الإقناع
لابن المنذر كتاب الشهادات
قَالَ اللَّه جل ذكره: {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ
بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ إِلَى قوله: وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] .
وندب جل ذكره إِلَى الإشهاد فِي غير آية من كتابه، فَقَالَ عند ذكر الطلاق
والرجعة: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ، وقال تعالى:
{لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] .
باب ذكر فضل إقامة الشهادة قبل أن يسأل الشاهد
إقامتها
179 - نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: نا الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ
مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي عَمْرَةَ
الأَنْصَارِيِّ، عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَلا أُخْبِرُكُمْ
بِخَيْرِ الشُّهَدَاءِ الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْل أَنْ
يُسْأَلَهَا أَوْ يُخْبِرُ بِشَهَادَتِهِ قَبْل أَنْ يُسْأَلَهَا» .
(2/526)
وَقَدْ رُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ
بِالإِشْرَاكِ بِاللَّهِ» .
ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ {30} حُنَفَاءَ
لِلَّهِ} [الحج: 30-31]
فإذا شهد الرجل عند الحاكم بشهادة، فاحتمل أن يكون فيها مخطئا أو مغفلا أو
كَانَ لَهُ مخرج مما شهد به بوجه فلا شيء عليه، وإن لم يكن لَهُ من ذَلِكَ
مخرج شهد به لئلا يغتر به، وقد قيل: يؤدب.
باب ذكر من يجب قبول شهادته ومن لا يجوز قبول
شهادته
قَالَ اللَّه جل ذكره: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:
282] ، وقال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] .
وقال جل ثناؤه: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] ، فكل مسلم
قبله شهادة فعليه القيام بها، وعلى الحاكم قبولها منه عَلَى ظاهر كتاب
اللَّه، وسواء كَانَ الشاهد والد المشهود به لَهُ أو ولده.
وتجوز شهادة الأخ لأخيه إذا كَانَ عدلا، وكذلك تجوز شهادة الزوج لزوجته،
وشهادة الْمَرْأَة لزوجها، وتجوز شهادة الأعمى والعبد لدخولهما فِي ظاهر
قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ
(2/527)
الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] ، وَلا تقبل
شهادة من لم يبلغ الحلم، ويجب قبول شهادة ولد الزنى إذا كَانَ عدلا لدخوله
فِي ظاهر الآية، وليس عليه من ذنب والديه شيء لأن اللَّه تعالى يقول: {وَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] .
وإذا كَانَ الزانيان إذا تابا وأصلحا، وجب قبول شهادتهما فمن لم يزن، ولم
تظهر منه ريبة أولى بقبول شهادته، ويقال: إن معنى الحديث الذي روي أن ولد
الزنى شر الثلاثة، وإن زانيين زنيا فولد بينهما ولد فأسلما وبقي الولد لم
يسلم، فقيل: ولد الزنى شر الثلاثة، لأنهما أسلما ولم يسلم هو.
وَلا تجوز شهادة الشريك لشريكه فيما هما فِيهِ شريكان، وتجوز شهادة كل واحد
منهما لصاحبه فيما لا شركة بينهما فِيهِ، وإذا كانت الخصومة قائمة بين
الشاهد والخصم لم تقبل شهادة الشاهد، لا أعلم فِي ذَلِكَ اختلافا بينهم،
وإذا قَالَ الخصم: إن الشاهد لي عدو
(2/528)
ولم يعلم ذَلِكَ لم يقبل قوله.
وشهادة الأجير جائزة للمستأجر فيما لا يتولاه الأجير، وشهادة الوكيل للموكل
بهذه المنزلة.
وشهادة الصديق لصديقه جائزة، والأخرس شهادته مقبولة إذا كانت إشارة تفهم
عَنْهُ استدلالا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه أشار إليهم
فِي الصلاة أن اجلسوا ففهموا عَنْهُ ذَلِكَ واستعملوه، لأن ذَلِكَ كَانَ
عندهم حقا.
وثبت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إن
من الشعر حكمة» .
فدل عَلَى أن من تكلم بحكمة وقالها مقبول الشهادة.
وإذا شرب الرجل خمرا ثم تاب فشهد شهادة يجب قبولها منه إذا كَانَ عدلا.
وكل من أتى حدا من الحدود فأقيم عليه ثم تاب وأصلح فشهد بشهادة وجب قبول
شهادته، قاذفًا كَانَ أو غير قاذف، وَلا يكون القاذف أسوأ حالا من الزاني،
فإذا وجب قبول شهادة الزاني
(2/529)
إذا شهد بشهادة بعد أن يتوب، فالقاذف أولى
بذلك إذا تاب.
وأجمع أهل العلم عَلَى أن لا شهادة للمجنون فِي حال جنونه.
وإذا شهد الذي يجن ويفيق بشهادة فِي حال إفاقته وجب قبولها.
وإذا سمع الرجلان الرجل يقر لرجل بمال وصف ذَلِكَ من غصب أو ثمن سلعة أو من
قرض فلازم لهما أن يؤديا الشهادة، وعلى الحاكم قبولها منهما وسواء علم
المقر بالشيء بمكانهما وقت أقر به أو لم يعلم، مختفيين كانا فِي ذَلِكَ
الوقت أو ظاهرين.
وَلا تجوز شهادة أهل الشرك عَلَى مسلم وَلا مشرك، وإذا لم يجز قبول شهادة
الكذاب من أهل الإسلام فرد شهادة من كذب عَلَى اللَّه أولى من شهادة الكذاب
المسلم.
باب ذكر شهادات النساء
قَالَ اللَّه جل ذكره: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ
وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: 282] ، ودل خبر أبي سُفْيَان عَلَى عدد من يجب
قبول شهادته من النساء.
180 - نا عَلاقُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: نا سَعِيدُ بْنُ أَبِي
مَرْيَمَ، قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنِي زَيْدُ
بْنُ أَسْلَمَ، عَنْ عِيَاضِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى الصَّلاةِ فَصَلَّى
وَانْصَرَفَ فَقَامَ بِوَعْظِ النَّاسِ، وَقَالَ: «مَا رَأَيْتُ مِنْ
نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ، أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ الْحَازِمِ مِنْ
إِحْدَاكُنَّ
(2/530)
يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ» .
فَقُلْنَ لَهُ: مَا نُقْصَانُ عَقْلِنَا وَدِينِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ: «أَوَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ
الرَّجُلِ؟» قُلْنَ: بَلَى.
قَالَ: «فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِهَا، أَوَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ لَمْ
تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا»
وقد أجمع أهل العلم عَلَى أن شهادة المرأتين مع الرجل جائزة فِي الديون
والأموال، وَلا تجوز عندي شهادتهن فِي الحدود والقصاص فِي النفس فما دونها،
والنكاح والطلاق والعتق والوكالة، وإثبات كتاب الوصية، وَلا تجوز شهادتهن
وإن كثرن فِي شيء من الأموال والديون إلا أن يكون معهن رجل.
وتجوز شهادتهن فيما لا يطلع عليه الرجال من الولادة والرضاع والعيوب
والاستهلال، وَلا يقبل منهن فِي ذَلِكَ أقل من أربع نسوة استدلالا: بأن
اللَّه أقام شهادة امرأتين مع رجل مقام رجلين ففيه دلالة عَلَى أن أقل مَا
يقبل منه فيما ذكرناه أربع نسوة استدلالا بما ذكرت.
باب جامع الشهادة
وإذا شهد الشاهدان من الورثة عَلَى الميت بدين لقوم قبلت شهاداتهم، وقضي
بذلك فِي مال الميت وإن كانوا غير عدول أوجب عليهم إخراج حصتهم من مال
الميت.
وإذا شهد أصحاب الوصايا بأن الميت أوصى لهم بالثلث لم تقبل شهادتهم، لأنهم
يجرون بشهادتهم إِلَى أنفسهم مالا، وإذا كَانَ الظاهر من أمر الشاهد الطاعة
والمروءة ولم تظهر لَهُ معصية وجب قبول شهادته.
وَلا تقبل الجرحة إلا من اثنين، وكذلك لا يعدل الشاهد أقل من اثنين، وإذا
جرح الشاهد قوم وعدله آخرون فالجرح أولى من التعديل، لأن التعديل يكون
عَلَى الظاهر والجرح يكون عَلَى الباطن.
وإذا شهد الكافر والصغير والفاسق بشهادة فردت ثم أسلم الكافر، وبلغ الصبي،
وصلح
(2/531)
الفاسق وأناب، وصاروا عدولا فشهدوا بتلك
الشهادات وجب قبولها، لأن الحاكم إن كَانَ عالما بأحوالهم وقت شهدوا
بالشهادة الأولى لم يقبلها ولم يسأل عنهم.
وإن كَانَ وقت شهدوا جاهلا بأحوالهم كتبها وسأل عنهم ثم ردها فلا فرق بينهم
فِي ذَلِكَ، وَلا أعلم مع من قبل شهادة الكافر والصغير إذا بلغ هذا وأسلم
الآخر وكانا عدلين، ورد شهادة العدل غيرهما فرقا.
فأما العبيد فشهادتهم جائزة إذا كانوا عدولا قوله: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ
مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] .
وأجمع كل من يحفظ عَنْهُ من أهل العلم عَلَى أن شهادة أربعة عَلَى شهادة
شاهدين جائزة فِي الأموال.
واختلفوا فيما سوى ذَلِكَ من الحدود، وكان الشعبي، والنخعي، والكوفي لا
يجيزون الشهادة عَلَى الشهادة فِي الحدود والقذف وكل شيء من الحقوق.
والاختلاف من الشهادة تنصرف عَلَى وجهين: أحدهما: الشهادة عَلَى الإقرار
كالرجل يشهد الرجل بمكة عَلَى أن لزيد عليه كذا ويشهد آخر عَلَى مثل ذَلِكَ
الإقرار بالمدينة، فهذا وما أشبهه الشهادة عَلَيْهَا جائزة.
والوجه الآخر: الشهادة عَلَى الأفعال فِي الأماكن المختلفة كالرجل يشهد أن
زيدا قتل عمرا بالمدينة، ويشهد آخر عَلَى أن زيدا قتل عمرا بمكة فهذا وما
أشبه ذَلِكَ الشهادة فِيهِ مردودة، لأن عمرا إذا قتل بالمدينة فغير جائز أن
يقتل ثانيا بمكة.
والشهادة عَلَى الخط لا تجوز إذا لم يذكر الشاهد الشهادة، قَالَ اللَّه
تعالى: {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] .
وإذا شهد الشاهدان عَلَى رجل بقتل فقتل، أو بقطع يد فقطعت ثم رجعا عن
الشهادة سئلا، فإن قَالا: تعمدنا كَانَ عليهما القود فِي النفس إلا أن
يختار الأولياء الدية فيكون
(2/532)
ذَلِكَ لهم وفيما دون النفس فِي قول يقتل
الجماعة بالواحد، وإن قَالا: أخطأنا فعليهما الدية فِي النفس أو دية اليد،
وإذا شهدا عَلَى رجل بأنه طلق زوجته ثلاثا ثم رجعا عن الشهادة، وكان مدخولا
بها فعليهما مهر مثلها.
وإذا شهدا عَلَى رجل بمال فحكم به الحاكم، ثم رجعا غرما المال، وكذلك لو
شهدا عَلَى عتق عبد فحكم بعتقه، ثم رجعا غرما قيمته.
وإذا أحضر القوم رجلين، وقالوا لهما: لا تشهدا علينا بما نقول، فأقر بعضهم
لبعض بشيء معلوم، ثم تناكروا، وسأل المدعي الشاهدين الشهادة لم يسعهما
كتمانها.
وإذا سئل الشاهد شهادة قبله، فَقَالَ: ليس عندي شهادة، ثم أدى الشهادة وجب
قبولها، لأنه تذكر بعد نسيان.
وإذا شهد رجلان عَلَى رجل بأنه أعتق عبده فردت شهادتهما ثم اشتراه أحدهما
عتق عليه، لأنه أقر بأنه حر لما شهد أن المالك أعتقه.
ويقبل عَلَى القتل وعلى سائر الحقوق شاهدان، وَلا يقبل فِي الزنى أقل من
أربعة شهداء.
(2/533)
كتاب الذبائح
181 - نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: نا الْحُمَيْدِيُّ، قَالَ:
نا سُفْيَانُ، قَالَ: نا الزُّهْرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ
مَيْمُونَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ
بِشَاةٍ لِمَوْلاةٍ لَهَا قَدْ أُعْطِيَتْهَا مِنَ الصَّدَقَةِ مَيْتَةً،
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا عَلَى أَهْلِ
هَذِهِ لَوْ أَخَذُوا إِهَابَهَا فَدَبَغُوهُ، فَانْتَفَعُوا بِهِ» .
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهَا مَيْتَةٌ.
قَالَ: «إِنَّمَا حُرِّمَ مِنَ الْمَيْتَةِ أَكْلُهَا»
فالانتفاع بجلود الأنعام وما يقع عليه الذكاة وهي حية بعد الدباغ جائز
عَلَى ظاهر هذا الحديث، وليس كذلك جلود مَا لا يجوز أكل لحمه من السباع أن
تفترش نهيا عاما، والذي يجب علينا أن
(2/534)
نستعمل كل حديث فِي موضعه، وقد حرم اللَّه
الميتة فِي كتابه، فجلود السباع محرمة عَلَى ظاهر تحريم اللَّه الميتة،
وعلى ظاهر تحريم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل ذي ناب من
السباع، وجلود مَا تقع عليه الذكاة من الأنعام وغيره مستثنى من ظاهر الآية،
وظاهر السنة إذا دبغت بخبر ميمونة.
(2/535)
وأجمع أهل العلم عَلَى إباحة الانتفاع
بأشعار الأنعام وأوبارها وأصوافها إذا أخذ ذَلِكَ منها وهي أحياء، وأجمعوا
عَلَى أن الشاة أو البعير أو البقرة إذا قطع من أي ذَلِكَ عضو وهو حي أن
المقطوع منه ذَلِكَ نجس محرم، فلما أجمعوا عَلَى الفرق بينهما دل عَلَى
افتراق أحوالهما وعلى أن الأصواف والأشعار والأوبار ظاهرة لا تحتاج إِلَى
الذكاة أخذ ذَلِكَ منها وهن أحياء أو بعد الموت.
(2/536)
باب ذكر الخبر الدال عَلَى طهارة شعور بني
آدم
182 - نا حَاتِمُ بْنُ مَنْصُورٍ، أَنَّ الْحُمَيْدِيَّ، حَدَّثَهُمْ،
قَالَ: نا سُفْيَانُ، قَالَ: نا هِشَامٌ الْفِرْدَوْسِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ
بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقْبَةِ، وَذَبَحَ
نُسُكَهُ «نَاوَلَ الْحَالِقَ شَقَّهُ الأَيْمَنَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ
نَاوَلَ الْحَالِقَ شَقَّهُ الأَيْسَرَ فَحَلَقَهُ، ثُمَّ نَاوَلَهُ أَبَا
طَلْحَةَ فَقَسَمَهُ بَيْنَ النَّاسِ»
فشعور بني آدم طاهرة استدلالا بهذا الحديث، إذ لو لم يكن ذَلِكَ طاهرا لما
قسم ذَلِكَ بين الناس، وليس لأحد أن يقول ذَلِكَ للنبي صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاص بغير حجة عَلَى أن حجة من قَالَ إن المني طاهر، قول
عائشة: «فركت المني من ثوب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ» .
ولن يدخل أحد فِي أحدهما شيئا إلا دخل فِي الآخر مثله، وَلا يظن ظان «أن
فِي لعن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الواصلة والمستوصلة»
دليل عَلَى نجاسة شعور بني آدم، لأن اللعن يلحق كل من علم فوصل شيئا من
شعور بني آدم أو شعور البهائم، وليس مع من فرق بين شعور بني آدم وشعور
البهائم حجة،
(2/537)
والانتفاع بشعر الخنزير محرم للحزر ولغيره
لدخوله فِي جملة تحريم اللَّه الخنزير، ودخل فِي تحريم اللَّه الميتة عظام
الفيل، وعظام الميتة، وَلا يجوز الانتفاع بشيء منه بحال.
باب ذكر سقوط الميتة فِي الزيت أو السمن
183 - نا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ
مَعْمَرٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ، قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَنِ الْفَأْرَةِ تَقَعُ فِي السَّمْنِ، قَالَ: «إِذَا كَانَ
جَامِدًا فَأَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلا
تَقْرَبُوهُ»
فِي قوله: «وإن كَانَ مائعا فلا تقربوه» .
وقيل: عَلَى أن بيعه والانتفاع به للمصابيح والدباغ غير جائز مع مَا فِي
حديث جابر من البيان الذي لا يحتمل إلا معنى
(2/538)
واحدا، لما قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، شحوم
الميتة فإنه يدهن بها السفن ويدهن بها الجلود، ويستنفع بها الناس.
فَقَالَ: «لا هِيَ حرام» .
ثم قَالَ: «قاتل الله اليهود لما حرم الله عليهم الشحوم جملوه، ثم باعوه
فأكلوا ثمنه» .
وَلا بأس بأكل البيضة تخرج من بطن الدجاجة الميتة إذا كانت شديدة صليبة،
كما لا يكون بها بأس إذا وقعت فِي بول أو غيره فغسلت، والمسك طاهر يجوز
الانتفاع به واستعماله لحديث أنس، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد «كَانَ لَهُ مسك يتطيب به» ، ولقوله: «إن أطيب الطيب
المسك» .
(2/539)
باب ذكر تحريم كل ذي
ناب من السباع
184 - نا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، قَالَ: نا الْقَعْنَبِيُّ، عَنْ
عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيِّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «حَرَّمَ كُلَّ ذِي نَابٍ مِنَ
السِّبَاعِ» ، وَثَبَتَ عَنْهُ، أَنَّهُ «نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي
نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ»
فالنهي عن كل ذي ناب من السباع يقع عَلَى لحومها وجلودها والانتفاع بها إلا
مَا استثناه الخبر، فإنا قد روينا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أنه «جعل الضبع صيدا، وقضى فيها إذا قتلها المحرم كبشا» ، وجاءت
الأخبار بالرخصة فيها عن عمر،
(2/540)
وعلي، وابن عباس، وابن عمر، وأبي
هُرَيْرَة.
فالضبع مباح أكلها لخبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ولقول من ذكرنا من أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
والثعلب، وسائر السباع مردود إِلَى تحريم النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كل ذي ناب من السباع» .
(2/541)
كتاب الاستبراء
باب ذكر النهي عن وطء الحمالى من السبايا حَتَّى يضعن حملهن
185 - نا بَكَّارُ بْنُ قُتَيْبَةَ، قَالَ: نا أَبُو دَاوُدَ
الطَّيَالِسِيُّ، قَالَ: نا شُعْبَةُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي يَزِيدُ بْنُ
خُمَيْرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ
الْحَضْرَمِيَّ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى عَلَى امْرَأَةٍ
مُجِحٍّ عَلَى بَابِ فُسْطَاطٍ أَوْ قَالَ: خِبَاءٍ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَعَلَّ
(2/542)
صَاحِبَ هَذِهِ أَنْ يُلِمَّ بِهَا لَقَدْ
هَمَمْتُ أَنْ أَلْعَنَهُ لَعْنًا يَدْخُلُ مَعَهُ فِي قَبْرِهِ، كَيْفَ
يُوَرِّثُهُ وَهُوَ لا يَحِلُّ لَهُ، كَيْفَ يَسْتَرِقُهُ وَهُوَ لا
يَحِلُّ لَهُ»
وأجمع كل من يحفظ عَنْهُ من أهل العلم عَلَى منع أن يطأ الرجل جارية يملكها
من السبي وهي حامل حَتَّى تضع حملها، وَلا حائل حَتَّى تحيض حيضة.
فوطء الحامل لا يجوز حَتَّى تضع حملها، ووطء غير الحامل لا يجوز حَتَّى
تحيض حيضة، وثبت أن ابن عمر، كَانَ يقول: إذا كانت الأمة عذراء لم يستبرأها
إن شاء.
وجاء الحديث عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه
قَالَ: «من كَانَ يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يأتين شيئا من السبي حَتَّى
يستبرئها» .
ودل هذا الحديث عَلَى أن وطء غير
(2/543)
الثيب غير مباح قبل الاستبراء.
وقد روينا عن ابن عمر، أنه قَالَ: إذا اشتراها من امرأة أو اشتراها بكرا لم
يستبرئها.
فعلى هذا القول إنما جعل الاستبراء لبراءة الرحم من الحمل فكل من ملك جارية
يعلم أنها لم توطأ بعدما حاضت فِي ملك سيدها إِلَى أن ملكها فلا استبراء
عليه.
وقد روينا هذا المذهب عن جماعة من الأوائل، وإذا اشترى الرجل جارية فلا
ينبغي لَهُ أن يقبل وَلا يباشر حَتَّى يستبرئها لعل بها حملا يجب ردها
عَلَى بائعها فيكون قد تلذذ بأم ولد لغيره، وليس كذلك الجارية يملكها الرجل
من السبي، لأن هذه إذا وقعت فِي سهمه فظهر بها حمل لم يردها عَلَى أحد، وقد
روينا عن ابن عمر، أنه قَالَ: «وقع سهمي عَلَى جارية كأن عنقها إبريق فضة
فما ملكت نفسي أن قبلتها والناس ينظرن» .
وَلا يجب مواضعة الجارية إذا باعها الرجل للاستبراء والتحفظ فِي هذا قبل
البيع، وإذا كاتب الرجل جارية لَهُ ثم عجزت ورجعت إليه فلا استبراء عليه،
وإذا اشترى جارية فحاضت بعد افتراقهما عند البائع حيضة ثم قبضها، وطئها إن
شاء، وإذا وطئ المشتري الجارية قبل أن يستبرئها فقد أساء وَلا شيء عليه،
وإذا اشترى الرجل الجارية فوضعها عَلَى يدي عدل حَتَّى يعطي الثمن فحاضت
عند العدل، أجزت تلك الحيضة من الاستبراء، وإذا رهن الرجل الجارية ثم
افتكها سيدها وطئها، وليس عليه استبراء، وإذا باع الرجل الجارية بيعا فاسدا
فردها عَلَى البائع ولم يكن المشتري وطئها فليس عَلَى البائع استبراء، وإن
كَانَ المشتري وطئها لم يطأها البائع حَتَّى يستبرئها.
وإذا ملك الرجل الجارية بهبة أو ميراث أو وصية لم يطأها حَتَّى يستبرئها،
وإن ورث جارية أو أوصي لَهُ
(2/544)
بها فحاضت بعد موت الموصي أو الميت ثم
قبضها أجزأه تلك الحيضة، وإذا باع الرجل مدبرة لَهُ ثم اشتراها فعليه أن
يستبرئها، وإذا ارتدت جارية الرجل ثم رجعت إِلَى الإسلام لم يستبرئها، ويجب
للرجل إذا وطئ أمته أن لا يزوجها حَتَّى يستبرئها بحيضة، كما يستحب للبائع
أن لا يبيع أمة كَانَ يطؤها حَتَّى يستبرئها بحيضة، فإن باع رجل جارية
كَانَ يطؤها قيل: يستبرئها أو زوج رجل أمة كَانَ يطؤها قيل: يستبرئها
فالنكاح والبيع جائزان، وعلى المشتري والناكح أن لا يطأها واحد منهما
حَتَّى يستبرئها بحيضة لا فرق بينهما.
وإذا تزوج رجل أمة أو اشترى آخر أمة، وقد علما جميعا أنها لم توطأ، أو كانت
بكرا فليس عَلَى الزوج وَلا عَلَى المشتري استبراء، وعدة أم الولد إذا توفي
عنها سيدها حيضة ثبت ذَلِكَ عن ابن عمر، وهو أقل مَا قيل، وَلا حجة مع من
أوجب أكثر من ذَلِكَ، وليس عَلَى الزانية عدة، وَلا يجب عَلَى من تزوجها أن
يستبرئها.
وإن كَانَ لها زوج فليس يجب عليه الوقوف عن وطئها، لأني لا أعلم حجة توجب
ذَلِكَ، وقد أصاب ابن عباس جارية فجرت، ونكاح الْمَرْأَة الحامل من الفجور
جائز، وَلا يطؤها الذي ينكحها حَتَّى تضع «لنهي النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن وطء الحبالى من السبايا» .
(2/545)
وإذا تزوج الرجل الْمَرْأَة ولها ولد من
غيره، فمات بعض أولادها الذي من غيره وقف الزوج عن وطئها ليعلم هل بها حمل
فيرث مع إخوته أم لا، وقد روينا معنى ذَلِكَ عن: عمر، وعلي، والصعب بن
جثامة.
فإذا سبيت الْمَرْأَة ولها زوج فِي دار الحرب أو سبي زوجها معها ووقعا فِي
سهم الرجل، أو مفترقين فوقوع السبي عَلَيْهَا انفساخ لنكاح الزوج، وهذا
تأويل قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلا مَا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] ، قَالَ ابن
(2/546)
عباس: من النساء كلهم إلا ذوات الأزواج من
السبايا، وروي ذَلِكَ عن: ابن مسعود، وأبي سعيد الخدري.
قَالَ جل ذكره: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ
سَلَفَ} [النساء: 23] ، وقال جل ثناؤه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حَافِظُونَ {5} إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}
[المؤمنون: 5-6] .
وأجمع أهل العلم عَلَى تحريم أن يجمع الرجل بين عقد نكاح، أختين حرتين
كانتا أو مملوكتين أو مسلمة وكتابية، فإن جمع رجل بين نكاح أختين فِي عقدة
واحدة لم ينعقد نكاحهما، وإذا
(2/547)
تزوج واحدة، ثم تزوج أختها ثبت نكاح الأولى
ولم ينعقد نكاح الآخرة.
وأجمعوا عَلَى شراء الرجل الأختين من ملك اليمين جائز فِي عقد واحد، وكذلك
الْمَرْأَة وابنتها، فإن أراد أن يطأها فقد جاءت الأخبار عن الأجلة من
أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم: عمر بن
الْخَطَّابِ، وعثمان بن عَفَّانَ، وعلي بن أبي
(2/548)
طالب، وابن مسعود، وعمار بن ياسر،
(2/549)
وغيرهم بالمنع من ذَلِكَ فمنهم من كره
ذَلِكَ، ومنهم من منع منه عَلَى وجه التنزيه، وذلك بين فِي ألفاظ أخبارهم،
وقال عثمان: أحلتها آية وحرمتها آية ولم أكن لأفعل ذَلِكَ.
ونحن نكره من ذَلِكَ مَا كرهوه، ونقف عَنْهُ كما وقفوا عَنْهُ، ولو لم يكن
فِي الوقوف عَنْهُ شيء إلا قول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «الحلال بين والحرام بين، وبين ذَلِكَ أمور مشتبهات» .
لكان فِي ذَلِكَ كفاية، فإذا ملك الرجل أختين مملوكتين فوطئ إحداهما ثم
أراد وطء الأخرى حرم فرج التي كَانَ يطأ عَلَى نفسه ببيع أو نكاح أو غير
ذَلِكَ ووطئ الأخرى، فإذا رجعت الأولى التي كَانَ يطأ إليه بشراء أو طلاق
زوج فأراد أن يطأها حرم فرج التي كَانَ يطأ بعد الأولى عَلَى نفسه، ووطئ
التي رجعت إليه وهكذا يفعل كلما أراد وطء واحدة وعنده أخرى يطؤها عَلَى هذا
المثال.
(2/550)
باب الحث عَلَى اجتناب الشبهات
186 - نا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى الْقَيْسِيُّ، قَالَ: نا
زَكَرِيَّا، ونا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ، قَالَ: نا أَبُو
نُعَيْمٍ، قَالَ: نا زَكَرِيَّا، عَنْ عَامِرٍ، قَالَ: سَمِعْتُ
النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْحَلالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ
وَبَيْنَهُمَا مُشَتَبِهَاتٌ لا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، فَمَنِ
اتَّقَى الشُّبُهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي
الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ كَالرَّاعِي حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ
أَنْ يُوَاقِعَهُ أَلا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَإِنَّ حِمَى اللَّهِ
مَحَارِمَهُ» .
وَفِي خَبَرِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَقُولُ: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا
يَرِيبُكَ»
والشبهات تصرف عَلَى وجه ثلاثة: أحدها: أن يعلم أن الشيء حرام ثم
(2/551)
يشك هل حل لَهُ أم لا فلا يحل مَا هو محرم
إلا بأن يعلم أن قد حل لَهُ الشيء المحرم كالصيد محرم أكله بغير ذكاة، فإذا
شك فِي ذكاته لم يحل مَا هو محرم إلا بيقين، وأصل ذَلِكَ، أَنَّ النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك
فخالطته أكلب لم تسم عَلَيْهَا، فلا تأكل فإنك لا تدري أيها قتله» .
فلم يبح مَا هو محرم إلا بيقين الذكاة، ومن ذَلِكَ أن يكون للرجل أخ لا
وارث لَهُ غيره فيبلغه وفاته، وعنده لأخيه جارية فلا يحل لَهُ وطؤها حَتَّى
يوقن بوفاة أَخِيهِ، لأنها كانت محرمة عليه فلا يباح مَا كَانَ محرما بالشك
حَتَّى يوقن بوفاته وما كَانَ فِي معنى هذا.
والوجه الثاني: أن يكون الشيء للمرء حلالا ثم يشك فِي تحريمه عليه فلا يحرم
مَا كَانَ هكذا حَتَّى يوقن بالتحريم مثل الزوجة تكون للرجل فيشك فِي
طلاقها، والعبد يكون للرجل فيشك فِي عتقه، والأصل فِي هذا قول النَّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للمصلي يشك فِي الحدث: «لا تنصرف حَتَّى
تجد ريحا أو تسمع صوتا» .
والوجه الثالث: أن يشكل عَلَى الإنسان الشيء لا يدري حرام هو أو
(2/552)
حلال، فالورع والأعلى الوقوف عن التقدم
عَلَى مَا هذا سبيله حَتَّى يوقن بالإباحة والأصل فِيهِ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر بتمرة، فَقَالَ: «لولا أني
أخاف أن تكون من الصدقة لأكلتها» .
وَلا يجوز أن ينسب من قَالَ هذا إِلَى أخذ الحرام المحض لاحتمال أن يكون
ذَلِكَ حلالا، فأهل الورع يستعملون فيما كَانَ من هذا النوع مَا استعمله
النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التمرة التي وجدها، وفي
خبر عطية السعدي، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه
قَالَ: «لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حَتَّى يدع مَا لا بأس به حذرا
لما به البأس» .
يعرفك أنه لا يبلغ اسم التقوى عبد عند اللَّه إلا بتركه مَا لا بأس به، وفي
خبر أبي أمامة: «إذا حاك فِي صدرك شيء فدعه» .
(2/553)
وقد اختلف أهل العلم فِي مبايعة من يغلب
عَلَى ماله الحرام، فرخص فِيهِ قوم، واحتجوا فِيهِ بقبول قوم من الأوائل
هدايا وجوائز بعض من لا ترضى حاله، ووقف عن قبول جوائز من يغلب عَلَى ماله
الحرام أو يخالط ماله الحرام: سعيد بن المسيب، والقاسم بن مُحَمَّد، وبسر
بن سعيد، ومحمد بن واسع، وسفيان الثَّوْرِيّ، وابن المبارك، وأحمد بن حنبل،
وقد ذكرت هذا الباب فِي موضع آخر بتمامه.
باب ذكر إباحة جمع المال وطلبه من الحلال
187 - نا سُلَيْمَانُ بْنُ شُعَيْبٍ الْكِسَائِيُّ، قَالَ: نا بِشْرُ بْنُ
بَكْرٍ، قَالَ: نا الأَوْزَاعِيُّ، قَالَ: نا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ،
قَالَ: حَدَّثَنِي هِلالُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ
يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، قَالَ: " بَيْنَا رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَقَالَ: «إِنَّ
مِمَّا أَتَخَوَّفُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي مَا يُفْتَحُ عَلَيْكُمْ مِنْ
زَهْرَةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، إِنَّ هَذَا الْمَالَ نِعْمَ صَاحِبُ
الْمُسْلِمِ هُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ بِحَقِّهِ، وَأَعْطَى مِنْهُ
الْمَسَاكِينَ، وَالْيَتَامَى، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَمَنْ أَخَذَهُ
بِغَيْرِ حَقِّهِ كَانَ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلا يَشْبَعُ، ثُمَّ يَكُونُ
عَلَيْهِ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ» .
(2/554)
وَرُوِّينَا عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: «لا
بَأْسَ بِالْغِنَى لِمَنِ اتَّقَى، وَالصِّحَّةُ لِمَنِ اتَّقَى خَيْرٌ
مِنَ الْغِنَى، وَطِيبُ النَّفْسِ مِنَ النَّعِيمِ» .
وَقَالَ: «أَجْمِلُوا فِي طَلَبِ الدُّنْيَا، فَإِنَّ كُلا مُيَسَّرٌ لَهُ
مَا كُتِبَ لَهُ»
وروينا عَنْهُ، أنه قَالَ: «خير الكسب كسب يد العامل إذا نصح» .
وقال: " مَا أكل أحد طعاما قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، قَالَ: وكان
داود لا يأكل إلا من عمل يده ".
وثبت عَنْهُ، أنه قَالَ: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيذهب فيأتي بحزمة حطب عَلَى
ظهره فيكف بها وجهه خير لَهُ من أن يسأل الناس أشياء أعطوه أو منعوه» .
(2/555)
|