الإقناع لابن المنذر

كتاب الحدود
باب أحكام السراق
قَالَ اللَّه جل ذكره: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] .
114 - نا عَلاقُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: نا ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا نَافِعٌ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ الْهَادِ، أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ حَزْمٍ، حَدَّثَهُ عَنْ عَمْرَةَ، عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «لا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إِلا فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا»

(1/330)


وَلا يجوز قطع يد السارق إلا أن يسرق ربع دينار فصاعدًا أو مَا قيمته ربع دينار أو أكثر من ذَلِكَ مَا كَانَ الشيء المسروق مما يجوز ملكه إذا سرق ذَلِكَ من حرزه، ويجب القطع عَلَى السارق بإقراره وبالبينة تشهد عليه بذلك.
وإذا أقر السارق بسرقة فوجب عليه القطع قطعت يده، حضر رب الشيء أو لم يحضر.
ومن سرق عبدًا صغيرًا من حرزه قطع، ومن سرق حرًا لم يقطع، وكل مَا سرق مما قيمته ربع دينار من الطعام، والفاكهة الرطبة، واليابسة، والحشيش، والزجاج، والأبازير، والتوابل، والحطب، والحبوب كلها وجب قطع يد السارق إذا سرق ذَلِكَ من حرزه.
وَلا قطع في تمر معلق وَلا كثر، وَلا يقطع في الماشية إلا مَا آواه المراح من ذَلِكَ، وَلا يجب قطع يد السارق حَتَّى يخرج المتاع من الحرز، وعلى النباش القطع إذا أخرج الكفن من القبر، وعلى الطرار القطع.
وليس عَلَى مختلس وَلا منتهب وَلا خائن قطع، وليس عَلَى من استعار متاعًا فجحده قطع، وكل سارق سرق من مال أَبِيهِ أو أمه أو أخيه أو جدته أو خالته أو من ذات محرم منه فعليه القطع

(1/331)


عَلَى ظاهر كتاب اللَّه تبارك وتعالى.
وكذلك الزوج يسرق مال زوجته، والزوجة تسرق مال زوجها، وإذا أقر السارق بالسرقة مرة وجب قطع يده، وإذا سرق قطعت يده اليمنى، ثم إن سرق قطعت رجله اليسرى، وقد اختلفوا فِيهِ إن سرق بعد ذَلِكَ.
وَلا يجب قتل السارق بعد قطع الأطراف، وتحسم يد السارق، والعبد داخل في جملة من أمر اللَّه بقطع يده إذا سرق آبقا كَانَ أو غير آبق.
وليس عَلَى العبد يسرق من مال مولاه قطع، وإذا قطعت يد السارق ووجد المتاع مَعَهُ بعينه وجب رد ذَلِكَ عَلَى مالكه، فإن كَانَ استهلك المتاع فعليه قيمته، وكل مَا لا ثمن لَهُ مثل الخمر، والخنزير، والميتة فلا قطع فِيهِ، كَانَ المسروق منه مسلما أو ذميا.
ويقام الحد عَلَى السارق في أرض الإسلام وأرض الحرب، وحد البلوغ الذي يوجب الحدود أن يحتلم أو يكمل خمس عشرة سنة أو ينبت الشعر.
والمرأة تجب عَلَيْهَا الفرائض والحدود إذا حاضت، وثبت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «من ستر عَلَى مسلم ستر اللَّه عليه» .
ومن رأى مسلما عَلَى حد من حدود اللَّه ستر عليه ووعظه، فإن بلغ ذَلِكَ الإمام لم يسعه إلا إقامة الحد، روينا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب» .

(1/332)


باب المحاربين
قَالَ اللَّه جل ذكره: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] .
فمن الحق الذي يحل به دم المسلم أن يكفر الرجل بعد إيمانه.
115 - نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، نا أَبُو الرَّبِيعِ، قَالَ: نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: نا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلٍ، قَالَ: كُنَّا مَعَ عُثْمَانَ فِي الدَّارِ وَهُوَ مَحْصُورٌ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " لا يَحِلُّ قَتْلُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا بِإِحْدَى ثَلاثِ خِلالٍ: بِكُفْرٍ بَعْدَ إِيمَانٍ، أَوْ بِزِنًى بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ بِقَتْلِ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ فَيُقْتَلُ بِهَا "

(1/333)


فهذا مستنثى من الآية التي ذكرها اللَّه، وقال اللَّه جل ذكره: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] .
نزلت هذه الآية في المسلمين، فمن خرج عَلَى المسلمين فقطع الطريق، وأخاف السبيل، وسعى في الأرض بإفساد فهو محارب، وقد اختلفوا فيما يجب عَلَى من فعل ذَلِكَ، فَقَالَ قوم: إذا خارج محاربا فأخاف السبيل وأخذ المال قطعت يده ورجله من خلاف، ثم صلب، وإذا قتل ولم يأخذ المال قتل، وإن لم يقتل ولم يأخذ المال نفي وهو قول جماعة.
قَالَ الشَّافِعِيّ: يقام عليهم الحدود عَلَى قدر أفعالهم.
وقال مالك، وجماعة: الإمام مخير في الحكم عَلَى المحاربين يحكم عليهم بأي الأحكام التي أوجبها اللَّه جل وعز من القتل أو الصلب أو القطع أو النفي عَلَى ظاهر الآية.
وإذا تاب المحارب الذي قد جنى الجنايات قبل أن يقدر عليه الإمام سقط عنه مَا كَانَ لله من حد وأخذ بحقوق الآدميين ومن خرج عَلَى المسلمين في مصر من الأمصار فحكمه كحكم من خرج من الصحراء.

باب ذكر إقامة الحدود في الزنى
قَالَ اللَّه جل ذكره: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا} [الإسراء: 32] ، وقال عز

(1/334)


وجل: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور: 2] ، {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 3] .
116 - نا يَحْيَى، قَالَ: نا مُسَدَّدٌ، قَالَ: نا أَبُو مُعَاوِيَةَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ؟ ، قَالَ: أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ ".
قِيلَ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: «أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، ثُمَّ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِكَ» ، قَالَ: وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ فِي كتابهِ: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا} [الفرقان: 68] "
أمر اللَّه جل ذكره أمرًا عامًا بجلد الزاني مائة جلدة فذلك واجب عَلَى كل زان بكرًا كَانَ أم ثيبًا، وثبت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم» .

(1/335)


واستعمل علي بن أبي طالب بعد رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلد شراحة يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة.
وروي ذَلِكَ عن أبي بن كعب.
والإحصان الذي يوجب الرجم المجمع عليه، أن ينكح الحر المسلم الحرة المسلمة نكاحًا صحيحًا، ويدخل عَلَيْهَا ويطأها في الفرج، فإذا كَانَ ذَلِكَ فهو محصن يجب عليه الرجم إذا زنى.

(1/336)


وجملة مَا يكون به الرجل محصنًا أن يتزوج امرأة مسلمة حرة أو أمة أو ذمية حرة ويطأها بعد النكاح، فإذا فعل ذَلِكَ كَانَ محصنًا، وكذلك الحرة إذا تزوجها الحر، أو المكاتب أو العبد المعتق بعضه، نكاحًا صحيحًا ثم وطئها فهي محصنة يجب عَلَى كل واحد منهما إذا صار محصنًا بما ذكرناه الرجم إن زنى.
وليس في الحفر للمرجوم خبر يثبت، وحسن لو حفر لَهُ ويداوم عَلَى المرجوم

(1/337)


الرجم حَتَّى يموت.
وَلا يقام عَلَى الحبلى الحد حَتَّى تضع حملها، فإذا وضعت حملها رجمت.
وإذا أقر الرجل أو الْمَرْأَة بالزنى ووصف الزنى رجم لقول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنيس: «واغد يَا أنيس عَلَى امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها» .

(1/338)


وإذا أقر الرجل بالزنى مرة ثم رجع، لم يقبل رجوعه وأقيم عليه الحد، وليس في الأخبار أن ماعزًا رجع عما أقر به،

(1/339)


وإذا أقر الذمي بالزنى ورضي بحكمنا حكمنا عليه بأحكام أهل الإسلام.
وإذا أقر العبد بالزنى ووصفه حد، وإذا اجتمعت عَلَى الرجل حدود أقيمت عليه كلها ولم يجز إسقاط شيء منها.
وإذا أراد الإمام أن يقيم الحد عَلَى الزاني وكان جلدًا لم يجرده ويترك عليه قميصًا، وَلا يترك عليه منها مَا يمنعه ألم الضرب ويأمر بضربه ضربًا مؤلمًا لا يشق اللحم، وقد قيل: يضرب الرجل قائما والمرأة جالسة، وهذا حسن، ويتقى الوجه، للثابت عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه» .
كذلك لا يضرب الفرج، ويعطى كل عضو حقه إلا الخاصرة أو موضع يخاف منه التلف.
وَلا يمد المضروب، وَلا يرفع الضارب يده حَتَّى يرى إبطه، وَلا يقيم الحدود إلا مأمون عالم بالحدود، وتكره إقامة الحدود في المساجد، وَلا يجوز القول في التعزيز إلا واحدًا من قولين: إما أن لا يجاوز عشر جلدات لحديث روي لم يثبت عندي بعد، أو يكون للإمام أن يضرب عَلَى قدر الجناية، وشروع الفاعل

(1/340)


في الشر مَا لم تبلغ حدا، وثبت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أمر بأن يجلد البكر مائة ويغرب عامًا» .
ينفى من بلده إِلَى بلد آخر قرب البلد أم بعد، لأن ذَلِكَ يقع عليه اسم النفي، وإذا زنى الرجل بحرة مسلمة أو ذمية أو أمة أو كانت الأمة لزوجته أو لأبيه أو لأمه أو لأحد من قراباته، وتزوج خامسة وعنده أربع زوجات وهو يعلم أن اللَّه حرم ذَلِكَ، فعليه الحد في ذَلِكَ كله.
وإذا زنى البالغ بالصغيرة أو المعتوهة وجب عَلَى البالغ الحد، وَلا حد عَلَى الصغيرة،

(1/342)


وَلا عَلَى المعتوهة، وإذا حملت امرأة المجبوب أو الصبي الذي لم يبلغ ويجامع مثله عَلَى نفسها فعليها الحد، وَلا حد عليه.

باب ذكر إقامة الحدود عَلَى العبيد والإماء
قَالَ اللَّه ذكره: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] .
117 - نا الرَّبِيعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ الأَمَةِ إِذَا زَنَتْ وَلَمْ تُحْصَنْ، فَقَالَ: إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ إِنْ زَنَتْ فَاجْلِدُوهَا، ثُمَّ بِيعُوهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ «»

(1/343)


فإذا أقر العبد والأمة بالزنى مرة واحدة وجب عَلَى أيهما زنى الحد.
والحد الذي يجب عليه مَا يتبعض وهو أن يجلد خمسين، وَلا يجوز أن يرجم، لأن الرجم لا نصف لَهُ، قد يموت بحجر واحد، وَلا يموت بمائة حجر.
وللرجل أن يقيم الحد عَلَى عبده وأمته دون السلطان غير أنه لا يقيم عليهما الحد حَتَّى يصح زناهما، ويقام عَلَى العبد الحد إذا أقر بالزنى، وإن أنكر مولاه ذَلِكَ.
وَلا يقبل في الزنى أقل من أربعة شهداء عدول، ويصفون الزنى بأن يقولوا رأينا ذَلِكَ منه في ذَلِكَ منها مثل: المرود في المكحلة، والرشا في البئر.
فإذا شهدوا بذلك وجب إقامة الحد عَلَى الزاني، وكان عمر بن الْخَطَّابِ يوجب عَلَى الشهود إذا لم يتموا أربعة الحد، وقال بقوله عوام أهل العلم، وَلا تقبل شهادة النساء في الحدود.
وإذا اختلف الشهود في الشهادة لم تجب إقامة الحد عَلَى المشهود عليه.

باب القذف
قَالَ اللَّه جل ذكره: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] .
وأجمع أهل العلم عَلَى أن علي قاذف المحصنة بالزنى الحد إذا طلبت المقذوفة ذَلِكَ وأنكرت مَا رماها به، ولم يكن مع القاذف أربعة شهود يشهدون عَلَى صدق مَا قَالَ،

(1/344)


وَلا حد عَلَى من قذف نصرانية في قول عامة أهل العلم كَانَ ولدها من مسلم أو لم يكن، وكذلك نقول.
وَلا يحد المملوك في القذف إلا أربعين، وليس عَلَى قاذف المملوك حد، ولكن يعزر.
وإذا نفى الرجل الرجل من أَبِيهِ، فَقَالَ: لست ابن فلان وأمه حرة مسلمة فعليه الحد، وإن كانت نصرانية عزر.
وإذا قذف الرجل أباه أو جده أو أحد أجداده، فعليه الحد، وإذا قذف الرجل ابنه ففيه قولان: أحدهما: أن عليه الحد وهذا قول عمر بن عبد العزيز، ومالك بن أنس.
والآخر: لا حد عليه والأول أصح.
وإذا قَالَ الرجل للرجل: يَا يهودي، أو يَا نصراني.
عزر، وإذا قذف الرجل جماعة بكلمة واحدة أو كلمات فعليه لكل واحد حد.
وإذا عفى المقذوف عن القاذف فلا حد عليه ويستخلف الرجل المدعى عليه القذف إذا طلب ذَلِكَ المدعي والتعريض لا يوجب الحد ولكن يعزر.
وإذا قَالَ الرجل للرجل: يَا فاسق يَا فاجر.
فلا حد عليه ويعزر، وكذلك إذا قَالَ لَهُ: يَا سارق، يَا شارب الخمر، يَا كافر، يَا خائن.

باب حد الخمر
118 - نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ، قَالَ: نا

(1/345)


هِشَامٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " جَلَدَ فِي الْخَمْرِ بِالنِّعَالِ وَالْجَرِيدِ، ثُمَّ جَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ، فَلَمَّا كَانَ عُمَرُ وَدَنَا النَّاسُ مِنَ الرِّيفِ وَالْقُرَى وَاسْتَشَارَ النَّاسَ، فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ فِي حَدِّ الْخَمْرِ؟ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: نَرَى أَنْ تَجْعَلَهُ كَأَخَفِّ الْحُدُودِ ".
قَالَ: فَجَلَدَ عُمَرُ ثَمَانِينَ "
فإذا شرب الرجل الخمر وجب جلده لقول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من شرب الخمر فاجلدوه» .

(1/346)


وأكثر أهل العلم، يقولون: يضرب ثمانين.
وقال آخرون: أربعين.
وعلى من شرب قليل مَا يسكر كثيره الحد.

(1/347)


كتاب الجراحات
قَالَ اللَّه جل ثناؤه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة: 178] .
119 - نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: نا مُسَدَّدٌ، قَالَ: نا يَزِيدُ بْنُ رَبِيعٍ، قَالَ: نا سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ، قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى عَلِيٍّ أَنَا وَرَجُلٌ آخَرُ، فَقُلْتُ لَهُ: هَلْ عَهِدَ إِلَيْكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إِلَى أَحَدٍ.

(1/348)


قَالَ: لا إِلا مَا فِي قَوْسِي هَذَا.
قَالَ: فَأَخْرَجَ كتابا.
فَإِذَا فِي كتابهِ ذَلِكَ: «الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ» ، وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ الْحُرَّ يُقَادُ بِهِ الْحُرَّ
وقال كثير من أهل العلم: أن بين الرجل

(1/349)


والمرأة القصاص في النفس.
وهو قول مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، والكوفي، وفي قوله: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم» ، دليل عَلَى ذَلِكَ، وفي القصاص بين الأحرار والعبيد في النفس قولان: أحدهما: أن بينهما القصاص، استدلالا بقوله: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم» .
والآخر: أن لا القصاص بينهما، لأنهم لما قالوا: أن لا قصاص بينهما فيما دون النفس.
وجب كذلك أن لا يكون بينهما في النفس قصاص، لأن القليل إذا وجب منه وجب منع الكثير والقليل، والقول الأول قول الثَّوْرِيّ، والكوفي، والقول الثاني قول مالك، والشافعي، وإذا قتل العبد الحر عمدًا قتل إن شاء الأولياء، في القولين جميعًا.
وَلا يجوز قتل المؤمن بالكافر للثابت عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «لا يقتل مؤمن بكافر» .

(1/350)


وفي قتل الوالد بالولد، قولان: أحدهما: أن لا يقاد به.
والقول الثاني: أن بينهما القود.
والثاني أصح، وليس فِيهِ إجماع إلا مالكا، وابن نافع، وابن عبد الحكم، قالوا: إذا قتله صبرًا قتل به.
وَلا يجوز أن يقتل الرجل بعبده، لا يثبت خبر شبرمة، وبين العبيد والإماء

(1/351)


القصاص في النفس وفيما دون النفس.
وسيد العبد المقتول الولي في ذَلِكَ بالخيار، فإن أراد القود، وكان القتل عمدًا أقيد به، وإن أراد أن يعفو عنه عَلَى غير شيء يأخذه فله ذَلِكَ وإن أراد قيمة عبده، فإن شاء سيد العبد القاتل أن يدفع ثمن العبد المقتول فعل وبرئ العبد من القتل وإلا أسلم العبد القاتل في قول المدني.
وفي قول الشَّافِعِيّ: يباع العبد القاتل فيدفع من ثمنه إِلَى سيد العبد المقتول قيمة عبده، فإن فضل عن ذَلِكَ فضل كَانَ لسيد العبد القاتل، وإن لم يف بذلك فليس لسيد العبد المقتول غير ذَلِكَ، وفي النفر يقتلون الرجل، قولان: أحدهما: أن يقتلوا به هذا قول عمر، وبه قَالَ:

(1/352)


مالك، والثوري، والشافعي ومن تبعهم وهو قول أكثر أهل العلم.
والقول الثاني: لا يقتل اثنان بواحد، روي هذا القول عن معاذ، وابن الزبير، وبه قَالَ: ابن سيرين، والزُّهْرِيّ، وقال الزُّهْرِيّ، والثوري، والكوفي: لا تقطع يدان بيد.
وقال الشَّافِعِيّ، وأحمد بن حنبل، وإسحاق: يقطع أيديهما.

باب ذكر وجوه القتل
القتل عَلَى ثلاثة وجوه: العمد، والخطأ، وشبه العمد.
فالعمد: أن يضرب الرجل الرجل بحديدة محدودة مثل: السيف، والخنجر، والسكينة وما أشبه ذَلِكَ مما يشق بحده، ومن ذَلِكَ أن يضرب بالعصا والسوط الضرب الذي الأغلب أنه يقتل أو يشدخ رأسه بالحجر الثقيل وما أشبهه، فعلى من عمد ففعل ذَلِكَ فأقل القود، ورض يهودي رأس جارية

(1/353)


بين حجرين فأمر به النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فرض رأسه بالحجرين» .
والخطأ: أن يرمي المرء الشيء فيصيب غيره مثل أن يرمي الرجل غرضًا أو مشركًا لَهُ رميه، فيصيب مسلمًا فهذا وما أشبهه خطأ، والدية في ذَلِكَ عَلَى عاقلة القاتل، وعلى القاتل الكفارة.
وشبه العمد: مَا يصاب بسوط أو عصا مما الأغلب أن ذَلِكَ لا يقتله فيؤتى عَلَى نفسه منه، فالدية في ذَلِكَ مغلظة عَلَى عاقلة القاتل.
وإذا حبس رجل رجلا عَلَى رجل حَتَّى قتله، فالقود عَلَى القاتل، وعلى الحابس الأدب.
وإذا وجد الرجل مع امرأته رجلا لم يقتله حَتَّى يأتي بأربعة شهداء، فإن قتله وَلا بينة مَعَهُ أقيد منه، وإذا اقتص من الجاني فيما دون النفس فتلف من القصاص فالحق قتله، وَلا شيء عَلَى المقتص.

(1/354)


باب ذكر الخيار الذي جعل لولي المقتول
120 - أَخْبَرَنَا حَاتِمُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَنَّ الْحُمَيْدِيَّ حَدَّثَهُمْ، قَالَ: نا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، قَالَ: نا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: لَمَّا افْتَتَحَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مَكَّةَ، قَالَ: وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ: «مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ إِمَّا أَنْ يَعْفُوَ وَإِمَّا أَنْ يَقْتُلَ»
وبهذا نقول، وإذا كَانَ لولي المقتول الخيار بين أن يعفو أو يأخذ الدية أو يقتل، فكذلك للمجروح الخيار إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ مَا يجب لَهُ من دية الجرح، وإن شاء عفا، وإذا قتل الرجل الرجل، وللمقتول ورثة صغار حبس القاتل حَتَّى يبلغ الصغار، وإن عفا بعض الورثة صارت دية.
وإذا قتل الرجل جماعة، فجاء الأول يطلب القود قيد منه، وكان للباقين الديات في ماله، وإن جاءوا معًا فطلبوا القود فقتل لم يكن لهم غير ذَلِكَ، ويقطع السارق في الحرم، ويجلد الزاني وتقام الحدود كلها في الحرم، وَلا يجوز أن يقتص من جرح حَتَّى تبرأ الجراحة.

باب ذكر الجراحات التي لا توجب قودًا وَلا عقلا
121 - نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّيْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي صَفْوَانُ بْنُ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ، قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ

(1/355)


صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ لِي أَجِيرٌ فَقَاتَلَ إِنْسَانًا فَعَضَّ أَحَدُهُمَا الآخَرَ، فَانْتَزَعَ الْمَعْضُوضُ يَدَهُ مِنْ فِي الْعَاضِّ فَانْتَزَعَ إِحْدَى ثَنِيَّتَيْهِ فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَهْدَرَ ثَنِيَّتَهُ، وَحَسِبْتُ أَنَهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ تَقْضِمُهَا كَأَنَّهَا فِي فَحْلٍ يَقْضِمُهَا»
وبهذا نقول، وقد ثبت أن نبي اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «العجماء جرحها جبار» .
وإذا انفلتت الدابة من يد

(1/356)


صاحبها فأصابت نفسًا أو جرحًا فلا عقل فِيهِ وَلا قود، وهذا قول: مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، والنعمان، ومن تبعهم، وثبت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لو أن امرءًا اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصيات ففقأت عينه مَا كَانَ عليك جناح» ، وبهذا نقول.
وإذا أسلم الرجل من المشركين ثم رجع إِلَى قومه وأقام بينهم فأصابه المسلمون خطأ في سرية، أو في غزاة فلا دية لَهُ، ويعتق الذي أصابه رقبة، روينا عن ابن عباس، أنه قَالَ في قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} [النساء: 92] مَا هذا معناه.

(1/357)


كتاب الديات
قَالَ اللَّه جل ذكره: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] .
122 - نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: نا مُسَدَّدٌ، قَالَ: نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ، عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ رَبِيعَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ أَوْسٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَلا إِنَّ قَتِيلَ الْخَطَإِ شِبْهَ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ أَوِ الْعَصَا مِائَةٌ مِنَ الإِبِلِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلادُهَا» .
وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْعِلْمِ عَلَى أَنَّ عَلَى أَهْلِ الإِبِلِ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ
وهذا دية العمد، ودية الخطأ أخماسًا خمس بنو مخاض، وخمس بنات مخاض، وخمس بنات لبون وخمس جذاع، وخمس حقاق.
ودية الْمَرْأَة عَلَى النصف من دية الرجل لا أعلمهم يختلفون فِيهِ، وعقل جراحات الْمَرْأَة عَلَى النصف من عقل الرجل فيما قل أو كثر، ودية اليهودي والنصراني بثلث دية المسلم وهو الأقل مما قيل فِيهِ، وديات نساء أهل

(1/358)


الكتاب عَلَى النصف من ديات رجالهم.
ودية المجوس ثمان مائة درهم، كذلك روي أن عمر حكم به، وبه قَالَ كثير من أهل العلم، وجراحاتهم من دياتهم كقدر جراحات المسلمين من دياتهم.
وأول الشجاج: الدامية: وهي التي تدمى من غير أن تسيل، ثم الدامغة: وهي التي يسيل منها الدم، ثم الباضعة: وهي التي تشق اللحم، ثم المتلاحمة: وهي التي أخذت في اللحم ولم تبلغ السمحاق، والسمحاق: جلدة أو قشرة رقيقة بين اللحم والعظم.
وليس في ذَلِكَ كله أرش معلوم ولكن حكومة.
وجاء الحديث عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه «جعل في الموضحة خمسًا من الإبل» ،

(1/359)


وأجمع أهل العلم عَلَى القول به، وليس بين موضحة الوجه وَلا موضحة الرأس فرق، فأما مَا كَانَ من موضحة في سوى الرأس والوجه فليس فيها إلا الاجتهاد.
وليس في الهاشمة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خبر يثبت، وأكثر أهل العلم، يقولون: في الهاشمة عشرة من الإبل، ومنهم من قَالَ فيها حكومة، وإذا لم يثبت خبر ولم يكن إجماع فالنظر عَلَى هذا يدل.
والهاشمة: التي تهشم العظم، وجاء الحديث عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «في المنقلة خمس عشرة من الإبل» .
وَلا أعلم في ذَلِكَ

(1/360)


اختلافًا.
والمنقلة التي ينقل منها العظم، وليس في المنقلة وَلا في الهاشمة وَلا المأمومة قود.
وفي المأمومة ثلث الدية وهذا قول عوام أهل العلم، وإذا ضرب الرجل الرجل ضربة فأذهب عقله ففيه الدية.
وأجمع عوام أهل العلم عَلَى أن في السمع الدية، وقال كثير منهم: في الأذنين الدية، وفي كل أذن نصف الدية، وليس في الشعر عقل فلا يثبت حكم معلوم، والذي يجب فِيهِ أقل مَا قيل وهو حكومة.
وفي الحاجبين حكومة إلا أن يكون أوضح عن العظم فيكون فِيهِ موضحة، وفي العينين الدية، وفي كل واحدة نصف الدية.
وفي الأعور تفقأ عينه التي ينظر بها الدية، والقصاص بين الأعور والصحيح كهو بين سائر الناس لا فضل لعين عَلَى عين، قَالَ اللَّه تبارك وتعالى: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] وَلا فضل للعين الحسناء الجميلة عَلَى العين القبيحة السمجة، وفي العين القائمة التي لا يبصر بها صاحبها حكومة، وفي كل جفن من الجفون ربع الدية.
وليس في الأهداب يجنى عَلَيْهَا فلا تنبت إلا حكومة، وفي العين إذا فقئت عمدًا القصاص، يؤمر بمرآة فتحمى ثم يوضع القطن عَلَى العين التي لا قصاص فيها، ثم تؤخذ المرآة بكلبتين فتدني من عينه حَتَّى تسيل عينه.
جَاءَ الحديث عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «في الأنف إذا أوعب جدعًا

(1/361)


الدية» .
والقصاص في الأنف كالقصاص من سائر الأعضاء، وما أصيب من الأنف فبحسابه من الدية إذا كَانَ القطع من دون العظم، وفي الشفتين الدية، في كل واحدة نصف الدية، وهذا قول: مالك، والشافعي، والنعمان ومن تبعهم.
وما قطع من الشفتين فبحسابه.
جَاءَ الحديث عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «وفي السن خمس من الإبل» .
وبه نقول: لا فضل للثنايا منها عَلَى الأنياب والرباعيات والأضراس، وإذا جنى الرجل عَلَى سن رجل فاسودت ففيها حكومة، وإذا قلع سن الصبي الذي لم يثغر به انتظر به، فإذا يئس من أن ينبت فله أرشها، وإذا نبتت ناقصة عن التي تقاربها كَانَ عليه من الأرش بقدر نقصانها، وإذا قلع الرجل السن الزائدة فليس فيها إلا حكومة.
جَاءَ الحديث عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه «جعل في اللسان الدية» ، ففي اللسان الدية، وإن قطع بعض اللسان فذهب الكلام ففيه الدية، وإذا قطع منه مَا يذهب بعض الكلام ففيه من الدية بحساب مَا ذهب من الكلام، والكلام الذي يعتبر به ذَلِكَ حروف التهجي ثمانية وعشرون حرفًا، وأحسن مَا قيل في لسان الأخرس أن فِيهِ حكومة.
وكان الشَّافِعِيّ، يقول: في اللحيين الدية، وفي اللهاة تقطع حكومة.
جَاءَ الحديث

(1/362)


عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «في اليد خمسون من الإبل، وفي الرجل خمسون» .
وأنه قَالَ: «في الأصابع عشر عشر» .
ففي الأنامل عشر عشر من الإبل لا فضل لبعضها عَلَى بعض، والأنامل سواء في كل أنملة ثلث دية الإصبع إلا الإبهام، فإنها أنملتان في كل أنملة نصف دية الإصبع، وفي اليد الشلاء حكومة، وفي ثدي الْمَرْأَة نصف ديتها، وفي الثديين الدية، وإذا قطعت الحلمة فذهب الرضاع ففيها نصف الدية، وسواء ثدي الشابة والعجوز والعاقر، وفي ثدي الرجل حكومة.
وإذا انكسر صلب الرجل فلم يقدر أن يمشي، وذهب ماؤه ففيه الدية، وثبت أن عمر بن الْخَطَّابِ، قَالَ: «وفي الضلع جمل، وفي الترقوة جمل، وفي الجائفة ثلث الدية» وقد أجمعوا عَلَى أن لا قصاص فيها، وفي الذكر الدية، وفي الحشفة تقطع وحدها الدية، وذك الخصي كذكر الفحل لأنه عضو، وفي البيضتين الدية، وفي كل واحدة نصف الدية، لا فضل لليسرى عَلَى اليمنى.
وإذا قطع شفر الْمَرْأَة فمنع الجماع ففيها الدية، والشابة والكبيرة في ذَلِكَ سواء، وفي

(1/363)


الأليتين الدية، في كل واحدة منها نصف الدية، وفي الرجلين الدية، وفي كل واحدة منهما نصف الدية.
وليس في العظام تكسر قصاص، ومعنى قولهم: حكومة.
أن ينظر إِلَى الجروح لو كَانَ عبدًا كم قيمته قبل أن يجرح؟ ، فإن قالوا: مائة دينار.
قيل: كم قيمته وبه الجرح الذي أصابه بعدما تنتهي الجراحة؟ فإذا قيل: خمسة وتسعون ففي الجرح الذي أصيب نصف عشر الدية.
وإن قالوا: تسعين ففيه عشر الدية، ثم ابن مَا ورد عليك من المسائل في هذا الباب عَلَى هذا المثال إن شاء اللَّه تعالى.

باب ذكر الجنايات التي توجب العقل وَلا توجب القود
وإذا اصطدم الفارسان فماتا، وماتت دابتاهما فعلى عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه، وذلك أن كل واحد منهما مات من فعله وفعل صاحبه، وفي مال كل واحد منهما نصف قيمة دابة صاحبه، وللمرء إذا احتاج إِلَى الحجامة أن يحتجم بل تستحب الحجامة لقول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خير مَا تداويتم به الحجامة والقسط البحري» .
فإذا استعان المرء بطبيب ليفتح لَهُ عروقًا أو يقطع منه مَا فِيهِ صلاح بدنه، ففعل مَا أمر به ولم يتعد ذَلِكَ إِلَى غيره فلا ضمان عليه وإن تلف المعالج منه.
وإذا استأجر الرجل أجراء يحفرون لَهُ بئرًا أو يبنون لَهُ بناء فأصيبوا في بعض أعمالهم فلا ضمان عَلَى المستأجر لأنه لم يجن ولم يتعد.
وإن حمل صبيًا لم يبلغ، أو استعان بمملوك رجل بغير إذن سيده فتلف ضمن كل واحد منهما.

(1/364)


كتاب المعاقل
قَالَ اللَّه جل ذكره: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً} [النساء: 92] ، وقال جل ذكره: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الإسراء: 15] .
123 - نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: نا مُسَدَّدٌ، قَالَ: نا هُشَيْمٌ، قَالَ: نا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ إِيَادِ بْنِ لُقَيْطٍ، عَنْ أَبِي رِمْثَةَ، قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَعِي ابْنٌ لِي، قَالَ: " هَذَا ابْنُكَ.
قُلْتُ: أَشْهَدُ بِهِ.
قَالَ: لا يَجْنِي عَلَيْكَ وَلا تَجْنِي عَلَيْهِ «

(1/365)


فالواجب عَلَى ظاهر كتاب اللَّه جل وعز، وسنة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن لا يؤخذ امرؤ بجناية غيره، فلما ثبت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنه» جعل الدية في قتل الخطأ عَلَى العاقلة "، وجب تسليم ذَلِكَ لرسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، واستثناء مَا دلت عليه السنة من ظاهر الكتاب والسنة.
124 - نا عَلاقُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَضَى فِي جَنِينِ امْرَأَةٍ مِنْ بَنِي لَحْيَانَ سَقَطَ مَيِّتًا بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ» ، ثُمَّ إِنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا بِغُرَّةٍ تُوُفِّيَتْ «فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» بِأَنَّ مِيرَاثَهَا لِبَنِيهَا، وَزَوْجِهَا، وَأَنَّ الْعَقْلَ عَلَى عَصَبَتِهَا "

(1/366)


والعاقلة العصبة، وكل من يحفظ عنه من أهل العلم، يقول: ولد الْمَرْأَة من غير عصبتها لا يعقلون عنها، وكذلك إخوتها من أمها لا يعقلون عنها.
ويقولون: إن الصبي الذي لم يبلغ والمرأة لا يعقلون مع العاقلة، وإن الحر الفقير لا يلزمه من الدية شيء، ويلزم لكل رجل من العاقلة أقل مَا قيل وهو ربع دينار، وإن ضاق الأمر ولم يكن في عصبتها العدد الذي يحملون الدية ضموا إِلَى أقرب القبائل إليهم.
ودية الخطأ يجب أن يقضى بها عَلَى العاقلة وما زاد عَلَى ثلث الدية تلزم العاقلة لإجماع أهل العلم، ومقدار الغرة يحكم به عَلَى العاقلة لأن ذكر ذَلِكَ موجود في حديث المغيرة بن شعبة، وكل مختلف فِيهِ بعد ذَلِكَ فمردود إِلَى أن يلزم الجاني لدلالة الكتاب والسنة، ويقضى بالدية عَلَى العاقلة في ثلاث سنين في كل سنة منها ثلث الدية، ويجل النصف في سنتين، في السنة الأولى الثلث وفي التي تليها السدس، ويجعل الثلثين في سنتين.
وليس تعقل العاقلة الجنايات عَلَى الأموال، وَلا تعقل من دية العمد شَيْئًا.
وكل مَا أخطأ الإمام من عقل جراح يلزم مثله العاقلة فهو عَلَى عاقلة الإمام دون بيت المال.
ودية شبه العمد عَلَى العاقلة، لأن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جعل دية الْمَرْأَة التي ضربت بعمود فسطاط قتلت به عَلَى العاقلة» .
وإذا قتل من لا عصبة لَهُ وله أموال

(1/367)


قتل خطأ، عقل عنه مواليه من فوق، لأنهم يرثونه إذا مات كذلك يعقلون عنه.

باب ذكر الجنين
125 - نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنِ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ نَضْلَةَ الْخُزَاعِيِّ، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: " ضَرَبَتْ حُرَّةٌ ضُرَّةً لَهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ فَقَتَلَتْهَا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَتِهَا عَلَى عَصَبَةِ الْعَاقِلَةِ وَبِمَا فِي بَطْنِهَا غُرَّةً، فَقَالَ الأَعْرَابِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُغَرِّمُنِي مَنْ لا طَعِمَ وَلا شَرِبَ وَلا صَاحَ وَلا اسْتَهَلَّ، فَمِثْلُ ذَلِكَ يُطَلُّ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَسْجَعُ سَجْعَ الأَعْرَابِ "
والحكم فِي الأجنة سواء لا فرق بين ذكرانهم وإناثهم، وإن طرحته حيًا ففي الذكر الدية كاملة، وفي الأنثى نصف الدية، وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ دليل عَلَى أن الجنين الذي قضى فِيهِ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بغرة سقط ميت، وقيمة الغرة التي يجب قبولها نصف عشر دية الرجل وهذا قول: مالك، والشافعي، والكوفي، ومن

(1/368)


تبعهم.
وتؤدى الغرة من أي جنس شاء، وقد قيل: ابن سبع أو ثمان سنين وفي جنين الأمة عشر قيمتها، استدلالا بأن فِي جنين الحرة عشر ديتها، وهذا قول: الحسن البصري، والنخعي، والزُّهْرِيّ، والمدني، والشافعي.
وفي جنين الكتابية عشر دية الأم، وفي جنين المجوسية عشر دية الأم، وَلا قود عَلَى من ضرب بطن امرأة فألقت جنينًا حيا ثم مات، وإذا طرحت الْمَرْأَة أجنة ففي كل جنين منهم غرة.
ودية الجنين موروثة عَلَى كتاب اللَّه، وإذا اختلف الجاني وورثة الجنين، فَقَالَ الجاني: ألقته ميتًا.
وقال ورثة الجنين: ألقته حيا.
فالقول قول الجاني مع يمينه إن لم تكن بينة.

باب ذكر الكفارة التي تلزم القاتل
قَالَ اللَّه جل ذكره: {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء: 92] .
وأجمع أهل العلم عَلَى أن عَلَى القاتل خطأ رقبة مؤمنة، ودية مسلمة إِلَى أهله.
وليس عَلَى من قتل عمدًا رقبة إذ لا حجة مع من أوجب ذَلِكَ.
وعلى من ضرب بطن امرأة فألقت جنينًا الكفارة.

باب ذكر أحكام العبيد والإماء فِي الجراحات والديات
وإذا قتل الرجل العبد فعليه قيمته بالغة مَا بلغت، وإن كانت ديات،

(1/369)


وفي إجماع أهل العلم عَلَى استواء ديات أحرار المسلمين، واختلاف أثمان العبيد بيان ودلالة عَلَى افتراق أحوالهم وأحوال الأحرار، وكثير من أهل العلم، يقولون: إن جراحات العبيد تجري عَلَى مَا يجري عليه جراحات الأحرار، وإذا جنى المكاتب فجنايته فِي رقبته، وما جني عليه فله أخذ الأرش من الجاني، يضمه إِلَى مَا بيده.
وعلى المكاتب فِي جنايته الأقل من قيمته، أو الجناية يؤديها مع الكتابة، فإن أداها وأدى الكتابة عتق، وإن عجز عنها وعن الكتابة رد رقيقًا، وقيل: للسيد أمر جنايته، فإن فداه سلمت لَهُ رقبته وإن أبى أن يفديه، ففيها قولان: أحدهما: أن يسلمه إِلَى صاحب الجناية.
والقول الآخر: أن يباع فِيهِ وقد ذكرت فيما مضى هذا معناه.
وجناية المدبر كجناية سائر العبيد، وفي المدبر يقتل قيمته مملوكا، وكان عمر بن الْخَطَّابِ يعتق أم الولد إذا مات سيدها وهذا قول كثير من أهل العلم.
وجناية أم الولد فِي الجناية عَلَيْهَا كجنايات سائر الإماء، والجنايات عَلَى الدواب، وعلى سائر الأموال فِي مال الجاني عمدًا كانت الجنايات أو خطأ.

(1/370)