الإقناع
لابن المنذر كتاب آداب القضاة
قَالَ اللَّه جل ثناؤه: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي
الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى
فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] .
170 - نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ
جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ
بْنِ عُمَيْرٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، قَالَ: كَتَبَ
أَبِي إِلَى ابْنِهِ وَهُوَ بِسِجِسْتَانَ أَنْ لا يَقْضِيَ بَيْنَ
اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «لا يَحْكُمُ أَحَدُكُمْ بَيْنَ
اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ»
(2/508)
فلا ينبغي للقاضي أن يقضي وهو غضبان وكل
حال أتى عليه بغير فهمه أو عقله وقف عن الحكم فِيهِ، وذلك إذا جاع أو اهتم
أو حزن أو نعس، وله أن يقضي فِي المسجد وفي منزله، ويقضي فِي أرفق المواضع
بالعامة أحب إلي، وإذا دخل المسجد للقضاء أو لغيره لم يجلس حَتَّى يركع
ركعتين يدعو اللَّه عند فراغه منهما بالتوفيق والتسديد والعصمة، ثم يجلس
للحكم مستقبلا القبلة.
وإذا صار القاضي إِلَى مجلسه يسلم عَلَى القوم، ويجلس الخصمان بين يديه،
ويسوي بينهما فِي المجلس، وفي النظر إليهما لا يرفع أحدهما عَلَى صاحبه،
ويقدم الناس الأول فالأول، وإذا تقدم الخصمان إليه تركهما ليتكلم المدعي
منهما، فإن جهلا ذَلِكَ، قَالَ: ليبدأ المدعي منكما، فإذا فرغ المدعي من
دعواه تكلم المدعى عليه.
روينا عن عمر بن الْخَطَّابِ، أنه قَالَ فيما كتب إِلَى أبي موسى الأشعري:
وآس بين الناس فِي مجلسك ووجهك وقضائك حَتَّى لا يطمع شريف فِي حيفك، وَلا
ييأس ضعيف من عدلك.
وَلا ينبغي لأحد أن يلي القضاء حَتَّى يكون عالما بكتاب الله وسنن رسوله
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبما أجمع أهل العلم عليه، وبما اختلفوا
فِيهِ، جيد العقل أمينا فطنا، فإذا تبين لَهُ الحق حكم به، وإن ورد عليه
مشكل من الحكم أحضر لَهُ أهل المعرفة بالكتاب والسنة، وسألهم عن مَا ورد
عليه، فإذا أخبروه بما عندهم وأدلى كل واحد منهم بحجته نظر إِلَى القول
الذي تدل عليه الحجة فأخذ به بعد أن يتبين لَهُ ذَلِكَ.
باب الحكم بالظاهر من الأمور
171 - نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ،
قَالَ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ عَبْدِ
(2/509)
الرَّحْمَنِ، وَمَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ
سَلَمَةَ، عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
قَالَ: «إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ
فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ
فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوٍ مِمَّا أَسْمَعُ مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ
بِشَيْءٍ مِنْ حَقٍّ أَخِيهِ فَلا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا، فَإِنَّمَا
أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ»
يدل هذا الحديث عَلَى معان منها: أن الواجب عَلَى الحاكم أن يقضي بالظاهر
من الأمور، ويدل عَلَى أن قضاء القاضي لا يحرم حلالا وَلا يحل حراما وعلى
أن حرامًا عَلَى الحاكم أن يحمل الناس عَلَى الظنون لقوله صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فأقضي لَهُ عَلَى نحو مما أسمع منه» .
وللقاضي أن يصلح بين الخصمين، فإن أبيا الصلح حملهما عَلَى مَا يجب، انطلق
رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى شيء كَانَ بين ناس
من الأنصار ليصلح بينهم،
(2/510)
ولقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«الصلح جائز بين المسلمين» .
وللقاضي أن يقضي بعلمه، قد قضى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لهند فِي مال أبي سُفْيَان بنفقتها ونفقة ولدها لعلمه بما يجب
لهم ولم تحضر هند لدعواها بينة.
وإذا تقدم إِلَى القاضي من لا يعرف لسانه أجزأه أن يترجم عنهم لَهُ رجل
واحد استدلالا بأن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أمر زيد
بن ثابت أن يتعلم كتاب يهود» ، قَالَ: فكنت أكتب لهم إذا كتبوا إليه، وأقرأ
لَهُ إذا كتبوا إليه.
(2/511)
والقضاء عَلَى الغائب جائز استدلالا بقضاء
النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أبي سُفْيَان بنفقة هند
وولدها وأبو سُفْيَان غير حاضر، واختلف أهل العلم فِي الحكم بين أهل
الكتاب: فَقَالَ مالك، وجماعة: الإمام بالخيار إن شاء حكم بينهم، وإن شاء
تركهم وحكامهم.
وقال الأوزاعي، والكوفي: عَلَى الإمام أن يحكم بينهم واحتج كل فريق بحجج.
والقول الأول أحبهما إلي،
(2/512)
والأعلى والأسلم ترك الدخول فِي القضاء
استدلالا بحديث ابن عمر، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ " استعمل رجلا عَلَى عمل، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، حد لي.
فَقَالَ: اجلس أو الزم بيتك ".
فإن بلي رجل بالقضاء وكان مستغنيا فأفضل لَهُ أن يعمل لله محتسبا، فإن
احتاج ارتزق عَلَى قدر عمله من مال الفيء، وليس للقاضي أن يحكم بشيء يجده
فِي ديوانه بخطه حَتَّى يحفظ ذَلِكَ ويذكره، لأن الخط يكتب عَلَى الخط،
وللقاضي أن يتخذ كاتبا ثقة عدلا فطنا، وأسلم لَهُ أن يكون كاتب نفسه، فإن
اتخذ كاتبا لم يتخذه ذميا وَلا أحدا لا تقبل شهادته.
باب ذكر التغليظ فِي الرشا
172 - نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: نا مُسَدَّدٌ، قَالَ: نا أَبُو
عَوَانَةَ، عَنْ عِمْرَانَ، عَنْ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ
أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُرْشِي وَالرَّاشِي فِي الْحُكْمِ»
قَالَ عبد الله بن مسعود: السحت الرشوة فِي
(2/513)
الدين.
فحرم عَلَى القاضي أن يأخذ الرشوة فِي الأحكام، فيدفع بها حقا ويثبت بها
باطلا، وإذا تبين للقاضي حق لرجل عَلَى رجل فامتنع من إنفاذ الحكم عَلَى من
وجب عليه ذَلِكَ حَتَّى أعطاه شيئا، ثم أنفذ ذَلِكَ الحكم عَلَى من يجب،
كَانَ حكمه مردودا، لأنه حرج عند امتناعه من إنفاذ الحكم طمعا أن يأخذ شيئا
عن الأمانة وصار مجروحا غير عدل، وصار لما كَانَ هكذا حكمه غير جائز، وأكره
للقاضي أن يفتي فِي الأحكام، قَالَ شريح: «إنما أقضي وَلا أفتي» .
وأما الفتيا فِي سائر أمور الدين من الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج
وفي غير باب القضاء فيجيب به القاضي، لا يسعه أن يمتنع من الجواب فيما
يعلمه منه.
(2/514)
كتاب الدعوى
والبينات
173 - قَالَ: نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: نا مُسَدَّدٌ، قَالَ: نا
أَبُو الأَحْوَصِ، قَالَ: نا سِمَاكٌ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَائِلٍ، عَنْ
أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ، وَرَجُلٌ مِنْ كِنْدَةَ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ
الْحَضْرَمِيُّ: إِنَّ هَذَا قَدْ غَلَبَنِي عَلَى أَرْضٍ كَانَتْ لأَبِي،
فَقَالَ الْكِنْدِيُّ: هِيَ أَرْضِي فِي يَدِي أَزْرَعُهَا لَيْسَ لَهُ
فِيهَا حَقٌّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِلْحَضْرَمِيِّ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ؟» قَالَ: لا. . . . قَالَ: «فَلَكَ
يَمِينُهُ» .
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ لَيْسَ يُبَالِي مَا
حَلَفَ عَلَيْهِ، لَيْسَ يَتَوَرَعُّ مِنْ شَيْءٍ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَيْسَ لَكَ مِنْهُ إِلا ذَلِكَ» .
قَالَ: فَانْطَلَقَ لِيَحْلِفَ، فَلَمَّا أَدْبَرَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّهُ إِنْ يَحْلِفْ عَلَى
مَا لَهُ لِيَأْكُلَهُ ظُلْمًا لَيَلْقَيَنَّ اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ
مُعْرِضٌ»
(2/515)
أجمع أهل العلم عَلَى أن البينة عَلَى
المدعي واليمين عَلَى المدعى عليه.
ومعنى قوله: «البينة عَلَى المدعي» .
أن يستحق بها لا أنها واجبة عليه يؤخذ بها، وكذلك قوله: «واليمين عَلَى
المدعى عليه» .
أي: يبدأ بها لا أنه يؤخذ بها عَلَى كل حال، فإذا تقدم الخصمان إِلَى
الحاكم فادعى أحدهما عَلَى صاحبه شيئا نظر فيما يدعيه، فإذا كَانَ ذَلِكَ
معلوما سأل المدعى عليه عما ادعاه، فإن أقر به غرم ذَلِكَ وإلا سأل المدعي
الحاكم إثبات ذَلِكَ فِي كتاب أثبته لَهُ وأشهد عليه، وإن سأله أن يرفع
إليه مَا أقر لَهُ به أمره برفعه، فإن فعل برئ، وإن امتنع من ذَلِكَ وسأل
حبسه حبس فِي قول أكثر أهل العلم إلا أن يعلم الحاكم أنه معدم، فإذا علم
ذَلِكَ لم يكن لَهُ حبسه، لقوله جل ذكره: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ
فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] .
فإن أنكر المدعى عليه مَا ادعاه المدعي سأل المدعي بينة تشهد لَهُ بما
ادعاه، فإن أتاه بشاهدين أو رجل وامرأتين يشهدون لَهُ بما ادعاه قضى لَهُ
بحقه، فإن ذكر أنه لا بينة لَهُ وسأل استحلافه استحلف لَهُ.
باب ذكر الأيمان التي يجب أن يستحلف بها من تجب
عليه اليمين
يستحلف الحاكم المدعى عليه بالله الذي لا إله إلا هو مَا لفلان بن فلان هذا
قبلك وَلا عندك وَلا عليك هذا المال الذي ادعاه وَلا شيء منه.
(2/516)
174 - نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ:
نا مُسَدَّدٌ، قَالَ: نا أَبُو الأَحْوَصِ، قَالَ عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ،
عَنْ أَبِي يَحْيَى، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: جَاءَ خَصْمَانِ
يَخْتَصِمَانِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَادَّعَى أَحَدُهُمَا عَلَى الآخَرِ حَقًّا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُدَّعِي: " أَقِمْ بَيِّنَتُكَ
عَلَى حَقِّكَ؟ .
قَالَ: لَيْسَ لِي بَيِّنَةٌ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلآخَرِ:
احْلِفْ بِاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ مَا لَهُ عِنْدَكَ شَيْءٌ.
قَالَ: فَحَلَفَ "
وليس للحاكم أن يستحلف المدعى عليه بالطلاق والعتاق والحج والسبيل وما أشبه
ذَلِكَ، وَلا يستحلف عَلَى المصحف، ولو استحلفه الحاكم بالله أجزأ، قَالَ
عثمان لابن عمر: احلف بالله لقد بعته وما به داء تعلمه.
(2/517)
وقد دخل فِي جملة قول النَّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: المسلمون، وأهل الكتاب، الرجال، والنساء،
الأحرار، والعبيد ومن علم بينه وبين خصمه معاملة أو لم يعلم، وقد أمر
اللَّه نبيه أن يحكم بين أهل الكتاب بالقسط، وَلا نعلم حجة توجب أن يستحلف
أهل الكتاب فِي مكان بعينه، وَلا يمين غير اليمين التي يستحلف بها
المسلمون.
واختلف فِي اليمين بين البيت والمقام بمكة وعند منبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمدينة، فكان مالك، والشافعي ومن تبعهما من
أهل الحرمين يرون اليمين بالمدينة عند منبر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ مالك: يحلف عَلَى منبر النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
عَلَى ثلاثة دراهم.
وقال الشَّافِعِيّ: إذا كَانَ المال عشرين دينارا استحلفه بمكة بين البيت
والمقام، وأهل الكوفة لا يرون الاستحلاف بين البيت والمقام، وَلا عند منبر
النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإنما يستحلف الحاكم فِي كل
بلد فِي مجلسه.
وَلا يجوز أن يقال فيمن وجبت عليه اليمين فأبى اليمين إلا واحدًا من قولين:
أحدهما: أن ترد اليمين عَلَى المدعي ويحلف ويستحق مَا ادعى، وأن يؤخر
المدعى عليه باليمين حَتَّى يحلف.
فأما إيجاب المال بالنكول فلا معنى لَهُ، وإذا أقام الرجل البينة عَلَى
المال يدعيه، فليس عليه أن يحلف مع بينته، لأن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعل المدعى عليه يبرأ باليمين، كذلك يجب أن يستحق
المدعي المال بالبينة إلا أن يدعي المدعي عليه أن خصمه أبرأه من المال أو
قبضه فيوجب عليه اليمين، لأن هذه دعوى غير الأولى، وإذا استخلف الرجل خصمه
عند الحاكم ثم أتى بينة تشهد لَهُ عَلَى المدعى عليه
(2/518)
أخذت ببينه وحكم لَهُ بالمال.
وكان الشَّافِعِيّ، وأحمد، والنعمان، يقولون: يستحلف الرجل فيما وليه بنفسه
عَلَى البت وفيما وليه غيره عَلَى العلم.
وقد عمم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بقوله: «البينة
عَلَى المدعي واليمين عَلَى المدعى عليه» .
وكل مدعى دخل فِي ذَلِكَ النكاح والطلاق والعتاق وسائر الأحكام، فكل امرأة
ادعت طلاقا أو عبد ادعى حرية وجب استحلاف المدعى عليه منهما، وإذا ادعى
عَلَى المرء دعوى باطلا حلف بالله صادقًا وَلا مأثم عليه، وَلا فرق بين
الأيمان فِي غير باب القسامة وبين الأيمان فِي سائر الحقوق، وإنما يجب أن
يستحلف فِي الدماء وفي سائر الحقوق يمينا واحدة عَلَى ظاهر حديث ابن عباس.
175 - نا مُحَمَّدٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي
ابْنُ جُرَيْجٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
عَبَّاسٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
«لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمُ ادَّعَى نَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ
وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ»
(2/519)
باب ذكر الحكم
باليمين مع الشاهد الواحد
176 - نا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ
بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ، قَالَ: وَحَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلالٍ، عَنْ
سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «قَضَى بِالْيَمِينِ مَعَ
الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ»
(2/520)
وقال باليمين مع الشاهد سعيد بن المسيب،
وشريح، والقاسم بن مُحَمَّد، وعروة بن الزبير، وأبو بكر بن عبد الرحمن،
وعبيد اللَّه بن عبد الله بن عتبة، وخارجة بن زيد، وسليمان بن يسار، وأبو
سلمة بن عبد الرحمن، وأبو الزناد،
(2/521)
ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو
عبيدة، وأبو ثور، وخالف ذَلِكَ الأوزاعي، والكوفي.
وإنما يحكم باليمين مع الشاهد عند من يرى الحكم به فِي الأموال.
وإذا أقام العبد شاهدا أن مولاه أعتقه لم يحلف مَعَهُ ويعتق، ولكن لَهُ أن
يستحلف السيد، وَلا يثبت الولاء بشاهد ويمين، وَلا يحلف الغلام الذي لم
يبلغ مع شاهده، ويحلف النصراني عند مالك، والشافعي مع شاهده المسلم، وتحلف
الْمَرْأَة فِي قولهما مع شاهدها وَلا يستحق الخصم بيمينه مع شهادة امرأتين
حقا.
وإذا توفي الرجل وله ديون عَلَى الناس بشاهد واحد وعليه ديون، وقالت الورثة
لا نحلف مع شاهدنا، لم يحلف الغرماء فِي قول الشَّافِعِيّ.
باب ذكر البينتين تتكافأ بالدعوى فِي الشيء الواحد
177 - نا حَاتِمُ بْنُ يُونُسَ الْجُرْجَانِيُّ، قَالَ: نا هُدْبَةُ بْنُ
خَالِدٍ،
(2/522)
قَالَ: نا هَمَّامٌ، قَالَ: نا قَتَادَةُ،
عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي مُوسَى، أَنَّ
رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي بَعِيرٍ، فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَيْنِ،
«فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
الْبَعِيرِ نِصْفَيْنِ»
وإذا ادعى الرجلان دارا، فَقَالَ كل واحد منهما: داري، وفي يدي فليس عَلَى
الحاكم أن ينظر بينهما، لأن كل واحد منهما لا يدعي قبل صاحبه شيئا وَلا فِي
يده، فإن كانت الدار فِي أيديهما، وأقام كل واحد منهما بينة عادلة تصدق
دعواه، فإن الدار تترك بأيديهما لكل واحد منهما النصف عَلَى ظاهر مَا هِيَ
بأيديهما وإن لم تكن لأحد منهما بينة، والدار بأيديهما، فادعى كل واحد
منهما جميع الدار حلف كل واحد منهما لصاحبه عَلَى دعواه وتركت الدار
بأيديهما.
وإن حلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف، ففي قول الشَّافِعِيّ، وأبي ثور يرد
اليمين عَلَى صاحبه، فإذا حلف استحق مَا بيد صاحبه، وإن أقام أحدهما
بالبينة، ولم تكن للآخر بينة استحق الذي أقام البينة الدار جميعا.
والجواب فِي الثوب والعبد الصغير والإناء والدابة، وكل مَا يدعياه الرجلان
فيما بأيديهما كالجواب فِي الدار لا فرق بين ذَلِكَ.
(2/523)
واختلفوا فِي الرجلين يدعيان الشيء ليس فِي
أيديهما، ويقيم كل واحد منهما بينة، تصدق قوله: ففي قول أحمد بن حنبل،
وإسحاق، وأبي عبيد يقرع بينهما، فمن خرجت لَهُ القرعة صار لَهُ مَا ادعاه.
ومن حجة من قَالَ هذا القول: حديث أَبِي هُرَيْرَةَ،
178 - نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ: نا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ، قَالَ: نا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دَابَّةٍ، وَلَيْسَ لَهُمَا بَيِّنَةٌ
«فَأَمَرَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَسْتَهِمَا عَلَى الْيَمِينِ» .
(2/524)
وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ،
وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ: يقضى به بينهما بنصفين، وفيه قول ثالث وهو أن يخرج
الشيء من يد من هو بيده ويوقف حَتَّى يصطلحا عليه، لأن من المحال أن تكون
الدار فِي حال واحدة بكمالها لكل واحد منهما.
وإذا كَانَ الشيء بيد الرجل فادعاه آخر، وأقام كل واحد منهما البينة عَلَى
أن الشيء لَهُ فصاحب اليد أولى لفضل قوة سببه عَلَى سبب صاحبه، هذا قول
الشَّافِعِيِّ.
وقال أحمد بن حنبل: البينة بينة المدعي الذي ليس بيده الشيء ويسلم إليه.
واحتج بظاهر الحديث قوله: «البينة عَلَى المدعي» .
وقال أحمد: ليس بين المباح وبين غيره فرق، ويحكم بالشيء للذي ليس فِي يده.
(2/525)
|