الإشراف
على مذاهب العلماء 45 - كتاب آداب
القضاء
أخبرنا أبو بكر محمد بن المنذر بن إبراهيم، قال الله جل ذكره: {يَا
دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ
النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ
اللَّهِ} الآية.
وقال الله جل ثناؤه: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا
الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ
تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} الآية.
1 - باب كراهية تقلد القضاء بين الناس
(ح 910) روينا عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: من جعل على القضاء
فكأنما ذبح بغير سكين.
(ح 911) وروينا عنه أنه قال: ما من حاكم يحكم الإجاء يوم القيامة، وملك آخذ
بقضاه، ثم رفع رأسه إلى السماء، فإن قال له ألقه ألقاه
(4/178)
في مهواة أربعين خريفاً.
(ح 912) وروينا عنه أنه قال: القضاة ثلاث قاضيان في النار، وقاض في الجنة،
فممن قضى بغير الحق وهو يعلم فذاك في النار، وقاض يقضى وهو لا يعلم وأهلك
حقوق الناس فذاك في النار، وقاض قضى بالحق فذاك في الجنة.
م 1983 - وروينا عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: لا ينبغي للرجل أن يكون
قاضياً حتى يكون فيه خمس خصال، فإن أحطت واحدة كانت فيه وصمة، فإن أحطته
اثنتان كانت فيه وصمتان، حتى يكون عالماً لما قبله مستشيراً لدى الرأس، ذو
نزهة عن الطمع، حليماً عن الخصم، محتملاً للأئمة.
2 - باب مواضع الأحكام وأمكنتها
قال أبو بكر: أحب أن يكون جلوس القاضي للقضاء في موضع متوسط
(4/179)
من المصر الذي يقضى فيه بين أهله ليكون ذلك
أرفق بالناس، وحيث قضى بالحق فقضاءه نافذ.
م 1984 - واختلفوا في القضاء في المسجد فممن كان يقضي في المسجد [1/ 192/ب]
شريح، والحسن البصري، والشعبي، ومحارب بن دثار، ويحيى بن آدم، وابن خلدة
قاضياً لعمر بن عبد العزيز، وابن أبي ليلى، وقال مالك: القضاء في المسجد من
أمر بالناس القديم، وبه قال أحمد، وإسحاق.
وكرهت طائفة القضاء في المسجد، وقالت: القاضي يحضر إليه الحائض، والذمي،
وتكثر الخصومات بحضرته، والمساجد تجتنب من ذلك، روى عن عمر بن عبد العزيز
أنه كتب إلى القاسم بن عبد الرحمن أن لا يقضي في المسجد، فإنه يأتيك
الحائض، والمشرك.
وقال الشافعي: أحب أن يقضى في غير المسجد لكثرة من يغشاه بغير ما بنيت له
المساجد.
م 1985 - واختلفوا في إقامة الحدود في المساجد، فروينا عن عمر بن الخطاب
أنه أتى برجل في شيء فقال: اخرجاه من المسجد فأضرباه، وعن علي أنه أتى
بسارق فقال: يا قنبر: أخرجه من المسجد واقطع يده.
وكره إقامة الحدود في المساجد عكرمة، والشعبي، والشافعي، وأحمد، وإسحاق،
وقال مسروق: إن المسجد لحرمة.
وفيه قول ثان: روينا عن الشعبي أنه أقام على رجل من أهل الذمة حداً في
المسجد.
وفيه قول ثالث: وهو أن الرخصة في الضرب بالأسواط اليسيرة في المسجد، فإذا
كثرت الحدود فلا، هذا قول مالك.
قال أبو بكر: أمر الله نبيه أن يحكم بين الناس، ولم يخص للحكم بينهم
(4/180)
مكاناً دون مكان فللحاكم أن يحكم بينهم إن
شاء في المسجد وإن شاء في منزله، وليس لأحد أن يمنع الحاكم من الحكم في
مكان دون مكان بغير حجة.
(ح 913) قد حكم النبي- صلى الله عليه وسلم - بين الملاعنين في المسجد.
(ح 914) وقضى في منزل أم سلمة بين الأنصاري، وبين اللذين دخلا عليه وهو
عندها، واختمصا إليه في أرض ورثاه عن أبيهما.
فأما الاعتلال من اعتل بحضور الكفار، والحائض مجلس الحكم، فلا نعلم حجة يجب
لها منع الكفار من الدخول في المساجد سوى مسجد الحرام.
(ح 915) وقد قدم وفد ثقيف على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فأنزلهم في
المسجد.
وليس في منع الحائض من دخول المسجد خبر يثبت، وقد حكم داؤد بني الله بين
الخصمين اللذين وعظ بهما في المحراب وهو المسجد، وهذا معروف في كل بلد أن
محاريبهم في مساجدهم.
(4/181)
3 - باب مجلس القاضي
وما يبدأ به عند جلوس الخصم بين يديه
قال أبو بكر: إذا دخل القاضي في المسجد، فليركع ركعتين عند دخوله المسجد
للقضاء أو يغره قبل أن يجلس، يدع الله عند فراغه منهما بالتوفيق، والعصمة،
والتسديد، ثم يجلس للحكم مستقبلاً للقبلة، ويسلم على القوم إذا صار إلى
مجلسه.
(ح 916) لقول النبي- صلى الله عليه وسلم - صلى الله [1/ 193/ألف] عليه
وسلم: يسلم القليل على الكثير.
وكذلك يفعل الخصمان إذا وصلا إليه إقتداء بأخبار رسول الله- صلى الله عليه
وسلم - خلاف ما يفعله العامة بالحكام و-برد السلام، ويجلس الخصمان بين
يديه، ويسوي بينهما في المجلس لا يرفع أحدهما على صاحبه.
م 1986 - وقد اختلف فيمن يقدم إذا أخفى عليه السابق منهم.
فقالت طائفة: يقرع بينهما فمن خرجت قرعته قدمه.
وأحسن من هذا أن يمد خيطاً يلي مجلسه أحد طرفي الخيط، ويلي الطرف ناحية
مجلس الخصوم، فكل من جاء كتب اسمه في رقع، وثبت الرقع، وأدخل الرقع في طرف
الخيط على هذا، حتى يأتي آخرهم، فإذا جلس القاضي مدّ يديه إلى الطرف الذي
يليه من الخيط، فتناول رقق، وأمر بأن يدعي صاحبها، فينظر في أمره، ثم لا
يزال كذلك حتى يأتي على آخر الرقاع، فإن كثرت الرقاع عليه، وزاد الوقت الذي
يقضى فيه، عرف
(4/182)
الطرف الذي كان يليه حيث جلس، فتناول في
المجلس [الثاني] (1)
الرقاع كفعله في المجلس الأول حتى تنفذ الرقاع.
م 1987 - وليس في الوقت الذي يقضي فيه القاضي سنة يعتمد عليها، والذي يجب
إذا حضر الخصوم أن ينظر بينهم، ولا يؤخر ذلك في أي وقت وافوه لينظر بينهم،
بلغني عن سوار بن عبد الله أنه كان يعقد للناس يومه كله.
4 - باب ما يبدأ به القاضي عند جلوس الخصوم عنده دماً يؤمر به من التسوية
بينهم
قال أبو بكر: إذا تقدم إلى القاضي الخصمان، تركهما ليتكلم المدعي منهما،
فإن جهلاً ذلك فلا بأس أن يقول: يتكلم المدعي منكما، ولا يدعهما جميعاً
يتكلمان، ولكن يبدأ المدعي فيتكلم فإذا فرغ من كلامه، تكلم المدعي عليه،
ويسوي بين الخصمين في جلوسهما بين يديه، والإقبال عليهما.
م 1988 - وروينا عن عمر بن الخطاب أنه كان فيما كتب به إلى أبي موسى
الأشعري: وسوّ بين الناس في مجلسك، ووجهك، وقضائك، حتى لا يطمع شريف في
حيفك، ولا ييئس ضعيف من عدلك.
وقد روينا عن علي، والعباس أنهما دخلا على عمر، حتى جلسا بين يديه، وكان
يرى أن يسوي بين الخصمين في المجلس، وبه قال الشافعي، والكوفي.
__________
(1) ما بين المعكوفين من الأوسط3/ 42/ب.
(4/183)
وليس لأحد أن يلي القضاء حتى يكون عالماً
بكتاب الله وسنن رسوله، عالماً بما اختلف فيه أصحاب رسول الله- صلى الله
عليه وسلم - ومن بعدهم، وبإجماع أهل العلم، واختلافهم، جيد العقل، أميناً،
فطناً، [1/ 193/ب] فإذا كان كذلك وتقلوا القضاء أمضى ما يرد عليه من
الأحكام، مما هو منصوص في الكتاب، والسنة، والإجماع، ودل عليه بعض ذلك،
فإذا ورد عليه مشكل من الأمر عنده، أحضر له أهل المعرفة بالكتاب، والسنة،
والإجماع، وسألهم عن ذلك، واستشارهم فيه. قال الله جل وعز: {وَشَاوِرْهُمْ
فِي الْأَمْرِ} الآية.
م 1989 - قال الحسن البصري في هذه الآية: قد علم الله أنه ليس به إليهم
حاجة، ولكن أراد أن يستن بعده، كان الثوري يقول: بلغني أنها تصفى العقل.
(ح 917) وقد سن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - الاستشارة في غير موضع،
استشار أصحابه عام الحديبية.
(ح 918) واستشار أبا بكر، وعمر في أسارى بدر.
روينا عن ابن سرين أنه قال: التثبت نصف القضاء، وقال الثوري: وليكن أهل
مشورتك أهل التقوى، وأهل الأمانة، ومن يخشى الله.
فإذا استشارهم فأشار أحدهم عليه برأيه، سأله من أين قاله؟ فإن
(4/184)
اختلفوا أخذ بأشبههم قولاً بكتاب الله، أو
سنة، أو إجماع، ولا يحكم بشيء حتى يتبين له حجة يجب أن يحكم الأولى يقلد
أحداً من أهل زمانه، ولا يحضى شيئاً حتى يتبين له الحق فيه، لا يسعه غير
ذلك.
5 - باب الأوقات التي يكره للقاضي أنا يقضي
فيها وغير ذلك
(ح 919) ثبت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحكم أحد بين
اثنين وهو غضبان".
م 1990 - وممن كره أن يقضي وهو غضبان شريح، وعمر بن عبد العزيز، والشافعي،
والكوفي، وروينا عن عمر بن الخطاب أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري: وإياك
والغضب، والقلق، والضجر، والتأذي بالناس، والتنكر عند الخصومة.
م 1991 - ومن الأحوال التي تكره أن يقضي القاضي فيه أن يكون جائعاً، وروينا
عن شريح أنه إذا غضب أو جاع قام، وروينا عن الشعبي أنه كان يأكل عند طلوع
الشمس، فقيل له: فقال: آخذ حلمي قبل أن أخرج إلى القضاء.
وقال مالك: لا يقضي وهو جائع.
وكان الشافعي يقول: "فإن كان إذا اشتكى، أو جاع، أو اهتم، أو حزن، أو بطر
فرحاً تغير لذلك، لم أحب له أن يقضى فيه،
(4/185)
ولا يقضي ناعساً، ولا مغمور القلب من هم،
ولا وجع يغير قلبه، وللقاضي أن يتخذ درة يؤدّب بها من استوجب الأدب، ويرهب
بها السفيه، والظالم".
م 1992 - وروينا عن عمر بن الخطاب أنه كانت له درة، وروينا عنه أنه كتب إلى
أبي موسى الأشعري: إذا رأيت الخصم يتعمداً الظلم فأوجع رأسه، وروينا عنه
أنه قال: لا تدعن فلاحاً عن القضاء [1/ 194/ألف] ولا تستعملن رجلاً إذا رآه
العاجز فرقه، وقد رأيت من يستحب أن يكون القائم على رأس القاضي خادماً يزجر
من أدخل النساء اللواتي يتقد من إلى القاضي.
6 - باب دعاء الخصم إلى القاضي
قال أبو بكر: وإذا ادعى الرجل على الرجل حقاً قبله، دعاه إلى القاضي، فإن
امتنع بعث القاضي بعض أعوانه ليدعوه، فإن امتنع وتوارى عنه، سأل الخصم عما
يدعي قبله، فإذا ادعى مالاً معلوماً، وأثبت عليه بنية عادلة، حكم له عليه
بذلك المال في مال إن كان للمدعي عليه يصل إليه الحاكم، ودفع المال إليه،
وإن لم يجد له مالاً ظاهراً يصل إليه، وثبتت البنية على أنه في منزله، فقد
اختلف أصحابنا فيما يفعله الحاكم في أمره، فمنهم من رأى أن لا يحج عليه،
ويختم على بابه، ويبعث إلى بابه رسولاً ومعه شاهدان، ينادي بحضرتها يا فلان
بن فلان، القاضي فلان بن فلان يأمرك بالحضور مع خصمك مجلس الحكم، فإن قبلت
وإلا لصبت لك وكيلاً،
(4/186)
وقبلت بنية عليك، يفعل ذلك ثلاث مرات، فإذا
فعل ذلك أقام له وكيلاً، وسمع من شهوداً المدعي، وأمضى الحكم عليه، إلى أن
يقدر على استخراج المال هذا قول يعقوب.
وكان أحمد ينكر الهجم، ويقول: لا يهجم عليه وشدد عليه حتى يظهر.
ورأى بعض أهل الحديث أن يوجه القاضي برجلين يثق بها، أو معها جماعة من
الخدم، والنساء، ومعهم الأعوان بالباب لدخول الدار، ويدخل النساء، ثم
الخدم، وتنحّى حرم المطلوب، فيصرون في بيت، ويفتش الدار، ثم يدخل النساء
إلى البيت الذي فيه حرم المطلوب، فيفتشونه، فإن أصابوه أخرجوه إلى القاضي،
يأتون المنزل بغتةً.
قال أبو بكر: وإذا كان المدعي عليه مريضاً لا يمكن حضور مجلس القاضي، بعث
القاضي مع المدعي رجلاً من أمنائه، وبعث معه شاهدين من شهوده، وكتب اليمين
على ما يجب أن يستحلف عليه، واستحلفه الأمين بحضرتها على ما يجب، فإن أمر
بالمال أشهد الشاهدين على إقراره، فإن ادعى دعوى يجب النظر فيه، وكّل
وكيلاً يحضر مع خصمه عند القاضي، ثم يحضر الوكيل والخصم عند القاضي لينظر
فيه.
م 1993 - وقد اختلفوا في المدعي عليه تكون امرأة، فقال بعضهم: إن كانت
تبرز، وتخرج، أمر القاضي بإخراجها إلى مجلس [1/ 194/ب] الحكم، وإن كانت لا
تخرج، وفي إليها من يستحلفها في منزلها، هذا قول أبي ثور.
قال أبو بكر: وقد رأيت في الحكام من يأمر بإخراج المرأة التي لا تخرج في
مبارز، أو يأمر بإخراجها بالليل، ويتولى القاضي استحلافها.
(4/187)
وإن كان المدعي عليه مريضاً لا يمكنه
الخروج إلى مجلس القاضي، بعث القاضي إليه إليه من يسمع منه مع خصمه، ويشد
للقاضي بما يسمع منه.
7 - باب الحكم باجتهاد الرأي
قال الله جل ذكره: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ}.
قال العطية العوفي: بما أراه الله في كتابه، وقال قتادة: بما أنزل الله
عليك وبين لك.
(ح 920) وروينا عن النبي- صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إذا قضى الحاكم
فاجتهد فأصاب فله
أجران، فإذا قضى فاجتهد فأخطأ فله أجر.
قال أبو بكر: وحديث بريرة عن النبي- صلى الله عليه وسلم - يدل على أن
المجتهد المخطئ الذي له الأجر هو من كان عالماً بالأصول دون الجاهل الذي لا
اجتهاد له.
وقد ذكرنا:
(ح 921) حديث بريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: القضاة ثلاثة
قاضيان في النار، وقاض في الجنة، قاض قضى بغير الحق وهو يعلم فذاك في
النار،
(4/188)
وقاض قضى وهو لا يعلم فاهلك حقوق الناس
فذلك في النار، وقاض قضى بالحق فذاك في الجنة.
م 1994 - ثبت أن عبد الله بن مسعود قال: من عرض له منكم قضاء فليقض ما في
كتاب الله، فإن جاءه أمر ليس في كتاب الله فليقض بما قضى به نبيه، فإن جاءه
أمر ليس في كتاب الله، ولم يقض به نبيه، فليقض بما قضى به الصالحون، فإن
أتاه أمر ليس في كتاب الله، ولم يقض به نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ولم
يقض به الصالحون فليجتهد رأيه.
وقد روينا عن عمر أنه كتب إلى شريح بنحو هذا الكلام غير أنه قال: فإن لم
يكن في كتاب الله، ولا في سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا فيما قضى
به أئمة الهدى، فأنت بالخيار إن شئت أن تجتهد، وإن شئت أن تؤامرني، ولا أرى
هو أمرتك إياي إلا أسلم لك.
وقد اختلف أهل العلم في كيفية الاجتهاد، فكان الشافعي يقول: "لا يجوز أن
يقول: بما استحسناه، ولا بما خطر على قلوبنا، ولا يقوله إلا قياساً على
اجتهاده على طلب الأخبار اللازمة".
م 1995 - وقال أبو عبيد: "الاجتهاد عندنا هو الاختيار من المذاهب إذا اختلف
وتضادّت لحسن التدبير، والتوقي لأقر بها إلى الرشد، والصواب، فإن عرض
للحاكم ما ليس موجود بعينه في هذه الخصال يريد الكتاب والسنة، وما حكمت به
الأئمة، والصالحون بالإجماع [1/ 195/ألف] والاجتهاد، كان للحاكم التشبيه
بها والتمثيل عليها، وليس له مفارقتها كلها".
وقال أصحاب الرأي كقول الشافعي، وأبي عبيد في القول بالكتاب والسنة، قالوا
فإن لم يجد فيما أتاه عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، نظر فيما أتاه
عن
(4/189)
أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم -،
وإن كان شيئاً قد اختلفوا فيه تحرر من أقاويلهم، واجتهد أحسنها في نفسه،
وليس له أن يخالفهم جميعاً، ويشرع شيئاً من رأيه، وإن لم يكن القضاء في شيء
من ذلك، اجتهد رأيه وقاس ما جاء عنهم.
وقال الشافعي: والعلم طبقات الأول: الكتاب، والسنة إذا ثبت، ثم الثانية:
الإجماع فيما ليس فيه كتاب، ولا سنة، والثالثة: أن يقول بعض أصحاب النبي-
صلى الله عليه وسلم -، ولا نعلم له مخالفاً منهم، والرابعة: اختلاف أصحاب
رسول الله- صلى الله عليه وسلم -: والخامسة: القياس على بعض هذه الطبقات.
وقال في موضع آخر: فأما أن يكون مستشيراً، فلم يجعل الله هذا لأحد بعد رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -.
8 - باب الحكم بالظاهر من الأمور
(ح 922) ثبت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: إنما أنا بشر، وأنكم
تختصمون إلي، فلعل بعضكم أن يكون هو ألحن في حجته من بعض، فأقضي له على نحو
ما أسمع منه، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذ منه شيئاً، فإنما أقطع
له قطعة من النار.
قال أبو بكر:
م 1996 - "وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أخيار مما يحكم
(4/190)
به الحاكم في الظاهر على أنه حرام (1) على
المقضي له ما قضى له به مما يعلم أن ذلك حرام عليه، من ذلك أن يحكم له
بالمال، أو يجرؤ أنه مملوك، أو يحكم له بالنقود على ما يعلم أنه برئ مما
حكم به عليه ببيناتٍ تثبت" في الظاهر.
م 1997 - واختلفوا في أشياء غير ذلك، فانفرد النعمان فقال: لو أن امرأة
استأجرت شاهدين شهد إليها بالطلاق على زوجها، يحكم الحاكم بالفرقة، والمرأة
تعلم بخلاف ما شهدت به البينة، والشاهدان يعلمان ذلك، أن لها أن تتزوج من
شأن، وأن لا حد على أحد الشاهدين إن تزوجها.
وقد خالفه أصحابه، فقالوا: لا يحل للشاهدين أن يتزوجاها.
(ح 923) وقد قال النبي- صلى الله عليه وسلم - للمتلاعنين بعد ذكر اللعان:
الله يعلم أن أحدكم كاذب، فهل منكما تائب؟.
9 - باب الخبر الدال على أن للحاكم أن يصلح بين
الناس
قال الله جل ثناؤه: {لَا [1/ 195/ب] خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ
إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ
النَّاسِ} الآية.
__________
(1) في الأصل "على أن حراماً".
(4/191)
(ح 924) وثبت أن رسول الله- صلى الله عليه
وسلم - انطلق إلى شيء كان بين الناس من الأنصار، وليصلح بينهم.
(ح 925) وقال الصلح جائز بين المسلمين.
(ح 926) وعرض على قوم وجب لهم القود حتى رضوا بالدية، وأصلح أمورهم على
ذلك.
(ح 927) وأوتي رسول الله- صلى الله عليه وسلم - في مواريث، وأشياء قد درست،
فقال: اذهبا فتوخيا، ثم أستهمّا، ثم يحلل كل واحد منكما صاحبه.
م 1998 - وممن روينا عنه أنه أصلح بين الخصوم، أو رأى للحاكم أن يصلح بين
الخصوم شريح، وعبد الله بن عتبة، وعبيد الله بن الحسن، والشافعي، والكوفي.
(4/192)
وروينا عن عمر بن الخطاب أنه قال: دعوا
الخصوم حتى يصطلحوا، فإن فصْل القضاء حدث بين القوم الضغاين.
وقال عطاء: لا يحل للإمام إذا تبين له القضاء أن يصلح بين من تبين له
القضاء فيما بينهم، وكان أبو عبيد يقول: وإنما يسعه الصلح إذا كان كالذي في
حديث أم سلمة يعني الأمور المشكلة، فأما إذا استشارت الحجة لأحد الخصمين
على صاحبه الآخر، وتبين للحاكم موضع الظالم منهما من المظلوم، فليس بواسع
له أن يحملهما على الصلح.
قال أبو بكر: ما قاله أبو عبيد حسن.
10 - باب القاضي يقضي بعلمه
م 1999 - افترق أهل العلم في قضاء القاضي بعلمه، فقالت فرقة: لا يقضي
بعلمه، هذا مذهب شريح، والشعبي، ومالك، وأحمد، وأبي عبيد.
وقالت فرقة: فيما علمه القاضي قبل أن يستقضى لا يحكم به، وما علم به بعد أن
يستقضى حكم به، إلا الحدود، هذا قول النعمان، قال: لا يقضي في الغضب،
والقذف، والبيع، والشراء، والطلاق، والنكاح، والقتل، وقال يعقوب ومحمد:
يقضي بذلك كله ما علم به قبل أن يستقض، وعلم به في غير مضرة، فإنه يقضي
بذلك كله، إلا الحدود.
وقالت فرقة ثالثة: إذا كان الحاكم عدلاً كان له أن يحكم بعلمه فيما علم به
قبل الحكم أو بعده، وقبل أن يلي وبعد ما ولى، ذكر الربيع أن هذا قول
الشافعي.
(4/193)
وكان أبو ثور يقول: ذلك في حدود الله،
وحقوق الآدمين.
قال أبو بكر: ومن أعلى حجة من قال هذا القول:
(ح 928) خبر هند زوجة أبي سفيان فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى لها
ولولدها على أبي
سفيان بنفقتهم.
ولم يسألها على ذلك منه، لعلمه بأمرهم، وكذلك قوله:
(ح 929) لا يمنع [1/ 196/ألف] أحدكم هيبة الناس أن يقول في حق إذا رآه، أو
سمعه.
(ح 930) وفي حديث عبادة: وأن نقول بالحق حيث ما كان لا نخاف في الله لومة
لائم.
م 2000 - واختلفوا في القاضي يعزل ثم يذكر بعد العزل أنه كان قضى لفلان على
فلان بكذا، فكان الشافعي، وأصحاب الرأي يقولون: لا يقبل قوله حتى يأتي
المقتضي له بشاهدين على أنه حكم لذلك قبل أن يعزل، وقال أصحاب الرأي: اثنان
سواه.
(4/194)
وقال الأزواعي، وابن أبي ليلى: هو بمنزلة
شاهد واحد، وقال أحمد، وإسحاق: يقبل قوله، ليست هذه شهادة إنما هذا خبر
علمٍ كان عنده.
11 - باب القاضي يرفع إليه قاض كان قبله بخلاف
رأيه، أويقضي بشيء ثم يتبين له بخلاف
م 2001 - واختلفوا في القاضي يرفع إليه قضيّة قاض كان قبله، والحق عنده
خلاف ما قضى به القاضي الأول، فكان الشافعي يقول: يوليه من ذلك ما تولى ولا
يرد قضاءه، وقال علي في قصة أهل نجران: إن عمر كان رشيد الأمر، ولا أرد
قضاءً قضى به عمر، وهذا قول شريح، ومالك، قال مالك: إلا أن يكون جوراً
بنياً، وقال الشافعي: لا يرد قضايا من كان قبله إلا أن يكون قضاء بخلاف
كتاب، أو سنة، أو إجماع، قال: إذا كان كذلك رده، ومال إلى هذا القول
الثوري.
وقال أصحاب الرأي: إن كان مما يختلف فيه أمضاه، وإن كان خطأ لا يختلف فيه
رد.
وفيه قول ثالث: وهو أن يرد كلما كان عنده خطأ، ولا يجوز أن ينفذ ما كان
عنده غير حق، هذا قول أبي ثور.
م 2002 - واختلفوا في القاضي يقضي بالقضاء، ثم يرى بعد ذلك خلافه، فكان
شريح يقول: يقضي فيما يستقبل بما رأى ولا يرد القضاء الأول.
وقال الشافعي، وأصحاب الرأي في هذا: كنحو من قولهم في التي قبلها.
وفيه قول ثالث، وهو أن يرد كلما بان له أنه خطأ، هذا قول مالك، وبه قال أبو
ثور.
(4/195)
12 - باب الخصمين يحكّمان بينهما رجلاً
م 2003 - واختلفوا في المتنازعين يحكمان بينهما رجلاً فيحكم بينهما، فكان
الشعبي يقول: يلزمهما حكمه، وقال مالك: ذلك جائز إلا أن يكون حكم بينهما
بالخطأ البين، فيفسح ولا يجوز، وبه قال عبد الملك، وقال الثوري: أراه
جائزاً عليهما، وبه قال ابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق.
وقال النعمان: إذا قضى بينهما بخلاف [1/ 196/ب] رأى القاضي، أبطل حكمه.
13 - باب من يترجم عن لسان الأعجمي للقاضي
م 2004 - كان الشافعي يقول: لا تقبل الترجمة عنه يعني عن الأعجمي إلا
بشاهدين عدلين يعرفان ذلك اللسان.
وفيه قول ثان: وهو أن المسلم إذا ترجم عنه واحد قبل منه، واثنان أحب إلى،
ولا يقبل في ذلك كافر (1)، ولا مكاتب، ولا عبد، ولو قبل ترجمة امرأة بعد أن
تكون حبرةً، مسلمة، عدلةً، فهو في سعة، ورجلان أو رجل وامرأتان أحب إلينا،
هذا قول النعمان، ويعقوب.
وفيه قول ثالث: وهو أن لا يجوز في ذلك أقل من رجلين، أو رجل وامرأتان، هذا
قول ابن الحسن.
قال أبو بكر: يقبل فيه شاهد واحد؛ لأن في:
__________
(1) في الأصل: "ذكر كافراً".
(4/196)
(ح 931) حديث زيد بن ثابت أن رسول الله-
صلى الله عليه وسلم - أمر أن يتعلم كتاب اليهود،
قال: فكنت أكتب لهم إذا كتبوا إليه، وأقرأ له إذا كتبوا.
14 - باب من يجوز له أن يقضي له من الناس ومن
لا يجوز قضاه له
قال الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ
فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} الآية.
وقال لنبيه: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ} الآية، وقد خاطب الحاكم
فقال: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}
الآية.
قال أبو بكر: فاللازم على ظاهر هذه الآيات أن يحكم الحاكم بين جميع من تقدم
إليه بالعدل؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ أمره به، وأمره على العموم، فكل خصمين
تقدّما إلى حاكم من حكام المسلمين، فعليه أن يحكم
(4/197)
بينهما، وسواء كان أحد الخصمين والداً
للحاكم، أو ولد، أو أخ، أو أخت، أو عم، أو خال، أو زوجة، هم وسائر الناس في
ذلك شىء واحد.
(ح 932) وقال النبي- صلى الله عليه وسلم -: إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب
فله أجران، ولو كان له في ذلك مراد، لبين هذا القول الذي يدل عليه ظاهر
الكتاب والسنة.
وفيه قول ثان: وهو أن ليس للحاكم أن يحكم لولده، ولا لوالده، ولا لمن لا
يجوز شهادته له، ويحكم لسائر الناس، هذا قول الشافعي.
وفيه قول ثالث: وهو أن قضاء القاضي لا يجوز لولده، ولا لولد ولده من قبل
الرجال والنساء، ولا لابنه، ولا لأمه، ولا لجدٍ، ولا لجدة من قبل (1)
الرجال والنساء، ولا لزوجته، ولا لعبد له، ولا لمكاتبه، ولا لأم ولده، ألا
ترى أن شهادته لهم لا تجوز، فكان قضاءه لهم أولى، ويجوز قضاءه لسائر الناس،
هذا قول أصحاب الرأي.
قال أبو بكر: وهذا قول يخالف قائله ظاهر الآيات الثلث اللواتي بدأنا
بذكرها، ويخالف [1/ 197/ألف] السنة الثابتة:
(ح 933) لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - حكم لعائشة بنت أبي بكر الصديق،
وهي زوجته، على الذين رموها بالقذف، وضربهم الحد، لما تبين ذلك في حديث
عمرة عن عائشة.
م 2005 - ولا يظن ظان أن رد شهادة الوالد لولده، والولد لوالده إجماع، فقد
__________
(1) في الأصل "قبل من".
(4/198)
روينا عن عمر بن الخطاب، وعمر بن عبد
العزيز أجازه ذلك، وأجاز أياس بن معاوية شهادة رجل لابنه، وبه قال أبو ثور،
والمزني، وقد ذكرت هذا أبي الباب لحججه في المختصر الكبير، وفي كتاب
الأوسط.
15 - باب وجوب الغرم على الحاكم فيما أخطأ به
من مال أوقتل أو جراح
م 2006 - واختلفوا في الحاكم يخطئ فيقضي بغير الحق، فكان الليث بن سعد
يقول: ليس عليه غرم، ولكن يتبع المقضي عليه صاحبه بماله.
وفيه قول ثان: وهو أن عليه القود فيما يجب فيه القود، إن أقر به أنه حكم
بجواز ذلك قول مالك، وقال المزني: عليهم الفدية والغرم لكل شيء أكرموا عباد
الله عليه في أنفسهم، وأموالهم، وقد ألزم عمر نفسه الدية في المرأة التي
بعث إليها، فألقت ولدها من خوفه.
م 2007 - واختلفوا فيما يخطئ به الإمام من قتل، أو جراح، فقال الثوري،
وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي: هو على بيت المال.
وفيه قول ثان: وهو إن ذلك على عاقلة الإمام، هذا قول الشافعي.
16 - باب كتاب القاضي إلى القاضي
م 2008 - أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن القاضي إذا كتب إلى قاضٍ
آخر بقضية قضى بها على ما يجب، ببينة عادلة، وقرأ الكتاب على شاهدين،
وأشهدهما على ما فيه، فوصل الكتاب إلى القاضي المكتوب إليه، وشهد شاهدان
عدلان عنده، أنّ على المكتوب إليه، أنّ على المكتوب إليه قبول
(4/199)
كتابه إذا كان ذلك في غير حدٍ.
م 2009 - واختلفوا فيه إن يبعث بالكتاب معهما مختوماً، ولم يعرفهما ما فيه،
ولا قرأ عليهما، فقالت طائفة: يقبله وإن لم يقرأه عليهما ويعرفهما ما فيه،
هذا مذهب مالك فيما حكاه عنه أشهب، وحكى عنه ابن وهب أنه قال: لا ينبغي
اليوم أن يجاب بكتاب قاض إلى قاضي، حتى يكون مع الكتاب رجلان يشهدان أن
القاضي أشهدهما على ما فيه.
وقد روينا عن جماعة من قضاة البصرة الحسن البصري، وسوار، وعبد الله بن
الحسن، ومعاذ الأنصاري أنهم رأوا قبول كتاب قاضي إلى قاضي، وحكى ذلك عن ابن
أبي ليلى.
وقالت طائفة: "يقبل كتاب القاضي إلى قاضي، ولا يقبل إلا شاهدين عدلين
ليقرأه [1/ 197/ب] عليهما ويشهدان على ما فيه، وقال: اشهدا أن هذا كتابي
إلى فلان بن فلان، فإذا اشهدا على ذلك قبله، وإن لم يشهدا على هذا لم
يقبله" هذا قول الشافعي.
وقال النعمان: لا يقبل حتى يشهد شاهداً عدلٍ على خاتم القاضي، وعلى ما في
الكتاب كله، لأنه حق، وهو مثل شهادة على شهادة، وقال أبو ثور نحو ذلك.
وقد احتج من أجاز ذلك، وإن لم يقرأ على الشاهد، وإن لم يثبت بذلك بينة:
(ح 934) بخبر الضحاك بن سفيان (1) قال: كتب إلى رسول الله- صلى الله عليه
وسلم - أن أورث
__________
(1) في الأصل "بن قيس".
(4/200)
امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها، فأخذ به
عمر.
وبقول أبي وائل جاءنا كتاب عمر بن الخطاب ونحن بخانقين: إذا رأيتم الهلال
نهاراً فلا تفطروا حتى تمسوا، إلا أن يشهد شاهدان أنهما أهلاه بالأمس عشية.
17 - باب كتاب القاضي يصل وقد مات المكتوب إليه
وولي غيره
م 2010 - واختلفوا في القاضي المكتوب إليه يموت قبل وصول الكتاب ويلي غيره،
فروينا عن الحسن البصري أنه قبل كتاب قاضي البصرة إلى إياس بن معاوية في
الكوفة، وقد غزل إياس فأمر الحسن وقد ولي بعده، بإنقاذ ما فيه.
وقال الشافعي: يقبله ولا يمنع من قبوله بموته ولا عزله، لأنه يقبل ببينة
كما يقبل حكمه، وقال أصحاب الرأي: إذا مات القاضي الذي كتب الكتاب فإنه لا
ينبغي لهذا القاضي الذي لم يأته الكتاب إلا بعد موت ذلك القاضي أن يجيزه،
وكذلك الجواب في عزله، فإن وصل كتابه إلى هذا القاضي، ثم مات، أو عزل بعد
ما وصل كتابه إليه، فإن هذا القاضي بمضيه.
(4/201)
وقال أبو ثور كما قال الشافعي، فإذا كتب
القاضي: إلى من بلغه كتابي هذا من قضاة المسلمين فمن أقام عنه البينة من
قضاة المسلمين أجاز ذلك، وهذا بمنزلة الحكم، هذا قول أبي ثور.
وقال النعمان: لا يجوز ذلك، وقال يعقوب: أستحسن أن أجيز ذلك، وأنفذه.
18 - باب كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود
م 2011 - واختلفوا في كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود، فكان أبو ثور يجيز
ذلك في الحدود كلها، قال: وهذا على مذهب أبي عبد الله يعني الشافعي، وبه
قال ابن القاسم صاحب مالك.
وقال الشافعي بمصر فيها قولان: أحدهما أن ذلك جائز، والآخر لا يجوز.
وقال أصحاب الرأي: لا يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود.
قال أبو بكر: الأول أصح [1/ 198/ألف].
19 - باب ما يجوز إنفاذه من كتب القضاة في
الشيء بعينه
م 2012 - واختلفوا فيما ينفذ من كتب القضاة فيما يقضون فيه من الشيء بعينه،
فكان الشافعي يقول: "وإذا أقام الرجل البينة على عبد موصوف، أو دابة موصوفة
له ببلد آخر، وأحلفه القاضي أن هذا العبد، أو هذه الدابة لعبده أو دابته،
يعني ملكك، وكتب بذلك كتاباً من بلد من البلدان، فأحضر عبداً بتلك الصفة،
فالقياس أن لا
(4/202)
يحكم به، حتى يأتي شهود الموضع الذي فيه
تلك الدابة، فيشهدوا عليها".
وبه قال النعمان، ومحمد.
وقال بعضهم: يختم في عنقه، ويؤخذ مه كفيلاً، ثم يبعث به إلى القاضي الذي
كتب الكتاب فيه، حتى يشهد الشهود عليه بعينه، ثم يكتب القاضي كتاباً آخر
على ذلك، فيبرأ كفيله ويقضى له بالعبد.
20 - باب القضاء على الغائب والاختلاف فيه
م 2013 - واختلفوا في القضاء على الغائب، فممن كان لا يرى القضاء على
الغائب شريح، وروى ذلك عن عامر، وابن القاسم، وبه قال ابن أبي ليلى،
والنعمان، ويعقوب.
وفيه قول ثان: وهو أن القضاء على الغائب جائز، وممن رأى ذلك مالك بن أنس،
والليث بن سعد، وسوّار، والشافعي، وأبو عبيد، وأبو ثور، والمزني، وبه نقول.
قال أبو بكر: وقد حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - على أبي سفيان بنفقة
ولده، وأبو سفيان ليس بحاضر، ولم ينتظر حضوره، وقد ذكرت ذلك في المختصر
الكبير، والأوسط، ما يدخل على من خالف ما ذكرناه، وقلناه، ومما خالف أهل
الكوفة أصولهم وحكموا بخلاف قولهم، حكمهم على رجل غاب عن بلده وترك زوجة
له، وأولاداً أطفالاً أن نفقتهم من ماله.
(4/203)
21 - باب الحكم بين
أهل الكتاب
م 2014 - اختلف أهل العلم في الحكم بين أهل الكتاب، فقالت طائفة: الإمام
مخيّر إن شاء حكم بينهم، وإن شاء تركهم، وحكامهم، فممن رأى أن الإمام
بالخيار عطاء بن أبي رباح، والشعبي، والحسن البصري، والنخعي، ومالك، وأبو
ثور.
واختلف قول الشافعي في هذه المسأله فكان يقول إذ هو بالعراق: كما قال مالك،
وقال في كتاب الجزية: قال الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ
يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} الآية، قال فكان الصغار، والله أعلم أن يجري عليهم
حكم الإسلام قال: "إذا وادع الإمام قوماً من أهل الشرك، ولم يشترط أن يجري
عليهم الحكم، ثم جاءوا متحاكمين، فهو بالخيار بين أن يحكم بينهم، أو يدع
[1/ 198/ب]، الحكم، وليس للإعلام الخيار في أحد من المعاهدين الذي عليهم
الحكم، إذا جاءوه في حدٍ لله، وعليه أن يقيمه".
وقالت طائفة: إذا تحاكموا إلينا، فعلى الإمام أن يحكم بينهم، وتستحب هذه
الآية {فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} الآية {وَأَنِ
احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ}. روينا هذا القول عن ابن عباس،
وعكرمة، ومجاهد، والشعبي،
(4/204)
والنخعي، وعطاء الخراساني، وقتادة،
والأوزاعي، وأبو عبيد، وأصحاب الرأي.
وقال سعيد بن جبير في أهل الذمة: إذا ارتفعوا إلى حكام المسلمين فليحكم
بينهم بكتاب الله، وبه قال الزهري.
واحتج بعض من رأى أن الإمام بالخيار إن شاء حكم وإن شاء لم يحكم بأخبار
رويت عن الأوائل أن المائدة لم ينسخ منها شيء.
قال أبو بكر: فالحكم بينهم وترك ردهم، أحب إلي، لأن في ذلك منعاً للظالم من
الظلم، ودفعاً عن المظلوم، وكما انصرهم من غيرهم إذا أرادهم، كذلك أنصر
المظلوم منهم من الظالم.
22 - مسائل من هذا الباب
م 2015 - اختلف أهل العلم في الكتابي يأتي إلى الإمام دون خصمه ليدعو (1)
خصمه فينظر بينهم، فقالت طائفة: لا ينظر بينهم حتى يأتي الخصمان جميعاً،
هذا قول مالك، ولعل من حجته أن يقول: قال الله عز وجل: {فَإِنْ جَاءُوكَ}
الآية ولم يقل: فإن جاءك أحدهما.
وقالت طائفة: يحكم على الغائب إذا جاء أحدهما، هذا قول الأوزاعي.
قال أبو بكر:
م 2016 - وإذا كان البيع الحرام بين المسلم والنصراني، فإن كل ما يجب فسخه
بين المسلمين، فإنه يفسخ بين النصراني والمسلم، ولا يجاز بينهما إلا ما
__________
(1) في الأصل "ليدعوا"
(4/205)
يجاز بين المسلمين، هذا قول مالك،
والشافعي، والكوفي، وقال مالك في أهل الذمة: يؤدبون إذا أظهروا الربا.
قال أبو بكر:
م 2017 - وإذا اختصم أهل الذمة ويحاكموا إلى قاضي المسلمين، حكم بينهم بحكم
الإسلام في قول مالك، والشافعي، وبه قال الكوفي، إلا بيع الخمر، والخنازير،
فإنه يجيز بينهم ذلك، قال: لأنهم يستحلون ذلك.
قال أبو بكر: وهذا خلاف ظاهر القرآن {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ
بِالْقِسْطِ} الآية، والقسط: حكم الله الذي أنزل على رسوله.
قال أبو بكر:
م 2018 - وإذا تزوج ذمي ذمة في دار الإسلام في عدة، فالنكاح جائز في قول
النعمان.
ولا يجوز في قول الشافعي، ويعقوب، إذا استعدى أحدهما على الآخر، وكذلك إن
أسلما، فيفرق يعقوب بينهما.
وإذا تزوجها بغير شهود فهو جائز في قول الشافعي، والنعمان، ويعقوب.
23 - باب أرزاق القضاة
م 2019 - اختلف أهل العلم في أرزاق القضاة [1/ 199/ألف] فكرهت طائفة
(4/206)
أخذ الأرزاق على القضاء، روينا عن عبد الله
بن مسعود أنه كره لقاضي المسلمين أن يأخذ القاضي على القضاء أجراً، وبه قال
الحسن البصري، والقاسم.
وقال الشافعي: إن أخذ جعلا لم يحرم عليه عندي، وقال أحمد: ما يعجبني أن
يأخذ على القضاء أجراً، فإن كان فيقدر عمله.
ورخصت فيه طائفة وممن رخص فيه ابن سيرين وشريح.
وقد روينا عن عمر بن الخطاب أنه استعمل ابن مسعود على بيت المال، وعمار بن
ياسر على الصلاة، وان حنيف على الجند، ورزقهم كل يوم شاة، شطرها لعمار،
وربعها لأبن مسعود، وربعها لابن حنيف، ورخص في ذلك إسحاق بن راهويه، وأبو
عبيد.
قال أبو بكر: الأولى، والأسلم ترك الدخول في القضاء استدلالاً بحديث:
(ح 935) ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل رجلاً على
عمل، فقال يا رسول الله: جُزَّ لي، قال: احبس والزم بيتك.
قال أبو بكر: ولا شك أن الذي أشار به النبي - صلى الله عليه وسلم - أسلم
وأعفّ، فإن يلي رجل بأن يلي القضاء، وكان مستغنياً، فأفضل له أن يحتسب
ويعمل لله، فإن احتاج أن يرزق على قدر عمله من مال الفيء، وليس له أن يأخذ
من أموال الصدقات، ولا من الغنائم.
(4/207)
24 - باب القاضي يجد
في ديوانه شهادة شهود شهدوا عنده على أمر ولا يحفظه
م 2020 - اختلف أهل العلم في القاضي يجد في المكان الذي يجوز فيه كتبه،
شهادة شهود قد شهدوا عنده بحق لرجل على آخر، وقد وجد الإثبات بخطه ولا يذكر
ذلك، فكان الشافعي يقول: "إذا لم يحفظها ولا معناها، فلا يقبلها [بالخاتم
الذي] (1) فقد بغير الكتاب".
وقال النعمان: لا يقضي إلا أن يذكره. وقال مالك: لا ينفع طابع القاضي ولا
علامته، إلا بشهداء أحياء يشهدون.
وقال يعقوب، ومحمد: إذا وجد القاضى في ديوانه صحيفة فيها شهادة شهود، ولا
يحفظ أنهم شهدوا عنده بذلك، فإنه يقضي في ديوانه بعد أن يكون يضعه على ما
وضعت في قمطرة، وبخاتمه، وشده، ونفره، وإلا أضر ذلك بالناس.
25 - باب صفة كاتب القاضي
(ح 936) قد ذكرنا فيما مضى عن زيد بن ثابت أن رسول الله- صلى الله عليه
وسلم - أمره أن يتعلم كتاب يهود فقال: كنت أكتب لهم إذا كتبوا، وأقرأ لهم
إذا كتبوا.
قال أبو بكر:
__________
(1) ما بين المعكوفين من الأوسط.
(4/208)
م 2021 - فاتخاذ الكاتب مباح وتركه أسلم
لمن يكتب [1/ 199/ب] فإن اتخذ كاتبا يتخذه ذميا، ولا يكون إلا عدلا فطنا
ممن تقبل شهادته، وهذا مذهب الشافعي، والكوفي.
26 - باب الرشوة والتغليط فيه
(ح 937) ثبت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - لعن الراشي، والمرتشي في
الحكم.
م 2022 - وسئل ابن مسعود عن أيرشى في الحكم؟ قال: ذاك الكفر.
وقال النخعي: الرشوة في الحكم سحت. وقال سعيد بن جبير في السحت: هو الرشاء.
وقال مجاهد: هي الرشوة في الحكم.
وقد روينا عن عطاء، وجابر بن زيد، والشعبي، والحسن البصري أنهم قالوا: لا
بأس أن يصانع الرجل عن نفسه، وماله إذا خاف الظلم، وقال جابر بن زيد: ما
رأينا في زمان زياد أنفع لنا من الرشاء. وقال أحمد في الرشوة: أرجو إذا كان
يدفع الظلم عن نفسه، وكان الشافعي يقول: أكره للقاضي الشرى والبيع، والنظر
في النفقة، وفي ضيعته.
قال أبو بكر: ويكره للقاضى أن يفتى في الأحكام إذا سئل عن ذلك.
كان شريح يقول: إنما أقضى ولا أفتى.
(4/209)
فأما الفتيا في سائر أمور الدين من
الطهارة، والصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، وأبواب المكاسب في الأطعمة،
والأشربة، وكلما ليس من أبواب الأقضية فمباح له، بل أخشى أن لا يسعه إلا أن
يجيب في ذلك إذا عمله.
م 2023 - ولو أن جماعة من أهل البغي نصبوا إماما، ونصبوا قاضيا، وغلبوا على
طرف من الأرض، يقضي قاضيهم بقضية، ثم صار أمر الموضع إلى الإمام أهل العدل،
أجاز من قضايا قاضيهم ما يجوز من قضاء قاضي أهل العدل، وهذا على مذهب
الشافعي، والكوفي، ولا أحفظ عن غيرهما خلاف قولهما.
م 2024 - واختلفوا في الرجلين يتقدمان إلى الحاكم، فيبتدران في الكلام،
ويذكر كل واحد منهما أنه الذي أتى بصاحبه، فقال قائل: يقرع بينهما.
وقال آخر: يرجئ أمرهما حتى تبين له المدعى منهما.
وقال آخرون: يستحلف كل واحد منهما لصاحبه على ما يذكر أنه المقدم له، وإذا
حلفا وقف على أمرهما، حتى يعلم المدعى منهما.
وقال قائل: يسمع منهما جميعاً.
قال أبو بكر: وهذا حسن.
(4/210)
|