الإقناع لابن المنذر

كتاب الكفالة والحوالة
باب ذكر وجوب ضمان الدين عن الميت
188 - نا أَبُو أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، قَالَ: نا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: أُتِيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجِنَازَةٍ لِيُصَلَّى عَلَيْهَا، فَقَالَ: «عَلَيْهِ دَيْنٌ؟» قَالُوا: نَعَمْ، دِينَارَانِ.
قَالَ: «تَرَكَ لَهُمَا وَفَاءً؟» قَالُوا: لا.
قَالَ: «فَصَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» .
قَالَ أَبُو قَتَادَةَ: هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

(2/556)


وفي امتناع رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يصلي عَلَى الرجل قبل ضمان أبي قتادة الدينارين عَنْهُ، وفي صلاته عليه بعد ضمان ذَلِكَ دليل عَلَى صحة ضمان أبي قتادة، وعلى وجوب الضمان عَلَى الضامن ترك الميت مالا أم لم يتركه.
وجاء الحديث عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «الدين مقضي والزعيم غارم» .
والزعيم الحميل، وكذلك الكفيل والقبيل، وهي أسماء لمعنى واحد، فإذا ضمن الرجل المال عن الرجل وجب المال عَلَى الضامن ولم يبرأ الذي عليه الدين، فلرب المال أن يأخذ أيهما شاء، والدليل عَلَى ذَلِكَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سأل أبا قتادة بعد ضمانه، فَقَالَ: «أقضيت عَنْهُ؟» قَالَ: نعم.
قَالَ: «الآن قد بردت عن جلده» .
فإذا ضمن الرجل عن الرجل المال، وأدى ذَلِكَ إِلَى الطالب نظر، فإن كَانَ ضمانه عَنْهُ بأمره رجع بالشيء عليه، وإن كَانَ ضمن ذَلِكَ بغير أمره لم يرجع عليه وكان متطوعا بالضمان.
وإذا احتال الرجل بالمال يكون لَهُ عَلَى الرجل فقد تحول المال عن الذي كَانَ عليه إِلَى المحال عليه، وَلا سبيل للمحتال بالمال إِلَى صاحبه الأول بإفلاس الذي أحيل عليه بالمال أو موته، وذلك أن الحق إذا تحول لم يجز رده إِلَى الذي أحال بغير حجة، وَلا نعلم

(2/557)


حجة توجب الرجوع عَلَى المحيل بوجه من الوجوه.
وَلا يجوز أن يأخذ الضامن عَلَى ضمانه جعلا، وَلا يجوز أن يتكفل الرجل عن الرجل بدين غير مسمى، وَلا بمال غير معلوم، وذلك مثل أن يقول: مَا وجب لك عَلَى فلان فعلي وما أشبه ذَلِكَ، وليس للعبد المأذون لَهُ فِي التجارة أن يتكفل بنفس رجل وَلا بمال، فإن فعل لم يجز ذَلِكَ.
وإذا مات الرجل وعليه ديون إِلَى أجل فقد اختلف فِيهِ، فَقَالَ الحسن البصري، والشعبي، والنخعي، والزُّهْرِيّ، ومالك، والثوري، والشافعي: تحل الديون بموته.
وقال ابن سيرين، وعبيد اللَّه بن الْحَسَنِ، وأحمد، وإسحاق: الدين إِلَى أجله إن وثقوا بالورثة.
والقول الآخر أحب القولين إلي، ولم يختلفوا أن مَا كَانَ للميت من ديون أنها إِلَى آجالها.
وأكثر أهل العلم، يقولون: لا تجوز الكفالة فِي الحدود، واختلفوا فِي الكفالة فِي النفس،

(2/558)


فأجاز ذَلِكَ مالك، وسفيان الثَّوْرِيّ، والليث بن سعد، وأحمد، والنعمان.
وقال الشَّافِعِيّ مرة كما قَالَ هؤلاء، وقال مرة: هِيَ ضعيفة.
وَلا أعلم حجة توجب ذَلِكَ إلا قول أهل العلم

(2/559)


كتاب الحجر
قَالَ الله جل ذكره: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] .
وقال اللَّه جل ثناؤه: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] .
الرشد الصلاح فِي الدين وحفظ المال، وَلا يجوز أن يدفع إِلَى اليتيم المال إلا أن يكون صالحا فِي دينه حافظا لماله، وإذا كَانَ كذلك فقد أجمعوا عَلَى أن وجوب دفع المال إليه لازم، وإذا لم يكن كذلك لم يجز دفع المال إليه باختلاف، لا حجة مع قائله فِيهِ، والحجر يجب عَلَى كل مضيع لماله صغيرا كَانَ أو كبيرا، وقد ثبت أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إن اللَّه كره لكم ثلاثا» .
189 - نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: نا مُسَدَّدٌ، قَالَ: نا يَزِيدُ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ،

(2/560)


عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثًا: قِيلَ وَقَالَ، وَإِضَاعَةُ الْمَالِ، وَكَثْرَةُ السُّؤَالِ "
وما كره اللَّه لنا فمحرم علينا فعله، فالواجب أن يمنع المضيع لماله من إضاعته، ويحال بينه وبينه، وقد منع اللَّه من الفساد، وخبر أنه لا يحب الفساد فالمفسد لماله داخل فِي النهي وهو ممنوع منه، وإذا بلغ الغلام وأونس منه الرشد، ثم أفسد بعد ذَلِكَ فهو محجور عليه، لأن العلة التي من أجلها وجب منعه من ماله بعد بلوغه الفساد عادت، فمتى عاد عاد مفسدا، فقد رجعت العلة ووجب الحجر عليه.
وليس للمحجور عليه أن ينكح إلا بإذن وليه، فإن فعل فسخ النكاح، وإذا نذر المحجور عليه نذورا، أو حلف بأيمان فحنث فيها، ووجب عليه كفارات لأيمانه، لم تطلق يده فِي ماله، وصام عن كل يمين ثلاثة أيام، ويصوم عن ظهاره إذا ظاهر، وَلا يجوز عتق المحجور عليه وَلا بيعه وَلا شراؤه.
ولو اشترى أباه لم ينعقد شراؤه، فيعتق عليه وليس لوليه أن يمنعه من حجة الإسلام وعمرته، ويدفع المال إِلَى من ينفقه عليه فِي الطريق بالمعروف، وإذا كَانَ للمحجور عليه والدان وولد أنفق عليهم من ماله وكل مَا يصيبه المحجور عليه فِي إحرامه مما فِيهِ الفدية من قتل صيد أو لباس أو حلق شعر فعليه فِي ذَلِكَ الصوم.
وإذا اختلعت المحجور عَلَيْهَا من زوجها بمال فسمي طلاقا كَانَ طلاقا يملك فِيهِ الزوج الرجعة، وَلا يلزمها مَا اختلعت به منه، وإقرار المحجور عليه جائز عَلَى نفسه بالزنى، والسرقة، وشرب الخمر، والقذف، تقام عليه الحدود كلها بإقراره، وَلا أعلم فِي هذا اختلافا.
وإذا أقر لقوم بمال فِي حال الحجر أنه استهلكه عليهم لم يلزمه فِي حال الحجر وعليه تأديته إليهم إذا أطلق عَنْهُ الحجر، وإن كانت امرأة محجور عَلَيْهَا فنكحت أبطل نكاحها وليس لها أن تنكح إلا بإذن وليها.

(2/561)


كتاب التفليس
190 - نا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: نا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، أَنَّ أَبَا بَكْرِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ، يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ، يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَفْلَسَ فَوَجَدَ رَجُلٌ مَتَاعَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ»
وبخبر رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نقول وقد روينا ذَلِكَ عن: عمر، وعلي، فإذا أفلس الرجل فوجد البائع متاعه بعينه فهو أحق به من غيره للثابت عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلا يقول قائل إن المعنى فِي قوله: «فوجد رجل متاعه بعينه» .
إنما هو وديعة أو مَا أشبه ذَلِكَ لأن فِي حديث هشام بن يحيى، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «فوجد البائع سلعته بعينها فهو أحق بها» .
وإذا وجد البائع سلعته عند المفلس وقد قبض بعض الثمن، كأن كَانَ عبدا فقبض البائع نصف ثمنه ثم أفلس، ففي هذه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن يأخذ نصف العبد هذا مذهب الشَّافِعِيّ.
والقول الثاني: أن يرد الذي قبض إن شاء ويأخذ العبد هذا قول مالك.
والقول الثالث: أن يكون أسوة الغرماء هذا قول النعمان.
وإذا وجد بعض السلع عند المشتري وقد باع بعضها وهو مفلس أخذ البائع بقي وضرب مع الغرماء بحصة الذي باع.

(2/562)


وإذا ارتفع ثمن السلعة المشتراة وأفلس المشتري، فصاحبها أحق بها، وإن رغب المفلس أو الغرماء فِي إمساكها، وعرضوا الثمن عَلَى البائع كَانَ لهم ذَلِكَ.
وإن كانت المشتراة أمة فولدت أولادا عند المشتري ثم أفلس أخذ البائع الأمة دون الولد، وكان الولد للمشتري، فإن كانوا أطفالا بيعوا جميعا، وأخذ البائع حصة الإماء والغرماء حصة الأولاد لئلا يفرق بينهم، وإن كَانَ المشتري بياض أرض فبنى فيها المشتري ثم أفلس واختار البائع أخذ عين ماله بيع ذَلِكَ، واقتسموا الثمن لبائع الأرض من ذَلِكَ حصة أرضه وللغرماء حصة البناء.
وإذا حجر القاضي عَلَى المفلس لم يجز بيعه وَلا شراؤه وَلا هبته وَلا عتقه حَتَّى يقضي الدين الذي عليه، وإن أقر بعد الحجر بدين لقوم لزمه ذَلِكَ فيما بيده وضربوا فِي ماله جميعا بالحصص، وليس لَهُ بعد أن يحجر عليه القاضي أن يقضي بعض غرمائه دون بعض، وما فعل قبل ذَلِكَ لم يرد.
وإذا أفلس الصانع فأقر النساج منهم بأن هذا الغزل لفلان أو أقر الصائغ بأن هذه السبيكة لفلان فإقرارهم لازم لهم، ويجب دفع مَا أقروا به من ذَلِكَ إِلَى من أقروا لهم به.
وأكثر أهل العلم يرون حبس المفلس إِلَى أن يعلم أن لا شيء مَعَهُ، وليس يخلو القول عندي فِي ذَلِكَ من أحد ثلاثة وجوه: إما أن يكون موسرا مانعا لما عليه، وَلا يظهر لَهُ مال يوجد السبيل إِلَى قضاء مَا عليه، فإذا كَانَ ذَلِكَ وجب أن يعاقب بالحبس ليخرج مما عليه.
وقد روينا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أنه «أمر رجلا بلزوم رجل لَهُ عليه حق» ،

(2/563)


وهذا فِي معنى الحبس وَلا أعلم فِي الحبس خبرا يثبت من جهة النقل.

(2/564)


والوجه الثاني: أن يكون الذي عليه الدين معسرًا فلا سبيل إِلَى حبس المعسر، لأن اللَّه جل ذكره، قَالَ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ، ولأن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ للرجل الذي أصيب فِي ثمار: «خذوا مَا وجدتم وليس لكم إلا ذَلِكَ» .
والوجه الثالث: أن يكون أخذ أموال الناس وَلا تشهد لَهُ بينة بالعدم وَلا عليه باليسار، وَلا نعلم جائحة أذهبت ماله فحبس هذا يجب، لأن العلم قد أحاط بأخذه الأموال، وَلا يعلم خروجها من يده فيعذر بذلك، فحبس هذا يجب.
وَلا يغفل القاضي المسألة عَنْهُ، فإذا صح عنده إفلاسه أطلقه ثم لا يعده إِلَى الحبس حَتَّى يعلم أنه استفاد مالا فيفعل فِي أمره مَا ذكرته لك.
وكل مَا عزل من مال المفلس من الدنانير والدراهم والعروض وغير ذَلِكَ لأصحابه الذين فلسوه فتلفه من المفلس حَتَّى يقبضوه.
وإذا سأل الغرماء أن يؤاجر المفلس ويؤخذ كسبه بعد نفقته ونفقة عياله فيقتضون منه مالهم فذلك غير جائز، لأن اللَّه أنظر المعسر، قَالَ اللَّه تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] ، وديون المفلس والديون التي عليه إِلَى آجالها لا يحل منها شيء بإفلاسه.
وإذا أفلس الرجل فقسم ماله بين غرمائه ثم ادان دينا من غيرهم ثم فلس

(2/565)


ثانيا فلا فرق فِي ماله الذي وجد بيده بين الأولين والآخرين يقسم بينهم جميعا.
وإذا أحلف القاضي المفلس: أحلفه بالله الذي لا إله إلا هو مَا يملك، وَلا يجد لغرمائه قضاء بوجه من الوجوه فِي عرض وَلا نقد وَلا غير ذَلِكَ، وَلا يجوز أن يقول صاحب المال للذي عليه: أضع عنك وتعجل لي، روينا عن زيد بن ثابت، وابن عمر: أنهما كرها ذَلِكَ، وبه قَالَ مالك، والثوري، والكوفي.

(2/566)