الإحكام شرح أصول الأحكام

كتاب الجنايات
جمع جناية مصدر من جنى الذنب يجنيه جناية جره إليه، وجمعت وإن كانت مصدرًا لاختلاف أنواعها وهي لغة التعدي على بدن أو مال أو عرض، واصطلاحًا التعدي على البدن بما يوجب قصاصًا أو مالاً، والجنايات عند الجمهور على ثلاثة أضرب "عمد" يختص القود به، وهو أن يقصد آدميًا معصومًا بما يقتل غالبًا "شبه عمد" وهو أن يقصد جناية لا تقتل غالبًا ولم يجرحه بها و "خطأ" وهو أن يفعل ما له فعله كأن يرمي صيدًا فيصيب آدميًا معصومًا، والأصل في تحريم القتل بغير حق الكتاب والسنة والإجماع.
(قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} تعالى عن قتل النفس بغير حق شرعي فقال: {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ} قتله {إِلَّا بِالْحَقِّ} بردة أو زنا بعد إحصان أو قتل معصوم عمدًا، ويأتي قوله - صلى الله عليه وسلم - «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث» وفي السنن «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل مسلم» ومن قتل مسلمًا عمدًا عدوانًا فسق عند أهل السنة

(4/238)


والجماعة، وغلت الخوارج فكفروه بذلك، وعند أهل السنة أمره إلى الله إن شاء غفر له وإن شاء عذَّبه.
(وقال) تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} أي ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه إلا خطأ أي لكن إن وقع خطأ فجزاؤه ما يذكر من قوله {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} أي يعفو ولا قود في قتل الخطأ إجماعًا، وقال - صلى الله عليه وسلم - في الذي قال ما قصدت قتله قال: «إن كان صادقًا فقتلته دخلت النار».
(وقال) تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} بما يغلب على الظن موته به {فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا *} وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن قتل مؤمنًا متعمدًا بل قرن تعالى قتل النفس المؤمنة بغير حق بالشرك فقال: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} وفي الوعيد على قاتل النفس بغير حق أحاديث كثيرة في الصحاح والسنن وغيرها، حتى قال ابن عباس وغيره: لا توبة له، ولأحمد وغيره "كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافرًا أو الرجل يقتل مؤمناً متعمدًا" ومذهب أهل السنة والجماعة وجمهور السلف والخلف أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله تعالى، فإن تاب وأناب وعمل صالحًا بدل الله سيئاته حسنات وعوض المقتول من ظلامته كما قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ

(4/239)


سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} وقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}.
وهذا عام في جميع الذنوب فكل من تاب تاب الله عليه قال تعالى، في الذين قالوا إن الله ثالث ثلاث: {أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ} وقد قال {إِنَّ اللهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} وهي في هذه السورة قبل آية القتل وبعدها وقال - صلى الله عليه وسلم - «من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة» وثبت في صحيح مسلم في الذي قتل تسعة وتسعين وسأل هل له من توبة وفيه: ومن يحول بينك وبين التوبة، قال بعض السلف في الآية هذا والله أعلم جزاؤه إن جازاه الله.
ومذهب أهل السلف: أن التوبة ليست مانعة من وجوب القصاص ولا يسقط حتى المقتول في الآخرة بمجرد التوبة كسائر حقوقه بل يأخذ المقتول من حسنات القاتل بقدر مظلمته إلا أن يعطيه الله من عنده، وكذا القصاص أو العفو لا يكفر ذنب القاتل بالكلية، وإن كفر ما بينه وبين الله، بل يبقى حق المقتول كما تقدم.
وقال ابن القيم: التحقيق: أن القتل تتعلق به ثلاثة حقوق حق لله، وحق للمقتول وحق للولي، فإذا أسلم القاتل نفسه طوعًا إلى الولي ندمًا وخوفًا من الله وتوبة نصوحًا سقط حق الله بالتوبة وحق الأولياء بالاستيفاء أو الصلح أو العفو.

(4/240)


وبقي حق المقتول يعوضه الله يوم القيامة عن عبده التائب ويصلح بينه وبينه.
(وعن ابن مسعود) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يحل دم امرئ») أي إراقته (مسلم) فأخرج الكافر فإنه يحل دمه لغير الثلاث المذكورة (يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله) وهذا وصف كاشف للحكم لأن المرء لا يكون مسلمًا إلا إذا كان يشهد تلك الشهادة فهي العمدة في حقن الدم ثم لا يحل دمه (إلا بإحدى ثلاث) أي خصال ذكرها وعمومه مخصص بما ورد من الأدلة الدالة على أنه يحل بغير هذه الثلاث المذكورة قتل نفس بغير حق وزنا المحصن والارتداد، فصل ذلك بتعداد المتصفين به فقال: (الثيب الزاني) أي المحصن بالرجم وهذا لا نزاع في حل دمه بالزنا كما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى.
(والنفس) أي المقتولة (بالنفس) والمراد به القصاص بشرطه أي يحل قتل نفس القاتل عدوانًا قصاصًا بنفس المقتول عدوانًا، وهو الشاهد من الحديث ومخصوص بولي الدم (والتارك لدينه) أي المرتد عن الإسلام بأي ردة كانت يحل دمه بأي نوع كان من أنواع الكفر إن لم يرجع إلى الإسلام، ولمسلم «أو كفر بعد إسلام» وفي لفظ «أو رجل يخرج من الإسلام»
(المفارق للجماعة) أي جماعة المسلمين ولا يكون ذلك إلا بالكفر لا بالبغي والابتداع ونحوهما من الخصال للإجماع على أنه لا يجوز قتل العاصي بترك أي خصلة من

(4/241)


خصال الإسلام فإنه، وإن كان في ذلك مخالفة للجماعة فليس فيه ترك للدين فإن المراد الكفر كما يدل عليه قوله "أو كفر بعد إسلام" وقوله "أو رجل يخرج من الإسلام" ويتناول كل خارج عن الجماعة ببدعة أو بغي كالخوارج إذا قاتلوا وأفسدوا وسيأتي والحديث (متفق عليه).
فدل الحديث على أنه لا يباح دم المسلم إلا بإتيانه بإحدى الثلاث، والمراد هنا النفس بالنفس، ولمسلم وغيره نحوه من حديث عائشة ولفظه: "ورجل يقتل مسلمًا متعمدًا فيقتل" وهذا فيه قيد لمطلق الحديث، واتفق أهل العلم على أن الذي يجب به القصاص هو العمد، وهو أحد شروط القصاص التي لا يقتص إلا بحصولها.
(ولهما عنه) أي عن ابن مسعود رضي الله عنه (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أول ما يقضى بين الناس في الدماء» فدل على عظيم أمر الدماء وتأثير خطرها وجاء في الخبر «لو اجتمع أهل السماء والأرض في دم مؤمن لأكبهم الله في النار» «ويأتي كل قتيل قد حمل رأسه يقول يا رب سل هذا فيم قتلنى؟» ومن حديث ابن عباس: «ويأتي المقتول معلقًا رأسه بإحدى يديه، ملببًا قاتله بيده الأخرى، يتشحط أوداجه دمًا حتى يقفا بين يدي الله عز وجل».
وفيها أيضًا دليل على عظم شأن دم الإنسان فإنه لا يقدم

(4/242)


في القضاء إلا الأهم وإن كان في السنن "أول ما يحاسب العبد عليه صلاته" فإن هذا الحديث فيما يتعلق بحقوق المخلوق، وفي أولية القضاء، وكذا في الحساب، وللنسائي من حديث ابن مسعود «أول ما يحاسب العبد عليه صلاته، وأول ما يقضى بين الناس في الدماء» وفي الصحيح «أول من تجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة في قتلى بدر» فدل ما تقدم وغيره على عظيم قتل المسلم بغير حق وأنه من أكبر الكبائر.

فصل في القصاص
أي في أحكام القصاص في النفس، والقصاص المساواة والمماثلة في الجراحات والديات، وأصله من قص الأثر إذا
اتبعه، فالمفعول به يتبع من فعل به فيفعل مثله، ومن حكمة القصاص ما قاله ابن القيم وغيره: أنه زجر للنفوس عن العدوان وأشفى لغيظ المجني عليه، وأحفظ للنفوس والأطراف، وطهرة للمقتول، وحياة للنوع الإنساني وعدل بين القاتل والمقتول، فإن الجناية على النفوس والأعضاء تدخل من الغيظ والحنق والعداوة على المجني عليه وأوليائه ما لا تدخله جناية المال، بل
وتدخل عليهم من الغضاضة والعار واحتمال الضيم والحمية والتحرق لأخذ الثأر ما لا يجبره المال أبدًا، حتى إن أولادهم وأعقابهم لعيرون بذلك، ولأولياء القتل من القصد في القصاص، وإذاقه الجاني وأوليائه ما أذاقه المجني عليه

(4/243)


وأولياءه ويجرعونه من الألم والغيظ ما يجرعه الأول، وكانت العرب في جاهليتها تعيب على من يأخذ الدية ويرضى بها من درك ثأره وشفاء غيظه.
(قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} أي فرض عليكم العدل في القصاص أيها المؤمنون ثم بين المساواة والمماثلة فقال: (الحر بالحر) أي حركم يقتل بحرِكم بلا نزاع، وتعريف المبتدأ يفيد الحصر وأنه لا يقتل الحر بغير الحر، وقوله تعالى {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} مطلق وهذه الآية مقيدة ومبينة وصريحة لهذه الأمة {وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} أي وعبدكم يقتل بعبدكم واتفق أهل العلم على ذلك {وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} أي وأنثاكم تقتل بأنثاكم بلا نزاع، ولا تجاوزوا وتعتدوا كما اعتدى من قبلكم وغيروا حكم الله فيهم.
قيل نزلت في حيين من العرب كان لأحدهما على الآخر كثرة وشرف فأقسموا لنقتلن بالعبد الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم وبالرجل منا الرجلين، وجعلوا جراحاتهم ضعف جراحات أولئك فأنزل الله هذه الآية، فأمروا بالمساواة فرضوا وأسلموا وقيل نزلت في بني قريظة وبين النضير كانوا إذا قتل القرظي النضري قتل وإذا قتل النضري القرظي ودي بمائة وسق فأمر الله بالعدل في القصاص، فدلت الآية على أنه إذا تكافأ الدمان من الأحرار المسلمين والعبيد من المسلمين أو الأحرار من المعاهدين أو العبيد منهم قتل من كل صنف منهم

(4/244)


الذكر إذا قتل بالذكر وبالأنثى قال الموفق: في قول عامة أهل العلم، وتقتل الأنثى إذا قتلت بالأنثى وبالذكر بلا نزاع.
ولا يقتل مؤمن بكافر، ولا حر بعبد، ولا مسلم بذمي، ويقتل الذمي بالمسلم والعبد بالحر، وهو مذهب أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم وقالوا: العبد سلعة، لو قتل خطأ لم يجب فيه دية وإنما تجب فيه قيمته، ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى ويقتل الصحيح السوي بالمريض والزَمِن على الصحيح لا الطرف الصحيح بالأشل ونحو ذلك {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} أي ترك وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص في قتل العمد ورضي بالدية من دم أخيه المقتول {فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أي على الطالب بالدية أن يتبع بالمعروف فلا يطالب بأكثر من حقه.
{وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} يعني من القاتل من غير ضرر ولا مدافعة، قال ابن عباس وغيره، العفو أن يقبل في العمد الدية، والاتباع بالمعروف يتبع الطالب بالمعروف، ويؤدي إليه المطلوب (بإحسان) يعني بلا مماطلة كل واحد منهما بإحسان فيما له وعليه، والجمهور من الصحابة والتابعين أن ولي الدم إذا عفا عن القصاص إلى الدية فله أخذ الدية وإن لم يرض به القاتل وهو ظاهر الخبر الآتي {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} أي ذلك الذي ذكرت من العفو عن القصاص وأخذ الدية تخفيف من ربكم ورحمة.

(4/245)


وذلك أن القصاص في النفس والجراح كان حتمًا في التوراة ولم يكن لهم أخذ الدية، وكان في الإنجيل الدية ولم يكن لهم القصاص، فخير الله هذه الأمة، وبين أن العفو عن الدية تخفيف {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أي بعد العفو وقبول الدية {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} وهو أن يقتل قصاصًا وعن سَمُرة مرفوعًا «لا أعافي رجلاً قتل بعد أخذ الدية» أي لا أقبلها منه بل أقتله، وأوجبه بعضهم ولم يجعله إلى الأولياء كما سيأتي.
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} أي في شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل بقاء وهذه حكمة عظيمة من الله تعالى، فإن القاتل إذا علم أنه يقتل انكف عن صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس، وفي الكتب المتقدمة وقيل في المثل: «القتل أنفى للقتل» وقال الشاعر:
بالدما يا جارتي تحقن الدما ... وبالقتل ينجو الناس من القتل

{يَا أُولِي الألْبَابِ} أي يا أولي العقول والأفهام والنهى {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} تنزجرون وتنتهون عن القتل مخافة القود فما شرعه الله من القصاص أكمل وأصلح للعباد، وأشفى للغيظ وأحفظ للنفوس، والمصلحة به أضعاف أضعاف تلك المفسدة.
(وقال: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} أي أوجبنا عليهم (فيها) أي في التوراة وشرع من قبلنا شرع لنا إذا حكي مقررًا ولم ينسخ كما هو المشهور عند الجمهور لهذه الآية، وأجمعوا على الاحتجاج بما دلت عليه {أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} أي أن نفس القاتل بنفس المقتول وفاءً يقتل به، والجمهور على أن الرجل يقتل بالمرأة

(4/246)


لعموم هذه الآية ولما يأتي، وأما المسلم فلا يقتل بالكافر لما في الصحيحين وغيرهما «لا يُقتل مسلمٌ بكافرٍ» وأما العبد ففيه عن السلف آثار كثيرة أنهم لم يكونوا يقيدون الحر بالعبد، وحكى الشافعي الإجماع على ذلك كما لا يقيدون المسلم بالكافر، لأن الآية أريد بها الأحرار المسلمون، لأن اليهود كانوا ملة واحدة ولا عبيد فيهم، لأن عقد الذمة والاستعباد إنما أبيح للنبي - صلى الله عليه وسلم -.
(إلى قوله {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} أي بالقصاص {فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} أي للمتصدق يهدم عنه ذنوبه بقدر ما تصدق به، قال الشيخ: ومن توهم أن بالعفو قد يسقط حقه أو ينقص قدره أو يحصل له ذل فهو غالط كما في الصحيح "وما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا" وما انتقم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لنفسه قط، والكامل هو الذي ينتصر لحق الله ويعفو عن حق نفسه عند القدرة، ثم توعد تعالى من خالف حكمه فقال: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ *} لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم بالعدل، نزلت لما اصطلح اليهود أن لا يقتل شريف بوضيع ورجل بامرأة.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: من قتل له قتيل) أي من قتل له قريب كان حيًّا فصار قتيلاً بذلك القتل (فهو بخير النظرين) أي مخير بين أمرين (إما أن يفتدي وإما أن يقتل) وفي رواية "إما أن يفدي وإما أن يقاد" وظاهره أن الخيار لورثة القتيل سواء كانوا يرثونه بسبب أو

(4/247)


نسب. وقال الخطابي وغيره: الخيرة إلى ولي الدم في القصاص وأخذ الدية، ولو قتله جماعة كان لولي الدم أن يقتل منهم من شاء، ويطالب بالدية من شاء، وهو قول الشافعي وأحمد وغيرهما، وعند الجمهور أنه يتعلق الحق بورثة المقتول فلو كان بعضهم غائبًا أو طفلاً لم يكن للباقين القصاص حتى يبلغ الطفل ويقدم الغائب، والحديث (متفق عليه) ورواه أهل السنة وغيرهم بألفاظ متقاربة.
(زاد أبو داود عن أبي شريح) واسمه خويلد بن عمرو رضي الله عنه (أو يعفو) إلى الدية أو مجانًا، وله "وإن أراد الرابعة فخذوا على يديه" ولفظ الترمذي من حديث أبي هريرة "إما أن يعفو وإما أن يقتل" فدلت هذه الأحاديث وغيرها على أنه يخير الولي بين القود أو الدية وعفوه مجانًا أفضل لما تقدم ولقوله تعالى: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وإن عفا عن القصاص فله أخذ الدية وإن عفا عن الدية فقط فله أخذها وإن اختارها فليس له غيرها، وإن قال عفوت ولم يقيد فله الدية لانصراف العفو إلى القصاص لأنه المطلوب الأعظم، وإن هلك الجاني فليس للولي سوى الدية.
وقال ابن القيم الواجب أحد شيئين إما القصاص وإما الدية والخيرة في ذلك إلى الولي بين أربعة أشياء العفو مجانًا أو العفو إلى الدية أو القصاص ولا خلاف في تخييره بين هذه الثلاثة، والرابعة المصالحة إلى أكثر من الدية، وقال الوزير:

(4/248)


اتفقوا على أنه إذا عفا أحد الأولياء من الرجال سقط القصاص وانتقل الأمر إلى الدية، وإن عفت امرأة فقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد يسقط القود واختلفت الرواية عن مالك، وقال ابن رشد ومن له العفو بالجملة فهم الذين لهم القيام بالدم، والذين لهم القيام بالدم هم العصبة عند مالك، وعند غيره كل من يرثه، وعمدتهم اعتبار الدم بالدية.
وقال الشيخ: ولاية القصاص والعفو ليست عامة لجميع الورثة بل تختص بالعصبة، وهو مذهب مالك وتخرج رواية عن أحمد، وقال: إذا اتفق الكبار من الورثة على القتل فلهم ذلك عند أكثر العلماء، وإذا اتفق جماعة على قتل شخص فلأولياء الدم أن يقتلوهم، ولهم أن يقتلوا بعضهم، وإذا عفا أولياء المقتول عن القاتل، بشرط أن لا يقيم في هذا البلد ولم يف بهذا الشرط لم يكن العفو لازمًا، بل لهم أن يطالبوه بالدية في قول أكثر العلماء.
(وله) أي لأبي داود وغيره (عن أنس) رضي الله عنه أنه قال: (لا يرفع إليه - صلى الله عليه وسلم - أمر في القصاص) شمل القصاص في النفس فما دونها من الشجاج وكسر العظام (إلا أمر فيه بالعفو) ولمسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: «ما من رجل يصاب في جسده فيتصدق به إلا رفعه الله به درجة، وحط به عنه خطيئة» ولأحمد من حديث عبد الرحمن بن عوف أنه - صلى الله عليه وسلم - أقسم على ثلاث منها "ولا يعفو عبد

(4/249)


عن مظلمة يبتغي بها وجه الله إلا زاده الله بها عزًا يوم القيامة.
فدلت هذه الأحاديث وما في معناها مع ما تقدم من الأحاديث الصحيحة وما تقدم من نص القرآن الكريم على مشروعية العفو في الجملة والترغيب فيه واستحبابه، ولا نزاع في مشروعيته في الجملة، والجمهور على أنه أولى من الترك، فإنه تعالى إنما ندب عباده لما لهم فيه مصلحة راجحة على مصلحة الانتصاف من الظالم، فالعافي له من الأجر بعفوه عن ظالمه فوق ما يستحقه من العوض عن تلك المظلمة من أخذ أجر أو وضع وزر لو لم يعف عن ظالمه، لا سيما وقد نص الشارع على أنه من موجبات رفع الدرجات، وحط الخطيئات وزيادة العز.
(وفي حديث عمرو بن حُريث) ابن عمرو بن عثمان القرشي المتوفى سنة خمس وثمانين رضي الله عنه يعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «ومن اعتبط مؤمنًا» أي قتله بلا جناية منه ولا جريرة توجب قتله، وأصله من اعتبط الناقة إذا ذبحها من غير داء (قتلاً) تأكيد (عن بينة) لا خطأ وقامت عليه البينة (فإنه قود) مأخوذ من قود الدابة لأنه يقاد إلى القتل بمن قتله أي يقتل القاتل بمن قتله، ولا نزاع في ذلك بشرطه (إلا أن يرضى أولياء المقتول) أي بالدية أو يقع منهم العفو، فدل الحديث وغيره على وجوب القصاص على من قتل مسلمًا بغير حق إن لم يعف المجني عليه أو وليه (صححه أحمد).

(4/250)


(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (مرفوعًا) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال «من قتل عمدًا» أي متعمدًا معتديًا بغير تأويل قاصدًا الجناية (فهو قود) وإن لم يقصد الجناية أو قصد بما لا يقتل غالبًا فلا، فالقتل العمد هو أن يقصد من يعلمه آدميًا معصومًا فيقتله بما يغلب على الظن موته به، وصوروا له صورًا منها أن يجرحه بما له مور في البدن كسكين، أو بمثقل، أو يلقي عليه حائطًا أو يلقيه من شاهق أو في ماء أو نار لا يمكنه التخلص، أو غير ذلك مما سيأتي.
ويشترط عصمة المقتول، وكون القاتل مكلفًا، والمساواة في الدين والحرية والرق وعدم الولادة واشترط بعضهم كون مستحقه مكلفًا وإلا حبس الجاني إلى البلوغ والإفاقة، فإن معاوية حبس هدبة حتى بلغ ابن القتيل ولم ينكر، واتفاق الأولياء المشتركين فيه على استيفائه وليس لبعضهم أن ينفرد به، وأن يؤمن في الاستيفاء أن يتعدى على الجاني، قال الوزير: اتفقوا على أن من قتل نفسًا مؤمنة مكافئة له في الحرية ولم يكن المقتول ابنًا للقاتل وكان قتله متعمدًا متعديًا بغير تأويل واختار الولي القتل فإنه يجب، وكذا قال ابن رشد: الذي يجب به القصاص هو العمد.
وذلك أنهم أجمعوا على أن القتل صنفان عمد وخطأ واختلفوا هل بينهما وسط وهو الذي يسمونه شبه العمد، وبه قال جمهور فقهاء الأمصار، وبإثباته قال عمر وعلي وعثمان

(4/251)


وغيرهم ولا مخالف لهم من الصحابة، ثم قال عليه الصلاة والسلام «ومن حال دونه» أي دون القود «فعليه لعنة الله» رواه أبو داود) وفي رواية " ومن حال دونه فعليه لعنة الله وغضبه لا يقبل منه صرف ولا عدل" وهذا وعيد شديد لمن حال دون إقامة الحدود.
(ولأحمد) والترمذي وابن ماجه (عن عمر) رضي الله عنه (مرفوعًا) أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقاد الوالد بالولد» أي لا يقتل أحد الأبوين بالولد لأن الولد بضعة منه وهو سبب وجوده فلا يكون ولده سببًا لإعدامه، وقال الشافعي: حفظت عن عدد من أهل العلم لقيتهم أنه لا يقتل الوالد بالولد، وهو مذهب الجماهير من الصحابة وغيرهم، وقضى به عمر في قصة المدلجي، وألزم الأب الدية ولم يعطه منها شيئًا وقال: ليس للقاتل شيء فلا يرث من الدية ولا من غيرها عند الجمهور، ومذهب أحمد وأبي حنيفة والشافعي، أنه لا يقاد الوالد وإن علا بالولد وإن سفل، وهذا الحديث قال ابن عبد البر وغيره فيه هو حديث مشهور عند أهل العلم بالحجاز والعراق مستفيض عندهم وصححه البيهقي وابن الجارود وعليه العمل عند أكثر أهل العلم وقال الترمذي العمل عليه عند أهل العلم أن الأب إذا قتل ابنه لا يقاد به.
وأما الجد فقال شيخ الإسلام السنة إنما جاءت «لا يقتل والد بولده» فإلحاق الجدُ بذلك وأبي الأم بعيد اهـ وأما الولد

(4/252)


فيقتل بكل من الأبوين وإن علوا لعموم {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} وخص منه ما تقدم بالنص من أنه لا يقتل والد بولده، وبقي من سواه، وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أن الابن إذا قتل أحد أبويه قتل به، وإن شارك الأب في قتل ولده أجنبي فمذهب مالك والشافعي وأحمد يجب القصاص على المشارك في القتل العمد العدوان، وكذا حر ورقيق في قتل رقيق، ومسلم وكافر في قتل كافر، لما خص الله به الأب، وأما المسلم فلإسلامه وعن الحر لحريته.
(وعن علي) رضي الله عنه (مرفوعًا) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «لا يقتل مسلم بكافر» رواه البخاري وذلك أن أبا جحيفة وغيره سألوا عليًا رضي الله عنه: هل عندكم – يعني أهل البيت- شيء من الوحي ما ليس في القرآن؟ فقال علي رضي الله عنه: لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهما يعطيه الله رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة، يعني من السنة، قال أبو جحيفة وما في هذه الصحيفة، يعني الورقة المكتوبة قال: "العقل" أي فيها الدية، وأصله أن القاتل يجمع الدية فيعقلها بفناء أولياء المقتول، فسميت عقلاً بالمصدر، وكان أصلها الإبل: "وفكاك الأسير" أي ومن جملة ما فيها حكم تخليص الأسير من يد العدو والترغيب في ذلك "وأن لا يقتل مسلم بكافر".
فدل الحديث وما في معناه على أنه لا يقتل مسلم بكافر، أما الحربي فإجماع وأما الذمي فمذهب الجمهور أن المسلم لا

(4/253)


يقاد بالكافر الذمي لصدق اسم الكافر عليه، وقال - صلى الله عليه وسلم - في خطبته يوم الفتح بسبب قتيل قتلته خزاعة، وكان له عهد «لا يقتل مسلم بكافر» وقال: «لو قتلت مسلمًا بكافر لقتلته به» فأشار - صلى الله عليه وسلم - بقوله لا يقتل مسلم بكافر إلى ترك القصاص من الخزاعي بالمعاهد الذي قتله وقال تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا *} ولو كان للكافر أن يقتص من المسلم لكان في ذلك أعظم سبيل.
وفي الاختيارات: لا يقتل مسلم بذمي إلا أن يقتله غيلة لأخذ ماله، وهو مذهب مالك، قال ابن القيم: وقياس الكافر الذمي والمعاهد على المسلم في قتله بعيد، وقياسه على الحربي أشبه قطعًا، لأن الله سوى بين الكفار في جهنم وفي قطع الموالاة وغير ذلك، وقال مالك والشافعي وأحمد وغيرهم لا يقتل المسلم بالذمي أو المعاهد، واتفق أهل العلم على أن الكافر يقتل بالمسلم.
(ولأبي داود) وأحمد والنسائي وصححه الحاكم (عنه) أي عن علي رضي الله عنه (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال «المؤمنون تتكافأ دماؤهم» أي تتساوى في القصاص والديات، والكفء النظير والمساوي، أي لا فرق بين الشريف والوضيع في الدم، بخلاف ما كان عليه أهل الجاهلية من المفاضلة وعدم المساواة، وفي الحديث «ألا لا يُقتل مؤمن بكافر» يعني قودًا وهو مذهب جماهير العلماء كما تقدم وفيه «ولا يقتل ذو عهد في عهده» أي لا

(4/254)


يقتل من دخل إلينا من أهل دار الحرب بأمان، فإن قتله محرم على المسلم حتى يرجعُ إلى مأمنه.
وفيه «وهم يد على من سواهم» أي مجتمعون على أعدائهم لا يحل لهم التخاذل بل يعين بعضهم بعضًا على جميع من عاداهم من أهل الملل، فدل الحديث مع ما تقدم أنه لا يقتل مسلم بكافر، إذ من شرط القود المكافأة، وليس الكافر كفوًا للمسلم فيقاد به.
(ولأحمد) والبيهقي (عن بكير) رحمه الله قال (مضت السنة بأن لا يقتل حر بعبد) وإن قتله عمدًا وعن علي نحوه رواه البيهقي وأخرج هو وابن عدي عن عمر مرفوعًا «لا يقاد مملوك من مالك» وللبيهقي أيضًا عن ابن عباس لا يقتل حر بعبد، وفيهما ضعف، ولأحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده، أن أبا بكر وعمر كانا لا يقتلان الحر بالعبد، وحكي إجماعًا أنه لا يقتل السيد بعبده، إلا ما روي عن النخعي، وقال الوزير: اتفقوا على أن السيد إذا قتل عبد نفسه فإنه لا يقتل به، ولو كان متعمدًا، وقال مالك والشافعي وأحمد: ولا يقتل بعبد غيره.
وحكي أنه ليس بين العبد والحر قصاص لا في النفس ولا فيما دون النفس، وهو مذهب جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، وتأولوا ما روى الحسن عن سَمُرة «من قتل عبده قتلناه» بالمقال المذكورة في سماع الحسن من سمرة،

(4/255)


وبالأحاديث القاضية بأنه لا يقتل حر بعبد، فإنها قد رويت من طرق متعددة يقوي بعضها بعضًا، وبمفهوم قوله تعالى: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} وبالإجماع على أنه لا يقتص من الحر بأطراف العبد، فكذا النفس، ولأنه إنما تجب فيه قيمته لو قتل خطأ لا تجب فيه دية بل قيمة.
فالآية والأحاديث وقول جل علماء الأمصار قاضية بأنه لا يقتل الحر بالعبد، وإنما تجب قيمته واتفقوا على أنه يقتل العبد بالحر والعبد بالعبد، وأنه يجري القصاص بين العبيد بعضهم على بعض، إلا ما يروى عن أبي حنيفة، وحكاه ابن المنذر إجماعًا إلا ما روي عن علي والحسن قال: وهو شاذ لعموم (النفس بالنفس) وهذه أحد شروط القصاص الأربعة التي أحدها عصمة المقتول وثانيها التكليف وثالثها المكافأة في الدين كما تقدم وفي الحرية لهذا الخبر والرق فلا يقتص إذا فضل القاتل المقتول بإسلام أو حرية أو رق والرابع عدم الولادة وتقدم.
(وعن أنس) رضي الله عنه قال: (أن يهوديًا) لم يصرح بأنه ذمي أو معاهد أو مستأمن (رضى رأس جارية بين حجرين) ولمسلم قتلها بحرج فجيء بها إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وبها رمق، وفي بعض طرقه: من الأنصار (فقيل لها من فعل بك هذا) يعني الرض (فلان فلان) وللترمذي: من قتلك أفلان؟ فقالت برأسها لا قال: ففلان؟ (حتى سمي اليهودي فأومأت برأسها) نعم (فجيء به فاعترف) أي أنه الذي رض رأسها (فأمر به

(4/256)


النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض رأسه بين حجرين متفق عليه).
فدل الحديث على أنه يجب القود بالمثقل كالمحدد، وإلا كان ذريعة إلى إزهاق الأرواح، فقضت الأدلة بذلك وفيه دليل على أنه يقتل الرجل بالمرأة، وهو مذهب الجمهور، ورواه البخاري وغيره عن أهل العلم، وحكى ابن المنذر الإجماع عليه إلا ما روي عن علي والحسن وروي عن غيرهما، وحكى أبو الزناد عمن أدركه من أهل العلم الذين ينتهي إلى أقوالهم أن المرأة تقاد من الرجل عينًا بعين وأذنًا بأذن، وكل شيء من الجراح على ذلك، وأنه إن قتلها قتل بها، وقال الوزير: اتفقوا على أن الرجل يقتل بالمرأة والمرأة بالرجل، وأنه يجري القصاص بين الرجل والمرأة فيما دون النفس.
فالأحاديث والآثار وقول الجمهور قاضية بأنه يقتل الذكر بالأنثى، ويتأيد بمفهوم (النفس بالنفس) وفيه جواز القود بمثل ما قتل القاتل وهو مذهب الجمهور، ويؤيده عموم {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} فيفعل مجني عليه أو وليه بجان مثل ما فعله أو شبهه، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد فإن كان رض رأس المجني عليه، أو حرقه بالنار، أو ألقاه في الماء، أو منعه الطعام أو الشراب حتى مات فعل بالجاني كذلك وأنه لا فرق بين الجرح المزهق ونحوه.

(4/257)


وعن أحمد وأبي حنيفة يقتل بالسيف قال ابن القيم: والكتاب والميزان مع من يقول يفعل به كما فعل، وبه جاءت السنة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - رض رأس اليهودي كما فعل بالجارية وفي أثر مرفوع «من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه» والثابت عن الصحابة رضي الله عنهم أنه يفعل به كما فعل، فقد اتفق على ذلك الكتاب والسنة والقياس وآثار الصحابة واسم القصاص يقتضيه لأنه يستلزم المماثلة.
وما ذهب إليه أحمد وغيره أنه لا يقتل إلا بالسيف استدلوا بحديث النعمان بن بشير عند ابن ماجه وغيره "لا قود إلا بالسيف" ويؤيده حديث «إذا قتلتم فاحسنوا القتلة» والنهي عن المثلة وكونه - صلى الله عليه وسلم - يأمر بضرب عنق من أراد قتله حتى صار هو المعروف في أصحابه، فإذا رأوا رجلاً يستحق القتل قال أحدهم: دعني أضرب عنقه، ولعل ذلك فيما لا يحتاج فيه إلى المماثلة ودل على أنه لا يستوفى القصاص إلا بحضرة سلطان أو نائبه لافتقاره إلى اجتهاده وخوف الحيف، وفيه أن القتل غيلة لا يشترط فيه إذن الولي، فإنه - صلى الله عليه وسلم - لم يدفعه إلى أوليائها، ولم يقل إن شئتم فاقتلوه، بل قتله حتمًا وهو مذهب مالك واختيار الشيخ.
(وفي كتاب عمرو بن حزم) الذي كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن حزم (أن الرجل يقتل بالمرأة) وقد صححه الحفاظ حتى قال الحافظ يعقوب بن سفيان لا أعلم في جميع الكتب كتاًبا أصح

(4/258)


من كتاب عمرو بن حزم، كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرجعون إليه ويدعون آراءهم وفي حديث عمرو بن شعيب "وهم يقتلون قاتلها" وتقدم أنه قول الجمهور.
(وعن معاذ بن جبل وغيره رضي الله عنهم (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إذا قتلت المرأة) عمدًا أي إذا وجب عليها القتل: "لا تقتل حتى تضع ما في بطنها إن كانت حاملاً" وكذا لو وجب على حائل فحملت، ويؤيده قوله تعالى: {فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} فإنه إذا قتلها وما في بطنها كان إسرافًا في القتل قال (وحتى تكفل ولدها) أي تقوم بأمره مثل: إن لم يوجد له مرضعة فحتى ترضعه (رواه ابن ماجه).
فدل الحديث وما في معناه على أحد شروط القصاص، وهو الأمن في الاستيفاء من التعدي على الجاني فإذا وجب على الحامل القتل لم تقتل حتى تضع الولد وتسقيه اللبأ، فإنه لا يعيش في الغالب بدونه، ثم إن وجد من يرضعه وإلا تركت حتى تفطمه.
وقال الوزير وغيره: اتفقوا على أنه إن كان الأولياء حضورًا بالغين وطالبوا بالقصاص لم يؤخر إلا أن يكون القاتل امرأة وتكون حاملاً فيؤخر حتى تضع، وإذا كان فيهم غائب يؤخر حتى يقدم، وكذا لا يقتص منها في الطرف كاليد، والرجل حتى تضع، والحد في ذلك كالقصاص، وذكر غير واحد الإجماع على أن من وجب عليها القتل وهي حامل لم تقتل حتى تسقيه اللبأ،

(4/259)


وحتى ترضعه إن لم يوجد من يرضعه (ولأبي داود عنه) أي عن أنس رضي الله عنه (أن يهودية أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - بشاة مسمومة) قال أبو داود: هي أخت مرحب، وقال غيره: اسمها زينب بنت الحارث ابنة أخي مرحب، وفيه: فأكل منها النبي - صلى الله عليه وسلم - فجيء بها فسألها، فقالت: أردت لأقتلك الحديث (فمات بشر، فأمر
النبي - صلى الله عليه وسلم - بها فقتلت) وأجمع أهل الحديث على أنه - صلى الله عليه وسلم - قتلها، وفي حديث أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يقتلها في الحال، ورواية غيره إنما قتلها بعد موت بشر.
فدل الحديث على أن من سقى شخصًا سما لا يعلم به، أو خلطه بطعام يطعمه له أو بطعام فيأكله جهلاً قتل به، قال ابن رشد والجمهور على وجوب القصاص به، وهذا أحد موجبات القصاص، ويختص بالقصاص مباشر للقتل، عالم بأنه ظلم، ثم ولي عالم بذلك، فبينة وحاكم علموا ذلك قال بعضهم ومثله العاين إذا كانت عينه يستطيع أن يقتل بها وفعله باختياره وجب القصاص وإن فعله بغير اختياره توجه القول بضمانه، لا إن وقع بغير اختياره، وإذا علم منه ذلك حبس حتى يتوب أو يموت.
(وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه، عن جده (يرفعه) يعني يرفع الحديث إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من تطبب» أي عانى الطب وهو لا يعرفه «ولم يكن بالطب معروفًا» قبل تطببه حاذقًا في معالجته المرضى (فأصاب نفسًا فما دونها) من أعضاء من تطبب

(4/260)


فيه (فهو ضامن) ما أتلفه من نفس فما دونه (صححه الحاكم) فدل الحديث على أن من تطبب ونحوه وهو لا يعرف ما تقبله يضمن ما أتلفه.
(وعن ابن عمر) رضي الله عنهما (مرفوعًا) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا أمسك الرجلُ الرجلَ» لآخر ليقتله (وقتله الآخر) منفردًا بالقتل (يقتل الذي قتل) قصاصًا بالإجماع (ويحبس الممسك) لتمكينه من قتله وإن لم يفعل سوى الإمساك (رواه الدارقطني) وصححه ابن القطان، وقال الحافظ رجاله ثقات.
فدل الحديث على أن القاتل يقتل ولا نزاع في ذلك بشرطه، وأن الممسك يحبس ولا يعد فعله مشاركة حتى يكون من باب قتل الجماعة بالواحد، بل الواجب حبسه فقط، والمدة راجعة إلى نظر الحاكم إذ الغرض تأديبه، والشارع لم يذكر قدر المدة فرجع فيه إلى نظر الحاكم، وهذا مذهب جمهور العلماء، وإن أمر مكلف بالقتل فقتل فالقود عليه لمباشرته القتل مع عدم العذر، وكذا إن أمره السلطان قال الشيخ: لا يطاع في قتل المجهول، بل حتى يعلم جواز قتله، وإلا فالطاعة له معصية، لا سيما إذا كان معروفًا بالظلم فهنا الجهل بالحرمة كالعلم
بالحرمة.
وإن كان الآمر غير السلطان فالقود على القاتل بكل حال، وحيث وجب القصاص على المأمور أدب آمره بما يردعه من

(4/261)


ضرب وحبس لينكف عن العود، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم، ومن أكره مكلفًا على قتل معين فقال
الشيخ: القود عليهما عند أكثر العلماء كأحمد ومالك والشافعي.
(وعنه) أي ابن عمر رضي الله عنهما (قال قتل غلامًا غيلة) بكسر الغين المعجمة أي سرًا خفية حيث لا يراه أحد (فقال عمر) رضي الله عنه (لو اشترك فيه أهل صنعاء) البلد المشهورة باليمن قاله لكون القتل فيها (لقتلتهم به) أي لقتل من اشترك في قتل الغلام وإن كانوا أهل صنعاء جميعًا (رواه البخاري) وروي من طرق وفيه قصة أخرجها الطحاوي، فدل أثر الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه تقتل الجماعة اثنان فأكثر بالشخص الواحد إن صلح فعل كل واحد لقتله أو تواطؤا على قتله، لإجماع الصحابة رضي الله عنهم،
قال سعيد بن المسيب: قتل عمر سبعة من أهل صنعاء قتلوا رجلاً، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به جميعًا وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم إلا أن مالكًا استثنى القسامة.
وقال ابن القيم: اتفق الصحابة وعامة الفقهاء على قتل الجمع بالواحد وإن كان أصل القصاص يمنع ذلك، لئلا يكون عدم القصاص ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء، قال ابن رشد: فإن مفهومه أن القتل إنما شرع لنفي القتل، كما نبه عليه

(4/262)


القرآن فلو لم تقتل الجماعة بالواحد لتذرع الناس إلى القتل بأن يتعمدوا قتل الواحد بالجماعة، فإن لم يتواطؤا على قتله وفعل أحدهم بما لا يقتل غالبًا والآخر بما يقتل فالقصاص على الثاني، وإن لم يصلح فعل كل واحد للقتل فلا قصاص لأنه لم يوجد من أحدهم ما يوجبه ولم يتواطؤا على القتل.
(وعن الحسن) البصري (عن جابر) رضي الله عنه (مرفوعًا لا أعفي) أي لا أدع ولا أترك (من قتل بعد أخذ الدية) بل أقتص منه ولأبي داود الطيالسي بلفظ «لا أعافي أحدًا قتل بعد أخذ الدية» وكان الولي في الجاهلية يؤمن القاتل بقبول الدية ثم يظفر به فيقتله فيرد الدية فزجر عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - قال الشيخ: فمن قتل بعد العفو أو أخذ الدية فهو أعظم جرمًا ممن قتل ابتداء وقال بعض الفقهاء: إنه يجب قتله حدًا ولا يكون أمره إلى أولياء المقتول قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} على قوله: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قال: وربما لم يرضوا بقتل القاتل بل يقتلوا كبيرًا من أصحاب القاتل كنسيب القبيلة، ومقدم الطائفة، فيكون القاتل قد اعتدى في الابتداء، وتعدى هؤلاء في الاستيفاء، كما كان يفعله أهل الجاهلية الخارجون من الشريعة، وفي هذه الأوقات من الأعراب والحاضرة وغيرهم، وسببه خروجهم عن العدل الذي هو القصاص في القتلى.

(4/263)


فصل في الجراح
جرحه كمنعه كلمه، والاسم الجرح، والجراح بالكسر جمع جراحة بالكسر، ورجل جريح جمعه جرحى، وتقدم حكم القصاص في النفس وأعقبه بحكم القصاص في الجروح وفي الأطراف، ومن أقيد بأحد في النفس أقيد به في الجراح والأطراف، ومن لا فلا ويشترط عند الجمهور في الجارح أن يكون مكلفًا كما يشترط في القاتل، وهو أن يكون بالغًا عاقلاً، والبلوغ يكون بالاحتلام والسن بلا خلاف، والمجروح يشترط فيه أن يكون مكافئًا لدم الجارح.
ويشترط في الجرح أن يكون على وجه العمد بما يجرح غالبًا فإذا ضربه على العضو نفسه فقطعه، أو ضربه بآلة تقطع العضو غالبًا، أو ضربه على وجه النائرة، فلا خلاف أن فيه القصاص أما إن ضربه بلطمة أو سوط أو ما أشبه ذلك مما الظاهر منه أنه لم يقصد إتلاف العضو مثل أن يلطمه فيفقأ عينه فالذي عليه الجمهور أنه شبه العمد، ولا قصاص فيه، وفيه الدية مغلظة في ماله.
(قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}
تقاد بها وتقدم {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} أي تفقأ عين المتعمد
بعين الفاقيء إجماعًا {وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} أي يجدع به إذا
تعمد الجاني إجماعًا {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} أي تقطع بها إذا
تعمد إجماعًا {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}

(4/264)


أي تقلع بها بشرطه في الكل إجماعًا وسائر الجراح قياسًا عليها فيؤخذ الجفن بالجفن والشفة بالشفة واليد والرجل والأصبع والكف والمرفق والذكر والخصية والإلية والشفر ونحو ذلك كل واحد من ذلك بمثله، ولا تؤخذ شمال بيمين ولا يمين بشمال ولا صحيحة بقائمة.
(والجروح قصاص) تعميم بعد تخصيص لأنه ذكر العين والأنف والأذن والسن ثم قال {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} أي فيما يمكن الاقتصاص منه كاليد والرجل واللسان، وكالموضحة وجرح العضد والساق والفخذ والقدم ونحوها، فيقاد في الطرف والجرح من يقاد في النفس، أحرار المسلمين فيما بينهم رجالهم ونساؤهم والعبيد فيما بينهم رجالهم ونساؤهم كما قاله ابن عباس وغيره، وذلك فيما يمكن الاقتصاص منه بلا حيف، وهو قول جماهير العلماء لهذه الآية، وأما ما لا يمكن الاقتصاص منه من كسر عظم أو جرح لحم كالجائفة ونحوها فلا قصاص فيه، غير كسر سن ونحوه لإمكان الاستيفاء منه بغير حيف، كبرده ونحوه، وكأن يقتص موضحة من الهاشمة والمنقلة والمأمومة ويأخذ أرش الزائد، لأنه لا يمكن الوقف على نهاية سوى ذلك.
قال ابن رشد: القصاص فيما أمكن القصاص فيه منها، وفيما وجد منه محل القصاص ولم يخش منه تلف النفس، وإنما صاروا لهذا لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رفع القود في المأمومة

(4/265)


والمنقلة والجائفة اهـ، ويشترط أيضًا المماثلة في الاسم والموضع فلا تؤخذ يمين بيسار ولا يسار بيمين، ونحو ذلك حكاه الوزير اتفاقًا، ويشترط استواؤها في الصحة والكمال فلا تؤخذ صحيحة بشلاء ولا كاملة الأصابع مثلاً بناقصتها ولا عين صحيحة بقائمة، ويؤخذ عكسه، وإن قطع جماعة طرفًا أو جرحوا جرحًا يوجب القود فعليهم القود، لقول علي في شاهدين رجعًا فقال: لو علمت أنكما تعمدتما الكذب لقطعكما.
قال تعالى: {فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ} أي ومن تصدق بالقصاص بأن عفا عنه فالتصدق به كفارة للمتصدق، يكفر الله به ذنوبه، أو للجاني لا يؤاخذه به، كما أن القصاص كفارة له {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} في كتابه العزيز وما أوحاه إلى نبيه - صلى الله عليه وسلم - {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} لأنهم لم ينصفوا المظلوم بالعدل من الظالم، وذلك أنه يقاد قرظي بنضري، ولا يقاد نضري بقرظي (وقال) تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وقال تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} وقال أحمد: إنه لأهل أن يفعل به كما فعل، وتقدم خير رض رأس اليهودي، ولأن القصاص موضوع على المماثلة ولفظه مشعر به فيجب أن يستوفى منه مثل ما فعل.
(وعن أنس) رضي الله عنه (أن الرُبَيع) بنت النضر أخت أنس بن النضر الأنصاري وعمة أنس بن مالك رضي الله عنهم،

(4/266)


(كسرت ثنية جارية) وفي رواية كسرت ثنية امرأة فدل على أنها امرأة حرة لا رقيقة (فعرضوا عليهم الأرش) وللنسائي وغيره: فطلبوا إليهم العفو فأبوا، فعرضوا عليهم الأرش (فأبوا إلا القصاص) وهو أن تكسر سن الرُبَيع فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو إلا القصاص، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقصاص فقال أنس بن النضر: يا رسول الله أتكسر ثنية الربيع؟ لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها، ولم يرد رد الحكم الشرعي، وإنما أراد التعريض
بالشفاعة.
(فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: يا أنس) يعني ابن النضر (كتاب الله القصاص متفق عليه) أي فرض الله على لسان نبيه وأنزل من وحيه، أو أراد بذلك قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} إلى قوله {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} وغيرها فدل الحديث على وجوب القصاص في السن وهو نص القرآن، وحكي الإجماع على ذلك، ولو كان كسرًا لا قلعًا إذا أمكن أن يعرف مقدرًا المكسور، ويمكن بأن تبرد سن الجاني إلى الحد الذاهب من سن المجني عليه، كما قال أحمد وغيره وحكي على أنه لا قصاص في العظم الذي يخاف منه الهلاك، وحكى الطحاوي الاتفاق على أنه لا قصاص في عظم الرأس، فيلحق به سائر العظام مما تعذر فيه المماثلة من الشجاج، كالهاشمة والمنقلة والمأمومة، والجروج كالجائفة، لعدم أمن الحيف والزيادة، لكن له أن يقتص موضحة ويأخذ أرش الزائد.

(4/267)


وسراية الجناية مضمونة في النفس فما دونها وسراية القود مهدورة قال الوزير: اتفقوا على أن الإمام إذا قطع يد السارق وسرى إلى نفسه فلا ضمان عليه، وقال مالك والشافعي وأحمد إذا قطع مستقص فسرى إلى نفسه فالسراية غير مضمونة، وإن جرحه فعفا المجروح فسرت الجناية إلى النفس فله تمام الدية، عند الجمهور، وسقط أرش ما جني عليه لعفوه عنه، وإن قال عفوت عن هذه الجناية فلا شيء له، بخلاف عفوت عن هذا الجرح.
(وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده (أن رجلاً طعن رجلا) أي ضربه ووخزه (بقرن) زيادة معروفة في رءوس بعض الحيوانات كالبقر (في ركبته) جرحه به (فجاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: أقدني) أي اقتص لي منه (فقال حتى تبرأ) أي من الجرح الذي حصل منه في ركبتك (فقال: أقدني فأقاده) لما عصاه في الأولى والثانية (ثم جاء إليه) أي المقتص (فقال يا رسول الله عرجت) أي من تلك الطعنة (فقال: قد نهيتك) أي تقاد حتى تبرأ (فعصيتني) واستعجلت (فأبعدك الله) دعاء عليه (وبطل عرجك) بلا مقابل (ثم نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقتص من جرح) مطلقًا (حتى يبرأ صاحبه، رواه أحمد) والدارقطني وله عن جابر أن رجلاًا جرح فأراد أن يستفيد فنهى - صلى الله عليه وسلم - أن يستفاد من الجارح حتى يبرأ المجروح.
واستدل بهما الجمهور على وجوب الانتظار حتى يبرأ

(4/268)


وللبيهقي تقاس الجراحات ثم يتأنى بها سنة ثم يقضى فيها بقدر ما انتهت إليه، والحديث وما في معناه يدل على تحريم الاقتصاص قبل الاندمال، لأن لفظ "ثم" يقتضي الترتيب، وروي أن رجلا طعن حسان بن ثابت فاجتمعت الأنصار ليأخذ لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - القصاص، فقال: انتظر حتى يبرأ صاحبكم ثم اقتص لكم، ومذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد وجوب الانتظار فلا يجوز أن يقتص من عضو وجرح قبل برئه، كما لا يجوز أن تطلب له دية لاحتمال السراية، وتقدم أنه إن اقتص قبل فسرايتها بعد هدر.

باب الديات
جمع دية مصدر مسمى بها المال المؤدى إلى المجني عليه أو وليه بسبب جناية، يقال وديت القتيل إذا أعطيت ديته، فكل من أتلف إنسانًا بمباشرة أو سبب لزمته ديته، فإن كانت عمدًا محضًا ففي مال الجاني حالة، وشبه العمد والخطأ على عاقلته.
(قال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً} لما ذكر تعالى تعمد القتل وأنه لا يقتل مؤمن مؤمنًا إلا خطأ ذكر الخطأ وما يجب فيه فقال: (ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة) أي فعليه إعتاق رقبة مؤمنة كفارة وهو إجماع، وكذا تجب في شبه العمد عند الجمهور. {وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ} كاملة {إِلَى أَهْلِهِ} أي إلى أهل القتيل الذين يرثونه، فأوجب تعالى في قتل الخطأ هذين الواجبين أحدهما

(4/269)


الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم وإن كان خطأ أو شبه عمد، ومن شرطها أن تكون الكفارة عتق رقبة مؤمنة فلا تجزئ الكافرة ويجزئ عند الجمهور المسلم صغيرًا كان أو كبيرًا، والواجب الثاني الدية على أهل المقتول عوضًا لهم عما فاتهم من قتيلهم وهذه إنما تجب أخماسًا على عاقلة القاتل.
قال الشافعي وغيره، لا نعلم خلافًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدية على العاقلة وهو أكثر من حديث الخاصة، ثم قال تعالى: {إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا} أي إلا أن يتصدقوا بالدية فيعفوا ويتركوا الدية {فَإِنْ كَانَ} أي القتيل {مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ} أي في دار الحرب منفردًا مع الكفار {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وقاتله لم يعلم بإسلامه فلا دية عليه، وعليه ما قال الله فيه {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} أي إذا كان القتيل مؤمنًا ولكن أولياؤه من الكفار أهل حرب فلا دية لهم، وعلى القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير، ولا نزاع في ذلك، وكذا إن كان القتل شبه عمد لا عمدًا محضًا، فلا كفارة كما يأتي {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} أي فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} أي فلهم دية قتيلهم كاملة، وقيل وإن كان كافرًا والجمهور أنه إنما يجب في الكافر نصف دية المسلم.
{وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} سواء كان المقتول مسلمًا أو معاهدًا، رجلاً كان أو امرأة حرًا كان أو عبدًا، وسواء كان القتل مباشرة أو تسببًا وسواء انفرد بالقتل أو شارك فيه، فعليه

(4/270)


الكفارة قال الموفق هذا قول أكثر أهل العلم وأما القن فيكفر بصوم {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} أي لا إفطار بينهما بل يسرد صومهما كما تقدم في كفارة الظهار.
قال الوزير وغيره: اتفقوا على أن كفارة القتل الخطأ عتق رقبة مؤمنة فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين اهـ وإن أفطر من غير عذر استأنف (توبة من الله) أي هذه جعلت توبة للقاتل خطأ يعتق رقبة مؤمنة، فإذا لم يجد صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع الصوم أطعم ككفارة ظهار} {وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا} بمن قتل خطأ {حَكِيمًا} فيما حكم به عليكم.
فدلت الآية على وجوب عتق رقبة مؤمنة وأنه إن كان واجدًا للرقبة أو قادرًا على تحصيلها بوجود ثمنها فاضلاً عن نفقته ونفقة عياله، وحاجته عن مسكن ونحوه، عند جمهور العلماء، فعليه الإعتاق ولا يجوز أن ينتقل إلى الصوم، ولا يجزئ عنه، فإن عجز عن تحصيل الرقبة فعليه صوم شهرين متتابعين فإن أفطر يومًا متعمدًا أو ناسيًا أو نوى صومًا آخر وجب عليه استئناف الشهرين، وإن فصل يومًا فأكثر بعذر مرض أو سفر أو حاضت أو نفست ونحو ذلك أو تخلله يوم عيد أو أيام تشريق لم ينقطع التتابع فإن عجز عن الصوم أطعم ستين مسكينًا وهو قول أكثر أهل العلم، وإنما لم يذكر ههنا لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير، فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص، وقيس على الظهار وغيره.

(4/271)


والكفارة على من قتل حرًا مسلمًا خطأ أو مباشرة أو تسببًا، لا عمدًا عدوانًا فلا كفارة لقوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} قال الشيخ: لا كفارة في قتل العمد، ولا في اليمين الغموس، وليس ذلك تخفيفًا عن مرتكبها.
(وعن عمرو بن الأحوص) الجشمي من حشم بن سعد رضي الله عنه، كان شهد حجة الوداع مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروى الحديث (مرفوعًا) إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا يجني جان إلا على نفسه» لأن موجب الجناية أثر فعله فوجب أن يختص بضررها «لا يجني والد على ولده» أي لا يؤاخذ بجنايته «ولا مولود على والده» أي لا يؤاخذ بجنايته، رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم و (صححه الترمذي) ولأحمد وابن ماجه من حديث الخشخاش العنبري قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعي ابن لي، فقال «ابنك هذا» فقلت نعم قال: «لا يجني عليك ولا تجني عليه» ونحوه عند أحمد وأبي داود من حديث أبي رمثة، ولأحمد والنسائي عن رجل من بني يربوع وفي حديثه لا تجني نفس على نفس، وللنسائي عن ابن مسعود يرفعه «لا يؤخذ الرجل بجريرة أبيه ولا بجريرة أخيه» وقال تعالى: {لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} والمراد والله أعلم جناية العمد، ويأتي أن العاقلة لا تحمله.
وأما ضمان العاقلة لجناية الخطأ فحكى الحافظ وغيره الإجماع على ذلك، وأنها مخصصة بأحاديث وآثار من عموم هذه

(4/272)


الآية، والأخبار، وحكى أن الأب والابن لا يحملان في الخطأ، وقال الشيخ: أبو الرجل وابنه من عاقلته عند جمهور العلماء كأبي حنيفة ومالك وأحمد في أظهر الروايتين عنه.
(وعن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال اقتتلت امرأتان) من هذيل وكانتا ضرتين تحت حمل بن النابغة الهُذلي (رمت إحداهما الأخرى بحجر) فأصاب بطنها وهي حامل (فقتلتها) وفي رواية فضربت الهذلية بطن العامرية فقتلتها (وما في بطنها) وفي رواية وجنينها (فقضى - صلى الله عليه وسلم - في جنينها بغرة) الجنين هو حمل المرأة ما دام في بطنها سمي بذلك لاستتاره فإن خرج حيًا فهو ولد وإلا فسقط، والغرة أصلا البياض في وجه الفرس، قال الجوهري: كأنه عبر بالغرة عن الجسم كله كما قالوا: اعتق رقبة، وفي لفظ "عبد أو أمة" والجمهور أن أقل ما يجزئ من العبد والأمة ما سلم من العيوب التي يثبت بها الرد في البيع، لأن المعيب ليس من الخيار، وقيل قيمتها خمس من الإبل إن كان حرًا مسلمًا وإن كان مملوكًا فعشر قيمة أمه، وإن سقط حيًا فدية كاملة.
(وبدية المرأة على عاقلتها) أي قرابتها من قبل الأب وهم عصبتها وهم الذين كانوا يعقلون الإبل على باب ولي المقتول (متفق عليه) فدل الحديث على أن دية الخطأ على العاقلة،
وأجمع العلماء على ذلك حكاه الحافظ وغيره وحكاه الوزير وابن رشد اتفاقًا، وقال ابن القيم: إنما تحمل الخطأ لا العمد بلا نزاع، وفي شبه العمد نزاع الأظهر أنها

(4/273)


لا تحمله وليس كالعمد، فإن العامد ظالم مستحق للعقوبة، والخطأ يعذر فيه الإنسان فإيجاب الدية في ماله ضرر عظيم به، من غير ذنب تعمده، ولا بد من إيجاب بدل المقتول، فالشارع أوجب على من عليهم موالاة القاتل ونصرته أن يعينوه على ذلك، فكان كإيجاب النفقات وفكاك الأسير اهـ.
وخصصت عموم قوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} وأخبار: «لا يجني جانٍ إلا على نفسه» لما في ذلك من المصلحة لأن القاتل لو أخذ بالدية لأوشك أن تأتي على جميع ماله، لأن تتابع الخطأ لا يؤمن، ولو ترك بغير تغريم لأهدر دم المقتول، وجمهور العلماء على أن عاقلة الرجل عشيرته، وقال الشافعي لا أعلم إلا أنهم عصبته، وهم القرابة من قبل الأب، وفسر بالأقرب فالأقرب، فيبدأ بفخذه الأدنى فإن عجزوا ضم إليهم الأقرب فالأقرب، المكلف الذكر الحر من عصبة النسب، ثم السبب، ثم في بيت المال، وفرضها عمر في ثلاث سنين.
وقال الترمذي: أجمع أهل العلم على أن الدية تؤخذ في ثلاث سنين، في كل سنة ثلث الدية، وإن أدب الرجل ولده أو سلطان رعيته، أو معلم صبيه ولم يسرف لم يضمن ما تلف به، لأنه فعل ما له فعله شرعًا ولم يتعد فيه، وإن أسرف أو زاد على ما يحصل به المقصود أو ضرب من لا عقل له من صبي أو غيره ضمن لتعديه، وإن أمر شخصًا مكلفًا أن ينزل بئرًا أو يصعد شجرة ونحو ذلك فهلك به لم يضمنه، كما لو استأجره لذلك.

(4/274)


فصل في أصول الدية
الأصول جمع أصل والأصل الأساس أي هذا فصل في بيان أصول دية النفس ومقاديرها بالإسلام والحرية والذكورة وضدها وكونه موجودًا للعيان أو جنينًا وغير ذلك.
(وفي كتاب عمرو بن حزم) الذي كتبه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل اليمن (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في النفس الدية) أي المقتولة عمدًا وآل الأمر إلى الدية، أو خطأ والمقتول مسلم حر ذكر ففيه (مائة من الإبل) وقال الوزير. اتفقوا على أن دية المسلم مائة من الإبل في مال القاتل العامد إذا آل إلى الدية، وقال الموفق: لا نعلم فيه خلافًا وعلى العاقلة في الخطأ إجماعًا وشبه العمد عند الجمهور (وعلى أهل الذهب ألف مثقال) فهو نوع من أنواع الدية الشرعية قال أحمد، وأبو حنيفة وغيرهما في الدراهم والدنانير هي مقدرة يجوز أخذها مع وجود الإبل.
والحديث رواه أهل السنن وغيرهم من طرق و (صححه أحمد) وابن حبان والحاكم والبيهقي، وصححه أيضًا من حيث الشهرة الشافعي وجماعة من الأئمة، وقال لم يقبلوا هذا الحديث حتى ثبت عندهم أنه كتاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال ابن عبد البر: هذا كتاب مشهور عند أهل السير معروف ما فيه عند أهل العلم، يستغنى بشهرته عن الإسناد لأنه أشبه المتواتر في مجيئه، لتلقي الناس له بالقبول والمعرفة، وقال العقيلي: هذا حديث

(4/275)


ثابت معروف محفوظ، وقال يعقوب بن سفيان: لا أعلم في جميع الكتب المنقولة كتابًا أصح من كتاب ابن حزم هذا فإن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتابعين يرجعون إليه، وقال الحاكم شهد له عمر بن عبد العزيز بالصحة، وهذا قطعة منه، وتقدم بعضه، ويأتي بقيته إن شاء الله تعالى.
(وعن جابر) رضي الله عنه (فرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الدية على أهل الإبل مائة من الإبل) ولا نزاع في ذلك (وعلى أهل البقر مائتي بقرة وعلى أهل الشاء ألفي شاة) عند جمهور العلماء (رواه أبو داود وغيره) من طريق ابن إسحاق وفيه: وعلى أهل الحلل مائتي حلة، وفي السنن من حديث عمرو بن شعيب مرفوعًا «قضى أن من كان عقله في البقر على أهل البقر مائتي بقرة، ومن كان عقله في الشاء ألفي شاة» ولأبي داود فرض عمر على أهل الذهب ألف دينار. وعلى أهل الورق إثني عشر ألفًا، وعلى أهل البقر مائتي بقرة، وعلى أهل الشاء ألفي شاة، وعلى أهل الحلل مائتي حلة، واستدل بعض أهل العلم بهذه على أنها أصول، وقال أحمد البقر والغنم أصلان مقدران على من لزمته الدية، وهو مذهب فقهاء المدينة.
(وفي السنن عن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال: قتل رجل على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل ديته اثني عشر ألف درهم) وعليه فهو أصل، وقال بعضهم تقويم، وروي مرسلاً وجاء عن عمر أنه لما غلت الإبل قدرها بذلك، ومذهب مالك

(4/276)


والشافعي وأحمد أن مبلغ الدية من الدراهم اثنا عشر ألف درهم، ودلت هذه الأحاديث وما في معناها على تسهيل الأمر، وأنه ليس يجب على من لزمته الدية إلا من النوع الذي يجده ويعتاد التعامل به في ناحيته، والحاصل أن أصول الدية عند بعض أهل العلم مائة من الإبل أو ألف مثقال ذهبًا أو اثنا عشر ألف درهم فضة أو مائتا بقرة أو ألفا شاة أيها أحضر من تلزمه الدية لزم الولي قبوله، سواء كان ولي الجناية من أهل ذلك النوع أو لم يكن لأنه أتى بالأصل في قضاء الواجب عليه وهو مذهب مالك وأحمد.
وعن أحمد أصول الدية الإبل وهو مذهب أبي حنيفة ورأى عمر رضي الله عنه أن أصول الدية الإبل، ولما استخلف وغلت رفع قيمتها، ويؤيده ما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «دية النفس المؤمنة مائة من الإبل» واقتصر عليه فدل على أنه الأصل في الوجوب، ويؤيده أيضًا أنه - صلى الله عليه وسلم - فرق بين دية العمد، والخطأ فغلظ بها بعضها وخفف بعضها، ولا نزاع في ذلك إلا ما روي عن أبي ثور، والسنة تخالف قوله فلا يعول عليه، ولا يتحقق التغليظ في غير الإبل فكانت الأصل، وغيرها معتبر بها وقال أبو حنيفة والشافعي هي من الإبل للنص ومن النقدين تقويمًا وما سواهما صلح.
(ولهم) أي لأهل السنن الأربعة والبزار، والبيهقي والدارقطني وغيرهم (عن ابن مسعود) رضي الله عنه (مرفوعًا)

(4/277)


وموقوفًا والموقوف أشبه قال رضي الله عنه (دية الخطأ أخماس عشرون حقة وعشرون جذعة وعشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون بني لبون) قال ابن القيم روي من وجوه متعددة وذكر الاختلاف في الأسنان ثم قال: كل هذا يدل على أنه ليس في الأسنان شيء مقدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وذكر أقوال التابعين ثم قال: قول صحابي من فقهاء الصحابة أولى من قول التابعين اهـ.
وهذا مذهب جمهور العلماء مالك وأحمد والحنفية والشافعية، وهذه الدية مخففة، ولا تعتبر القيمة في الإبل ولا في البقر أو الشياه دية النقد لإطلاق الأحاديث في ذلك بل تعتبر فيها السلامة من العيوب، وتغلظ دية طرف وجرح كدية قتل لاتفاقهما في السبب، مثل أن يوضحه عمدًا أو شبه عمد فإنه يجب أرباعًا والخامس من أحد الأربعة وخطأ يجب من الأنواع الخمسة.
(وفيها) أي في السنن أيضًا (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال) وفي لفظ يوم الفتح على درجة الكعبة (ألا إن القتل الخطأ شبه العمد، قتيل السوط والعصا فيه مائة من الإبل منها أربعون في بطونها أولادها) فدل على تغليظ دية شبه العمد كالعمد، إذا آل إلى الدية وفي السنن أيضًا عن عبد الله بن عمرو نحوه، وعن عمرو بن شعيب مرفوعًا عقل شبه العمد مغلظ مثل عقل العمد ولا يقتل صاحبه، وذلك أن

(4/278)


ينزو الشيطان بين الناس فتكون دماء في غير ضغينة ولا حمل سلاح" رواه أبو داود وغيره وروى الزهري عن السائب بن يزيد قال: كانت الدية على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرباعًا، خمسًا وعشرين جذعة، وخمسًا وعشرين حقة خمسًا وعشرين بنت لبون وخمسًا وعشرين بنت مخاض، وهو مذهب الجمهور، ولا تغليظ في غير إبل بلا نزاع بين أهل العلم.
(وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه عن جده (مرفوعًا: من قتل متعمدًا) أي قتل مسلمًا متعمدًا (دفع إلى أولياء المقتول) وهو في الصحيح بلفظ "من قتل له قتيل فأهله بين خيرتين" وتقدم (فإن شاءوا قتلوا) يعني القاتل عمدًا (وإن شاءوا أخذوا الدية) وفصلها في هذه الرواية فقال: (وهي ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة) ولابن ماجه في بطونها أولادها (وما صولحوا عليه فهو لهم) وذلك لتشديد العقل، أي فلو صولحوا على أكثر مما ذكر فهو لهم (حسنه الترمذي).
فدلت هذه الأحاديث لجمهور العلماء أن القتل على ثلاثة أضرب عمدٌ وخطأٌ وشبهُ عمدٍ، وجعلوا في العمد القصاص ولا نزاع في ذلك، وفي الخطأ الدية كما تقدم، وفي شبه العمد وهو ما كان بما مثله لا يقتل في العادة كالعصا، والسوط، مع كونه قاصدًا للقتل دية مغلظة وهي مائة من الإبل، ولا تغليظ في غير إبل إجماعًا، وهو أحد المرجحات أن الإبل هي الأصل في الدية، وتقدم أن عمر رضي الله عنه رفع الدية لما غلت الإبل،

(4/279)


وهو مذهب الإمام أحمد ورواه أبو داود وغيره عن علي وابن عباس.
(وللخمسة) وصححه ابن خزيمة وابن القيم، وقال: احتج به الأئمة كلهم في الديات (عنه) أي عن عمرو بن شعيب عن أبيه، عن جده (مرفوعًا) عقل أهل الذمة، وفي لفظ "عقل أهل الكتاب" أي دية أحدهم إذا قتل، ذميًا كان أو معاهدًا أو مستأمنًا (نصف عقل المسلمين) أي نصف دية المسلمين سميت الدية عقلاً تسمية بالمصدر لأن الإبل تعقل بفناء ولي القتيل، وكذا جراحه بالنسبة من ديته لأن الجرح تابع للقتل، ودية المجوسي والوثني معاهدًا كان أو مستأمنًا ثمان مائة درهم كسائر المشركين، لما روي عن عمر، وعثمان وابن مسعود وغيرهم أنهم أفتوا به، وقال الموفق: لا نعلم لهم مخالفًا فكان إجماعًا وجراحة كل واحد منهم بالنسبة من ديته.
(وعقل المرأة مثل عقل الرجل) أي أرش المرأة يساوي أرش الرجل في الجراحات التي لا يبلغ أرشها إلى ثلث دية الرجل، وقال سعيد بن المسيب، إنه السنة (حتى تبلغ الثلث من ديتها) فدل على أن أرش المرأة في الجراحات يساوي أرش الرجل حتى يبلغ الثلث من ديتها، وما زاد يكون أرشها فيها كنصف أرش الرجل، وهذا مذهب مالك وأحمد والشافعي في قول، قال ابن القيم، خالف فيه أبو حنيفة والشافعي وجماعة، وقالوا هي على النصف في القليل والكثير، ولكن السنة أولى،

(4/280)


والفرق فيما دون الثلث وما زاد عليه: أن ما دونه قليل فجبرت مصيبة المرأة بمساواتها للرجل، ولهذا استوى الجنين الذكر ولأنثى في الدية لقلة ديته، وهي الغرة فنزل ما دون الثلث منزلة الجنين اهـ. وأما ما زاد على الثلث فهي على النصف لهذا الخبر، ولما في كتاب عمرو بن حزم "دية المرأة على النصف من دية الرجل" وحكي إجماعًا وقال الوزير: أجمعوا على أن دية المرأة الحرة في نفسها على النصف من دية الرجل الحر المسلم.
وقال ابن القيم: لما كانت المرأة أنقص من الرجل والرجل أنفع منها، ويسد ما لا تسده المرأة من المناصب الدينية والولايات وحفظ الثغور والجهاد، وعمارة الأرض، وعمل الصنائع التي لا تتم مصالح العالم إلا بها، والذب عن الدنيا والدين، لم تكن قيمتهما متساوية وهي الدية، فإن دية الحر جارية مجرى قيمة العبد وغيره من الأموال، فاقتضت حكمة الشارع أن جعل قيمتها على النصف من قيمته لتفاوت ما بينهما، وكذا نساء أهل الكتاب والمجوس وعبدة الأوثان وسائر المشركين على النصف من دية ذكرانهم كدية نساء المسلمين، عند جماهير العلماء الأئمة الأربعة وغيرهم، ويستوي الذكر والأنثى فيما دون ثلث الدية لما تقدم، وقال ابن عبد البر هذا قول فقهاء المدينة وهو مذهب مالك وأحمد وأحد قولي الشافعي.
ودية خنثى مشكل نصف دية كل منهما، ودية قن قيمته

(4/281)


عمدًا كان القتل أو خطأ، ذكرًا كان أو أنثى، صغيرًا كان أو كبيرًا قال الموفق: أجمع أهل العلم على أن في العبد الذي لا تبلغ قيمته دية الحر قيمته، فإن بلغت أو زادت فمذهب أحمد فيه قيمته بالغة ما بلغت اهـ وفي جراحه ما نقصه مطلقًا اختاره الشيخ وغيره.

فصل في دية الأعضاء
ودية منافعها والجروح وغيرها التالفة بالجناية عليها، فما في الإنسان منه شيء واحد ففيه الدية وكذا اثنان فأكثر، وقيل في الآدمي خمسة وأربعون عضوًا (وفي كتاب عمرو بن حزم) الذي تقدم التنويه به، يعني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية» أي قطع جميعها فتجب فيه الدية كاملة أما إن استؤصل من أصل القصبة فحكي إجماعًا، قال الوزير: أجمعوا يعني الأئمة الأربعة على أن في الأنف إذا استوعب جدعه الدية، وفي المنخرين ثلثا الدية وفي الحاجز بينهما ثلثها اهـ، أي ثلث ديته إن كان حرًا مسلمًا أو حرة مسلمة فديتها وهكذا على ما يأتي.
وتجب الدية في الأنف ولو من أخشم أو مع عوجه، حكاه الوزير وغيره إجماعًا (وفي اللسان الدية) أي إذا قطع جميعه من أصله أو ما يمنع منه الكلام إجماعًا وكذا إن جنى على ما أبطل كلامه ففيه الدية، وإن أبطل بعضه فحصته وفي لسان

(4/282)


الأخرس حكومة، إذا لم يذهب الذوق بقطعه (وفي الشفتين) إذا أتلفهما (الدية) وهو مذهب جمهور العلماء وحكي إجماعًا وحد الشفتين من تحت المنخرين إلى منتهى الشدقين في عرض
الوجه.
(وفي الذكر) إذا قطع من أصله (الدية) بلا نزاع سواء كان من صغير أو كبير، وكذا إن قطع نصفه بالطول ففيه الدية كاملة لأنه ذهب بمنفعة الجماع، وصوبه في الإنصاف، وأما ذكر العنين والخصي فمذهب الجمهور أن فيه حكومة.
(وفي البيضتين الدية) وفي رواية "وفي الأنثيين الدية" وحكي إجماعًا ومعناهما واحد كما في الصحاح وغيره، وفي كل واحدة نصف الدية، وهو مذهب الجمهور، وفيه «وفي العينين الدية» ولا نزاع في ذلك، وفي اليدين الدية، وفي الرجلين الدية وفي كل عين نصف الدية، وفي اليد الواحدة نصف الدية، وفي الرجل الواحدة نصف الدية وفي الأجفان الأربعة الدية إجماعًا وفي كل جفن ربعها، وفي الأذنين الدية، وفي أشراف الأذنين وهو الجلد القائم بين العذار والبياض الذي حولها الدية اتفاقًا وفي اللحيين الدية، وفي ثديي المرأة الدية، وفي ثندوءتي الرجل الدية، وفي الإليتين الدية، وفي إسكتي المرأة الدية، حكاه ابن رشد قول الجمهور، والوزير إجماعًا وفي أحدها نصف الدية.

(4/283)


(وفي الصلب الدية) وحكي إجماعًا والصلب بالضم عظم من لدن الكاهل إلى العجب، وقيل إنه المنحدر من الدماغ لما روي عن علي أنه قال: في الصلب الدية إذا منع من الجماع، فيعتبر مع كسر المتن الإفضاء إلى منع الجماع، لا مجرد الكسر مع إمكان الجماع، وكسر الصلب هو الخامس مما في الإنسان منه شيء واحد تجب فيه الدية، لأن في إذهاب أحد الخمسة إذهاب منفعة الجنس وإذهابها كالنفس فوجبت دية النفس.
(وفي الجائفة ثلث الدية) وهي الطعنة التي تبلغ الجوف أو تنفذه والجوف البطن من ثغرة النحر إلى المثانة حكاه أهل اللغة، وحكى ابن رشد الإجماع على ذلك، وفي الدامغة ثلث الدية، وهي أبلغ من المأمومة، والمأمومة فيها ثلث الدية، وحكاه الوزير إجماعًا فيهما (وفي المنقلة خمسة عشر من الإبل) إجماعًا والمنقلة الشجة التي تنقل العظام وتخرجها من أماكنها، ودونها الهاشمة وفيها عشر من الإبل، وهو مذهب جمهور العلماء أبي حنيفة والشافعي وأحمد وبعض أصحاب مالك، وروي عن زيد بن ثابت.
(وفي كل أصبع من أصابع اليد والرجل عشر من الإبل) ونحوه من حديث عمرو بن شعيب وغيره، وهذا مذهب جمهور العلماء، ويأتي أنها سواء، وفي كل أنملة ثلث عشر الدية، والإبهام مفصلان، وفيهما عشر الدية، وفي كل مفصل منها

(4/284)


نصف عشرها، وفي أصابع اليدين الدية، وفي أصابع الرجلين الدية إجماعًا.
(وفي السن خمس من الإبل) ونحوه من حديث عمرو بن شعيب وغيره، ولا فرق بين الثنايا والأنياب والأضراس لأنه يصدق على كل منها أنه سن وهذا مذهب جمهور العلماء، وسواء كان سن كبير أو صغير ولم يعد أو عاد أسود أو أبيض ثم أسود بلا علة.
(وفي الموضحة خمس من الإبل) وهي التي توضح العظم وتكشفه بلا هشم وتبرزه، وللخمسة من حديث عمرو ابن شعيب نحوه، والمراد موضحة الرأس والوجه دون ما عداهما من البدن، وللبيهقي عن أبي بكر وعمر قالا في الموضحة في الوجه والرأس سواء خمس خمس، وهو مذهب جمهور الصحابة وغيرهم من أهل العلم، وحكاه ابن رشد عن جميع الفقهاء.
(صححه أحمد) وغيره وتقدم قريبًا ذكر اشتهاره عند أهل العلم.
والحديث دليل على وجوب الدية أو بعضها فيما تقدم، ووجوب الأرش في الموضحة إذا وقعت خطأ أو عفي عن القود فيها وأن أرشها خمس من الإبل، وأن الإبل: أصل الدية كما تقدم، ويلي الموضحة السمحاق بينها وبين العظم قشرة، ثم المتلاحمة الغائصة في اللحم، ودونها الباضعة الشاقة للحم، ودون الباضعة البازلة الدامية، ودون البازلة الحارصة قال

(4/285)


الوزير وغيره: هذه الخمس ليس فيها تقدير شرعي بإجماع الأئمة الأربعة.
إلا ما روي عن أحمد من أنه ذهب إلى حكم زيد في ذلك، وهو أن زيدًا حكم في البازلة ببعير، وفي الباضعة ببعيرين وفي المتلاحمة بثلاثة، وفي السمحاق بأربعة، قال أحمد: فأنا أذهب إليه، وأجمعوا على أن في كل واحدة منها حكومة بعد الإندمال وكذا حكاه ابن رشد قال: وذلك لأن الأصل في الجراح الحكومة إلا ما وقتت فيه السنة حدًا والحكومة أن يقوم المجني عليه قبل الجناية كأنه كان عبدًا ويقال كم قيمته قبل الجناية وكم قيمته بعدها، فيكون بقدر التفاوت من ديته.
(وله) أي لأحمد في مسنده وأبي داود في سننه وابن ماجه والبيهقي وغيرهم (عن عمرو بن شعيب) عن أبيه، عن جده (قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما إذا جدعت أرنبة الأنف) ولفظ أبي داود ثندوته، وهي الغضروف الذي يجمع المنخرين، وفي القاموس وغيره أن الأرنبة طرف الأنف، وفي النهاية الثندوة ورثة الأنف، وهي طرفه ومقدمه، وفيها (نصف العقل) أي نصف الدية، ولأبي داود والبيهقي "خمسون من الإبل أو عدلها من الذهب والورق، أو مائة بقرة أو ألف شاة" وإن أوعب جدع الأنف فتقدم أن فيه الدية كاملة، وفي المنخرين ثلثًا الدية، وفي
الحاجز ثلثها.

(4/286)


(وفي العين نصف العقل) ولا خلاف في ذلك، ومذهب الحنفية والشافعية، وإن كانت عين أعور، وقضى عمر وعثمان وعلي وابن عمر فيها بدية كاملة لعماه بذهابها وأنه لا يقتص منه، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة، وهو مذهب مالك وأحمد، لأن القصاص يفضي إلى استيفاء جميع البصر من الأعور، وهو إنما أذهب بصر عين واحدة، وإن كان خطأ فنصف الدية، وإن قلع الصحيح عين الأعور، أقيد بشرطه وعليه نصف الدية (و) في (اليد نصف العقل) وفيه: وفي الرجل نصف العقل إذا قطعت من مفصل الساق وفي المأمومة ثلث العقل، وهي الجائفة التي تبلغ أم الرأس وهي الدماغ، أو تبلغ الجلدة الرقيقة عليها، وفي الجائفة مثل ذلك، وهي الطعنة تبلغ الجوف، وفي الأصابع في كل إصبع عشر من الإبل، كما تقدم في حديث عمرو بن
حزم.
(وعن ابن عباس) رضي الله عنهما (مرفوعًا) أي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (هذه وهذه سواء يعني الخنصر والإبهام) في الخنصر عشر والإبهام عشر (رواه البخاري) وأهل السنن وغيرهم، فدل على استوائهما في أرش الجناية عليهما عمدًا إن آل إلى الدية، أو شبه عمد أو خطأ (ودية أصابع اليدين والرجلين سواء) عشر من الإبل لكل أصبع (صححه الترمذي) فدل على استوائها في أرش الجناية.
و (لأبي داود) وابن ماجه (عنه مرفوعًا: الأسنان سواء الثنية

(4/287)


والضرس) فدل أيضًا على استوائها، وفي السنن من حديث عمرو بن شعيب "الأصابع سواء، والأسنان سواء" وهذا ونحوه نص صحيح صريح يرد القول بالتفاضل بين الأصابع والأسنان، ولا خلاف في ذلك عن السلف إلا ما روي عن عمر وروي عنه الرجوع عنه، وفي كل أنملة من أصابع اليدين والرجلين ثلث عشر الدية، لأن في كل إصبع ثلاث مفاصل، والإبهام فيها مفصلان فتقسم دية الإصبع عليهما.
(وعن عمرو بن شعيب) عن أبيه، عن جده أنه قال (قضى) النبي - صلى الله عليه وسلم - في العين العوراء السادة لمكانها) أي التي هي باقية لم يذهب إلا نورها (إذا طمست) أي ذهب جرمها (بثلث ديتها) لأنها كانت بعد ذهاب بصرها باقية الجمال، فإذا قلعت أو فقئت ذهب ذلك.
(وفي اليد الشلاء) أي التي لا نفع فيها (إذا قطعت بثلث ديتها) لذهاب الجمال بها (وفي السن السوداء إذا نزعت) أي قلعت (بثلث ديتها) لأن نفع السن السوداء باق، وإنما ذهب منها مجرد الجمال، فذهاب الجمال كذهاب النفع (رواه النسائي) ورواه أبو داود ورجال إسناد إلى عمرو ثقات.
(ولأحمد) وابن أبي شيبة وغيرهما (أن عمر) رضي الله عنه (قضى في رجل ضرب رجلاً فذهب سمعه وبصره ونكاحه وعقله بأربع ديات) فدل على أن في كل منفعة من هذه المنافع

(4/288)


ونحوها الدية، مفردة كانت أو معها غيرها، ولأن كلا منها مختص بنفع أشبه السمع المجمع عليه وروي نحوه مرفوعًا وموقوفًا، وحكي أنه لم ينكره أحد من الصحابة، فكان إجماعًا، وحيث ورد النص بإيجاب الدية في بعض الحواس الخمس الظاهرة، يقاس عليه ما لم يرد فيها.
(وقضى) يعني عمر رضي الله عنه (في السمع الدية) ولا نزاع في ذلك وحكى الإجماع عليه غير واحد، ورواه البيهقي عن علي، وفي التلخيص، وفي حديث معاذ في السمع الدية، وقال الوزير: أجمعوا على أن في ذهاب السمع الدية (و) قضى (في المشام الدية) لأنه حاسة يختص بمنفعة فكان في ذهابه الدية ولا خلاف في ذلك، وفي منفعة المشي الدية، وفي منفعة الأكل الدية وفي منفعة النكاح الدية، وفي عدم استمساك البول الدية، وفي عدم استمساك الغائط الدية لأن في كل واحد من هذه الأشياء منفعة كبيرة ليس في البدن مثلها كالسمع والبصر وفي ذهاب بعض ذلك إذا علم بقدره.
ويجب في كل واحد من الشعور الأربعة الدية، شعر الرأس أو اللحية أو الحاجبين أو أهداب العينين، كما روي عن علي وزيد وغيرهما، ولأنه إذهاب جمال على الكمال فإن عاد فنبت سقط موجبه (و) قضى (في الإفضاء بثلث الدية) وهو خرق بين مخرج البول والمني أو ما بين السبيلين وإن لم يستمسك البول فدية كاملة إن كانت ممن لا يوطأ مثلها (و) قضى (في الضلع)

(4/289)


إذا جبر كما كان (و) قضى في (الترقوة) وهو العظم المستدير حول العنق (جمل جمل) أي في الضلع جمل وفي الترقوة جمل، ولكل إنسان ترقوتان.
(و) قضى (في الزند) إذا جبر مستقيمًا (بعيران) ولم يظهر له مخالف من الصحابة فكان إجماعًا رواه البيهقي وسعيد وغيرهما، وكذا في الفخذ والساق بعيران، وإن انجبر غير مستقيم فحكومة، وتقدمت صفتها، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد، وما عذا ذلك من الجراح وكسر العظام
فحكومة، قال الموفق: لا نعلم فيه مخالفًا، لأن التقدير إنما يكون بتوقيف أو قياس صحيح، وحيث، وجب بعير أو بعيران فيجوز دفع قدره من غيره من بقية الأصول المتقدم ذكرها على ما تقدم.
(وروي عن ابن عباس) رضي الله عنهما (مرفوعًا) ورواه أحمد والبيهقي موقوفًا وهو المشهور (لا تحمل العاقلة عمدًا) محضًا لا شبهة فيه ولو لم يجب به قصاص كجائفة ومأمومة لأن العامد غير معذور، وقال الزهري: مضت السنة أن العاقلة لا تحمل شيئا من دية العمد إلا أن يشاءوا، رواه مالك وحكاه أبو الزناد عن فقهاء المدينة، وقال ابن القيم: بلا نزاع وجاءت الأحاديث بحملها الخطأ ومفهومها عدم حمل العمد، ومفهوم هذا الأثر حملها الخطأ، ومذهب أحمد وغيره أن جناية العمد على

(4/290)


نفس الجاني لما تقدم مضمونة على عاقلته وأن دية العمد حالة إلا أن يصطلحا على التأجيل.
وأجمعوا على أن دية الخطأ مؤجلة على العاقلة، والجمهور في ثلاث سنين، وروي مرفوعًا وحكي إجماع الصحابة، وقال الشافعي: لا أعلم خلافًا أنه - صلى الله عليه وسلم - قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين، ونقل الإجماع الترمذي وابن المنذر، والاتفاق الوزير وابن رشد، وتقدم أن عاقلة الإنسان عصباته من النسب والولاء، قريبهم كالإخوة وبعيدهم كابن ابن عم جد الجاني حتى عمودي نسبه، وإن اتسعت أموال الأقربين لم يتجاوزوهم، وإن لم يتسعوا دخل من هو أبعد منهم، وهكذا حتى يدخل فيهم أبعدهم درجة على حسب الميراث، ولا عقل على رقيق، ولا غير مكلف ولا فقير يعجز عنها، وتؤخذ من بيت المال، وقال الشيخ: تؤخذ من الجاني خطأ عند تعذر العاقلة في أصح قولي العلماء.
و (لا عبدًا) أي قيمة عبد قتله الجاني أو قطع طرفه، قال ابن القيم: لأنه سلعة من السلع ومال من الأموال (ولا صلحًا) أي ولا تحمل صلحًا عن إنكار لأنه إنما يثبت بفعله واختياره فلم تحمله (ولا اعترافًا) أي ولا تحمل اعترافًا لم تصدق به، وكذا لا تحمل إقرارًا، ونحوه عند الدارقطني وغيره عن عمر ولا مخالف لهما من الصحابة فكان إجماعًا. قال ابن القيم: فإن الجاني ظالم مستحق للعقوبة ليس أهلاً أن يحمل عنه بدل القتيل، وبخلاف

(4/291)


شبه العمد لأنه قاصد للجناية متعمد لها فهو آثم معتد، ولا ريب أن من أتلف مضمونا كان ضمانه عليه {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ولا تؤخذ النفس بجريرة غيرها، وبهذا جاء شرع الله وجزاؤه، وقال في الاعتراف: وذلك أن المدعي والمدعى عليه قد يتواطآن على الإقرار بالجناية، ويشتركان فيما تحمله العاقلة، ويتصالحان على تغريم العاقلة، فلا يسري إقراره ولا صلحه فلا يجوز إقراره في حق العاقلة، لا يقبل قوله فيما يجب عليها من الغرامة.
(وقال عمر) رضي الله عنه (لا تحمل) يعني العاقلة (شيئًا) أي مما دون ثلث دية ذكر حر مسلم (حتى يبلغ عقل المأمومة) أي ونحوها مما فيه ثلث الدية فأكثر، لأن ما دونها خفيف لقلته واحتمال الجاني حمله، فلا يجحف به ولأنه موجب جنايته، فكان عليه كسائر الجنايات وإنما خولف في الثلث تخفيفًا عليه، وهذا مذهب أحمد ومالك.
(إلا غرة جنين) أي إلا أرش غرة الجنين وهو حمل المرأة ما دام في بطن أمه (مات بعد أمه) بجناية واحدة فتحملها العاقلة.
(أو معها بجناية واحدة) أي أو إلا غرة جنين مات مع أمه بجناية واحدة فتحملها العاقلة لأن الجناية واحدة فتبعها ما زيادتها على الثلث كالدية الواحدة لا إن مات قبلها فلا تحملها العاقلة لنقصه عن الثلث ولا تبعية لموته قبلها.

(4/292)


قال الشيخ: وإسقاط الحمل حرام بإجماع المسلمين ولو عاندت فأسقطت جنينها وجب عليها غرة لورثتها غير أمه.

باب القسامة
بفتح القاف وتخفيف السين، وهي لغة: اسم القسم أقيم مقام المصدر من قولهم أقسم إقسامًا وقسامة، وأيضًا عند أهل اللغة اسم للحالفين، وشرعًا أيمان مكررة في دعوى قتل معصوم، ودلت السنة على مشروعيتها وأنها أصل مستقل، وهو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين، وقال الوزير: اتفقوا على أن القسامة مشروعة في الوقت إذا وجدوا القتيل ولم يعلم قاتله.
(روى مسلم) في صحيحه (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقرَّ القسامة على ما كانت عليه) يعني القسامة (في الجاهلية) قال ابن عباس: أول قسامة كانت فينا بني هاشم رجل منا قتله رجل من قريش فقال أبو طالب: إن شئت أن تؤدي مائة من الإبل أو يحلف خمسون من قومك، وإلا قتلناك به، فحلفوا إلخ، (وقضى) أي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (بها) أي بالقسامة (بين ناس من الأنصار في قتيل ادعوه على اليهود) وهذا على معين وهو قول الجمهور. فلا قسامة على مبهم، ولا في دعوى قطع طرف أو جرح ونحوهما، وللبيهقي عن أناس من الصحابة أن القسامة كانت في الجاهلية قسامة الدم فأقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما كانت عليه في الجاهلية

(4/293)


وقضى بها بين ناس من الأنصار من بني حارثة في قتيل ادعوه على اليهود.
(ولهما) أي البخاري ومسلم (عن سهل بن أبي حثمة) بن عامر بن ساعدة الأوسي الأنصاري، وفي رواية عن رجال من كبراء قومه (أن عبد الله بن سهل) بن زيد الأنصاري (ومحيصة بن مسعود) بن زيد بن كعب بن عامر الأوسي (خرجا إلى خيبر) وهو يومئذ صلح بعد فتحها في أصحاب لهما يمتارون تمرًا، وفي رواية هو وابن عم له، فتفرقا في خيبر (فأتى محيصة) بن مسعود بن زيد (إلى عبد الله بن سهل وهو يتشحط في دمه) أي يضطرب فيه "قتيلاً فدفنه ثم قدم المدينة، فانطلق عبد الرحمن بن سهل ومحيصة وحويصة ابنا مسعود إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا أحد ألفاظ الحديث (فأتى) محيصة (يهود فقال: أنتم قتلتموه) يعني عبد الله بن سهل (فقالوا: لا، فأقبل هو وأخوه حويصة) بن مسعود بن زيد (وعبد الرحمن بن سهل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) وتكلموا في أمر صاحبهم.
(فقال): (أتحلفون وتستحقون قاتلكم) أو صاحبكم في لفظ "دم صاحبكم" أمرهم أن يستوجبوا الحق الذي يدعونه على اليهود بأيمانهم، لأن اللوث وخمسين يمينًا بمنزلة الشهادة أو أقوى، وامتازت القسامة بكون الأيمان فيها خمسين تغليظًا لشأن الدم (وفي رواية: تأتون بالبينة) على من قتله (قالوا: ما لنا بينة) ولأبي داود "شاهدان يشهدان على قتل صاحبكم" والجمع بين

(4/294)


الروايتين أن هذه الرواية مشتملة على زيادة وهي طلب البينة أولاً ثم اليمين ثانيًا (فقال: أتحلفون) وذلك أن قاعدة الشرع أن تكون اليمين في جانب أقوى المتداعيين (فقالوا: وكيف نحلف) أي على قاتله (ولم نشهد ولم نر) وفي رواية ما شهدنا ولا حضرنا قدمهم لتقوية جانبهم باللوث.
(قال: فتبرئكم يهود) وفي رواية قال: فيحلفون يعني اليهود (بخمسين يمينًا) أي يخلصونكم عن الأيمان بأن يحلفوا خمسين يمينًا، لا قتلت ولا شاركت في قتله، ولا كنت سببًا في موته، ولا معينًا على موته، فإذا حلفوا انتهت الخصومة فلم يجب عليهم شيء (فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار) وفي رواية ما يبالون أن يقتلونا أجمعين ثم يحلفون.
(فوداه بمائة من الإبل) وفي رواية فكره أن يبطل دمه، وفي رواية: أن يطل دمه أي يهدر فوداه بمائة من الإبل أي من إبل الصدقة، وفي رواية فعقله أي أعطى ديته، وفي رواية: من عنده، أي من بيت المال المرصد للمصالح (متفق عليه) من وجوه بألفاظ، ورواه أهل السنن وغيرهم، وفي رواية متفق عليها "يقسم خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته" فقالوا: أمر لم نشهده كيف نحلف؟ قال: "فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم" الحديث، في الصحيحين "إما أن يدوا أو يأذنوا بحرب" وهو لا يعرض إلا ما كان شرعًا.
فدلت هذه الأحاديث على مشروعية القسامة، وأنها أصل

(4/295)


من أصول الشرع مستقل بنفسه، ولا نزاع في ذلك فتخصص به الأدلة العامة، وقال البيهقي: أصح ما روي بعد حديث سهل حديث خارجة بن زيد أنه قتل رجل من الأنصار وهو سكران رجلاً آخر من الأنصار من بني النجار في عهد معاوية ولم يكن شهادة إلا لطيخ وشبهة، فاجتمع رأي الناس على أن يحلف ولاة المقتول ثم يسلم إليهم فيقتلونه، قال فركبنا إلى معاوية فكتب إلى سعيد بن العاص، فقال: أنا منفذ كتاب أمير المؤمنين فأعدوا على بركة الله، فأسلمه بعد أن حلفنا عليه خمسين يمينًا وفي الناس يومئذ من الصحابة والفقهاء ما لا يحصى، فما اختلف اثنان منهم، وللبيهقي وغيره عن عمر في قتيل وجد بين وادعة وشاكر، فأمرهم أن يقيسوا ما بينهما فوجدوه إلى وادعة أقرب وقال: قضيت لكم بقضاء نبيكم - صلى الله عليه وسلم - ونحوه في رجل من
جهينة.
ودل قوله - صلى الله عليه وسلم - "فيدفع برمته" مع قوله "تستحقون" على وجوب القصاص بالقسامة، وهو قول الجمهور مالك وأحمد والشافعي في أحد قوليه، وأنها تكون على معين، قال الحافظ اتفقوا على أنها لا تجب بمجرد دعوى الأولياء حتى يقترن بها شبهة يغلب على الظن الحكم بها، وقال أحمد: أذهب إلى القسامة إذا كان ثم لطخ، وإذا كان ثم سبب بين، وإذا كان ثم عداوة وإذا كان مثل المدعي عليه يفعل هذا قال الشيخ: فذكر أربعة أمور اللطخ وهو التكلم في عرضه كالشهادة المردودة

(4/296)


والسبب البين كالتعرف عن قتيل، والعداوة وكون المطلوب من المعروفين بالقتل، وهذا هو الصواب.
فإذا كان ثم لوث يغلب على الظن أنه قتل من اتهم بقتله جاز لأولياء المقتول أن يحلفوا خمسين يمينًا ويستحقوا دمه، وقال ابن القيم: وهو من أحسن الاستشهاد فإنه اعتماد على ظاهر الإمارات المغلبة على الظن بصدق المدعي فيجوز له أن يحلف بناء على ذلك، ويجوز للحاكم بل يجب عليه أن يثبت حق القصاص. قال: وليس إعطاء بمجرد الدعوى، وإنما هو بالدليل الظاهر الذي يغلب على الظن صدقه، فوق تغليب الشاهدين وهو اللوث والعداوة والقرينة الظاهرة من وجود العدو مقتولاً في بيت عدوه، فقوى الشارع هذا السبب باستحلاف خمسين يمينًا من أولياء المقتول الذين يستحيل اتفاقهم كلهم على رمي البريء بدم ليس منه.
وإن نكلوا أو كانوا نساء حلف المدعي عليه خمسين يمينًا وبرئ إن رضي الورثة وإلا فداه الإمام اهـ، وإن نكل المدعي عليه القتل خطأ أو شبه عمد قضي عليه بالنكول، وكذا عمدًا لكن بالدية، وإذا ثبت اللوث فيشترط تكليف مدعى عليه القتل، وإمكان القتل منه، ووصف القتل في الدعوى، وطلب جميع الورثة، واتفاقهم على الدعوى، وعلى عين القاتل، وكون فيهم ذكور مكلفون، وكون الدعوى على واحد معين، ويقاد فيها إذا تمت هذه الشروط وشروط القود لما تقدم.

(4/297)