سواه. وبيان ما يجب لله
من صفات الكمال. وتنزيهه عن النقائص والأمثال.
ولهذا كان يقرأ بهما في ركعتي الفجر وفي الوتر اللتين هما فاتحة العمل
وخاتمته ليكون مبتدأ النهار توحيد. وخاتمة الليل
(1/285)
توحيد. وله من حديث ابن عباس "كان يقرأ في
الأولى (قولوا آمنا بالله) الآية التي في سورة البقرة وفي الثانية {قُلْ
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا
وَبَيْنَكُمْ} الآية التي في سورة آل عمران".
وما جاء في الصحيحين من حديث عائشة "أنه إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه
الأيمن" فقال أحمد عائشة ترويه وابن عمر ينكره وكذا ابن مسعود وغيره وقال
بعض أهل العلم إنما اضطجاعه بعد الوتر. وقبل ركعتي الفجر. كما هو مصرح به
في حديث ابن عباس. وأما حديث عائشة فرواية مالك بعد الوتر وغيره بعد ركعتي
الفجر. ولا يبعد أن يكون هذا تارة وهذا تارة فيباح ولم ير مالك وغيره بأساً
لمن فعلها راحة وكرهوها لمن فعلها استناناً. وأما حديث أمره بالاضطجاع
بعدها. فقال شيخ الإسلام باطل.
(وللترمذي عنه مرفوعاً: من لم يصل ركعتي الفجر فليصلهما بعدما تطلع الشمس)
وصححه الحاكم وهذا مذهب الجمهور وعنه أنه عليه الصلاة والسلام نام عن ركعتي
الفجر فقضاهما بعد ما طلعت الشمس والحديث لا يدل على المنع
من فعلهما بعد صلاة الفجر. وعن قيس بن عاصم أنه صلاها بعدها وأقره النبي -
صلى الله عليه وسلم - وأختاره الشيخ وغيره (وقضاء ركعتي الظهر متفق عليه)
من حديث أم سلمه وفيه أنه قضاها بعد
(1/286)
العصر وللترمذي من حديث عائشة أنه قضى
الأربع اللواتي قبل الظهر بعده.
(و) قضاء (ركعتي الفجر رواه مسلم) وأحمد والنسائي وغيرهم من حديث أبي قتادة
في قصة نومهم عن صلاة الفجر وتقدم وفيه "فصلى ركعتين ثم صلى الغداة"وقد دلت
هذه الأحاديث وغيرها على مشروعية قضاء النوافل الراتبة. قال الشيخ وصح أنه
قال"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها" وهذا يعم السنن الراتبة
وغيرها.
فصل في الوتر
أي في أحكام الوتر وصفته. والوتر الفرد. والمراد هنا الوتر المعروف الذي هو
ختم صلاة آخر الليل وهو آكد التطوعات لم يتركه النبي - صلى الله عليه وسلم
- حضراً ولا سفراً حتى قال بعض أهل العلم بوجوبه. وتظاهرت الأحاديث في فضله
والحث عليه (وعن خارجة) بن حذافة العدوي قيل كان يعدل بألف فارس وقضى بمصر
واستشهد سنة أربعين قتله الخارجي ظناً منه أنه عمرو بن العاص (1) (قال قال
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن الله أمدكم) وفي لفظ "زادكم (بصلاة هي
خير لكم من حمر النعم) أي الإبل الحمر.
__________
(1) وقال أردت عمرًا وأراد الله خارجًا فكانت مثلاً.
(1/287)
خصها لأنها كانت أنفس أموال العرب إذ ذاك
وكان يضرب بها المثل. والمراد خير من الدنيا وما عليها وتشبيه أمور الآخرة
بأمور الدنيا للتقريب إلى الأفهام وإلا فذرة من ذرات الآخرة خير من الدنيا
بأسرها ومثلها معها ويأتي ذكر فضل قيام الليل والوتر آكده (قلنا وما هي قال
الوتر) ضد الشفع وهو أسم للركعة المنفصلة عما قبلها. وللخمس والسبع والتسع
والإحدى ٍعشرة. كما أن المغرب وتر النهار اسم للثلاث المتصلة.
فإن فصلت الثلاث فأكثر بسلامين كان الوتر اسماً للركعة المفصولة وحدها ثم
عين وقته فقال (ما بين صلاة العشاء إلى طلوع الفجر) فجمعيه وقت للوتر. وفيه
أحاديث كثيرة مستفيضة تدل على أن جميع الليل وقت للوتر إلا ما قبل صلاة
العشاء إجماعاً. وفي لفظ "فصلوها ما بين العشاء إلى طلوع الفجر" (رواه
الخمسة إلا النسائي)
وصححه الحاكم وغيره وضعفه البخاري لاشتراطه اللقي. ولأحمد من حديث عمرو ابن
شعيب عن أبيه عن جده نحوه وله شواهد كثيرة تثبت أن له أصلاً.
(ولهم) أي للخمسة وصححه الحاكم أيضاً وغيره (عن علي مرفوعاً "أوتروا يا أهل
القرآن) فيه تأكد الوتر في حق أهل القرآن أي حفظته العاملين به وهم أهل
الله وخاصته
وأولياءه المختصون به اختصاص أهل الإنسان به (فإن الله
(1/288)
وتر) واحد في ذاته وصفاته وأفعاله لا مثل
له ولا شريك له ولا معين له جل وعلا وتقدس (يحب الوتر) فيثيب عليه قال
القاضي عياض كلما ناسب الشيء أدنى مناسبة كان أحب إليه.
(ولأبي داود عن بريدة مرفوعاً "من لم يوتر فليس منا) تبرأ منه - صلى الله
عليه وسلم - وهذا وعيد شديد. ومذهب أهل السنة إجراء أحاديث الوعيد على
ظاهرها مع اعتقاد ما دلت عليه. وقال أحمد من ترك الوتر فهو رجل سوء لا
ينبغي أن تقبل له شهادة.
وللبيهقي "فأوتروا يا أهل القرآن " قال الحافظ سنده لين لأن فيه العتكي
ضعفه بعضهم. ولأحمد عن أبي هريرة نحوه بسند ضعيف.
قال شيخ الإسلام وغيره الوتر سنة مؤكدة باتفاق المسلمين ولا ينبغي لأحد
تركه. ومن أصر على تركه ردت شهادته. وليس بواجب عند جمهور العلماء من
الصحابة والتابعين فمن بعدهم مع إجماعهم أنه ليس بفرض لحديث الأعرابي.
وحديث عباده وغيرهما وعن علي قال: الوتر ليس بحتم كهيئة المكتوبة ولكن سنة
سنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال أوجبه أبو حنيفة وطائفة من
أصحاب أحمد. واختار الشيخ وجوبه على من يتهجد بالليل.
وقال هو أفضل من جميع تطوعات النهار. بل أفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام
الليل وأوكد ذلك الوتر. وركعتا الفجر.
(وعن أبي أيوب قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الوتر حق) أي
(1/289)
لا ينبغي لأحد تركه. ولأبي داود "حق على كل
مسلم " زاد ابن المنذر "وليس بواجب" (فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل) أي بخمس
ركعات لا يفصل بينهن بتسليم وفي لفظ "بسبع" (ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل)
وهن أدنى الكمال (ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل رواه الخمسة إلا
الترمذي).
وله شواهد كثيرة تدل دلالة ظاهرة على الوتر بخمس وثلاث وأن أقل الوتر ركعة
وأنها صلاة صحيحة لا يكره الوتر بها. وهو مفهوم لفظ الوتر. وثبت عن عشرة من
الصحابة منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعائشة وهو مذهب جمهور أهل العلم مالك
والشافعي وأحمد وغيرهم.
(وعن عائشة: كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي بالليل) وفي لفظ "صلاة العشاء
إلى الفجر (إحدى عشرة ركعة ويوتر بواحدة"متفق عليه) وفي لفظ "يصلي عشر
ركعات من الليل ويوتر بسجدة" أي ركعة "ويركع ركعتي الفجر فتلك ثلاث عشرة
ركعة وفي رواية "ثلاث عشرة ركعة. ثم يصلي إذا سمع النداء ركعتين خفيفتين"
ويأتي قولها ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة.
والجمع بينها أنها أضافت إلى الإحدى عشرة ما كان يفتح به صلاته من الركعتين
الخفيفتين. وفسرت بركعتين بعد الوتر
(1/290)
تجري مجرى السنة وتكميل الوتر. وإن شاء
افتتح صلاته بافتتاح المكتوبة وإن شاء بغيره مما ثبت عنه - صلى الله عليه
وسلم - روايات مختلفة محمولة على أوقات متعددة وأحوال مختلفة بحسب النشاط
وبيان الجواز والخبر يحتمل أن العشر متصلات وأنهن مفصولات. وفي لفظ "إحدى
عشرة ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة" وهو أفضل لأمره - صلى الله
عليه وسلم - واستمرار فعله ولأنه أكثر
عملاً.
(ولمسلم يصلي تسع ركعات لا يجلس إلا في الثامنة) فيذكر الله ويحمده ويدعوه
ثم ينهض ولا يسلم" (ثم) يقوم فـ (يصلي التاسعة) ثم يقعد فيذكر الله ويحمده
ويدعوه ثم يسلم تسليماً يسمعناه" وفيه فلما أسن وأخذه اللحم "أوتر بسبع"
ولأحمد "لم يجلس إلا في السادسة ولم يسلم إلا في السابعة" وللنسائي "ولا
يقعد إلا في آخرهن"
(وله: عن أم سلمة كان يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام) وله:
عن ابن عباس "ثم صلى سبعاً أو خمساً أوتر بهن لم يجلس إلا في آخرهن" وفي
أحاديث أخر تدل على الوتر بسبع وخمس قال أحمد ولكن أكثر الحديث وأقواه ركعة
مفصولة.
(وعن عائشة كان لا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة) ثم
فصلتها بقولها (يصلي أربعاً)
(1/291)
يحتمل أنهن متصلات (فلا تسأل عن حسنهن
وطولهن) لشهرته فلا يسأل عنهن أو لأنها لا تقدر أن تصف ذلك. قال شيخ
الإسلام وكانت صلاته - صلى الله عليه وسلم - معتدلة قريبة من السواء.
والأفضل في حق كل أحد الأنفع له (ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن
ثم يصلي ثلاثاً) قالت فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر قال يا عائشة
"إن عيني تنامان ولا ينام قلبي" (متفق عليه) وجاء من غير وجه أنه كان - صلى
الله عليه وسلم - يوتر بثلاث.
(وللبخاري عن ابن عمر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم بين
الركعتين والركعة حتى أنه كان يأمر ببعض حاجته) ولأحمد من حديث عائشة لا
يفصل بينهن وضعفه. وسئل أحمد تسلم في الركعتين من الوتر قال نعم قلت لأي
شيء قال لأن الأحاديث فيه أقوى وأكثر عنه - صلى الله عليه وسلم -. وقال وإن
لم يسلم رجوت أن لا يضره إلا أن التسليم أثبت وأقوى.
قال شيخ الإسلام يخير بين فصله ووصله وصحح أن كليهما جائز وقال الوتر ركعة
وإن كان قبلها شفع هذا أصح من قول من يقول لا وتر إلا كالمغرب مع أن تجويز
كليهما أصح لكن الفصل أفضل من الوصل. وقال إن كان المأموم يرى أحدهما
فوافقهم تأليفاً لقلوبهم كان قد أحسن. اهـ. وقال غير واحد من أهل العلم
جاءت الأحاديث بمثنى ثم يوتر بواحدة وبإحدى عشرة وما بين ذلك فليس الوتر
مختصاً بركعة ولا بإحدى عشرة بل يجوز ذلك وما بينه ويجوز وصله وفصله ويجوز
كالمغرب
(1/292)
وكل ذلك جاءت به السنة.
(وعن عائشة قالت من كل الليل قد أوتر) - صلى الله عليه وسلم - "من أوله
وأوسطه وآخره (وانتهى وتره إلى السحر متفق عليه) ولأحمد من حديث ابن مسعود
"كان يوتر من أول الليل وأوسطه وآخره" ولابن ماجه نحوه عن علي وقال "وانتهى
وتره إلى السحر" وجاء نحوه من غير وجه قال عتبة بن عمرو ليكون ذلك سعة
للمسلمين أي ذلك أخذوا به كان صواباً.
(ولمسلم عن جابر مرفوعاً أيكم خاف أن لا يقوم من آخر الليل فليوتر أوله)
لئلا يفوته فعله (ومن طمع أن يقوم آخره فليوتر آخره فإن صلاة آخر الليل
مشهودة) تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار وهو وقت التنزل الإلهي ومواطأة
القلب اللسان (وذلك أفضل) آي الوتر آخر الليل لمن وثق بقيامه. وفي الصحيحين
وغيرهما أحاديث من غير وجه عن جماعة من الصحابة أن آخر صلاته - صلى الله
عليه وسلم - بالليل كانت وتراً وفيهما وغيرهما أيضاً أحاديث كثيرة بالأمر
بجعل صلاة آخر الليل وتراً.
وقال غير واحد من أهل العلم هو قول كافة أهل العلم.
(وعن ابن عباس كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في الوتر) أي في
صلاة الوتر في الركعة الأولى بعد الفاتحة بـ (سبح اسم ربك الأعلى) لما
تضمنته من أمور الدنيا والآخرة (و) في الثانية (قل يا أيها الكافرون) وهي
تعدل ربع القرآن (و) في
(1/293)
الثالثة (فل هو الله أحد) وهي تعدل ثلث
القرآن (رواه الخمسة) ولهم الخمسة) ولهم إلا الترمذي من حديث أبي نحوه
ولأحمد وغيره من حديث ابن ابزى نحوه أيضًا. وقال إسحاق هو أصح شيء في
القراءة في الوتر. وهذه الأحاديث وغيرها تدل على مشروعية قراءة هذه السور
في الوتر ولا ينبغي المداومة على ذلك فإنه قد يفضي إلى اعتقاد أنه واجب.
(وكان عمر يقول في قنوت الوتر اللهم إنا نستعينك) أي نستعين بك نطلب منك
المعونة وحدك (ونستهديك) أي نسألك الهداية فيمن هديت (ونستغفرك) أي نطلب
منك المغفرة (ونتوب إليك) أي نفعل التوبة. والتوبة الرجوع عن الذنب وفي
الشرع الندم على ما فات والعزيمة أن لا يعود والإقلاع عن الذنب وإن كان
حقًا لآدمي فلا بد من رده أو تحلله (ونؤمن بك ونتوكل عليك) أي نعتمد عليك
في أمورنا والإيمان اعتقاد بالجنان وإقرار باللسان وعمل بالأركان.
(ونثني عليك الخير كله) أي نمدحك ونصفك بالخير كله (ونشكرك) ببذل مجهودنا
في خدمتك (ولا نكفرك) ما أنعمت به علينا وأصل الكفر الجحود لأن الكافر
جاحد.
ولعل المراد هنا كفر النعمة لاقترانه بشكرها (اللهم إياك نعبد) لا نعبد
سواك وتقديم المعمول يفيد الحصر. والعبادة التذلل والخضوع (ولك نصلي ونسجد)
لا لغيرك وهذا من عطف الخاص على العام فإن السجود بعض أفراد الصلاة (وإليك
(1/294)
نسعى ونحفد) بكسر الفاء نسارع إلى طاعتك
ونبادر وأصل الحفد مداركة الخطو والإسراع في العمل والخدمة.
(نرجوا رحمتك) نؤمل رحمتك وسعة عطائك (ونخشى عذابك) أي نخاف ونحاذر من
عقوبتك وأليم عذابك (إن عذابك الجد) بالكسر أي العظيم الحق لا اللعب
(بالكفار ملحق) بكسر الحاء أي من نزل به عذابك ألحقه بالكفار أو بمعنى لاحق
أي يلحق بالكفار ويصابون به رواه الشافعي وغيره و (صححه البيهقي) الحافظ
أحمد بن الحسين بن علي المتوفى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة. ورواه الطبراني
عن الغافقي أن عليًا علمه هاتين السورتين. وقال ابن سيرين هاتان السورتان
كتبهما أبي في مصحفه وقال أحمد يستحب بالسورتين وقال شيخ الإسلام لم ينقل
مسلم دعاء في قنوت غير هذه الأدعية المأثورة في الوتر قنوت الحسن وسورتي
أبي. وقال غير واحد من الحنفية وغيرهم لا يوقت في دعاء القنوت غير اللهم
إنا نستعينك لأن الصحابة اتفقوا عليه والأولى بعده قنوت الحسن، وقال الإمام
أحمد يدعو بدعاء عمر اللهم إنا نستعينك وبدعاء الحسن اللهم اهدني إلخ.
(وعن الحسن) بن علي بن أبي طالب سبط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
وريحانته ولد سنة ثلاث من الهجرة وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
أحاديث منها هذا الحديث وقال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - إن ابني هذا
سيد وتوفي سنة تسع وأربعين (قال علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
كلمات
(1/295)
أقولهن في قنوت الوتر) أي دعائه قال
العراقي وغيره جاء قنوت الوتر من طرق تدل على مشروعيته. منها ما هو حسن.
ومنها ما هو صحيح. ولابن حبان إذا رفعت رأسي ولم يبق إلا السجود.
وجاءت السنة بالقنوت بعد الركوع وقبله وأكثر الصحابة والتابعين وفقهاء
الحديث كأحمد وغيره يختارون القنوت بعد الركوع. قال الشيخ لأنه أكثر وأقيس.
وقال الخطيب التي فيها القنوت قبله كلها معلولة.
واستحب الجمهور رفع اليدين حال الدعاء. وفي الحديث "إن الله يستحي أن يبسط
العبد يديه يسأله فيهما خيرًا فيردهما خائبتين" والأحاديث فيه كثيرة.
وبين الحسن –رضي الله عنه- الكلمات المقولة له بقوله (اللهم اهدني فيمن
هديت) وأصل الهداية الدلالة وهي من الله: التوفيق والإرشاد إلى ما يوصل إلى
المطلوب. (وعافني فيمن عافيت) أي عافني من الإسقام والبلايا مع من عافيته
أو في جملة من عافيته من الأسقام (وتولني فيمن توليت) أي تول أمري ولا
تكلني إلى نفسي وتفضل علي في جملة من تفضلت عليهم (وبارك لي فيما أعطيت)
البركة النماء والزيادة أي وضع لي البركة فيما وهبت لي من العمر والمال
والعلوم والأعمال.
(وقني شر ما قضيت) لي من قضاء وقدرته لي من قدر فسلم لي ما أنعمت به علي
(إنك
(1/296)
تقضي) فتحكم بما أردت (ولا يقضي عليك)
سبحانك وبحمدك لا راد لأمرك ولا معقب لحكمك تفعل ما تشاء وتحكم ما تريد
(إنه لا يذل) بكسر الذال أي لا يصير ذليلاً حقيقة (من واليت) أو لا يحصل له
ذلة. والموالاة ضد المعادات (تباركت ربنا وتعاليت) أي تعاظمت والأول دال
على كمال بركته وعظمته والثاني على كمال علوه ونهايته (رواه الخمسة) وحسنه
الترمذي وقال النووي وغيره صحيح أو حسن زاد أبو داود والبيهقي بعد قوله بعد
قوله إنه لا يذل من واليت "ولا يعز من عاديت" أي لا تقوم عزة لمن عاديته
وأبعدته. قال الشيخ بالفتح إذا قوي وصلب. وبالكسر إذا امتنع، وبالضم إذا
غلب. وزاد النسائي في آخره "وصلى الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - "
لكن قال الحافظ لا تثبت.
(ولهم عن علي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في آخر وتره "اللهم
إني أعوذ برضاك من سخطك) أي استجير برضاك من سخطك والرضى والسخط صفتان
للباري تبارك وتعالى على ما يليق بجلاله وعظمته لا يشبهان رضى المخلوق
وسخطه (وبعفوك من عقوبتك) أي واستجير بعفوك ودفعك السوء والبلاء من عقوبتك
أن تصيبني (وبك منك) أي واستجير بك من عذابك.
قال الخطابي وغيره في هذا معنى لطيف وذلك أنه سأل الله أن يجيره برضاه من
سخطه. وبمعافاته من عقوبته والرضى
(1/297)
والسخط ضدان متقابلان. وكذا المعافاة
والمؤاخذة فلما صار إلى ذكر ما لا ضد له وهو الله تعالى أظهر العجز
والانقطاع وفزع منه إليه واستعاذ به منه لا غير (لا نحصي) أي لا نطيق ولا
نبلغ ولا ننهي (ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك).
فهو سبحانه يثني بنفسه على نفسه والخلق لا يحصون ثناءًا عليه بل هو كما
أثنى على نفسه قال ذلك اعترافًا بالعجز عن الثناء وردًا إلى المحيط علمه
بكل شيء جملة وتفصيلاً وكما أنه سبحانه لا نهاية لسلطانه وعظمته فلا نهاية
للثناء عليه إذ كل شيء أثنى به عليه وإن بولغ فيه فقدر الله أعظم وسلطانه
أعز وصفاته أكبر وفضله وإحسانه أوسع. قال الترمذي لا نعرف عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - في القنوت شيئًا أحسن من هذا وله أن يزيد ما شاء مما يجوز
به الدعاء. ومن لا يحسن القنوت يقول. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة
حسنة وقنا عذاب النار. أو يسأل المغفرة ونحو ذلك.
قال شيخ الإسلام يخير في دعاء القنوت بين فعله وتركه.
وقال إذا صلى قيام رمضان فإن قنت جميع الشهر أو نصفه الأخير أو لم يقنت
بحال فقد أحسن. وله رحمه الله نبذة في دعاء القنوت مشهورة واقتصر بعض أهل
العلم على قول اللهم أهدنا بضمير الجمع. قال الشيخ وظاهره أنه يستحب له إن
لم يتعين واختاره أحمد وغيره.
وأما إذا تعين فقال الشيخ إن كان المأموم مؤمنًا على دعاء
(1/298)
الإمام فيدعو بصيغة الجمع كما في دعاء
الفاتحة في قوله (إهدنا الصراط المستقيم) فإن المأموم إنما أمن لاعتقاد أن
الإمام يدعو لهما جميعًا فإن لم يفعل فقد خان الإمام المأموم، ولهذا جاء
دعاء القنوت بصيغة الجمع اللهم إنا نستعينك إلخ. ففي مثل هذا يأتي بصيغة
الجمع ويتبع السنة. اهـ. وينبغي أن يختمه بالصلاة على النبي - صلى الله
عليه وسلم - لما تقدم ولما روي الترمذي عن عمر الدعاء موقوف بين السماء
والأرض لا يصعد منه شيء حتى تصلي على نبيك وروى عن علي نحوه مرفوعًا وفيه
ضعيف وشرعت الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - أول الدعاء وأوسطه
وآخره. وقال بعضهم ينبغي أن يمسح وجهه بيديه إذا فرغ منه. قال شيخ الإسلام
وفيه أحاديث لا تقوم بها حجة.
(وعن أنس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قنت شهرًا يدعو على أحياء من
أحياء العرب) أي قبائل من قبائلهم وسماهم في لفظ آخر رعل وذكوان وعصية.
ودعا لقوم بالنجاة وقال "اللهم اشدد وطأتك على مضر" وعن ابن عمر يدعو على
صفوان بن أمية وسهيل بن عمرو والحارث بن هشام وكلهم أسلموا رضي الله عنهم-
(ثم تركه متفق عليه) وعنه "كان لا يقنت إلا إذا دعا لقوم أو دعا على قوم"
صححه ابن خزيمة وغيره.
(و) ثبت في الصحيح وغيره (عن ابن عمر) أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - يقول إذا رفع رأسه من الركوع (في الركعة الأخيرة من (الفجر) اللهم
العن فلانًا وفلانًا بعد ما يقول سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد" قال
ابن القيم ولم
(1/299)
يكن يخص القنوت في النوازل بالفجر بل كان
أكثر قنوته فيها لأجل ما شرع فيها من الطول ولاتصالها بصلاة الليل وقربها
من السحر وساعة الإجابة.
قال شيخ الإسلام ولا يقنت في غير الوتر إلا أن تنزل بالمسلمين نازلة فيقنت
كل مصل في جميع الصلوات لكنه في الفجر والمغرب آكد بما يناسب تلك النازلة
كما أنه إذا دعا في الاستسقاء دعا بما يناسب تلك النازلة كما أنه إذا دعا
في الاستسقاء دعا بما يناسب المقصود. فكذا إذا دعا في الاستنصار دعا بما
يناسب المقصود. كما جاءت به السنة ولا يدعو بما خطر له.
وقال: أما القنوت في صلاة الفجر فقد ثبت في الصحيح أنه كان يقنت في النوازل
قنت مرة شهرًا يدعو على قوم من الكفار قتلوا طائفة من أصحابه ثم ترك. وقنت
مرة يدعو لأقوام من أصحابه كانوا مأسورين عند قوم يمنعونهم من الهجرة إليه.
وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده كانوا يقنتون نحو هذا القنوت فما كان داوم عليه
وما كان بدعة بالكلية.
وللعلماء فيه ثلاثة أقوال أصحها أنه يسن عند الحاجة كما قنت الرسول - صلى
الله عليه وسلم - وخلفاؤه وهو الذي عليه أهل الحديث وكيف يكون يقنت دائمًا
في الفجر أو غيرها ويدعو بدعاء راتب ولم ينقل عنه لا في خبر صحيح ولا ضعيف
بل أصحابه الذين هم أعلم الناس بسنته وأرغب الناس في إتباعها كابن عمر
وغيره أنكروا ذلك حتى قال ابن عمر ما رأينا ولا سمعنا، وكذلك غيره من
الصحابة عدوا ذلك من الأحداث المبتدعة.
(1/300)
ومن تدبر السنة علم علمًا قطعيًا أن النبي
- صلى الله عليه وسلم - لم يكن يقنت دائمًا في شيء من الصلوات وقال. وإذا
فعل الإمام ما يسوغ فيه الاجتهاد تبعه المأموم فيه وإن كان هو لا يراه مثل
القنوت في الفجر ووصل الوتر. اهـ. ولأبي داود والنسائي أنه - صلى الله عليه
وسلم - كان يقول بعد وتره "سبحان الملك القدوس" ثلاثًا ويمد بها صوته.
وقال ابن القيم وغيره ويقول رب الملائكة والروح. ويقول " اللهم إني أعوذ
برضاك من سخطك" الحديث.
(وعن أبي سعيد مرفوعًا من نام عن وتره أو نسيه فليصل إذا أصبح أو ذكر) لف
ونشر مرتب قال حيث أصبح إذا كان نائمًا "أو ذكر" إذا كان ناسيًا (رواه
الخمسة إلا النسائي) والحديث يدل على مشروعية قضاء الوتر إذا فات. وهو مذهب
جماعة من الصحابة والأئمة الأربعة وغيرهم حكاه العراقي، وغيره وجزم به
الشيخ وغيره وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}
وظاهر الخبر أي وقت. وثبت من حديث عائشة أنه عليه الصلاة والسلام إذا فاته
حزبه من الليل قضاه من النهار اثنتي عشرة ركعة. وتقدم حديث "من نام عن صلاة
أو نسيها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها، قال الشيخ وهذا يعم الفرض وقيام
الليل والوتر وقال الصحيح إنه يقضي شفعه معه للخبر.
(1/301)
فصل في قيام الليل
أي في فضل قيام الليل وأفضله التراويح وهي قيام رمضان وبيان صفة ذلك وإن
كان قيام الليل يشمل الوتر لكن فصل منه تنشيطًا للطالب وتقريبًا لحافظته.
وقيام الليل سنة مؤكدة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة وقد أفردوه بمصنفات
(قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} ترتفع وتنبو لما
ذكر الله تعالى ما من الله به على الإنسان وعذاب من كفر بلقائه تعالى قال:
{إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا
سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُون
تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ}.
فقاموا الله يتهجدون وتركوا الاضطجاع على الفرش الوطيئة {يَدْعُونَ
رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} أي خوفًا من وبال عقابه وطمعًا في جزيل ثوابه
{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون} فجمعوا بين فعل القربات اللازمة
والمتعدية، فلا تعلم نفس (إلى قوله: {جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون} أي
فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات من النعيم المقيم واللذات
التي لم يطلع على مثلها أحد. لما أخفوا أعمالهم كذلك أخفى الله لهم من
الثواب جزاءً وفاقًا فإن الجزاء من جنس العمل.
وعن معاذ قلت يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار
فقال "لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه. تعبد الله لا
تشرك به شيئًا. وتقيم الصلاة.
(1/302)
وتؤتي الزكاة. وتصوم رمضان. وتحج البيت إن
استطعت إليه سبيلاً. ثم قال. ألا أدلك على أبواب الخير. الصوم جنة. والصدقة
تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار. وصلاة الرجل في جوف الليل. ثم تلا
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا
وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا
أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون}
صححه الترمذي وغيره.
وللحاكم عنه - صلى الله عليه وسلم - "عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين
قبلكم. وهو قربة إلى ربكم. ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم" وقال تعالى في
حق المتقين الذين هم في جنات وعيون {كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا
يَهْجَعُون} ينامون قليلاً منه ويصلون أكثره. وعن ابن مسعود مرفوعًا "عجب
ربنا من رجلين. رجل ثار من وطائه ولحافه من بين حبه وأهله رغبة فيما عندي
وشفقة مما عندي" رواه أبو داود.
(وعن أبي هريرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفضل الصلاة بعد
المكتوبة) وفي لفظ "بعد الفريضة" فإنها أفضل الصلاة (صلاة الليل رواه مسلم)
وله عنه قال سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي الصلاة أفضل بعد
المكتوبة قال "الصلاة في جوف الليل" وللترمذي وصححه من حديث عمرو بن عبسة
"أقرب ما يكون
الرب من العبد في جوف الليل الآخر. فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في
تلك الساعة فكن" ولأبي داود عنه قال أي
(1/303)
الليل أسمع قال "جوف الليل الآخر فصل ما
شئت فإن الصلاة فيه مشهودة مكتوبة" والمراد الثلث الآخر أو ما قبل السدس.
(ولهما عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا "أفضل الصلاة صلاة داود" وفي لفظ "أحب
الصلاة إلى الله –عز وجل- صلاة داود" نبي الله عليه السلام" ابن ايشي بن
عوبد من ذرية إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام (كان ينام نصف الليل
ويقوم ثلثه وينام سدسه) فكان يجم نفسه بنوم أول الليل. ثم يقوم في الوقت
الذي ينادي الله فيه. هل من سائل فأعطيه سؤله. كما تواتر عن النبي - صلى
الله عليه وسلم - في التنزل الإلهي "حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول. من
يدعوني فاستجيب له من يسألني فأعطيه. من يستغفرني فأغفر له".
ثم يستدرك عليه السلام بالنوم ما يستريح به من نصب القيام في بقية الليل.
وهو النوم عند السحر. فيستقبل صلاة الصبح وأول النهار بنشاط. وفي الحديث
دلالة ظاهرة على فضيلة قيام ثلث الليل بعد نوم نصفه وذلك حين يسمع الصارخ.
وقد جرت العادة أن الديك يصيح عند نصف الليل غالبًا.
وأحاديث النزول تدل على فضيلة الثلث الآخر وأنه وقت الإجابة والمغفرة،
وتقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - ينام قبل الفجر إذا فرغ من وتره أو يتحدث
مع عائشة.
(وعن أبي هريرة قال كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغب في قيام
(1/304)
رمضان) ويحض عليه ويدل على فضله (من غير أن
يأمر فيه بعزيمة) أي توكيد وإنما هو حث وترغيب فيه وفيه التصريح بعدم وجوب
القيام (فيقول من قام رمضان) أي ليله مصليًا ويحصل بما يصدق عليه القيام.
وحكى الكرماني الاتفاق على أن المراد بقيام رمضان صلاة التراويح وهو قول
الجمهور.
وهي سنة مؤكدة بإجماع المسلمين. حكاه الشيخ وغيره من أعلام الدين الظاهرة
(إيمانًا) بأنها حق معتقدًا فضيلتها (واحتسابًا) مريدًا وجه الله وحده لا
يقصد رؤية الناس ولا غير ذلك مما يخالف الإخلاص (غفر له ما تقدم من ذنبه
متفق عليه) زاد أحمد والنسائي "وما تأخر" قال الحافظ وقد ورد في غفران ما
تقدم من ذنبه وما تأخر عدة أحاديث. ولأحمد بسند ضعيف عن عبد الرحمن بن عوف
موفوعًا "إن الله –عز وجل- فرض صيام رمضان وسننت قيامه. فمن صامه وقامه
إيمانًا واحتسابًا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه".
والحديث دليل على فضيلة قيام رمضان وتأكد استحبابه. وتأكد استحباب صلاة
التراويح، والتراويح جمع ترويحه في الأصل اسم للجلسة مطلقًا ثم سميت بها
الجلسة بعد أربع ركعات أو ركعتين في ليالي رمضان لاستراحة الناس بها. وصلاة
التراويح مشتقة من ذلك.
(ولهما عن عائشة أنه صلى في المسجد فصلى بصلاته ناس
(1/305)
ثم صلى الثانية فكثر الناس ثم اجتمعوا من
الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يخرج إليهم) كما فعل قبل (وقال إني خشيت أن
تفرض عليكم) يعني التراويح (فتعجزوا عنها) وفي لفظ "وذلك في رمضان" وفي
حديث زيد "حتى خشيت أن يكتب عليكم ولو كتب عليكم ما قمتم به".
والحديث دال على سنية صلاة التراويح جماعة في المسجد، ولم يترك ذلك - صلى
الله عليه وسلم - إلا خشية الافتراض. وفي رواية لمسلم "خرج ليلة من جوف
الليل فصلى في المسجد وصلى رجال بصلاته.
فأصبح الناس فتحدثوا. فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه فأصبح الناس
فتحدثوا. فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة فخرج رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فصلى بصلاته. فلما كانت الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج
لصلاة الصبح فلما قضى الصلاة أقبل على الناس فتشهد ثم قال أما بعد فإنه لم
يخف علي مكانكم ولكن خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها" فتوفي رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - والأمر على ذلك.
وللخمسة وصححه الترمذي من حديث أبي ذر قال "لم يصل بنا حتى بقي سبع من
الشهر فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل. ثم لم يقم بنا في الثالثة وقام بنا في
الخامسة حتى ذهب شطر الليل فقلنا لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه فقال أنه من
قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ثم لم يقم بنا حتى بقي ثلاث من
الشهر فصلى بنا في الثالثة ودعًا أهله ونساءه فقام بنا
(1/306)
حتى تخوفنا الفلاح يعني السحور" قال شيخ
الإسلام وغيره.
وكان أصحابه - صلى الله عليه وسلم - يفعلونها في المسجد أوزاعًا في جماعات
متفرقة في عهده على علم منه بذلك وإقراره لهم.
(وجمع عمر الناس على أبي بن كعب رواه البخاري) عن عبد الرحمن بن عبد القاري
قال. خرجت مع عمر بن الخطاب في رمضان إلى المسجد فإذا الناس أوزاع متفرقون
يصلي الرجل لنفسه فيصلي بصلاته الرهط فقال عمر. إني أرى لو جمعت هؤلاء على
قارئ واحد لكان أمثل. ثم عزم فجمعهم على أبي بن كعب وتقدم قوله عليه الصلاة
والسلام "من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة".
فدلت هذه الأخبار وغيرها على أن فعل التراويح جماعة أفضل من الإنفراد. وكذا
إجماع الصحابة وأهل الأمصار على ذلك وهو قول جمهور العلماء. وتجوز فرادى،
واختلف أيهما أفضل للقارئ قال البغوي وغيره الخلاف فيمن يحفظ القرآن ولا
يخاف الكسل عنها لو انفرد. ولا تختل الجماعة بتخلفه فإن فقد أحد هذه الأمور
فالجماعة أفضل بلا خلاف.
وهذا بخلاف ما لا تسن له الجماعة الراتبة كقيامة الليل والسنن الرواتب
وصلاة الضحى وتحية المسجد ونحو ذلك.
فقد قال شيخ الإسلام يجوز جماعة أحيانًا. وأما اتخاذه سنة راتبة فغير مشروع
بل بدعة مكروهة. فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما تطوع بذلك
(1/307)
في جماعة قليلة أحيانًا. وإنما كان يقوم
الليل وحده ولم يكن هو ولا أصحابه ولا التابعون يعتادون الاجتماع لذلك.
اهـ.
ووقت التراويح بعد صلاة العشاء كما تقدم إلى طلوع الفجر الثاني. وإذا أخروا
التراويح أو بعضها أو مدوا القيام إلى آخر الليل فهو أفضل لما تقدم وقال
تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ
قِيلاً} وأولى ذلك العشر الأخير منه وكان الصحابة والتابعون يمدون الصلاة
في العشر الأواخر إلى قرب طلوع الفجر كما جاء ذلك عنهم من غير وجه. ولأبي
داود عن عمر لأن يؤخر القيام إلى آخر الليل سنة المسلمين. وتقدم "أن صلاة
آخر الليل مشهودة وذلك أفضل" ولا نزاع في ذلك
ومن كان له تهجد بعد إمامه أوتر بعد تهجده للأمر بجعل الوتر آخر صلاة
الليل. فإن أحب أن ينصرف من التراويح ويوتر آخر الليل. فعل وإن شفع الوتر
مع إمامه جاز، وإن كان المتهجد إمامًا استخلف من يصلي بهم تلك الركعة، فإذا
سلم قام وشفعها بركعة لينال فضيلة الجماعة وفضيلة جعل وتره آخر صلاته
بالليل.
وقد تقدم أنه - صلى الله عليه وسلم - "كان لا يزيد في رمضان ولا في غيره
على إحدى عشرة ركعة" وفي رواية ثلاث عشرة ركعة وفسرت بركعتين خفيفتين وتقدم
أنه يوتر بتسع. وسبع وخمس وروى مالك والبيهقي وغيرهما أن الناس كانوا
يقومون في زمن عمر في
(1/308)
رمضان بثلاث وعشرين ركعة. واختار الإمام
أحمد وجمهور العلماء عشرين ركعة. لأن صلاة الليل من الطاعات التي كلما زاد
العامل فيها زاد له الأجر بلا نزاع. وهو سنة الخلفاء الراشدين. وقال القاضي
لا خلاف أنه ليس في ذلك حد لا يزاد عليه ولا ينقص منه.
وقال شيخ الإسلام له أن يصليها عشرين كما هو المشهور في مذهب أحمد
والشافعي، وله أن يصليها ستًا وثلاثين كما هو مذهب مالك، وله أن يصلي إحدى
عشرة، وثلاث عشرة وكله حسن. فيكون تكثير الركعات أو تقليلها بحسب طول
القيام وقصره. وقال الأفضل يختلف باختلاف المصلين فإن كان فيهم احتمال لطول
القيام بعشر ركعات وثلاث بعدها كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي
لنفسه في رمضان وغيره فهو الأفضل.
وإن كانوا لا يحتملونه فالقيام بعشرين هو الأفضل. وهو الذي يعمل به أكثر
المسلمين. فإنه وسط بين العشر والأربعين. وإن قام بأربعين وغيرها جاز، ولا
يكره شيء من ذلك. ومن ظن أن قيام رمضان فيه عدد موقت لا يزاد فيه ولا ينقص
منه فقد أخطأ وقد ينشط العبد فيكون الأفضل في حقه تطويل العبادة، وقد لا
ينشط فيكون الأفضل في حقه تخفيفها.
وقال قراءة القرآن في التراويح سنة باتفاق أئمة المسلمين. بل من جل مقصود
التراويح قراءة القرآن فيها ليسمعوا
(1/309)
كلام الله اهـ.
وينبغي أن يحسن صوته بالقرآن لقوله "ليس منا من لم يتغن بالقرآن" والتغني
التحسين والترنم بخشوع وحضور قلب وتدبر وتفهم لكونه أنفع للقلب وأدعى لحصول
الإيمان وذوق حلاوة القرآن وهو مطلوب بلا نزاع من غير مراعاة قوانين النغم
بل بما تقتضيه الطبيعة من غير تكلف ولا تمرين وإن أعان طبيعته بتحسين فحسن
ويتحرى أن يختم القرآن آخر التراويح قبل ركوعه ويدعو. نص عليه أحمد وغيره.
ولشيخ الإسلام في ذلك دعاء جامع شامل وقال روي أن عند كل ختمة دعوة
مستجابة.
(وعن ابن عمر قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "صلاة الليل مثنى
مثنى) أي اثنتين اثنتين. ولمسلم "تسلم من كل ركعتين" وللخمسة "والنهار"
وقال الدارقطني وهم. وقال النسائي والحاكم خطأ لأنه من رواية علي الأزدي
وهو ضعيف. وثبت في أن صلاة النهار ركعتان أحاديث أخر. وقال يحيى بن سعيد
الأنصاري ما أدركت فقهاء أرضنا إلا يسلمون من كل اثنتين من النهار.
والحديث دليل على مشروعية نافلة الليل مثنى مثنى وكذا النهار وإليه ذهب
جماهير العلماء ولا يدل على الحصر ولا يعارض به ما ثبت بأكثر من ركعتين
لوقوعه جواب سؤال لا مفهوم له اتفاقًا. وقد جاءت السنة الصحيحة الصريحة
بالأربع والست. والسبع والثمان، والتسع. وغير ذلك، فلا منافاة
(1/310)
ولا يقتضي الكراهة بأكثر من ركعتين، ولا
تناقض سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن الذي قال صلاة الليل مثنى
مثنى، هو الذي صلى أربعًا فأربعًا، وأوتر بالتسع والسبع، والخمس بل سنة
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصدق بعضها بعضًا.
قال شيخ الإسلام وغيره وكل ما جاءت به السنة فلا كراهة لشيء منه بل هو جائز
اهـ.
والحديث حمله الجمهور على أنه لبيان الأفضلية لما صح من فعله عليه الصلاة
والسلام وقوله. ويحتمل أن يكون للإرشاد إلى الأخف إذ السلام من الركعتين
أخف على المصلي من الأربع فما فوق أو لما فيه من الراحة غالبًا (فإذا خشي
أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى متفق عليه) وفي لفظ "فإذا
خفت الصبح فأوتر بواحدة".
وفيه دليل على مشروعية جعل آخر صلاته بالليل وترًا كما تقدم، وأنه لا يشرع
الوتر بعد خروج الوقت ولمسلم عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"إذا طلع الفجر فقد ذهب وقت كل صلاة الليل والوتر فأوتروا قبل طلوع الفجر"
وله من حديث أبي سعيد "أوتروا قبل أن تصبحوا" ولابن حبان "من أدرك الصبح
ولم يوتر فلا وتر له" وتقدم أنه إذا فاته قضاه من النهار.
وفي هذه الأحاديث وغيرها دلالة واضحة على الاعتناء بشأنه وفي الصحيحين من
حديث عبد الله بن عمرو قال يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم الليل
فترك قيام الليل.
وفيه استحباب الدوام على ما اعتاده المرء من الخير من غير
(1/311)
تفريط. وكان عليه الصلاة والسلام عمله
ديمة. وقالت عائشة "كان إذا عمل عملاً أثبته" قال أحمد ينبغي أن يكون له
ركعات معلومة من الليل والنهار فإذا نشط طولها وإلا خففها لحديث أحب العمل
إلى الله أدومه.
(ولهما عن زيد بن ثابت) بن الضحاك النجاري الخزرجي من علماء الصحابة
والمفتين فيهم وأفرضهم توفي سنة اثنتين وأربعين (أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - قال "أفضل الصلاة صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة) أي الواجبة بأصل
الشرع وهي الصلوات الخمس. ويأتي وجوب الجماعة لهن في المساجد ولابن ماجه من
حديث عبد الله بن سعد سألته أيمًا أفضل الصلاة في بيتي أو الصلاة في المسجد
فقال "ألا ترى إلى بيتي ما أقربه من المسجد فلأن أصلي في بيتي أحب إلي من
أن أصلي في المسجد إلا أن تكون صلاة مكتوبة".
وله عن عمر قال عليه الصلاة والسلام "أما صلاة الرجل في بيته فنور، فنوروا
بيوتكم" ولمسلم من حديث جابر "إذا قضي أحدكم الصلاة في مسجده فليجعله لبيته
نصيبًا من صلاته فإن الله –عز وجل- جاعل في بيته من صلاته خيرًا" وثبت من
غير وجه أن الصلاة السنن الراتبة في البيت أفضل.
وفي الصحيحين "صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا" ولمسلم "لا تجعلوا
بيوتكم مقابر فإن الشيطان يفر من البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة".
(1/312)
وهذا كله مع شرف مسجده - صلى الله عليه
وسلم - والصلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام لأن
فعلها في البيت فضيلة تتعلق بها فإنه سبب لتمام الخشوع والإخلاص وأبعد من
الرياء والإعجاب وشبههما، ويستثنى من ذلك ما تشرع فيه الجماعة. قال الشيخ
ولا ينبغي الجهر نهارًا وليلاً يراعي المصلحة. فإن كان الجهر أنشط في
القراءة أو بحضرته من يستمع لقراءته أو ينتفع بها فالجهر أفضل. وإن كان
بقرب من يتهجد أو يتضرر برفع صوته أو خاف رياء فالإسرار أفضل والنبي - صلى
الله عليه وسلم - ربما أسر وربما جهر، وقال "أيها الناس كلكم يناجي ربه فلا
يجهر بعضكم على بعض بالقراءة".
(وعن عمران بن حصين) بن عبيد بن خلف الخزاعي صحابي ابن صحابي أسلم عام خيبر
أول من قدم البصرة وتوفي بها سنة اثنتين وخمسين (مرفوعًا) أي إلى رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - عن صلاة الرجل قاعدًا في صلاته فقال (من صلى قائمًا
فهو أفضل) ولا ريب أنه أراد النفل فإنه لا نزاع أنه لا تجزئ الفريضة من
قاعد لغير عذر (ومن صلى قاعدًا) يعني في النافلة لغير عذر (فله نصف أجر
صلاة قائم رواه البخاري) وهو إجماع.
وأما من صلى قاعدًا لعذر في فرض أو نفل فقال ابن بطال وغيره لا خلاف بين
العلماء. أنه لا يقال لمن لا يقدر على الشيء لك نصف أجر القادر عليه بل
الآثار الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن
(1/313)
من منعه الله وحبسه عن عمله بمرض أو غيره
يكتب له أجر عمله وهو صحيح. وقال شيخ الإسلام إذا كان من عادته أنه يصلي
قائمًا وإنما قعد لعجزه فإن الله يعطيه أجر القائم لقوله - صلى الله عليه
وسلم - "إذا مرض العبد أو سافر كتب له من العمل ما كان يعمله وهو صحيح
مقيم".
فلو عجز عن الصلاة كلها لمرض كان الله يكتب له أجرها كله لأجل نيته وفعله
بما قدر عليه فكيف إذا عجز عن أفعالها وقال المعذور قسمان. معذور من عادته
ومعذور عكسه، فالأول لا ينقص أجره عن حال صحته وهو مراد الشارع في قوله
"يكتب له ما كان يعمله صحيحًا" وعكسه هو الذي أراده الشارع بالتفضيل. وفي
هذا الحديث من رواية مسلم وغيره "ومن صلى نائمًا فله نصف أجر صلاة قاعد"
وقال الخطابي وغيره لا أحفظ عن أحد من أهل العلم أنه رخص في صلاة التطوع
نائمًا كما رخصوا فيها قاعدًا. ولا أعلم أني سمعت نائمًا إلا في هذا الحديث
وإنما دخل الوهم على ناقلها وتعقبه العراقي.
وقال الشيخ لا يجوز التطوع مضطجعًا لغير عذر ولعذر تصح. ويسجد إن قدر وإلا
أومى. اهـ.
وأجمعوا على جواز التنفل في قعود. ويسن تربعه بمحل قيام وثني رجليه بركوع
وسجود لحديث عائشة "كان يصلي متربعًا" صححه ابن حبان والحاكم. واتفقوا على
أنه يجوز له القيام إذا ابتدأ الصلاة قاعدًا وأنه إن شرع في صلاة تطوع
قائمًا لم يلزمه إتمامها قائمًا.
(1/314)
وإذا أتمها قاعدًا فله نصف أجر صلاة ما قعد
فيه للخبر ولما فيه الصحيحين عنها "كان يقرأ قاعدًا حتى إذا أراد أن يركع
قام فقرأ نحو من ثلاثين آية أو أربعين آية ثم ركع" ولمسلم "يصلي ليلاً
طويلاً قاعدًا، وكان إذا قرأ وهو قائم ركع وسجد وهو قائم وإذا قرأ وهو قاعد
ركع وسجد وهو قاعد". قال أحمد والعمل على تلك الأحاديث يعني في ركوعه عن
قيام أو قعود فهي صحيحة معمول بها عند أهل العلم.
قال الشيخ وتحريه مع قعوده أن يقوم ليركع ويسجد وهو قائم دليل على أنه أفضل
إذ هو أكمل وأعظم خشوعًا لما فيه من هبوط رأسه وأعضائه الساجدة لله من
قيام.
فصل في صلاة الضحى وغيرها
أي في حكم صلاة الضحى وغيرها كالاستخارة والحاجة والتوبة وركعتي الوضوء
وغير ذلك.
(عن أبي هريرة قال أوصاني خليلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثلاث)
خصال هي من أفضل التطوع والخلة أعلى مراتب المحبة وقد خصه - صلى الله عليه
وسلم - بهذه الثلاث (بصيام ثلاثة أيام من كل شهر) والأفضل البيض كما سيأتي
(وركعتي الضحى) أي حضه النبي - صلى الله عليه وسلم - على المداومة على
ركعتين من الضحى لأنه كان يشتغل في الليل بتذكر الحديث واختار الشيخ
المداومة على هاتين الركعتين
لمن لم يقم من الليل لتأكدها في حقه بالأمر الشرعي
(1/315)
(وأن أوتر قبل أن أنام) وتقدم استحبابه لمن
يثق بقيام آخر الليل (متفق عليه).
وعن أنس مرفوعًا: «من قعد في مصلاه حين ينصرف من الصبح حتى يسبح ركعتي
الضحى لا يقول إلا خيرًا غفرت له خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر» رواه أبو
داود. ولابن ماجه من حديث أبي هريرة: «من حافظ على شفعة الضحى يعني ركعتي
الضحى غفرت ذنوبه، وإن كانت ممثل زبد البحر»، ولمسلم عن أبي ذر: «يصبح على
كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة. وكل تهليلة
صدقة. وكل تكبيرة صدقة. وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة. ويجزئ من
ذلك ركعتان يركعهما من الضحى»، ولأحمد عن بريدة نحوه. قال شيخ الإسلام
أقلها ركعتان باتفاق العلماء بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
(ولمسلم عن عائشة: «كان - صلى الله عليه وسلم - يصلي الضحى أربعًا») أي
أربع ركعات (ويزيد ما شاء الله)، وعن نعيم بن حماد مرفوعًا: «إن الله قال
ابن آدم اركع لي أربع ركعات أول النهار أكفِك آخره» رواه الترمذي وغيره.
قال الحاكم: صحبت جماعة من أئمة الحديث يختارون هذه الصلاة.
(ولهما عن أم هانئ) بنت أبي طالب عم النبي - صلى الله عليه وسلم - قيل
اسمها فاختة، وقيل: هند عاشت بعد أخيها علي رضي الله عنها
(1/316)
(أن النبي - صلى الله عليه وسلم - عام
الفتح صلى ثماني ركعات سبحة الضحى) أي نافلة الضحى والسبحة الدعاء وصلاة
التطوع لأنها يسبح بها ولابن حبان عن عائشة دخل بيتي "فصلى الضحى ثماني
ركعات" ولمسلم عنها "ما رأيته يصلي قط سبحة الضحى وأني لأسبحها" ولأحمد
والترمذي وغيرهما من حديث أبي سعيد "كان يصلي الضحى حتى نقول لا يدعها
ويدعها حتى نقول لا يصليها".
وقولها كان يصلي أربعًا لا يدل على المداومة وهي في النفي إنما نفت الرؤية
وأخبرت أنها تفعلها استنادًا على ما بلغها من الحث عليها وفعله لها. وهذه
الأحاديث وغيرها تدل على عظم فضل صلاة الضحى وكبر موقعها وتأكد مشروعيتها.
وحكى النووي وغيره سنيتها عن جمهور السلف وكافة متأخري الفقهاء وهي لا شك
دون السنن الراتبة المؤكدة فلا تلحق بها.
وتقدم أن لشيخ الإسلام قاعدة: أن ما ليس من السنن الرواتب لا يداوم عليه
حتى يلحق بالرواتب وهي دونها فلا تشبه بها, وأكثر ما ثبت من فعله عليه
الصلاة والسلام ثمان ركعات. وعن أنس مرفوعًا "من صلى الضحى اثنتي عشرة ركعة
بني له قصر في الجنة" رواه الترمذي بسند ضعيف وله شواهد وقيل لأحد لأكثرها
وأن الأفضل أربع أو ثمان.
(ولمسلم عن زيد بن أرقم) بن قيس بن النعمان
(1/317)
الخزرجي الأنصاري –رضي الله عنه- توفي
بالكوفة سنة ست وستين (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال "صلاة
الأوابين" أي الرجاعين إلى الله بترك الذنوب وفعل الخيرات يعني الصلاة التي
تميزوا بها وسموا بسببها أوابين (حين ترمض الفصال) بفتح الميم تحترق من
الرمضاء وهو شدة حر الأرض من وقع الشمس على الرمل وغيره فتبرك من شدة الحر
أو تبول في أخفافها وذلك يكون عند ارتفاع الشمس وتأثيرها الحر.
والفصال جمع فصيل وهو ولد الناقة سمي بذلك لفصله عن أمه وفي لفظ أنه خرج
على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال "صلاة الأوابين إذا أرمضت الفصال من
الضحى" وفي لفظ "لقد علموا أن الصلاة في غير هذه الساعة أفضل" ولابن مردويه
وهم يصلون بعد ما ارتفعت الشمس فأول وقتها من ارتفاع الشمس قيد رمح إلى
قبيل الزوال وأفضله إذا تعالى النهار واشتد الحر لهذا الخبر الدال على
فضيلة هذا الوقت ووصفه المصلين فيه بهذا الوصف الجميل.
(وعن جابر: كان - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة) أي دعاء
الاستخارة (في الأمور كلها) وهو دليل على العموم وأن المرء لا يحتقر أمرًا
لصغره وعدم الاهتمام به فيترك الاستخارة فيه فيكون الإقدام عليه أو تركه
ضررًا عظيمًا. ويروى من سعادة
ابن آدم استخارة الله. والمراد قبل العزم على مندوب أو مباح
لا واجب أو محرم (كما تعلمنا السورة من القرآن) أي يعتني
(1/318)
بشأن تعليمنا اهتمامًا بأمر الاستخارة
وترغيبًا فيها لعظم نفعها وعمومه كما يعتني بالسورة فدل على تأكد
استحبابها. قال العراقي لم أجد من قال بوجوبها.
(يقول إذا هم أحدكم بالأمر) أي إذا أراد أمرًا بدون عزيمة كما في رواية ابن
مسعود (فليركع ركعتين) لا تجزئ فيه ركعة واحدة وفي حديث أبي أيوب "ثم صلى
ما كتب له" فدل على جواز الزيادة على الركعتين (من غير الفريضة) وظاهره أنه
لا تحصل السنة بوقوع الدعاء بعد الفريضة وكذا الراتبة ولعله إنما أمره بذلك
بعد حصول الهم بالأمر فإذا صلى راتبة أو فريضة قبله حصل الاستنان.
قال شيخ الإسلام يجوز الدعاء في صلاة الاستخارة وغيرها قبل السلام وبعده.
والدعاء قبل السلام أفضل لأنه قبل السلام لم ينصرف وهو أكثر دعاء النبي -
صلى الله عليه وسلم - (ثم ليقل اللهم إني أستخيرك الحديث) أي اقرأ الحديث،
ولفظه "اللهم إني أستخيرك بعلمك" أي أطلب منك الخير أو الخيرة بأنك أعلم.
وفي الترمذي مرفوعًا "اللهم خر لي واختر لي" وسنده ضعيف "وأستقدرك بقدرتك"
أي أطلب منك أن تجعلني قادرًا عليه "وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا
أقدر وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب". إظهار للعجز والانقطاع وفزع منه
تعالى إليه.
(1/319)
اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ويسمي
حاجته خير لي في ديني ودنياي ومعاشي" أي عيشتي "وعاقبة أمري أو قال عاجل
أمري، وآجله فأقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه وإن كنت تعلم أن هذا الأمر
شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري أو قال عاجل أمري وآجله فأصرفه
عني وأصرفني عنه وأقدر لي الخير حيث كان ثم أرضني به" (رواه البخاري)
والخمسة وغيرهم وقد روي عن غير واحد من الصحابة.
والحديث دليل على مشروعية صلاة الاستخارة والدعاء في آخرها أو بعدها. قال
غير واحد صلاة الاستخارة سنة بلا نزاع وهل يستحب تكرار الصلاة والدعاء؟
روي فيه حديث مرفوع ولا يثبت لكن قد يستدل بتكرار النبي - صلى الله عليه
وسلم - الدعاء ثلاثًا.
قال النووي وغيره وينبغي أن يفعل ما ينشرح له صدره ويستشير وإذا ظهرت
المصلحة فعله.
(وحديث صلاة الحاجة) عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - قال "من كانت له حاجة إلى الله تعالى أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ
ويحسن الوضوء ثم ليصل ركعتين ثم ليثن على الله ويصلي على النبي - صلى الله
عليه وسلم - ثم ليقل لا إله إلا الله العلي العظيم. سبحان الله رب العرش
العظيم. الحمد لله
رب العالمين. أسألك موجبات رحمتك" أي خصالاً تتسبب لرحمتك وتقتضيها بوعدك
"وعزائم مغفرتك والغنيمة من كل
بر والسلامة من كل إثم، لا تدع لي ذنبًا إلا غفرته ولا همًا إلا
(1/320)
فرجته ولا حاجة هي لك رضى مرضية لك إلا
قضيتها يا أرحم الراحمين" ثم يسأل الله من أمر الدنيا والآخرة ما شاء فإنه
قادر سبحانه وتعالى (رواه) ابن ماجه و (الترمذي وقال غريب) وفي إسناده مقال
لأن فائد بن عبد الرحمن يضعف في الحديث ويشهد له حديث عثمان ابن حنيف صححه
الترمذي.
(وعن أبي بكر الصديق) رضي الله عنه واسمه عبد الله بن عثمان بن عامر القرشي
التيمي خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأفضل الصحابة على الإطلاق
وأحبهم إليه توفي سنة ثلاث عشرة وله ثلاث وستون (أن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - قال "ما من رجل يذنب ذنبًا فيتوضأ ويحسن الوضوء) وفي لفظ
فيتطهر فهذه طهارة الظاهر قدمها على طهارة الباطن (فيصلي ركعتين فيستغفر
الله إلا غفر له" رواه الخمسة وحسنه الترمذي وابن كثير وغيرهما وفيه ثم قرأ
{وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ
ذَكَرُواْ اللهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} الآية وله شاهد عند مسلم
وفي الصحيحين "من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيها نفسه غفر
له ما تقدم من ذنبه".
وفي الحديث دليل على مشروعية الصلاة إذا أذنب يتطهر ويصلي ثم يستغفر. وفيه
استيفاء وجوه الطاعة في التوبة لأنه ندم فتطهر ثم صلى ثم استغفر وإذا أتى
بذلك على أكمل الوجوه غفر الله له بوعده الصادق.
(1/321)
وحديث الصلاة عقب الوضوء متفق عليه) من
حديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لبلال عند صلاة الصبح
"يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام فإني سمعت دف نعليك بين يدي في
الجنة؟ قال ما عملت عملاً أرجى عندي إلا أني لم أتطهر طهورًا في ساعة من
ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي" وثبت "ما من مسلم
يتوضأ فيحسن الوضوء ثم يقوم فيصلي ركعتين يقبل عليهما بقلبه ووجهه إلا وجبت
له الجنة". وفيهما الحث على الصلاة عقب الوضوء. قال شيخ الإسلام يستحب أن
يصلي ركعتين عقب الوضوء ولو كان وقت نهي وهو مذهب الشافعي.
تتمة:
قال شيخ الإسلام وأما ليلة النصف من شعبان ففيها فضل، وكان في السلف من
يصليها لكن الاجتماع فيها لإحيائها بدعة. وقال أما إنشاء صلاة بعدد مقدر
وقراءة مقدرة في وقت معين تصلي جماعة راتبة كصلاة الرغائب. والألفية ونصف
شعبان، وسبع وعشرين من رجب وأمثال ذلك فهذا غير مشروع باتفاق علماء
الإسلام. ولا ينشئ مثل هذا إلا جاهل مبتدع، وفتح مثل هذا الباب يوجب تغيير
شرائع الإسلام.
وقال أيضًا لا أصل لها بل هي محدثة لا جماعة ولا فرادى.
(1/322)
والأثر الذي ذكر فيها كذب موضوع باتفاق
العلماء. وقال النووي صلاة الرغائب والألفية بدعتان مذمومتان ومنكرتان
قبيحتان فلا تغتروا بذكرهما ولا بالحديث المذكور فيهما فإن ذلك باطل.
والرغائب أول جمعة من رجب قال شيخ الإسلام: وصلاة التسبيح نص أحمد وأئمة
أصحابه على كراهيتها ولم يستحبها إمام وأما أبو حنيفة ومالك والشافعي فلم
يسمعوا بها بالكلية ولم ينقل أحد من الأئمة أنه يجوز أن يجعل الشيء واجبًا
أو مستحبًا بحديث ضعيف. ومن قال هذا فقد خالف الإجماع.
وقال العمل بالخبر الضعيف لا يجوز بمعنى أن النفس ترجو ذلك الثواب أو تخاف
ذلك العقاب، ومثله الترغيب والترهيب بالإسرائيليات والمنامات ونحو ذلك مما
لا يجوز بمجرده إثبات حكم شرعي لا استحباب ولا غيره. لكن يجوز ذلك في
الترغيب والترهيب فيما علم حسنه أو قبحه بأدلة الشرع فإنه ينفع ولا يضر
واعتقاد موجبه يتوقف على الدليل الشرعي.
فصل في سجود التلاوة والشكر
أي في أحكام سجود التلاوة وأحكام سجود الشكر، وذلك أن الله تعالى شرعهما
عبودية عند تلاوة تلك الآيات واستماعها وقربة إليه وشكرًا له عند تجدد نعمة
واندفاع نقمة وخضوعًا له وتذللاً بين يديه في مقابلة فرحة النعمة وانبساط
النفس لها. وتقدم حديث: "إنك لن تسجد لله سجدة إلا
(1/323)
رفعك الله بها درجة. وحط بها عنك خطيئة".
وحديث "إذا سجد ابن آدم اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويلاه أمر بالسجود فسجد
فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار".
وفي فضل السجود أحاديث كثيرة لما فيه من التذلل والخضوع لله.
قال ابن القيم: ومواضع السجدات أخبار وأوامر خبر من الله عن سجود مخلوقاته
له عمومًا أو خصوصًا فسن للتالي والسامع أن يتشبه بهم عند تلاوة آية السجدة
أو سماعها وآيات الأوامر بطريق الأولى.
(عن ابن عمر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ علينا السورة) يعني
من القرآن (فيقرأ السجدة) وفي لفظ "فيها السجدة (فيسجد ونسجد معه حتى ما
يجد أحدنا مكانًا لموضع جبهته) يعني من شدة الزحام (متفق عليه) قال أبن عمر
حتى يسجد على ظهر أخيه. والحديث دليل على مشروعية سجود التلاوة وهو عند
الجمهور سنة وعند أبي حنيفة واجب. وهو رواية عن أحمد واختاره الشيخ وغيره.
قال وهو مذهب طائفة من العلماء. وقال ابن بطال وأجمعوا على أن القارئ إذا
سجد لزم المستمع أن يسجد اهـ.
ولا يسن لسامع الذي لم يقصد الاستماع قال عثمان إنما السجدة على من استمع
ونحوه عن ابن مسعود وابن عمر وابن عباس ولا يعرف لهم مخالف وهو مذهب
الجمهور. ولأبي داود
(1/324)
"كبر وسجد وسجدنا معه" وفيه ضعف.
وللحاكم نحوه من طريق آخر على شرط الشيخين "ويرفع يديه" ندبًا لا في صلاة
وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي لقول ابن عمر ولا يفعل ذلك في السجود وهو
المذهب صرح به ابن القيم وغيره. وقال في الفروع كسجود نافلة فيما يعتبر له
اتفاقًا واحتج الأصحاب بأنه صلاة فيدخل في العموم.
وخالف شيخنا قال: ولا يشرع فيه تحريم ولا تحليل. هذا هو السنة المعروفة عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليها عامة السلف.
وقال أحمد أما التسليم فلا أدري ما هو. قال ابن القيم وهذا هو الصواب الذي
لا ينبغي غيره. ولا نقل فيه تشهد ولا سلام البتة ولا جلوس. وعلى هذا فليس
بصلاة فلا يشترط له شروط الصلاة بل يجوز وإن كان على غير طهارة وكان ابن
عمر يسجد على غير طهارة وهو مفهوم الخبر واختاره البخاري. لكن السجود بشروط
الصلاة أفضل. ولا ينبغي أن يخل بذلك إلا لعذر فالسجود بشروط الصلاة أفضل.
ولا ينبغي أن يخل بذلك إلا لعذر فالسجود بلا طهارة خير من الإخلال به. لكن
قد يقال إنه لا يجب في هذه الحال كما لا يجب على السامع ولا على من لم يسجد
قارؤه. وإن كان ذلك السجود جائزًا عند جمهور العلماء.
وقال غير واحد ليس في أحاديث السجود ما يدل على اعتبار أن يكون الساجد
متوضئًا. وليس بصلاة من كل وجه قال ابن جرير ليس بركعة ولا ركعتين فيجوز
بلا وضوء وللجنب والحائض وإلى غير القبلة كسائر الذكر.
(1/325)
ولم يأت بإيجابه لغير الصلاة قرآن ولا سنة
ولا إجماع ولا قياس وقال ابن القيم القول الثاني لا يشترط وهو قول كثير من
السلف حكاه ابن بطال. وقالوا ليس في اشتراط الطهارة له كتاب ولا سنة ولا
إجماع ولا قياس. اهـ.
وكان يسجد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من حضره. ولم ينقل أنه أمر
أحدًا منهم بالوضوء. وليس فيها أيضًا ما يدل على طهارة المصلي. قال في
الفروع وأما ستر العورة والاستقبال مع الإمكان فمعتبر اتفاقًا وسجود عن
قيام أفضل كصلاة النفل لما فيه من كمال الخضوع. قال الشيخ بل سجود التلاوة
قائمًا أفضل منه قاعدًا كما ذكره من ذكره من العلماء من أصحاب الشافعي
وأحمد وغيرهما. وكما نقل عن عائشة. وكذا سجود الشكر كما رواه أبو داود في
سننه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من سجوده للشكر قائمًا وهذا ظاهر في
الاعتبار قال تعالى: {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا} {وَخَرَّ
رَاكِعًا} {فَلَمَّا خَرَّ} وهو عن قيام.
(وللبخاري عن عمر أن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء) أي السجود فهو
موكول إلى مشيئتنا. وله عنه أنه قرأ على المنبر سورة النحل حتى جاء السجدة
فنزل وسجد وسجد الناس حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها حتى إذا جاء
السجدة قال أيها الناس إنا لم نؤمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب أي السنة ومن
لم يسجد فلا إثم عليه.
(1/326)
وخبر عمر في هذا الموطن العظيم والجمع
العميم دليل ظاهر في إجماعهم على أنه ليس بواجب. ولأن الأصل عدم الوجوب حتى
يثبت دليل صحيح صريح في الأمر به. وفي الصحيحين عن زيد بن ثابت قرأت على
النبي - صلى الله عليه وسلم - النجم فلم يسجد فيها. ويأتي أنه سجد فيها
ففعله تارة وتركه تارة يدل على السنة. قال الحافظ وأولى الاحتمالات أنه
لبيان الجواز.
(وله عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد بالنجم) ولهما عن
ابن مسعود قرأ "والنجم فسجد من كان معه" والسجود فيها مذهب الجمهور.
(ولمسلم عن أبي هريرة: سجدنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في (إذا
السماء انشقت) و (اقرأ باسم ربك) ورواه الخمسة وغيرهم وهو مذهب جمهور أهل
العلم من الصحابة والتابعين وإنما خالف بعض المالكية. وذكر قولاً للشافعي
في القديم، ولهما عن أبي هريرة "أنه سجد خلف النبي - صلى الله عليه وسلم -
في إذا السماء انشقت" وقال الطحاوي تواترت الآثار عنه - صلى الله عليه وسلم
- بالسجود في المفصل وقال ابن عبد البر وأي عمل يدعى مع مخالفة النبي –صلى
الله عليه وسلم- والخلفاء الراشدين بعده. وذكر الحافظ أن في رواية أبي
الأشعث عن معمر التصريح بأن سجود النبي - صلى الله عليه وسلم - في (إذا
السماء انشقت) كان داخل الصلاة. وإلى ذلك ذهب جمهور العلماء ولم يفرقوا بين
صلاة الفريضة والنافلة.
(1/327)
وقال أجمعوا على أنه يسجد في عشرة مواضع
وهي متوالية إلا ثانية الحج. وص وأما سجود المفصل فتقدم أنه ثابت في الصحيح
وهو مذهب جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين. وخالف بعضهم في سجدة آخر
الحج وص. وعن عمرو بن العاص قال "أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
خمس عشرة سجدة في القرآن منها ثلاث في المفصل. وفي الحج سجدتان" رواه أبو
داود والحاكم وحسنه النووي والمنذري وتكلم فيه الحافظ وغيره. ولأبي داود
وغيره من حديث عقبة بن عامر قلت يا رسول الله أفي سورة الحج سجدتان قال
"نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأها" ولفظ حديث خالد "فضلت بسجدتين".
(وعن ابن عباس: ليست ص من عزائم السجود) أي لم يرد فيها تحريض ولا حديث
فليست مما سنه منها (وقد رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسجد فيها
رواه البخاري)
وسئل ابن عباس من أين أخذت السجود في ص قال من قوله تعالى: إلى قوله:
{وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} إلى قوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فدل
على أنه أخذه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وسمعه واستنبطه من الآية.
وللنسائي مرفوعًا "سجد في ص، وقال سجدها داود توبة ونسجدها شكرًا ولأبي
داود وغيره من حديث أبي سعيد "نزل عن المنبر وسجد سجد الناس معه" ولما
بلغها يومًا آخر نشزوا للسجود فقال: "إنما هي توبة نبي ولكن رأيتكم نشزتم
للسجود فسجد وسجدوا.
(1/328)
وجاء عن جماعة من الصحابة أنهم سجدوا فيها.
فينبغي سجودها خارج الصلاة كما هو قول الجمهور. لا في الصلاة خروجًا من
الخلاف. كما أنه لا ينبغي السجود في الصلاة السرية خشية الإبهام والتخليط
على المأموم.
(وعن عائشة: كان - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجود القرآن) بالليل (سجد
وجهي لله الذي خلقه) زاد البيهقي: وصوره (وشق) أي فتح (سمعه وبصره) حتى
جعله يسمع ويبصر "بحوله وقوته" رواه الخمسة وغيرهم إلا ابن ماجه و (صححه
الترمذي) وابن السكن وزاد الحاكم "فتبارك الله أحسن الخالقين" ولمسلم نحوه
من حديث علي وتقدم في الصلاة.
وللترمذي وغيره عن ابن عباس "اللهم حط عني بها وزرًا وأكتب لي بها عندك
أجرًا وأجعلها لي عندك ذخرًا وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود عليه
السلام" وفيهما مشروعية الذكر في سجود التلاوة بما اشتملا عليه ويقول
قبلهما سبحان ربي الأعلى كما يقول في سجود صلب الصلاة.
(وعن أبي بكرة) نفيع بن مسروح ويقال ابن الحارث بن عمرو الثقفي تدلى في
بكرة مع غلمان من أهل الطائف
توفي سنة إحدى وخمسين رضي الله عنه (إن النبي - صلى الله عليه وسلم -
كان إذا أتاه أمر يسره) ظاهره خاصًا كان أو عامًا
(1/329)
(خر ساجدًا لله" رواه الخمسة إلا النسائي
وحسنه الترمذي) وقال غريب ولفظ أحمد: أنه شهد النبي - صلى الله عليه وسلم -
أتاه بشير يبشره بظفر جند له على عدوهم ورأسه في حجر عائشة "فقام فخر
ساجدًا فأطال السجود ثم رفع رأسه فتوجه عند صدفته فدخل فاستقبل القبلة".
وله من حديث عبد الرحمن بن عوف نحوه وفيه: "إن جبريل أتاني فبشرني فقال إن
الله –عز وجل- يقول لك من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت عليه فسجدت
شكرًا" ولأبي داود عن سعد بن أبي وقاص قال خرجنا مع النبي - صلى الله عليه
وسلم - من مكة نريد المدينة فلما كنا قريبًا من عزوراء "نزل ثم رفع يديه
ساعة ثم خر ساجدًا فعله ثلاثًا. وقال "إني سألت ربي وشفعت لأمتي فأعطاني
الثلث الآخر فخررت ساجدًا" وذكر الثالثة كذلك.
(وعن البراء بن عازب) بن حارث الأنصاري الأوسي مات بالكوفة سنة اثنتين
وسبعين (في كتاب علي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسلام همدان) وكان
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه إلى اليمن معلمًا لهم ولما أسلموا
وانقادوا كتب علي –رضي الله عنه- إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بخبر إسلامهم (قال) البراء -رضي الله عنه- (لما قرأه)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (خر ساجدًا شكرًا لله) على ذلك رواه
البيهقي وغيره و (صححه المنذري) الحافظ الحجة زكي
(1/330)
الدين عبد العظيم بن عبد القوي بن عبد الله
المشهور بالمنذري المتوفي سنة ست وخمسين وستمائة.
وفي الصحيحين قصة سجود كعب بن مالك في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -
لما بشر بتوبة الله عليه. وروى سعيد بن منصور وغيره سجود أبي بكر لما جاءه
خبر قتل مسيلمة وسجد علي لما وجد ذا الثدية في الخوارج. وذلك يدل على أن
مشروعية سجود الشكر كانت متقررة عندهم وهو مذهب جمهور العلماء. وروي عن
مالك كراهته وأبي حنيفة والثانية عنه إباحته وهذا عنهما رحمهما الله غريب
لاستفاضته عنه - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه من طرق كثيرة تقوم بها
الحجة.
وقال ابن القيم لو لم تأت النصوص بالسجود عند تجدد النعم لكان هو محض
القياس ومقتضى عبودية الرغبة. كما أن السجود عند الآيات مقتضي عبودية
الرهبة. اهـ. فلا مرية في مشروعية سجود الشكر في غير الصلاة عند تجدد النعم
سواء كانت خاصة أو عامة دينية أو دنيوية. كتجدد ولد أو مال أو جاه أو نصرة
على عدو أو غير ذلك من سائر النعم أو اندفاع النقم.
شكرًا لله عليها وخضوعًا له وتذللاً بين يديه في مقابلة فرحة النعمة
وانبساط النفس لها. لا دوام النعمة لأنه لا ينقطع. فلو شرع له السجود
لاستغرق عمره وشكرها بالطاعات.
قال شيخ الإسلام ولو أراد الدعاء فعفر وجهه لله بالتراب
(1/331)
وسجد له ليدعوه فيه فهذا سجود لأجل الدعاء
ولا شيء يمنعه. وابن عباس سجد لما جاء نعي بعض أزواج النبي - صلى الله عليه
وسلم - وقد قال عليه الصلاة والسلام "إذا رأيتم آية فاسجدوا" قال وهذا يدل
على أن السجود يشرع عند الآيات فالمكروه هو السجود بلا سبب.
فصل في أوقات النهي
أي في ذكر أحكام أوقات النهي وما يباح من الصلاة فيها.
(عن أبي سعيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لا صلاة) أي لا تصلوا
النافلة (بعد الصبح) أي صلاته أو طلوعه وفي لفظ "لا صلاة بعد صلاة الفجر".
ومن حديث عمر وأبي هريرة "بعد الفجر" وفي لفظ عن عمر "بعد صلاة الصبح" (حتى
تطلع الشمس) أي ترتفع وتشرق ليس المراد مجرد ظهور القرص. ولأحمد وغيره عن
ابن عمر "إذا طلع الفجر فلا صلاة إلا ركعتي الفجر" احتج به أحمد وقال
الترمذي: هو ما أجمع عليه أهل العلم كرهوا أن يصلي الرجل بعد طلوع الفجر
إلا ركعتي الفجر وفي الصحيحين "إذا طلع الفجر لم يصل إلا ركعتين خفيفتين"
قال شيخ الإسلام: وليس بعد طلوع الفجر والفريضة
(1/332)
سنة إلا ركعتان اهـ؛ وادعى النووي الإجماع
على ذلك وذهب مالك والشافعي وهو رواية عن أحمد أن النهي متعلق بفعل الصلاة
وأن الوتر يقضى قبل صلاة الفجر لقوله: "لا صلاة بعد صلاة الفجر" وقد يقال
المراد بصلاة الصبح فيما قبل وقتها فهو بمعنى طلوع الفجر فتتفق الأدلة.
وأما قضاء ركعتي الفجر بعدها فجائز لحديث قيس واختار أحمد: أن يقضيها من
الضحى.
(ولا صلاة بعد العصر) وفي لفظ: بعد صلاة العصر (حتى تغيب الشمس متفق عليه)
والأحاديث في النهي عن الصلاة في هذين الوقتين مستفيضة عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - وأجمعوا على أنه لا صلاة بعد العصر حتى تغيب الشمس. والاعتبار
بالفراغ منها لا بالشروع فيها فمن لم يصل العصر أبيح له التنفل. وإن صلى
غيره قال في المبدع بغير خلاف نعلمه. وكذا لو أحرم بها ثم قلبها نفلاً أو
قطعها لعذر لم يمنع من التطوع حتى يصليها.
ومن صلاها فليس له التنقل ولو صلى وحده. وتقضي سنة الظهر بعدها لما في
الصحيحين "أنه قضى سنة الظهر بعد العصر" وأما التطوع بعدها بركعتين ففي
صحيح مسلم وغيره كان عمر يضرب عليهما بمحضر من الصحابة فكان إجماعًا.
(ولمسلم عن عقبة بن عامر) بن عمرو بن قيس
الجهني ولي إمارة مصر وتوفي بها سنة ثمان وخمسين (قال ثلاث ساعات نهانا
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي فيهن) أي نافلة (وأن
(1/333)
نقبر) بضم وتكسر أي ندفن (فيهن موتانا) قال
البغوي والنووي والشيخ وغيرهم معناه تعمد تأخير الدفن إلى هذه الأوقات
وضعفوا قول من قال إنه الصلاة لأن الصلاة على الجنازة لا تكره في هذه
الأوقات إجماعًا وبين الثلاث الساعات.
فقال: (حين تطلع الشمس بازغة) أي ظاهرة (حتى ترتفع) أي قيد رمح في رأي
العين (وحين يقوم قائم الظهيرة) وهو البعير يكون باركًا فيقوم من شدة الحر.
والظهيرة شدة الحر وقيل حين لا يبقى للقائم ظل أو قيام الشمس وقت الزوال
لتخيل المتأمل إنها وقفت وهي سائرة (وحين تضيف) أي تميل (الشمس للغروب حتى
تغرب) وفي الصحيح من حديث ابن عمر إذا طلع حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى
ترتفع وإذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب.
ولمسلم عن عمرو بن عبسة قلت: يا نبي الله أخبرني عن الصلاة. قال: "صل صلاة
الصبح ثم أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس وترتفع فإنها تطلع حين تطلع بين
قرني شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار ثم صل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى
يستقل الظل بالرمح ثم أقصر عن الصلاة فإنها حينئذ
تسجر جهنم. فإذا أقبل الفيء فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى تصلي العصر
ثم اقصر عن الصلاة حتى تغرب
(1/334)
الشمس فإنها تغرب بين قرني شيطان. وحينئذ
يسجد لها الكفار.
وهذه الأحاديث وما في معناها تدل على تحريم الصلاة في هذه الأوقات. والحاصل
أن هذه الأوقات المنهي عن الصلاة فيها ترجع إلى ثلاثة فأما ما بعد الصبح
إلى طلوع الشمس وما بعد العصر إلى غروبها فمتواتر. وأما وقت قيام الشمس
ففيه أربعة أحاديث. حديثة عقبة وعمرو وأبي هريرة عند ابن ماجه والصنابحي في
الموطأ. وعد بعضهم أيضًا وقتين عند طلوع الشمس حتى ترتفع وعند غروبها حتى
تتم لهذه الأخبار وغيرها فتكون خمسة. ولعل الاختلاف في الألفاظ وقع من
الرواة.
ولا نزاع بين أهل العلم في أنه لا يجوز أن يبتدئ في هذه الأوقات تطوعًا لا
سبب له للآثار المستفيضة في النهي عن ذلك. وثبت من حديث عائشة وابن عمر "لا
تحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فتصلوا عند ذلك" أي لا يقصد أحدكم
الصلاة عند ذلك لأن الكفار يسجدون لها في هذين الوقتين فنهينا عن ذلك سدًا
لذريعة المشابهة الظاهرة التي هي ذريعة إلى مشابهتهم في القصد.
وأما ذوات الأسباب فتفعل فيها للأدلة الدالة على ذلك وهي تخص عموم النهي
واستثني يوم الجمعة بسند ضعيف عن أبي قتادة "كره الصلاة نصف النهار إلا يوم
الجمعة وقال إن
(1/335)
جهنم تسجر إلا يوم الجمعة" وقال أبو داود
مرسل ومن حديث أبي هريرة عند الشافعي إلا يوم الجمعة وهو ضعيف أيضًا ولكن
يؤيده فعل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنهم كانوا يصلون نصف
النهار يوم الجمعة. وحث النبي - صلى الله عليه وسلم - على التبكير إليها
والترغيب في الصلاة إلى خروج الإمام وعده ابن القيم وغيره من خصائصها.
(وعن جبير بن مطعم) بن عدي بن نوفل القرشي أسلم بعد الفتح يقال توفي سنة
أربع أو سبع وخمسين (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال يا بني عبد
مناف) بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي القرشيين وكانوا ولاة الحرم
الشريف (لا تمنعوا أحدًا طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار
رواه الخمسة) وغيرهم وهذا إذن منه - صلى الله عليه وسلم - في فعل الطواف
وركعتيه في جميع أوقات النهي.
وقال ابن عمر افعل كما رأيت أصحابي يفعلون فكان يصلي إثر الطواف بعد الصبح.
وقبل طلوع الشمس. وبعد العصر قبل غروب الشمس. وهذا مذهب الشافعي وأحمد. وعن
ابن عباس مرفوعًا " يا بني عبد المطلب" وهو ابن هاشم القرشي.
"أو يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحدًا يطوف بهذا البيت ويصلي" الحديث رواه
الدارقطني وهو معلول وفي حديث أبي ذر عند الشافعي إلا بمكة وفيه عبد الله
بن مؤمل وهذا الحديث مما أنكر عليه ولو صحا لكان دليلاً على جواز النافلة
عند البيت مطلقًا
(1/336)
فيخص من النهي ركعتا الطواف كما يخص غيرها
مما له سبب للإجماع على تحريم إنشاء تطوع في أوقات النهي ولم يخصوا مكة ولا
غيرها وبه تتفق الأدلة.
(ولهم) وغيرهم (إلا ابن ماجه عن يزيد بن الأسود) العامري السواءي ويقال
الخزاعي حليف قريش –رضي الله عنه- (في الذين لم يصليا الفجر مع رسول الله -
صلى الله عليه وسلم -) ولفظه قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- الفجر فلما قضى صلاته إذا هو برجلين لم يصليا معه فقال: "ما منعكما أن
تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله قد صلينا في رحالنا" (قال: لا تفعلا إذا
صليتما في رحالكما) أي في منازلكما.
(ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم) ولابن حبان "ثم أدركتما الصلاة فصليا"
ولفظ أبي داود "إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام ولم يصل فليصل معه"
ويأتي حديث أبي ذر "صل الصلاة لوقتها فإن أقيمت وأنت في المسجد فصل ولا تقل
إني صليت فلا أصلي (فإنها لكما نافلة) وفي التصريح بأن الثانية في الصلاة
المعادة نافلة سواء كانت الأولى جامعة أو فرادى لعدم الإستفصال (صححهما
الترمذي).
ولهذا شواهد كلها تدل على مشروعية الدخول مع الجماعة بنية التطوع لمن كان
قد صلى تلك الصلاة وإن كان وقت نهي للتصريح بأن ذلك كان في صلاة الصبح ولو
وجدهم يصلون
(1/337)
وهذا مذهب أحمد والشافعي واختاره ابن القيم
وغيره. قيل لأحمد فيمن صلى جماعة ثم دخل المسجد وهم يصلون أيصلي معهم قال:
نعم ولئلا يتخذ قعوده ذريعة إلى إساءة الظن به وأنه ليس من المصلين.
وتقدم قوله - صلى الله عليه وسلم - "من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل أن
تغرب الشمس فليتم صلاته" وتقدم أيضًا قصة نومهم عن صلاة الفجر وأن قضاء
الصلاة في أوقات النهي أمر مجمع عليه.
وتقدم أيضًا قوله: "إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين" وأنه
حكى النووي إجماع المسلمين على سنيتها في جميع الأوقات وصحح الشيخ وغيره
قول من استحب ذلك.
وإن الحديث عام لم يخص فلا يجوز تخصيصه بعموم مخصوص.
ويأتي قوله - صلى الله عليه وسلم - للداخل يوم الجمعة حال الخطبة بعد أن
قعد "قم فصل ركعتين" ولو كانت تترك في وقت لكان هذا الوقت أولى لأنه يمنع
حال الخطبة من الصلاة لا التحية. وكل هذا مبالغة في تعميم التحية. فكل ما
له سبب من جميع ما تقدم وما يأتي يجوز فعله في أوقات النهي. قال الشيخ
وغيره هذا مذهب أهل الحديث وأهل التحقيق من أتباع الأئمة حملوا أحاديث
النهي على مالا سبب له.
وأما ذوات الأسباب فتفعل في أوقات النهي للأدلة الدالة على ذلك وهي تخص
عموم النهي كما خص منه صلاة الجنائز
(1/338)
باتفاق المسلمين. وقضاء الفوائت. والداخل
حال الخطبة. ومن منع ذلك قيل له: جوزت الصلاة وقت الخطبة وهو وقت نهي
باتفاق العلماء. وكذا إعادة الجماعة وقضاء الفوائت ومنعت ما سواهما مما له
سبب فلم تعمل بأحاديث النهي على ظاهرها بل خالفت ظاهرها في بعض دون بعض.
وقال: ويستحب أن يصلي ركعتين عقب الوضوء ولو كانت وقت نهي للخبر المتقدم
ولئلا يبقى الوضوء خاليًا عن مقصوده.
وتصلي صلاة الاستخارة في وقت النهي في أمر يفوت بالتأخير إلى وقت الإباحة
وغير ذلك مما هو أعم من أحاديث النهي. وحيث ثبت قضاؤه الركعتين وإقراره
الذي صلى بعد الفجر ركعتي الفجر وغير ذلك مما مر وغيره مع أنه لا يفوت
بالتأخير فما له سبب يفوت بالتأخير أولى.
باب صلاة الجماعة
أي باب بيان أحكام الجماعة في الصلاة ومن الأولى بالإمامة وموقف الإمام
والمأموم وما يبيح ترك الجماعة من الأعذار وما يتعلق بذلك، وفصلت أحكام
الجماعة لأنها صفة زائدة على ماهية الصلاة وسميت جماعة لاجتماع المصلين في
الفعل مكانًا وزمانًا فإذا أخلوا بهما أو بأحدهما لغير عذر كان ذلك منهيًا
عنه باتفاق الأئمة.
واتفق المسلمون على أن الصلوات الخمس في المساجد
(1/339)
جماعة من أوكد العبادات وأجل الطاعات وأعظم
القربات بل وأعظم شعائر الإسلام شرعها الله –عز وجل- لهذه الأمة ببركة
نبيها محمد – - صلى الله عليه وسلم - لأجل التواصل والتوادد وعدم التقاطع
وعموم البركة ومضاعفة الثواب وزيادة العمل عند مشاهدة أولي الجد وغير ذلك
من الحكم، وشرع أيضًا اجتماعات معلومة منها الجمعة والعيدان والوقوف بعرفة.
وبرهان وجوب الجماعة للصلوات الخمس الكتاب والسنة والآثار والاعتبار وعمل
المسلمين قرنًا بعد قرن وموجب عمارة المساجد وفرض النداء لها وغير ذلك.
(قال تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ} أي
فصليت بهم إمامًا في صلاة الخوف {فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ}
الآية وذكر حالة الاجتماع والائتمام بإمام واحد ويأتي. قال ابن كثير وما
أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية حيث اغتفرت أفعال
كثيرة لأجل الجماعة فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك. قال الشيخ فإن الجماعة
يعني في صلاة الخوف يترك لها أكثر واجبات الصلاة فلولا وجوبها لم يؤمر بترك
الواجبات لها. اهـ.
فأمر تعالى بالجماعة أولاً ثم أمر بها ثانيًا ولم يرخص لهم حال الخوف فلو
كانت سنة لكان أولى الأعذار بسقوطها عذر الخوف ولو كانت فرض كفاية لسقطت
بفعل الطائفة الأولى فدلت هذه الآية وكذا الأحاديث الآتية في صلاة الخوف
وغيرها على وجوبها
(1/340)
على الأعيان وقال تعالى: {وَأَقِيمُواْ
الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِين} والسياق
يدل على اختصاص الركوع بذلك وخص الركوع لأنه تدرك به الصلاة فليس إلا فعلها
مع المصلين. وإطلاق البعض على الكل كثير فالمراد وصلوا مع المصلين والأمر
المقيد بصفة أو حال لا يكون المأمور ممتثلاً إلا بالإتيان به على تلك الصفة
والحال.
وقال تعالى: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وقال:
{وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُون} ونحو صلاة
الخوف الجمع بين الصلاتين في المطر لأجل تحصيل الجماعة مع أن إحدى الصلاتين
قد وقعت خارج الوقت والوقت شرط فلو لم تكن الجماعة واجبة لما ترك لها
الوقت.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال
والذي نفسي بيده) فيه إثبات صفة اليد له تعالى على ما يليق بجلاله تعالى
وعظمته من غير تمثيل (لقد هممت) هو جواب القسم والإقسام منه – - صلى الله
عليه وسلم - لبيان عظم شأن ما يذكره زجرًا عن ترك الجماعة أي عزمت (أن آمر
بحطب فيحتطب ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ثم أخالف)
أي آتي (إلى رجال لا يشهدون الصلاة) أي لا يحضرون الجماعة (فأحرق عليهم
بيوتهم بالنار متفق عليه).
وفي لفظ "ثم أنطلق معي برجال معهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة
فأحرق عليهم بيوتهم بالنار" وأحرق
(1/341)
بالتشديد يقال حرقه إذا بالغ في تحريقه.
وإنما منعه – - صلى الله عليه وسلم - من تحريق المتخلفين ما في البيوت من
النساء والذرية الذين لا تجب عليهم الجماعة. ولابن ماجه "لينتهين رجال عن
تركهم الجماعات أو لأحرقن بيوتهم" وأول الحديث "أثقل الصلاة على المنافقين
صلاة العشاء وصلاة الفجر" لأنهما وقت السكون والراحة ولذة النوم وليس لهم
داع.
"ولو يعلمون ما فيهما" يعني من مزيد الفضل "لأتوهما" أي لأتوا المحل الذي
يصليان فيه جماعة "ولو حبوا" على المرافق والركب إذا منعهم مانع من المشي
وهو شاهد لأثر ابن مسعود الآتي ولفضيلة الجماعة قال الحافظ وهذا الحديث
ظاهر في كونها فرض عين لأنها لو كانت سنة لم يهدد تاركها بالتحريق ولو كانت
فرض كفاية لكانت قائمة بالرسول – - صلى الله عليه وسلم - ومن معه، وكون
الشيء واجبًا لا ينافي كونه فضيلة.
(ولمسلم قال أتى النبي – - صلى الله عليه وسلم - رجل أعمى) هو ابن أم مكتوم
(فقال: ليس لي قائد يقودني إلى المسجد) ولأحمد وأبي داود وغيرهما عنه أنه
قال: "أنا ضرير شاسع الدار ولي قائد لا يلائمني فهل تجد لي رخصة أن أصلي في
بيتي" والرخصة التسهيل في الأمر والتيسير (فرخص له) أي في عدم إتيان المسجد
(فلما ولى دعاه فقال هل تسمع النداء بالصلاة قال نعم قال فأجب) ولفظ أحمد
وأبي داود قال: "أتسمع النداء" قال: نعم قال: "ما أجد لك رخصة".
(1/342)
قال شيخ الإسلام وهذا نص في إيجاب الجماعة
اهـ. ويأتي قوله: "فليؤمكما أكبركما" ولمسلم "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم
أحدهم" وهو أمر ظاهر الوجوب. وقوله: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد"
وقواه عبد الحق. وفي السنن: "من سمع النداء ثم لم يجب من غير عذر فلا صلاة
له" قال الشيخ هذا يقتضي أن النداء والصلاة في الجماعة من الواجبات.
(وله عن ابن مسعود: لقد رأيتنا) يعني أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم -
الذين هم أعمق الناس علمًا وأغزرهم فهمًا شاهدوا التنزيل وعلموا التأويل
اختارهم الله لصحبة نبيه ولحفظ دينه. وأول الأثر قال من سره أن يلقى الله
غدًا مسلمًا فليصل هذه الصلوات الخمس حيث ينادي بهن فإن الله شرع لنبيه سنن
الهدى. وإن هذه الصلوات الخمس في المساجد التي ينادي بهن من سنن الهدى.
وإنكم لو صليتم في بيوتكم كما صلى هذا المتخلف في بيته لتركتم سنة نبيكم.
ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم.
ولقد رأيتنا (وما يتخلف عنها) يعني الصلوات الخمس (إلا منافق معلوم النفاق)
قال تعالى: {وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى} (ولقد كان
الرجل يؤتى به) يعني إلى الجماعة (يهادي بين الرجلين) أي يمسكه رجلان من
جانبيه بعضديه يعتمد عليهما (حتى يقام في الصف) لتأكد حضورها.
(1/343)
وهذا دليل ظاهر على استقرار وجوبه عند
أصحاب النبي – - صلى الله عليه وسلم - ومعلوم أن كل أمر لا يتخلف عنه إلا
منافق لا يكون إلا واجبًا على الأعيان. قال شيخ الإسلام وهو المشهور عن
أحمد وغيره من أئمة السلف وفقهاء الحديث وغيرهم. ولأحمد وغيره مرفوعًا
"الجفا كل الجفا والكفر والنفاق من سمع منادي الله ينادي إلى الصلاة فلا
يجيبه" وثبت حديث "يد الله على الجماعة فمن شذ شذ في النار".
وسئل حبر الأمة عبد الله بن عباس عن رجل يقوم الليل ويصوم النهار ولا يحضر
الجماعة فقال: هو في النار. ومن قال من الأئمة إنها سنة. فمؤكدة لتصريحه
بتأثيم تاركها وسقوط عدالته وتعزيره وأنه لا رخصة في تركها إلا لعذر
للأخبار فوافقونا معنى بل صرح بعضهم بأنها سنة مؤكدة وأنهم أرادوا بالتأكيد
الوجوب أخذًا بالأخبار الواردة بالوعيد الشديد على تركها.
وقال النووي وطوائف من اتباع الأئمة: الجماعة مأمور بها للأحاديث الصحيحة
المشهورة وإجماع المسلمين. وذكر الوجه الثالث أنها فرض عين وأنه قول
للشافعي واثنين من أكابر أصحابهم المتمكنين في الفقه أبي بكر بن خزيمة وابن
المنذر وغيرهما. وأن من خالف ذلك فليس له دليل مقاوم أدلة وجوبها. وقال
الشافعي وأما الجماعة فلا أرخص في تركها إلا من عذر، ذكره المزني.
(1/344)
وقال الشيخ اتبع الإمام أحمد ما دل عليه
الكتاب والسنة وأقوال الصحابة من وجوبها مع عدم العذر وسقوطها بالعذر.
وقال الشيخ من أصر على ترك الجماعة فهو آثم مخالف الكتاب والسنة وما كان
عليه سلف الأمة. وقال هو وابن القيم من تأمل الكتاب والسنة وما كان عليه
السلف حق التأمل علم أن فعلها في المسجد فرض عين إلا لعذر وأنه كترك
الجماعة لغير عذر وبه تتفق الأحاديث والآثار. وما ورد من الأدلة على وجوب
الجماعة مما تقدم وغيره صريح في إتيان المساجد لها وأنه من أكبر شعائر
الدين.
(وعن ابن عمر مرفوعًا "صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ) أي الفرد (بسبع
وعشرين درجة متفق عليه) ولأحمد "خمس وعشرين درجة كلها مثل صلاته" ولهما من
حديث أبي هريرة "صلاة الرجل في جماعة تزيد على صلاته في بيته وصلاته في
سوقه بضعًا وعشرين درجة" وفي لفظ "بخمس وعشرين جزءًا" وهو مروي عن جماعة من
الصحابة. وفي بعض الروايات "ضعفًا" وفي بعضها "صلاة".
والمراد أنه يحصل له من صلاة الجماعة مثل أجر صلاة المنفرد سبعًا وعشرين
مرة. وللخمسة من حديث أبي "صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده. وصلاته
مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل. وما كان أكثر فهو أحب إلى الله" وقال
القرافي لا نزاع أن الصلاة مع الصلحاء والعلماء والكثير
(1/345)
من أهل الخير أفضل من غيرهم لشمول الدعاء
وسرعة الإجابة وكثرة الرحمة وقبول الشفاعة، اهـ.
وقيل مفهوم العدد غير مراد فلا منافاة، وقيل باعتبار قرب المسجد وبعده وقيل
غير ذلك. وفي فضل صلاة الجماعة أحاديث وآثار كثيرة واستدل القائلون بأن
صلاة الجماعة غير واجبة بهذا الحديث.
وأن صيغة أفضل تدل على الاشتراك في أصل الفضل وإن المشترك ههنا لا بد أن
يكون هو الإجزاء والصحة وكون الشيء واجبًا لا ينافي كونه فضيلة. فكذا كونه
فضيلة لا ينافي كونه واجبًا.
وأنكر شيخ الإسلام وغيره حمله على غير المعذور. وقال التفضيل لصلاة الجماعة
على صلاة الفرد إنما دل على فضل هذه الصلاة وحده ولعله من لم تكن عادته
الصلاة في جماعة فقد قال قاعدة الشريعة أن من كان عازمًا على الفعل عزمًا
جازمًا وفعل ما يقدر عليه منه كان بمنزلة الفاعل. وقال إنما يكتب له إذا
كان من عادته أن يعمل ونيته أن يعمل وفي الصحيح "إذا مرض العبد أو سافر كتب
له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا".
والجمهور أنه تصح صلاة المنفرد بلا عذر مع الإثم. قال الموفق وغيره لا نعلم
من أوجب الإعادة على من صلى وحده إلا
(1/346)
ما روي عن بعض الصحابة أن من صلى وحده من
غير عذر فلا صلاة له. وقال الشيخ الوقت لا يمكن تلافيه فإذا فات لم يمكن
فعل الصلاة فيه. ونظيره من فوت الجماعة الواجبة التي يجب عليه شهودها وليس
هناك جماعة أخرى فإنه يصلي منفردًا. وتصح صلاته هنا مع الإثم لعدم إمكان
صلاته جماعة.
(ولهما عنه مرفوعًا إذا استأذنكم نساؤكم) بالليل (إلى المسجد) ولم يذكر
أكثر الرواة بالليل وخص لما فيه من الستر بالظلمة (فأذنوا لهن) "ولا تمنعوا
النساء أن يخرجن إلى المساجد" لأنهم من أهل الفرض أشبهن الرجال فيدخلن في
عموم ما تقدم من فضل الجماعة. ولأحمد وأبي داود "وبيوتهن خير لهن" أي
صلاتهن في بيوتهن خير لهن من صلاتهن في المساجد لو علمن ذلك. ولا نزاع في
ذلك ولأحمد من حديث أم سلمة: «خير مساجد النساء قعر بيوتهن»، وله من حديث
أبي هريرة "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تفلات" أي غير متطيبات.
ولمسلم عنه "أيما امرأة أصابت بخورًا فلا تشهدن معنا العشاء الآخرة".
قال القاضي عياض وشرط العلماء في خروجهن أن يكون بليل غير متزينات ولا
متطيبات ولا مزاحمات للرجال ولا شابة مخشية الفتنة. وقالت عائشة لو أن رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - رأي من النساء ما رأينا لمنعهن من المسجد كما
منعت بنو إسرائيل نساءها وذلك لما رأت من حسن الملابس والطيب والزينة
والتبرج وإنما
(1/347)
كان النساء يخرجن في المروط والأكسية
والشملات الغلاظ فإذا كان الحال كذلك لم يجز منعهن عن المساجد.
ويدخل في ذلك مجالس الذكر للتفقه ونيل البركة. وإن منعها لم يحرم. وذكره
البيهقي قول عامة الفقهاء ولأن ملازمة المسكن حق واجب للزوج فلا تتركه
لفضيلة. وقال الوزير الذي أرى حضورهن الجماعات وأنهن يكن في أواخر الصفوف
من الرجال على ما جاءت به الأحاديث ومضى عليه زمان المصطفى – - صلى الله
عليه وسلم - والصدر الأول وغير مكروه بل مسنون. وقال اتفقوا على أنه يكره
للشواب منهن حضور جماعات الرجال اهـ.
وتسن لهن الجماعة منفردات عن الرجال وهو مذهب أحمد والشافعي لفعل عائشة وأم
سلمة رواهما البيهقي وغيره ولأمر النبي – - صلى الله عليه وسلم - لأم ورقة
"أن تجعل لها مؤذنًا وأمرها أن تؤم أهل دارها" رواه الخمسة. ولأنهن من أهل
الفرض فيدخلن في عموم الخبر المتقدم. قال ابن القيم لو لم يكن في المسألة
إلا عموم قوله "تفضل صلاة الجماعة" الحديث لكفى وهو قول ابن عمر وابن عباس
ولم يعرف لهم مخالف من الصحابة.
(وعن أبي موسى) الأشعري واسمه عبد الله بن قيس مشهور باسمه وكنيته استعمله
النبي – - صلى الله عليه وسلم - على بعض اليمن توفي
بالكوفة وقيل بمكة سنة خمسين (مرفوعًا "الإثنان فما فوقهما جماعة" رواه ابن
ماجه وفيه ضعف) وللبيهقي من حديث أنس
(1/348)
نحوه وفيه ضعف أيضًا ولأن الجماعة مأخوذة
من الاجتماع والإثنان أقل ما يتحقق به الجمع.
والحديثان وإن كان فيهما ضعف ففي الصحيحين "وليؤمكما أكبركما" وفيهما عن
ابن عباس فقمت عن يساره "فأقامني عن يمينه" وقال عليه الصلاة والسلام "من
يتصدق على هذا" فقام رجل فصلى معه فقال: "هذان جماعة" رواه أحمد وغيره.
وقال الوزير أجمعوا على أن أقل الجمع الذي تنعقد به صلاة الجماعة في الفرض
غير الجمعة إثنان إمام ومأموم قائم عن يمنه وحكاه النووي إجماع المسلمين.
(وعن أبي مسعود) البدري وهو عقبة بن عمرو بن ثعلبة الخزرجي الأنصاري مشهور
بكنيته توفي سنة أربعين رضي الله عنه (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم
- قال لا يؤمن الرجل الرجل) في بيته ولا (في سلطانه) محل ولايته ومظهر
سلطانه أو فيما يملكه وليس له ذلك (إلا بإذنه رواه مسلم) قال النووي معناه
أن صاحب البيت والمجلس وإمام المسجد أحق من غيره، وعن ابن مسعود من السنة
أن يتقدم صاحب البيت.
فإمام المسجد الراتب أولى ولقوله "من زار قومًا فلا يؤمهم" ولعمومات كثيرة.
وقال الخطابي معناه أن صاحب المنزل أولى بالإمامة في بيته إذا كان من
القراءة أو العلم بمحل يمكنه أن يقيم الصلاة ولو كان في الحاضرين من هو
أقرأ أو أفقه منه قال في المبدع بغير خلاف نعلمه. وأتى ابن عمر أرضًا له
فيها مولى له
(1/349)
فصلى معهم وقال صاحب المسجد: أحق رواه
البيهقي بسند جيد.
وإن كان إمام المسجد عن ولاية سلطان أو عامله فهو داخل في حكم السلطان أو
كان إمام المسجد باتفاق من أهل المسجد فهو أحق لأنها ولاية خاصة ولأن
التقدم عليه يسيء الظن به وينفر عنه وتبطل فائدة اختصاصه بالتقدم فيحرم
تقديم غيرهما عليهما بدون إذن. ولهما تقديم غيرهما ولا يكره بل يستحب إن
كان أفضل منهما وتصح بلا نزاع ويقدم عليهما ذو السلطان لأن له الولاية
العامة. ثم نوابه كالقاضي وكل سلطان أولى من جميع نوابه.
وإن تأخر إمام عن وقته المعتاد وظن حضوره أرسل إليه إن أمكن فإن ضاق الوقت
صلوا لفعل الصديق وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما حين غاب النبي - صلى
الله عليه وسلم -، وقال: "أحسنتم" متفق عليهما. وكذا إن ظن حضوره والمعروف
عنه أنه لا يكره صلوا لأنهم معذورون وقد أسقط حقه بالتأخير ولأن تأخره عن
وقته المعتاد يغلب على الظن وجود عذر له. وإن بعد محله أو لم يظن حضوره
صلوا لإسقاط حقه.
(وله عن أبي ذر مرفوعًا صل الصلاة لوقتها) وذلك أنه قال له: "كيف أنت إذا
كان عليك أمراء يميتون الصلاة أو يؤخرون الصلاة عن وقتها قلت فما تأمرني
قال صل الصلاة لوقتها"
(فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة) وفي رواية "ولا
تقل إني صليت فلا أصلي" وفي رواية "فإن أقيمت الصلاة
(1/350)
وأنت في المسجد فصل" ففيه مشروعية الدخول
في الصلاة معهم. وتقدم حديث يزيد "إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد
جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة".
ولأحمد من حديث محجن قال أتيت النبي – - صلى الله عليه وسلم - وهو في
المسجد فحضرت الصلاة "فصلى يعني ولم أصل فقال لي ألا صليت فقلت يا رسول
الله إني قد صليت في الرحل ثم أتيتك قال فإذا جئت فصل معهم واجعلها نافلة"
وللدارقطني "إذا دخلت مسجدًا فصل مع الناس وإن كنت قد صليت فحضور الجماعة
سبب للإعادة، فيسن أن يعيدها سواء كانت وقت نهي أولا لظاهر الأحاديث ولئلا
يكون قعوده والناس يصلون ذريعة إلى إساءة الظن به وأنه ليس من المصلين.
وأما قصد الإعادة فمنهي عنه إذ لو كان مشروعًا لأمكن أن تصلي الصلاة
الواحدة مرات. قال الشيخ ولا ريب في كراهته ولأنه غير مشروع تتبع المساجد
للإعادة ولا يعيد من بالمسجد وغيره بلا سبب. وليس للإمام إعادة الصلاة
مرتين ويجعل الثانية عن فائتة أو غيرها والأئمة متفقون على أنه بدعة إلا
لعذر مثل صلاة خوف ونحوه.
ولأحمد وأبو داود وغيرهما من حديث ابن عمر "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين"
فلا يجوز للرجل أن يصلي صلاة مكتوبة عليه ثم يقوم بعد الفراغ منها.
فيعيدها. من غير سبب على
جهة الفرض. وأما من صلى الثانية مع الجماعة على أنها نافلة
(1/351)
اقتداء بالنبي – - صلى الله عليه وسلم - في
أمره بذلك فليس من إعادة الصلاة في يوم مرتين لأن الأولى فريضة والثانية
نافلة فلا إعادة حينئذ. ولأحمد وغيره أنه – - صلى الله عليه وسلم - قال:
"من يتصدق على هذا فيصلي معه" فقام رجل من القوم. ولابن أبي شيبة أنه أبو
بكر فصلى معه.
(وله عن أبي هريرة مرفوعًا "إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة") وفي
لفظ "إذا أخذ المؤذن في الإقامة فلا صلاة إلا المكتوبة" فلا يجوز أن يشرع
في نفل مطلقًا ولا راتبة من سنة فجر أو غيرها في المسجد أو غيره إذا أقيمت
الصلاة ولو ببيته لعموم الخبر. قال الشيخ وقد اتفق العلماء على أنه لا
يشتغل عنها بتحية المسجد ولكن تنازعوا في سنة الفجر والصواب أنه إذا سمع
الإقامة فلا يصلي السنة لا في بيته ولا في غير بيته.
وفي الصحيحين أنه رأى رجلاً وقد أقيمت الصلاة يصلي ركعتين فلما انصرف لاث
به الناس فقال – - صلى الله عليه وسلم - "الصبح أربعًا الصبح أربعًا"
وفيهما أنه قال: "يوشك أحدكم أن يصلي الصبح أربعًا" ولمسلم "بأي الصلاتين
اعتددت بصلاتك وحدك أم بصلاتك معنا" وكان عمر يضرب على الصلاة بعد الإقامة
وصح عن ابنه أنه كان يحصب من يشتغل في المسجد بعد الشروع في الإقامة.
وقال ابن حزم من كان حاضرًا لإقامة الصلاة فترك الدخول مع الإمام أو اشتغل
بقراءة قرآن أو بذكر الله أو بابتداء
(1/352)
تطوع فلا يختلف اثنان من أهل الإسلام في
أنه عاص لله تعالى متلاعب بالصلاة. قال النووي والحكمة أن يتفرغ للفريضة من
أولها فيشرع فيها عقب شروع الإمام والمحافظة على مكملات الفريضة أولى من
التشاغل بالنافلة.
ونهى النبي – - صلى الله عليه وسلم - عن الاختلاف على الأئمة فلا تنعقد
نافلة بعد إقامة الفريضة التي يريد أن يفعلها مع ذلك الإمام الذي أقيمت له.
وإن لم يرد أن يفعلها معه انعقدت كما لو أقيمت بمسجد لا يريد الصلاة فيه.
وأما قضاء الفائتة فتجب مع سعة الوقت. وإن أقيمت وهو في نافلة أتمها خفيفة
إلا أن يخشى فوات الجماعة فيقطعها لأن الفرض أهم.
(وعنه) أي: أبي هريرة قال: (قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -: من
"أدرك ركعة من الصلاة") يعني مع الجماعة (فقد أدرك الصلاة" متفق عليه)
ولأبي داود "إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا ولا تعدوها ركوعًا ومن
أدرك الركعة فقد أدرك الصلاة" واختار شيخ الإسلام وغيره أنها لا تدرك
الجماعة إلا بركعة وقال إذا أدرك مع الإمام ركعة فقد أدرك الجماعة وإن أدرك
أقل من ركعة فله بنيتة أجر الجماعة ولا يعتدله به وإنما يفعله متابعة
لإمامه.
وإن قصد الجماعة ووجدهم قد صلوا كان له أجر من صلى في الجماعة كما وردت به
السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي السنن
(1/353)
فيمن تطهر في بيته ثم ذهب إلى المسجد يدرك
الجماعة فوجدها قد فاتت أنه يكتب له أجر صلاة الجماعة. وكما في الصحيح فيمن
حبسهم العذر عن الجهاد وغير ذلك فالمعذور يكتب له مثل ثواب الصحيح إذا كانت
نيته أن يفعل وقد عمل ما يقدر عليه.
ويستحب أن يصلي في جماعة أخرى إذا فاتته فإن لم يجد استحب لبعضهم أن يصلي
معه لقوله عليه الصلاة والسلام "من يتصدق على هذا" بل يجب على من فاتته
الجماعة ولم يجد من يصلي معه قصد مسجد آخر إن أمكن لأجل الجماعة.
(ولهما عنه فما أدركتم) أي إذا فعلتم ما أمرتكم به من ترك الإسراع ونحوه
وقد تقدم (فصلوا) فدل على أن فضيلة الجماعة يدركها ولو دخل مع الإمام في أي
جزء من أجزاء الصلاة ولو أقل من ركعة وهو قول الجمهور وفيه صحة الدخول معه
على أي حالة أدركه عليها (وما فاتكم فأتموا) أي أكملوا وهذه رواية الجمهور.
وفي رواية "فاقضوا".
والقضاء في الأصل بمعنى الأداء. وقال الحافظ أكثر الروايات ورد بلفظ
"فأتموا"، وأقلها بلفظ "فاقضوا"، والقضاء. يطلق على الأداء كقوله: {فَإِذَا
قُضِيَتِ الصَّلاَةُ}.
ومخرج الحديث واحد فيحمل اقضوا على معنى الأداء والفراغ ولا يغاير فأتموا
فلا حجة لمن تمسك برواية فاقضوا على أن ما
(1/354)
أدرك مع الإمام هو آخر صلاته حتى يستحب له
الجهر في الركعتين الأخريين وقراءة السورة بل هو أولها. وإن كان آخر صلاة
إمامه لأن الآخر لا يكون إلا عن شيء تقدمه.
وفي الصحيحين عن المغيرة في صلاة عبد الرحمن بن عوف بالناس فلما سلم "قام
رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يتم صلاته فلما قضاها أقبل عليهم وقال
أحسنتم" وللبيهقي عن علي ما أدركت مع الإمام هو أول صلاتك وهذا مذهب
الشافعي ورواية عن مالك وأحمد. قال الشافعي هو أولها حكمًا ومشاهدة وهو
مقتضى الأمر بمتابعة الإمام والائتمام. وقال ابن عمر يكبر فإذا سلم الإمام
قام إلى ما بقي من صلاته وهو قول طائفة من الصحابة فيستفتح ويستعيذ فيما
يدرك.
وأجمعوا على تكبيرة الإحرام في الركعة الأولى وعلى التشهد الأخير في آخر
صلاته ولا يحتسب له بتشهد الإمام الأخير لا من أول صلاته ولا من آخرها إلا
أنه يأتي فيه بالتشهد الأول فقط.
ولو أدرك ركعة من المغرب تشهد عقب الركعة الأولى من القضاء. ولا يسردها
إجماعًا لئلا يغير هيئة الصلاة. وهذا أوضح دليل على أن ما أدرك المؤتم مع
الإمام أول صلاته. وأنه يقضي ما فاته على الهيئة المشروعة.
(وللبخاري عن أبي بكرة أنه ركع دون الصف) ولفظه أنه انتهى إلى النبي – -
صلى الله عليه وسلم - وهو راكع. فركع قبل أن يصل إلى
(1/355)
الصف فذكر ذلك للنبي – - صلى الله عليه
وسلم - وفي رواية أنه دخل المسجد. وللطبراني فانطلق يسعى وللطحاوي وقد حفزه
النفس. وللطبراني فلما انصرف قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "أيكم
دخل الصف وهو راكع" فذكر ذلك لرسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (فقال
النبي – - صلى الله عليه وسلم - زادك الله حرصًا) أي على الخير (ولا تعد)
بضم العين أي إلى ما صنعت من السعي الشديد. ثم الركوع دون الصف. ثم من
المشي إلى الصف كما ورد صريحًا في طرقه.
ولم يأمره بإعادة الركعة فدل على أن المسبوق إذا أدرك الإمام في الركوع قبل
رفع رأسه منه دخل معه في الركعة واجتزأ بها ولا يضره سبق الإمام له
بالقراءة لعدم وجوب القراءة عليه حينئذ حكاه شيخ الإسلام وجماعة من الحنفية
وغيرهم
إجماعًا.
وعليه عمل الأمة من الصحابة والتابعين لا يعرف عن السلف خلاف في ذلك ولأنه
لم يفته من الأركان غير القيام. وهو يأتي به مع التكبيرة ثم يدرك مع الإمام
بقية الركعة.
وأيضًا فلابن خزيمة من حديث أبي هريرة "من أدرك ركعة من الصلاة قبل أن يقيم
الإمام صلبه فقد أدركها" وعمومات أحاديث أخر احتج بها الفقهاء وفهموا منها
صحة ركعة المأموم إذا ركع مع إمامه قبل أن يرفع صلبه وكان أمرًا مشهورًا
عند الصحابة والتابعين وسائر أئمة المسلمين لم يأمر أحدًا منهم بإعادة صلاة
من أدرك إمامه.
(1/356)
مع أن هذه المسألة من أشهر مسائل الدين
ووقوعها يتكرر بين أظهر المسلمين وفهمه أبو بكرة وسائر الصحابة والتابعين
فإنه لو لم يكن متقررًا عندهم أن مدرك الركوع مع الإمام مدرك للركعة لم
يوجد هذا الإسراع منهم إذ لو قد علموا أن الركعة تفوت بفوات قراءة الفاتحة
لم يسرعوا هذا الإسراع الذي نهاهم النبي - صلى الله عليه وسلم - عنه وهذا
أمر معلوم مدرك الحس.
ويجزئ من ذلك إذا اجتمع مع الإمام في الركوع بحيث ينتهي إلى قدر الإجزاء
قبل أن يزول الإمام عنه وحكى ابن العربي وغيره الإجماع عليه وقال الزين
العراقي: مذاهب الأئمة الأربعة –وعليه الناس قديمًا وحديثًا- إدراك الركعة
بإدراك الركوع بأن يلتقي هو وإمامه في حد أقل الركوع حتى لو كان في الهوى
والإمام في الارتفاع وقد بلغ هويه حد أقل الركوع قبل أن يرفع الإمام عنه،
وإن لم يلتقيا فيه فلا اهـ.
ويأتي بالتكبيرة كلها قائمًا ولو لم يطمئن ثم يطمئن ويتابع إمامه وتجزئه
التحريمة عن تكبيرة الركوع. روي عن زيد وابن عمر ولا يعرف لهما مخالف من
الصحابة. ولأنه اجتمع عبادتان من جنس واحد في محل واحد فأجزأ الركن عن
الواجب كنظائره. والأفضل بتكبيرتين خروجًا من خلاف من أوجبه.
ولو ترك تكبيرة الإحرام وكبر للركوع وهو ذاكر للإحرام متعمد لما أجزأته
صلاته لتركه تكبيرة الإحرام حكاه ابن رشد إجماعًا
(1/357)
وإن لم ينو شيئًا انعقدت فرضًا صححه النووي
وغيره.
ودل على استحباب موافقة الداخل للإمام على أي حال وجده عليها. وفي سنن سعيد
بن منصور "من وجدني قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا فليكن معي على الحال التي
أنا عليها" وعن أبي هريرة وغيره" إذا جئتم إلى الصلاة ونحن سجود فاسجدوا
ولا تعدوها شيئًا" ويكبر لوجوبه لكل انتقال يعتد به المصلي.
(وعن جابر أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال من كان له إمام) يأتم
به في الصلاة (فقراءته له قراءة رواه أحمد) قال في شرح المقنع بإسناد صحيح
متصل رجاله كلهم ثقات. قال الحافظ هو مشهور من حديث جابر وله طرق ورواه
سعيد بن منصور والدارقطني مرسلاً.
قال الشيخ وهذا المرسل قد عضده ظاهر القرآن والسنة وقال به جماهير أهل
العلم من الصحابة والتابعين. ومرسله من أكابرهم ومثله يحتج به باتفاق
الأئمة الأربعة وغيرهم، اهـ.
ورواه الحافظ أحمد بن منيع وعبد بن حميد وأبو حنيفة وغيره من طرق مرفوعة
صحيحة. رفعه سفيان وشريك وجرير وأبو الزهير وغيرهم ورواه مالك عن جابر
موقوفًا وثبت عن عشرة من أصحاب النبي – - صلى الله عليه وسلم - النهي عن
القراءة خلف الإمام. وحكي إجماعًا ولعله سكوتي فإنه لما ثبت عن عشرة منهم
الخلفاء ولم يثبت رد أحد عليهم عند توفر الصحابة كان
إجماعًا.
(1/358)
وقال الشعبي أدركت سبعين بدريًا كلهم
يمنعون المأموم عن القراءة خلف الإمام. وروي عن ثمانين كلهم يشددون في
النهي عن القراءة خلف الإمام. وقال ابن مسعود لا أعلم في السنة القراءة خلف
الإمام. وقال بلال لا تسبقني بآمين. وفي الصحيح عن أبي هريرة قال قال رسول
الله – - صلى الله عليه وسلم -: "ما لي أنازع القرآن" قال: فانتهى الناس أن
يقرؤا فيما يجهر فيه النبي – - صلى الله عليه وسلم -
وهو من مقابلة الخاص بالعام وقد توافرت فيه آثار الصحابة والتابعين.
وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ
لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون} وهذا أيضًا نص في وجوب الاستماع والإنصات علل به
حصول الرحمة وقال غير واحد من الصحابة والتابعين. إنها نزلت في القراءة خلف
الإمام. وقال أحمد أجمع أهل العلم على أن هذه الآية في الصلاة. وفي الصحيح:
"وإذا قرأ فأنصتوا" وغير ذلك من عمومات الكتاب والسنة الدالة على وجوب
الإنصات والاستماع والإنصات هو السكوت والاستماع هو الإصغاء. قال شيخ
الإسلام وهو إجماع الأمة فيما زاد على الفاتحة وقول جماهير السلف فيها
وغيرها.
وقال القراءة مع جهر الإمام منكر مخالف للكتاب والسنة وما عليه الصحابة.
وعلى النهي عنه جمهور السلف والخلف وفي بطلان الصلاة به نزاع اهـ. ولم يجئ
دليل بسكوت الإمام سكوتًا
(1/359)
يسع قراءة المأموم الفاتحة فأين الإنصات
المأمور به وما تقدم من حديث "لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن" خص منه
المدرك في الركوع إجماعًا فيجوز تخصيصه بالمأموم لأن القراءة ثبتت منه
شرعًا فإن قراءة الإمام له قراءة.
وقال أحمد وسفيان وغيرهما لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب إذا كان وحده.
وقال غير واحد إذا كان ضامنًا للصلاة إمامًا أو منفردًا يؤيده ما رواه مسلم
وغيره "بفاتحة الكتاب فصاعدًا" ولأبي داود وغيره من حديث أبي سعيد "وما
تيسر" ومن حديث أبي هريرة "وما زاد" وجاء "وبما شئت" أفيدل على وجوب قراءة
ما زاد عليها.
وقد أجمع أهل العلم على عدم وجوب ما زاد على الفاتحة فكذلك لا يدل على وجوب
قراءة الفاتحة على المأموم. ولو سلم فالمأموم يقرأ حكمًا ويقال أيضًا قوله:
"لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن" ونحوه المراد به الإمام والمنفرد
والمأموم أيضًا إذا أمكنه جمعًا بين الأخبار. والجمع مطلوب إذا أمكن عند
العلماء وهذا أحوط لئلا يترك العمل بحديث رسول الله – - صلى الله عليه وسلم
- بغير سبب يوجب ترك العمل به إما نسخ أو غيره من الأسباب.
مع أن قوله "إلا بفاتحة الكتاب" فيه ثلاث علل. فيه مكحول وهو يدلس. وقد
اضطرب في إسناده وتفرد به محمود ابن الربيع وخالفهما من هو أثبت منهما. وما
روي من طريق نافع
(1/360)
ابن محمود فقال الحافظ وغيره لا يحتج به.
وإذًا فكالمردود.
وقال ابن عبد البر وغيره ليس في هذا الباب ما لا مطعن فيه. ويدل على ضعفها
أدلة أخر منها أن حديث المنازعة رواه أبو هريرة من غير استثناء وليس فيه
أثر من الاستثناء مع أن كل واحد من الحديثين ورد في صلاة الصبح. وقد قال
مالي أنازع القرآن فمجموع الأمرين يدل على اتحاد الواقعة.
ومنها أن جمعًا من الصحابة اتفقوا على ترك القراءة خلف الإمام في الجهرية
كما تقدم فلو كان ما روي عن عبادة في الاستثناء صحيحًا لا اشتهر بينهم لأن
الواقعة كانت في جماعة من الصحابة في صلاة الصبح. ولكان مذهب عامتهم
القراءة بها خلف الإمام في الجهرية كالسرية. ومنها أن هذه الزيادة لم
يخرجها الشيخان مع أن البخاري كان حريصًا على إثبات القراءة خلف الإمام.
وأما من زعم أنه صححه في جزء القراءة فليس بصحيح كما لا يخفى على من طالعه
فيجب أن يرجح النص الصحيح من الأخبار.
وقال الشيخ وإذا كانوا مشغولين عنه بالقراءة فقد أمر أن يقرأ على قوم لا
يستمعون لقراءته وهو سفه تنزه عنه الشريعة كمن يتكلم والإمام يخطب. قال ابن
كثير ولمنزلة مشروعية التأمين على قراءة الإمام فينزل بمنزلة قراءتها فإن
قوله (قد
أجيبت دعوتكما) على أن هارون أمن على دعاء موسى فنزل
(1/361)
منزلة من دعا فدل على أن من أمن على دعاء
فكأنما
قاله.
ومما يبين حكمة سقوط القراءة عن المأموم أن الإنصات من تمام الائتمام فمن
نازع إمامه لم يكن مؤتمًا. وقد ثبت النهي عن منازعة الإمام فلو قرأ عصى
النهي وكان له قراءتان في صلاة واحدة وهذا غير مشروع. وإذا أخذت الأدلة من
مواضع تفوت الحصر وهي مع ذلك مختلفة المساق لا ترجع إلى باب واحد إلا أنها
تنتظم المعنى الواحد الذي هو المقصود بالاستدلال عليه. وتكاثرت على الناظر
عضد بعضها بعضًا فصارت بمجموعها مفيدة للقطع.
(وعن أبي هريرة: كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا كبر للصلاة)
أي تكبيرة الإحرام (سكت هنيهة) أي سكتة لطيفة (قبل القراءة) والمراد عن
الجهر لا عن مطلق القول قال: (فسألته) عن سكوته ما يقول فيه (فقال أقول
"اللهم باعد بيني وبين خطاياي" الحديث متفق عليه) ولمسلم أرأيت سكوتك وتقدم
أن حديث عمر أولى الاستفتاحات وقال شيخ الإسلام الأفضل أن يستفتح حال سكوته
وهو أفضل من قراءته في ظاهر مذهب أحمد وأبي حنيفة وغيرهما لأن القراءة
يعتاض عنها بخلاف الاستفتاح.
وقال وما ذكره ابن الجوزي أن قراءة المأموم وقت مخافتة الإمام أفضل من
استفتاحه غلط. بل قول أحمد وأكثر أصحابه
(1/362)
الاستفتاح أولى. لأن الاستماع بدل من
قراءته. ولأبي داود وغيره عن الحسن عن سمرة أنه حفظ عنه سكتتين سكتة إذا
كبر يعني في الركعة الأولى. وهذه يشهد لها النصوص الصحيحة الدالة على سكوته
– - صلى الله عليه وسلم - بعد التحريم للاستفتاح. وسكتة بعد الفراغ من
قراءة الفاتحة وهو مذهب الشافعي وأحمد. قال ابن القيم وغيره قيل إنها لأجل
قراءة المأموم فعلى هذا ينبغي تطويلها بقدر قراءة المأموم الفاتحة.
وقال مالك وأصحاب الرأي مكروهة وقال المجد والشيخ وغيرهما: هما سكتتان على
سبيل الاستحباب إحداها تختص بأول ركعة للاستفتاح والثانية سكتة يسيرة بعد
القراءة كلها ليرتد إليه نفسه لا لقراءة الفاتحة خلفه ولم ينقل عنه عليه
الصلاة والسلام أنه كان يسكت سكتة تتسع لقراءة الفاتحة ولا عن الصحابة أنهم
كانوا في السكتة الثانية يقرؤونها. ولو كان يسكت سكوتًا يسع قراءة الفاتحة
لنقل كما نقل غيره مما تتوفر الهمم والدواعي على نقله. ولو كان مشروعًا
لكانوا أحق الناس بعلمه. فعلم أنه بدعة والسكتتان اللتان جاءت بهما السنة
الأولى بعد التكبير للاستفتاح ثبت سكوته في ذلك في الصحيح
وغيره.
وفي السنن "أنه كان له سكتتان سكتة في أول القراءة وسكتة بعد القراءة وهي
لطيفة للفصل لا تتسع لقراءة الفاتحة. ولم يقل أحد أنه كان له ثلاث سكتات
فمن نقلها فقد قال قولاً
(1/363)
لم ينقله أحد من المسلمين. والسكتة التي
عند قوله ولا الضالين من جنس السكتات التي عند رؤوس الآي. ومثل هذا لا يسمى
سكوتًا.
وإن كان لا يسمع لبعد أو صمم أو كان يسمع همهمة الإمام ولا يفقه ما يقول
فالأظهر أنه يقرأ لأن الأفضل أن يكون إما مستمعًا وإما قارئًا وهذا ليس
بمستمع ولا يحصل له مقصود السماع فقراءته أفضل من سكوته وقال: المصلي إما
أن يكون مستمعًا وإما قارئًا وجميع الأذكار التي يشرع للإمام أن يقولها
سرًا يشرع للمأموم أن يقولها سرًا. ومعلوم أن القرآ، أفضل من الذكر والدعاء
وجاء الأمر بذلك في الكتاب والسنة.
والأمر متناول الإمام والمأموم والمنفرد. والسكوت بلا ذكر ولا دعاء ولا
قراءة ليس عبادة. وقال النووي وغيره لا يسكت في صلاته إلا في حال استماعه
لقراءة إمامه فلو سكت في قيامه أو ركوعه أو سجوده أو قعوده يسيرًا لم تبطل
فإن سكت طويلاً لعذر بأن نسي شيئًا فسكت ليتذكره لم تبطل وهو قول الجمهور
وإن سكت طويلاً لغير عذر ففي بطلانها خلاف.
(ولهما عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إنما جعل الإمام ليؤتم
به) قد نقل الاتفاق على إفادة إنما للحصر وقصر المأموم على الاتصاف بكونه
مؤتمًا بالإمام لا يتجاوزه إلى مخالفته وأكده بقوله: (فلا تختلفوا عليه)
فيجب الاقتداء به والاتباع له ومن شأن
(1/364)
التابع أن لا يتقدم على المتبوع ومقتضى ذلك
أنه لا يخالفه في شيء من الأحوال التي فصلها ولا في غيرها مما ينقاس عليها
بل يراقب أحواله ويأتي على أثره بنحو فعله.
(فإذا كبر) أي للإحرام أو النقل (فكبروا) ولأحمد وأبي داود، ولا تكبروا حتى
يكبر، زاده تأكيدًا لما أفاده مفهوم الشرط من أن المأموم لا يشرع في
التكبير إلا بعد فراغ الإمام منه. وكذلك الركوع والرفع منه والسجود (وإذا
ركع فاركعوا) ولا تركعوا حتى يركع أي حتى يأخذ في الركوع.
(وإذا قال سمع الله لمن حمده فقولوا اللهم ربنا لك الحمد)، وتقدم وللبخاري
عن أنس "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تركعوا حتى يركع ولا ترفعوا حتى
يرفع" (وإذا سجد) أي أخذ في السجود (فاسجدوا) "ولا تسجدوا حتى يسجد" وفي
الصحيحين عنه "أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه
رأس حمار أو يحول الله صورته حمار".
قال شيخ الإسلام وهذا لأن المؤتم متبع لإمامه مقتد به والتابع المقتدي لا
يتقدم على متبوعه وقدوته فإذا تقدم عليه. كان كالحمار الذي لا يفقه ما يراد
بعلمه ومن فعل ذلك استحق العقوبة والتعزير وللبزار عنه الذي يخفض ويرفع قبل
الإمام إنما ناصيته بيد شيطان" ولمسلم عن أنس "لا تسبقوني بالركوع ولا
بالسجود ولا بالانصراف"، ولما رأى عمر رجلاً
(1/365)
يسابق الإمام ضربه وقال لا وحدك صليت ولا
بإمامك اقتديت. ولمسلم عن البراء "وإذا قال سمع الله لمن حمده لم يحن أحد
منا ظهره حتى يقع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ساجدًا ثم نقع سجودًا
بعده".
فيستحب أن يشرع المأموم في أفعال الصلاة بعد فراغ الإمام مما كان فيه في
قول أكثر أهل العلم للأخبار ونقل الخلف عن السلف. وإن كبر معه للإحرام لم
تنعقد، وهو مذهب جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم لأن شرطه أن
يأتي بها بعد إمامه وهو عنوان الاقتداء به. وإن قارنه في غيرها لم تبطل
باتفاق العلماء لكن يكره وتفوته فضيلة الجماعة.
وأما مسابقة الإمام فقال شيخ الإسلام حرام باتفاق الأئمة لا يجوز لأحد أن
يركع قبل إمامه ولا يرفع قبله ولا يسجد قبله. وقد استفاضت الأحاديث عن
النبي – - صلى الله عليه وسلم - بالنهي عن ذلك. وقال النووي الجمهور أنها
تصح مع الإثم ومن ركع أو سجد قبل إمامه فعليه أن يرجع ليأتي به بعده فإن لم
يفعل عمدًا بطلت صلاته لتركه الواجب عمدًا. وسهوًا تصح.
قال شيخ الإسلام لكن يتخلف عنه بقدر ما سبق به الإمام كما أمر بذلك أصحاب
رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وإن ركع ورفع قبل إمامه بطلت الركعة
فقط إن لم يأت بها مع الإمام كما لو لم يدركه، وتصح صلاته للجهل أو
النسيان. قال في الإنصاف بلا
(1/366)
نزاع لخبر "عفي عن أمتي الخطأ والنسيان"
وكذا إن ركع ورفع قبل ركوعه ثم سجد قبل رفعه وأولى. ويصلي تلك الركعة قضاء.
وأما إن ترك متابعته عمدًا فلا نزاع في بطلان صلاته حكاه صاحب المنتهى
وغيره لما تقدم من النهي والتخلف عنه كالسبق فيما تقدم. قال الموفق وغيره
فإن سبق الإمام المأموم بركن كامل مثل أن يركع ويرفع قبل ركوع المأموم لعذر
من نعاس أو غفلة أو زحام أو عجلة إمام فإنه يفعل ما سبق به ويدرك إمامه ولا
شيء عليه. لا نعلم فيه خلافًا والمراد أنه يفعل ما سبق به إذا أمن فوات
الركعة الثانية، وإلا تبعه ولغت. والتي تليها عوض عنها ويقضي بدلها.
(وإذا صلى قائمًا فصلوا قيامًا) وجوبًا في الفرض مع القدرة إجماعًا (وإذا
صلى قاعدًا) لعذر (فصلوا قعودًا أجمعون) بالرفع تأكيدًا لضمير الجمع. وفي
رواية للبخاري بالنصب على الحال قال ابن عبد البر روي هذا من طرق متواترة
عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - من حديث أنس وجابر وأبي هريرة وعائشة
وغيرهم. وحكاه ابن حزم قول جمهور السلف وحكي إجماع الصحابة فيه وثبت عن
أربعة بعد النبي – - صلى الله عليه وسلم - قال ابن المنذر ولا يحفظ عن أحد
من الصحابة خلاف ذلك.
والحكمة في ذلك سد الذريعة عن مشابهة الكفار حيث
(1/367)
يقومون على ملوكهم وهم قعود. ولأبي داود من
حديث جابر "ولا تفعلوا كما تفعل أهل فارس بعظمائها" وفي الصحيحين وغيرهما
أنه "صلى جالسًا والناس خلفه قيام" وذلك يوم السبت أو الأحد وتوفي يوم
الاثنين. قال الخطابي وقد صلى قاعدًا والناس خلفه قيام. وادعى النسخ وحكى
هو والنووي وابن دقيق وغيرهم صحتها خلفه قيامًا قول أكثر العلماء وذكره في
الفروع اتفاقًا ولأنه الأصل ولم يأمر – - صلى الله عليه وسلم - من صلى خلفه
قائمًا بالإعادة.
وجمع الإمام أحمد بين الأخبار فذهب إلى أن الإمام الراتب إذا ابتدأ الصلاة
قائمًا لزم المأمومين أن يصلوا خلفه قيامًا سواء طرأ ما يقتضي صلاة إمامهم
قاعدًا أم لا كما في الأحاديث التي في مرض موته فإنه لم يأمرهم بالقعود
لأنه ابتدأ صلاته قائمًا. وهذا لا نزاع فيه لأن القيام هو الأصل. فإذا بدأ
به لزمه في جميعها إذا قدر عليه وهو بخلاف صلاته في مرضه الأول فإنه ابتدأ
صلاته قاعدًا فأمرهم بالقعود فيجوز وأنكر دعوى النسخ وهو جمع حسن.
وقال الشافعي: يستحب للإمام إذا لم يستطع القيام استخلاف من يصلي بالجماعة
قائمًا كما استخلف النبي – - صلى الله عليه وسلم - ولأن فيه خروجًا من خلاف
من منع الاقتداء بالقاعد المرجو زوال علته. ولأن القائم أكمل وأقرب إلى
كمال هيئات الصلاة. والنبي – - صلى الله عليه وسلم - فعل الأمرين وكان
الاستخلاف أكثر فدل
(1/368)
على فضيلته وأم قاعدًا في بعض الصلوات
لبيان الجواز ولا تصح خلف عاجز عن الركوع وسجود وقعود إلا بمثله.
(ولهما عنه مرفوعًا أيكم أم الناس) وفي لفظ "إذا أم أحدكم الناس" وفي لفظ
"إذا صلى أحدكم بالناس (فليخفف" ولهما من حديث أبي مسعود: أيها الناس إن
منكم منفرين فأيكم أم الناس فليوجز (فإن فيهم الصغير والضعيف والكبير وذا
الحاجة) وفي رواية "منهم". وفي رواية "خلفه" وهؤلاء يريدون التخفيف
فيلاحظهم الإمام.
وفي الصحيح أنه قال: "أفتان يا معاذ، إذا أممت الناس فاقرأ بالشمس وضحاها.
وسبح اسم ربك، والليل إذ يغشى. فإنه يصلي وراءك الكبير والضعيف وذو
الحاجة". والحديث مروي بألفاظ كثيرة.
ولأبي داود وغيره عن عثمان بن أبي العاص أن النبي – - صلى الله عليه وسلم -
قال: "أنت إمام قومك وأقدر القوم بأضعفهم" قال عليه الصلاة والسلام: "وإذا
صلى وحده فليطول ما شاء" وفي لفظ "فليصل كيف شاء" مخففًا ومطولاً ولهما عن
أنس "كان يكملها" وفي رواية "ما صليت خلف إمام قط أخف صلاة ولا أتم صلاة من
رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - " وقال ابن عمر "كان يأمر بالتخفيف
ويؤمنا بالصافات" فالذي فعل هو الذي أمر به. وتقدم صفة صلاته - صلى الله
عليه وسلم -.
فالتخفيف المأمور به أمر نسبي يرجع إلى ما فعله - صلى الله عليه وسلم -،
(1/369)
وواظب عليه لا إلى شهوة المأمومين، فإنه لم
يكن يأمر أمته بأمر ثم يخالفه. قال الحافظ، ومن سلك طريقة النبي – - صلى
الله عليه وسلم - في الإيجاز والإتمام لا يشتكى منه تطويل. وقال اليعمري
الأحكام إنما تناط بالغالب لا بالصورة النادرة فينبغي للأئمة التخفيف
مطلقًا كما شرع القصر. ومراده ما لم يؤثروا التطويل وعددهم ينحصر.
وقال ابن عبد البر التخفيف للأئمة أمر مجمع عليه مندوب إليه عند العلماء لا
خلاف في استحبابه على ما شرطنا من الإتمام.
وقال شيخ الإسلام ليس له أن يزيد على القدر المشروع. وينبغي أن يفعل غالبًا
ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعله غالبًا. ويزيد وينقص للمصلحة
كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يزيد وينقص أحيانًا للمصلحة. ويلزم
الإمام مراعاة المأموم إن تضرر بالصلاة أول الوقت أو آخره ونحوه. وقال
النووي قال العلماء واختلاف قدر القراءة في الأحاديث كان بحسب الأحوال.
وكان - صلى الله عليه وسلم - يعلم من حال المأمومين في وقت أنهم يؤثرون
التطويل فيطول. وفي وقت لا يؤثرونه لعذر ونحوه فيخفف.
وفي وقت يريد إطالتها فيسمع بكاء الصبي فيخفف. كما ثبت في الصحيح وغيره
اهـ. ويسن تطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية لخبر أبي قتادة وتقدم.
وليلحقه القاصد إليها ما لم يشق على مأموم.
(1/370)
تتمة:
الجن مكلفون في الجملة إجماعًا لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ
وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} فلذلك يدخل كافرهم النار إجماعًا ويدخل
مؤمنهم الجنة لعموم الأخبار. قال الشيخ ونراهم في الآخرة ولا يرونا وتنعقد
بهم الجماعة وهم موجودون في زمن النبوة وقبلها وليس منهم رسول. وقال ليس
الجن كالإنس في الحد والحقيقة فلا يكون ما أمروا به وما نهوا عنه مساويًا
لما على الإنس في الحد والحقيقة لكنهم شاركوهم في جنس التكليف بالأمر
والنهي والتحليل والتحريم بلا نزاع أعلمه بين العلماء.
فصل الإمامة
أي في أحكام الإمامة وفضلها مشهور. تولاها النبي - صلى الله عليه وسلم -
وخلفاؤه وهم لا يختارون إلا الأفضل وتقدم هل الأذان أفضل أو لا ورجح بعض
أهل العلم أنها أفضل. وله أجر بذلك لما في الحديث "ثلاثة على كثبات المسك
يوم القيامة رجل أم قومًا وهم له راضون" الحديث.
وحديث "له من الأجر مثل من صلى خلفه" ويجوز طلبها لقوله يا رسول الله
"اجعلني إمام قومي" وليس من طلب الرياسة المكروهة فإن ذلك مما يتعلق برياسة
الدنيا التي لا يعان من طلبها ولا يستحق أن يعطاها. ويشهد له عموم قوله
{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}.
(عن أبي مسعود) عقبة بن عمرو (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
(1/371)
قال: يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله) أي
أحسنهم قراءة على ما تقتضيه طبيعته من غير تكلف. أو أكثرهم حفظًا للقرآن.
وفي الصحيح عن عمرو بن سلمة "إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم وليؤمكم
أكثركم قرآنًا" قال فقدموني وأنا ابن ست سنين أو سبع سنين وكلهم من
الصحابة. قال ابن حزم ولا نعلم لهم مخالفًا وهو قول الجمهور.
وأم سالم مولى أبي حذيفة وكان أكثرهم قرآنًا وأبو عمرو مولى عائشة. ولأبي
داود من حديث ابن عباس "ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم أقرؤكم" (فإن كانوا في
القراءة سواء) أي استووا في القدر المعتبر منها إما في حسنها أو في كثرتها
وقلتها.
وفي لفظ وإن كانت القراءة واحدة (فأعلمهم بالسنة) أي أفقههم في دين الله
وتقديم الأقرأ على الأفقه مذهب أبي حنيفة وأحمد.
وقال الحافظ لا يخفى أن محل تقديم الأقرأ إنما هو حيث يكون عارفًا بما
تتعين معرفته من أحوال الصلاة. أما إذا كان جاهلاً فلا يقدم اتفاقًا اهـ.
وكذلك لا يقدم أمي من عجز عن فرض القراءة إلا بمثله. لأنه بصدد تحمل
القراءة عن المأموم.
ولأن القراءة شرط فلم يصح اقتداء القادر عليها بالعاجز عنها كالطهارة.
وتكره إمامة اللحان. والفأفاء. والتمتام. ومن لا يفصح ببعض الحروف. فإن
اجتمع فقيهان قارئان وأحدهما أفقه أو أقرأ قدم الأقرأ من الفقيهين أو
الأفقه منهما. ولو كان
(1/372)
أحد الفقيهين أفقه أو أعلم بأحكام الصلاة
قدم.
وذهب مالك والشافعي إلى أنه لو تعارض فضل القراءة وفضل الفقه قدم الأفقه
لأن احتياج المصلي إلى الفقه أكثر من احتياجه إلى القراءة لأن ما يجب في
الصلاة محصور وما يقع فيها من الحوادث غير محصور ولتقديم أبي بكر على من هو
أقرأ منه كزيد وأبي. وقال الزركشي وغيره لا خلاف بين العلماء أنه يقدم بعد
الأقرأ الأفقه ولو قدم الأفقه على الأقرأ جاز قال الموفق لا أعلم فيه
خلافًا إذ الأمر فيه أمر إرشاد. وقال شيخ الإسلام إذا كان رجلان من أهل
الديانة فأيهما كان أعلم بالكتاب والسنة وجب تقديمه على الآخر وكان ائتمامه
به متعينًا.
(فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة) أي سبقًا إلى دار الإسلام مسلمًا.
والهجرة الانتقال من بلد الشرك إلى بلد الإسلام وهي باقية إلى قيام الساعة
وقوله "لا هجرة بعد الفتح" يعني من مكة بعد فتحها إذ ذاك حيث صارت دار
إسلام. وإلا فالحكم يدور مع علته. قال شيخ الإسلام فقدم النبي - صلى الله
عليه وسلم - بالفضيلة بالعلم بالكتاب والسنة فإن استووا في العلم قدم
بالسبق إلى العمل الصالح وقدم بالسابق باختياره وهو المهاجر على من سبق
بخلق الله وهو الكبير السن. وقال في حديث "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه"
فمن سبق إلى هجر السيئات بالتوبة منها فهو أقدم هجرة فيقدم في الإمامة.
(1/373)
(فإن كانوا في الهجرة سواء فأقدمهم سنًا)
لأن كبر السن في الإسلام فضيلة يرجع إليها. وفي الصحيحين من حديث مالك بن
الحويرث "وليؤمكم أكبركم" وفي لفظ "أكبركما" ولمسلم وكانوا متقاربين في
القراءة. ولأبي داود وكنا متقاربين في العلم. ولأنه أقرب إلى الخشوع وإجابة
الدعاء. وفي رواية "سلمًا" أي إسلامًا فيكون من تقدم إسلامًا أولى ممن تأخر
وهذا مع الاتفاق في الصفات المتقدمة.
وقال بعض أهل العلم ثم يقدم الأشرف نسبًا وهو القرشي وتقدم بنو هاشم على
سائر قريش لقربهم من رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وقال شيخ الإسلام
لا يقدم في الإمامة بالنسب، وهو قول أبي حنيفة ومالك ورواية عن أحمد لقوله
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} ويجب تقديم من قدمه الله
ورسوله، ولو كان بخلاف شرط الواقف. واختار هو وجمع تقديم الأتقى على الأشرف
ويقدم الأورع والأعمر للمسجد لأن مقصود الصلاة هو الخضوع ورجاء إجابة
الدعاء. والأتقى والأورع أقرب إلى ذلك.
فإن استووا وتشاحوا أقرع بينهم فمن خرجت له القرعة قدم فهو الأحق.
(ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه رواه مسلم) وفي لفظ "في أهله ولا سلطانه
إلا بإذنه" إذا كان أهلاً للإمامة وإن كان في الحاضرين من هو أقرأ أو أفقه
منه وإن كان ذو سلطان
قدم لعموم ولايته وتقدم، والحر أولى من العبد. والمقيم أولى
(1/374)
من المسافر. والبصير أولى من الأعمى.
والمختون أولى من الأقلف والمتوضئ أولى من المتيمم.
وقيل تكره إمامة غير الأولى بدون إذنه لحديث "إذا أم القوم وفيهم من هو خير
منه لم يزالوا في سفال" ذكره أحمد بعد قوله في رسالته. ومن الحق الواجب على
المسلمين أن يقدموا خيارهم وأهل الدين والأفضل منهم أهل العلم بالله الذين
يخافون الله ويراقبونه.
(وللبخاري عن أبي هريرة مرفوعًا يصلون لكم) أي أئمتكم يصلون الصلاة لكم
ولهم وإن كانوا أئمة جور قال شيخ الإسلام صلاة الفاسق صحيحة بلا نزاع (فإن
أصابوا فلكم) أي ثواب صلاتكم ولهم ثواب صلاتهم (وإن أخطؤا) أي: ارتكبوا
الخطيئة (فلكم) ثواب صلاتكم (وعليهم) خطؤهم.
قال ابن المنذر هذا الحديث يرد على من زعم أن خطأ الإمام يؤثر في صلاة
المأموم إذا أصاب. وقال المهلب فيه جواز الصلاة خلف البر والفاجر إذا خيف
منه. وقيل لعثمان وهو محصور إنك إمام عامة ونزل بك ما ترى ويصلي بنا إمام
فتنة ونتحرج. فقال إن الصلاة هي أحسن ما يعمل الناس. مراده الصلاة الصحيحة،
فإذا أحسنوا فأحسن معهم أي لا يضرك كونه مفتونًا بل إذا أحسن فوافقه على
إحسانه وإن أساؤوا فاجتنب
(1/375)
إساءتهم وقال الحسن صل وعليه بدعته.
وفي صحيح مسلم وغيره "كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها
أو يميتون الصلاة قال: فما تأمرني قال: صل الصلاة لوقتها. فإن أدركتها معهم
فصل فإنها لك نافلة" وتقدم فقد أذن بالصلاة خلفهم وجعلها نافلة لأنهم
أخروها عن وقتها وظاهره أنهم لو صلوها في وقتها لكان مأمورًا بالصلاة معهم
فريضة. قال شيخ الإسلام وكذا عموم أحاديث الجماعة من غير فرق. والأصل أن من
صحت صلاته صحت إمامته.
وعن مكحول عن أبي هريرة مرفوعًا "الصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم برًا كان
أو فاجرًا" رواه أبو داود وغيره. وعن عبد الكريم البكاء قال: أدركت عشرة من
أصحاب رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - كلهم يصلون خلف أئمة الجور. رواه
البخاري في تأريخه.
وإن كان عبد الكريم لا يحتج بروايته فقد ثبت إجماع أهل العصر الأول من بقية
الصحابة ومن معهم من التابعين إجماعًا فعليًا. ولا يبعد أن يكون قوليًا على
الصلاة خلف الجائرين.
فثبت عن ابن عمر وأبي سعيد وغيرهما أنهم صلوا خلف المختار. والحجاج، ومروان
وغيرهم، وأجمعوا هم وتابعوهم عليه لأن أئمة تلك الأعصار في كل بلد: هم
الأمراء وحالهم لا
تخفى. قال النووي وغيره هو مذهب جمهور أهل العلم. وقال
(1/376)
الشيخ تصلى خلفهم جماعة فإن الصلاة في
جماعة خير من صلاة الرجل وحده وإن كان الإمام فاسقًا. هذا مذهب جماهير
العلماء أحمد والشافعي وغيرهما. بل الجماعة واجبة على الأعيان في ظاهر مذهب
أحمد.
ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند الإمام أحمد
وغيره من أئمة السنة. والصحيح أنه يصلي ولا يعيد فإن الصحابة كانوا يصلون
الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون. والمبتدع صلاته في نفسه
صحيحة. فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته وإنما كره من كره الصلاة خلفه
لأن الأمر والنهي واجب. ومن ذلك أن من أظهر بدعة أو فجورًا لا يرتب إمامًا
للمسلمين فإنه يستحق التعزير حتى يتوب.
وقال التحقيق أن الصلاة خلف أهل الأهواء والفجور لا ينهى عنها لبطلان
صلاتهم في نفسها لكن لأنهم إذا أظهروا المنكر استحقوا أن يهجروا وأن لا
يقدموا في الصلاة على المسلمين اهـ، وما روي عن جابر "ولا يؤمن فاجر
مسلمًا" فواه ولا يوجب بطلان الصلاة وأما كون الصلاة خلفه مكروهة فلا نزاع
في ذلك. وقال الشيخ الصلاة خلفه منهي عنها بإجماع المسلمين وقال الماوردي
يحرم على الإمام نصب الفاسق إمامًا للصلوات لأنه مأمور بمراعاة المصالح
وليس منها أن يوقع الناس في صلاة مكروهة، فلو صلى خلف من يعلم أنه فاسق أو
مبتدع
(1/377)
ففي صحة صلاته قولان مشهوران في مذهب أحمد
ومالك. ومذهب الشافعي وأبي حنيفة الصحة.
وقال الحارثي يجب أن يولى في الوظائف وإمامة المساجد الأحق شرعًا. وليس
للناس أن يولى عليهم الفساق وقال الشيخ في موضع لا تصح خلف أهل الأهواء
والبدع مع القدرة. وأما الجمعة والعيد فتصح للضرورة عند عامة السلف والخلف
وهو مذهب أحمد والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم. ولهذا قالوا في العقائد تصح
الجمعة والعيد خلف كل إمام برًا كان أو فاجرًا.
وأما الكافر أصليًا كان أو مرتدًا وسواء كان كفره ببدعة أو غيرها ولو أسره
فلا تصح خلفه. كما أنها لا تصح صلاته لنفسه ولكن لا يحكم بكفر الشخص المعين
حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر مخالفها. والأفعال والأقوال في ذلك سواء.
فقد يكون لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق وقد تكون عنده ولم تثبت عنده
أو لم يتمكن من فهمها. وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله بها وتصح خلف من
لا يعرفه بكفر لأن الأصل في المسلمين السلامة. وقال ويجوز للرجل أن يصلي
الصلوات الخمس والجمعة وغير ذلك خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقًا باتفاق
الأئمة الأربعة وغيرهم. وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه
ولا أن يمتحنه فيقول ماذا تعتقده بل يصلي خلف مستور الحال.
(1/378)
وتصح خلف المخالف في الفروع كما يرى صحة
النكاح بغير ولي أو شهادة لفعل الصحابة ومن بعدهم. قال المجد من قال لا تصح
خلفه فقد خرق إجماع من تقدم من الصحابة فمن بعدهم. وقال شيخ الإسلام تجوز
صلاة أهل المذاهب بعضهم خلف بعض كما كان الصحابة والتابعون ومن بعدهم من
الأئمة الأربعة وغيرهم يصلي بعضهم خلف بعض مع تنازعهم فيمن تقيأ أو مس ذكره
ونحوه أو لم يتشهد أو لم يسلم ونحوه. والمأموم يعتقد وجوب ذلك.
ولم يقل أحد من السلف أنه لا يصلي بعضهم خلف بعض ومن أنكر ذلك فهو مبتدع
ضال مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة. وكل ما لا يقطع فيه بخطأ
المخالف. وأما ما يقطع فيه بخطأ المخالف فتحرم. وهو الذي تدل عليه السنة
والآثار وقياس الأصول. وقال اتفق المسلمون على أن من ترك الأركان المتفق
عليها لم يصل خلفه. وقال الآجري وغيره إجماعًا لأمره عليه الصلاة والسلام
تارك الطمأنينة بالإعادة قاله البغوي
وغيره.
وفي الحديث دليل على أنه إذا صلى بقومه محدثًا أنها تصلح صلاة المأموم وذلك
ما لم يعلم حدث إمامه وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجمهور السلف والخلف.
ويعيد الإمام وحده وصح من حديث أبي بكرة "أنه دخل في صلاة الفجر فأومأ بيده
أن مكانكم ثم جاء ورأسه يقطر فصلى بهم وقال إنما أنا بشر
(1/379)
وإني كنت جنبًا" وصح عن عمر أنه صلى بالناس
الصبح ثم خرج إلى الجرن فاهراق الماء فوجد في ثوبه احتلامًا فأعاد ولم يعد
الناس. ونحوه عن عثمان وعلي وابن عمر وهذا في محل الشهرة فلم ينكر فكان
إجماعًا. قال الشيخ وبذلك مضت سنة الخلفاء الراشدين فإنهم صلوا بالناس ثم
رأوا الجنابة بعد الصلاة فأعادوا ولم يأمروا الناس بالإعادة.
وقال: الناس في انعقاد صلاة المأموم بصلاة الإمام على ثلاثة أقوال أحدها
أنه لا ارتباط بينهما. والثاني أنها منعقدة بها مطلقًا.
والثالث أنها منعقدة بها لكن إنما يسري النقص إلى صلاة المأموم مع عدم
العذر. فأما مع العذر فلا يسري النقص. فإذا كان الإمام يعتقد طهارته فهو
معذور في الإمامة والمؤتم معذور في الائتمام وهذا قول مالك وأحمد وغيرهما
وعليه يتنزل ما يؤثر عن الصحابة في هذه المسألة وهو أوسط الأقوال.
ويدل على صحته ما في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله – - صلى الله عليه
وسلم - قال: "يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم وإن أخطئوا فلكم وعليهم" فهذا
نص في أن درك خطئه عليه لا على المأموم اهـ.
وإن علم حدثه لم تصح لأنه أخل بشرط الصلاة مع القدرة فأشبه المتلاعب.
ولكونه لا صلاة له في نفسه فيعيد من خلفه.
وقال غير واحد أجمعت الأمة على تحريم الصلاة خلف محدث علم حدثه. وإن علم
الإمام أو المأموم في الصلاة فقال
(1/380)
أحمد يعجبني أن يبتدؤا الصلاة. وعنه يبني
المأموم وهو مذهب مالك والشافعي. وقالت الحنفية واختلفت الصحابة في ذلك
فيصار للقياس وهو ظاهر. وعن أحمد يستخلف الإمام عند عروض عذر يقتضي ذلك وهو
مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي والدليل على ثبوت الاستخلاف شرعًا إجماع
الصحابة وقصة عمر مشهورة. وعلي رعف فأخذ بيد رجل فقدمه وانصرف رواه سعيد.
(ولهما عن جابر كان معاذ يصلي مع النبي – - صلى الله عليه وسلم - العشاء)
يعني الآخر (ثم يصلي بقومه) ولفظه "ثم يرجع إلى قومه فيصلي بهم (تلك
الصلاة) زاد الشافعي والدارقطني هي له تطوع ولهم مكتوبة وصححها الحافظ وهذا
مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن أحمد وصلاة معاذ بهم مستفيضة وقال الحافظ
يصلي معه ثلاثون عقبيًا وأربعون بدريًا. وكذا قال ابن حزم ولا نحفظ عن
غيرهم من الصحابة امتناع ذلك بل قال معهم بالجواز عمر وابنه وأبو الدرداء
وغيرهم. ويشهد له صلاته – - صلى الله عليه وسلم - بالطائفة الثانية في صلاة
الخوف ولأنهما صلاتان اتفقتا في الأفعال المعهودة وتصحان جماعة وفرادى فصح
بناء إحداهما على الأخرى واختاره الموفق وشيخنا والشيخ وغيره وقال والذين
منعوا ذلك ليس لهم حجة مستقيمة فإنهم احتجوا بلفظ لا يدل على محل النزاع
كقوله "إنما جعل الإمام ليؤتم به
فلا تختلفوا عليه" وبأن "الإمام ضامن" وليس في هذين ما يدفع
(1/381)
تلك الحجج. والاختلاف المراد به الاختلاف
في الأفعال كما جاء مفسرًا.
وكذا من يصلي الظهر بمن يصلي العصر وغيرها واختاره وهي فرع على ائتمام
المفترض بالمتنفل بل هنا أولى لصحة الظهر خلف من يصلي الجمعة. وأما النفل
خلف الفرض فيصح إجماعًا لقوله "من يتصدق على هذا" وقوله "فصليا معهم فإنها
لكما نافلة" ولأن في نية الإمام ما في نية المأموم وهو نية التقرب وزيادة.
وهي الوجوب فلا منع بوجه من الوجوه.
(وفي السنن) من غير وجه منها عن عبد الله بن عمرو ابن العاص (أن رسول الله
– - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة لا يقبل الله منهم صلاة. رجل أم
قومًا وهم له كارهون" الحديث) قال الشيخ أتى بواجب ومحرم فقاوم صلاته فلم
تقبل إذ الصلاة المقبولة ما يثاب عليها. وتمام الحديث "ورجل أتى الصلاة
دبارًا والدبار أن يأتيها بعد أن تفوته ورجل اعتبد محرره. رواه أبو داود
وابن ماجه وغيرهما وفي إسناده الزيلعي.
وعن أبي أمامة بلفظ "لا تجاوز صلاتهم آذانهم" وذكر "الآبق حتى يرجع. وامرأة
باتت وزوجها عليها ساخط. وإمام قوم وهم له كارهون" (حسنه الترمذي) وفي
إسناده. أبو غالب الراسبي. وللترمذي عن أنس بلفظ "لعن رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - وأبدل الآبق برجل سمع حي على الفلاح فلم يجب"
(1/382)
ولابن ماجه من حديث ابن عباس "لا ترفع
صلاتهم فوق رؤوسهم شبرًا. رجل أم قومًا وهم له كارهون" وحسنه العراقي ولها
شواهد تنتهض للاستدلال على تحريم أو كراهة إمامة من يكرهون بحق.
قال الخطابي والبغوي وغيرهما إذا كرهوه لمعنى مذموم كوال ظالم. أو من تغلب
على إمامة الصلاة ولا يستحقها. ولا يتصون من النجاسات. أو يمحق هيئات
الصلاة. أو يتعاطى معيشة مذمومة. أو يعاشر أهل الفسوق ونحوهم. فإن لم يكن
شيء من ذلك فلا كراهة. والعتب على من كرهه.
وقال الشيخ إذا كانوا يكرهونه لأمر في دينه مثل كذبه أو ظلمه أو جهله أو
بدعته ونحو ذلك. ويحبون آخر أصلح منه في دينه مثل أن يكون أصدق أو أعلم أو
أدين فإنه يجب أن يولى عليهم هذا الذي يحبونه. وليس لذلك الرجل الذي
يكرهونه أن يؤمهم كما في الحديث عنه – - صلى الله عليه وسلم - إنه قال:
"ثلاثة لا تجاوز صلاتهم أذانهم. رجل أم قومًا وهم له كارهون. ورجل لا يأتي
الصلاة إلا دبارًا. ورجل اعتبد محرره".
وقال أيضًا إذا كان بينهم معاداة مثل جنس معاداة أهل الأهواء والمذاهب لم
ينبغ أن يؤمهم لأن المقصود بالصلاة جماعة إنما يتم بالائتلاف. وقال عليه
الصلاة والسلام "لا تختلفوا فتختلف قلوبكم" وقال القاضي المستحب أن لا
يؤمهم صيانة
(1/383)
لنفسه ولا يكره الائتمام به. إن لم يشوش
عليه باله لأن الكراهة في حق الإمام.
فصل في الموقف
أي موقف الإمام والمأمومين في الفرض والنفل في صلاة الجماعة.
(عن جابر قال قام رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - يصلي) ولأحمد "يصلي
المغرب" (فقمت عن يساره فـ) أخذ رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - بيدي
فأدراني حتى (أقامني عن يمينه) ولهما عن ابن عباس صليت خلف رسول الله – -
صلى الله عليه وسلم - ذات ليلة فقمت عن يساره "فأخذ برأسي من ورائي فأقامني
عن يمينه" ولمسلم عن أنس أنه أقامه عن يمينه.
فدلت هذه الأحاديث على أن موقف الواحد عن يمين الإمام وهو إجماع. وذهب
الأكثر إلى أن ذلك واجب، ومذهب أحمد عدم الصحة مع خلو يمينه وعنه تصح عن
يساره مع خلو يمينه وهو مذهب الأئمة الثلاثة واختاره الموفق وغيره. وقال في
شرح المقنع وهي القياس كما لو كان عن يمينه. وقال الوزير اجمعوا على أن
المصلي إذا وقف عن يسار الإمام وليس عن يمينه أحد أن صلاته صحيحة. إلا أحمد
فقال تبطل ولا خلاف في الندبية.
وأكثر ما تدل الأحاديث على أن اليمين هو الموقف الشرعي
(1/384)
وأما إذا كانوا ثلاثة فأكثر فيقومان خلفه
لقول جابر (ثم جاء جابر) بن صخر الأنصاري السلمي شهد العقبة وما بعدها
(فقام عن يساره) يعني يسار رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (فأخذ
بأيدينا) جميعًا فدفعنا، يعني من ورائه (فأقامنا خلفه رواه مسلم) وعن سمرة
بن جندب قال "أمرنا رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا كنا ثلاثة أن
يتقدم أحدنا" رواه الترمذي.
ووقوف المأمومين اثنين فأكثر خلف الإمام نقله الخلف عن السلف. واستمر أمر
المسلمين عليه لا ينازع في ذلك أحد إلا ما استثني لحاجة كضيق مكان ونحوه
لصلاة ابن مسعود بين علقمة والأسود. قال ابن سيرين وغيره كان المكان ضيقًا
وكان بمكة وتقدمه – - صلى الله عليه وسلم - متواتر لا عدول عنه بفعل لعذر
ومهجور بالإجماع.
فإن شق تأخيرهما أو تعذر تقدم الإمام فصلى بينهما ثم إن بطلت صلاة أحدهما
تقدم الآخر إلى يمين الإمام وإن كانا خلف الصف تقدم إلى الصف إن أمكنه.
ولا يصح تقدم المأموم عند جمهور العلماء وعند مالك يكره وتصح وذكره شيخ
الإسلام وجهًا للأصحاب. قال في الفروع والمراد وأمكن الاقتداء وهو متجه
وقيل تصح جمعة ونحوها بعذر اختاره شيخنا. وقال من تأخر بلا عذر فلما أذن
جاء فصلى قدامه عزر.
وقال إذا لم يمكنه أن يصلي مع الجماعة إلا قدام الإمام فإنه يصلي هنا لأجل
الحاجة وهو قول طوائف من أهل العلم.
(1/385)
ومن الأصول الكلية أن المعجوز عنه في الشرع
ساقط الوجود والمضطر إليه بلا معصية غير محظور فلم يوجب الله ما يعجز عنه
العبد ولم يحرم ما اضطر إليه وقال تصح قدامه مع العذر وهو أعدل الأقوال
وأرجحها لأن ترك التقدم غايته أن يكون واجبًا والواجب يسقط مع العذر اهـ،
ولا يضر تقدم أصابع المأموم بطول قدمه ولا تقدم رأسه في السجود لطوله.
والحكم على كل من تقدم بكل القدمين أو تأخر بهما أو انفصل بقدرهما ببطلان
صلاته لا دليل عليه.
ولا نزاع أن تسوية الصف سنة. والتراص والزاق الكعاب سنة مؤكدة وشريعة
مستقرة وإن وقفوا حول الكعبة المشرفة مستديرين صحت كما فعله ابن الزبير
وأجمعوا عليه. ولا يضر تقدم المأموم حيث كان في الجهة المقابلة للإمام لأنه
في غير جهته ولا يتحقق تقدمه عليه. وتصح داخلها إذا جعل وجهه إلى وجه إمامه
أو ظهره إلى ظهره اتفاقًا. ويغتفر التقدم في شدة الخوف إذا أمكنت المتابعة.
(ولهما عن أنس فقمت ويتيم خلفه) أي خلف رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -
واليتيم هو ضميرة جد حسين بن عبد الله بن ضميرة.
فدل على أن مقام الاثنين خلف الإمام كما تقدم. وأن الصغير يعتد بوقوفه ويسد
الجناح وأن موقفه في الصف دون المرأة وهو الرواية الثانية عن أحمد ومذهب
الأئمة الثلاثة واختاره ابن عقيل واستظهره في الفروع وعليه العمل قال شيخنا
وهو قول
(1/386)
قوي (وأم سليم) وهي أم أنس واسمها مليكة
(خلفنا) وفي لفظ والعجوز من ورائنا.
فتصح صلاتها خلف الصف قال شيخ الإسلام باتفاق أهل العلم إذا لم يكن في
الجماعة إمرأة غيرها كما جاءت به السنة ولأنها لا موقف لها مع الرجال. وإن
أمت نساء وقفت في صفهن ندبًا قال في الإنصاف وغيره هذا مما لا نزاع فيه.
ويصح تقديمها وإن وقفت عن يمين الإمام صحت صلاتها، وإن وقفت بصف رجال لم
تبطل صلاة من يليها أو خلفها ولا صلاتها. وحكي اتفاقًا لكنه غير مشروع.
وقال الشيخ إذا وقفت في الصف ففي بطلان صلاتها قولان أحدهما لا تبطل وهو
مذهب مالك والشافعي وقول ابن حامد والقاضي وغيرهما. وعند الحنفية تفسد صلاة
الرجل دونها قال الحافظ وهو عجيب.
(وعن وابصة) بن معبد بن مالك من بني أسد بن خزيمة الأنصاري مات بالرقة وله
أحاديث منها (أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يصلي خلف
الصف وحده فأمره أن
يعيد الصلاة) رواه الخمسة إلا النسائي و (حسنه الترمذي) وصححه ابن حبان وفي
رواية لأحمد قال سئل عن رجل يصلي خلف الصفوف وحده فقال "يعيد الصلاة" وعن
علي بن شيبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "رأى رجلاً يصلي خلف
الصف فوقف حتى انصرف الرجل فقال استقبل صلاتك فلا صلاة لمنفرد خلف
(1/387)
الصف" رواه أحمد وابن ماجه. وقال ابن سيد
الناس رواته ثقات ولابن حبان عن طلق بن علي مرفوعًا "لا صلاة لمنفرد خلف
الصف".
قال شيخ الإسلام قد صحح الحديثين حديث وابصة وعلي غير واحد من أئمة الحديث
وأسانيدهما مما تقوم بها الحجة وليس فيهما ما يخالف الأصول بل ما فيهما هو
مقتضى النصوص المشهورة والأصول المقررة فإن صلاة الجماعة سميت جماعة
لاجتماع المصلين في الفعل مكانًا وزمانًا فإذا أخلوا لغير عذر كان منهيًا
عنه باتفاق الأئمة. فلو كان هذا خلف هذا كان من أعظم الأمور المنكرة.
وأمروا بتقويم الصفوف مبالغة في تحقيق اجتماعهم على أحسن وجه بحسب الإمكان.
وقياس الأصول يقتضي وجوب الاصطفاف. وأن صلاة المنفرد لا تصح كما جاء به
هذان الحديثان. ومن خالف ذلك من العلماء فلا ريب أنه لم تبلغه هذه السنة من
وجه يثق به. ووقوفه وحده خلف الصف مكروه وترك للسنة باتفاقهم إلا أن لا يجد
موقفًا إلا خلفه ففيه نزاع.
والأظهر صحة صلاته في هذا الموضع لأن جميع واجبات الصلاة تسقط بالعجز.
وأما التفريق بين العالم والجاهل كقول في مذهب أحمد فلا يسوغ فإن المصلي
المنفرد لم يكن عالمًا بالنهي وقد أمره بالإعادة كما أمر المسيء اهـ. وأما
أبو بكرة فإنما ركع دون الصف ثم مشي
(1/388)
إلى الصف ولا يعد حكم الشروع في الركوع خلف
الصف حكم الصلاة كلها خلفه. قال شيخ الإسلام لأنه أدرك من الاصطفاف المأمور
به ما يكون به مدركًا للركعة فهو بمنزلة أن يقف وحده ثم يجيء آخر فيصافه في
القيام فإن هذا جائز باتفاق الأئمة حتى لو قدر أن أبا بكرة دخل في الصف بعد
اعتدال الإمام كما يجوز ذلك في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره. لكان
سائغًا.
وإذا لم يجد فرجة يدخلها ولا يمكنه أن يقف عن يمين الإمام فله أن ينبه من
يقوم معه صفًا ليتمكن من الاقتداء. وكره تنبيهه بجذبه لأنه تصرف فيه بغير
إذنه. قال الشيخ ويصلي خلف الصف فذًا ولا يجذب غيره. وتصح في هذه الحالة
فذًا لأن غاية المصافة أن تكون واجبة فتسقط بالعذر.
وقال الأفضل أن يقف وحده ولا يجذب لما في الجذب من التصرف في المجذوب وإن
كان المجذوب يطيعه قائمًا أفضل له.
وللمجذوب الاصطفاف معه مع بقاء فرجة أو وقوف المتأخر وحده ونحوه. والجمهور
على وجوب إتباع من نبهه وهو أفضل من بقائه في مقامه. ولو حضر اثنان فالأفضل
اصطفافهما لأن سد الفرجة مستحب والاصطفاف واجب رجحه الشيخ وغيره.
(وعن أبي مسعود مرفوعًا ليلني) بكسر اللامين وتخفيف النون من غير ياء قبلها
وروي بإثباتها (منكم) وعن أنس وكان يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليأخذوا
عنه" رواه أحمد
(1/389)
وغيره أي ليقرب مني (أولو الأحلام) واحدها
حلم بضم الحاء: السكون الوقار والإناءة والتثبت في الأمور وضبط النفس عن
هيجان الغضب ويراد بهم ذو الألباب والعقول وقيل البالغون وقيل أهل العلم
والفضل (والنهى) (بضم النون) العقول أي ليدن مني البالغون العقلاء لشرفهم
ومزية تفطنهم.
وقال ابن سيد الناس الأحلام والنهى بمعنى واحد (متفق عليه) ولمسلم عن ابن
مسعود "ليلني منكم أولو الأحلام والنهى. ثم الذين يلونهم. ثم الذين
يلونهم".
فدلت هذه الأحاديث على مشروعية تقدم أهل العلم والفضل ولتأتي التبليغ منهم
والاستخلاف عند الحاجة ولأبي داود وغيره قال أبو مالك الأشعري ألا أحدثكم
بصلاة رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "أقام الصف، فصف الرجال وصف
الغلمان خلفهم" ولأحمد نحوه وزاد "والنساء خلف الغلمان وقال أحمد يكره أن
يقوم الصبي مع الناس في المسجد خلف الإمام. وكان عمر إذا رأى صبيًا في الصف
أخرجه. ولأحمد من حديث أبي أن عمر قال له كونوا في الصف الذي يليني.
وقال بعض الأصحاب الأفضل تأخير مفضول، وكذا تأخير صبي. واختاره الشيخ وقطع
به ابن رجب. وقال في الفروع وظاهر كلامهم في الإيثار بمكانه وفيمن سبق إلى
مكان ليس له ذلك أي تأخير صبيان لبالغين لاتحاد جنسهم وهو مذهب الشافعية
وغيرهم وقاله الحافظ وغيره وصوبه في الإنصاف.
(1/390)
وقطع به المجد وعليه عمل الناس. وقوله
ليلني لا يتم الاستدلال به على إخراجهم من صفوف الرجال إنما فيه تقديم
البالغين أو نوع منهم. وإذا كانوا أقرأ ففيهم أهلية لذلك.
فإن الصبي إذا عقل القربة كالبالغ في الجملة وقدم الصحابة عمرًا في الإمامة
وهو ابن ست أو سبع سنين فالمصافة أولى فإنه قد يكون صبي أقرأ من مكلف وقال
تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} وأحاديث "من سبق
إلى مكان فهو أحق به" و "لا يقيم أحدكم أخاه من مجلسه" ونحو ذلك مطلقة
وحديث أبي مالك ليس فيه نهي وقد يحمل فعل عمر وقول أحمد على نقرة الإمام
للخبر ما لم يكن الصبي أقرأ. ولو كان تأخيرهم أمرًا مشهورًا لاستمر العمل
عليه كتأخير النساء. ولنقل نقلاً لا يحتمل الاختلاف كما نقلت الأمور
المشهورة. وقال الحافظ على قول ابن عباس وأنا فيهم أن الصبيان مع الرجال
وأنهم يصفون معهم ولا يتأخرون عنهم.
فصل في الاقتداء
أي في أحكام اقتداء المأموم بالإمام في المسجد وخارجه وانصرافهما.
(وعن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي في حجرته)
(1/391)
أي حجرة بيته وعند أبي نعيم "كان يصلي في
حجرة من حجر أزواجه (وجدار الحجرة قصيرة) تمكن رؤيتهم منه (فرأى الناس
شخصه) – - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي في حجرته (فقام أناس) ممن رأوه
(يصلون بصلاته" رواه البخاري) ولأحمد عنها قالت كانت لنا حصيرة نبسطها
بالنهار ونحتجر بها بالليل "فصلى فيها رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -
ذات ليلة فسمع المسلمون قراءته فصلوا بصلاته" وفي لفظ أمرني أن أنصب له
حصيرًا على باب حجرتي" ففعلت.
فدل على أن الحائل بين الإمام والمأمومين غير مانع من صحة الصلاة مهما علم
حال الإمام قال النووي يشترط لصحة الاقتداء علم المأموم بانتقالات الإمام.
سواء صليا في المسجد أو في غيره أو أحدهما فيه والآخر في غيره بالإجماع.
ويحصل العلم بذلك بسماع الإمام أو من خلفه أو مشاهدة فعله أو فعل من خلفه
ونقلوا الإجماع في جواز اعتماد واحد من هذه الأمور، اهـ.
ولا يشترط الاتصال في المسجد حكاه أبو البركات إجماعًا. لأنه إنما بنى
للجماعة فكل من حصل فيه حصل في محل الجماعة بخلاف خارج المسجد فإنه ليس
معدًا للاجتماع فيه فلذلك اشترط الاتصال فيه فإذا اتصلت صحت إجماعًا. وحكى
الإجماع على أنه لا يضر بعد المؤتم في المسجد ولا الحائل ولو كان فوق
القامة مهما علم حال الإمام واعتبره بعضهم ببعد غير معتاد بحيث يمنع إمكان
الاقتداء فيرجع فيه إلى العرف.
(1/392)
ولو كانوا في صحراء ليس فيها قارعة طريق
وبعدوا عن الإمام أو تباعدت الصفوف جاز ذلك مع سماع التكبير ووجود المشاهدة
إن اعتبرت. وإن كان أحدهما خارج المسجد إن رأى الإمام أو المأمومين ولو لم
تتصل الصفوف لانتفاء المفسد ووجود المقتضى للصحة وهو الرؤية وإمكان
الاقتداء وفي الإنصاف المرجع في اتصال الصفوف إلى العرف على الصحيح من
المذهب وصححه في المغني فلا يتقدر بشيء وهو مذهب مالك والشافعي لأنه لا حد
في ذلك ولا إجماع ولأنه لا يمنع الاقتداء فإن المؤثر في ذلك ما يمنع الرؤية
أو سماع الصوت.
واشترط النووي أن لا تطول المسافة بين الإمام والمأمومين إذا صلوا في غير
المسجد وهو قول جمهور العلماء وإذا كان بينهم وبين الصفوف حائط بحيث لا
يرون الصفوف ولكن يسمعون التكبير من غير حاجة. فقال الشيخ لا تصح صلاتهم في
أظهر قولي العلماء. وإذا صفوا وبينهم وبين الصف الآخر طريق يمشي فيه الناس
لم تصح صلاتهم في أظهر قولي العلماء.
(وعن حذيفة أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال إذا أم الرجل قومًا
فلا يقومن في مقام أرفع من مقامهم) قال عمار لحذيفة لذلك اتبعتك. وهو أن
عمارًا صلى بالمدائن فقام على دكان والناس أسفل منه فأخذ حذيفة بيده فاتبعه
عمار حتى أنزله فلما فرغ قال ألم تعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
قال "إذا أم الرجل" الحديث. وفي لفظ "ألم تعلم أنهم كانوا ينهون عن ذلك قال
بلى" (رواه أبو
(1/393)
داود) وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم
ورواه الشافعي والبيهقي ومن لا يحصى من كبار المحدثين ومصنفيهم بإسناد
صحيح. وللدارقطني معناه بإسناد حسن.
فدل الحديث على كراهة علو الإمام عن المأموم ذراعًا فأكثر وهو مذهب جمهور
أهل العلم أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم.
وحكى اتفاقًا إلا لحاجة ويشترك الإمام والمأموم في النهي قال ابن فرحون لأن
الإمامة تقتضي الترفع فإذا انضاف إلى ذلك علوه عليهم في المكان دل على قصده
الكبر وإن كان العلو يسيرًا لحاجة لم يكره. لما في الصحيحين من حديث سهل
أنه – - صلى الله عليه وسلم - "صلى على المنبر ثم نزل القهقري فسجد وسجدنا
معه ثم عاد حتى فرغ ثم قال إنما فعلت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي".
ولا يضر ارتفاع المؤتم. وحكي إجماعًا ما لم يكن ارتفاعًا مفرطًا بحيث لا
يمكن المؤتم العلم بأفعال الإمام لأن أبا هريرة صلى على سطح المسجد بصلاة
الإمام رواه أحمد والشافعي والبيهقي والبخاري تعليقًا. وعن أنس نحوه رواه
سعيد ويروى عن ابن عباس وابن عمر ولأن المتابعة حاصلة أشبهت العلو اليسير
والأصل الجواز حتى يقوم دليل على المنع، أما إذا لم يمكن العلم بأفعال
الإمام فممنوع للإجماع من غير فرق بين المسجد وغيره.
(وعن سمرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلى صلاته أقبل
(1/394)
علينا بوجهه، متفق عليه) ولمسلم عن عائشة
كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول "اللهم أنت السلام ومنك السلام
تباركت يا ذا الجلال والإكرام" أي لا يلبث جالسًا عن هيئته قبل السلام بل
يتحول ويقبل على أصحابه وروى عبد الرزاق عن أنس: كان ساعة يسلم يقوم.
وثبت أنه إذا انصرف انحرف واستفاضت الأحاديث أنه - صلى الله عليه وسلم -
كان يعقب سلامه بالانصراف والإقبال على المأمومين. ولا فرق بين الانفتال
والانصراف وحكى النووي وغيره أن عادته - صلى الله عليه وسلم - إذا انصرف
استقبل المأمومين جمعيهم. وقاله القاضي والحافظ وغيرهما وهو مفهوم ما ورد
عنه من الذكر بعد الصلاة
والتذكير وغيره وقال ابن القيم: كان يسرع الإنفتال إلى المأمومين، اهـ.
ويكره إطالة قعوده بعد الصلاة مستقبل القبلة. وقال إبراهيم احصبوه ولأن في
تحوله إعلامًا بأنه صلى فلا ينتظر. وربما إذا بقي على حاله يسهو فيظن أنه
لم يسلم أو يظن غيره أنه في الصلاة فكره سدًا للذريعة. وينحرف عن يمينه وهو
أفضل لعموم الأحاديث المصرحة بفضل اليمين ولا كراهة في انحرافه على اليسار
لثبوته عنه – - صلى الله عليه وسلم - ويستحب أن لا ينصرف المأموم قبل إمامه
لما في صحيح مسلم وغيره "لا تسبقوني بالركوع ولا بالسجود ولا بالانصراف"
إلا أن يخالف الإمام السنة في إطالة الجلوس فلا بأس.
(1/395)
قال خارجة بن زيد السنة أن يقوم الإمام
ساعة يسلم فلا يبقى مستقبلاً القبلة. وذكر غير واحد أن استدبار الإمام
المأمومين إنما هو لحق الإمامة فإذا انقضت الصلاة زال السبب فاستقبالهم
حينئذ يرفع الخيلاء والترفع على المأموم فإن صلى معه نساء مكث قليلاً
لينصرفن لئلا يدركهن الرجال لما في الصحيح وغيره عن أم سلمة "كان إذا سلم
قام النساء حين يقضي تسليمه وهو يمكث في مكانه يسيرًا قبل أن يقوم".
(ولمسلم عن معاوية: نهى – - صلى الله عليه وسلم - أن توصل صلاة بصلاة) أي:
يجمع بينهما فلا تفصل (حتى نتكلم) والأفضل بما شرع من الأذكار بعد الصلاة
(أو يخرج) من مكاننا الذي صلينا فيه. ولأبي داود وغيره من حديث المغيرة "لا
يصل الإمام في الموضع الذي صلى فيه حتى يتحول" فيكره بلا حاجة ليميز فرض
الصلاة عن نفلها. والمأموم كالإمام اتفاقًا وقيل إن كانت البقعة فاضلة لم
يكره لفعل سلمة عند الأسطوانة وقال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتحرى
الصلاة عندها. ولحاجة كتدريس ونحوه وحكي اتفاقًا.
وينبغي أن يفصل بالكلام إن لم يتحول. وكره أحمد لغير الإمام اتخاذ مكان لا
يصلي إلا فيه والمصافحة بعد السلام من الصلاة لا أصل لها لا بنص ولا بعمل
من الشارع وأصحابه.
ولو كانت مشروعة لتوفرت الهمم والدواعي على نقلها. أما إذا كانت أحيانًا
لكونه لقيه عقب الصلاة لا لأجل الصلاة فحسن.
(1/396)
فصل في الأعذار
أي في بيان الأعذار المبيحة لترك الجمعة والجماعة.
(قال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} أي يسرها أي
لا يكلف الله أحدًا فوق طاقته والوسع اسم لما يسع الإنسان ولا يضيق عليه
فدلت هذه الآية وما في معناها على أن من لم يمكن في وسعه المجيء إلى
الجماعة لمرض أو مطر أو خوف ونحو ذلك لا يكلف فوق طاقته فلا يلزمه حضور
الجماعة وهذا مما لا نزاع فيه.
(وعن عائشة قالت مرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) أي مرضه الذي مات
فيه صلوات الله وسلامه عليه (فقال مروا أبا بكر فليصل بالناس) فخرج أبو بكر
يصلي "فوجد النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفسه خفة فخرج يهادى بين
رجلين" (رواه مسلم) فمن بلغ إلى تلك الحالة لا يستحب له الخروج للجماعة إلا
إذا وجد من يتوكأ عليه. وقوله "لأتوهما ولو حبوا" على المبالغة فيعذر بترك
جمعة وجماعة: مريض قال في الإنصاف بلا نزاع.
وقال ابن المنذر لا أعلم خلافًا بين أهل العلم أن للمريض أن يتخلف عن
الجماعات من أجل المرض. وقال النووي ضبطوا المرض الذي يشق معه القصد كمشقة
المشي في المطر. وتقدم قوله: "من سمع النداء فلم يجبه فلا صلاة له إلا من
عذر.
قالوا يا رسول الله وما العذر قال "خوف أو مرض" رواه
(1/397)
أبو داود بسند صحيح. وكذا خائف حدوث مرض أو
زيادته أو تباطؤه لأنه مرض.
(وللبخاري عن ابن عمر مرفوعًا "إذا وضع عشاء أحدكم وأقيمت الصلاة فابدؤوا
بالعشاء) ولا يعجل حتى يفرغ منه" وفي لفظ "إذا كان أحدكم على الطعام فلا
يعجل حتى يقضي حاجته منه وإن أقيمت الصلاة" وتقدم حديث عائشة "لا صلاة
بحضرة طعام. ولا وهو يدافعه الأخبثان" وحديث أنس "إذا قدم العشاء فابدؤوا
به قبل أن تصلوا المغرب، ولا تعجلوا عن عشائكم" ولا نزاع في ذلك ليقبل على
صلاته وقلبه فارغ وينبغي أن لا يعمد إلى هذه الأمور ونحوها. وإنما يجوز إذا
وقعت اتفاقًا وينبغي اجتنابه إذا كان يقع كثيرًا
(ولهما عنه كان ينادي منادي رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - في الليلة
الباردة أو ذات المطر صلوا في رحالكم) ولمسلم عن جابر خرجنا مع رسول الله –
- صلى الله عليه وسلم - في سفر فمطرنا فقال "ليصل من شاء منكم في رحله"
ولهما عن ابن عباس أنه قال لمؤذنه في يوم مطير "لا تقل حي على الصلاة ولكن
قل صلوا في رحالكم فكأن الناس استنكروا ذلك فقال فعله من هو خير مني يعني
رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وإني كرهت أن أخرجكم في الطين والدحض".
والثلج والجليد والبرد كذلك.
وذكر النووي وغيره أن البرد الشديد عذر في الليل والنهار وشدة الحر عذر في
الظهر وذكر أبو المعالي وغيره أن كل ما
(1/398)
أذهب الخشوع كالحر المزعج عذر والزلزلة عذر
لأنها نوع خوف. قال ابن عقيل ومن له عروس تجلى عليه. ويعذر بترك الجمعة
والجماعة خائف من ضياع ماله أو فواته أو ضرر فيه لأن المشقة اللاحقة بذلك
أعظم من بل الثياب بالمطر الذي هو عذر باتفاق أهل بالعلم. قال المجد
والأفضل فعل ذلك ترك الجمعة والجماعة إلا ما يرجو وجوده.
ويعذر من يخاف بحضوره موت قريبه وليس له من يمرضه غيره فيتشوش خشوعه. قال
الموفق لا نعلم فيه خلافًا لأن ابن عمر ترك الجمعة لذلك رواه البخاري. وكذا
إن خاف على نفسه من ضرر كسبع أو من سلطان يأخذه أو من ملازمة غريم ولا شيء
معه أو فوات رفقته أو غلبة نعاس أو خاف على أهله أو ماله أو نحو ذلك مما
يشوش عليه حضوره. وإن طرأ بعض الأعذار في الصلاة أتمها خفيفة إن أمكن وإلا
قطعها لأن من شروط صحة الصلاة أن يعي أفعالها ويعقلها. وهذه الأشياء تمنع
ذلك فإذا زالت فعلها على كمال خشوعها وفعلها مع كمال خشوعها بعد فوات
الجماعة أولى من فعلها مع الجماعة بدون كمال خشوعها لأن لب الصلاة وروحها
الخشوع. وحضور القلب.
وقال زكريا الأنصاري ومن الأعذار كل مشوش للخشوع مع سعة الوقت. وأكل منتن
ومن ببدنه أو ثوبه ريح خبيث وأن عذر كذي بخر أو أصنان مستحكم ما لم يسهل
عليه إزالته ومن كان أكله لعذر ما لم يأكله بقصد إسقاط الجمعة والجماعة
وإلا
(1/399)
لزمه إزالته مهما أمكن ولا تسقط عنه.
والمراد سقوط الإثم على قول: الفرض وفي الصحيحين "من أكل من هذه الشجرة فلا
يقربنا ولا يصل معنا" ولهما عن عمر فلا يأت المسجد والمراد لا تحيلاً فلا
تسقط ويحرم.
باب صلاة أهل الأعذار
وهم المريض والمسافر والخائف ونحوهم. والأعذار جمع عذر والعذر الحجة التي
يعتذر بها وما يرفع اللوم عما حقه أن يلام عليه سموا بذلك لما قام بهم من
الأعذار الآتية ونحوها.
(قال تعالى: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} أي لا تكلف إلا ما
أطاقت من العمل قال أهل التفسير فمن لم يستطع القيام فليصل قاعدًا وقد وضع
الله الحرج عن هذه الأمة وجعل دينها يسرًا وأرشد عباده المؤمنين أن يقولوا
{رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِه} ِ وقال: "قد
فعلت" وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (وقال: {وَاعْبُدْ
رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِين} يعني الموت الموقن به الذي لا يشك
فيه أحد والمعنى واعبد ربك في جميع أوقاتك ومدة حياتك حتى يأتيك الموت وأنت
في عبادة ربك وهذه الآية كقوله تعالى: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ
وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} قال ابن كثير يستدل بالآية على أن العبادة
كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتًا فيصلي بحسب حاله.
(1/400)
(وعن عمران بن حصين قال قال رسول الله – -
صلى الله عليه وسلم - صل قائمًا) وذلك أن عمران كانت به بواسير فسأل النبي
– - صلى الله عليه وسلم - فأمره أن يصلي قائمًا إن استطاع. والقيام واجب في
الفرض إجماعًا مع القدرة. ولو كان قيامه كصفة راكع لحدب أو كبر أو مرض
ونحوه أو معتمدًا في قيامه على شيء من نحو عصا، أو مستندًا إلى حائط ونحوه.
(فإن لم تستطع) أي الصلاة قائمًا (فقاعدًا) قال النووي وغيره أجمعت الأمة
على أن من عجز عن القيام في الفريضة صلى قاعدًا ولا إعادة عليه ولا ينقص
ثوابه للخبر، اهـ.
وكذا لو شق عليه القيام أو كان في سفينة، أو بيت قصير سقفه وتعذر الخروج أو
خاف عدوًا إن انتصب قائمًا صلى جالسًا. وقال إمام الحرمين الذي أراه في ضبط
العجز أن يلحقه بالقيام مشقة تذهب خشوعه لأن الخشوع مقصود الصلاة.
وكذا رقيب غزاة أو كمينهم خاف إن قام رؤية العدو. ويصلي متربعًا اتفاقًا
وكيف قعد جاز فإن الشارع لم يخص جلسة دون جلسة. وذكر ابن أبي نسيبة عن
جماعة من التابعين أنهم كانوا إذا صلوا جلوسًا يجثون (فإن لم تستطع) أي
قاعدًا (فعلى جنب رواه البخاري) والخمسة وغيرهم وذكره غير واحد مذهب
الجمهور.
زاد النسائي فإن لم تستطع فمستلقيًا {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا
(1/401)
إِلاَّ وُسْعَهَا} وقال الشيخ ووجهه إلى
القبلة للخبر إن استطاع أو كان عنده من يوجهه وإن لم يكن عنده من يوجهه إلى
القبلة صلى على أي جهة توجهه اهـ. وإذا لم يقدر على جنبه وصلى على ظهره
فصلاته صحيحة بلا نزاع. وروى الدارقطني من حديث علي بسند ضعيف فإن لم يستطع
أن يصلي على جنبه الأيمن صلى مستلقيًا رجلاً مما يلي القبلة ولو صلى على
ظهره ورجلاه إلى غير القبلة فإنه يصير مستدبرًا للقبلة فلا تنعقد صلاته مع
القدرة ويومئ العاجز برأسه راكعًا وساجدًا مهما أمكنه.
قال الشيخ فيمن لا يستطيع التحرك. وإذا سجد لا يستطيع الرفع يومئ برأسه
إيماء بحسب حاله وروي عن جابر صل على الأرض إن استطعت وإلا فأوم إيماء
واجعل سجودك أخفض من ركوعك ولا ينقص أجر من نوى الخير وفعل ما يقدر عليه
لخبر أبي كبشة وغيره. ولو عجز عن الإيماء برأسه سقطت عنه الصلاة ولا يلزمه
الإيماء بطرفه وهذا مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد وهو ظاهر حديث عمران
وغيره.
وينتقل إلى القيام من قدر عليه وإلى الجلوس من عجز عن القيام إجماعًا. وإن
قدر على قيام وقعود وعجز عن ركوع وسجود أومأ بركوع قائمًا وبسجود قاعدًا
عند جمهور أهل العلم. ولمريض الصلاة مستلقيًا مع القدرة على القيام لمداواة
وهو مذهب أبي حنيفة وأحمد لأنه – - صلى الله عليه وسلم - صلى جالسًا حين
جحش شقه وأم سلمة تركت السجود لرمد بها.
(1/402)
(وعن يعلى بن مرة) بن وهب بن جابر بن عتاب
بن مالك الثقفي من أفاضل الصحابة رضي الله عنهم (أن النبي – - صلى الله
عليه وسلم - انتهى إلى مضيق) ضد متسع من واد وغيره (والسماء) يعني المطر
(من فوقهم والبلة) يعني النداوة (من أسفل منهم فحضرت الصلاة فأمر المؤذن
فأذن وأقام ثم تقدم النبي – - صلى الله عليه وسلم - فصلى بهم) يعني إيماء
(يجعل السجود أخفض من الركوع رواه) أحمد و (الترمذي) وقال العمل عليه عند
أهل العلم.
وثبت عن أنس من فعله ولم ينقل عن غيره خلاف في أن الفرض يصح على الراحلة
واقفة كانت أو سائرة خشية التأذي بوحل أو مطر أو ثلج أو برد. فإن قدر على
نزول بلا ضرر لزمه وكذا إن خاف انقطاعًا عن رفقته بنزوله أو على نفس من عدو
ونحوه أو عجز عن ركوب إن نزل قال في الاختيارات تصح صلاة الفرض على الراحلة
خشية الانقطاع عن الرفقة أو حصول ضرر بالمشي أو تبرز الخفرة وعليه
الاستقبال وما يقدر عليه من شروط وأركان وواجبات وما لا يقدر عليه لا يكلف
به.
ومن كان بسفينة ونحوها وقدر على القيام لزمه بلا نزاع. وسئل النبي – - صلى
الله عليه وسلم - كيف أصلي في السفينة قال "صل فيها قائمًا إلا أن تخاف
الغرق" رواه الدارقطني ويؤيده الأحاديث المستفيضة في وجوب القيام مع
القدرة. وصلى جابر وأبو سعيد وأبو هريرة في سفينة قيامًا في جماعة. وإن عجز
عن القيام فيها والخروج
(1/403)
منها صلى جالسًا مستقبلاً اتفاقًا. ويدور
إلى القبلة عند الجمهور كلما انحرفت السفينة بخلاف النفل فلا يلزمه أن يدور
وتقدم.
فصل في القصر
أي في قصر المسافر الصلاة الرباعية إلى ركعتين وهو مشروع بالكتاب والسنة
جائز بالإجماع.
(قال تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} أي سافرتم فوق الأرض من
موضع إلى آخر {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} حرج وإثم حال ضربكم في الأرض
{أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ} من أربع ركعات إلى ركعتين وذلك في صلاة
الظهر والعصر والعشاء دون المغرب والفجر كما فهمه الجمهور من هذه الآية
واستدلوا بها على قصر الصلاة في السفر. وقصر الشيء إذا نقصه أو نقص منه
وقال شيخ الإسلام والأصح أن الآية أفادت قصر العدد وقصر العمل جميعًا.
ولهذا علق ذلك بالسفر والخوف فإذا اجتمع الضرب في الأرض والخوف أبيح القصر
الجامح لهذا ولهذا. وإذا انفرد السفر فإنما يبيح قصر العدد، وإذا انفرد
الخوف فإنما يبيح قصر العمل. وقوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُواْ} خرج مخرج الغالب وإنما علق على الخوف لأن غالب أسفار
النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تخل منه قال الشيخ وإذا كان القصر أفضل
عند جماهير أهل العلم لم يجز أن يحتج بنفي الجناح على أنه مباح لا أفضلية
فيه. وفي صحيح مسلم قال يعلى لعمر ما لنا نقصر وقد أمنا. فقال سألت
(1/404)
رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فقال
"صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته" وقال ابن عمر: "هي رخصة من الله
فإن شئتم فردوها"، فقول عمر: "فرضت الصلاة ركعتين تمام غير قصر" ونحوه أوله
بعض أهل العلم أنه لمن أراد القصر، لا أنه أصل لمخالفة نص القرآن وإجماع
المسلمين في أنها مقصورة وأن المسافر إذا اقتدى بمقيم لزمه الإتمام.
(وعن ابن عمر قال صحبت النبي – - صلى الله عليه وسلم -) يعني في جميع
أسفاره (وكان لا يزيد في السفر على ركعتين وأبا بكر وعمر وعثمان كذلك) أي:
لا يزيدون في السفر على ركعتين (متفق عليه) والسفر قطع المسافة سمي سفرًا
لأنه يسفر عن أخلاق الرجال أي يكشفها وقيل غير ذلك. ولفظ مسلم "صحبت النبي
– - صلى الله عليه وسلم - فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل. وصحبت
أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل، وصحبت عمر فلم يزد على
ركعتين حتى قبضه الله عز وجل، وصحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه
الله عز وجل، وصحبت عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قبضه الله عز وجل.
وظاهره أن عثمان لم يتم في السفر، ولمسلم عنه: ومع عثمان صدرًا من خلافته
ثم أتم، وفي رواية: ثمان سنين أو ست سنين؛ وأكثر العلماء: أن عثمان لم يزد
على ركعتين حتى قبضه الله في غير منى. وفي الصحيحين أن عبد الرحمن بن يزيد
قال –صلى بنا عثمان بمنى أربع ركعات فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود
فاسترجع ثم قال صليت مع رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - بمنى
(1/405)
ركعتين. وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين
وصليت مع عمر بمنى ركعتين. فليت حظي من أربع ركعتان متقبلتان فدل على سنية
القصر في السفر.
وقال الخطابي مذاهب أكثر علماء السلف وفقهاء الأمصار على أن القصر هو
الواجب في السفر. وقال الشيخ وغيره هو جائز بإجماع أهل العلم منقول عن
النبي – - صلى الله عليه وسلم - بالتواتر واختاره فقهاء الحديث وغيرهم
كأحمد وغيره إتباعًا لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
فإنه لم يصل في السفر قط إلا مقصورة حتى إن من العلماء من يوجبه. ومن صلى
أربعًا لم يبطلوا صلاته لأن الصحابة أقروا من فعل ذلك منهم بل منهم من يكره
ذلك ومنهم من لا يكرهه وإن رأى تركه أفضل.
ولهذا كان المسلمون مجمعين على جواز القصر في السفر مختلفين في جواز
الإتمام لأن النبي – - صلى الله عليه وسلم - داوم عليه قال ولم ينقل أحد
أنه صلى أربعًا قط وحديث عائشة في مخالفة ذلك لا تقوم به حجة وقال في موضع
باطل ما كانت أم المؤمنين لتخالف رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وجميع
أصحابه واختار أنه سنة وأن الإتمام مكروه. وذكر أن القصر أفضل عند عامة أهل
العلم ليس فيه إلا خلاف شاذ. وأن أكثرهم يكرهون التربيع للمسافر. ونقل عن
أحمد أنه توقف في الإجزاء.
(ولمسلم عن أنس كان – - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال)
واحدها ميل قال الحافظ منتهى مد البصر لأن البصر يميل عنه على وجه الأرض
حتى يفنى إدراكه. وقيل ينظر إلى الشخص لا
(1/406)
يدري أرجل أم امرأة. وقال النووي ستة آلاف
ذراع (أو فراسخ) وأحدها فرسخ والفرسخ فارسي معرب وهو ثلاثة أميال، وأربعة
الفراسخ بريد والبريد نصف يوم بسير الإبل والأقدام، وهو ربع مسافة يومين
(صلى ركعتين) شعبة الشاك هل قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة
أميال أو ثلاثة فراسخ وقال ابن القيم ثبت أنه – - صلى الله عليه وسلم - سمى
مسيرة البريد سفرًا في قوله لا يحل "لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن
تسافر بريدًا إلا مع ذي محرم" وذكر قصر أهل مكة معه – - صلى الله عليه وسلم
- بعرفة ومزدلفة.
وقد اختلف أهل العلم في مقدار المسافة التي تقصر فيها الصلاة على نحو من
عشرين قولاً أقل ما قيل فيها ميل كما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن ابن
عمر وهو مذهب ابن حزم واحتج له بإطلاق السفر في الكتاب والسنة وفيما دونه
بخروج النبي – - صلى الله عليه وسلم - إلى البقيع والفضاء والناس معه فلم
يقصر ولم يفطر. وأخذ بحديث الباب الظاهرة. قال الحافظ وهو أصح حديث ورد في
ذلك وأصرحه.
وقال البغوي عامة الفقهاء يقولون مسيرة يوم تام. وكان ابن عمر يقصر في
مسيرة يوم. وقاله الأوزاعي وابن المنذر وآخرون لإطلاق الكتاب والسنة وحديث
أنس. وذهب الشافعي ومالك وأحمد وغيرهم إلى أنه لا يجوز إلا في مسيرة
مرحلتين. وقال أبو حنيفة لا يقصر في أقل من ثلاث مراحل وأورد البخاري ما
يدل على أن اختياره يوم وليلة وسمي النبي
(1/407)
- صلى الله عليه وسلم - السفر يومًا وليلة
فقال في المرأة "لا تسافر يومًا وليلة إلا ومعها ذو محرم".
قال شيخ الإسلام قال أبو محمد لا أعلم لما ذهب إليه الأئمة وجهًا وهو كما
قال فإن التحديد بذلك ليس بثابت بنص ولا إجماع ولا قياس ولا حجة لتحديده.
بل الحجة مع من أباح القصر لكل مسافر واستظهر جواز القصر لمن سافر يومًا
وقلا المسافر يريد أن يذهب إلى مقصوده ويعود إلى وطنه. وأقل ذلك مرحلة يذهب
في نصفها ويرجع في نصفها وهذا هو البريد. وقد حدوا بهذه المسافة الشهادة
على الشهادة وغير ذلك. وقال الفرق بين السفر الطويل والقصير لا أصل له في
كتاب الله ولا في سنة رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - بل الأحكام التي
علق الله بالسفر علقها مطلقًا وذكر الآيات في ذلك والآثار.
ثم قال فهذه النصوص وغيرها من نصوص الكتاب والسنة ليس فيها تفريق بين سفر
طويل وسفر قصير. فمن فرق بين هذا وهذا فقد فرق بين ما جمع الله بينه فرقًا
لا أصل له من كتاب الله ولا سنة رسوله. فالمرجع فيه إلى العرف فما كان
سفرًا في عرف الناس فهو السفر الذي علق به الشارع الحكم. وذكر مثل سفر أهل
مكة إلى عرفة وقال أي فرق بين سفر أهل مكة إلى عرفة وبين سفر سائر المسلمين
إلى قدر ذلك من بلادهم فإن هذه المسافة بريد. وهذا سفر ثبت فيه جواز القصر
والجمع.
وقال إن حد فتحديده ببريد أجود إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه. والمعلوم
أن الإجماع لم ينعقد على خلافه وهو اختيار
(1/408)
طائفة من علماء أصحاب أحمد كان بعضهم يقصر
الصلاة في مسير بريد وهذا هو الصواب الذي لا يجوز القول بخلافه لمن تبين
السنة وتدبرها قال والمحددون لهم طريقان بعضهم يقول لم أجد أحدًا قال بأقل
من ذلك وقد علم من قال ذلك. وبعضهم يقول هذا قول ابن عمر وابن عباس ولا
مخالفه لهما وهذا باطل. فقد ثبت عنهما وغيرهما ما يخالف ذلك.
وتحديد السفر بالمسافة لا أصل له في شرع ولا لغة ولا عرف ولا عقل ولا يعرف
عموم الناس مساحة الأرض فلا يجعل ما يحتاج إليه عموم المسلمين معلقًا بشيء
لا يعرفونه. والاعتبار بما هو سفر فمن سافر ما يسمى سفرًا قصر وإلا فلا.
وأدنى ما يسمى سفرًا في كلام الشارع البريد وكان يأتي قباء راكبًا وماشيًا"
ويأتي إليه أصحابه ولم يقصر هو ولا هم يأتون إلى الجمعة من نحو ميل وفرسخ.
والنداء يسمع من نحو فرسخ.
واختار جواز القصر للحشاش والحطاب ونحوهما فيما يطلق عليه اسم السفر. وقال
بعض أهل العلم ولو قطع المسافة في ساعة.
وقال شيخ الإسلام السفر ليس محدودًا بمسافة بل يختلف فيكون مسافرًا في
مسافة بريد وقد يقطع أكثر من ذلك ولا يكون مسافرًا. فلو ركب رجل فرسًا
سابقًا إلى عرفة ثم رجع من يومه إلى مكة لم يكن مسافرًا يدل على ذلك أن
النبي – - صلى الله عليه وسلم - لما قال يمسح المسافر ثلاثة أيام ولياليهن،
فلو قطع البريد ثلاثة أيام كان مسافرًا ثلاثة أيام فيمسح مسح مسافر. ولو
قطع البريد في نصف يوم لم يكن مسافرًا. والنبي – - صلى الله عليه وسلم -
إنما اعتبر ثلاثة أيام سواء
(1/409)
أكان حثيثًا أو بطيئًا. وذكر أن ابن عباس
نهى من ذهب ورجع من يومه إلى أهله أن يقصر.
وقال أيضًا الذين جعلوا المسافة الواحدة حدًا يشترك فيه جميع الناس مخالفون
كلام رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - فالرجل يخرج من القرية إلى صحراء
الحطب يأتي به فيغيب اليومين والثلاثة فيكون مسافرًا وإن كانت المسافة أقل
من ميل بخلاف من يذهب ويرجع من يومه فإنه لا يكون في ذلك مسافرًا. فإن
الأول يأخذ الزاد والمزاد بخلاف الثاني فالمسافة القريبة في المدة الطويلة
تكون سفرًا والمسافة البعيدة في المدة القليلة لا تكون سفرًا فالسفر يكون
بالعمل الذي يسمي سفرًا لأجله والعمل لا يكون إلا في زمان فإذا طال العمل
وزمانه فاحتاج إلى ما يحتاج إليه المسافر سمي مسافرًا وإن لم تكن المسافة
بعيدة.
وإذا قصر العمل والزمان بحيث لا يحتاج إلى زاد ومزاد لم يسم سفرًا وإن بعدت
المسافة. فالأصل هو العمل الذي يسمى سفرًا. ولا يكون العمل إلا في زمان
فيعتبر العمل الذي هو سفر. ولا يكون ذلك إلا في مكان يسفر عن الأماكن. وهذا
مما يعرفه الناس بعاداتهم. فما سموه سفرًا فهو سفر وإلا فلا، اهـ.
وخص بعضهم السفر المباح وهو إجماع في سفر الطاعة.
وأما المحرم فمذهب مالك والشافعي وأحمد لا يقصر. وعنه يقصر في سائر جنس
الأسفار وهو مذهب أبي حنيفة وطوائف
(1/410)
من السلف والخلف. قال الموفق وغيره الحجة
مع من أباح القصر لكل مسافر إلا أن ينعقد الإجماع على خلافه وقال الشيخ
الحجة مع من جعل القصر مشروعًا في جنس السفر ولم يخص سفرًا من سفر وهذا
القول هو الصحيح. فإن الكتاب والسنة قد أطلقا السفر ولم ينقل عن النبي – -
صلى الله عليه وسلم - أنه خص سفرًا من سفر.
ولو كان مما يختص بنوع لكان بيانه من الواجبات ولو بين لنقلته الأمة وما
علمت عن الصحابة في ذلك شيئًا ولم يذكر تقييده في شيء من الكتاب والسنة
بنوع دون نوع فكيف يجوز أن يكون معلقًا بأحد نوعي السفر ولا يبين الله ولا
رسوله ذلك بل يكون بيان الله ورسوله متناولاً سفر الطاعة وسفر المعصية
ونصره ابن عقيل وهو قول بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي وأحمد وعليه العمل.
وقال النووي من سافر لأي قصد من المقاصد دينًا أو دنيًا ترخص بلا خلاف
ولغير قصد إلا الترخص ترخص وفاقًا لأبي حنيفة وأحمد واحد القولين للشافعي.
وقطع به أهل التحقيق في الفرجة ونحوها. والملاح ونحوه يترخص اتفاقًا اختاره
الشيخ وقال سواء كان معه أهله أو لا، لأنه أشق.
(ولهما عنه: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
من المدينة إلى مكة) يحتمل أنه عام الفتح أو في حجة الوداع (فكان يصلي) أي
الرباعية (ركعتين ركعتين) أي كل رباعية ركعتين من حين خروجه بما يقع عليه
اسم المفارقة بنوع من
(1/411)
البعد عرفًا لأن الله إنما أباح القصر لمن
ضرب في الأرض وقبل المفارقة لا يكون ضاربًا فيها ولا مسافرًا وكذلك يجوز له
القصر إن فارق خيام قومه اتفاقًا. ولهما عنه "صليت مع رسول الله – - صلى
الله عليه وسلم - الظهر بالمدينة أربعًا وصليت معه العصر بذي الحليفة
ركعتين" وثبت عنه – - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما كان يقصر إذا ارتحل.
ولم يثبت عنه القصر قبل البروز ولو كان في مصر كبير.
قال شيخ الإسلام فإن السائر في المصر الكبير لو سار يومين أو ثلاثة لم يكن
مسافرًا. والمسافر عن قرية صغيرة إذا سافر مثل ذلك كان مسافرًا. وأن
المسافر لا بد أن يسفر أي يخرج إلى الصحراء، وإن لفظ السفر يدل على ذلك،
يقال سفرت المرأة عن وجهها إذا كشفته فإذا لم يبرز إلى الصحراء التي ينكشف
فيها من بين المساكن لم يكن مسافرًا، اهـ.
وينتهي سفره ببلوغه مبدأ سفره. قال البخاري وخرج علي فقصر وهو يرى البيوت
فلما رجع قيل له هذه الكوفة قال لا حتى ندخلها قال أنس (حتى رجعنا إلى
المدينة) ولأبي داود من حديث أبي هريرة: أنه "صلى مع النبي – - صلى الله
عليه وسلم - إلى مكة في المسير والمقام بمكة إلى أن رجعوا ركعتين ركعتين.
قال يحيى بن أبي إسحاق لأن أقمتم بها شيئًا قال أقمنا بها عشرًا، ولمسلم
خرجنا من المدينة إلى الحج ثم ذكر مثله.
وقال أحمد إنما وجه حديث أنس أنه حسب مقام النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(1/412)
بمكة ومنى وإلا فلا وجه له غير هذا واحتج
بحديث جابر أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - "قدم مكة صبيحة رابعة من ذي
الحجة فأقام بها الرابع والخامس والسادس والسابع وصلى الصبح في اليوم
الثامن ثم خرج إلى منى وخرج من مكة متوجهًا إلى المدينة بعد أيام التشريق
ومعنى ذلك كله متفق عليه من غير وجه.
وللبخاري عن ابن عباس قال "أقام النبي – - صلى الله عليه وسلم - بمكة تسعة
عشر يومًا يقصر" ويأتي حديث عمران بن حصين "ثماني عشرة" ولأبي داود عن جابر
"أقام بتبوك عشرين يومًا يقصر".
وهذه الأحاديث دلت على جواز القصر في هذه المدة ولا تدل على نفي ما زاد على
تلك المدة فابن عمر أقام بأذربيجان ستة أشهر يقصر الصلاة، وأنس بنيسابور
سنة أو سنتين يقصر.
وعن جماعة من الصحابة أنهم أقاموا برامهرمز تسعة أشهر يقصرون الصلاة، ولا
يسمى المسافر بالبقاء مع التردد كل يوم في الإقامة أو الرحيل مقيمًا وإن
طالت المدة. وقال عليه الصلاة والسلام "إنا قوم سفر" فمن صدق عليه هذا
الاسم قصر لأن المعتبر هو السفر.
قال شيخ الإسلام وغيره للمسافر القصر والفطر ما لم يجمع إقامة ويستوطن. قال
وتقسيم الإقامة إلى مستوطن وغير مستوطن لا دليل عليه من جهة الشرع بل هو
مخالف للشرع فإن هذه حال النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة في غزوة الفتح.
وفي حجة الوداع، وحاله بتبوك والتمييز بين المقيم والمسافر بنية أيام
معدودة يقيمها
(1/413)
ليس هو أمرًا معلومًا لا بشرع ولا عرف وذكر
إقامة النبي – - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه وقصرهم في تلك المدة وأنهم
مجمعون على إقامة أكثر من أربعة أيام. وقال ابن المنذر أجمعوا على أن
المسافر يقصر ما لم يجمع على إقامة ولو أتى عليه سنون ومن حبس ظلمًا أو
بمرض أو مطر ونحوه ولم ينو إقامة قصر أبدًا وإجماعًا.
(وعن عمران بن حصين مرفوعًا) قال غزوت مع النبي - صلى الله عليه وسلم -
وشهدت معه الفتح فأقام بمكة ثماني عشرة ليلة لا يصلي إلا ركعتين (يقول يا
أهل البلد صلوا أربعًا) وفي لفظ "أتموا" (فإنا قوم سفر) بفتح السين وسكون
الفاء أي مسافرون وكان أهل مكة يصلون مع رسول الله – - صلى الله عليه وسلم
- بالأبطح (رواه أبو داود) وغيره.
ولمسلم كان ابن عمر إذا صلى مع الإمام صلى أربعًا وقال ابن عباس تلك السنة
رواه أبو داود.
وحكى أحمد وابن المنذر عن ابن عباس وابن عمر أن المسافر إذا ائتم بمقيم صلى
بصلاته ولا يعرف لهم مخالف.
ولقوله عليه الصلاة والسلام "إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا تختلفوا عليه"
ولأنها صلاة مردودة من أربع فلان يصليها خلف من يصلي الأربع كالجمعة وسواء
اقتدى به في جميع الصلاة أو بعضها اعتقده مسافرًا أو لا. ويسن للمسافر إذا
أم مقيمين أن يقول أتموا لفعله عليه الصلاة والسلام وخليفتيه من بعده بمكة
لئلا يلتبس على الجاهل عدد الركعات.
والقصر لا يحتاج إلى نية وهو مذهب مالك وأبي حنيفة
(1/414)
وعليه عامة العلماء قال شيخ الإسلام لم
ينقل أحد عن أحمد أنه قال لا يقصر إلا بنية وإنما هو قول الخرقي ومن اتبعه.
ونصوص أحمد وأجوبته كلها مطلقة كما قاله جماهير العلماء وهو اختيار أبي بكر
موافقة لقدماء الأصحاب. وما علمت أحدًا من الصحابة والتابعين لهم بإحسان
اشترط نية لا في قصر ولا في جمع.
ولم ينقل قط أحد عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر أصحابه لا بنية
قصر ولا بنية جمع ولا كان – - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يأمرون بذلك من
يصلي خلفهم. وقال وإذا كان فرضه ركعتين فإذا أتى بهما أجزأه ذلك سواء نوى
القصر أو لم ينوه. وهذا قول الجماهير كمالك وأبي حنيفة وعامة السلف، اهـ.
وإن أحرم في الحضر ثم سافر أتم حكاه ابن حامد وغيره إجماعًا. وقال النووي
وغيره اجتماع الحضر والسفر في العبادة يوجب تغليب حكم الحضر، اهـ. وإن أحرم
سفرًا ثم أقام كراكب سفينة أحرم بالصلاة مقصورة فيها ثم وصل إلى وطنه في
أثناء الصلاة أتم. وإن ذكر صلاة حضر في سفر أتمها إجماعًا حكاه أحمد وغيره
وكذا إن ذكر صلاة سفر في حضر أتم لأن القصر من رخص السفر فبطل بزواله.
(1/415)
فصل في الجمع
أي في أحكام الجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في وقت أحدهما. قال
الشيخ وهو رخصة عارضة للحاجة إليه فإن النبي – - صلى الله عليه وسلم - لم
يفعله إلا مرات قليلة فلذلك فقهاء الحديث كأحمد وغيره يستحبون تركه إلا عند
الحاجة إليه اقتداء بالنبي – - صلى الله عليه وسلم - إذا جد به السير. وفي
الصحيح وغيره عن ابن مسعود قال "ما رأيت رسول الله – - صلى الله عليه وسلم
- صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين" وأوسع المذاهب في الجمع مذهب أحمد
فإنه نص على أنه يجوز دفعًا للحرج ويجوز للشغل.
وذكر ابن القيم أحاديث. وقال كل هذه سنن في غاية الصحة والصراحة ولا معارض
لها. وأوقات المعذورين ثلاثة وقتان مشتركان ووقت مختص والوقتان المشتركان
لأرباب الأعذار أربعة لأرباب الرفاهية. ولهذا جاءت الأوقات في كتاب الله
نوعين خمسة وثلاثة في نحو عشر آيات وجاءت السنة بتفصيل ذلك وبيانه فتوافقت
دلالة الكتاب والسنة والاعتبار الصحيح الذي هو مقتضى حكمة الشريعة وما
اشتملت عليه من المصالح.
(وعن أنس) رضي الله عنه قال: (كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - إذا
ارتحل) في سفره (قبل أن تزيغ الشمس) أي قبل الزوال
(أخر الظهر إلى وقت العصر ثم نزل فجمع بينهما) يعني في
وقت العصر. ولمسلم "إذا عجل به السير يؤخر الظهر
(1/416)
إلى وقت العصر فيجمع بينهما" وفي لفظ "كان
إذا أراد أن يجمع بين الصلاتين في السفر أخر الظهر حتى يدخل وقت العصر ثم
يجمع بينهما" وعن معاذ "كان في غزوة تبوك إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر
الظهر حتى يجمعها إلى العصر يصليهما جميعًا.
فدلت هذه الأحاديث على جواز تأخير الظهر إلى وقت العصر لمن جد به السير وهو
قول عامة أهل العلم إلا أبا حنيفة فلم ير سوى جمعي عرفة ومزدلفة وهو محجوج
بهذه السنن الصحيحة الصريحة في جواز هذا الجمع وبالقياس على الجمع بمزدلفة،
وكذا حكى عن الحسن والنخعي ولا التفات لقول مخالف للنصوص (فإذا زاغت الشمس
قبل أن يرتحل صلى الظهر) أي وحده ولا يضم إليه العصر (ثم ركب متفق عليه)
قال شيخ الإسلام لأن المسافر إذا ارتحل بعد زيغ الشمس ينزل وقت العصر. فهذا
مما لا يحتاج إلى الجمع بل يصلي العصر في وقتها ولأحمد من حديث ابن عباس
ومعاذ أنه يصلي الظهر والعصر وتكلم فيهما غير واحد. وقال الشيخ وقد يتصل
سيره إلى الغروب فهذا يحتاج إلى الجمع بمنزلة جمع عرفة وبه تتفق الأحاديث.
(ولهما عن ابن عمر كان) رسول الله (- صلى الله عليه وسلم - إذا جد به السير
جمع بين المغرب والعشاء) يعني تأخيرًا. ولفظ الترمذي وصححه "أنه استغيث على
بعض أهله فجد به السير فأخر المغرب حتى غاب الشفق ثم نزل فجمع بينهما. ثم
أخبر أن
(1/417)
رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - كان
يفعل ذلك" وعن ابن عباس "وإذا حانت له المغرب في منزله نزل فجمع بينهما"
رواه أحمد وغيره. وله من حديث معاذ "وكان إذا ارتحل قبل المغرب أخر المغرب
حتى يصليها مع العشاء. وإذا ارتحل بعد المغرب عجل العشاء فصلاها مع المغرب"
فيستحب عند الحاجة كما كان يصلي - صلى الله عليه وسلم - في سفره إذا جد به
السير وهذا مذهب جمهور العلماء. قال البيهقي والنووي وغيرهما الجمع بين
الصلاتين في وقت الأولى أو الثانية بعذر السفر هو قول جمهور العلماء من
السلف والخلف وهو من الأمور المشهورة المستعملة فيما بين الصحابة والتابعين
مع الثابت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من جمع الناس بعرفة
ومزدلفة, وهو موجود في كل الأسفار.
وقال شيخ الإسلام والجمع جائز في الوقت المشترك فتارة يجمع في أول الوقت
كما جمع بعرفة وتارة يجمع في وقت الثانية كما جمع بمزدلفة. وفي بعض أسفاره.
وتارةً يجمع فيما بينهما في وسط الوقتين. وقد يقعان معًا في آخر وقت الأولى
وقد يقعان معًا في أول وقت الثانية وقد تقع هذه في هذا وهذه في هذا، وكل
هذا جائز لأن أصل هذه المسألة أن الوقت عند الحاجة مشترك. والتقديم والتوسط
بحسب الحاجة والمصلحة، اهـ.
فلا يستحب إلا عند الحاجة إليه للاختلاف فيه غير جمعي عرفة ومزدلفة فسن
بشرطه إجماعًا قال شيخ الإسلام الجمع
(1/418)
بعرفة ومزدلفة متفق عليه وهو منقول
بالتواتر فلم يتنازعوا فيه وفعل كل صلاة في وقتها أفضل إذ لم يكن حاجة عند
الأئمة كلهم. والنبي – - صلى الله عليه وسلم - – لم يجمع في حجته إلا بعرفة
ومزدلفة ولم يجمع بمنى ولا في ذهابه وإيابه. ولكن جمع في غزوة تبوك إذا جد
به السير. والذي جمع هناك يشرع أن يفعل نظيره اهـ.
وما ورد في حديث معاذ وابن عباس من تقديم العصر ففيه مقال. وقال شيخ
الإسلام هذا إذا كان لا ينزل إلا وقت الغروب كما كان بعرفة لا يفيض حتى
تغرب الشمس أما إذا كان ينزل وقت العصر فإنه يصليها في وقتها وقال وإذا كان
نازلاً في وقتهما جميعًا نزولاً مستمرًا فما علمت روي ما يستدل به عليه إلا
حديث معاذ وغزوة تبوك وحجه – - صلى الله عليه وسلم - لم ينقل إنه جمع فيه
إلا بعرفة ومزدلفة. وحديث معاذ ليس في المشهور.
وقال ابن القيم لم يكن - صلى الله عليه وسلم - يجمع راتبًا في سفره كما
يفعله كثيرًا من الناس. ولا الجمع حال نزوله أيضًا وإنما كان يجمع إذا جد
به السير. وإذا سار عقيب الصلاة كما في أحاديث تبوك. وأما جمعه وهو نازل
غير مسافر فلم ينقل ذلك عنه
إلا بعرفة ومزدلفة لأجل اتصال الوقوف كما قال الشافعي وشيخنا. (ولمسلم عن
ابن عباس جمع النبي – - صلى الله عليه وسلم - بين الظهر والعصر وبين المغرب
والعشاء) بالمدينة (من غير خوف ولا مطر وفي لفظ "من غير خوف ولا سفر" وقيل
لابن عباس
ما أراد بذلك. قال أراد أن لا يحرج أمته. أي لئلا يشق عليهم
(1/419)
فقصد إلى التخفيف عنهم. ولهما عنه أن النبي
- صلى الله عليه وسلم - "صلى بالمدينة سبعًا وثمانيًا جمع بين الظهر والعصر
والمغرب والعشاء" وفي لفظ "صلى لنا الظهر والعصر جميعًا من غير خوف ولا
سفر" ودل الحديث بفحواه على الجمع للمرض والمطر والخوف. وإنما خولف ظاهر
منطوقه في الجمع لغير عذر للإجماع وإخبار المواقيت فتبقى فحواه على مقتضاه
قال ابن المنذر يجوز من غير خوف ولا مطر. قال الخطابي وهو قول جماعة من
أصحاب الحديث لظاهر الحديث. ومنعه الجمهور لغير حاجة وفي الترمذي "الجمع من
غير عذر من الكبائر" قال والعمل عليه عند أهل العلم. قال النووي وذهب جماعة
من الأئمة إلى جواز الجمع للحاجة لم لا يتخذه عادة.
وقال شيخ الإسلام في الجمع لمطر أو غيره: وبهذا الحديث استدل أحمد على
الجمع لهذه الأمور بطريق الأولى فإن هذا الكلام يدل على أن الجمع لهذه
الأمور أولى وهذا من باب التنبيه بالفعل فإنه إذا جمع ليرفع الحرج الحاصل
بدون الخوف والمطر والسفر، فالحرج الحاصل بهذه أولى أن يرفع والجمع لها
أولى من الجمع لغيرها وما يبين أن ابن عباس لم يرد الجمع للمطر وإن كان
أولى بالجواز ما رواه مسلم عنه قال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"يجمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء" قال ابن شقيق فحاق في صدري من ذلك
شيء فأتيت أبا هريرة فسألته
(1/420)
فصدق مقالته. ولمسلم عنه لما قال له رجل
الصلاة قال أتعلمنا بالصلاة "وكنا نجمع بين الصلاتين على عهد رسول الله – -
صلى الله عليه وسلم - " وقد استدل على فعله وهو يخطب بالبصرة بما رواه لما
رأى أنه إن قطعه ونزل فاتت مصلحته وكانت عنده من الحاجات التي يجوز فيها
الجمع وكان يرى أن الأمر في حال الجمع أوسع منه في غيره وبذلك يرتفع الحرج
عن الأمة.
وقال شيخ الإسلام: وإنما كان الجمع لرفع الحرج عن الأمة. فإذا احتاجوا إلى
الجمع جمعوا والأحاديث كلها تدل على أنه جمع في الوقت الواحد لرفع الحرج عن
أمته فيباح الجمع إذا كان في تركه حرج قد رفعه الله عن الأمة. وقال أيوب
ولعله في ليلة مطيرة. وكان أهل المدينة يجمعون في الليلة المطيرة. وروي ذلك
مرفوعًا وهو قول جمهور أهل العلم وذكر الشيخ أثارًا عن الصحابة.
ثم قال فهذه الآثار تدل على أن الجمع للمطر من الأمر القديم المعمول به
بالمدينة زمن الصحابة والتابعين. مع أنه لم ينقل أن أحدًا منهم أنكر ذلك
فعلم أنه منقول عنهم بالتواتر جواز ذلك. وقول ابن عباس جمع النبي – - صلى
الله عليه وسلم - ليس نفيًا منه للجمع لتلك الأسباب بل إثبات منه لأنه جمع
بدونها وإن كان قد جمع بها أيضًا ولو لم ينقل أنه جمع بها فجمعه بما هو
دونها دليل على الجمع بها بطريق الأولى.
(1/421)
وقال يجوز الجمع للوحل الشديد والريح
الشديدة الباردة في الليلة الظلماء ونحو ذلك وإن لم يكن المطر نازلاً في
أصح قولي العلماء. وذلك أولى من أن يصلوا في بيوتهم. بل ترك الجمع مع
الصلاة في البيوت بدعة مخالفة للسنة إذ السنة أن تصلي الصلوات الخمس في
المسجد جماعة وذلك أولى من الصلاة في البيوت مفرقة باتفاق الأئمة الذين
يجوزون الجمع كمالك والشافعي وأحمد.
والحديث يدل على الجمع للمرض الذي يحرج صاحبه بتفريق الصلاة بطريق الأولى
والأحرى. وقال النووي وغيره يجوز الجمع من أجل المرض وفاقًا لمالك وقواه.
وقال يستدل له بحديث ابن عباس "من غير خوف ولا مطر"؛ لأنه إما أن يكون
بالمطر وإما بغيره مما في معناه أو دونه ولأن حاجة المريض آكد من الممطور.
وقال الشيخ يجوز للمرض كما جاءت بذلك السنة في جمع المستحاضة فإن النبي -
صلى الله عليه وسلم - أمرها بالجمع في حديثين.
وقال: ويجمع من لا يمكنه إكمال الطهارة في الوقت إلا بحرج كالمستحاضة
وأمثال ذلك من الصور. وفي الاختيارات يجوز للمرضع الجمع إذا كان يشق عليها
غسل الثوب في وقت كل صلاة والجمهور على خلاف ذلك. قال ويجوز الجمع للطباخ
والخباز ونحوهما ممن يخشى فساد ماله أو مال غيره بترك الجمع وللصلاة في
الحمام مع جوازها فيه خوف فوات الوقت ولخوف تحرج في تركه وذكر ما في
الصحيحين من حديث ابن
(1/422)
عباس أنه سئل لم فعل ذلك قال أرد أن لا
يحرج أحدًا من أمته. فلم يعلله بمرض ولا غيره وجاء عن عمر أن من الكبائر
الجمع بين الصلاتين إلا من عذر.
قال فدل على جواز إباحة الجمع للعذر ولم يخص عمر عذرًا دون عذر.
وإذا استوى التأخير والتقديم في الأرفق بهم فالتأخير أفضل في الجملة. وقال
الشيخ في جمع المطر السنة أن يجمع للمطر في وقت المغرب حتى اختلف مذهب أحمد
هل يجوز أن يجمع للمطر في وقت الثانية وقيل إن ظاهر كلامه أنه لا يجمع وفيه
وجه ثالث أن الأفضل التأخير وهو غلط مخالف للسنة والإجماع القديم. وصاحب
هذا القول ظن أن التأخير أفضل مطلقًا وهذا غلط فليس جمع التأخير أولى من
التقديم بل ذلك بحسب الحاجة والمصلحة فقد يكون هذا أفضل. وهذا مذهب جمهور
العلماء وهو ظاهر مذهب أحمد المنصوص عنه وغيره. ويأتي الكلام في جمعي عرفة
ومزدلفة إن شاء الله. ويشترط الترتيب وقيل والموالاة. ورجح الموقف وغيره
أنه راجع إلى العرف.
وذكر الشيخ أن كلام أحمد يدل على أن الجمع عنده هو الجمع في الوقت وإن لم
يصل إحداهما بالأخرى كالجمع في وقت الثانية على المشهور في مذهبه ومذهب
غيره. وإنه إذا صلى المغرب في أول وقتها والعشاء في آخر وقت المغرب حيث
يجوز له
(1/423)
الجمع جاز ذلك. وأنه نص على نظير هذا فقال
إذا صلى إحدى صلاتي الجمع في بيته والأخرى في المسجد فلا بأس وهذا نص منه
على أن الجمع هو الجمع في الوقت لا تشترط فيه المواصلة.
قال والصحيح أنه لا تشترط الموالاة بحال لا في وقت الأولى ولا وقت الثانية
فإنه ليس لذلك حد في الشرع. وفي الصحيحين في قصة جمع مزدلفة بعد أن صلى
المغرب "أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء" واشترطوا وجود
العذر عند افتتاحهما وسلام الأولى. فلو انقطع السفر ونحوه في الأولى بطل.
فصل في صلاة الخوف
أي في بيان صفة صلاة الخوف وهي مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة وسائر
الأمة إلا أبا يوسف فقال إنما صلوها معه – - صلى الله عليه وسلم - – لفضله.
قال الطحاوي وهذا القول ليس عندنا بشيء والكتاب والسنة وإجماع الصحابة حجة
عليه وقال عليه الصلاة والسلام "صلوا كما رأيتموني أصلي".
(قال تعالى: {وَإِذَا كُنتَ} أي يا محمد {فِيهِمْ} أي مع المؤمنين الخائفين
والمراد بيان الحكم لا لوجوده أي بين لهم بفعلك لكونه أوضح من القول
{فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ} أي إذا أردت أن تقيم بهم الصلاة قال ابن
عباس لما رأى المشركون
(1/424)
رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -
وأصحابه قاموا إلى صلاة الظهر وهو يؤمهم وذلك في غزوة ذات الرقاع ندم العدو
على تركهم الإقدام على قتالهم فقال بعضهم دعوهم فإن لهم بعد صلاة هي أحب
إليهم من آبائهم وأولادهم وأموالهم يريدون صلاة العصر فإن رأيتموهم قاموا
إليها فشدوا عليهم فاقتلوهم، فنزل جبرائيل بهذه الآيات بين الصلاتين
فعلمه كيفية أداء صلاة الخوف وأطلعه الله على قصدهم ومكرهم. قال تعالى:
{فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ} أي تقف معك بعد أن جعلتهم طائفتين
ولتقف الطائفة الأخرى بإزاء العدو وليحرسوكم منهم {وَلْيَأْخُذُواْ} أي
الطائفة القائمة معك وهم المصلون {أَسْلِحَتَهُمْ} أي لا يضعوها ولا يلقوها
وإنما عبر عن ذلك بالأخذ للإيذان بالاعتناء باستصحابها كأنهم يأخذونها
ابتداء {فَإِذَا سَجَدُواْ} أي القائمون معك وأتموا الصلاة {فَلْيَكُونُواْ
مِن وَرَآئِكُمْ} أي فلينصرفوا إلى مقابلة العدو للحراسة. {وَلْتَأْتِ
طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ} بعد وهي الطائفة الواقفة تجاه العدو
للحراسة {فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} الركعة الباقية ويتموا لأنفسهم كما في
حديث سهل {وَلْيَأْخُذُواْ} أي هذه الطائفة القائمة معك وقيل وليأخذ
الطائفة الباقية {حِذْرَهُمْ} وهو التحفظ والتيقظ والاحتياط لئلا يهجم
عليهم العدو {وَلْيَأْخُذُواْ َأَسْلِحَتَهُمْ} ليدفعوا عن أنفسهم والجمهور
لا
(1/425)
يجب ولا يشترط اتفاقًا ويكره ما ينقل كجوشن
ويضر غيره كرمح ما لم يكن على جانب.
{وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ
وَأَمْتِعَتِكُمْ} فينالون منكم غرة وينتهزون فرصة {فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم
مَّيْلَةً وَاحِدَةً} فيشدون عليكم شدة واحدة والمراد بالأمتعة ما يتمتع به
في الحرب مطلقًا {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن
مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ} رخصة لهم في
وضع الأسلحة إن ثقل عليهم حملها بسبب ما يبلهم من المطر أو يضعفهم من مرض.
ومن ذلك قال بعض أهل العلم بوجوب حمل الأسلحة وجمهور الفقهاء على الندب
{وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} أمرهم مع ذلك بأخذ الحذر ثم قال {فَإِذَا
اطْمَأْنَنتُمْ} سكنت قلوبكم من الخوف وأمنتم {فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}
بتعديل أركانها ومراعاة شرائعها {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا} فلا بد من إقامتها في حالة الخوف
والأمن على الوجه المشروع فيهما.
وقال: {فَإنْ خِفْتُمْ} أي اشتد الخوف وتواصل الطعن والضرب والكر والفر ولم
يمكن تفريق القوم وصلاتهم على ما تقدم {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} أي
فصلوا رجالاً أو ركبانًا والرجال جمع راجل والراجل الكائن على رجليه واقفًا
كان أو ماشيًا والركبان جمع راكب وأكثر ما يقال لراكب الإبل بدون إضافة
(1/426)
والأمر للوجوب. قال الزركشي لا تسقط الصلاة
حال المسايفة والتحام الحرب بلا نزاع ولا يجوز تأخيرها إن لم تكن الأولى من
المجموعتين.
(وعن سهل) بن أبي حثمة بن ساعدة الأوسي الأنصاري ولد سنة ثلاث من الهجرة
روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الصحابة وتوفي بالمدينة في
خلافة معاوية (أن طائفة من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - صفت معه)
يوم ذات الرقاع في صلاة الخوف بأرض غطفان.
قال ابن القيم هي قبل الخندق (وطائفة وجاه) بكسر الواو أي: تجاه العدو وهذا
فيما كان العدو في غير جهة القبلة.
(فصلى بالذين معه ركعة ثم ثبت قائمًا وأتموا لأنفسهم وصفوا وجاه العدو
وجاءت الطائفة الأخرى) التي كانت قبل وجاه العدو (فصفت معه) - صلى الله
عليه وسلم - (فصلى بهم الركعة التي بقيت) من صلاته - صلى الله عليه وسلم -
(ثم ثبت جالسًا وأتموا لأنفسهم ثم سلم بهم" متفق عليه) واختار الشافعي
وأحمد وغيرهما حديث سهل لكونه أشبه بكتاب الله وأحوط للصلاة من حيث أنه لا
يكثر فيها العمل وأحوط لأمر الحرب وأنكى للعدو. وقال مالك ذلك أحسن ما سمعت
في صلاة الخوف.
وهذه القصة واضحة وقد ذهب إليها جماعة من الصحابة ومن بعدهم. وظاهر القرآن
مطابق لما دل عليه هذا الحديث
(1/427)
الجليل لقوله تعالى {وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ
أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} وهذه الكيفية أقرب إلى
موافقة المعتاد من الصلوات في تقليل الأفعال المنافية للصلاة ولمتابعة
الإمام.
(ولهما عن ابن عمر نحوه) ولفظه قال غزوت مع رسول الله – - صلى الله عليه
وسلم - قبل نجد فوازينا العدو فصاففناهم "فقام رسول الله – - صلى الله عليه
وسلم - فصلى بنا فقامت طائفة معه وأقبلت طائفة على العدو وركع بمن معه ركعة
وسجد سجدتين ثم انصرفوا مكان الطائفة التي لم تصل فجاؤوا فركع بهم ركعة
وسجد سجدتين ثم سلم فقام كل واحد منهم فركع لنفسه ركعة وسجد سجدتين".
ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب وهو الراجح من حيث المعنى ويحتمل أنهم أتموا
في حالة واحدة. والطائفة تطلق على القليل والكثير حتى على الواحد فلو كانوا
ثلاثة جاز للإمام أن يصلي بواحد والثالث يحرس ثم يصلي مع الإمام.
(ولهما عن جابر صلى بكل طائفة ركعتين) ولفظه أقبلنا مع رسول الله – - صلى
الله عليه وسلم - حتى إذا كنا بذات الرقاع قال فنودي بالصلاة "فصلى بطائفة
ركعتين ثم تأخر فصلى بالطائفة الأخرى ركعتين فكانت لرسول الله – - صلى الله
عليه وسلم - أربع وللقوم ركعتان".
(ولمسلم عنه صففنا صفين خلفه) أي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
والعدو بيننا وبين القبلة "فكبر وكبرنا جميعًا ثم ركع
وركعنا جميعًا ثم رفع رأسه من الركوع ورفعنا جميعًا (ثم
(1/428)
انحدر بالسجود والصف الذي يليه الحديث) أي
وانحدر الصف الذي يليه "وقام الصف المؤخر في نحر العدو فلما قضى السجود قام
الصف الذي يليه وانحدر الصف المؤخر بالسجود وقاموا ثم تقدم الصف المؤخر
وتأخر الصف المقدم ثم ركع وركعنا جميعًا. وذكر نحو ما تقدم ثم سلم النبي –
- صلى الله عليه وسلم - وسلمنا جميعًا" وفي لفظ غزونا قومًا من جهينة وذكر
نحوه.
(ولأحمد) وأبي داود والنسائي وغيرهم (عن أبي بكرة صلى) يعني رسول الله – -
صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف (بكل طائفة صلاة ولفظه "صلى ببعض أصحابه
ركعتين ثم سلم ثم تأخروا وجاء الآخرون فكانوا في مقامهم فصلى بهم ركعتين ثم
سلم ثم تأخروا وجاء الآخرون فكانوا في مقامهم فصلى بهم ركعتين ثم سلم" وروي
أنه " صلى بكل طائفة ركعة بلا قضاء" ومنعه الأكثر. وقال بعض أهل العلم في
قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ} هو
قصر الكيفية لا الكمية وصوبه ابن كثير واستأنسوا بقول عمر وغيره فرضت
الصلاة ركعتين، قالوا ولهذا قال بعدها {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ
لَهُمُ الصَّلاَةَ} الآية وقال البغوي وأكثر أهل العلم من الصحابة فمن
بعدهم لا ينقص الخوف من العدو شيئًا. وقيل المراد ركعة مع الإمام وليس فيها
نفي الثانية.
وقال أحمد صحت صلاة الخوف عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - من خمسة أوجه
أو ستة أوجه كلها جائزة. ومن ذهب إليها كلها فحسن.
(1/429)
قال شيخ الإسلام وغيره وهذا قول عامة السلف
إتباعًا ولما جاء به الشارع – - صلى الله عليه وسلم - وأحمد رحمه الله على
قاعدته يجوز جميع ما ورد وقال فقهاء الحديث كأحمد وغيره متبعون لعامة
الثابت عن النبي – - صلى الله عليه وسلم - وهذه الأحاديث أصولها وربما
اختلف بعض ألفاظها فذكرها بعضهم أكثر.
قال ابن القيم والصحيح هذه الأوجه فصح أنه – - صلى الله عليه وسلم - صلاها
في أربع. ذات الرقاع وبطن نخل. وعسفان. وذي قرد المعروف بغزوة الغابة. وقال
أحمد أصولها ست صفات: وأبلغها بعضهم أكثر هؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في
قصة جعلوا ذلك وجهًا فصارت سبعة عشر لكن يمكن أن تتداخل أفعال النبي – -
صلى الله عليه وسلم - وإنما هو من اختلاف الرواة، قال الحافظ: وهذا هو
المعتمد. ومنع ابن الماجشون صلاة الخوف في الحضر. ورد قوله بأن اعتبار
السفر وصف طردي ليس بشرط ولا سبب وإلا لزم أن لا يصلي إلا عند الخوف من
العدو الكافر.
وأما كونه – - صلى الله عليه وسلم - لم يصلها يوم الخندق فذلك قبل نزول آية
صلاة الخوف. واتفق الأئمة الأربعة وغيرهم على جوازها سواء كان القتال سفرًا
أو حضرًا لأن المبيح الخوف لا السفر. ولا تأثير له في قصر الصلاة. وإنما
تأثيره في الصفة. وقال الزركشي ومن شروط صلاة الخوف أن يكون العدو يحل
قتاله ويخاف هجومه لأنها رخصة فلا تستباح بالقتال المحرم. ودلت هذه النصوص
على عظم شأن صلاة الجماعة.
(1/430)
(وعن ابن عمر قال إذا كان خوف أشد من ذلك)
أي مما تقدم (صلوا رجالاً قيامًا على أقدامهم وركبانًا مستقبلي القبلة وغير
مستقبليها متفق عليه) زاد البخاري قال نافع لا أرى ابن عمر قال ذلك إلا عن
النبي – - صلى الله عليه وسلم - وتقدمت الآية في ذلك. ولأنه - صلى الله
عليه وسلم - صلى بأصحابه في غير شدة الخوف وأمرهم بالمشي إلى وجاه العدو
وهم في الصلاة ثم يعودون لقضاء ما بقي من صلاتهم فمع شدة الخوف أولى. ولا
يلزم الإحرام على القبلة ولو أمكن.
وقال أحمد وغيره تجوز صلاة شدة الخوف رجالاً وركبانًا جماعة كما تجوز فرادى
وهو مذهب الشافعي. ولم يجوزه مالك وأبو حنيفة: ولا تسقط بحال إجماعًا
ويكرون ويفرون ولا يؤخرون الصلاة وهو قول أكثر أهل العلم لما تقدم ويومؤن
بقدر طاقتهم لأنهم لو تمموا الركوع والسجود كانوا هدفًا لأسلحة العدو ويكون
سجودهم أخفض من ركوعهم.
وكذا حالة هرب من عدو أو سيل أو سبع أو نار أو غريم ظالم، أو خوف على نفسه
أو أهله أو ماله إن صلى صلاة أمن أو ذب عنه أو عن غيره وكل ذلك مبيح للصلاة
على هذه الصفة وحكاه ابن المنذر إجماع من يحفظ عنه في صلاة المطلوب وإن كان
طالبًا نزل فصلى إلا أن ينقطع فيخاف أو يخاف فوت عدو يطلبه لفعل عبد الله
بن أنيس لما بعثه النبي – - صلى الله عليه وسلم - إلى خالد بن سفيان الهذلي
ليقتله صلى بالإيماء نحوه رواه أبو داود وغيره.
(1/431)
ولأن فوت عدوه ضرر عليه فأبيحت له صلاة
الخوف كحال لقائه.
وكذا من خاف كمينًا أو مكيدة أو مكروهًا صلى صلاة الخوف. وكذا أسير خاف على
نفسه فيصلي كيف أمكنه قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا ومستلقيًا إلى القبلة وغيرها
بالإيماء حضرًا وسفرًا. أو خاف فوت الوقوف بعرفة صلى صلاة خائف اختاره
الشيخ وغيره. وقال ابن القيم فيكون في طريقه مصليًا كما يصلي الهارب من سيل
أو سبع أو عدو اتفاقًا أو الطالب لعدو يخشى فواته على أصح القولين وهو أقيس
الأقوال وأقربها إلى قواعد الشرع ومقاصده. فإن الشريعة مبناها على تحصيل
المصالح بحسب الإمكان. وأن لا يفوت منها شيء اهـ فكيفما أمكن في صلاة الخوف
أولى من تأخير الصلاة عن وقتها لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا
اسْتَطَعْتُمْ} وقوله – - صلى الله عليه وسلم - "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه
ما استطعتم".
باب صلاة الجمعة
اتبعت السفر لمناسبة تنصيف كل صلاة منهما وسميت بذلك لجمعها الخلق الكثير
أو من اجتماع الناس لها. أو لأن آدم جمع خلقه فيها أو لما جمع فيها من
الخير. واسمه القديم
يوم العروبة لأن العرب كانت تعظمه. وقيل أو من سماه يوم
(1/432)
الجمعة. كعب بن لؤي قال الشيخ فعلت بمكة
على صفة الجواز وفرضت بالمدينة وهي واجبة بالكتاب والسنة وإجماع الأمة.
وحكى ابن المنذر وابن العربي الإجماع على أنها فرض عين. وقال العراقي:
مذاهب الأئمة متفقة على أنها فرض عين لكن بشروط. يشترطها أهل كل مذهب. اهـ
وصلاة الجمعة من أوكد فروض الإسلام ومن أعظم مجامع المسلمين. وهي أعظم من
كل مجمع يجتمعون فيه سوى مجمع عرفة وأفرضه. وخص بأكثر من أربعين خاصية لا
توجد في غيره.
(قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي} أي بالأذان
الثاني وهو الذي كان على عهد النبي – - صلى الله عليه وسلم - وأما الأول
الآن فهو إنما زاده عثمان رضي الله عنه فالمراد الثاني الذي يجب به السعي
{لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ} أي في يوم الجمع {فَاسْعَوْا} أي
اقصدوا واعمدوا واهتموا في سيركم {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي صلاة الجمعة
ليس المراد ههنا المشي السريع ولا عدو البدن. وإنما هو الاهتمام بها والعمل
والفعل. وكان عمر وابن مسعود يقرآن (فامضوا إلى ذكر الله) وتقدم قوله عليه
الصلاة والسلام "إذا سمعتم الإقامة فامشوا وعليكم السكينة والوقار".
فبينت السنة المراد بالسعي أنه المضي إليها لإدراكها وذلك لمن يدركها به
وإلا فما الضروري التقدم لإدراكها
{وَذَرُوا الْبَيْعَ} وكذا الشراء وهو إنما يحرم عند النداء
الثاني الذي كان على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - حين نزول الآية.
فتعلقت
(1/433)
الأحكام به {ذَلِكُمْ} الذي ذكرت من حضور
الجمعة وترك البيع والشراء {خَيْرٌ لَّكُمْ} من المبايعة {إِن كُنتُمْ
تَعْلَمُون} مصالح أنفسكم فدلت الآية على فضلها وفرضيتها.
(وعن أبي هريرة أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال "هذا يومهم الذي
فرض عليهم) يعني، فرض على أهل الكتاب والمراد باليوم "يوم الجمعة" فرض
تعظيمه عليهم (فاختلفوا فيه) هل يلزمهم تعينه أم يسوغ لهم إبداله بيوم آخر
فاجتهدوا فأخطؤوا (فهدانا الله له) والناس لنا فيه تبع وأول السياق "نحن
الآخرون الأولون السابقون يوم القيامة، بيد) أي غير أنهم أوتوا الكتاب من
قبلنا" يعني التوراة والإنجيل "وأوتيناه" يعني القرآن "من بعدهم (متفق
عليه).
وفي لفظ "ما طلعت الشمس ولا غربت على يوم خير من يوم الجمعة. هدانا الله له
وضل الناس عنه" ولمسلم أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا فكان لليهود يوم
السبت وللنصارى يوم الأحد فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة" ولفظ
البخاري "فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له" قال ابن بطال ليس
المراد أن يوم الجمعة فرض عليهم بعينه فتركوه لأنه لا يجوز لأحد أن يترك ما
فرض الله عليهم وهو مؤمن. وإنما يدل والله أعلم أنه فرض عليهم يوم من
الأسبوع ليقيموا فيه شريعتهم فاختلفوا في أي الأيام ولم يهتدوا ليوم
الجمعة؛ فهدى الله هذا النبي الكريم وأمته لها بالنص والاجتهاد.
(1/434)
قال الحافظ وغيره. وفي الحديث دليل على
فرضية الجمعة كما قال النووي لقوله "فرض عليهم فهدانا الله له" فإن التقدير
فرض عليهم وعلينا فضلوا وهدينا أي لخير يوم طلعت عليه الشمس. وفي صحيح
الحاكم "سيد الأيام يوم الجمعة" ولابن ماجه "يوم الجمعة سيد الأيام وأعظمها
عند الله وهو أعظم عند الله من يوم الأضحى ويوم الفطر" وخصت به هذه الأمة
وشرفه الله وخصه بعبادات يختص بها عن غيره.
وقيل الحكمة في اختيار الجمعة وقوع خلق آدم فيه والإنسان إنما خلق للعبادة
فناسب أن يشتغل بالعبادة فيه ولأن الله أكمل فيه الموجودات. وأوجد فيه
الإنسان الذي ينتفع بها فناسب أن يشكر على ذلك بالعبادة فيه فهو اليوم الذي
يستحب أن يتفرغ فيه للعبادة ويتخلى فيه عن أشغال الدنيا فهو مع غيره في
الأيام كرمضان في الشهور وله على سائر الأيام مزية كما لرمضان. وساعة
الإجابة فيه كليلة القدر في رمضان. ولهذا من صحت له جمعته وسلمت له صح له
وسلم له سائر أسبوعه. فهو ميزان الأسبوع وهو عيد الأسبوع ويوم اجتماع الناس
وتذكيرهم بالمبدأ والمعاد.
(ولمسلم عنه) أي عن أبي هريرة وكذا عن ابن عمر (سمعته) يعني رسول الله – -
صلى الله عليه وسلم - (يقول على أعواد منبره) أي
الذي عمل له من عود سنة سبع عمله له غلام امرأة من الأنصار وكان على ثلاث
درج ولم يزل حتى زاده مروان في زمن
(1/435)
معاوية ست درجات من أسفله ولم يزل حتى
احترق المسجد سنة أربع وخمسين وستمائة (لينتهين أقوام عن ودعهم) أي تركهم
(الجمعات) جمع جمعة (أو ليختمن الله على قلوبهم) الختم هو الطبع والتغطية
عليها عقوبة على تركهم لها.
فإن من استولت عليه الغفلة وعرض عليه الخير فاعرض عنه يعاقب بأن لا يحصل له
(ثم ليكونن من الغافلين) بعد ختمه على قلوبهم فيغفلون عن اكتساب ما ينفعهم
وللخمسة عن أبي الجعد أن رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - قال "من ترك
ثلاث جمع تهاونًا طبع الله على قلبه" ولابن ماجه نحوه عن أبي هريرة وفي هذه
الأحاديث وغيرها أعظم الزجر عن ترك الجمعة والتساهل فيها. وإن تركها من
أعظم أسباب الخذلان وعزم على تحريق المتخلف عنها. وتقدم ذكر ما ورد في وجوب
صلاة الجماعة من الكتاب والسنة وقول علماء الأمة ما يدل على وجوب صلاة
الجمعة بطريق الأولى.
وهي أفضل من الظهر بلا نزاع وآكد منه لأنه ورد في فضلها وفي التهديد على
تركها ما لم يرد في الظهر ولأن لها شروطًا وخصائص ليست له، وصلاة الجمعة
مستقلة وليست بدلاً عن الظهر وإذا فات وقتها فاتت بالكلية بخلاف غيرها. قال
عمر صلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان
محمد – - صلى الله عليه وسلم -.
وهي فرض الوقت فلو صلى الظهر أهل بلد مع بقية الوقت
(1/436)
لم تصح لأنهم صلوا ما لم يخاطبوا به.
وتركوا ما خوطبوا به كما لو صلوا العصر مكان الظهر. وتلزمهم الجمعة ولا
يعارض فرض الظهر ليلة الإسرى تأخير فرض الجمعة بعده فإنها إذا فاتت وجب
الظهر إجماعًا فهو بدل عنها إذا فاتت.
(وعن طارق بن شهاب) بن عبد شمس البجلي الأحمسي رأي النبي – - صلى الله عليه
وسلم - ولم يسمع منه وتوفي سنة ثلاث وثمانين (أن رسول الله – - صلى الله
عليه وسلم - قال الجمعة حق واجب على كل مسلم) خرج الكافر فإن الإسلام شرط
في صحة العبادة. وللنسائي عن حفصة قال "رواح الجمعة واجب على كل محتلم"
وذكره ابن المنذر إجماعًا والنصوص في ذلك شهيرة (إلا أربعة) بالنصب وما
بعده بدل منه. وإن رفع فخبره محذوف. أو على تأويل لا يترك الجمعة مسلم في
جماعة إلا أربعة أو إلا بمعنى لكن وأربعة
مبتدأ.
وبين الأربعة بقوله (عبد مملوك) فلا تجب عليه أشبه المحبوس بالدين قال ابن
المنذر وهو قول أكثر العلماء اهـ. وهذا القول إحدى الروايات عن أحمد وعنه
تجب على العبد وعليه أكثر أهل العلم واختاره المجد وغيره. وقال هو كالإجماع
وعبد وما عطف عليه يحتمل أن يكون منصوبًا على البدل سقطت منه الألف على
طريقة المتقدمين في عدم رسم الألف اكتفاء في مثله بالشكل وله شواهد. ويحتمل
أن يكون مرفوعًا على القطع أي هم
عبد لما تقرر إن البدل إذا فصل به مذكور وكان وافيًا يجوز
(1/437)
فيه البدل وإلا تعين القطع إن لم ينو معطوف
محذوف كما هو معروف.
(وامرأة) فلا تجب الجمعة عليها إجماعًا حكاه ابن المنذر وغيره. وأجمعوا على
أنهم إذا حضرن فصلين الجمعة إن ذلك يجزئ عنهن وغير العجائز لا يستحب لهن
حضورها بلا نزاع.
وتقدم ذكر ما يباح له منهن حضور الجماعة (أو صبي) فلا تجب عليه إجماعًا
لنقص بدنه ورفع التكليف عنه. وكذا لا تجب على مجنون ولا كافر بمعنى أنهما
لا يقضيانها. وتقدم أن الكافر مخاطب بفروع الشريعة.
(أو مريض) وتقدم أم المرض المسقط لحضورها هو الذي يلحق صاحبه مشقة ظاهرة
غير محتملة (رواه أبو داود) قال في المبدع إسناده ثقات وقال الحافظ صححه
غير واحد وقال هو مرسل صحابي وهو مقبول على الراجح. وقال العراقي حجة عند
الجمهور، وإذ قد ثبتت صحبته فالحديث صحيح وادعى بعض الحنفية الإجماع على أن
مرسل الصحابي حجة.
وسمي مرسلاً لصغر طارق ويؤيده ما رواه جابر وتميم الداري وابن عمر وأبو
هريرة وغيرهم. وفي حديث أبي هريرة "وأهل البادية " وللطبراني من حديث ابن
عمر "ليس على مسافر جمعة" وفيها دليل على أن صلاة الجمعة فرض عين على كل
مسلم سوى من استثنى إذا كان مستوطنًا ببناء يشمله
اسم.
(1/438)
واحد ولو تفرق كالمدينة النبوية فلا تجب
على كل مسافر لأن النبي – - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه كانوا يسافرون
إلى الحج وغيره فلم يصل أحد منهم الجمعة في السفر مع اجتماع الخلق الكثير.
ومن وجبت عليه انعقدت به قاله الشيخ وغيره ويجوز أن يؤم فيها عند جماهير
العلماء أبي حنيفة ومالك والشافعي وهو إحدى الروايتين عن أحمد لصحتها منه
وتجزئة بلا نزاع. ومن سقطت عنه لعذر كمرض وحضرها أجزأته وجاز أن يؤم فيها
إجماعًا لأن سقوطها عنه لمشقة السعي وقد زالت.
قال ابن القيم في المسافر الاختيار أن لا يسافر إذا طلع الفجر وهو حاضر حتى
تصلى الجمعة ما لم يخف فوت رفقته اهـ، وإن كان من العدد المعتبر لها وقد
كان يعلم أنها لا تكمل إلا به فيحرم وإلا فيكره ولا يحرم لقوله عليه الصلاة
والسلام "ما منعك أن تغدو مع أصحابك " قال أردت أن أصلي معك ثم ألحقهم فقال
لو أنفقت ما في الأرض ما أدركت فضل
غدوتهم.
وقال عمر لا تحبس الجمعة عن سفر وكما لو سافر من الليل هذا إذا لم يكن أذن
لها فإن كان أذن لها فيحرم كما لو زالت الشمس حتى يصلي لتركه لها بعد
الوجوب وهذا مذهب جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم وقال الطوفي لا
نزاع في تحريم السفر حينئذ لتعلق حق الله بالإقامة اهـ. كما لو تركها
لتجارة فإن خافت فوت رفقته سقوط وجوبها.
(1/439)
فصل في شروطها
أي في شروط صحة الجمعة وهي الوقت والجماعة والاستيطان والخطبتان. لا إذن
الإمام لأن عليًا صلى بالناس وعثمان محصور فلم ينكره أحد وصوبه عثمان وأبطأ
الوليد بن عقبة فصلى ابن مسعود وصلى أبو موسى الأشعري حين أخرها سعيد بن
العاص. وقال أحمد وقعت الفتنة في الشام تسع سنين وكانوا يجمعون ولم تنكر
هذه الجمع فكان إجماعًا.
(عن سهل) يعني ابن سعد رضي الله عنه (قال ما كنا نقيل) من القيلولة وهي
الاستراحة وسط النهار (ولا نتغذى) قال ابن قتيبة لا يسمى غداء ولا قائلة
بعد الزوال أي لا نفعل ذلك (إلا بعد الجمعة متفق عليه) وفي رواية "في عهد
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وفيه دليل على أنهم كانوا في عهد رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يبدؤون بالصلاة قبل القيلولة بخلاف ما جرت به
عادتهم في صلاة الظهر.
وللبخاري عن أنس قال: "كنا نصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - الجمعة ثم
نرجع إلى القائلة فنقبل" وأصرح منه ما في مسلم عن جابر "كنا نصلي الجمعة ثم
نذهب إلى جمالنا فنربحها حين تزول الشمس". فدلت هذه الأحاديث لما ذهب إليه
الإمام أحمد بن حنبل وجماعة من السلف من جواز صلاة الجمعة قبل الزوال لقول
عبد الله بن سيدان شهدت الجمعة مع أبي بكر فكانت
(1/440)
خطبته وصلاته قبل نصف النهار. ثم شهدتها مع
عمر فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول قد انتصف النهار، ثم شهدتها مع عثمان
فكانت خطبته وصلاته إلى أن أقول قد زال النهار. فما رأيت أحدًا عاب ذلك ولا
أنكره احتج به أحمد فصار إجماعًا سكوتيًا.
وعن ابن مسعود كان يصلي الجمعة ضحى ويقول: إنما عجلت بكم خشية الحر عليكم.
رواه أحمد وعن معاوية نحوه رواه سعيد. وفعلها ابن الزبير في وقت العيد
وصوبه ابن عباس وأبو هريرة ولأنها صلاة عيد فجازت قبل الزوال.
(وللبخاري عن أنس قال كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "يصلي الجمعة
حين تميل الشمس) ولهما عن سلمة بن الأكوع قال "كنا نجمع مع رسول الله – -
صلى الله عليه وسلم - إذا زالت الشمس ثم نرجع نتتبع الفيء" وفي لفظ "وليس
للحيطان ظل يستظل به" فدلت هذه الأحاديث على شدة التبكير. والجمهور أنها لا
تجوز إلا بعد الزوال. وقال الزركشي والتقديم ثبت رخصة بالسنة والآثار.
وأما وقت الوجوب فبزوال الشمس إجماعًا. وعن أحمد وقتها كالظهر وفاقًا. ولا
ينافي ما تقدم لأن سائر المسلمين لا يمنعون ذلك بعد الزوال. وآخر وقتها آخر
وقت صلاة الظهر لا نزاع إلحاقًا لها بها لوقوعها موضعها وفعلها بعد الزوال
أفضل لهذه الأخبار وخروجًا من الخلاف ولأنه الوقت الذي كان يصلي
(1/441)
فيه رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - في
أكثر أوقاته فالأولى فعلها بعد الزوال صيفًا وشتاءً حين تميل الشمس. وإن
خرج وقتها قبل التحريمة صلوا ظهرًا بلا خلاف لفوات الشرط ولأنها لا تقضي.
(وعن أبي سعيد قال قال رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - "إذا كانوا
ثلاثة فليؤمهم أحدهم" رواه مسلم) وهذا عام وقال شيخ الإسلام تنعقد الجمعة
بثلاثة واحد يخطب وإثنان يستمعان وهو إحدى الروايات عن أحمد وقول طائفة من
العلماء اهـ. وذهب طائفة من أهل العلم على اشتراط أربعين من أهل وجوبها
وهذا المذهب عند أصحاب أحمد والشافعي واستدلوا بقصة مصعب بن عمير لما بعثه
النبي – - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل المدينة فلما كان يوم الجمعة جمع
بهم وكانوا أربعين وقالوا لم ينقل إنها صليت بدون ذلك.
وقد ثبت أنه – - صلى الله عليه وسلم - صلى بهم حين انفضوا ولم يبق معه إلا
اثنا عشر رجلاً وهو أيضًا لا يقتضي أنها لا تصح بدون ذلك. وحكى النووي
وغيره إجماع الأمة على اشتراط العدد وأنها لا تصح من منفرد وأن الجماعة شرط
لصحتها. والله أعلم أنه لا مستند لاشتراط عدد أوضح وأصح من حديث أبي سعيد
ويشهد له عموم الآية وما سواه من الأقوال يحتاج إلى برهان.
قال شيخنا ولا برهان يخرجه من هذا العموم فدل على أنها تنعقد بالجمع وأقله
ثلاثة وأما ما روي من قول جابر مضت السنة أن في كل أربعين فما فوق جمعة فلم
يصح ولا يقاوم حديث أبي سعيد ولا حديث جابر.
(1/442)
وقال حافظ عصره الشيخ سليمان بن عبد الله
بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب هو حديث ساقط لا يحتج به لأنه من رواية عبد
العزيز بن عبد الرحمن وهو ضعيف. قال البيهقي هذا حديث لا يحتج به ثم لو صح
فليس فيه حجة، ويقال اشتراط الأربعين العقلاء الحاضرين الذكور الأحرار تحكم
بالرأي بلا دليل وإسقاط للجمعة عمن دون الأربعين. وقد ثبت وجوب الجمعة
بعموم الآية والأحاديث والإجماع على كل أحد فمن أراد إخراج أحد عن وجوبها
فعليه الدليل واتفق المسلمون على اشتراط الجماعة لها واختلفوا في العدد
المشترط لها وذكر الأقوال ثم قال: ونص أحمد على أنها تنعقد بثلاثة اثنان
يستمعان وواحد يخطب اختاره شيخ الإسلام. قال الشيخ سليمان وهذا القول أقوى
وهو كما قال شرعًا ولغة وعرفًًا لقوله (فاسعوا) وهذا صيغة جمع وأقل الجمع
ثلاثة وفي الحديث "إذا كانوا ثلاثة فليؤمهم أحدهم".
فأمرهم بالإمامة وهو عام في إمامة الصلوات كلها الجمعة والجماعة. ولأن
الأصل وجوب الجمعة على الجماعة المقيمين فالثلاثة جماعة تجب عليهم الجمعة
ولا دليل على إسقاطها عنهم. وإسقاطها عنهم تحكم بالرأي الذي لا دليل عليه
من كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قول صاحب ولا قياس صحيح اهـ ويقال ولو كانت
الأربعون شرطًا لما جز أن يسكت عنه الشارع – - صلى الله عليه وسلم - ولا
يبينه. وقد أبلغ الحافظ وغيره أقوالهم إلى خمسة عشر.
(1/443)
ولا مستند لاشتراط عدد معين أربعين أو
خمسين أو ثلاثين أو تسعة أو سبعة أو خمسة كما أنه لا مستند لصحتها من
الواحد وقد صحت الجماعة في سائر الصلوات باثنين وقال به طائفة.
واشترط في المأمومين المستمعين للخطبة ومن أسقطها عن هذا العدد فما فوق
فعليه البرهان. وقد انعقدت سائر الصلوات بهما بالإجماع والجمعة صلاة فلا
تخص بحكم يخالف غيرها إلا بدليل. وقال عبد الحق وغيره لم يثبت في عدد
الجمعة شيء.
وعن ابن عباس (أول جمعة جمعت) أي صليت جماعة زاد أبو داود في الإسلام (بعد
جمعة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) يعني بالمدينة وهو رواية
ووقع في رواية بمكة وقال الحافظ خطأ بلا مرية وإنما أول جمعة وقعت بعد
الجمعة بالمدينة جمعة (في مسجد عبد القيس) قبيلة من أسد بن ربيعة وفي رواية
من قرى عبد القيس (بجواثي) بضم الجيم ولفظ أبي داود بجواثي قريبة من قرى
(البحرين) وهو المعروف الآن بالأحساء فليس من شروطها المصر (رواه البخاري).
وبيوتهم من جريد النخل ونحوه. وكتب عليه الصلاة والسلام إلى قرى عرينة أن
يصلوا الجمعة. وأسعد بن زرارة أول من جمع في قرية يقال لها هزم النبيت في
حرة بني بياضة على ميل من المدينة, وأقر عمر أهل المنازل التي بين مكة
والمدينة على التجميع ومعلوم أنها لم تكن بمدر وهي إما من جريد أو سعف أو
قصب. والحديث وما في معناه يدل على وجوب الجمعة على
(1/444)
أهل القرى كالمدن من أي أجزاء البناء وهو
قول جماهير العلماء إلا ما روي عن الحنفية.
قال شيخ الإسلام كل قوم كانوا مستوطنين ببناء متقارب لا يظعنون عنه شتاء
ولا صيفًا تقام فيه الجمعة إذا كان مبنيًا بما جرت به عادتهم من مدر أو خشب
أو قصب أو جريد أو سعف أو غير ذلك فإن أجزاء البناء ومادته لا تأثير لها في
ذلك إنما الأصل أن يكونوا مستوطنين ليسوا كأهل الخيام والحلل الذين ينتجعون
في الغالب مواقع القطر وينتقلون في البقاع وينقلون بيوتهم معهم إذا انتقلوا
وهذا مذهب جمهور العلماء والإمام أحمد علل سقوطها عن البادية لأنهم
ينتقلون، اهـ.
ولو كان البناء الذي تقام فيه الجمعة متفرقًا فإن المدينة كانت محلات وهي
بريد في بريد ولم يجمع فيها في غير المسجد الذي أسسه رسول الله – - صلى
الله عليه وسلم - قال الشيخ وتجب الجمعة على من حول المصر عند أكثر العلماء
وهو يقدر بسماع النداء بفرسخ.
(وعن ابن عمر أن النبي – - صلى الله عليه وسلم - كان يخطب قائمًا) واستفاض
عنه – - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه وقال تعالى: {وَتَرَكُوكَ
قَائِمًا} وقال جابر "من أنبأك أنه كان يخطب جالسًا فقد كذب" رواه مسلم ولا
نزاع في سنيته. وقال ابن المنذر وعليه عمل أهل العلم من علماء الأمصار.
وحكى ابن عبد البر إجماع العلماء على أن الخطبة لا تكون إلا قائمًا لمن
أطاقه. ودخل كعب بن
(1/445)
عجرة وعبد الرحمن بن الجهم يخطب قاعدًا
فقال انظروا إلى هذا الخبيث يخطب قاعدًا وقرأ الآية. ومذهب الشافعي أن
القيام شرط مع القدرة. وعند مالك واجب. فدل على تأكد سنيته.
ويعتمد على عصا لفعله عليه الصلاة والسلام رواه أبو داود. وقال ابن القيم
لم يحفظ أنه توكأ على سيف وإنما المحفوظ الاتكاء على العصى والقوس اهـ. وفي
الحرب يعتمد على قوس. وفي الجمعة على عصا اتفاقًا، ويده الثانية على حرف
المنبر إن كان، والغرض أن يكون أثبت لجأشه ولئلا يعبث بهما (ثم يقعد) يعني
بين الخطبتين فيسن أن يجلس بينهما جلسة خفيفة وعليه السلف والخلف وخروجًا
من خلاف من أوجبه. قال الترمذي وهو الذي رآه أهل العلم أن يفصل بين
الخطبتين بجلوس. قال جماعة بقدر سورة الإخلاص (ثم يقوم) أي فيخطب الخطبة
الثانية قائمًا (كما تفعلون اليوم) فثبت من فعله – - صلى الله عليه وسلم -
وإجماع الصحابة عليه (متفق عليه) ورواه الجماعة من وجوه كثيرة عن ابن عمر
وغيره.
وفيه دليل على مشروعية خطبتين قبل صلاة الجمعة والسنة مستفيضة في ذلك ولا
نزاع فيه. وأمر تعالى بالسعي إلى ذلك في قوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ
اللَّهِ} والذكر هو الخطبة عند كثير من أهل التفسير وسميت ذكرًا لاشتمالها
عليه فتجب إذ لا يجب السعي لغير واجب. وواظب عليه – - صلى الله عليه وسلم -
وفعله مبين للآية وقد
(1/446)
قال "صلوا كما رأيتموني أصلي" واستمر عمل
المسلمين عليه خلفًا عن سلف.
وهما شرط عند جمهور أهل العلم مالك والشافعي وأحمد. قال الموفق وغيره شرط
لا تصح بدونهما ولا نعلم مخالفًا إلا الحسن. وقال في الفروع ومن شرطهما
تقديمهما اتفاقًا وهما بدل ركعتين لا من الظهر لأن الجمعة ليست بدلاً عن
الظهر بل مستقلة وإنما الظهر بدل عنها إذا فاتت. وعن عمر وعائشة قصرت
الصلاة من أجل الخطبة.
(ولمسلم عن جابر كانت خطبته يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه) بما هو أهله
وعن أبي هريرة مرفوعًا "كل كلام لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم" رواه أبو
داود وللترمذي أنه – - صلى الله عليه وسلم - قال "كل خطبة ليس فيها تشهد
فهي كاليد الجذماء" وللبيهقي " وجعلت أمتك لا يجوز لهم خطبة حتى يشهدوا أنك
عبدي ورسولي".
ولأبي داود عن ابن مسعود كان إذا تشهد قال "الحمد لله نحمده ونستعينه
ونستغفره. ونتوب إليه. ونعوذ بالله من شرور أنفسنا. ومن سيئات أعمالنا. من
يهده الله فلا مضل له. ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده
لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله) وقال أحمد لم يزل الناس يخطبون
بالثناء على الله والصلاة على رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - لأن كل
(1/447)
عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى افتقرت
إلى ذكر رسوله – - صلى الله عليه وسلم - كالأذان وذكره مع ذكر ربه هو
الشهادة له بالرسالة. قال ابن القيم وهو الواجب في الخطبة قطعًا.
وأوجب شيخ الإسلام وغيره حمد الله والثناء عليه والشهادتين والموعظة في
الخطبة. وقال ابن القيم في خصائص الجمعة الخطبة التي يقصد بها الثناء على
الله وتمجيده بالشهادة له بالوحدانية ولرسوله بالرسالة وتذكير العباد
بأيامه وتحذيرهم من بأسه ونقمته ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جناته ونهيهم
عما يقربهم من سخطه وناره فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها.
(وله عنه) أي ولمسلم عن جابر (كان) رسول الله – - صلى الله عليه وسلم -
(يقرأ آية) وفي لفظ "يقرأ القرآن" وله عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان
قالت "ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيد} إلا من لسان رسول الله – - صلى
الله عليه وسلم - يقرؤها كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس" ويحتمل أنها
أخذتها آية آية أو آيات لأن قراءتها بتمامها مع غيرها من الحمد والثناء
والتشهد والوعظ وغير ذلك يعارض حثه على قصر الخطبة. ولأبي داود "ويقرأ آيات
من القرآن" ولهما {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} وروي غير ذلك.
وفيه وغيره دليل على مشروعية قراءة آية أو آيات أو سورة في الخطبة كل جمعة
وأجمعوا على ذلك وظاهر كلام أحمد وغيره لا يشترط ويحتمل أن لا يجب سوى حمد
الله والموعظة لأنه يسمى
(1/448)
خطبة وما عداه ليس على اشتراطه دليل (ويذكر
الناس) آلاء الله ونعمه ويوصيهم بتقوى الله وطاعته قال شيخ الإسلام وغيره
لا يكفي في الخطبة ذم الدنيا وذكر الموت لأنه لا بد من اسم الخطبة عرفًا
بما يحرك القلوب ويبعث بها إلى الخير. قال الزركشي وغيره أركان الخطبة حمد
الله والثناء عليه والشهادتان والصلاة على النبي – - صلى الله عليه وسلم -
والقراءة والموعظة.
(وفي رواية عنه قال كان رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - (إذا خطب احمرت
عيناه) أي اشتد احمرارها اهتمامًا بشأن الموعظة.
(وعلا صوته) أي ارتفع جداً فينبغي رفع الصوت قدر الإمكان ولذلك استحب
المنبر لأنه أبلغ في الإسماع (واشتد غضبه) لإنذاره الأمور العظام وتحذيره
الخطوب الجسام واحمرت وجنتاه (حتى كأنه منذر جيش) أي معلم ومخوف ومحذر بما
قد دهم من العدو (يقول) أي منذر الجيش (صبحكم) يعني الجيش (ومساكم) أي
أتاكم العدو وقت الصباح أو وقت المساء ويأتي بجوامع الكلم من الترغيب
والترهيب ويجزل كلامه. ويفخم أمر الخطبة لأنه أوقع في النفوس وأبلغ في
الوعظ. وينبغي أن يكون متعظاً بما يعظ به ليحصل الانتفاع.
(ويقول أما بعد) والرواية الثانية "يحمد الله ويثني عليهم يقول على أثر
ذلك"أي قوله أما بعد وقد علا صوته.
(1/449)
والإتيان بأما بعد رواها نحو من ثلاثين
صحابيًّا. وكان يلازمها في جميع خطبة بعد حمد الله والثناء والتشهد (فإن
خير الحديث) أي ما يتحدث به (كتاب الله) فيه الهدى والنور (وخير الهدى)
بفتح الهاء أي أحسن الطريق (هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -) أي طريقه
وعلى رواية الضم معناه الدلالة والإرشاد وهو الذي يضاف إلى الرسل وإلى
القرآن.
(وشر الأمور) واحدها أمر أي وشر الشؤون أو الأشياء (محدثاتها) والمحدثات ما
لم يكن ثابتاً بشرع من الله ولا من رسوله وذلك هو البدعة (وكل بدعة ضلالة)
والبدعة لغة ما عمل على غير مثال سابق والمراد هنا ما عمل من دون أن يسبق
له شرعية من كتاب ولا سنة وهذا كقوله: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه
فهو رد" فكل بدعة ليست مما أمر الله به ورسوله صغيرة كانت أو كبيرة فهي
ضلالة باتفاق أهل العلم بالشرع المطهر وفي رواية "من يهد الله فلا مضل له
ومن يضلل فلا هادي له"، وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - خطب متنوعة يعلم
الناس قواعد الإسلام وشرائعة ويأمرهم وينهاهم ويحثهم على الطاعة وينهاهم عن
المعاصي.
وذكر ابن القيم وغيره أن خطبه - صلى الله عليه وسلم - إنما كانت تقريرًا
لأصول الإيمان من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وذكر الجنة
والنار وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته. وما أعد لأعدائه وأهل معصيته
ودعوة إلى الله وتذكيرًا بآلائه التي تحببه
(1/450)
إلى خلقه وأيامه التي تخوفهم من بأسه
وأمرًا بذكره وشكره الذي يحببهم إليه فيملأ القلوب من خطبه إيمانًا
وتوحيدًا ومعرفة بالله وآياته وآلائه ومحبة لشكره وذكره فينصرف السامعون
وقد أحبوا الله فأحبهم. ولمسلم وغيره "إذا دعا رفع السبابة وأشار بها".
(وله عن عمار مرفوعًا أن طول صلاة الرجل) يعني بالنسبة إلى خطبته ليس
المراد التطويل المنهي عنه (وقصر) بكسر القاف وفتح الصاد أي تقصير (قطبته
مثنة) بفتح الميم وكسر الهمزة أي علامة ودلالة يستدل به على ما خول (من
فقهه فأطيلوا الصلاة وقصروا الخطبة" حتى لا يملوها ويكون قصرها معتدلاً فلا
يبالغ بحيث يمحقها. ولمسلم عن جابر وكانت صلاته - صلى الله عليه وسلم -
قصدًا وخطبته قصدًا".
وكون قصر الخطبة علامة على فقهه. لأن الفقيه هو المطلع على حقائق المعاني
وجوامع الألفاظ فيتمكن من التعبير بالعبارة الجزلة المفيدة. وقال عليه
الصلاة والسلام "إن من البيان لسحرًا"شبه الكلام العامل في القلوب الجاذب
للعقول بالسحر لأجل ما اشتمل عليه من الجزالة وتناسق الدلالة وإفادة
المعاني الكثيرة ووقوعه من الترغيب والترهيب بالمقام الأوفى ولا يقدر عليه
إلا فقيه.
وله عن عثمان أنه خطب وأوجز فقيل له لو تنفست فقال سمعت رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - يقول "قصر خطبة الرجل مئنة من فقهه.
(1/451)
فأطيلوا الصلاة وقصروا الخطبة" ولا نزاع في
مشروعية إقصار الخطبة. ولأبي داود "كان لا يطيل الخطبة إنما هي كلمات
يسيرات" وينبغي أن تكون الثانية أقصر من الأولى كالإقامة مع الآذان
والقراءة في الركعة الثانية أقصر من الأولى. ويدعو للمسلمين لفعله – - صلى
الله عليه وسلم - وقال النووي الدعاء لأئمة المسلمين وولاة أمورهم بالصلاح
والإعانة على الحق ونحو ذلك مستحب بالاتفاق. وذكر البغوي وغيره استحباب ختم
الخطبة بقوله استغفر الله لي ولكم. وقال ابن القيم كان - صلى الله عليه
وسلم - يختم خطبته بالاستغفار اهـ ويباح أن يخطب من صحيفة.
ومن سنن الخطبة أن يسلم على المأمومين إذا أقبل عليهم بوجهه رواه الضياء
وغيره. وأصل التسليم مستفيض في الجملة. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم
- وأبي بكر وعمر وغيرهم أنهم كانوا إذا صعد أحدهم المنبر وأقبل على
المأمومين بوجهه سلم عليهم وأن يخطب على منبر لفعله عليه الصلاة والسلام
المستفيض عنه أو على موضع عال ولا نزاع في ذلك. وأن يجلس إلى فراغ الأذان
وهو إجماع لقول ابن عمر كان يجلس إذا صعد المنبر حتى يفرغ المؤذن.
ثم يقوم فيخطب. وقد تقرر استقباله الناس وقت الخطبة. واستدارة أصحابه إليه
بوجوههم من غير وجه. قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم من الصحابة
وغيرهم ويستحبونه اهـ. ولأنه الذي يقتضيه الأدب وهو أبلغ في الوعظ.
(1/452)
قال النووي وهو مجمع عليه. قال إمام
الحرمين سبب استقبالهم له واستقباله إياهم واستدباره القبلة أن يخاطبهم فلو
استدبرهم كان قبيحًا. وإن استقبلوه استدبروا القبلة فاستدبار واحد واستقبال
الجميع أولى من عكسه.
فصل في صفتها
أي في كيفية صلاة الجمعة وتحريم تعدادها لغير حاجة وذكر مسنوناتها.
(عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ يوم الجمعة في صلاة
الصبح ألم تنزيل) في الركعة الأولى بعد الفاتحة (وهل أتى على الإنسان) في
الركعة الثانية بعد الفاتحة ولهما من حديث أبي هريرة مثله ففيهما مشروعية
قراءتهما في صلاة الفجر قال شيخ الإسلام إنما كان عليه الصلاة والسلام يقرأ
هاتين السورتين في فجر الجمعة لأنهما تضمنتا ما كان وما يكون في يومها
فإنهما اشتملتا على خلق آدم وذكر الموت وحشر العباد وذلك يكون يوم الجمعة
فكان في قراءتهما هذا اليوم تذكير للأمة بما كان فيه ويكون، قال ولا ينبغي
المداومة عليهما بحيث يظن الجهال إنهما واجبتان وإن تاركهما مسيء بل ينبغي
تركهما أحيانًا لعدم وجوبهما.
قال أحمد لا أحب أن يداوم عليهما لئلا يظن أنها مفضلة بسجدة وقد جاءت
السجدة تبعًا ليست مقصودة حتى يقصد
(1/453)
المصلي قراءتها. قال الشيخ ويحرم تحري
قراءة سجدة غيرها ولا يستحب أن يقرأ بسورة فيها سجدة أخرى باتفاق الأئمة.
ثم ذكر رضي الله عنه ما كان يقرأ في صلاتها فقال (وفي صلاة الجمعة) يعني في
الركعة الأولى (سورة الجمعة) بعد الفاتحة (والمنافقين) يعني في الركعة
الثانية بعد الفاتحة لما علم من غير هذا الحديث (رواه مسلم) ورواه الخمسة
إلا النسائي.
ولهم إلا الترمذي من حديث النعمان "يقرأ في الأولى بالجمعة، وفي الثانية
بالغاشية" ولهم إلا ابن ماجه: بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و (هل أتاك حديث
الغاشية) وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما في الصلاتين وعن
أبي جعفر رضي الله عنه قال كان النبي – - صلى الله عليه وسلم - "يقرأ
بالجمعة والمنافقين فأما سورة الجمعة فيبشر بها المؤمنين ويحرضهم. وأما
سورة المنافقين فيؤيس بها المنافقون ويوبخهم".
وقال شيخ الإسلام أما القراءة فيها بسورة الجمعة فلما تضمنته من الأمر بهذه
الصلاة وإيجاب السعي إليها وترك العمل العائق عنها بإكثار ذكره ليحصل لهم
الفلاح في الدارين.
وأما القراءة بسورة المنافقين فلما فيها من التحذير للأمة من النفاق المردي
والتحذير لهم أن تشغلهم أموالهم وأولادهم عن صلاة الجمعة وعن ذكره وأنهم إن
فعلوا ذلك خسروا ولا بد وحضًا لهم على الإنفاق الذي هو من أكبر سعادتهم
وتحذيرًا لهم
(1/454)
من هجوم الموت وهم على حالة يطلبون الرجعة
ولا يجابون إليها ويتمون الإقالة وأما سبح والغاشية فيأتي في العيدين.
ففي هذه الأحاديث وغيرها سنة قراءة هذه السور جهرًا وهذا أمر مجمع عليه
والجهر فيها وفي العيدين أبلغ في تحصيل المقصود وأنفع للجمع بل فيه من
قراءة كلام الله عليهم وتبليغه في المجامع العظام ما هو من أعظم مقاصد
الرسالة وفيها أن الجمعة ركعتان وهو إجماع معلوم بالضرورة كما علم عدد
ركعات الصلوات الخمس لا ينكره إلا مكابر. وقال عمر صلاة الجمعة ركعتان تمام
غير قصر.
(وعن أبي هريرة مرفوعًا من أدرك ركعة من الجمعة) يعني مع الإمام (فقد أدرك
الصلاة رواه الأثرم) الحافظ أبو بكر أحمد ابن محمد بن هانئ الطائي الإسكافي
المتوفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين في كتاب السنن له وروى الحاكم نحوه من
ثلاثة طرق قال فيها على شرط الشيخين وأصله في الصحيحين من غير وجه.
وللبيهقي نحوه من حديث ابن مسعود وابن عمر ولفظ النسائي وابن ماجه "من أدرك
ركعة من صلاة الجمعة فليضف إليها أخرى. وقد تمت صلاته". قال الحافظ إسناده
صحيح.
وقال شيخ الإسلام مضت السنة أن من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة أي
لا تفته تلك الصلاة ومن لم تفته
(1/455)
الجمعة صلاها ركعتين لقوله "فليصل إليها
أخرى" ولا بد من إدراك المسبوق منها مع الإمام ركعة بسجدتيها فإذا أدرك ذلك
أتمها جمعة إجماعًا. وإن لم يدرك إلا أقل من ذلك بأن رفع الإمام رأسه من
الثانية ثم دخل معه أتمها ظهرًا قيل إن كان نوى الظهر ودخل وقته ولو لم
يدرك إلا التشهد دخل معه وتشهد حكاه أبو بكر عن الصحابة إجماعًا وقال ابن
مسعود كذلك فعل أصحاب رسول الله – - صلى الله عليه وسلم - وإلا أتمها
نفلاً.
ومن فاتتهم صلوا ظهرًا ولم ينقل تجميع مع أنه لم يخل عصر من نفر تفوتهم
الجمعة وقال ابن المنذر لا تجميع إجماعًا.
وتحرم إقامة الجمعة في أكثر من موضع بالبلد لغير حاجة لأنه - صلى الله عليه
وسلم - وأصحابه لم يقيموها في أكثر من موضع واحد وقال "صلوا كما رأيتموني
أصلي" وقال "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي" وفي
تعطيل من حول المدينة مساجدهم واجتماعهم في مسج واحد أبين وأوضح دلالة بأن
الجمعة ليست كسائر الصلوات وأنها لا تصلي إلا في مكان واحد ولا نزاع في ذلك
إلا ما روي عن عطاء ويحرم إذن إمام فيها إذًا. قال شيخ الإسلام وصرح
العلماء ببطلان صلاة من صلى جمعة ثانية بغير إذن الإمام وبغير حاجة داعية
وأوجبوا عليه الإعادة. وقواعد الشرع تدل عليه. وأما مع الحاجة فيجوز
بحسبها.
وقال إقامة الجمعة في المدينة الكبيرة في أكثر من موضع
(1/456)
يجوز للحاجة عند أكثر العلماء لصلاة علي
بضعفة الناس في المسجد. ولما بنيت بغداد ولها جانبان أقاموا فيها جمعة في
الجانب الشرقي وجمعة في الجانب الغربي وجوز ذلك علماء العصر.
وذكر الحجة لذلك ولأن في الإلزام باتحاد الموضع حرجًا بينًا لاستدعائه
تطويل المسافة على أكثر الحاضرين ولا دليل على عدم جواز التعدد مع الحاجة،
وقضية الضرورة عدم اشتراطه كضيق المسجد عن أهله وعداوة بينهم يخشى
لاجتماعهم في محل واحد وإثارتها فيجوز التعدد بحسب الحاجة. وقد كانت تفعل
في الأمصار العظيمة في مواضع من غير نكير فكان إجماعًا وكونه - صلى الله
عليه وسلم - لم يفلعها في أكثر من موضع هو ولا أصحابه فلعدم الحاجة إليه.
(وعن زيد بن أرقم) ابن زيد الخزرجي استصغر يوم أحد وتوفي سنة ست وستين (قال
صلى النبي – - صلى الله عليه وسلم - العبد أي في يوم الجمعة (ثم رخص في
الجمعة) أي في صلاتها (وقال من شاء أن يصلي) أي الجمعة (فليصل) هذا بيان
لقوله "رخص" وأعلام بأنه كان الترخيص بهذا اللفظ (رواه الخمسة إلا الترمذي)
وصححه ابن خزيمة وابن المديني والحاكم وفيه مقال.
ولأبي داود عن أبي هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - قال "قد اجتمع في
يومكم هذا عيدان فيمن شاء أجزأه عن الجمعة وإنا مجمعون".
وللبخاري عن عثمان أنه قال في خطبته "يا أيها الناس قد اجتمع عيدان في
يومكم فمن أراد من أهل العالية أن يصلي معنا
(1/457)
الجمعة فليصل ومن أراد أن ينصرف فلينصرف"
وفعله ابن الزبير. وسئل عنه ابن عباس فقال أصاب السنة.
فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على أن صلاة الجمعة بعد صلاة العيد يجوز
تركها لمن صلى العيد وهو مذهب جماعة من أهل العلم وذلك في غير حق الإمام.
ومن لم يصل العيد ومن لم تنعقد إلا به ولأن يوم الجمعة عيد ويوم الفطر
والأضحى عيد ومن شأن الشارع إذا اجتمع عبادتان من جنس أدخل إحداهما بالأخرى
ولأن في إيجابهما على الناس تضييقًا وتكديرًا لمقصود عيدهم وما سن لهم فيه
من السرور والانبساط فحينئذ تسقط الجمعة سقوط حضور لا وجوب.
قال شيخ الإسلام إذا اجتمع الجمعة والعيد في يوم واحد فللعلماء في ذلك
ثلاثة أقوال ثالثها وهو الصحيح أن من شهد العيد سقطت عنه الجمعة لكن على
الإمام أن يقيم الجمعة ليشهدها من شاء شهودها. ومن لم يشهد العيد وهذا هو
المأثور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ولا يعرف عن الصحابة في
ذلك خلاف. وقال وهو المنقول الثابت عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
وخلفائه وأصحابه وهو قول من بلغه من الأئمة كأحمد وغيره والذين خالفوه لم
يبلغهم ما في ذلك من السنن والآثار اهـ. ومن سقط عنه الحضور وجب عليه أن
يصلي ظهرًا.
(وعن ابن عمر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بعد
الجمعة ركعتين متفق عليه) وفي رواية في بيته. ولمسلم "إذا صلى
(1/458)
أحدكم الجمعة فليصل بعدها أربع ركعات" وروي
عن ابن عمر لفعله - صلى الله عليه وسلم - وهذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد
وغيرهم والجمع بين الأخبار أنه إن صلى في بيته صلى ركعتين وإن صلى في
المسجد صلى أربعًا واختار ذلك الموفق والشيخ وغيرهما.
وقال الشيخ وغيره أدنى الكمال ست لما روى أبو داود أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - كان يفعله. والسنة أن يفصل بين الفرض والنفل بكلام أو قيام.
ويكفي الانتقال من موضعه في الجمعة وغيرها كما تقدم ولا يفعل ما يفعله كثير
من الناس، يصل السلام بركعتي السنة وهذا ركوب لنهيه - صلى الله عليه وسلم -
وذريعة إلى تغيير الفرض. وأن يزاد فيه ما ليس منه ولا راتبة للجمعة قبلها
فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج من بيته ويصعد المنبر ثم يأخذ
بلال في الأذان فإذا أكمله أخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - في الخطبة من
غير فصل. وأما الأذان الأول فإنما زاده عثمان رضي الله عنه فاستقر الأمر
عليه.
وقوله عليه الصلاة والسلام "بين كل أذانين صلاة لمن شاء" لا تتخذ راتبة
وليس هو الأذان المعهود على عهده - صلى الله عليه وسلم - ولما لم يذكر لها
راتبة إلا بعدها علم أنه لا راتبة لها قبلها وهذا مما انعقد سبب فعله في
عهده - صلى الله عليه وسلم -. فإذا لم يفعله ولم يشرعه علم أن تركه هو
السنة قال شيخ الإسلام وابن القيم وغيرهما لا سنة للجمعة قبلها وهو أصح
قولي العلماء وعليه تدل السنة قال الشيخ وهو مذهب الشافعي وأكثر أصحابه
وعليه جماهير الأئمة لأنها وإن كانت ظهرًا مقصورة فتفارقها في بعض الأحكام.
وكما أن ترك
(1/459)
المسافر السنة أفضل لكون ظهره مقصورة.
وقال أبو شامة وما وقع من بعض الصحابة أنهم كانوا يصلون قبل الجمعة فمن باب
التطوع. ولأنهم كانوا يبكرون ويصلون حتى يخرج الإمام اهـ. والأولى لمن جاء
إلى الجمعة أن يشتغل بالصلاة حتى يخرج الإمام لما في الصحيح ثم يصلي ما كتب
له. قال الشيخ وألفاظه - صلى الله عليه وسلم - فيها الترغيب في الصلاة إذا
قدم الرجل المسجد يوم الجمعة من غير توقيت وهو المأثور عن الصحابة كانوا
إذا أتوا المسجد يوم الجمعة يصلون من حين يدخلون ما تيسر. فمنهم من يصلي
عشر ركعات ومنهم من يصلي اثنتي عشرة ركعة. ومنهم من يصلي ثماني ركعات ومنهم
من يصلي أقل من ذلك ولهذا كان جماهير الأئمة متفقين على أنه ليس قبل الجمعة
سنة موقتة بوقت مقدرة بعدد. قال والصلاة قبل الجمعة حسنة وليست بسنة راتبة
إن فعل أو ترك لم ينكر عليه وهذا أعدل الأقوال. وحينئذ فقد يكون الترك أفضل
إذا اعتقد الجهال أنها سنة راتبة. واختار أنه لا تكره الصلاة في وقت الزوال
لأن من أتى الجمعة يستحب له أن يصلي إلى أن يخرج الإمام.
(وعن أبي سعيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لا يغتسل رجل يوم
الجمعة) إلى قوله "إلا غفر له" ولأحمد "على كل مسلم الغسل يوم الجمعة".
ولابي داود عن ابن عباس كان الناس يلبسون الصوف ويعملون والمسجد ضيق. فخرج
عليهم - صلى الله عليه وسلم - في يوم حار وقد عرق الناس في ذلك الصوف حتى
ثارت منهم روائح
(1/460)
وآذي بعضهم بعضًا "فأمرهم بالغسل والمس من
الطيب" وللبخاري عن عائشة: كانوا ينتابون الجمعة من منازلهم ومن العوالي
فيأتون في العباء فيخرج منهم الريح فقال "لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا".
فدلت هذه الأحاديث وما في معناها على سنية الغسل للجمعة وهو كالإجماع عن
الصحابة وفي الصحيحين "غسل الجمعة واجب على كل محتلم" ووجوبه أقوى من وجوب
الوتر وأوجبه الشيخ على من له عرق أو ريح. وقال ابن عبد البر أجمع علماء
المسلمين قديمًا وحديثًا على أن غسل الجمعة ليس بفرض لقوله – - صلى الله
عليه وسلم - "ومن اغتسل فالغسل أفضل" وليس شرطًا إجماعًا.
ومن قال بوجوبه فتصح بدونه وقوله - صلى الله عليه وسلم - "واجب " محمول على
تأكيد الاستحباب كما يقال حقك علي واجب جمعًا بين الأدلة ويرشحه قرنه
بالسواك والطيب وهما غير واجبين إجماعًا. وغسل الجمعة آكد الأغسال المستحبة
مطلقًا. وأحاديثه مستفيضة ولأنها يجتمع لها الناس ويزدحمون فيعرقون فيؤذي
بعضهم بعضًا فسن الغسل لزوال الرائحة الكريهة.
والغسل عن جماع أفضل لقوله "غسل واغتسل" وفي رواية "من اغتسل يوم الجمعة
غسل الجنابة" قال أحمد غير واحد من التابعين يستحبون أن يغسل الرجل أهله
يوم الجمعة.
وإذا نواهما أجزأ ولو أحدث بعده أو لم يتصل به المضي غليها. ولو اغتسل بعد
الفجر ثم أجنب لم يبطل غسل الجمعة. قال
(1/461)
الماوردي وهو قول العلماء كافة بل هو أبلغ
لأن المقصود منه التنظيف وإزالة الروائح الكريهة التي يتأذى بها الحاضرون
من الملائكة والناس.
(ويتطهر ما استطاع من طهر) وفي لفظ "من طهره" والمراد المبالغة في التنظيف
(ويدهن) ولفظه عن سلمان "ويدهن من دهنه" والمراد به إزالة شعث الشعر به.
وفيه إشارة إلى التنزين يوم الجمعة (ويمس من طيب امرأته) وعن سلمان "من طيب
بيته" فإن لم يتخذ لنفسه طيبًا فليستعمل من طيب امرأته ولفظ مسلم "ولو من
طيب المرأة" ولهما "وأن يستن وأن يمس طيبًا إن وجده" ولفظ أحمد من حديث أبي
أيوب "ومس من طيب إن كان عنده. ولبس من أحسن ثيابه".
وفيها وغيرها تأكد سنية التطيب والتنظيف يوم الجمعة. وكل حال تغير فيه
رائحة البدن إتفاقًا. ويقطع روائح كريهة بسواك وتقليم وغيره ويغسل الثوب
إذا توسخ لقوله "أما يجد أحدكم ماء يغسل به ثوبه" رواه أبو داود. وله عن
ابن سلام أنه عليه الصلاة والسلام كان يقول على المنبر "ما على أحدكم لو
اشترى ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته" ولابن ماجه "أحسن ما زرتم الله في
مساجدكم البياض".
ولا نزاع في استحباب ذلك وفي الصحيحين قال عمر يا رسول الله ابتع هذه فتجمل
بها للجمعة والوفد. قال ابن بطال
(1/462)
وغيره كان معهودًا عندهم أن يلبس المرء
أحسن ثيابه وتقدم الحث على أخذ الزينة عند الصلوات ففي الجمعة أولى (ثم
يخرج) أي إلى المسجد وله من حديث سلمان "ثم يروح إلى المسجد ولأحمد "ثم
يمشي وعليه السكينة حتى يأتي المسجد" وله من حديث أوس "من غسل واغتسل وبكر
وابتكر. ومشي ولم يركب. ودنا من الإمام فاستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة
يخطوها أجر سنة عمل صيامها وقيامها" وله شواهد.
ولهما من حديث أبي هريرة قال "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح" زاد
في الموطأ "في الساعة الأولى فكأنما قرب بدنة. ومن راح في الساعة الثانية
فكأنما قرب بقرة. ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشًا أقرن. ومن
راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة. ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما
قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يستمعون الذكر".
فدلت: على فضيلة التبكير إليها والدنو من الإمام وقرب أهل الجنة يوم المزيد
بحسب قربهم من الإمام يوم الجمعة. وذكر الساعات للحث على التبكير والترغيب
في فضيلة السبق وتحصيل فضيلة الصف الأول، وفي الصحيحين وغيرهما من غير وجه
فضل التهجير والرواح إلى الجمعة والمراد به التبكير
يدل عليه مجموع الروايات واعتناء السلف الصالح قال عبد الله
(1/463)
سارعوا إلى الجمعة فإن الله يبرز إلى أهل
الجنة في كل يوم جمعة في كثيب كافور فيكونون منه في القرب على قدر تسارعهم.
قال الشيخ وما ذكر عن أهل المدينة أنهم لا يبكرون فليس بحجة. فقد يكون
الرجل يشتغل بمصالحه ومصالح أهله ومعاشه وغير ذلك من أمور دينه ودنياه أفضل
من رواحه إلى الجمعة من أول النهار اهـ.
فإذا أتى المسجد (فلا يفرق بين اثنين) إلا بإذنهما ورأى النبي - صلى الله
عليه وسلم - وهو على المنبر رجلاً يتخطى رقاب الناس فقال له "اجلس فقد
آذيت" رواه أحمد قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم كرهوا أن يتخطى
الرجل رقاب الناس يوم الجمعة وشددوا في ذلك.
واختار النووي والشيخ وغيرهما تحريمه لأنه من الظلم والتعدي لحدود الله.
وظاهر عبارات أهل العلم حرمته ولو في غير الصلاة كما صرح به الشيخ وغيره.
والتفريق متناول القعود بينهما وإخراج أحدهما والقعود مكانه. وقد يطلق على
مجرد التخطي وفيه زيادة رفع رجليه على رؤوسهما إلا لحاجة كإمام ومن لم يجد
طريقًا فلا يكره بلا نزاع لأنه عليه الصلاة والسلام تخلص حتى وقف في الصف.
أما كونه يقيم غيره ويجلس مكانه فيحرم اتفاقًا لما في الصحيحين عن ابن عمر
مرفوعًا "نهى أن يقيم الرجل أخاه من مقعده ويجلس فيه" ولمسلم "لا يقيمن
أحدكم أخاه ثم يخالف
(1/464)
إلى مقعده فيقعد فيه ولكن يقول تفسحوا"
ولهما "من سبق إلى مكان فهو أحق به " وللترمذي وصححه "الرجل أحق بمجلسه وإن
خرج لحاجة ثم عاد فهو أحق بمجلسه" فمن سبق إلى موضع مباح سواء كان مسجدًا
أو غيره في جمعه أو غيرها لصلاة أو غيرها من الطاعات فهو أحق به ويحرم على
غيره إقامته منه والقعود فيه.
ومن قام منه لقضاء حاجة ثم رجع إليه فهو أحق به ما لم تطل مفارقته له بحيث
يعد راغبًا عنه وإن قعد فيه غيره فله أن يقيمه. وعلى القاعد أن يفارقه. ولا
يكره إيثار غيره بمكانه الفاضل.
قال ابن القيم: قولهم لا يجوز الإيثار بالقرب لا يصح وقد طلب أبو بكر من
المغيرة أن يبشر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بوفد ثقيف ففيه جواز طلب
الإيثار بالقرب وجواز الإيثار.
وقد آثرت عائشة عمر بدفنه في بيتها بجوار النبي - صلى الله عليه وسلم -
وسألها عمر ولم تكره له السؤال. ولا لها البذل فإذا بذل مكانه أو سأل غيره
أن يؤثره بمقامه في الصف الأول لم يكره له السؤال ولا لذلك البذل. ولأن
تقدم وتقديم الفاضل مشروع. وأما تحجير المسجد بالفرش قبل الحاجة إليه فمنعه
الشيخ وغيره وقال وما يفعله كثير من الناس من تقديم مفارش أو غيرها إلى
المسجد يوم الجمعة قبل صلاتهم فهذا منهي عنه باتفاق المسلمين بل محرم.
(1/465)
وهل تصح صلاته على ذلك المفروش. فيه قولان
للعلماء لأنه غصب بقعة من المسجد بفرش ذلك المفروش فيها ومنع غيره من
المصلين الذين يسبقونه إلى المسجد. والمأمور به أن يسبق الرجل بنفسه إلى
المسجد. فإذا قدم المفروش ونحوه وتأخر هو فقد خالف الشريعة من وجهين من جهة
تأخره وهو مأمور بالتقدم ومن جهة غصبه لطائفة من المسجد. ومنعه السابقين له
وأن يتموا الصف الأول فالأول. ثم إنه إذا حضر يتخطى رقاب الناس أهـ.
(ثم يصلي) إذا دخل المسجد (ما كتب له) أي قدر له ولفظ أبي هريرة "ما قدر
له" من غير توقيت كما تقدم. وفيه دليل على أنه لا راتبة لها قبلها وإنما
يصلي الداخل إلى المسجد ما شاء ويشتغل بالذكر والقراءة والصلاة على النبي –
- صلى الله عليه وسلم - إلى خروج الإمام للخطبة لما في ذلك من تحصيل الأجر
(ثم ينصت إذا تكلم) أي خطب الإمام (إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى
رواه البخاري).
وله عن سلمان نحوه وفي "ثم ينصت للإمام إذا تكلم" ولمسلم عن أبي هريرة نحوه
وفيه "ثم أنصت حتى يفرغ
الإمام من خطبته ثم يصلي معه إلا غفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى وفضل
ثلاثة أيام" ولأحمد عن أبي أيوب نحوها أيضًا وفيه أنصت إذا خرج إمامه.
ولابن ماجه من حديث أبي ذر
"من اغتسل يوم الجمعة فأحسن غسله وتطهر فأحسن
(1/466)
طهوره. ولبس من أحسن ثيابه ومس ما كتب الله
له من طيب أهله ثم أتى الجمعة ولم يلغ ولم يفرق بين اثنين غفر له ما بينه
وبين الجمعة الأخرى" وللطبراني نحوه من حديث ابن عمر والبزار عن ابن عباس
وأبو داود عن عبد الله بن عمرو في أحاديث من طرق كثيرة.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة "إذا قلت لصاحبك يوم الجمعة انصت والإمام
يخطب فقد لغوت" أي قلت اللغو.
ولأحمد من حديث علي "من قال صه فقد لغى ومن لغى فلا جمعة له" وله شواهد
كثيرة تدل على تحريم الكلام حال الخطبة وقال الطحاوي تواترت به الروايات
وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ
وَأَنصِتُواْ} قال بعض المفسرين إنها نزلت في الخطبة وسميت قرآنًا
لاشتمالها عليه والأكثر على أنها القراءة في الصلاة ولا مانع من العموم
والاستماع هو شغل القلب بالاستماع والإصغاء والإنصات هو السكوت.
ولأحمد عن ابن عباس هو كالحمار يحمل أسفارًا.
ويجوز للإمام ومن يكلمه لأنه - صلى الله عليه وسلم - كلم سليكًا وكلمه هو
متفق عليه. ويجب لتحذير ضرير وغافل عن هلكة كما يجوز قطع الصلاة لذلك وله
الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا سمعها من الخطيب لتأكدها
ويدعو ويؤمن على الدعاء ويحمد إذا عطس ويرده قال أحمد فعله غير واحد قال
الشيخ اتفق المسلمون أن الصلاة عليه - صلى الله عليه وسلم - والدعاء كله
سرًا أفضل، بل الجهر ورفع
(1/467)
الصوت بالصلاة بدعة. ورفع الصوت بذلك أو
بالترضي قدام الخطيب في الجمعة مكروه أو محرم بالاتفاق اهـ.
ويكره العبث حال الخطبة باتفاق أهل العلم لقوله عليه الصلاة والسلام "من مس
الحصى فقد لغا ومن لغا فلا جمعة له" وصححه الترمذي ولأن العبث يمنع الخشوع
ولا فرق بين العبث بيد أو رجل أو لحية أو ثوب أو غير ذلك.
(وعن أوس) بن أوس الثقفي رضي الله عنه قال الحافظ وهو غير أوس بن أبي أوس
على الصحيح (إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أكثروا علي من
الصلاة) أي أكثروا من قول اللهم صلى على محمد ونحو ذلك مما ورد في الصلاة
عليه - صلى الله عليه وسلم - وخص (يوم الجمعة) لأنه أفضل الأيام ولفظه "إن
من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا علي من الصلاة فيه فإن صلاتكم معروضة
علي" (رواه الخمسة) فرواه أحمد وأبو داود والنسائي وابن ماجه وغيرهم
بأسانيد صحيحة. وجاء نحوه من حديث أبي الدرداء وأبي أمامة وغيرهما.
وكذا يسن أن يكثر من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في ليلتها
لحديث "أكثروا علي من الصلاة في ليلة الجمعة ويوم الجمعة فمن صلى علي صلاة
صلى الله عليه بها عشرًا " رواه البيهقي بإسناد جيد. وقال "أولى الناس بي
أكثرهم علي صلاة" رواه الترمذي. والأحاديث المذكورة وغيرها تدل على مشروعية
(1/468)
الإكثار من الصلاة على النبي - صلى الله
عليه وسلم - يوم الجمعة وليلتها وأنها تعرض عليه وأنه - صلى الله عليه وسلم
- حي في قبره حياة برزخية أعلى من حياة الشهداء وقال "ما أنتم ومن بالأندلس
إلا سواء".
(وعن أبي سعيد مرفوعًا من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة أضاء له من النور) ضد
الظلام أي أشرق له (ما بين الجمعتين) أي بينها وبين التي تليها (رواه
النسائي) ورواه البيهقي والحاكم بإسناد حسن ولابن مردويه عن ابن عمر
مرفوعًا "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة سطع له نور من تحت قدمه إلى عنان
السماء يضيء له يوم القيامة وغفر له ما بين الجمعتين" قال المنذري لا بأس
به فدلت هذه الأحاديث على فضل قراءتها يوم الجمعة وهو مذهب جمهور أهل العلم
الشافعي وأحمد وأبو حنيفة وغيرهم وذكر الشيخ أنها مطلقة يوم الجمعة. ونقل
عن الشافعي أنها نهارًا أكد وأولاه بعد الصبح مسارعة للخير ورجحه الموفق
وغيره والحكمة في تخصيصها أن فيها ذكر أحوال يوم القيامة ويوم الجمعة شبيه
به لما فيه من اجتماع الناس ولأن الساعة تقوم يوم الجمعة.
(وعن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال إن في الجمعة
ساعة) أي يستجاب الدعاء فيها هي فيها كليلة القدر
في رمضان (لا يوافقها عبد مسلم) وروي يصلي (يسأل الله
(1/469)
شيئًا) نكرة تعم وفي لفظ "خيرًا" (إلا
أعطاه إياه) وأشار بيده يقللها (متفق عليه).
واختلف في تعيينها وعن أبي موسى مرفوعًا "هي ما بين أن يجلس الإمام إلى أن
تقضى الصلاة" رواه مسلم وعن عمرو بن عوف مرفوعًا "هي حين تقام الصلاة إلى
الانصراف منها" حسنه الترمذي وله عن جابر مرفوعًا "والتمسوها آخر ساعة بعد
العصر" ولأحمد نحوه من حديث أبي سعيد وأبي هريرة وهو قول عبد الله بن سلام
وقال أبو سلمة لم يختلف ناس من الصحابة تذاكروها أنها آخر ساعة.
وقال أحمد أكثر الأحاديث في الساعة التي ترجى فيها إجابة الدعاء أنها بعد
صلاة العصر ورجحه هو وإسحاق وابن القيم وأكثر أهل العلم وكان يعظمها جميع
أهل الملل وعند أهل الكتاب هي ساعة الإجابة وينبغي أن يكون متطهرًا مكثرًا
من الدعاء منتظرًا صلاة المغرب فإنه في صلاة للخبر. والقول بأنها ساعة
الصلاة لأن ساعة الصلاة ساعة إجابة لأن اجتماع المسلمين وصلاتهم وتضرعهم
وابتهالهم إلى الله تعالى له تأثير في الإجابة فساعة اجتماعهم ساعة ترجى
فيها الإجابة.
وفي حديث أبي هريرة وهو قائم يصلي فيكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد
حض أمته على الدعاء والابتهال إلى الله في هاتين الساعتين. فقوله هي ما بين
أن يجلس الإمام إلى أن تقضى الصلاة لا ينافي قوله التمسوها آخر ساعة بعد
العصر فكلاهما ساعة إجابة
(1/470)
وإن كانت الساعة المخصوصة هي آخر ساعة بعد
العصر كما هو قول أكثر السلف وعليه أكثر الأحاديث وأبلغها الحافظ وغيره إلى
أربعين قولاً وبقية الأقوال غير هذين القولين لا دليل عليها يعتد به بل قال
أحمد إنها تنحصر في هذين الوقتين.
(ولهما عن جابر مرفوعًا "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة وقد خرج الإمام) ولمسلم
"والإمام يخطب" (فليصل ركعتين) ولهما عنه قال دخل رجل يوم الجمعة ورسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال "صليت قال لا قال قمت فصل ركعتين"
وللخمسة عن أبي سعيد نحوه صححه الترمذي وللستة عن أبي قتادة نحوه أيضًا في
أحاديث مستفيضة أو متواترة.
وكلها صريحة في الدلالة على استحباب صلاة ركعتين لداخل المسجد والإمام يخطب
وكراهة الجلوس قبل أن يصليهما. ولا خلاف يعتد به وهذه نصوص لا يتطرق إليها
تأويل ولا تبلغ عالمًا فيخالفها. ولمسلم "وليتجوز فيهما" وهو مذهب جماهير
العلماء. وإن غلب على ظنه أنه إن صلى تحية المسجد فاتته تكبيرة الإحرام مع
الإمام لم يصل بل يقف حتى تقام الصلاة ولا يجلس فيدخل تحت النهي.
(1/471)
باب صلاة العيدين
أي: صفتها وأحكامها وما يتعلق بذلك وهي أحد الاجتماعات التي تكرر كاليومي
للصلوات الخمس. والإسبوعي للجمعة. وهذا الحولي للعيدين. والعمري يوم عرفة
والسر والله أعلم معرفة الأحوال الدينية وتذاكرهم فيها ومعرفة المفاسد
فيتجنبوها والتعاون على البر والتقوى فإن الدين ما قام إلا بالجهاد ولغير
ذلك من الأسرار العجيبة التي من جملتها إقامة هذه العبادة. فإنه لو ترك
ونفسه لم تحصل هذه العبادة ولهذا ترى من يتهاون بالجماعة لا يصلي بحال.
وصلاة العيدين مشروعة بالكتاب والسنة وإجماع المسلمين وفرض كفاية عند
الجمهور. ومذهب أبي حنيفة فرض عين اختاره شيخ الإسلام للآية وأمره - صلى
الله عليه وسلم - بها حتى النساء قال المجد وليست واجبة بدون استيطان وعدد
إجماعًا. وفي الفروع يشترط لوجوبها شروط الجمعة اتفاقًا قال ابن نصر الله
المراد شروط وجوبها لا صحتها ومرادهم ما يسقط به فرض الكفاية لأنها تصح من
المنفرد.
والعيد ما يعود ويتكرر ويعتاد مجيئه وقصده من زمان ومكان ثم صار علمًا على
اليوم المخصوص لعوده في السنة مرتين. وقد كان المشركون اتخذوا أعيادًا
زمانية ومكانية فأبطلها الشرع وعوض عنها عيد الفطر وعيد الأضحى والكعبة
والمشاعر وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة ولهم يومان يلعبون
فيهما
(1/472)
فقال: "قد أبدلكما الله بهما خيرًا منهما
يوم النحر ويوم الفطر" قال السيوطي وهي من خصائص هذه الأمة.
ومناسبة اتباع العيدين الجمعة ظاهرة وهي أنها يؤديان بجمع عظيم ويجهر فيهما
بالقراءة ويشترط لكل منهما ما يشترط للآخر في الجملة وقدمت الجمعة للفرضية
وكثرة وقوعها.
(قال تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَر} أي أخلص لربك صلاتك ونحرك شكرًا
لما امتن به عليك من الكوثر. وقال عكرمة وعطاء وقتادة وغيرهم يعني صلاة
العيد ونحر النسك، قال المجد وغيره هو المشهور عن المفسرين، وكان - صلى
الله عليه وسلم - يصلي العيد ثم ينحر نسكه ويقول "من صلى صلاتنا ونسك نسكنا
فقد أصاب النسك".
(وعن أبي سعيد: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يخرج في الفطر والأضحى
إلى المصلى متفق عليه) وعبر بالمصلى ليعم من يتأتى منه الصلاة ومن لا يتأتى
وأول صلاة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم عيد الفطر في السنة
الثانية من الهجرة ولم يزل يواظب عليها حتى فارق الدنيا. وأجمع المسلمون
عليها خلفًا عن سلف وإذا تركها أهل بلد قاتلهم الإمام كالأذان فإنهما من
أعلام الدين الظاهرة وفي تركها تهاون بالدين.
وفيه مشروعية الخروج لها والبروز في صحراء قريبة من البنيان قربًا معروفًا
أوقع لهيبة الإسلام وأظهر لشعائر الدين.
ولا مشقة في ذلك لعدم تكرره. قال النووي والعمل عليه في
(1/473)
معظم الأمصار. وكان النبي - صلى الله عليه
وسلم - يفعلها في المصلى المشهور الذي على باب المدينة الشرقي. ولأن
المقصود في العيد إظهار الزينة.
وتكره في الجامع بلا عذر من مطر أو غيره لقصة علي حيث استخلف أبا مسعود
البدري ليصلي بضعفة الناس في المسجد.
وقول أبي هريرة أصابنا مطر في يوم عيد "فصلى بنا رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - في المسجد" رواه أبو داود. ولا تكره في المسجد بمكة المشرفة لفضيلة
البقعة وشرفها. ولمعاينة الكعبة المشرفة، وكذا بيت المقدس لشرفه ولسعتهما
وما سواهما فلا ينبغي لمخالفة
فعله - صلى الله عليه وسلم -.
(ولهما عن أم عطية قالت أمرنا) مبني للمجهول للعلم بالآمر به وللبخاري
"أمرنا نبينا - صلى الله عليه وسلم - (أن نخرج) أي إلى المصلى (العواتق)
البنات الأبكار والبالغات والمقاربات للبلوغ، وكذا الصبيان لخبر ابن عباس
إظهارًا لشعائر الإسلام (والحيض) هو أعم من الأول من وجه وفي لفظ "كنا نؤمر
أن نخرج يوم العيد حتى تخرج البكر من خدرها.
وحتى تخرج الحيض (في العيدين يشهدن الخير) هو الدخول في فضيلة الصلاة لغير
الحيض (و) يشهدن جميعهن (دعوة المسلمين وتعتزل الحيض المصلى) وللبخاري
"فيكن خلف الناس فيكبرن بتكبيرهم ويدعون بدعائهم يرجون بركة ذلك اليوم
وطهرته" فيكن بحيث يسمعن. وفيه قلت يا رسول الله إحدانا لا يكون لها جلباب
"قال لتلبسها أختها من جلبابها".
(1/474)
والحديث استدل به بعض أهل العلم على وجوب
إخراجهن ويشهد له ما رواه ابن ماجه وغيره عن ابن عباس أنه - صلى الله عليه
وسلم - كان يخرج نساءه وبناته في العيدين" وهو ظاهر في استمراره وعام لمن
كانت ذات هيئة وغيرها. وصريح في الشواب وفي العجائز بالأولى. قال الشيخ ولا
بأس بحضور النساء غير متطيبات ولا لابسات ثياب زينة أو شهرة لقوله عليه
الصلاة والسلام "وليخرجن تفلات ويعتزلن الرجال" ودلت هذه الأحاديث على تأكد
سنية صلاة العيدين على الأعيان وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد وجماهير
العلماء من السلف والخلف.
(وعن جندب) ابن كعب بن عبد الله الأزدي جندب الخير قتل بصفين قال (كان رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بنا يوم الفطر والشمس على قيد) بكسر
القاف أي قدر (رمحين) في رأي العين (و) يصلي بنا (الأضحى) والشمس (على قيد
رمح رواه ابن البناء) الحافظ الحسن بن أحمد بن عبد الله في سننه ولد سنة
سبع وتسعين وثلاثمائة وتوفي سنة إحدى وسبعين وأربعمائة له نحو من خمسمائة
مصنف رحمه الله أورده في كتاب الأضاحي من طريق وكيع عن المعلى بن هلال عن
الأسود بن قيس عن جندب وأورده الحافظ في التلخيص ولم يتكلم في المعلى ولعله
لكثرة شواهده وكونه من طريق الإمام وكيع بن الجراح
الشهير.
(1/475)
وتقدم النهي عن الصلاة بعد طلوع الشمس حتى
ترتفع قيد رمح. ولأبي داود بسند صحيح عن عبد الله بن بسر قال ذلك حين
التسبيح أي حين يصلي صلاة الضحى فأول وقتها أول وقت صلاة الضحى. وتقدم أن
أوله من ارتفاع الشمس قيد رمح بدليل الإجماع على فعلها ذلك الوقت. ولأنه
قبل ارتفاعها وقت نهي وجاء من غير وجه أنه - صلى الله عليه وسلم - ومن بعده
لم يصلوهما إلا بعد ارتفاع الشمس واستمر عمل المسلمين عليه لا نزاع بينهم
في ذلك.
فهذا الحديث وإن لم يكن مشهورًا فقد تأيد بأصول أخر. وقال ابن بطال وغيره
أجمع الفقهاء على أن العيد لا تصلى قبل طلوع الشمس ولا عند طلوعها وإنما
تجوز عند جواز النافلة.
ودل الحديث على سنية تقديم صلاة الأضحى وتأخير صلاة الفطر. وقال الموفق
وغيره لا نعلم في ذلك خلافًا والحكمة في ذلك استحباب الإمساك في صلاة
الأضحى لمن يضحي حتى يفرغ من الصلاة فإنه ربما كان ترك التعجيل لصلاة
الأضحى مما يتأذى به منتظر الصلاة لذلك وأيضًا فإنه يعود إلى الاشتغال بذبح
الأضحية فينبغي التعجيل ليتسع وقت الأضحية بخلاف عيد الفطر فإنه لا إمساك
ولا ذبح، وتخرج صدقة الفطر قبلها فاستحب التأخير ليتسع الوقت للإخراج.
وروى الشافعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى عمرو بن حزم "أن عجل
الأضحى وأخر الفطر وذكر الناس".
(1/476)
(وعن أبي عمير) بن أنس بن مالك الأنصاري
يقال اسمه عبد الله وهو من صغار التابعين روى عن جماعة من الصحابة وعمر بعد
أبيه (عن عمومة له) من الصحابة من الأنصار (أن ركبًا جاؤوا) يعني إلى النبي
- صلى الله عليه وسلم - قال أبو عمير غم علينا هلال شوال فأصبحنا صيامً
فجاء ركب في آخر النهار (فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس) وفي رواية
للطحاوي أنهم شهدوا بعد الزوال.
(فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يفطروا) وفي رواية "فأمر الناس أن
يفطروا" من يومهم الذي جاء الركب فيه وإذا أصبحوا أن يغدوا إلى مصلاهم"
رواه الخمسة إلا الترمذي) وصححه ابن المنذر وابن السكن وابن راهويه وابن
حزم والخطابي والنووي والحافظ وغيرهم فدل على أن وقت صلاة العيد ينتهي إلى
الزوال إذ لو كانت تؤدى بعد الزوال لما أخرها إلى الغد.
ولأن العيد شرع له الاجتماع العام وله وظائف دينية ودنيوية وآخر النهار
مظنة الضيق عن ذلك غالبًا وقال تعالى: {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ
الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} ودل أيضًا على أنها تصلى في
اليوم الثاني حيث انكشف العيد بعد خروج وقت الصلاة أداء والجمهور قضاء.
وذهب مالك إلى أنها لا تقضى مطلقًا وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
أحق بالاتباع قال الخطابي حديث أبي عمير صحيح فالمصير إليه واجب وكالفرائض
وفيه أن
(1/477)
مصلى العيد كان معروفًا عندهم وأنه غير
مصلى الجمعة كما تقدم.
(وعن أنس) رضي الله عنه (قال كان النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يغدو) أي
يذهب غدوة فيخرج وقت الغداة (يوم الفطر) إلى المصلى (حتى يأكل تمرات رواه
البخاري) وفي رواية "ويأكلهن وترًا" ولأحمد "ويأكلهن أفرادًا"، ولابن حبان
والحاكم "حتى يأكل تمرات ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا أو أقل من ذلك أو أكثر
وترًا".
فدل الحديث على أنه يسن أن يأكل قبل الخروج لصلاة الفطر باتفاق أهل العلم
امتثالاً لأمره تعالى بالإفطار بعد امتثال أمره بالصيام ولئلا يظن لزوم
الصوم حتى يصلي العيد فكأنه أراد سد هذه الذريعة عكس صلاة الأضحى فإن السنة
أن لا يطعم من يضحي يوم النحر حتى يصلي وفاقًا لحديث بريدة "كان رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - لا يخرج يوم الفطر حتى يطعم ولا يطعم يوم الأضحى
حتى يصلي" رواه أحمد والترمذي وابن ماجه وغيرهم وصححه ابن حبان وغيره.
والحكمة في تأخيره ليأكل من أضحيته التي شرعها الله له ويشكره عليها. وتسن
الصدقة فيهما ليغني الفقراء عن السؤال.
ويسن تبكير مأموم لصلاة العيد ليحصل له الدنو من الإمام وفضل انتظار الصلاة
كالجمعة وسائر الصلوات. ويسن أن
(1/478)
يكون سعيه إليها ماشيًا لقول علي: "من
السنة أن يخرج إلي العيد ماشيًا" رواه الترمذي وقال العمل عليه عند أكثر
أهل العلم ولتكتب له خطاه. ويكبر جهرًا.
ويسن تأخر إمام إلى وقت الصلاة لما في الصحيح من حديث أبي سعيد "كان يخرج
يوم الفطر والأضحى إلى المصلى فأول شيء يبدأ به الصلاة" وقال مالك مضت
السنة عندنا في وقت الأضحى والفطر أن يخرج الإمام من منزله قدر ما يبلغ
مصلاه وقد حلت الصلاة.
(وعن جابر قال كانت للنبي - صلى الله عليه وسلم - حلة" واحدة الحلل وهي
برود اليمن.
قال ابن الأثير ولا تسمى حلة إلا أن تكون ثوبين من جنس واحد (يلبسها) أي
تلك الحلة من برود اليمن في (العيدين) عيد الفطر وعيد الأضحى (و) يلبسها في
(الجمعة) متجملاً بها في تلك المجامع العظام (رواه ابن خزيمة) الحافظ
الكبير شيخ الإسلام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة. قال الذهبي انتهت إليه
الإمامة والحفظ في عصره بخراسان.
ولهما عن ابن عمر قال وجد عمر حلة من استبرق تباع فقال يا رسول الله ابتع
هذه فتجمل بها للعيد والوفد. وللبخاري والجمعة. قال الحافظ وكلاهما صحيح.
وللطبراني أن
عطاردًا جاء بثوب من ديباج كساه إياه كسرى فقال عمر لو
(1/479)
اشتريتها لك يا رسول الله فدلت هذه
الأحاديث وما في معناها على مشروعية التجمل للعيد وكذا الجمعة لفعله - صلى
الله عليه وسلم - وتقريره لعمر على أصل التجمل للعيد والجمعة.
قال ابن بطال وكان معهودًا عندهم أن يلبس المرء أحسن ثيابه لهما وروى ابن
عبد البر عن جابر كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعتم ويلبس برده
الأحمر في العيدين والجمعة. وعن ابن عمر أنه كان يلبس في العيدين أحسن
ثيابه رواه البيهقي وغيره ولا نزاع في استحباب خروجه في العيدين على أحسن
هيئة متنظفًا متطيبًا قاطعًا للرائحة الكريهة من بدنه وثوبه لابسًا أجمل
ثيابه لأنه يوم الجمال ويوم الزينة. وكالجمعة وأولى، بل العيد أولى من وجوه
عديدة.
والإمام أولى بذلك لأنه منظور إليه من بين سائر الناس. واستثنى بعضهم
المعتكف أنه يخرج في ثياب اعتكافه لما روي "ما على أحدكم أن يكون له ثوبان
سوى ثوبي مهنته لجمعته وعيده. إلا المعتكف فإنه يخرج في ثياب اعتكافه" وهو
عند أبي داود بسند ضعيف دون الاستثناء وعن أحمد وغيره. ثياب جيدة كغيره.
وقال شيخ الإسلام يسن التزين للإمام الأعظم وإن خرج من المعتكف.
ويسن الغسل لأنه يوم يجتمع الناس فيه فسن الغسل فيه اتفاقًا كيوم الجمعة،
وفيه حديثان ضعيفان وآثار عن الصحابة
(1/480)
جيدة فثبت عن ابن عمر أنه كان يغتسل للعيد
قبل خروجه وعلي وسلمة وغيرهم. وحكى النووي الاتفاق على سنيته للرجال
والنساء والصبيان لأنه يراد لقطع الرائحة الكريهة وللزينة كلهم من أهلها
بخلاف الاستسقاء والكسوف لعدم نقله فتركه فيهما هو السنة.
(وللبخاري عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج إلى العيد خالف
الطريق) وللترمذي وغيره "إذا خرج من طريق رجع في غيره" ولمسلم نحوه من حديث
أبي هريرة. ولأبي داود عن ابن عمر وهو مستفيض وبه قال أكثر أهل العلم ولعل
الحكمة في ذلك شهادة الطرق أو سرورها بمروره أو نيل بركته أو ليظهر شعائر
الإسلام في سائر الفجاج والطرق. أو الصدقة على فقرائها. قال ابن القيم
والأصح أنه لذلك كله ولغيره من الحكم التي لا يخلو فعله عنها.
فصل في صفتها
أي كيفية صلاة العيدين ومشروعية الخطبة والتكبير وتقديم الصلاة على الخطبة
وبيان مطلق التكبير من المقيد وغير ذلك (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (قال
كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر يصلون العيدين قبل
الخطبة متفق عليه) ولهما عن جابر: "خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم
الفطر فصلى قبل الخطبة"
ولهما عن ابن عباس: "شهدت العيد مع النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر
(1/481)
وعمر وعثمان فكلهم كانوا يصلون قبل الخطبة"
وفي لفظ اشهد وعن أبي سعيد "فصلى ثم انصرف فقام فوعظ الناس".
والأحاديث في تقديم الصلاة على الخطبة متواترة معلومة بالضرورة. قال
الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -
وغيرهم. وقال القاضي هذا هو المتفق عليه بين علماء الأمصار وأئمة الفتوى لا
خلاف بين أئمتهم فيه وهو فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - والخلفاء
الراشدين من بعده وقال الموفق لا نعلم فيه خلافًا بين المسلمين إلا عند بني
أمية ولا يعتد به اهـ.
فلا يعتد بها إن قدمت وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم لأنه مسبوق
بالإجماع الذي قبله ومخالف للسنة الصحيحة الصريحة. وقد أنكر عليهم فعله وعد
بدعة. وأول من ابتدعه مروان والحكمة أن خطبة العيد ليست بشرط بخلاف خطبة
الجمعة وصلاة العيد فرض وخطبتها سنة والفرض
أهم.
(ولهما عن ابن عباس: "صلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما) وأجمع المسلمون
على أن صلاة العيدين ركعتان كغيرها أركانًا وشروطًا وواجبات وسننًا ونقله
الخلف عن السلف وعلم بالضرورة من الدين واستفاض في الصحيحين وغيرهما من
غير وجه عن جماعة من الصحابة. وقال عمر "صلاة
الفطر والأضحى ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيكم وقد
(1/482)
خاب من افترى" ولا ينكره إلا مكابر.
وللترمذي وصححه عن ابن عمر –رضي الله عنهما أنه خرج يوم عيد فلم يصل قبلها
ولا بعدها. وذكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله وللبخاري عن ابن
عباس أنه كره الصلاة قبل العيد.
ولأحمد وابن ماجه عن أبي سعيد أنه - صلى الله عليه وسلم - "كان لا يصلى قبل
العيد شيئًا" وروي عن علي "من السنة أنه لا يصلي قبلها ولا بعدها" وعن ابن
مسعود ليس من السنة الصلاة قبل خروج الإمام يوم العيد قال الموفق وهو إجماع
ونوزع في ذلك. ولأحمد عن عبد الله بن عمرو مرفوعًا " لا صلاة يوم العيد
قبلها ولا بعدها" وهذا مع ما تقدم ظاهر الدلالة على النفي. وقال الزهري لم
أسمع أحدًا من علمائنا يذكر أن أحدًا من سلف هذه الأمة كان يصلي تلك الصلاة
ولا بعدها.
(ولهما عنه) رضي الله عنه (لم يكن يؤذن) بالبناء للمجهول (يوم الفطر ولا
ويوم الأضحى) يعني لصلاة العيد. ولمسلم عن جابر ابن سمرة قال "صليت مع
النبي - صلى الله عليه وسلم - العيد غير مرة ولا مرتين بغير أذان ولا إقامة
ولا نداء ولا شيء" وله عن عطاء قال أخبرني جابر أن لا أذان لصلاة يوم الفطر
حين يخرج الإمام ولا بعدما يخرج ولا نداء ولا شيء إلا نداء يومئذ ولا
إقامة.
قال الترمذي والعمل عليه عند أهل العلم أنه لا يؤذن
(1/483)
لصلاة العيدين ولا لشيء من النوافل. قال
العراقي والعمل عليه عند العلماء كافة. وقال الموفق لا نعلم في هذا خلافًًا
ممن يعتد بخلافه إلا أنه روي عن ابن الزبير وقيل زياد. ولابن أبي شيبة أول
من أحدثه معاوية.
وللخمسة عن عمرو بن شعيب وعمرو بن عوف وغيرهما (أن النبي - صلى الله عليه
وسلم - كبر في عيد ثنتي عشرة تكبيرة) فسرها بقوله (سبعًا في الأولى) أي
الركعة الأولى (وخمسًا في) الركعة الأخرى ورواه البزار والدارقطني وغيرهما
و (صححه أحمد) وقال أنا أذهب إلى هذا. وفي رواية قال النبي - صلى الله عليه
وسلم - "التكبير في الفطر سبع في الأولى وخمس في الآخرة والقراءة بعدهما
كلتيهما".
وللترمذي عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده عمرو بن عوف في الأولى سبعًا
وفي الثانية خمسًا وقال هو أحسن شيء في هذا الباب. وقال البخاري ليس في
الباب شيء أصح من هذا وبه أقول.
وقال شيخ الإسلام في الحديثين صح هذا وهذا ولم يصح عنه غير ذلك، ولهما
شواهد كثيرة وعن جابر عند البيهقي "مضت السنة أن يكبر للصلاة في العيدين
سبعًا وخمسًا" وقال ابن عبد البر روي عنه - صلى الله عليه وسلم - من طرق
كثيرة حسان أنه كبر سبعًا الأولى وخمسًا الثانية.
ولم يرو عنه من وجه قوي خلاف. وعن ابن عباس وأبي
(1/484)
هريرة نحو ذلك وعن عروة أن أبيًا وزيدًا
أمراه أن يكبر سبعًا وخمسًا وقال مالك وهو الأمر عندنا وجاءت في الأحاديث
المرفوعة وهو مذهب الشافعي وأحمد والفقهاء السبعة. وقال العراقي هو قول
أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين والأئمة وهو سنة قال الموفق لا أعلم
فيه نزاعًا ويرفع يديه مع كل تكبيرة لقول وائل بن حجر "كان النبي - صلى
الله عليه وسلم - يرفع يديه مع التكبير" قال أحمد فأرى أن يدخل فيه هذا كله
وهو مذهب جمهور العلماء أبي حنيفة والشافعي وأحمد والأوزاعي وداود وابن
المنذر وغيرهم وقياسًا على الصلاة قال الشافعي وغيرهم.
وقال عقبة بن عامر سألت ابن مسعود عما يقول بعد تكبيرات العيد قال يحمد
الله ويثني عليه ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يدعو ويكبر.
قال شيخ الإسلام روى نحو هذا العلماء عن ابن مسعود وهو مذهب مالك وأبي
حنيفة وأحمد وإن قال سبحان الله والحمد لله والله أكبر اللهم صل على محمد
كما جاء عن بعض السلف كان حسنًا، وكذا إن قال الله أكبر كبيرًا والحمد لله
كثيرًا وسبحان الله بكرة وأصيلا وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم
تسليمًا كثيرًا أو نحو ذلك، وليس في ذلك شيء مؤقت عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - ولا عن أصحابه وقال ابن القيم
كان يسكن بين كل تكبيرتين سكتة يسيرة ولم يحفظ
عنه ذكر معين بين التكبيرات اهـ. ويضع يمينه
(1/485)
على شماله بين كل تكبيرتين. وإن أدرك
الإمام راكعًًا أحرم ثم ركع ولا يشتغل بقضاء التكبير إجماعًا كما أنه لا
يشتغل بقراءة الفاتحة في الفريضة فهنا أولى وإن أدركه قائمًا بعد فراغه من
التكبير لم يقضه اتفاقًا.
وكذا إن أدركه في أثناءه سقط ما فاته اتفاقًا لفوات محل ما فات منه لا إن
فاتته الصلاة فقال الجمهور يقضيها أو فاته بعضها فيقضيها على صفتها قال
الزركشي بلا نزاع.
(وعن النعمان بن بشير) ابن سعد بن ثعلبة الأنصاري الخزرجي ولد في الثانية
من الهجرة واستعمل بالكوفة ثم بحمص وقتل سنة خمس وستين رضي الله عنه قال:
(كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في العيدين) وفي الجمعة (بسبح اسم
ربك الأعلى) يعني في الركعة الأولى (و) في الثانية (هل أتاك حديث الغاشية)
قال وإذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد يقرأ بهما في الصلاتين (رواه
مسلم) والخمسة إلا ابن ماجه.
وعن سمرة: كان يقرأ في العيدين بـ (سبح اسم ربك الأعلى) و (هل أتاك حديث
الغاشية) رواه أحمد وابن أبي شيبة وغيرهما ولابن ماجه من حديث ابن عباس
نحوه وروي عن عمر وأنس وغيرهما وفيه دليل على مشروعية قراءتهما في العيدين
وكذا في الجمعة وهما أكبر المجامع التي تجمع الجمع الكثير من المسلمين.
(1/486)
قال شيخ الإسلام وقراءتهما في تلك المجامع
لما فيهما من التذكير بأحوال الآخرة والوعد والوعيد والحث على الصدقة
والصلاة وغير ذلك مما يناسب قراءتهما في تلك الصلاة الجامعة وربما اجتمع
العيد والجمعة فقرأ بهما فيهما رواه أبو داود وغيره وهو المشهور من مذهب
أحمد اهـ.
وعنه الأولى بـ (ق) و (اقتربت) لما في صحيح مسلم والسنن وغيرهما أنه - صلى
الله عليه وسلم - كان يقرأ بـ (ق) و (اقتربت) لما اشتملتا عليه من الأخبار
بابتداء الخلق والبعث والنشور والمعاد والقيامة والحساب والجنة والنار
والثواب والعقاب والترغيب والترهيب والإخبار عن القرون الماضية وإهلاك
المكذبين وتشبيه بروز الناس بالعيد ببروزهم بالبعث وخروجهم من الأجداث
كأنهم جراد منتشر وغير ذلك من الحكم.
وعنه لا توقيت وهو مذهب أبي حنيفة ومالك.
وقال شيخ الإسلام مهما قرأ به جاز كما تجوز القراءة في نحوها من الصلوات
لكن إن قرأ بـ (ق) و (اقتربت) ونحو ذلك مما جاء في الأثر كان حسنًا وكانت
قراءته - صلى الله عليه وسلم - في المجامع الكبار بالسور المشتملة على
التوحيد والأمر والنهي والمبدأ والمعاد وقصص الأنبياء مع أممهم وما عامل
الله به من كذبهم وكفر بهم وما حل بهم من الهلاك والشقاء ومن آمن بهم
وصدقهم وما لهم من النجاة والعافية.
ويقرأ فيهما جهرًا إجماعًا نقله الخلف عن السلف. واستمر عمل المسلمين عليه
ويؤيده قولهم كان يقرأ في الأولى بكذا وفي
(1/487)
الثانية بكذا واستفاض من غير وجه. وقال ابن
عمر كان يجهر بالقراءة في العيدين والاستسقاء رواه الدارقطني وغيره.
(ولهما عن أبي سعيد أول شيء يبدأ به صلىلله عليه وسلم الصلاة) يعني إذا أتى
مصلى العيد (ثم) إذا فرغ من الصلاة (ينصرف) عن جهة القبلة (فيقوم مقابل
الناس) ولابن حبان "فينصرف إلى الناس قائمًا في مصلاه" (والناس جلوس على
صفوفهم فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم) ففيه استحباب الوعظ والتوصية والأمر بنحو
ما كان يأمر به صلىلله عليه وسلم في خطبة العيد. ولمسلم من حديث جابر "فبدأ
بالصلاة قبل الخطبة بغير أذان ولا إقامة ثم قام متوكئًا على بلال فأمر
بتقوى الله وحث على الطاعة ووعظ الناس وذكرهم ثم مضى حتى أتى النساء فوعظهن
وذكرهن" وفي لفظ فلما فرغ نزل فأتى النساء فذكرهن.
فينبغي للخطيب أن يحثهم في خطبة الفطر على الصدقة ويبين لهم ما يخرجون وفي
الأضحى يرغبهم في الأضحية ويبين لهم أحكامها. وقال غير واحد وينبغي تعليمهم
أيضًا في خطبة الجمعة التي قبل العيد ليعلموا ما ينبغي لهم عمله قبل
الصلاة. ولابن ماجه "خطب قائمًا ثم قعد قعدة ثم قام فخطب"
وعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: "السنة أن يخطب الإمام في العيدين
خطبتين يفصل بينهما بجلوس رواه الشافعي،
وفي الصحيحين وغيرهما من غير وجه إثبات أنه
(1/488)
خطب الناس بعد صلاة العيد.
وقال الزركشي وغيره السنة أن يخطب خطبتين يجلس بينهما كخطبتي الجمعة قال
النووي والمعتمد فيه القياس على الجمعة. قال شيخ الإسلام وغيره يفتتحهما
بالحمد لأنه لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه افتتح خطبة بغيره وقال
"كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أجذم" وقال ابن القيم وكان يفتتح
خطبة كلها بالحمد لله ولم يحفظ عنه في حديث واحد أنه كان يفتتح خطبتي العيد
بالتكبير وإنما روى ابن ماجه في سننه عن سعد أنه كان يكثر التكبير أضعاف
الخطبة.
فينبغي أن يكثر التكبير في خطبتي العيدين وصوبه شيخ الإسلام والخطبتان
والتكبير فيهما سنة ولا يجب حضورهما ولا استماعهما قال غير واحد اتفق
الموجبون لصلاة العيد وغيره على عدم وجوب خطبتي العيد ولا نعلم قائلاً
بوجوبهما لما روى عطاء عن عبد الله بن السائب قال شهدت مع النبي - صلى الله
عليه وسلم - العيد فلما قضى الصلاة قال: "إنا نخطب فمن أحب أن يجلس للخطبة
فليجلس ومن أحب أن يذهب فليذهب"، رواه ابن ماجه وغيره.
(وقال ابن عباس: {وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم} هو تكبيرات
ليلة الفطر) وجاء عن عروة وأبي سلمة وابن المسيب وغيرهم أنهم كانوا يكبرون
ليلة الفطر ويجهرون بالتكبير
(1/489)
ولشبه ليلة النحر بها. وأخذ كثير من أهل
العلم مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية. قال الشيخ والتكبير فيها
أوكد من أجل أن الله أمر به فقال تعالى {وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ} عدة
رمضان {وَلِتُكَبِّرُواْ اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُم} عند إكمالها.
وأوجبه داود لظاهرها وهو مستحب عند السلف والخلف والأئمة إلا أبا حنيفة
(وقال) يعني ابن عباس {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَّعْلُومَاتٍ}: أيام العشر) عشر ذي الحجة وهو قول أكثر المفسرين قيل لها
معلومات للحرص على العلم بحسابها من أجل وقت الحج في آخرها.
(وقال) رضي الله عنه {وَاذْكُرُواْ اللهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}:
أيام التشريق) رواه البخاري تعليقًا بصيغة الجزم ووصله عبد بن حميد وغيره
وهو إجماع وحكى القولين عنه جمهور المفسرين. ومن الذكر فيها التكبير وهو
قول جماهير أهل العلم من المفسرين وغيرهم وثبت عن عمر وابنه وغيرهما
التكبير فيها يتأولون هذه الآية.
قال الشيخ وهو في النحر أوكد منه في الفطر واختاره ونصره بأدلة منها انه
يشرع في أدبار الصلوات وأنه متفق عليه. وأنه يجتمع فيه المكان والزمان وأن
عيد النحر أفضل من عيد الفطر وأنه لا يكبر فيه إدبار الصلوات وغير ذلك. وما
جاء من أن الله أمر به في عيد الفطر لا يقتضي أوكديته على عيد النحر قال
(1/490)
البخاري وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان
إلى السوق في أيام العشر يكبران ويكبر الناس بتكبيرهما. وكان عمر يكبر في
قبته بمنى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون. ويكبر أهل الأسواق حتى يرتج منى
تكبيراُ.
ولأحمد عن ابن عمر مرفوعاً "ما من أيام أعظم عند الله سبحانه ولا أحب إليه
العمل فيها من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد
" فيسن التكبير المطلق في ليلتي العيدين في البيوت والأسواق والمساجد
وغيرها. ويجهر به في الخروج إلى المصلى إلى فراغ الإمام من خطبته.
قال شيخ الإٍسلام مشروع في عيد الأضحى بالاتفاق وكذلك هو مشروع في عيد
الفطر عند مالك والشافعي وأحمد وذكره الطحاوي مذهبًا لأبي حنيفة وحكاه في
البدر إجماعًا قال أحمد وكان ابن عمر يكبر في العيدين جميعًا ويتأكد في
ليلتي العيدين وفي الخروج إليهما لاتفاق الآثار عليه.
قال الشيخ ويشرع لكل أحد أن يجهر بالتكبير عند الخروج إلى العيد وهذا
باتفاق الأئمة الأربعة. وقال النووي وغيره يسن إظهاره في حق من كان من أهل
الصلاة ممن مميز وبالغ وحر وعبد مسافر أو مقيم من أهل القرى والأمصار
إجماعًا. ويسن جهر به لغير أنثى لعموم (ولتكبروا الله) وقوله في الحيض
(وليكبرن مع الناس).
(1/491)
(وعن جابر كان النبي - صلى الله عليه وسلم
- يكبر في صلاة الفجر) أي بعد ما يسلم من صلاة الفجر (يوم عرفة) وفي رواية
كان إذا صلى الصبح من غداة عرفة أقبل على أصحابه فيقول مكانكم ويقول "الله
أكبر" إلخ يقول ذلك دبر كل صلاة مكتوبة من فجر يوم عرفة (إلى صلاة العصر من
آخر أيام التشريق حين يسلم من المكتوبات) قال شيخ الإسلام أصح الأقوال في
التكبير الذي عليه جمهور السلف والفقهاء من الصحابة والأئمة أن يكبر من فجر
يوم عرفة إلى آخر أيام التشريق عقب كل صلاة لما في السنن "يوم عرفة ويوم
النحر وأيام منى عيدنا أهل الإسلام. وهي أيام أكل وشرب وذكر لله" ولما رواه
الدارقطني عن جابر ولأنه إجماع من أكابر الصحابة.
وقيل لأحمد بأي شيء تذهب في ذلك قال بإجماع عمر وعلي وابن عباس وابن مسعود.
وقال الزركشي وغيره يسن عقب كل فريضة في جماعة في الأضحى بالإجماع الثابت
بنقل الخلف عن السلف. قال النووي وعليه العمل في الأمصار وعن أحمد يكبر ولو
منفردًا للعموم وهو مذهب الجمهور.
(وعنه: يقول الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر
ولله الحمد رواهما الدارقطني) وهما من حديث جابر بن زيد وهو ضعيف عند بعضهم
وروى عنه شعبة والثوري
ووثقاه وهما هما. وقال أحمد ولم يتكلم في جابر في حديثه إنما تكلم فيه
لرأيه على أنه ليس في المسألة حديث مرفوع أقوى
(1/492)
إسنادًا منه ليترك من أجله قال ابن القيم
وإن كان إسناده لا يصح فالعمل عليه اهـ. ورواه ابن أبي شيبة بسند جيد عن
ابن مسعود أنه كان يقوله ثم عمم عن الصحابة. وروى الحاكم نحوه عن علي وعمار
مرفوعًا وقال جمع وعليه عمل الناس في الأمصار واستمر عليه العمل في عامة
الأمصار والأعصار قال الشيخ وهو المنقول عن أكثر الصحابة والحكم فيه حكم
فضل وندب.
وإن نسيه قضاه ما لم يطل الفصل وقيل لا يسن عقب صلاة عيد أو نافلة واختار
الموفق وغيره يكبر عقب صلاة العيد لأنها صلاة مفروضة في جماعة وخص بالتكبير
ويجزئ مرة واحدة وإن كرره ثلاثًا فحسن قال الشيخ وإن قال الله أكبر ثلاثًا
جاز ولا بأس بتهنئة الناس بعضهم بعضًا كأن يقول لغيره بعد الفراغ من خطبة
العيد تقبل الله منا ومنكم كالجواب قال الشيخ قد روي عن طائفة من الصحابة
أنهم كانوا يفعلونه ورخص فيه الأئمة كأحمد وغيره والتعريف بدعة لم يره أبو
حنيفة ومالك وغيرهما بغير عرفة ولا نزاع فيه بين العلماء وأنه منكر وفاعله
ضال.
(1/493)
باب صلاة الكسوف
أي صفتها وأحكامها وما يتبع ذلك ويقال كسفت بفتح الكاف وضمها ومثله خسفت
وهما بمعنى ويقال انكسفا وانخسفا وخسفا وكسفا وكلاهما جاءت به الأخبار قال
ثعلب وغيره أجود الكلام خسف القمر وكسفت الشمس والكسوف لغة التغير إلى سواد
وكسوف الشمس والقمر ذهاب ضوء الشمس كله أو القمر كله أو بعض ضوء الشمس أو
القمر.
والكسوف آية من آيات الله يخوف به عباده ليفزعوا إلى التوبة والاستغفار.
وقد يكون سبباً لأمر مخوف كما قال تعالى {وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ
تَخْوِيفًا} وصلاة الكسوف سنة مؤكدة باتفاق المسلمين تواترت بها السنن
الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرواها عنه بضعة وعشرون نفساً من
الصحابة رضي الله عنهم.
(قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ}) الدالة على عظيم قدرته وحكمه الدالة على
وحدانيته وتفرده بالربوبية الدال على تفرده بالآلهية {اللَّيْلُ
وَالنَّهَارُ} أي أنه خلق الليل بظلامه والنهار بضيائه فهمما متعاقبان لا
يفتران {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أي ومن آياته أنه خلق الشمس بنورها
وإشراقها والقمر وضياءه وقدرهما في فلكيهما. ولما كان الشمس والقمر أحسن
المخلوقات في العالم العلوي والسفلي قال {لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ
لِلْقَمَر} فهما مخلوقان مسخران لا يستحقان أن يسجد لهما لأن السجود نهاية
التعظيم {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} فهو سبحانه المستحق
(1/494)
للعبادة والتعظيم {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُون} تفردونه بالعبادة لا تشركون به شيئًا.
وحيث كان شرك المشركين منه ما هو بالشمس والقمر وهو جعل حق رب العالمين
لبعض الخلق استنبط بعض أهل العلم صلاة الكسوف من هذه الآية فذكرت هنا فإن
كونها تكسف هو من أدلة أن يعبد وحده. وقال زكريا الأنصاري احتج بقوله تعالى
{وَاسْجُدُوا لِلَّهِ} أي عند كسوفهما لأنه أرجح من احتمال أن المراد النهي
عن عبادتهما لأنهم كانوا يعبدون غيرهما فلا معنى لتخصيصهما بالنهي والمراد
على تقدير تمام هذا الاحتجاج بالسجود في الصلاة اهـ ولعل الاستنباط بأن
الله هو أمر بالسجود بعد ذكر أنها من آياته فدل على أنه يسجد عند آياته
والمراد استنبط من عمومها ذلك وإرادة النهي عن عبادتهما لا يقدح في أنهم
كانوا يعبدون غيرهما لجواز تخصيصهما بحكمة تقتضيه.
(وعن المغيرة مرفوعًا "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله) أي علامتان من
العلامات الدالة على وحدانيته وقدرته وعلى تخويف عباده من سطوته (لا
ينكسفان لموت أحد أو لحياته) فليس لهما سلطان في غيرهما ولا قدرة على الدفع
على أنفسهما والسبب أن إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات سنة
عشر قبل الفطام. وكان ولد من مارية القبطية سنة ثمان فقال الناس انكسفت
الشمس لموت إبراهيم وكانوا يزعمون
أنهما لا ينكسفان إلا لموت عظيم من العظماء فبين لهم
(1/495)
النبي - صلى الله عليه وسلم - بطلان زعمهم
وفساد اعتقادهم. وفي رواية أنه قال هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت
أحد ولا لحياته ولكن الله يخوف بها عباده (فإذا رأيتموها) وفي لفظ "فإذا
رأيتم ذلك" أي كسوف الشمس أو القمر ذكره زيادة في الإفادة وبيانًا أن
حكمهما واحد ثم أرشدهم إلى ما يشرع عند رؤية ذلك بقوله (فصلوا وادعوا) وفي
رواية، فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة" وفي رواية "فادعوا الله وكبروا
وتصدقوا وصلوا" وهذا مما يرشح ما تقدم من استنباط السجود من الآية وفيه
الاستعداد بالمراقبة لله والالتجاء إليه عند اختلاف الأحوال وحدوث ما يخاف
بسببه (حتى ينكشف) وفي رواية "حتى ينجلي" ومن حديث عائشة حتى يكشف ما بكم"
ونحوه من حديث جابر وغيره أي حتى يرتفع ما حل بكم من كسوف الشمس أو القمر
(متفق عليه) والأمر بالصلاة عند الكسوف وفعله مستفيض من وجوه عن أبي سعيد
وابن مسعود وجابر وعائشة وغيرهم بألفاظ متقاربة ولا نزاع في مشروعيتها.
والجمهور على أنها سنة مؤكدة ونقل عن أبي حنيفة وجوبها وأمر - صلى الله
عليه وسلم - بالمسارعة إليها ولما كسفت الشمس خرج مسرعًا فزعًا يجر رداءه
فصلى بالناس وأخبر أن كسوفها سبب لنزول عذاب بالناس وأمر بما يزيل الخوف
فأمر بالصلاة والدعاء والاستغفار والصدقة والعتق وغير ذلك من الأعمال
الصالحة حتى يكشف
(1/496)
ما بالناس وجعل انكشافه غاية قال الشيخ
الكسوف يطول زمانه تارة ويقصر أخرى بحسب ما يكسف منها فقد تكسف كلها وقد
يكسف نصفها أو ثلثها فإذا عظم الكسوف طول الصلاة حتى يقرأ بالبقرة ونحوها
في أول ركعة وبعد الركوع الثاني يقرأ بدون ذلك وقد جاءت بذلك الأحاديث
الصحيحة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وإن تجلى الكسوف وهو في الصلاة أتمها خفيفة لأن المقصود التجلي وقد حصل.
ولا يقطعها لقوله {وَلاَ تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُم} قال الشيخ ويشرع تخفيفها
لزوال السبب وكذا إذا علم أنه لا يطول وإن خف قبل الصلاة شرع وأوجز وعليه
جماهير أهل العلم لأنها شرعت لعلة وقد زالت وإن فرغ منها قبل التجلي قال
الشيخ وغيره يذكر الله ويدعو إلىلتجلي.
ولا تعاد باتفاق أهل العلم لأنه سبب واحد فلا يتعدد مسببه وقبل الدخول تفوت
به فلا تقضى إذا فات محلها اتفاقًا لأن المقصود منها زوال العارض فوقتها
يتقيد بحصول السبب من ابتدئه إلى التجلي اتفاقًا في أي وقت كان عند جمهور
أهل العلم. ويقدم كسوف على جمعة ومكتوبة أمن فواتها وإلا فلا إذ السنة لا
تعارض فرضًا وإن غابت الشمس كاسفة لم يصل. أو طلعت والقمر خاسف لم يصل لأنه
قد ذهب وقت الانتفاع بهما وزال التخويف ويعمل بالأصل في بقائه فلا يصلي إذا
شك في وجوده مع غيب ونحوه لأن الأصل عدمه.
ويصلي إذا علم الكسوف ثم حصل غيم فشك في التجلي
(1/497)
لأن الأصل بقاؤه ودعوى بعضهم غيبوبة القمر
خاسفًا ليلاً أو الكسوف يوم عرفة ونحو ذلك لم يقع لأنه لا ينخسف إلا في
ليالي الإبدار إذا تقابل جرم الشمس والقمر فحالت بينهما الأرض ولا تنكسف
الشمس إلا ليالي الإستسرار إذا حال القمر بيننا وبينها. قال شيخ الإسلام
وقد أجرى الله العادة أن القمر لا ينخسف إلا وقت الإبدار وهي الليالي البيض
وأن الشمس لا تكسف إلا وقت الاستسرار.
ومن قال إنها تنخسف في غير وقت الاستسرار فقد غلط ويستحيل كسوفها يوم عرفة
ولم تجر به عادة كما لم تجر بالاستهلال ونحوه في غير وقته. وللشمس والقمر
ليال معتادة من عرفها عرف الكسوف والخسوف كما أن من علم ما مضى من الشهر
يعلم أن الشهر يطلع في الليلة الفلانية أو التي قبلها والعلم بالعادة فيه
يعرفه من يعرف حساب جريانهما وليس من باب علم الغيب وإذا تواطأ خبرهم بوقت
الصلاة لا يكادون يخطئون ومع ذلك لا يترتب على خبرهم حكم شرعي فإنها لا
تصلى إلا إذا شاهدنا ذلك.
(ولهما عن عائشة: خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
فبعث مناديًا ينادي الصلاة جامعة) الأول مفعول لفعل محذوف أي احضروا
والثاني على الحال ويجوز رفعهما.
وعن ابن عمر نحوه وهو دليل على مشروعية الإعلام بهذا اللفظ للاجتماع لها.
ولم يرد إلا في هذه الصلاة واتفقوا على
(1/498)
أنه لا يؤذن لها ولا يقام ولا يشترط لها
إذن الإمام (فصلى أربع ركعات) أي ركوعات (في ركعتين) كما سيأتي موضحًا
(وأربع سجدات) ولفظ ابن عمر: "لما كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - نودي أن الصلاة جامعة فركع النبي - صلى الله عليه وسلم -
ركعتين في سجدة ثم قام فركع ركعتين في سجدة ثم جلي عن الشمس".
وثبت في الصحاح والسنن والمسانيد وغيرها وغيرها من غير وجه عن جابر وابن
عباس وعمرو بن العاص وأبي موسى وغيرهم صلاته - صلى الله عليه وسلم - ركعتين
بأربع ركوعات وأربع سجدات وقال أحمد والشافعي والبخاري وابن عبد البر
والشيخ وغيرهم هذا أصح ما في الباب وهو مذهب جمهور العلماء.
وهي الصفة التي وردت بها الأحاديث الصحيحة
قال الشيخ قد ورد في صلاة الكسوف أنواع ولكن الذي استفاض عند أهل العلم
بسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رواه البخاري ومسلم من غير وجه وهو
الذي استحبه أكثر أهل العلم كمالك والشافعي وأحمد أنه صلى بهم ركعتين في كل
ركعة ركوعان وقال البخاري وغيره من أهل العلم بالحديث لا مساغ لحمل هذه
الأحاديث يعني في كل ركعة ثلاث ركوعات أو أربع أو خمس على بيان الجواز إلا
إذا تعددت الواقعة وهي لم تتعدد لأن مرجعها كلها إلى صلاته - صلى الله عليه
وسلم - في كسوف الشمس يوم مات ابنه إبراهيم
(1/499)
وحينئذ يجب ترجيح أخبار الركوعين فقط لأنها
أصح وأشهر. وما رواه مسلم من حديث جابر ست ركوعات قال الشافعي منقطع ومن
حديث ابن عباس ثمان وهو من رواية حبيب عن طاوس. قال ابن حبان ليس بصحيح
وحبيب معروف بالتدليس وقال شيخ الإسلام ما زاد عن ركوعين في ركعة غلط وإنما
صلى - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة.
(وفيه) أي في حديث عائشة (جهر فيها بالقراءة) وللترمذي وصححه عنها أيضًا
أنه صلى صلاة الكسوف فجهر بالقراءة فيها. قال شيخ الإسلام ثبت في الصحيح
الجهر بالقراءة فيها لكن روي فيها المخافتة والجهر أصح والكسوف الذي صلى
بالمسلمين فيه إنما وقع أول النهار بلا نزاع. والمثبت مقدم على النافي ودل
الحديث وغيره على تأكد سنية صلاتها جماعة وهو أفضل اتفاقًا وقيل بوجوبها في
الجامع أفضل اتفاقًا.
وفي الصحيحين عن عائشة "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد
فقام وكبر وصف الناس وراءه" ولأحمد "فافزعوا إلى الصلاة" وروي عن أبي حنيفة
يصلي لخسوف القمر فرادى والأحاديث ثبتت بالتسوية ولا تشترط لها الجماعة فلو
لم يجدوا إمامًا يصلي بهم صلوها فرادى وهو مذهب الجمهور. ولا يسن الغسل لها
لمبادرته - صلى الله عليه وسلم - إلى فعلها من حيث العلم بالكسوف واستمر
العمل عليه. وقال ابن القيم وغيره الصحيح أنه لا
(1/500)
يسن لها الغسل لأن النبي - صلى الله عليه
وسلم - وأصحابه لم يغتسلوا لها.
(ولهما عن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال انخسفت الشمس على عهد رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - فصلى فقام قيامًا طويلاً نحوًا من قراءة سورة البقرة)
ومهما قرأ به من السور جاز لعدم تعيين القراءة (ثم ركع ركوعًا طويلاً) من
غير تقدير قال الموفق وغيره نحو مائة آية وهو مذهب الشافعي وأحمد وقال
آخرون بقدر معظم القراءات والأولى أن يكون نسبيًا كالفريضة.
(ثم رفع فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول) وفي حديث عائشة "ثم رفع
رأسه فقال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد ثم قام فاقترأ قراءة طويلة هي
أدنى من القراءة الأولى بل كمعظمهما.
قال الموفق آل عمران أو قدرها وهو في رواية أبي داود ومذهب الجمهور مالك
والشافعي ورواية عن أحمد لا تصح إلا بقراءة الفاتحة في القيام الثاني (ثم
ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول) نسبته إلى القراءة كنسبة ركوع
الأولى من قراءة الأولى. وقال الموفق نحوًا من سبعين آية وقال النووي وغيره
اتفقوا على أن القيام الثاني وركوعه فيهما أكثر من القيام الأول وركوعه
فيها (ثم رفع رأسه) أي من الركوع الثاني وفي حديث عائشة ثم كبر فركع ركوعًا
هو أدنى من الركوع الأول ثم قال سمع الله لمن حمده ربنا ولك الحمد.
ولا يطيل اعتداله حكاه القاضي وغيره إجماع العلماء لعدم
(1/501)
ذكره في الروايات الصحيحة ولا يقرأ بل يقول
ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا إلخ (ثم يسجد) أي سجدتين
طويلتين بالنسبة إلى القيام وثبت إطالتهما في الصحيحين وغيرهما من فعله -
صلى الله عليه وسلم - وقالت عائشة "ما ركعت ركوعًا قط ولا سجدت سجودًا قط
كان أطول منه" وهو ثابت من رواية جماعة. ولا يزيد على سجدتين إجماعًا لأنه
لم يرد في شيء من الأخبار ولا يطيل الجلوس بين السجدتين إجماعًا لعدم
وروده.
(وذكر الركعة الثانية كالأولى لكن دونها في كل ما يفعل) يعني في الأولى
ولفظه ثم "قام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول ثم ركع ركوعًا طويلاً
وهو دون الركوع الأول ثم رفع فقام قيامًا طويلاً وهو دون القيام الأول ثم
ركع ركوعًا طويلاً وهو دون الركوع الأول" يعني "ثم رفع" فلم يطل "ثم سجد"
يعني "سجدتين طويلتين دون السجود الأول" ولفظ حديث عائشة، "ثم فعل في
الركعة الأخرى مثل ذلك حتى استكمل أربع ركعات وأربع سجدات" وهذا مجمع عليه.
وقال القاضي وغيره القراءة في كل قيام أقصر مما قبله وكذا التسبيح. وقال
ابن بطال لا خلاف أن الركعة الأولى بقيامها وركوعها تكون أطول من الركعة
الثانية بقيامها وركوعها وحكاه النووي وغيره اتفاق أهل العلم. ولمسلم من
حديث جابر وسجوده نحو من ركوعه (قال ثم انصرف) يعني بعد كمال ركعتين بأربع
ركوعات وأربع سجدات والتشهد والتسليم.
(1/502)
(وقد انجلت الشمس) ولفظ عائشة "وانجلت
الشمس قبل أن ينصرف ثم قام (فخطب الناس) فأثنى على الله بما هو أهله ثم قال
إن الشمس والقمر آيتان" إلخ وفي رواية للبخاري "وشهد أنه عبده ورسوله" وفيه
أنه ذكر أحوال الجنة والنار وغير ذلك. ولمسلم من حديث فاطمة عن أسماء قالت
"فخطب رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد ما
من شيء لم أكن رأيته إلا قد رأيته في مقامي هذا حتى الجنة والنار" إلخ.
فدلت هذه الروايات على استحباب الخطبة بعد صلاة الكسوف وهو مذهب أبي حنيفة
ومالك الشافعي وأكثر أئمة الحديث وجمهور السلف فيحثهم على التوبة والصدقة
والعتق ويحذرهم من الغفلة والاغترار ويأمرهم بالإكثار من الدعاء والاستغفار
كما ثبت ذلك من غير وجه عنه - صلى الله عليه وسلم - إعذارًا
وإنذارًا.
قال شيخ الإسلام يصلي لكل آية كما دل على ذلك السنن والآثار وقالها
المحققون من أصحاب أحمد وغيرهم. ولولا أن ذلك يكون لشر وعذاب لم يصح
التخويف لذلك وهذه صلاة رهبة وخوف كما أن صلاة الاستسقاء صلاة رغبة ورجاء
وقد أمر الله عباده أن يدعوه خوفًا وطمعًا. وقال عليه الصلاة والسلام: "إذا
رأيتم من هذه الأفزاع شيئًا فافزعوا إلى الصلاة" وقال ابن أبي موسى يصلي
لكل آية وهو ظاهر كلام أحمد وينبغي أن يعظهم عند نزول البلاء ويأمرهم
بالتوبة والصدقة
(1/503)
وإن صلى أحدهم في بيته ركعتين توبة إلى
الله تعالى فحسن لأن صلاة التوبة مشروعة ومذهب مالك والشافعي وأحمد لا يصلي
لغير الزلزلة إن دامت لعدم نقله عنه - صلى الله عليه وسلم - وعن أصحابه
فكما أن فعله صل الله عليه وسلم هو وأصحابه من بعده سنة فكذلك ما تركه مع
وجوده في زمنه فتركه هو السنة. وقد وجد في زمنه انشقاق القمر وهبوب الرياح
الصواعق وغير ذلك كما هو مستفيض وأما الزلزلة فلفعل ابن عباس رواه سعيد
والبيهقي وابن جرير وروى الشافعي عن علي نحوه وقال هو ثابت عن ابن عباس
وقال ابن القيم التحقيق إنما يكون بما هو سبب للشر المخوف كالزلزلة. والريح
العاصف وإلا فما وجوده متكرر لا يحصل به تخويف.
باب صلاة الاستسقاء
أي صفتها وأحكامها والاستسقاء استفعال من السقي بضم السين وهو الدعاء بطلب
السقي على صفة مخصوصة. وأجمع المسلمون على مشروعيته عند المحل وكان في
الأمم الماضية النفوس مجبولة على الطلب ممن يغيثها ونزول الغيث لا تلتفت
القلوب في سؤاله إلا من خالقها الذي بيده خزائن السموات والأرض. ويأتي قول
الأعرابي الجاهلي للنبي - صلى الله عليه وسلم - استسق لنا ربك.
والاستسقاء على ثلاثة أضرب أحدها صلاتهم جماعة أو
(1/504)
فرادى على ما يأتي تفصيله وهو أكملها.
وصلاته - صلى الله عليه وسلم - مستفيضة في الصحاح وغيرها. واتفق فقهاء
الأمصار عليه والثاني استسقاء الإمام يوم الجمعة في خطبتها كما فعل النبي –
- صلى الله عليه وسلم - واستفاض عنه من غير وجه وهذا الضرب مستحب اتفاقًا
واستمر عمل المسلمين عليه والثالث دعاؤهم عقب صلواتهم وفي خلواتهم ولا نزاع
في جواز الاستسقاء بالدعاء بلا
صلاة.
(قال تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى} بن عمران كليم الرحمن ولد قبل عيسى
بألف وخمسمائة وإحدى وسبعين سنة وعاش مائة وعشرين {لِقَوْمِهِ} بني إسرائيل
يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام وذلك حين عطشوا في التيه
فسألوا موسى أن يستسقي لهم ففعل فأمره الله أن يضرب الحجر فانفجرت منه
اثنتا عشرة عينًا حتى شربوا ورووا.
ولأحمد وصححه الحاكم من حديث أبي هريرة: خرج سليمان عليه السلام يستسقي
فرأى نملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء تقول اللهم إنا خلق
من خلقك ليس بنا غنى عن سقياك. فقال "ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم" فدل
على أن الاستسقاء شرع لمن قبلنا والخروج له كذلك. وشرعهم شرع لنا ما لم يأت
شرعنا بخلافه.
(وعن عائشة قالت وعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس يومًا
(1/505)
يخرجون فيه رواه أبو داود) بسند جيد
والمراد يتهيئوا للخروج على الصفة المسنونة وينبغي أن يعظ الناس بما يلين
قلوبهم ويسوقها إلى التوبة وإصلاح السيرة والسريرة ويأمرهم بالتوبة من
المعاصي. ويدخل فيها المحرمات لحق الله وحق الآدميين وهي واجبة مطلقًا إلا
أنها مع حصول الشدة وطلب تفريجها من الله تتأكد وتطلب المسارعة فيها.
ويأمرهم برد المظالم ونحوها إلى أهلها وبترك التشاحن وبالصدقة المفضية إلى
رحمتهم بنزول الغيث ويخرج أهل الدين والصلاح والشيوخ لأنه أسرع للإجابة
ويخرج الصبيان والمميزون لأنهم لا ذنوب لهم فترجى إجابتهم. قال في الفصول
نحن لخروج الصبيان أشد استحبابًا وإن خرجت الأطفال والعجائز جاز واستحب
خروجهن أبو حنيفة لا ذوات الهيئات اتفاقًا خوف الفتنة والتفات القلوب عن
الخضوع لله والتضرع بين يديه.
ويجوز التوسل بدعاء الصالحين كما كان الصحابة يتوسلون بدعاء النبي - صلى
الله عليه وسلم - في حياته وتوسل عمر بالعباس وقال اللهم إنا نتوسل إليك
بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا وقام العباس فدعا الله.
وتوسل معاوية بيزيد وذلك لأن دعوة الصالحين مستجابة. وإن خرج أهل الذمة
منفردين عن المسلمين بمكان لم يمنعوا إلا بيوم لئلا يتفق نزول غيث فيفتتن
بهم ضعفاء العوام
(1/506)
(وعن ابن عباس قال خرج رسول الله - صلى
الله عليه وسلم -) أي من المدينة إلى الصحراء لصلاة الاستسقاء. قال ابن
عباس في رمضان سنة ست من الهجرة فيسن أن يجتمعوا خارج البلد في صحراء قريبة
عرفا ليبرزوا لربهم ويتضرعوا بين يديه ولم يكن يصليها - صلى الله عليه وسلم
- إلا في الصحراء (متواضعًا) لأن التواضع من أسباب الإجابة والتواضع:
التذلل والخشوع ضد الكبر (متبذلاً) أي لابسًا ثياب البذلة. والمراد ترك
الزينة وحسن الهيئة تواضعًا وإظهارًا
للحاجة.
(متخشعًا) أي خاضعًا بقلبه وعينه ومشيه وجلوسه وغير ذلك. والخشوع سكون
القلب على المقصود ومن غير التفات إلى غيره وسكون الجوارح في غير المفعول
وقريب منه الخضوع إلا أن الخشوع أكثر استعمالاً في الصوت والبدن والخضوع في
الأعناق (متضرعًا) أي مستكينًا بلسانه مبتهلاً إليه مع حضور القلب وامتلائه
بالهيبة والخوف من الله متصاغرًا ومتعرضًا في جلب الحاجة ولا يتطيب اتفاقًا
لأنه يوم استكانة وخضوع (فصلى ركعتين كما يصلي في العيد لم يخطب خطبتكم هذه
رواه الخمسة وصححه الترمذي) وأبو عوانه وابن حبان والحاكم والدارقطني
والبيهقي وغيرهم.
ولمسلم من حديث عبد الله بن زيد "خرج يستسقي
بالناس فصلى ركعتين ثم استسقى وعن أبي هريرة قال خرج
(1/507)
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يومًا
يستسقي فصلى بنا ركعتين بلا أذان ولا إقامة ثم خطبنا ودعا الله عز وجل"
رواه ابن ماجه وأحمد. وله من حديث عبد الله بن زيد "بدأ بالصلاة قبل الخطبة
ثم استقبل القبلة فدعا" وله عن أنس نحوه ولأبي داود عن عائشة بدأ بالصلاة
قبل الخطبة.
وقد دلت هذه الأحاديث وغيرها على تأكد سنية صلاة الاستسقاء وهو قول جمهور
العلماء من السلف والخلف ولم يخالف إلا أبو حنيفة مستدلاً بأحاديث ليس فيها
ذكر الصلاة وإنما هي نوع آخر كما تقدم وخالفه جمهور أصحابه. وقال زكريا
وغيره ورده أئمتنا بورودها في الأخبار الصحيحة ولا ريب أنها ثبتت في الصحاح
والسنن والمسانيد وغيرها من غير وجه ولا معارض لها ولا مخصص.
وأجمع المثبتون للصلاة أنها ركعتان كصلاة العيد صرح به الحافظ وغيره، وقال
ظاهره أنه صلاها في وقت صلاة العيد لحديث عائشة وجابر "خرج رسول الله - صلى
الله عليه وسلم - حين بدا حاجب الشمس" رواه أبو داود وغيره. ولأنها في
معناها إلا أنه لا وقت لصلاتها لكنها لا تفعل وقت النهي بلا خلاف. ونقل
الموفق الإجماع عليه ولا تقيد بزوال الشمس فيجوز فعلها بعده كسائر النوافل.
فيصليها ركعتين كصلاة العيد بلا أذان ولا إقامة
إجماعًا.
(1/508)
قال ابن القيم ولا نداء ألبتة. قال الشيخ
والقياس على الكسوف فاسد الاعتبار اهـ. يكبر في الأولى سبعًا وفي الثانية
خمسًا يقرأ في الأولى بعد الفاتحة سبح وبالغاشية في الثانية ويرفع يديه مع
كل تكبيرة كما تقدم في صلاة العيد لشبهها بها وهو مذهب جمهور أهل العلم.
وروى الشافعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر كانوا يصلون
الاستسقاء يكبرون فيها سبعًا وخمسًا. وعن ابن عباس نحوه رواه الدارقطني
وفيه أنه قرأ بسبح والغاشية.
وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد جهر فيهما بالقراءة وذكر الإجماع على
استحبابه النووي وابن بطال وقال الترمذي العمل عليه عند أهل العلم ولم يصرح
في حديث عبد الله بن زيد بالخطبة. وجاء في سنن أبي داود وغيره من حديث ابن
عباس وعائشة تقديم الخطبة، وقال القرطبي وغيره: يعتضد القول بتقديم الصلاة
على الخطبة بمشابهتها للعيد. وما تقرر من تقديم الصلاة أمام الحاجة. قال
الحافظ ويمكن الجمع بين الروايات في ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - بدأ
بالدعاء ثم صلى ركعتين ثم خطب فاقتصر بعض الرواة على شيء وعبر بعضهم
بالدعاء عن الخطبة فلذلك وقع الاختلاف والمرجح عند الشافعية والمالكية
والحنبلية الشروع بالصلاة. قال النووي وبه قال الجماهير وكان مالك يقول بعد
الخطبة ثم رجع إلى قول الجماهير وذلك أن الأفضل تقديم الصلاة كصلاة العيد
وخطبتها.
(1/509)
وقال البغوي السنة في الاستسقاء أن يخرج
إلى المصلى فيبدأ بالصلاة فيصلي ركعتين مثل صلاة العيد ثم يخطب روي ذلك عن
النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعلي وهو قول الشافعي وأحمد
وهو المرجح عند المالكية. وقال ابن عبد البر وغيره هو مذهب العلماء كافة
وليس بإجماع فقد ذهب قوم إلى جواز البداءة بالخطبة. وجاء في الأحاديث ما
يقتضي جواز التقديم. إلا أن تقديم الصلاة على الخطبة أكثر أحواله - صلى
الله عليه وسلم - وعمل أكثر المسلمين عليه.
وقوله في حديث ابن عباس لم يخطب خطبكم هذه أي كما يفعل في الجمعة ولكن خطبة
واحدة ولم ينف مطلق الخطبة كما تدل عليه الرواية الثانية أنه - صلى الله
عليه وسلم - رقي المنبر ومذهب مالك وغيره يخطب خطبتين واختاره بعض الأصحاب.
وقال الزيلعي وغيره لم يرو أنه - صلى الله عليه وسلم - خطب خطبتين.
(وعن أبي هريرة ثم خطبنا - صلى الله عليه وسلم - ودعا الله عز وجل) ولأحمد
من حديث عبد الله بن زيد قال رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "حين
استسقى لنا أطال الدعاء وأكثر المسألة. وعن عائشة أمر بمنبر فوضع له في
المصلى ثم قال "الحمد لله رب العالمين. الرحمن الرحيم. مالك يوم الدين. لا
إله إلا الله يفعل ما يريد. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت. أنت الغني ونحن
الفقراء. أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلته قوة وبلاغًا إلى حين" رواه أبو
داود.
(1/510)
وذلك أنهم شكوا إليه قحوط المطر فقال "إنكم
شكوتم جدب دياركم فقد أمركم أن تدعوه ووعدكم أن يستجيب لكم" يشير إلى قوله
تعالى {ادعوني أستجب لكم} وقوله: {استغفروا ربكم إنه كان غفارًا يرسل
السماء عليكم مدرارًا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم
أنهارًا} وغير ذلك من الآيات التي فيها الأمر به فيكثر فيها الاستغفار؛
لأنه سبب لنزول الغيث، وخرج عمر يستقي فلم يزد على الاستغفار؛ فقالوا ما
رأيناك استسقيت قال لقد طلبت الغيث بمجاديح السماء الذي يستنزل به المطر ثم
قرأ هذه الآية. وعن علي نحوه.
والثناء على الله عز وجل والاستغفار والدعاء والصلاة على النبي - صلى الله
عليه وسلم - من أكبر أسباب استجابة الدعاء لقوله عليه الصلاة والسلام "إذا
صلى أحدكم فليبدأ بحمد الله والثناء عليه والصلاة على النبي - صلى الله
عليه وسلم - ثم ليدع بما شاء) وقال "ثم ليسأل حاجته" قال أبو هريرة رضي
الله عنه (وحول) - صلى الله عليه وسلم - (وجهه نحو القبلة رافعًا يديه) وفي
الصحيح من حديث عبد الله بن زيد "فحول إلى الناس ظهره واستقبل القبلة يدعو"
ولأبي داود عن عائشة ثم "رفع يديه فلم يزل في الرفع حتى بدأ بياض إبطيه".
وفي الصحيحين من حديث أنس "كان لا يرفع يديه في شيء من دعائه" أي مبالغًا
في الرفع "إلا في الاستسقاء فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه" وقد
صار أكفهما نحو
(1/511)
السماء من شدة الرفع وهو إنما كان متوجهًا
ببطونهما مع القصد ويدعو قائمًا ويرفعون أيديهم ويؤمنون جلوسًا. ويكثر من
الدعاء ويلح فيه فإن الله يحب الملحين في الدعاء. ومنه ما يأتي قال (ثم قلب
رداءه) وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن زيد "وحول رداءه" وروي ليتحول
القحط. ولمسلم "حول رداءه حين استقبل القبلة" زاد البخاري "جعل اليمين على
الشمال" ولأبي داود من حديث عائشة "وقلب أو حول رداءه وهو رافع يديه".
وفسره أبو هريرة رضي الله عنه بقوله (فجعل الأيمن على الأيسر والأيسر على
الأيمن رواه أحمد) ورواه ابن ماجه وغيرهما وقال في الخلافيات رواته ثقات
وله شواهد كثيرة. ولأحمد من حديث عبد الله بن زيد "ثم تحول إلى القبلة وحول
رداءه فقلبه ظهرًا لبطن وحول الناس معه" ولأبي داود "فحول رداءه وجعل عاطفه
الأيمن على عاتقه الأيسر وجعل عاطفه الأيسر على عاتقه الأيمن ثم دعا الله
عز وجل".
وفي هذه الأحاديث استحباب تحويل الرداء حال استقبال القبلة بعد الفراغ من
الخطبة وإرادة الدعاء وهو مذهب الجمهور حكاه الحافظ وغيره. ويدعو الإمام
والمأموم سرًا مستقبلي القبلة باتفاق أهل العلم لأنه أقرب إلى الإخلاص
وأبلغ في الخشوع وأسرع في الإجابة. ومنه اللهم إنك أمرتنا بدعائك ووعدتنا
إجابتك وقد دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا إنك لا
(1/512)
تخلف الميعاد. لأن فيه استنجازًا لما وعد
من فضله.
وقال بعض أهل العلم وإذا فرغ من الدعاء استقبلهم ثم حثهم على الصدقة والخير
ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو للمؤمنين والمؤمنات ثم يقول
أستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين وإن سقوا قبل خروجهم شكروا الله
وسألوه المزيد من فضله.
(وعن أنس أن رجلاً دخل المسجد يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم -
قائم يخطب فقال يا رسول الله هلكت الأموال) يعم المواشي وغيرها.
وللبخاري هلكت الماشية وهلكت العيال وهلك الناس وانقطعت السبل عبارة عن عدم
السفر لضعف الإبل بسبب عدم المراعي والأقوات أو لأنه لما نفد ما عند الناس
من الطعام لم يجدوا ما يحملونه إلى الأسواق (فادع الله يغثنا) بضم الياء
وفتحها.
(فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه) وللبخاري ورفع الناس أيديهم
وفي لفظ "فرفع يديه يدعو ورفع الناس أيديهم يدعون" زاد مسلم "حذاء وجهه"
ولابن خزيمة "حتى رأيت بياض إبطيه" وللبخاري في الأدب فنظر إلى السماء (ثم
قال اللهم أغثنا) زاد البخاري "واسقنا" (اللهم أغثنا) قال انس ولا والله ما
نرى في السماء من سحاب ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار قال
فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت
(1/513)
السماء انتشرت ثم أمطرت قال فلا والله ما
رأينا الشمس
سبتًا".
ولابن ماجه وأبي عوانة ورجاله ثقات عن ابن عباس قال جاء أعرابي إلى النبي -
صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله "لقد جئتك من قوم ما يتزود لهم راع
ولا يخطر لهم فحل "فصعد المنبر فحمد الله ثم قال اللهم اسقنا غيثًا مغيثًا
مريئًا مريعًا طبقًا غدقًا عاجلاً غير رائث" وبعضه في أحاديث مستفيضة. وعن
ابن عمر بلفظ "اللهم اسقنا غيثا مغيثا هنيئا مريئا غدقا مجللا سحا عاما
طبقا دائما نافعا غير ضار اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين" رواه
الشافعي وغيره.
ولأبي عوانة عن سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا في الاستسقاء
"اللهم جللنا سحابا كثيفا قصيفا دلوقا ضحوكا تمطرنا منه رذاذا قطقطًا سجلاً
يا ذا الجلال والإكرام" ولأبي داود كان إذا استسقى قال "اللهم اسق عبادك
وبهائمك وانشر رحمتك وأحي بلدك الميت اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا
بلاء ولا هدم ولا غرق" رواه الشافعي مرسلاً وبعضه في الصحيح "اللهم إن
بالعباد والبلاد من اللأواء والجهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك اللهم أنبت
لنا الزرع وأرد لنا الضرع واسقنا من بركات السماء وأنزل علينا من بركاتك
اللهم ارفع عنا الجوع والجهد والعرى واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك"
وتقدم حديث أبي هريرة.
ويدعو بما أحب مما ورد وغيره مما يليق بالحال وهذه الأدعية
(1/514)
ونحوها تقال في سائر الأنواع وعدها ابن
القيم ستة الأول الصلاة والخطبة، والثاني يوم الجمعة على المنبر وتقدما،
والثالث استسقاؤه على منبر المدينة مجردا في غير الجمعة، والرابع وهو جالس
في المسجد، والخامس عند أحجار الزيت، والسادس في بعض غزواته لما سبق إلى
الماء وأغيث فيها. وهذه الأربعة يشملها الضرب الثالث المتقدم في الترجمة.
قال أنس (ثم دخل رجل) من ذلك الباب (في الجمعة المقبلة) ورسول الله - صلى
الله عليه وسلم - قائم يخطب فاستقبله قائمًا (فقال يا رسول الله) هلكت
الأموال وانقطعت السبل فـ (ادع الله يمسكها عنا) قال (فرفع) رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - (يديه ثم قال اللهم حوالينا) أي اجعله في الأودية
والمراعي التي تحيط بنا ولا يضرها وحوالي جمع حوال ولمسلم حولنا (ولا
علينا) أي لا على الأبنية والطرق وهو بيان للمراد الذي قبله.
(اللهم على الظراب) أي الروابي الصغار (والآكام) على وزن آصال قال مالك
الجبال الصغار (وبطون الأودية) الأمكنة المنخفضة لينتفع به (ومنابت الشجر)
أي أصولها قال فأقلعت وخرجنا نمشي في الشمس (متفق عليه) وفيه علم من أعلام
النبوة وللشافعي من حديث المطلب أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند
المطر "اللهم سقيا اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق
اللهم على الظراب ومنابت الشجر اللهم حوالينا ولا علينا".
(1/515)
فدل على مشروعية هذا الدعاء ونحوه عند
زيادة الأمطار وخوف الضرر منها. وفيه تعليمنا الأدب حيث لم يدع برفعه
مطلقًا لأنه قد يحتاج باستمراره بالنسبة لبعض الأدوية والمزارع فطلب منع
ضرره وكشفه عن البيوت والمرافق والطرق بحيث لا يتضرر سالك وابن سبيل وسأل
بقاء نفعه لمن ينتفع به وينبغي لمن وصلت إليه نعمة أن لا يتسخط لعارض
قارنها بل يسأل الله رفعه وبقاءها وإن الدعاء برفع المضر لا ينافي التوكل.
وينبغي أن يقول "ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به" إلى آخر الآية (ولهما
عن عائشة كان يقول) يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا رأى المطر
اللهم صيبًا نافعًا والصيب من صاب المطر إذا وقع. وقيد بالكثير ونافعا صفة
مقيدة احترازا عن الصيب الضار.
(و) لهما (من حديث زيد بن خالد) الجهني (مطرنا بفضل الله ورحمته) وذلك أنه
صلى بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية على أثر
سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال "هل تدرون ماذا قال
ربكم قالوا الله ورسوله أعلم قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر فأما من
قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ومن قال مطرنا بنوء
كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب).
وذلك أن العرب كانت تزعم أن مع سقوط نجم وطلوع نظيره يكون مطر فينسبونه
إليها. وإضافة المطر إلى النوء دون الله كفر إجماعا، ومحرم نسبته إلى النجم
وإن قصد نسبة الفعل
(1/516)
إلى الله. ويباح مطرنا في نوء كذا كما لو
قال مطرنا في شهر كذا ودل الحديثان على استحباب هذا الدعاء عند نزول المطر.
ويستحب أن يقف في أول المطر وخرج رحله وثيابه ليصيبها لفعله - صلى الله
عليه وسلم - وقوله "إنه حديث عهد بربه" ويتوضأ أو يغتسل منه لما روي أنه
قال "اخرجوا بنا إلى هذا الذي جعله الله طهورا فنتطهر به".
وإذا رأى سحابا أو هبت ريح سأل الله من خيره وتعوذ من شره. وإذا سمع صوت
الرعد قال سبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته. وإذا سمع الصواعق
قال. "اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك".
وقال الماوردي كان السلف يقولون عند الرعد والبرق لا إله إلا الله وحده لا
شريك له سبوح قدوس. وإذا انقض كوكب قال. ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
آخر المجلد الأول من شرح أصول الأحكام ويليه المجلد الثاني: أوله كتاب
الجنائز.
(1/517)
|