الإقناع
لابن المنذر كتاب الجهاد
باب ذكر فضل الجهاد فِي سبيل اللَّه
143 - نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، قَالَ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟
قَالَ: «الإِيمَانُ بِاللَّهِ» .
قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» .
قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: «ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ أَوْ عُمْرَةٌ» .
وَثَبَتَ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَغُدْوَةٌ
فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ رَوْحَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» .
وَثَبَتَ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: «مَثَلُ الْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
كَمَثَلِ الصَّائِمِ الْقَائِمِ الدَّائِمِ الَّذِي
(2/432)
لا يَفْتُرُ عَنْ صِيَامٍ وَلا صَلاةٍ
حَتَّى يَرْجِعَ» .
وَقَالَ: «لا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ
فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا» .
وَقَالَ: «مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُمَا
اللَّهُ عَلَى
(2/433)
النَّارِ» .
وَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ، إِلا جَاءَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ»
باب ذكر فضل الخروج فِي السرايا وفضل الشهادة وفضل الحرس فِي سبيل اللَّه
وفضل الرباط
144 - نا إِبْرَاهِيمُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ
بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ
(2/434)
سَعِيدٍ أَنَّهُ سَمِعَ ذَكْوَانَ أَبَا
صَالِحٍ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «لَوْلا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي
أَوْ عَلَى النَّاسِ لأَحْبَبْتُ أَنْ لا أَتَخَلَّفَ خَلْفَ سَرِيَّةٍ
تَغْزُو أَوْ تَخْرُجُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَكِنْ لا أَجِدُ سِعَةً
فَأَحْمِلُهُمْ، وَلا يَجِدُونَ مَا يَتَحَمَّلُونَ عَلَيْهِ مَعِي
وَيَشُقُّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا بَعْدِي، فَلَوَدَدْتُ أَنِّي
أُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَأُقْتَلُ، ثُمَّ أَحْيَا فَأُقْتَلُ،
ثُمَّ أَحْيَا فَأُقْتَلُ» .
وَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قَالَ:
«أَنْ يُعْقَرَ جَوَادُكَ وَيُهْرَاقَ دَمُكَ» .
رُوِّينَا عَنْهُ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: فَأَيُّ الْقَتْلِ أَشْرَفُ؟ قَالَ:
«مَنْ أُهْرِيقَ دَمُهُ وَعُقِرَ جَوَادُهُ» .
وَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ
(2/435)
وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ يَوْمٍ فِي مَا سِوَاهُ مِنَ
الْمَنَازِلِ» .
وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
يَقُولُ: «حَرَسُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ
لَيْلَةِ صِيَامٌ نَهَارُهَا وَقِيَامٌ لَيْلُهَا» .
وَرُوِّينَا عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: «رَحِمَ اللَّهُ حَارِسَ الْحَرَسِ»
باب ذكر فضل ارتباط الخيل فِي سبيل اللَّه وما فِي ذَلِكَ من البركة فِي
العاجل والأجر والثواب فِي الآجل
قَالَ اللَّه جل ذكره: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] .
(2/436)
145 - نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
قَالَ: نا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: نا زَكَرِيَّا، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ الْبَارِقِيُّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا
الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الأَجْرُ وَالْمَغْنَمُ» .
وَرُوِّينَا عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: مَنِ احْتَبَسَ فَرَسًا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ إِيمَانًا بِاللَّهِ وَتَصْدِيقًا بِوَعْدِ اللَّهِ كَانَ
شِبَعُهُ، وَرِيُّهُ، وَبَوْلُهُ، وَرَوْثُهُ حَسَنَاتٍ فِي مِيزَانِهِ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ "
باب ذكر فضيلة الرمي وإعداد القوة لمحاربة
العدو
146 - نا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ،
عَنْ أُسَامَةَ، أَنَّ صَالِحَ بْنَ كَيْسَانَ، حَدَّثَهُ عَنْ عُقْبَةَ
بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
(2/437)
وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ
مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ أَلا إِنَّ
الْقُوَّةَ الرَّمْيُ، إِنَّ الأَرْضَ سَتُفْتَحُ لَكُمْ وَتُكْفُوا
الْمُؤْنَةَ فَلا يَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَلْهُوَ بِأَسْهُمِهِ»
ومر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بنفر يرمون، فَقَالَ:
«رميا بني إِسْمَاعِيل فإن أباكم كَانَ راميا» .
وروينا عَنْهُ، أنه قَالَ: " ليس من اللهو إلا ثلاث: تأديب الرجل فرسه،
وملاعبته امرأته، ورميه بقوسه ونبله، ومن ترك الرمي بعد مَا علمه، فإنها
نعمة كفرها، أو قَالَ: كفر بها ".
وروينا عَنْهُ، أنه قَالَ: «من رمى العدو بسهم فبلغ سهمه أخطأ أو أصاب
كَانَ
(2/438)
كعدل رقبة» .
باب ذكر آداب الأسفار
147 - نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: وَأَخْبَرَنِي يُونُسُ، عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ،
عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: «لَقَلَّمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْرُجُ مِنْ سَفَرٍ لِجِهَادٍ أَوْ غَيْرِهِ
إِلا يَوْمَ الْخَمِيسِ»
ويستحب أن يبكر بالخروج إِلَى الغزو، للثابت عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ
(2/439)
وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «اللهم بارك لأمتي
فِي بكورها» .
ويستحب أن يتزود المرء للسفر اتباعا لأمر اللَّه واقتداء برسول اللَّه
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ اللَّه تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
[البقرة: 197] .
و «زود رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناسًا خرجوا
جرابًا من تمر» .
وقالت عائشة فِي خروج النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبي
بكر حين أذن اللَّه لنبيه عليه السلام فِي الخروج من مكة: «فجهزناهما أحسن
الجهاز، فصنعنا لهما سفرة فِي جراب» .
(2/440)
ويستحب أن يودع المسلم أخاه، ويقول كما
قَالَ ابن عمر لقزعة: تعال أودعك كما ودعني رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أستودع اللَّه دينك وأمانتك وخواتم عملك» .
وروينا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه أخذ بيد رجل
أراد سفرًا، فَقَالَ لَهُ: «فِي حفظ اللَّه وكنفه، زودك اللَّه التقوى وغفر
ذنبك ووجهك فِي الخير أين مَا توجهت» .
(2/441)
ويستحب للخارج إِلَى السفر أن يقول مَا
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقوله إذا سافر:
«اللهم أنت الصاحب فِي السفر والخليفة فِي الأهل، اللهم اصحبنا فِي سفرنا
واخلفنا فِي أهلنا، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب، ومن
الحور بعد الكور، ودعوة المظلوم وسوء المنظر فِي الأهل والمال» .
ويستحب للمرء أن يقول عند خروجه من بيته: «بسم اللَّه لا حول وَلا قوة إلا
بالله التكلان عَلَى اللَّه» .
وروينا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كَانَ يقوله
إذا خرج من بيته.
ويستحب أن يقول إذا استوى عَلَى بعيره خارجًا إِلَى سفره مَا كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ
(2/442)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقوله،
كَانَ يكبر ثلاثا، ثم يقول: «سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا لَهُ مقرنين،
وإنا إِلَى ربنا منقلبون، اللهم إنا نسألك البر والتقوى والعمل بما ترضى،
اللهم هون علينا سفرنا واطو عنا بعده» .
ويستحب الرفق بالدواب، ويستحب الدلجة لقول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عليكم بالدلجة، فإن الأرض تطوى بالليل» .
ويكره التعريس عَلَى جراد الطريق لقول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا عرستم فاجتنبوا الطريق، فإنها مأوى الهوام
بالليل» .
(2/443)
ويستحب أن يقال مَا روي عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كَانَ إذا غزا أو سافر
فأدركه الليل، يقول: «يَا أرض ربي وربك اللَّه، أعوذ بالله من شرك وشر مَا
فيك، وشر مَا دب عليك، أعوذ بالله من كل أسد وأسود حية وعقرب ومن شر ساكن
البلد، ومن شر والد وما ولد» .
ويستحب إذا بدا لَهُ الفجر فِي السفر، أن يقول: «سمع سامع بحمد اللَّه
وبنعمته وبحسن بلائه، ربنا صاحبنا وأفضل علينا عائذا بالله من النار» .
بلغنا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يقول
ذَلِكَ ثلاث مرات يرفع بها صوته.
ويستحب أن يقول مَا روي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أنه كَانَ يقول إذا صعد أكمة أو
(2/444)
نشزا من الأرض: «اللهم لك الشرف عَلَى كل
شرف، ولك الحمد عَلَى كل حال» .
ويستحب أن يقول المرء عند رؤية القرى اللواتي يريد المسافر دخولها مَا ذكر،
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم ير قرية يريد
دخولها إلا قَالَ حين يراها: «اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب
الأرضين السبع وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن، ورب الرياح وما ذرين،
أسألك خير هذه القرية وخير أهلها وخير مَا فيها، وأعوذ بك من شرها وشر
أهلها وشر مَا فيها» .
وكان يقول: " إذا نزل أحدكم منزلا فليقل: أعوذ بكلمات اللَّه التامات من شر
مَا خلق، فإنه لا يضره شيء حَتَّى يرتحل منه ".
ويستحب إذا نزل منزلا أن لا يرتحل منه حَتَّى يصلي ركعتين لحديث أنس: أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ لا ينزل منزلا فيرتحل
منه حَتَّى يودعه بركعتين» ،
(2/445)
ويكره لعن الدواب لحديث أنس: أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لرجل لعن بعيره: «لا
تسر معنا عَلَى بعير ملعون» .
ويكره ضرب الدواب عَلَى الوجوه «لنهي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عن الضرب فِي الوجه، وعن الوسم فِي الوجه» .
فِي نهيه عن الضرب عَلَى الوجه مع ضربه البعير الذي كَانَ عليه جابر دليل
عَلَى إباحة ضرب الدواب عَلَى غير الوجه.
باب ذكر فرض الجهاد
بعث اللَّه رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الناس جميعا أهل
الكتاب وسائر المشركين، فَقَالَ جل ثناؤه: {قُلْ يَأَيُّهَا النَّاسُ
إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [إِلَى قوله: لَعَلَّكُمْ
تَهْتَدُونَ سورة الأعراف: 158] ، وجاء الحديث عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثل معنى كتاب اللَّه عز وجل.
148 - نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: نا عَفَّانُ، قَالَ: نا
أَبُو عَوَانَةَ، قَالَ: نا الأَعْمَشُ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنْ عُبَيْدِ
بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(2/446)
«أُعْطِيتُ خَمْسًا لَمْ يُعْطَهُنَّ
أَحَدٌ قَبْلِي بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ، وَجُعِلَتْ لِي
الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَأُحِلَّتْ لِي الْغَنَائِمُ وَلَمْ
تُحَلُّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ يُرْعَبُ الْعَدُوُّ
مِنِّي عَلَى مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وَقِيلَ لِي سَلْ تُعْطَ فَاخْتَبَأْتُ
دَعْوَتِي شَفَاعَةً لأُمَّتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
أقام رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة مرة يدعو
إِلَى اللَّه وإلى الإيمان به، وينهي عن الشرك ولم يؤمر فِي ذَلِكَ بقتال،
بل أمره اللَّه جل ذكره بأن يعرض عنهم، فَقَالَ: {وَأَعْرِضْ عَنِ
الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 106] ، وقال: {فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى
يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] ، فأتى بأمره لما أذن لهم فِي
القتال فنزلت: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}
[الحج: 39] .
قَالَ ابن عباس: فهي أول آية نزلت فِي القتال، وأوجب عليهم الخروج من مكة،
وأمرهم أن يهجروا دار الشرك، واستثنى منهم مستضعفين {لا يَسْتَطِيعُونَ
حِيلَةً} [النساء: 98] ، يقول مخرجًا {وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا} [النساء:
98] ، قيل: طريقا إِلَى المدينة فعذر هؤلاء.
وقال فِي الذين تخلفوا ممن لا عذر لهم: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ
الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا
كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ} [النساء: 97] ، وقد بينت هذا فِي
مختصر كتاب الجهاد بتمامه.
(2/447)
وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ
وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] ، قيل: شديد عليكم.
وقال تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ} [التوبة: 5] .
وثبت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
«أمرت أن أقاتل الناس حَتَّى يقولوا لا إله إلا اللَّه» .
149 - نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ بْنُ يَزِيدَ، عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، أَنَّ أَبَا
هُرَيْرَةَ، أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لا
إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ عَصَمَ مِنِّي
مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلا بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ»
فكأن ظاهر الآية أن الأمر بقتال المشركين وقتلهم عامة فدل قوله: {قَاتِلُوا
الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا
يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ
الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكتاب حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ
يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] ، عَلَى مراد اللَّه، وأنه إنما أراد
قتال أهل الشرك من أهل الأوثان وغيرهم دون من أعطى الجزية من أهل الكتاب.
ودل خبر ابن عباس، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه
قَالَ يوم الفتح: «لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا» .
عَلَى أن الهجرة إنما كانت واجبة إِلَى أن فتح اللَّه
(2/448)
جل ذكره مكة.
باب ذكر فرض القتال ومن يلزمه الحضور ومن لَهُ عذر لَهُ أن يتخلف من أجله
قَالَ اللَّه جل ذكره: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا
قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ}
[التوبة: 38] .
فاحتمل أن يكون ذَلِكَ مفروضا عَلَى الجميع كالصلاة، والصوم، واحتمل أن
يكون ذَلِكَ مفروضا عَلَى الكفاية، فإذا قام بثغور المسلمين من فِيهِ
الكفاية سقط الإثم عن المتخلفين، فدل قوله: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] ، عَلَى سقوط
الإثم عن المتخلف إذا قام بالعدو من فِيهِ الكفاية، لأنه لما وعد المتخلف
عن الجهاد، لقوله: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] ، دل
عَلَى أنه غير حرج، ودل قوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا
كَافَّةً} [التوبة: 122] ، عَلَى مثال هذا المعنى مع أنا لا نعلم لرسول
اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غزوة خرج فيها إلا وقد تخلف
عَنْهُ فيها رجال، وتخلف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن سرايا
أخرجها، ففي تخلفه عن الخروج مع السرايا مع قوله فِي خبر أبي سعيد الخدري:
«لينبعث من كل رجلين رجل والأجر بينهما» .
دليل عَلَى مَا قلناه.
وللرجل أن يتخلف عن الجهاد من أجل والديه لحديث عبد الله بن عمرو:
(2/449)
150 - نا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ:
نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، نا
حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي الْعَبَّاسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَجُلا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُرِيدُ
الْجِهَادَ.
قَالَ: أَحَيٌّ وَالِدَاكَ؟ ، قَالَ: نَعَمْ.
قَالَ: فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ "
وذلك مَا لم يقع النفير، فإذا وقع النفير فليس لأحد أن يتخلف لحديث أبي
قتادة: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث جيش
الأمراء واستعمل عليهم زيد بن حارثة، وقال فِي آخر الحديث: «أيها الناس
اخرجوا فأمدوا إخوانكم وَلا يتخلف
(2/450)
أحد» .
ولمن عليه دين أن يتخلف عن الغزو من أجل الدين الذي عليه استدلالا بقول
النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للرجل، الذي قَالَ لَهُ: إن
قتلت فِي سبيل اللَّه صابرًا محتسبا مقبلا غير مدبر أيكفر اللَّه عني
خطاياي؟ قَالَ: «نعم إلا الدين كذلك قَالَ لي جبريل عليه السلام» .
وللمريض أن يتخلف عن الغزو، والزمن، كذلك يقال: إن قوله تعالى: {غَيْرُ
أُولِي الضَّرَرِ} [النساء: 95] ، نزل فِي ابن أم مكتوم، وليس للعبد أن
يغزو إلا بإذن سيده.
(2/451)
باب الأمر بطاعة
الأمراء
قَالَ اللَّه جل ذكره: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، فكان
أبو هُرَيْرَة، يقول فِي قوله: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59]
: هم الأمراء، وقال ابن عباس: نزلت فِي عبد الله بن حذافة السهمي بعثه
النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سرية، وروينا عن جابر،
أنه قَالَ: هم الفقهاء.
151 - أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ،
عَنْ مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ
(2/452)
اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى
اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى
أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي»
فطاعة الأئمة تجب مَا لم تكن معصية استدلالا بخبر ابن عمر، عَنِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «السمع والطاعة عَلَى المرء
المسلم فيما أحب وكره مَا لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع وَلا
طاعة» .
وإنما تجب طاعتهم فيما أطاقه المرء واستطاعه، لأن جرير بن عبد الله، قَالَ:
بايعت رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «علام
تبايعني» .
فقلت: عَلَى السمع والطاعة فلقنني: فيما استطعت والنصح لكل مسلم.
(2/453)
للإمام أن يؤمر عَلَى الأحرار مملوك إذا
كَانَ موضعا لذلك، ثم يجب عَلَى الفور طاعته، لأن أبا ذر، قَالَ: «وصاني
النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن أسمع وأطيع، ولو لعبد مجدع
الأطراف» .
ويستحب للإمام أن يرفق برعيته لحديث عائشة، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «اللهم من ولي من أمر أمتي شيئا فرفق قلبه
بهم فارفق به، ومن شق عليهم فاشقق عليه» .
باب الأفعال التي يستحب أن يفعلها الأئمة قبل
القتال
يستحب للإمام أن يبعث بين يدي جيوشه إذا دخل أرض العدو العيون والطلائع
ليتعرف أخبار العدو استنانا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما
بعث عام الحديبية بين يديه عينا لَهُ من خزاعة يخبره عن قريش.
(2/454)
152 - نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ،
قَالَ: نا أَبُو نُعَيْمٍ، قَالَ: نا سُفْيَانُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُنْكَدِرِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الأَحْزَابِ: «مَنْ
يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟» قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا يَا رَسُولَ
اللَّهِ.
قَالَ: «مَنْ يَأْتِينِي بِخَبَرِ الْقَوْمِ؟» قَالَ الزُّبَيْرُ: أَنَا
يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لِكُلِّ نَبِيٍّ
حَوَارِيٌّ، وَحَوَارِيِّي الزُّبَيْرُ» .
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَعْقِدَ الإِمَامُ الأَلْوِيَةَ لِيَجْتَمِعَ كُلُّ
قَوْمٍ عَلَى رَايَةٍ أَوْ لِوَاءٍ لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ طَلَبُهُمْ عِنْدَ
حَاجَتِهِ إِلَيْهِمْ، يُقَالُ: إِنَّ رَايَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ سَوْدَاءَ مُرَبَّعَةً
(2/455)
مِنْ نَمِرَةٍ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُشَاوِرَ الإِمَامُ أَصْحَابَهُ فِيمَا أَشْكَلَ
عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ عَدُوِّهِمْ، لأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَاوَرَهُمْ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ
عَامَ بَدْرٍ، وَاسْتَشَارَهُمْ فِي أَمْرِ الأُسَارَى، وَكُلُّ ذَلِكَ
لِيَتَأَدَّبَ بِهِ أَهْلُ الإِسْلامِ، قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ:
{وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] ، قَالَ الْحَسَنُ: قَدْ
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِهِ إِلَيْهِمْ حَاجَةٌ، وَلَكِنَّهُ
أَرَادَ أَنْ يَسْتَنَّ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ.
(2/456)
وَيُسْتَحَبُّ لِلإِمَامِ أَنْ يُبَايِعَ
أَصْحَابَهُ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ جَابِرٌ: بَايَعْنَاهُ وَعُمَرُ آخِذٌ بِيَدِهِ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ وَهِيَ سَمُرَةٌ، بَايَعْنَاهُ عَلَى أَنْ لا نَفِرَّ
ويستحب للإمام أن ينزل الناس منازلهم ويجعل لهم مصاف، قَالَ اللَّه تعالى:
{وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ
لِلْقِتَالِ} [آل عمران: 121] ، وفي حديث أَبِي هُرَيْرَةَ فِي قصة الفتح:
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «جعل خالد بن الوليد
عَلَى المجنبة اليمنى، وجعل الزبير بن العوام عَلَى المجنبة اليسرى،
واستعمل أبا عبيدة عَلَى البياذقة فِي بطن الوادي» .
ويكره تمني لقاء العدو لحديث ابن أبي أوفى، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «يَا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو
وسلوا اللَّه العافية، فإذا لقيتموهم، فاصبروا فإن الجنة تحت ظلال السيوف»
.
ويستحب أن يدعو الإمام إذا خاف قومًا، ويقول مَا كَانَ النَّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يقوله إذا خاف قومًا: «اللهم إني أجعلك فِي
نحورهم، وأعوذ بك من شرورهم» .
ودعا عَلَى الأحزاب، فَقَالَ: «اللهم منزل الكتاب سريع الحساب اهزم
(2/457)
الأحزاب، اللهم اهزمهم وزلزلهم» .
ويستحب للإمام إذا لم يقاتل أول النهار أن يؤخر القتال إِلَى أن تزول الشمس
وتهب الرياح، وينزل النصر لحديث النعمان بن مقرن، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كَانَ يفعل ذَلِكَ.
(2/458)
باب ذكر دعاء المشركين إِلَى الإسلام
153 - نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: نا أَبُو النُّعْمَانِ،
قَالَ: نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَوْنٍ، قَالَ: " كَتَبْتُ
إِلَى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عَنْ دُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ: إِنَّمَا
كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الإِسْلامِ، وَقَدْ أَغَارَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ
غَارُّونَ، وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى الْمَاءَ، فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ
وَسَبَى ذَرَارِيهِمْ ".
وَكَانَتْ جُوَيْرِيَةُ مِنْ ذَلِكَ السَّبْيِ، أَخْبَرَنِي بِهِ عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ عُمَرَ أَنَّهُ شَهِدَ ذَلِكَ
إذا قاتل الإمام من لم تبلغه الدعوة بدأ قبل القتال فدعاهم إِلَى الإسلام،
وليس عليه أن يعيد الدعاء عَلَى من قد بلغته الدعوة.
ويستحب أن يستأذن المبارز الإمام إذا أراد البراز، وَلا يحرم عليه أن يبارز
أو يدعو إِلَى البراز بغير إذنه لأن أبا قتادة بارز رجلا يوم حنين، وَلا
نعلم أنه استأذن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ.
(2/459)
ويكره للقوم ترك مصافهم فِي الحرب لغير
ضرورة، ونزلت هذه الآية: {حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي
الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ} [آل
عمران: 152] ، فِي الرماة أصحاب عبد الله بن جبير لما تركوا المكان الذي
أقامهم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ.
وللإمام أن يأمر بقتال المشرك الذي لا عهد بينه وبينه غرة وخداعًا،
استدلالا بقتل الذين قتلوا كعب بن الأشرف بإذن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وللمحرم أن يقاتل إذا قوتل لقول
(2/460)
أبي بكر: يَا نبي اللَّه، إنما جئنا
معتمرين ولم نجئ لقتال أحد، ولكنه من حال بيننا وبين البيت قاتلناه، وقال
النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فروحوا إذا» .
وذلك زمن الحديبية.
باب من يجوز قتله من المشركين ومن يجب الوقوف
عن قتله
قَالَ اللَّه جل ذكره: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] .
قد ذكرنا فيما مضى، أن الوقوف عن قتال أهل الكتاب يجب إذًا، إذا أدوا
الجزية، استدلالا: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا
بِالْيَوْمِ الآخِرِ إِلَى قوله: وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] .
ويجب الوقوف عن قتل الرسل استدلالا بخبر ابن مسعود:
154 - نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ، قَالَ: نا يَحْيَى بْنُ
أَبِي بَكِيرٍ، قَالَ: نا أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ، قَالَ: نا عَاصِمٌ،
عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا إِذْ جَاءَهُ ابْنُ
النَّوَّاحَةِ رَسُولا مِنْ
(2/461)
مُسَيْلَمَةَ قَدْ بَعَثَهُ إِلَى
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ وَابْنُ وَابِزٍ:
وَقَالَ: فَكَلَّمَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَقَالَ لَهُمَا: «إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ أَتَشْهَدَانِ أَنِّي رَسُولُ
اللَّهِ» .
فَقَالا لَهُ: اشْهَدْ أَنْتَ أَنَّ مُسَيْلَمَةَ رَسُولُ اللَّهِ.
فَقَالَ لَهُمَا: «آمَنْتُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَوْ كُنْتُ قَاتِلا
رَسُولا لَقَتَلْتُكُمَا»
(2/462)
ومما يجب أن يستثنى من ظاهر الآية، ويوقف
عن قتله النساء والصبيان لقول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، للذي قَالَ لَهُ: الحق خالدًا فلا يقتلن ذرية وَلا عسيفًا.
ولحديث مالك، عن نافع، عن ابن عمر، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى فِي بعض مغازيه امرأة مقتولة «فنهى عن قتل النساء
والصبيان» .
وذلك إذا لم تقاتل الْمَرْأَة، فإن قاتلت قوتلت استدلالا بأن النَّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما وقف عَلَى الْمَرْأَة المقتولة:
«مَا كانت هذه تقاتل» .
فدل ذَلِكَ عَلَى أنها لو كانت تقاتل لجاز قتلها.
(2/463)
وإنما نهى عن قتلهم أن يقصد قصدهم بالقتل
لا من يغتاب منهم من البيات، لأن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لما أباح البيات عَلَى الدار وسئل عن ذراري المشركين يصابون فِي
البيات، فَقَالَ: «هم منهم» .
دل عَلَى أن لا مأثم عَلَى من أصاب منهم فِي البيات امرأة أو صبيا.
وَلا أعلم حجة قاطعة يجب بها الامتناع من قتل الرهبان والشيوخ والمرضى من
ظاهر الكتاب، وكان مالك، والليث بن سعد، وجماعة يرون الوقوف عن قتل الرهبان
لخبر أبي بكر الصديق ونهيه عن ذَلِكَ، «ويجب عَلَى ولاة السرايا إذا طرقوا
قومًا وسمعوا
(2/464)
أذانًا أن يمسكوا عن قتالهم، لأن النَّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سن ذَلِكَ» .
وللإمام أن يحاصر الحصون استدلالا، بأن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «حاصر أهل الطائف» ، وله أن
(2/465)
ينصب عليهم المجانيق والعرادات، ويرميهم
بالحجارة والنشاب وبالنيران والعقارب والحيات، وكلما نكوهم به ويشقوا عليهم
الْمَاء ليرحلوهم فِيهِ ويفرقوهم، ولهم أن يخربوا العامر ويقطعوا الأشجار
المثمرة وغير ذَلِكَ، وَلا يقفوا عن ذَلِكَ استدلالا بقول اللَّه جل ذكره:
{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى
أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} [الحشر: 5] .
ولأن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حرق نخل بني النضير
وقطع» .
واللينة: ألوان النخل إلا العجوة، قَالَ مجاهد: فنزل القرآن بتصديق من نهى
عن قطعها، وبتحديد من قطعها عن الإثم وإنما قطعها وتركها بإذنه.
ويحرم أن يبدأ فيمثل بالكفار «لنهي رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عن المثلة» ، ومباح أن يمثل بمن مثل منهم، استدلالا بقوله تعالى:
{وَإِنْ
(2/466)
عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا
عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] .
ولما أباح القصاص فِي كتابه دل عَلَى أن المثلة التي نهى رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها أن يبتدئ المرء فيفعل مَا ليس لَهُ
أن يفعله إلا أن يأتي مَا أبيح لَهُ فِي القصاص.
وَلا يحل صبر ذي الروح من بني آدم والبهائم والطيور «لنهي رَسُول اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن صبر البهيمة» ، ولقوله: «لا تتخذوا
شيئا فِيهِ الروح غرضا» .
وَلا يحل تحريق
(2/467)
النحل وَلا تفريقه، وَلا يجوز عقر البهيمة
إلا لأكل استدلالا بقول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ": من
قتل عصفورا فما فوقها بغير حقها سأله اللَّه عن قتله ".
قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وما حقها.
قَالَ: أن يذبحها فيأكلها كلها وَلا يقطع رأسها فيرمي به ".
باب ذكر التغليظ فِي الفرار من الزحف
قَالَ اللَّه جل ذكره: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ
فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
[الأنفال: 45] ، وقال جل ذكره: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا
لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ}
[الأنفال: 15] .
155 - نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: الْمُعَلَّى بْنُ
مَهْدِيٍّ، قَالَ: نا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْكَبَائِرُ سَبْعٌ أَوَّلُهُنَّ:
الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَأَكْلُ
الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ بِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا، وَفِرَارٌ
مِنَ الزَّحْفِ، وَرَمْيُ الْمُحْصَنَاتِ، وَانْقِلابٌ إِلَى الأَعْرَابِ
بَعْدَ هِجْرَةٍ "
(2/468)
وإذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدو لم
يحل لهم الانصراف عنهم مولين إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إِلَى فئة.
وإن كَانَ العدو أكثر من ضعفيهم فالأعلى والأفضل لهم الصبر عليهم، فإن ولوا
عنهم فِي هذه الحال فلا مأثم عليهم، لقوله جل ذكره: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ
عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] .
قَالَ ابن عباس: فرض عليهم أن لا يفر رجل من عشرة وَلا قوم من عشرة
أمثالهم، فجهد الناس ذَلِكَ، وشق عليهم، فنزلت الآية الأخرى {الآنَ خَفَّفَ
اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] ، إِلَى قوله: {أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 66]
، فرض عليهم أن لا يفر رجل من رجلين وَلا قوم من مثليهم، ونقص من النصر
بقدر مَا خفف من العدد.
وقوله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] ، إِلَى
قوله: {فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} [الأنفال: 16] ، معناه: إن لم
يعف عَنْهُ، يدل عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ
يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] ،
ويدل عَلَى مثل ذَلِكَ قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ
الْتَقَى الْجَمْعَانِ} [آل عمران: 155] ، إِلَى قوله: {عَفَا اللَّهُ
عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] .
وقد روي عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: "
ومن قَالَ: أستغفر اللَّه الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاثا
غفرت ذنوبه، وإن كَانَ فارا من الزحف ".
(2/469)
باب الجزية
قَالَ اللَّه جل ثناؤه: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ
وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ إِلَى قوله: حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ
يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ التوبة آية 29} .
156 - نا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْوَلِيدِ الْعَنَزِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي
وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ بَعَثَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ
كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا أَوْ عِدْلَهُ مَعَافِرَ»
فأخذ الجزية يجب من عرب أهل الكتاب وعجمهم لدخولهم فِي جملة الآية، ويجب
أخذ الجزية من المجوس لحديث عبد الرحمن بن عوف، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب» .
ولأني لا أعلمهم اختلفوا فِي أن أخذ الجزية
(2/470)
يجب إذا أدوها، وَلا يجوز أخذ الجزية من
الصابئين.
وأعلى مَا جاءنا فِي السامرة، قول عمر بن الْخَطَّابِ: «هم طائفة من أهل
الكتاب» .
فأما سائر المشركين سوى اليهود، والنصارى، والمجوس من عبدة النيران
والأوثان، وسائر أهل الشرك، فلا يقبل منهم إلا الإسلام أو القتل، وأما
نصارى بني تغلب فقد جاءت الأخبار عن عمر بأنه ضعف عليهم الصدقة، وتركهم لما
خوف من أمرهم، ولما قطعوا الفرات فصالحهم واشترط عليهم فيما صالحهم عليه أن
لا ينصروا أبناءهم، فقد قيل إنهم نقضوا الصلح، فَقَالَ قائل: يجب قتالهم
كما يجب قتال سائر أهل الأوثان.
واحتج: بأن عليا كَانَ يكره ذبائح نصارى بني تغلب، ويقول: «إنهم لا يتمسكون
من
(2/471)
النصرانية إلا بشرب الخمر» .
ودل خبر معاذ بن جبل عَلَى أن لا جزية عَلَى غير البالغ وَلا عَلَى النساء.
وثبت أن عمر بن الْخَطَّابِ كتب إِلَى أمراء الأجناد أن لا يضربوا الجزية
إلا عَلَى من جرت عليه المواسي، وَلا تضرب الجزية عَلَى النساء والصبيان.
وَلا جزية عَلَى مغلوب عَلَى عقله، وتؤخذ الجزية من الشيخ الفاني، ومن
الزمن، وكل من أحفظ عَنْهُ من أهل العلم يرى أن لا جزية عَلَى العبيد، وحكم
المكاتب والمدبر كحكم العبد، وَلا جزية عَلَى الفقير الذي لا يجد مَا يؤدي
منه الجزية، وليس عَلَى من أسلم قبل أن يحول الحول جزية، وإذا وجبت الجزية
عَلَى رجل من أهل الكتاب بحول الحول لم يسقط عَنْهُ مَا قد وجب عليه، وإذا
بذل أهل الكتاب من الابتداء دينارًا عن كل رأس وجب قبول ذَلِكَ منه.
ومن قد صولح عَلَى أكثر من ذَلِكَ وجب أخذ مَا صولح عليه منه، وله أن يأخذ
مكان الجزية التي وجبت عليه عرضًا من العروض، لقوله: دينارا أو عدله معافر.
وقضى عمر بن الْخَطَّابِ عَلَى أهل الذمة ضيافة ثلاثة أيام، وعلف دوابهم،
وما يصلحهم وذلك واجب عليهم عَلَى مَا صولحوا عليه، وَلا يجوز أن تؤخذ منهم
أثمان الخمر، والخنازير.
(2/472)
وينبغي للإمام أن يأمر بالرفق بأهل الذمة،
وينهى عن تعذيبهم لقول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن
اللَّه يعذب الذين يعذبون الناس فِي الدُّنْيَا» .
ويقول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أعطي حظه من الرفق
فقد أعطي حظه من الخير» .
ويؤخذ أهل الذمة بما كتب به عمر بن الْخَطَّابِ رضي اللَّه عَنْهُ إِلَى
أمراء الأجناد: كتب أن يختموا فِي رقاب أهل الجزية بالرصاص، ويصلحوا
مناطقهم، ويجزوا نواصيهم، ويركبوا عَلَى الأكف عرضًا، وَلا يدعوهم يتشبهون
بالمسلمين فِي ركوبهم، وأن يربطوا الكستيجات فِي
(2/473)
أوساطهم ليعرف زيهم من زي أهل الإسلام،
ويمنعوا من إظهار الصليب، وضرب النواقيس فِي بلاد الإسلام.
وَلا يجوز أن يصالح الإمام أحدًا من أهل الذمة عَلَى سكنى الحجاز، وإذا مر
الذمي بالحجاز لم يجز أن يقيم ببلد منها أكثر من ثلاث.
وليس عَلَى أهل الذمة فِي شيء من أموالهم صدقة إلا مَا ذكر من أمر بني
تغلب.
وكل قرية افتتحت عنوة فعلى الإمام قسم جميعها كما فعل النَّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بخيبر، وسواء قليل أموال المشركين وكثيره من
أرض أو دار أو غير ذَلِكَ يجب
(2/474)
قسمه عَلَى مَا فِي { [الأنفال كقسم
الدنانير والدراهم، ويقال: إن عمر استطاب أنفس القوم لما أوقف السواد،
والأخبار فِيهِ عن عمر مختلفة.
(2/475)
باب ذكر الغلول
وتعظيم أمره
قَالَ اللَّه جل ذكره:] وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ
يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [سورة آل عمران: 161] .
157 - نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ،
قَالَ: أَخْبَرَنِي مَالِكٌ، عَنْ ثَوْرِ بْنِ زَيْدٍ الدِّيلِيِّ، عَنْ
أَبِي الْغَيْثِ سَالِمٍ مَوْلَى ابْنِ مُطِيعٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ،
قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ
(2/476)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى خَيْبَرَ فَلَمْ نَغْنَمْ ذَهَبًا وَلا فِضَّةً إِنَّمَا
غَنِمْنَا الْمَتَاعَ وَالأَمْوَالَ، ثُمَّ انْصَرَفْنَا نَحْوَ وَادِي
الْقُرَى وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدٌ
أَعْطَاهُ إِيَّاهُ رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ، رَجُلٌ مِنْ بَنِي ضُبَيْبٍ،
فَبَيْنَمَا هُوَ يَحُطُّ رَحْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِذْ أَتَاهُ سَهْمٌ عَائِرٌ فَأَصَابَهُ فَمَاتَ، فَقَالَ
النَّاسُ: هَنِيئًا لَهُ الْجَنَّةُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كَلا
وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي غَلَّهَا يَوْمَ
خَيْبَرَ لَمْ تُصِبْهَا الْمَقَاسِمُ لِتَشْتَعِلَ عَلَيْهِ نَارًا» .
فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِشِرَاكٍ أَوْ شِرَاكَيْنِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شِرَاكٌ مِنْ نَارٍ أَوْ شِرَاكَانِ مِنْ نَارٍ» .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيمَا يُعَاقَبُ بِهِ الْغَالُّ، وَقَالَ الْحَسَنُ
الْبَصْرِيُّ، وَمَكْحُولٌ،
(2/477)
وَالأَوْزَاعِيُّ، وَأَحْمَدُ بْنُ
حَنْبَلٍ: يُحَرَّقُ رَحْلُهُ، وَقَالَ مَالِكٌ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ،
وَالشَّافِعِيُّ لا يُعَاقَبُ النَّاسُ فِي أَمْوَالِهِمْ وَرَأَى
اللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ، قَالَ الشَّافِعِيُّ:
إِذَا كَانَ عَالِمًا بِالنَّهْيِ
ويجب عَلَى الغال رد مَا غل إِلَى صاحب المقسم، فإن فات أعطى الإمام خمسه
وتصدق بالباقي.
والطعام فِي بلاد الحرب مباح من شاء أخذ منه حاجته، لأنه خارج من أبواب
الغلول، داخل فِي مَا أبيح تدل عليه السنن.
وعلف الدواب مثله، وليس
(2/478)
لأحد أن يبيع من ذَلِكَ شيئا، فإن باع منه
شيئا دفع قيمته إِلَى صاحب المقسم وما كَانَ من بعد ذَلِكَ من حبل أو جراب
أو سقي أو نعل أو ظرف أو غيره فهو محظور، لا رخصة فِي شيء من ذَلِكَ غير
الطعام «لأمر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برد الخيط
والمخيط» .
(2/479)
وإذا اضطر رجل إِلَى ركوب دابة من دواب
العدو يستعملها فِي معمعة الحروب أو شيء من السلاح فله استعماله مَا دام
الحرب قائما، لأن ذَلِكَ حال ضرورة، ولأني لا أعلم فِي ذَلِكَ اختلافا،
وإذا وجد رجل ركازا فِي دار الحرب فِي موات أراضيهم فهو لواجده، ويؤدي
الخمس إِلَى الإمام.
باب ذكر قسم خمس الغنيمة
قَالَ اللَّه جل ذكره: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، فقوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ
خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، لله مفتاح كلام لأن لله الدُّنْيَا والآخرة يدل
عَلَى صحة ذَلِكَ قول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا
لي مما أفاء اللَّه عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم» فقد خص اللَّه
نبيه بأن جعل لَهُ خمس الخمس من الغنائم، وخص بالصفي يختار من الغنيمة فرسا
أو عبدا أو دابة أو مَا شاء منه، وجعل لَهُ سهمًا فِي الغنيمة كسهم رجل ممن
حضر الوقعة حضرها أو لم يحضرها.
واختلف فيما يجب أن يفعل فِي سهم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بعد وفاته، فَقَالَ بعضهم: يرد عَلَى الذين كانوا مَعَهُ فِي
الخمس وهم: ذوو القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، فيقسم بينهم:
رباعا، وهذا أحب مَا قيل فِيهِ إلي والله أعلم.
فأما سهم ذي القربى فإنه يقسم بين بني هاشم، وبني المطلب عَلَى حديث جبير
بن مطعم،
(2/480)
قَالَ: نا يحيى، قَالَ: نا مسدد، قَالَ:
لما كَانَ يوم خيبر وضع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
سهم ذوي القربى بين بني هاشم، وبني المطلب، وترك بني نوفل، وبني عبد شمس،
فانطلقت أنا، وعثمان بن عَفَّانَ حَتَّى أتينا النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلنا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هؤلاء بنو هاشم لا ننكر
فضلهم للموضع الذي وضعك اللَّه به منهم فما بال إخواننا بني المطلب أعطيتهم
وتركتنا وقرابتنا واحدة، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «إنا وبنو المطلب لا نفترق فِي جاهلية وَلا إسلام، إنما نحن وهم
شيء واحد وشبك بين أصابعه» .
(2/481)
فسهم ذوي القربى ثابت لهم بكتاب اللَّه
وسنة رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلا يجوز إبطال
ذَلِكَ بوجه بل لا سبيل إِلَى العدل عن ظاهر الكتاب والسنة، ويعطى الذكر
منهم كما تعطى الأنثى، لأنهم أعطوا باسم القرابة، وهذا خارج عن أبواب
المواريث، لأنهم أعطوا باسم القرابة كما يعطى المساكين باسم المسكنة.
وَلا فرق بين ذكرهم وأنثاهم ويعطى الغني منهم والفقير، لأن القرآن عَلَى
ظاهره لم يستثن منهم غنيًا دون فقير.
باب السلب والنفل
قَالَ اللَّه جل ذكره: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ
فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، ففي ترك رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يخمس السلب دليل عَلَى أن المراد من قوله:
{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، بعض الغنيمة لا الجميع.
159 - نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: نا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ،
قَالَ: نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ عَوْفِ بْنِ
مَالِكٍ، وَخَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَضَى بِالسَّلَبِ لِلْقَاتِلِ وَلَمْ
(2/482)
يُخَمِّسِ السَّلَبَ»
فيجب أن يبدأ من جملة الغنيمة فيعطى القاتل السلب للثابت عن أبي قتادة،
أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «من قتل قتيلا
لَهُ عليه بينة فله سلبه» .
فالسلب يجب أن يعطى كل قاتل قتل كافرا فِي الحرب وغير الحرب فِي الإقبال
والإدبار، هاربا كَانَ المقتول أو مدبرا لأصحابه عَلَى الوجوه كلها، وقد
كَانَ سلمة بن الأكوع قتل قتيلا هاربا موليا فِي غير الحرب فحكم النَّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ بسلبه،
(2/483)
وسواء أذن الإمام فِي ذَلِكَ أو لم يأذن
فِيهِ، وسواء قليل السلب وكثيره.
فإذا ضرب رجل رجلا من المشركين فأزمنه وأتى آخر فأجهز عليه حكم بالسلب للذي
أزمنه، لأن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قضى بسلب أبي جهل
لمعاذ بن عمرو بن الجموح» ، وقد كَانَ أزمنه وأجهز عليه ابن مسعود بعد
ذَلِكَ.
(2/484)
والسلب الذي يستحقه القاتل: منطقته وسيفه
ودرعه، وإسواريه وبيضته وساعداه وساقاه، ورايته وفرسه الذي هو عليه بسرجه
ولجامه.
وللإمام أن ينفل السرية فِي البداءة الربع بعد الخمس وفي القفول الثلث بعد
الخمس فِي حديث حبيب بن مسلمة، عَنِ
(2/485)
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
باب قسم أربعة أخماس الغنيمة
قَالَ اللَّه تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ، فأعلم اللَّه فِي كتابه من يستحق خمس
الغنيمة، ودل قسم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
مقدار مَا يستحقه الفارس والراجل منه.
160 - نا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ، عَنْ
سُفْيَانَ الثَّوْرِيَّ، قَالَ: نا عُبَيْدُ اللَّهِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "
أَسْهَمَ لِرَجُلٍ وَلِفَرَسِهِ ثَلاثَةَ أَسْهُمٍ: لِلرَّجُلِ سَهْمٌ،
وَلِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ ".
(2/486)
وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ
لِلرَّاجِلِ سَهْمًا لا يُزَادُ عَلَيْهِ، وَإِذَا حَضَرَ الرَّجُلُ
بِأَفْرَاسٍ لَمْ يُعْطَ لأَكْثَرَ مِنْ فَرَسٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَخْتَلِفْ
أَهْلُ الْعِلْمِ أَنَّ مَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ عَلَى فَرَسٍ عُرْيٍّ
أَنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ سَهْمُ الْفَارِسِ، وَالْبَرَاذِينُ، وَالْمَقَارِفُ
يُسْهَمُ لَهَا سَهْمَانِ الْخَيْلِ، لأَنَّ اسْمُ الْخَيْلِ جَامِعٌ
لَهَا.
وَإِذَا كَانَ مَعَ غَزَاةِ الْبَحْرِ خَيْلٌ أُسْهِمَ لِلْفَارِسِ
مِنْهُمْ سَهْمُ الْفَارِسِ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ، وَالأَوْزَاعِيِّ،
وَالشَّافِعِيِّ، وَمَنْ حَضَرَ الْوَقْعَةَ فَارِسًا أُسْهِمَ لَهُ سَهْمُ
فَارِسٍ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ وَبَعْدَ ذَلِكَ رَاجِلا.
وَإِذَا حَضَرَ الرَّجُلُ الْوَقْعَةَ وَغَنِمُوا الْغَنَائِمَ وَحَازُوهَا
ثُمَّ مَاتَ رَجُلٌ فَلَهُ سَهْمُهُ يُوَرَّثُ فِيهِ وَرَثَتُهُ، وَإِذَا
حَضَرَ الْوَقْعَةَ مَرِيضًا أَوْ كَانَ صَحِيحًا أَوْ تَاجِرًا مِمَّنْ
يُقَاتِلُ أَوْ لا يُقَاتِلُ فَلَهُ سَهْمُ الْمُقَاتِلِ
كتب عمر بن الْخَطَّابِ إِلَى عمار بن ياسر: «أن الغنيمة لمن شهد الوقعة» .
وللأجير سهمه إذا حضر القتال استدلالا بخبر سلمة بن الأكوع، ذكر: أنه
«كَانَ
(2/487)
تبيعا لطلحة، وأن رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعطاه سهم الفارس والراجل» .
وإذا حضر العبيد، وغير البالغين، والنساء القتال وغنموا لم يسهم لأحد منهم
وأرضخ لهم.
وَلا أحب أن يستعان بالمشركين فإن استعان بهم إمام أرضخ لهم.
روينا عن أنس، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «كَانَ
يغزو بأم سليم، ونسوة من الأنصار يسقين الْمَاء ويداوين الجرحى» .
فإذا غلب العدو عَلَى مال المسلم فأخذه المسلمون منهم فصاحبه أحق به قبل
القسم وبعده.
وَلا يجوز نقل ملك مال المسلم عن ماله إلا بحجة وَلا نعلم حجة توجب ذَلِكَ
بل خبر عمران بن حصين يدل عَلَى مَا قلناه، لأن الأنصارية أخذت ناقة رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العدو ونذرت إن اللَّه نجاها
عَلَيْهَا أن تنحرها، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «لا وفاء لنذر فِي معصية اللَّه، وَلا فيما لا يملك ابن آدم» .
وإنما أخذت الناقة منهم بعد مَا أحرزوها، فدل عَلَى أن المشركين لا يملكون
عَلَى المسلمين شيئا.
(2/488)
وللإمام أن يقسم الغنائم فِي دار الحرب
استدلالا بقسم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم خيبر للفرس
سهمين ولصاحبه سهم، وإن شاء الإمام أخر ذَلِكَ إِلَى أن يخرج من بلاد الحرب
هو فِي ذَلِكَ بالخيار.
باب الحكم فِي رقاب أهل العنوة من الأسر أو الفداء أو القتل
قَالَ اللَّه جل ذكره: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا
الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ
الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [مُحَمَّد: 4] .
161 - نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ
اللَّهِ، وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، قَالا: نا أَبُو دَاوُدَ الْحَفَرِيُّ،
عَنْ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، عَنْ سُفْيَانَ
الثَّوْرِيِّ، عَنْ هِشَامِ
(2/489)
بْنِ حَسَّانٍ، عَنِ ابْنِ سِيرِينَ، عَنْ
عَبِيدَةَ، عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَقَالَ: خَيِّرْ أَصْحَابَكَ
فِي الأَسْرَى إِنْ شَاءُوا الْقَتْلَ، وَإِنْ شَاءُوا الْفِدَاءَ عَلَى
أَنْ يُقْتَلَ الْعَامَ الْمُقْبِلَ عِدَّتُهُمْ مِنْهُمْ.
قَالُوا: الْفِدَاءُ وَيُقْتَلُ مِنْهَا عِدَّتُهُمْ ".
وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ
لأَسْرَى بَدْرٍ: «لَوْ كَانَ الْمُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا
فَكَلَّمَنِي فِي هَؤُلاءِ النَّتْنَى لَتَرَكْتُهُمْ لَهُ» .
فَدَلَّ هَذَانَ الْحَدِيثَانِ عَلَى أَنَّ لِلإِمَامِ الْخِيَارَ
(2/490)
بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ الأَسْرَى أَوْ
يَأْخُذَ مِنْهُمُ الْفِدَاءَ وَيُطْلِقَهُمْ، فَالإِمَامُ بِالْخِيَارِ
إِنْ شَاءَ مَنَّ عَلَيْهِمْ وَإِنْ شَاءَ قَتَلَهُمْ، وَإِنْ شَاءَ
فَادَاهُمْ وَإِنْ شَاءَ مَنَّ عَلَى بَعْضٍ وَقَتَلَ بَعْضًا، وَفَادَى
بِبَعْضٍ، وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ إِلا عَلَى النَّظَرِ
لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ تَقْوِيَةِ دِينِ اللَّهِ وَتَوْهِينِ عَدُوِّهِ
وَغَيْظِهِمْ، وَقَتْلُهُمْ بِكُلِّ حَالٍ مُبَاحٌ
باب ذكر وجوب فكاك الأسرى من أيدي المشركين
162 - نا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
الْوَلِيدِ الْعَدَنِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مَنْصُورٍ،
عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ، قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَطْعِمُوا
الْجَائِعَ، وَعُودُوا الْمَرِيضَ، وَفُكُّوا الْعَانِيَ» .
قَالَ سُفْيَانُ: وَالْعَانِي: الأَسِيرُ
روينا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه «كتب كتابا
بين المهاجرين والأنصار أن يعقلوا معاقلهم، وأن يفكوا عانيهم بالمعروف،
وإصلاح بين المسلمين» ، وقد ثبت، أن نبي اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «فادى برجل من العدو رجلين من المسلمين» .
(2/491)
وقال ابن عباس: دخلت عَلَى عمر حين طعن،
فمسعته يقول: واعلموا أن كل أسير من أسرى المسلمين أن فكاكه من بيت مال
المسلمين.
وسئل مالك بن أنس: أواجب عَلَى المسلمين افتداء من أسر منهم؟ قَالَ: نعم
أليس واجب عليهم أن يقاتلوا عنهم حَتَّى يستنقذوهم؟ فقيل: بلى.
فَقَالَ: فكيف لا يفتدوهم بأموالهم.
وإذا دخل رجل بلاد العدو فاشترى أسيرا من أيديهم فهو متطوع لا يرجع عَلَى
الأسير بشيء، لأنا لا نعلم حجة توجب ذَلِكَ، فإن أمره الأسير أن يفديه بشيء
معلوم ففداه بما أمره به رجع به عَلَى الأسير، وإن اختلف هو والأسير،
فَقَالَ: أمرتني أن أفديك.
وقال: لم آمرك، فالقول قول الأسير مع يمينه، وإذا خرج رقيق أهل الحرب إِلَى
دار الإسلام فهم أحرار، «أعتق رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يوم الطائف من خرج إليه من عبيد المشركين» .
وكل من أحفظ عَنْهُ من أهل العلم أن التفريق بين الولد وأمه والولد طفل غير
جائز، وممن قَالَ ذَلِكَ: مالك، والأوزاعي، والليث بن سعد، والشافعي،
وأصحاب الرأي، ومن تبعهم.
فأما غير من ذكرناه من الإخوة وسائر القرابات فلا نعلم حجة توجب المنع من
التفريق بينهم.
(2/492)
باب الأمان
163 - نا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: نا عَبْدُ اللَّهِ عَنْ
سُفْيَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ
عِنْدَنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كتاب
شَيْءٌ إِلا كتاب اللَّهِ وَشَيْءٌ فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ: «ذِمَّةُ
الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ
مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ
أَجْمَعِينَ لا يُقْبَلُ مِنْهُ صَرَفٌ وَلا عَدْلٌ»
روينا عن أبي عبيدة بني الجراح، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ: «يجير عَلَى المسلمين بعضهم» .
أجمع أهل العلم عَلَى أن أمان والي الجيش والرجل الحر الذي يقاتل جائز
عَلَى جميعهم، ودل ظاهر قوله: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم» .
عَلَى أن
(2/493)
أمان العبد جائز وكذلك الْمَرْأَة، لأن أم
هانئ أجارت رجلين، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«قد أجرنا من أجرت» .
وَلا يجوز أمان الذمي وَلا الصبي، وأمان الأجير جائز، وإذا أشار الرجل
بالأمان فهو جائز وبأي لغة أمن الرجل لزم أمانه، قَالَ عمر: إذا
(2/494)
قَالَ: مترس أو لا تذهل.
فقد آمنه لأن اللَّه يعلم الألسنة.
وإذا أسلم الرجل فِي دار الحرب أحرز بإسلامه مَا كَانَ لَهُ من مال، ولم
يتعرض لأطفال ولده، وَلا يقع السبي عَلَى مسلم.
وتقام الحدود فِي أرض الحرب كما تقام فِي دار الإسلام أمر اللَّه بقطع
السارق، وجلد الزاني، والقاذف، وأوجب القصاص فِي كتابه فإقامة مَا أوجب
اللَّه تجب إذ لا حجة توجب الوقوف عن ذَلِكَ فِي مكان دون مكان.
وإذا أسلم رقيق أهل الذمة بيعوا عليهم لا اختلاف منهم فِي ذَلِكَ أعلمه.
وثبت، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نهى أن
يسافر بالقرآن إِلَى أرض العدو» .
(2/495)
وإذا اشترى رجل أمة فِي دار الحرب فله أن
يطأها فِي دار الحرب إذا اشتراها.
وإذا أسر الرجل وأرسلوه أو دخل مسلم دار الحرب بأمان فليس لَهُ أن يخوفهم،
لأن الغدر لا يجوز، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«ينصب للغادر لواء يوم الْقِيَامَة يقال هذه غدرة فلان» .
باب ذكر مصالحة الإمام أهل الشرك
164 - نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ
مَسْعُودٍ، قَالَ: نا سُفْيَانُ،
(2/496)
عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ،
قَالَ: " صَالَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَلاثَةِ أَشْيَاءَ: مَنْ
أَتَاهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ، وَعَلَى أَنْ يَدْخُلُوهَا
مِنْ قَابِلٍ، فَيُقِيمُونَ بِهَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ لا يَدْخُلُهَا إِلا
بِجَلَبَانِ السِّلاحِ الْقَوْسِ وَالسَّيْفِ وَنَحْوِهِ "، قَالَ: فَجَاءَ
أَبُو جَنْدَلٍ يَحْجِلُ فِي قُيُودِهِ، فَرَدَّهُ إِلَيْهِمْ
(2/497)
فللإمام أن يصالح أهل الشرك عَلَى جهة
النظر لأهل الإسلام كما صالح النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قريشا وذلك إذا كثر العدو، واشتدت شوكتهم لكثرة عددهم، وقلة من ناوأهم من
المسلمين إِلَى مدة معلومة.
وَلا يجوز أن يصالحهم إِلَى غير مدة، لأن فِي ذَلِكَ ترك قتال المشركين،
وذلك غير جائز، وَلا أحب أن يجاوز بالمدة عشر سنين، لأن ذَلِكَ أكثر مَا
قيل إن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هادن قريشا إليه، وإذا
هادنهم عَلَى مَا فِيهِ الصلاح لأهل الإسلام لم يجز لَهُ أن يحل عقدة
حَتَّى ينقضي أمرها.
روينا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ
ذَلِكَ، وثبت أنه قَالَ: «لكل
(2/498)
غادر لواء يوم الْقِيَامَة» .
وإذا نقض من بينه وبين الإمام العهد، فللإمام قتله، وأخذ ماله وسبي ذراريه،
استدلالا بفعل النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نقضت قريظة
العهد الذي كَانَ بينهم وبينه قتل رجالهم، وقسم نساءهم وأموالهم.
وللإمام أن يبدأ من خاف خيانته بالحرب إذا وجد دلالة عَلَى ذَلِكَ، قَالَ
جل ذكره: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ
عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] أحب.
قيل فِي قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: 58]
، إن معناها.
فإما توقنن منهم خيانة وغدرا أو خلافا وغشا {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى
سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] ، أعلمهم أنك قد جازيتهم حَتَّى يصيروا مثلك فِي
ذَلِكَ، فذلك السواء.
باب المال يجعل فِي سبيل اللَّه وغير ذَلِكَ
165 - نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: نا مُسَدَّدٌ، قَالَ: نا يَحْيَى،
قَالَ: نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ " عُمَرَ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَأُخْبِرَ أَنَّهُ قَدْ
(2/499)
وَقَفَهَا يَبِيعَهَا، فَسَأَلَ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَبْتَاعُهَا، قَالَ: لا
تَبْتَعْهَا، وَلا تَرْجِعَنَّ فِي صَدَقَتِكَ "
فإذا حمل الرجل عَلَى دابة فِي سبيل اللَّه فله إذا غزا عَلَيْهَا أن
يبيعها كما يبيع سائر أمواله، ويمسكها إن شاء، وليس لَهُ أن يبيعها قبل أن
يغزو عَلَيْهَا.
وإذا أعطى الرجل مالا ليجعله فِي سبيل اللَّه فليس لَهُ أن يأخذ لنفسه منه
شيئا.
وإذا أوصى الرجل بأن يجعل الشيء من ماله فِي سبيل اللَّه جعل فِي الغزو،
وأكره أن يدخل الرجل أرض الحرب حيث تجري أحكام أهل الشرك عليه، وإن بايعهم
لم يحرم البيع إذا كَانَ مما يجوز بين المسلمين.
باب الحكم فِي قسم الفيء
قَالَ اللَّه جل ذكره: {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ
فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ} [الحشر: 6] إِلَى
قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] .
166 - نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ مَالِكِ بْنِ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ،
قَالَ: " قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ
لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ حَتَّى بَلَغَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}
[التوبة: 60] .
ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ لِهَؤُلاءِ.
ثُمَّ قَرَأَ: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ
لِلَّهِ خُمُسَهُ حَتَّى بَلَغَ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 41] ، ثُمَّ
قَالَ: هَذِهِ لِهَؤُلاءِ.
ثُمَّ قَالَ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى
حَتَّى بَلَغَ وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر: 7 - 10] ،
ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ
(2/500)
اسْتَوْعَبَتِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً
وَلَئِنْ عِشْتُ لَيَأْتِيَنَّ الرَّاعِيَ وَهُوَ بِسُوقِ خَيْبَرَ
نَصِيبُهُ مِنْهَا لَمْ يَعْرَقْ بِهَا جَبِينُهُ "
والفيء كل مَا أخذه الإمام من أهل الشرك عَلَى صلح، ومثل جزية تؤخذ منهم،
أو مال، رجل يموت منهم وَلا وارث لَهُ، وما أشبه ذَلِكَ من الأموال يعطى
منه أعطية المقاتلة، وأرزاق الذرية، ويجرى عَلَى الحكام والولاة وعلى
المسلمين وقرائهم وفي النوائب التي تنوب المسلمين مثل: إصلاح الجسور،
والقناطر، والحصون التي فِي أطراف بلاد الإسلام، والزيادة فِي الكراع
والسلاح فِي ثغور المسلمين وما أشبه ذَلِكَ مما فِيهِ صلاح أهل الإسلام.
باب ذكر مَا يقوله المسافر ويفعله عند رجوعه من السفر
167 - نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ،
قَالَ: أَخْبَرَنِي عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ،
وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ , وَغَيْرُهُمْ، أَنَّ نَافِعًا، حَدَّثَهُمْ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا قَفَلَ مِنْ غَزْوٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ
عُمْرَةٍ يُكَبِّرُ عَلَى كُلِّ شَرَفٍ مِنَ الأَرْضِ ثَلاثَ تَكْبِيرَاتٍ،
ثُمَّ يَقُولُ: «لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ
الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، آيِبُونَ
تَائِبُونَ عَابِدُونَ سَاجِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللَّهُ
وَعْدَهُ، وَنَصَرَ عَبْدَهُ، وَهَزَمَ الأَحْزَابَ وَحْدَهُ»
(2/501)
قَالَ: وَيُسْتَحَبُّ لِلْمَرْءِ أَنْ
يُسْرِعَ الرُّجُوعَ إِلَى أَهْلِهِ عِنْدَ انْقِضَاءِ سَفَرِهِ
لِلثَّابِتِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ
قَالَ: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنَ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ نَوْمَهُ
وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ، فَإِذَا قَضَى نَهْمَتَهُ مِنْ سَفَرِهِ
فَلْيُسْرِعْ إِلَى أَهْلِهِ» .
وَيُسْتَحَبُّ إِذَا قَدِمَ الْمَرْءُ مِنْ سَفَرِهِ أَنْ لا يَطْرُقَ
أَهْلَهُ لَيْلا لأَنْ تَسْتَحِدَّ الْمُغِيبَةُ وَتَمْتَشِطَ الشَّعِثَةُ.
وَيُسْتَحَبُّ لِلإِمَامِ إِذَا أَرَادَ الْقُدُومَ أَنْ يُرْسِلَ مَنْ
يُؤَذِّنُ النَّاسَ أَنَّهُ قَادِمٌ وَقْتَ كَذَا، فَإِذَا أَرَادَ
الْمَرْءُ الدُّخُولَ إِلَى أَهْلِهِ، قَالَ: «تَوْبًا تَوْبًا لِرَبِّنَا
أَوْبًا لا يُغَادِرُ عَلَيْنَا حَوْبًا» .
كُلُّ ذَلِكَ رُوِّينَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
(2/502)
وَقَدْ قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ: «كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَقْدَمُ مِنْ
سَفَرٍ إِلا نَهَارًا أَوْ فِي الضُّحَى، فَإِذَا قَدِمَ بَدَأَ
بِالْمَسْجِدِ فَصَلَّى فِيهِ رَكْعَتَيْنِ»
(2/503)
كتاب السبق والرمي
قَالَ اللَّه جل ذكره: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ
وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ، وثبت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «ألا إن القوة الرمي» .
168 - نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ،
قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، أَنَّ نَافِعَ بْنَ أَبِي نَافِعٍ،
أَخْبَرَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «لا سَبَقَ إِلا فِي خُفٍّ أَوْ
حَافِرٍ أَوْ نَصْلٍ»
فالسبق فِي الخف والحافر والنصل جائز، وَلا يجوز السبق فِي غير ذَلِكَ،
وذلك مثل أن يتسابق الرجلان عَلَى أقدامهما أو يلعبا بالمداحي ويمسك فِي
يده شيئا،
(2/504)
فيقول: أزكيه.
فيزكيه فيصيبه أو عَلَى أن يصرع رجلا أو يشيل حجرا ثقيلا بيده عَلَى معنى
الرهان، فأما عَلَى غير معنى الرهان، فلو تسابق الرجلان عَلَى أقدامهما لم
يكره ذَلِكَ للثابت عن عائشة رضي اللَّه عنها، أنها قَالَتْ: «سابقت رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسبقته فلما حملت اللحم سابقته
فسبقني» .
وكان الشَّافِعِيّ، يقول: قول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «لا سبق إلا فِي خف أو حافر أو نصل» .
يجمع معنيين: أحدهما: أن كل نصل رمي به من سهم أو نشابة أو مَا ينكأ العدو
بنكايتها، وكل حافر من خيل وحمر وبغال وكل خف من إبل بخت أو عراب، داخل فِي
هذا المعنى يحل فِيهِ السبق.
والمعنى الثاني: أنه يحرم السبق إلا فِي هذا والأسباق ثلاثة: سبق يعطيه
الوالي وغير الوالي من ماله وذلك مثل أن يسبق بين الخيل إِلَى غاية، فيجعل
للسابق شيئا معلوما، وإن شاء جعل للمصلى.
والثالث، والرابع، فهذا
(2/505)
حلال.
والثاني: يجمع وجهين وذلك مثل الرجلين يريدان أن يستبقا بفرسيهما وَلا يريد
كل واحد منهما أن يسبق صاحبه ويخرجان سباقين، وَلا يجوز إلا بمحلل وهو أن
يجعل بينهما فرسا، وَلا يجوز حَتَّى يكون فرسا كفؤا للفرسين لا يأمنان أن
يسبقهما ويخرج كل واحد منهما مَا تراضيا عليه، ويتواضعانه عَلَى يدي رجل
يثقان به أو يضمنانه، ويجري بينهما المحلل فإن سبقهما كَانَ السبقان لَهُ،
وإن سبق أحدهما المحلل أحرز السابق ماله، وأخذ سبق صاحبه، وإن أتيا مستويين
لم يأخذ أحدهما من صاحبه شيئا.
والأصل فِي المحلل حديث أَبِي هُرَيْرَةَ:
169 - نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: نا مُسَدَّدٌ، قَالَ: نا حُصَيْنُ
بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ
سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ
فَرَسَيْنِ وَقَدْ أَمِنَ أَنَّهُ لا يَسْبِقَ فَلَيْسَ بِقِمَارٍ، وَإِنْ
أَدْخَلَ فَرَسًا بَيْنَ فَرَسَيْنِ، وَقَدْ أَمِنَ أَنْ يَسْبِقَ فَهُوَ
قِمَارٌ»
(2/506)
وقد روينا عن عمر بن عبد العزيز، أنه
قَالَ: لا يحملن عَلَى الخيل عند الإجراء إلا كل محتلم، وكره مالك حمل
الصبيان الصغار عَلَى الخيل التي تجري للرهان.
ويكره أن يجنب الرجل بجنب فرسه الذي يسابق عليه فرسا عريا ليس عليه أحد
حَتَّى إذا دنا تحول راكبه عَلَى الفرس المجنوب وأخذ به السبق، يقال: إن
قوله: لا جنب.
هذا معناه، وقد قيل فِي قوله: لا جلب.
أن يجلب وراء الفرس حَتَّى يدفوا ويحرك وراءه الشيء يستحث به، وقيل غير
ذَلِكَ فِي حديث عمران بن حصين، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، قَالَ: لا جلب وَلا جنب.
(2/507)
|