الإقناع
لابن المنذر كتاب البيوع
قَالَ اللَّه جل ذكره: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}
[البقرة: 275] .
فكان عَلَى ظاهر قوله: «أحل اللَّه البيع» .
عَلَى أن كل بيع جائز، فلما قَالَ: «وحرم الربا» .
دل عَلَى أن من البيوع مَا يجوز وما لا يجوز، فمما ثبت أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نهى عن بيع الغرر» .
87 - نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، قَالَ: نا
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ، وَعَنْ بَيْعِ الْحَصَى»
ونهيه عن بيع الغرر كلام مجمل يدخل في أبواب من البيوع فمن الغرر
(1/243)
المضامين والملاقيح، والملاقيح: بيع الأجنة
في بطون النوق، والمضامين: ماء في أصلاب الفحول.
ومنه نهيه عن بيع الملامسة والمنابذة.
والملامسة: أن يمس الرجل
(1/244)
الثوب بيده وَلا ينشره وَلا يقلبه، فإذا
مسه وجب البيع، والمنابذة: أن يقول الرجل: إذا نبذت هذا الثوب فقد وجب
البيع.
ومما يدخل في بيوع الغرر بيوع الألبان في ضروع الأنعام، وبيع الأصواف عَلَى
ظهورها.
ومن ذَلِكَ نهيه عن بيع السنين ومن ذَلِكَ نهيه عن بيع مَا لا يملكه المرء،
وهو بيع مَا في ملك غيره،
(1/245)
ومن بيوع الغرر بيع العبد الآبق والبعير
الشارد وبيع السمك في الآجام، وبيع البصل والثوم والجزر والفجل مغيبًا في
الأرض، وبيع القصيل جزة وبيع تراب الصاغة والمعادن، وبيع مَا تنبت شجر
التين والقثاء بطن بعد بطن وما في معنى ذَلِكَ.
باب ذكر مَا نهي عن بيعه مما لا يجوز ملكه
قَالَ اللَّه جل ذكره: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ
وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] .
(1/246)
88 - نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
قَالَ: نا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: نا اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ،
عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ: قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ
سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَهُوَ بِمَكَّةَ، يَقُولُ: إِنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حَرَّمَ بَيْعَ
الْخَمْرِ، وَالْمَيْتَةِ، وَالْخِنْزِيرِ، وَالأَصْنَامِ» .
فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ شُحُومَ الْمَيْتَةِ
فَإِنَّهَا تُدْهَنُ بِهَا السُّفُنُ، وَتُدْهَنُ بِهَا الْجُلُودُ،
وَيَسْتَنْفِعُ بِهَا النَّاسُ؟ فَقَالَ: «لا، هِيَ حَرَامٌ» .
ثُمَّ قَالَ: «قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ لَمَّا حَرَّمَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ شُحُومَهَا جَمَّلُوهُ ثُمَّ بَاعُوهُ فَأَكَلُوا ثَمَنَهُ»
فبيع الميتة حرام بكتاب اللَّه عز وجل وبالخبر الثابت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبإجماع أهل العلم عليه، وكذلك الخمر،
والخنزير، والدم، والسمن، والزيت الذائبين، وسائر الدهان الواقع فِيهِ
الفأرة الميتة، وَلا يجوز الانتفاع بشيء من ذَلِكَ،
(1/247)
ومما يحرم بيعه وَلا يجوز الحر يباع.
وَلا يجوز أن يتخذ الخمر خلا، وكل مَا يتخذ للهو وَلا يصلح لغيره مثل:
العيدان، والطنابير، والمزامير، والنرد وما أشبه ذَلِكَ فبيعه غير جائز،
وَلا يجوز بيع الكلاب وَلا السباع وَلا عظام الفيل، وليس عَلَى من أتلف
كلبا غرم.
باب ذكر مَا يكره وينهى عنه من الغش والخداع في البيوع
89 - نا حَاتِمُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَنَّ الْحُمَيْدِيَّ حَدَّثَهُمْ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: نا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «لا تُصَرُّوا الإِبِلَ وَالْغَنَمَ لِلْبَيعِ فَمَنِ اشْتَرَى
مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلاثًا إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا،
وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا، وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ»
فالتصرية من الغرر والخداع، فكما لا يجوز الغرر والخداع في هذا المكان كذلك
لا يجوز ذَلِكَ في شيء من أنواع البيوع.
فمن اشترى مصراة فهو بالخيار بعد الحلب ثلاثة أيام إن شاء أمسكها، وإن شاء
ردها ورد معها صاعًا من تمر، لا يجوز أن يرد غير ذَلِكَ
(1/248)
وثبت أن نبي اللَّه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نهى عن النجش» ، والنجش: أن يعطي الرجل الرجل بالسلعة
ثمنا وهو لا يريد الشراء ليقتدي به السوام.
وثبت أنه «نهي عن بيع الحاضر للبادي» ، وَلا مأثم عليه إن أشار عَلَى
البدوي ولم
(1/249)
يبع لَهُ، وَلا يجوز تلقي السلع حَتَّى
تهبط بها الأسواق لحديث ابن عمر، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فمن تلقى الركبان فابتاع سلعة فالبائع بالخيار إذا أتى السوق
وَلا خيار للمشتري، وَلا يحل التطفيف في الكيل والوزن.
(1/250)
باب ذكر البيوع التي
نهي عنها
90 - نا مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الرَّازِيُّ، قَالَ: نا الأَنْصَارِيُّ،
قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ»
فمن بيعتين في بيعة، أن يقول: خذ هذا الثوب بدينار نقدًا أو بدينار ونصف
إِلَى وقت معلوم.
ومن ذَلِكَ: أن يقول: خذ هذا الثوب بدينار عَلَى أن الدينار إذا حل أعطيتني
به عشرين درهمًا.
وَلا يجوز أن يقول: أبيعك هذا الثوب إلا شهر بكذا عَلَى أنك إن حبسته عني
شهرًا آخر فهو بكذا، وَلا يجوز أن يبيعه بيعًا عَلَى أن يقرضه مع البيع
قرضًا، وهذا مما نهي عنه من بيع وسلف، وَلا يجوز بيع الدين بالدين ومن
ذَلِكَ أن يحل لَهُ عليه طعام من سلم، فيجعل ذَلِكَ عليه سلما في شيء آخر
إِلَى أجل آخر، وذلك من بيع الدين بالدين، ومن بيع الطعام قبل أن يقبض،
ويجوز أن يبيع الرجل من الحيوان اثنين بواحد يدًا بيد، ومن أجناس مختلفة،
«اشترى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبدًا بعبدين
أسودين» .
ويكره بيع اللحم بالحيوان وليس
(1/251)
فِيهِ حديث يثبت، وَلا يجوز أن يبيع فضل
الْمَاء، ويجوز بيع الْمَاء المعلوم في القربة أو الراوية، وَلا يجوز بيع
مَا هو منه مجهول مثل أن يبيعه مَا يجري في نهر يومًا وليلة، وذلك لأنه
مجهول قد يزيد وينقص، وَلا يوقف لَهُ عَلَى حد،
(1/252)
ثبت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لا يبع بعضكم عَلَى بيع بعض» .
و «نهى أن يستام الرجل عَلَى سوم أخيه» ، وذلك إذا تقاربا وركن البائع
إِلَى السلعة ولم يبق إلا العقد، وإذا كَانَ عَلَى غير ذَلِكَ فجائز للحديث
الذي روينا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه «باع
قدحا وحلسا فيمن يزيد» .
وثبت، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(1/253)
«نهى عن بيع الطعام قبل أن يقبض» وهذا قول
عوام أهل العلم وفي هذا إباحة أن يبيع غير الطعام قبل أن يقبض، وَلا يجوز
التفريق بين الوالدة وولدها في البيع والولد صغير، وَلا يجوز احتكار الطعام
الذي هو قوت للناس عليهم، وَلا يجوز منع الناس من احتكار غير الطعام، وَلا
يجوز أن يسعر عَلَى الناس الطعام، لأن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ امتنع من ذَلِكَ.
(1/254)
باب ذكر الربا
وتفسيره
91 - نا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ
الْعَدَنِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، قَالَ: نا خَالِدٌ
الْحَذَّاءُ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عَنْ أَبِي الأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيِّ،
عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَزْنًا
بِوَزْنٍ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ وَزْنًا بِوَزْنٍ، وَالْبُرُّ
بِالْبُرِّ مِثْلا بِمِثْلٍ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلا بِمِثْلٍ،
وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلا بِمِثْلٍ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلا
بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى، بِيعُوا الذَّهَبَ
بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ شِئْتُمْ، وَالْبُرَّ بِالشَّعِيرِ
مِثْلَ ذَلِكَ، وَالتَّمْرَ بِالْمِلْحِ مِثْلَ ذَلِكَ يَدًا بِيَدٍ كَيْفَ
شِئْتُمْ»
(1/255)
وبهذا نقول، وهو قول عوام أهل العلم، وَلا
يجوز بيع الذهب بالذهب مع أحد الذهبين شيء غير الذهب، وَلا بأس أن يبيع
دينارًا بدراهم وثوب، وَلا بأس بأن يشتري الفضة بالذهب جزافًا، لأن أكثر
مَا فِيهِ أن يكونا متفاضلين، وقد أجازت السنة التفاضل بينهما، وهو قوله:
«بيعوا الذهب بالفضة يدا بيد كيف شئتم» .
وإذا كَانَ للرجل عَلَى الرجل دنانير فله أن يأخذ بها دراهم يقبضها قبل أن
يتفرقا، وَلا يجوز الخيار في الصرف، وَلا يجوز إلا أن يقبض كل واحد منهما
من صاحبه جميع مَا اصطرفاه، قبل أن يتفرقا، وحكم كل مَا يكال أو يوزن مما
يؤكل أو يشرب حكم مَا نهى عنه رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، وذلك مثل: الزبيب، والأرز، والحمص، والسكر وما أشبه ذَلِكَ من
المأكول، والمشروب، لا يجوز بيع شيء من ذَلِكَ بجنسه إلا مثلا بمثل، يدا
بيد، وإذا اختلف الصنفان فلا بأس بالتفاضل فِيهِ يدا بيد، وما خرج عن
المكيل والموزون من المأكول والمشروب فلا بأس بأن يباع الشيء منه بالشيء من
جنسه متفاضلا يدا بيد، وذلك مثل: الرمان، والتفاح، والسفرجل، والبطيخ،
والخيار، والقثاء، وهذا قول سعيد بن المسيب.
وَلا بأس ببيع مَا يكال ويوزن مما لا يؤكل وَلا يشرب اثنان بواحد يدا بيد،
ونسيئة إذا كَانَ الأجل فِيهِ معروفا موصوفا، وذلك مثل: القطن، والصوف،
والورس، والحناء، والعصفر، والحديد، والرصاص، والنحاس وما أشبه ذَلِكَ،
وكذلك الثياب المنسوخة كلها،
(1/256)
ويجوز بيع رطل من لحم الضأن برطلين من لحم
البقر يدًا بيد، وَلا يجوز نسيئة وقد دخل هذا وما أشبهه في جملة مَا يثبت،
والجواب في الألبان كالجواب في اللحمان يجوز بيع الشيء منه بالشيء من غير
جنسه، متفاضلا يدا بيد وَلا يجوز نسيئة، وَلا يجوز بيع الصبرة بالطعام
بالصبرة من جنسه، وإذا اختلف الصنفان فلا بأس بالتفاضل فِيهِ يدا بيد، وَلا
يجوز بيع التمرة بالتمرتين، ويجوز بيع الفلس بالفلسين، وَلا يجوز بيع الرطب
بالتمر لأن الرطب ينقص إذا يبس.
باب ذكر بيوع الثمار
92 - أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ
حَتَّى يَبْدُوَ صَلاحُهَا، نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ»
أجمع أهل العلم عَلَى القول بهذا الحديث، وبدو صلاح الثمار أن تطعم
(1/257)
رطبا، أو تصفر أو تحمر، وجميع ثمار الأشجار
كالنخل يجوز بيع ذَلِكَ إذا طاب أول ثمرها، وروينا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه «نهى عن بيع العنب حَتَّى يسود» ، وثبت
أنه «نهى عن بيع السنبل حَتَّى يبيض» ، وثبت عنه، أنه قَالَ: «من باع نخلا
فيها ثمر قد أبرت فثمرها للبائع إلا أن يشترط
(1/258)
المبتاع» .
والإبار التلقيح.
وإذا اشترى الرجل تمرا فأصابتها جائحة بعد أن يخلى بين المشتري وبين التمر
فهي من مال المشتري، وثبت عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه «نهى
عن بيع المحاقلة والمزابنة وبيع السنين» ، والمحاقلة: أن يبيع الزرع بمائة
فرق حنطة، والمزابنة: أن يبيع التمر في رءوس النخل بمائة
(1/259)
فرق تمر.
ورخص في بيع العرايا بخرصها، وذلك مستثنى من جملة نهيه عن بيع التمر
(1/260)
بالتمر، وَلا يجوز أن يباع من العرايا إلا
دون خمسة أوسق.
وبيع السنين: أن يبيع الرجل ثمن نخله سنتين، ويقال: إن النَّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما رخص في بيع العرايا، أن قومًا شكوا إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الثمار تأتي وَلا نقد
معهم، ومعهم تمر من بقايا أقواتهم، فرخص لهم أن يبتاعوا من الثمار بخرصها
ترفقًا بأهل الفاقة.
باب الخيار في البيع والعيوب توجد في السلع
93 - أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا إِلا
بَيْعَ الْخِيَارِ»
(1/261)
والافتراق افتراق الأبدان، ومعنى قوله: إلا
بيع الخيار.
أن يقول أحد المتبايعين للآخر: اختر إنفاذ البيع أو فسخه، فإذا اختار إمضاء
البيع تم البيع، وإن لم يفترقا، وإذا تبايعا وشرطا خيار شهر أو أقل أو أكثر
فالبيع جائز، وللذي اشترط الخيار إِلَى الوقت الذي اشترط الخيار إليه، وقد
ذكرنا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
«لا تصروا الإبل» .
وقال: «من غشنا فليس منا» .
وقال: «الدين النصيحة» .
وقال: «لا يحل لمسلم إن باع من أخيه بيعًا فِيهِ عيب إلا بينه لَهُ» .
وقد أجمع أهل العلم عَلَى أن من اشترى سلعة ووجد بها عيبًا كَانَ عند
البائع لم يعلم
(1/262)
به المشتري أن لَهُ الرد، وإذا باع سلعة
بالبراءة من العيوب لم يبرأ إلا من عيب بينه للمشتري.
وإذا اشترى الرجل من الرجل سلعة وبها عيب لم يعلم به المشتري وحدث عنده عيب
آخر، ففيها قولان: أحدهما: أن يرجع عَلَى البائع بأرش العيب الأول.
والثاني: أن يرد السلعة، ويرد مَا نقصه العيب الذي حدث عند المشتري.
وإذا كانت سلع فوجد ببعضها عيبًا رد الجميع، أو حبس الجميع، وجاء الحديث
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «الخراج
بالضمان» .
فإذ اشترى عبدًا ودارًا فاستغل ذَلِكَ ثم وجد بهما عيبًا ردهما وكانت لَهُ
الغلة.
باب ذكر السلم
قَالَ تعالى: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ}
[البقرة: 282] .
94 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ
الْوَلِيدِ الْعَدَنِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ
(1/263)
أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
كَثِيرٍ، عَنْ أَبِي الْمِنْهَالِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: قَدِمَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ وَهُمْ
يُسْلِفُونَ فِي الثِّمَارِ فِي سَنَتَيْنِ وَثَلاثٍ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَسْلِفُوا فِي الثِّمَارِ
فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ إِلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ»
فالسلم الجائز أن يسلم الرجل إِلَى الرجل في دنانير معلومة، في طعام معلوم
موصوف بكيل معلوم إِلَى أجل معلوم أو وزن معلوم يدفع إليه الدنانير قبل أن
يفترقا من الموضع الذي تبايعا فِيهِ، ويكون ذَلِكَ من طعام بلد ضخم لا يخطئ
مثلها، ويسمى المكان الذي يقتضى فِيهِ، وَلا يجوز السلم إِلَى أجل مجهول،
(1/264)
والسلم جائز في الحيوان من الدواب والرقيق،
وكذلك يجوز السلف في الثياب، وفي اللحم، وفي الشحم، والفواكه، والحبوب
كلها.
والسمك بعد أن يوصف ذَلِكَ بما يجب أن يوصف، والرهن، والحميل جائز في
السلم، وله أن يقبله فيما أسلم فِيهِ وفي بعضه.
باب ذكر الأقضية في البيوع
95 - نا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالا:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ
الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ
مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إِلا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ»
وبهذا نقول فإذا اشترى الرجل عبدا واشترط ماله، عينا كَانَ المال أو دينا،
أقل مما اشتراه به أو أكثر، علم مقداره أو لم يعلم لحكم رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حكمًا تامًا.
وأجمع أهل العلم: عَلَى أن من باع معلومًا من السلع خاصة، بمعلوم من الثمن
وقد عرف البائع والمشتري السلعة إن البيع جائز.
وإذا باعه سلعة لم يرها المشتري ووصفها لَهُ البائع فالبيع جائز، فإن وجدها
عَلَى الصفة فلا خيار لَهُ، وإن وجدها عَلَى غير الصفة كَانَ لَهُ الخيار
إن شاء أمسك وإن شاء رد بما يكون ذَلِكَ لَهُ في العيب يجده بالسلعة، وإذا
باع مَا يملك وما لا يملك فالبيع باطل، ويستحب أن يشهد عَلَى البيع.
وإذا اختلف المتبايعان في الثمن والسلعة قائمة تحالفا وتفاسخا، فإن كانت
السلعة مستهلكة فكذلك يتحالفان ويتفاسخان، ويرد قيمة السلعة، وإن اختلفا في
قيمتها فالقول قول المشتري مع يمينه، وهذا سبيل كل غارم إذا لم تكن بينة أن
القول قوله مع يمينه.
وإذا اشترى عشرة أثواب بعشرة دنانير فزاد ثوب أو نقص ثوب فالبيع فاسد
والتولية بيع والشركة بيع، والإقالة فسخ بيع، وَلا بأس بالإقالة في الطعام
وغيره.
(1/265)
وإذا اشترى الزيت أو السمن في الظروف عَلَى
أن توزن الظروف إذا فرغ ذَلِكَ، وتطرح من جملة الوزن فالشراء جائز.
وإن اشترى الرجل من الرجل دابة واشترط ظهرها إِلَى مكان معلوم فذلك جائز،
ثبت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «اشترى من
جابر جملا واستثنى جابر ظهره إِلَى أهله» ، وكذلك الدار تباع ويستثنى السكن
وقتا معلوما، ويجوز أن يبيع الأمة ويستثني حملها، لأن المستثنى لم يبع إنما
وقع البيع عَلَى معلوم.
وإذا كَانَ لَهُ أن يبيع جارية قد أعتق مَا في بطنها، لأن البيع في الجارية
دون الولد كَانَ في البيع كذلك إذا باع الجارية دون الولد.
ويجوز أن يبيع الثوب بدينار إلا قيراطًا، وَلا يجوز أن يباع بدينار إلا
درهمًا، وَلا يجوز أن يباع النخل نخلات بعدد بغير أعيانهن، وله أن يستثني
الثلث أو الربع أو أقل أو أكثر بعد أن يكون المستثنى معلومًا جزءا من
أجزاء،
(1/266)
وَلا يجوز البيع إِلَى الحصاد والدياس،
وقدوم الحاج، وقدوم الغزاة، وَلا يجوز أن يكون الأجل إلا معلوما.
باب الشفعة
96 - نا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَمُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ، قَالا:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: وَإِنَّمَا
«جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ
فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتِ الْحُدُودُ وَصُرِفَتِ
الطُّرُقُ فَلا شُفْعَةَ»
وبهذا نقول، وَلا اختلاف بين أهل العلم في إثبات الشفعة للشريك الذي لم
يقاسم فيما يباع من أرض أو دار أو حائط، وَلا شفعة لغير الشريك، وَلا شفعة
(1/267)
في العروض والحيوان وَلا فيما لا يحتمل
القسم، لأنه لما أوجب الشفعة فيما تقع عليه الحدود دل عَلَى أن لا شفعة
فيما لا يقع عليه الحدود.
والشفعة ثابتة للصغير، والغائب، والأعرابي، والذمي لدخولهم في جملة الشركاء
الذين جعل لهم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشفعة والعهدة
للشفيع عَلَى المشتري، وإذا نكح الرجل الْمَرْأَة عَلَى شقص من دار فلا
شفعة فِيهِ، وإذا طلب الشركاء الشفعة وحقوقهم متفاوتة أخذوا ذَلِكَ عَلَى
رءوس الرجال.
باب الشركة
أجمع أهل العلم عَلَى أن الشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد من الشريكين مالا،
دنانير أو دراهم مثل مال صاحبه، ثم يخلطا ذَلِكَ حَتَّى يصير مالا لا يتميز
عَلَى أن يبيعا ويشتريا مَا رأيا عَلَى أن مَا كَانَ فِيهِ من الربح
فبينهما، وما كَانَ من نقصان فعليهما، وَلا تجوز الشركة بالعروض وَلا بغير
الدنانير والدراهم، وَلا يجوز أن يكون رأس مال أحدهما أكثر من رأس مال
صاحبه، وَلا يجوز أن يخرج أحدهما دنانير والآخر دراهم، وَلا تجوز شركة
الأبدان.
(1/268)
باب الرهن
قَالَ اللَّه جل ذكره: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا
كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] .
97 - وحَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَفَّانَ، قَالَ: نا ابْنُ نُمَيْرٍ، عَنِ
الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنِ الأَسْوَدِ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «رَهَنَ دِرْعًا
وَأَخَذَ طَعَامًا»
وكل مَا جاز أن يباع جاز أن يرهن، وَلا يتم الرهن إلا بالقبض.
وإذا هلك الرهن فمن مال الراهن.
وقبض العدل الرهن جائز بأمر المرتهن لأنه في معنى وكيله، وإذا اختلف الراهن
والمرتهن في المال فالقول قول المرتهن مع يمينه، وإن أتلف المرتهن الرهن
واختلفا في قيمته فالقول قول المرتهن مع يمينه.
وإذا رهن الرجل عند الرجل عبدًا فهو ممنوع من بيعه وهبته وعتقه، وإن كانت
أمة فهو ممنوع من وطئها، ونماء الرهن للراهن، ونقصانه عليه، وَلا يكون ثمر
الشجر ونتاج الماشية وألبانها رهنًا معها ذَلِكَ كله للراهن، ونفقة الرقيق،
وعلف الدواب المرهونة عَلَى الراهن، ورهن الشقص جائز كما يجوز بيعه، وإذا
رهن رهونًا بمال فقضى بعض المال لم يجب إخراج شيء من الرهون حَتَّى يقبض
جميع حقه.
(1/269)
باب المضاربة
أجمع أهل العلم عَلَى إباحة المضاربة بالدنانير والدراهم، وذلك أن يدفع
الرجل إِلَى الرجل الدنانير أو الدراهم عَلَى أن يبيع ويشتري مَا رأى من
أنواع التجارة عَلَى أن مَا رزق اللَّه فِيهِ من فضل بعد أن يقبض رب المال
رأس المال فللعامل من ذَلِكَ الفضل ثلثه أو نصفه، وما بقي فلرب المال، وَلا
تجوز المضاربة بالعروض.
وَلا يجوز أن يقول: لك نصف الربح إلا عشرة دراهم أو لك نصف الربح وعشرة
دراهم.
وإذا اختلفا في بيع السلع فالقول قول من دعا إِلَى البيع.
باب الإجارات
قَالَ اللَّه جل ذكره: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ
أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] .
فللمرء أن يستأجر الدار قد عرفها وقتًا معلوما بأجر معلوم عَلَى أن يسكنها،
فإذا صحت الإجارة عَلَى هذا فللمستأجر أن يكري الدار بأقل مما اكتراه أو
بأكثر وله أن يسكنها.
والكراء حال إلا أن يشترطه إِلَى مدة معلومة فيكون إِلَى المدة التي ذكرها،
وكذلك يكتري العبد والدابة والأرض عَلَى مَا ذكرناه.
فإذا ثبت الكراء لم يجز إبطاله بموتهما وَلا بموت أحدهما بل يقوم وارث
الميت منهما مقام المورث.
وَلا يجوز فسخ الإجازة بأن يبدو لهما أو لأحدهما بعذر يذكره وَلا بغير عذر،
وللرجل أن يستأجر الْمَرْأَة لترضع ولدًا لَهُ قد عرفاه وقتًا معلومًا بأجر
معلوم، وَلا يجوز أن تستأجر بطعامها وكسوتها.
إلا أن يكون ذَلِكَ معلومًا معروفًا كما يكون في باب المسلم.
وَلا يجوز كراء المحامل والزوامل حَتَّى يعرف الجمال والمكتري الراكبين
والظروف وجميع مَا يحمل من الْمَاء والزاد وغير ذَلِكَ، وتكون الإجارة
أمرًا معلوما والموضع الذي إليه اكتري معلوما.
(1/270)
وَلا يجوز تضمين الصناع إلا فيما جنت
أيديهم وَلا بأس باستئجار الثياب والحلي والسيف والسرج واللجام وما أشبه
ذَلِكَ بعد أن يكون الأجر معلوما والوقت معلوما، وَلا بأس بأجور المعلمين،
وَلا تجوز إجارة النائحة والمغنية، وقد ثبت، أن نبي اللَّه صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نهى عن عسب الفحل» ، فالكراء الذي يأخذه المرء عَلَى
ضراب الفحل غير جائز
(1/271)
وَلا بأس بأجر الكيال والوزان والقاسم وكسب
الحجام غير محرم، لأن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أعطى
الحجام أجره» ، والنهي الذي وقع فِيهِ نهي تنزيه لا نهي تحريم.
(1/272)
|