الإقناع
لابن المنذر كتاب المرتد
قَالَ اللَّه جل ذكره: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ
وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}
[البقرة: 217] .
193 - نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا
سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، قَالَ: نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، قَالَ: نا
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ،
قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عُثْمَانَ وَهُوَ مَحْصُورٌ فِي الدَّارِ، وَكَانَ
فِي الدَّارِ مَدْخَلٌ كُنَّا إِذَا دَخَلْنَاهُ سَمِعْنَا كَلامَ مَنْ
عَلَى الْبَلاطِ، فَخَرَجَ إِلَيْنَا وَهُوَ مُتَغَيِّرٌ لَوْنُهُ،
فَقَالَ: إِنَّهُمْ لَيُوَاعِدُونِي بِالْقَتْلِ أَلْفًا.
فَقُلْنَا: يَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَقَالَ: بِمَ يَقْتُلُونِي؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: " لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلا
بِإِحْدَى ثَلاثٍ: رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إِسْلامِهِ، أَوْ زَنَى بَعْدَ
إِحْصَانِهِ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ «، فَوَاللَّهِ مَا
زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلا إِسْلامٍ، وَلا أَحْبَبْتُ أَنَّ لِي
بِدِينِي بَدَلا مِنْهُ بَعْدَ أَنْ هَدَانِي اللَّهُ، وَلا قَتَلْتُ
نَفْسًا، فَبِمَ يَقْتُلُونِي؟»
فإذا ارتد الرجل عن الإسلام أحببت أن يستتاب ثلاثا اتباعا لعمر، ولو قتله
إمام لم أر عليه شيئا، لأني لا أعلم خبرا ثابتا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يوجب
(2/580)
ذَلِكَ، بل قد ثبت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «من بدل دينه فاقتلوه» .
باب ذكر ارتداد الْمَرْأَة المسلمة
ثبت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ قولا
عاما: «من بدل دينه فاقتلوه» .
194 - نا مُحَمَّدُ بْنُ الصَّائِغُ الصَّنْعَانِيُّ، عَنْ عَبْدِ
الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ فَاقْتُلُوهُ وَلا تُعَذِّبُوا
بِعَذَابِ اللَّهِ» ، يَعْنِي: النَّارَ
دخل فِي قول رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من بدل
دينه فاقتلوه» الرجال والنساء ويلزم من خالف مَا قلناه خلاف الخبر من جهة
أخرى، وذلك أنه يقول: دخل الرجال والنساء فِي قوله: «أو زنى بعد إحصانه أو
قتل نفسا بغير نفس» .
فالمقرون إليهما يكون حكمه حكمهما عَلَى أن المناقضة لا تفارق من خالفنا،
لأنه خرج عن ظاهر الحديث وأوجب عَلَيْهَا إذا ارتدت حبسا من عند نفسه لا
حجة مَعَهُ به، وحكم العبد والأمة يرتدان حكم الحر المسلم لقول النَّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من بدل دينه فاقتلوه» .
(2/581)
باب ذكر المغلوب عَلَى عقله والسكران
يتكلمان بالكفر
أجمع كل من يحفظ قوله من العلماء عَلَى أن المجنون فِي حال جنونه إذا تكلم
بالكفر، أنه مسلم كما كَانَ قبل ذَلِكَ.
وقد اختلف فيمن تكلم بالكفر وهو سكران فألزمته طائفة الارتداد، وكان عثمان
بن عَفَّانَ، يقول: «لا طلاق للسكران وَلا للمعتوه» .
ومن حجة من لا يلزمه الارتداد: أن المكره عَلَى الكفر لما سقط حكم الكفر
عَنْهُ لارتفاع مراده، وجب كذلك أن يسقط حكم السلطان عَنْهُ لارتفاع مراده،
وفي قولهم: إن السكران إذا ارتد لم يستتب فِي سكره ولم يقتل دليل عَلَى أن
لا معنى لارتداده.
«وقد حرم رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدماء» ، وَلا
يجوز أن يهراق دم باختلاف، لا حجة مع موجبه، والعبد والحر والمكاتب والمدبر
فِي ذَلِكَ سواء كل من ارتد منهم وجب قتله إن لم يتب.
(2/582)
باب ذكر مَا يجب عَلَى من سب النَّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
195 - نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الصَّائِغُ، قَالَ: نا يَعْلَى،
قَالَ: نا الأَعْمَشُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، عَنْ أَبِي
الْبَخْتَرِيِّ، عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، قَالَ: " مَرَرْتُ بِأَبِي بَكْرٍ
وَهُوَ يَتَغَيَّظُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، قُلْتُ: يَا خَلِيفَةَ
رَسُولِ اللَّهِ، مَنْ هَذَا الَّذِي تَتَغَيَّظُ عَلَيْهِ؟ ، قَالَ:
وَلِمَ تَسْأَلُ؟ ، قُلْتُ: أَضْرِبُ عُنُقَهُ.
قَالَ: فَوَاللَّهِ لأَذْهَبَ عِظَمَ كَلِمَتِي غَضَبُهُ.
قَالَ: مَا كَانَتْ لأَحَدٍ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "،
(2/583)
وَمِنْ ذَلِكَ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ كَعْبِ بْنِ الأَشْرَفِ، لأَنَّهُ
آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وقد روينا عن ابن عمر، أنه قيل لَهُ: إن رجلا سب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: لو سمعته لقتلته، وأجمع عوام أهل العلم عَلَى
وجوب القتل عَلَى من سب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هذا
قول: مالك، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد، وإسحاق ومن تبعهم.
باب ذكر المكره عَلَى الكفر
قَالَ اللَّه جل ذكره: {إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ
بِالإِيمَانِ} [النحل: 106]
196 - نا الرَّبِيعُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: نا بِشْرُ بْنُ بَكْرٍ، عَنِ
الأَوْزَاعِيِّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِي عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ
وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» .
(2/584)
وَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِلا
أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً} [آل عمران: 28] ، وَعَذَرَ اللَّهُ
الْمُكْرَهَ وَطَرَحَ عَنْهُ الْحَرَجَ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَلْزَمَ
مِنْ تَكَلَّمَ بِالْكُفْرِ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ
الْكُفْرُ، بَلْ هُوَ عَلَى إِيمَانِهِ لا يَضُرُّهُ مَا تَكَلَّمَ بِهِ،
وَإِذَا كَانَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ الْمُطَّلِعُ عَلَى ضَمِيرِهِ
يَعْلَمُ صِدْقَ نِيَّتِهِ
باب ذكر استتابة الزنديق
قَالَ اللَّه جل ثناؤه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ
إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ
وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ {1} اتَّخَذُوا
أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 1-2] .
197 - نا مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ، قَالَ: نا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ
اللَّيْثِيِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ، عَنِ
الْمِقْدَادِ بْنِ الأَسْوَد، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي
اخْتَلَفْتُ أَنَا وَرَجُلٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ضَرْبَتَيْنِ، ضَرَبَنِي
بِالسَّيْفِ فَقَطَعَ
(2/585)
يَدِي، فَلَمَّا أَهْوَيْتُ إِلَيْهِ
لأَقْتُلَهُ، قَالَ: " لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، أَقْتُلُهُ أَمْ أَدَعُهُ؟
قَالَ: بَلْ دَعْهُ.
قَالَ: قُلْتُ: إِنَّهُ قَدْ قَطَعَ يَدِي.
قَالَ: فَرَاجَعْتُهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، فَقَالَ: «إِنْ قَتَلْتَهُ
بَعْدَ أَنْ تَقُولَهَا فَأَنْتَ مِثْلُهُ قَبْلَ أَنْ تَقُولَهَا، وَهُوَ
مِثْلُكَ قَبْلَ أَنْ يَقْطَعَ يَدَكَ»
فإظهار الزنديق التوبة يجب قبولها عَلَى ظاهر قوله: {اتَّخَذُوا
أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] ، إذ فِي ذَلِكَ دليل عَلَى أن
إظهار الإيمان جنة من القتل، وإنما كلفنا الظاهر، وقد أسر قوم من المنافقين
الكفر، وأظهروا بألسنتهم غير مَا فِي قلوبهم، فقبل رَسُول اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم مَا أظهروه، وهذا مذهب عبيد اللَّه بن
الْحَسَنِ، والشافعي.
باب ذكر مال المرتد المقتول عَلَى ردته
198 - نا سَعْدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبِي، قَالَ: أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ، عَنِ ابْنِ الْهَادِ،
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ
عُثْمَانَ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «لا يَرِثُ الْمُسْلِمُ
الْكَافِرَ وَلا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ»
فعلى ظاهر هذا الحديث لا يرث المرتد ورثته من المسلمين، وَلا يرثهم لأنه
كافر، ولكن الإمام يأمر بقبض ماله ويضعه فِي بيت مال الفيء ليفرقه فيما
يجب.
باب ذكر أحكام المرتد
أجمع كل من أحفظ عَنْهُ من أهل العلم عَلَى أن المرتد بارتداده لا يزول
(2/586)
ملكه عن ماله.
وأجمعوا عَلَى أنه برجوعه إِلَى الإسلام مردود عليه ماله، وليس يخلو فعله
فِي ماله بعد أن ارتد من أحد وجهين: أحدهما: أن يكون كل مَا فعل موقوفا لا
ينفذ منه شيء حَتَّى يرجع إِلَى الإسلام، فإذا رجع إِلَى الإسلام أنفذ
ذَلِكَ، ولزمه مَا فعل، وهذا مذهب الشَّافِعِيّ، أو يكون عتقه وهبته وبيعه
وشراؤه، وكل شيء صنعه من ماله جائز.
هذا قول النعمان، ولي فِيهِ نظر.
(2/587)
وإذا وجب عَلَى المرتد القتل فعدا عليه رجل
فقتله فلا شيء عليه من عقل وَلا قود، لأنه قتل كافرا مباح الدم غير أن
الإمام ينهاه حيث تولى شيئا ليس إليه، وإن عزره كَانَ لتعزيره وجه.
وإذا أصاب المسلم حدًا ثم ارتد ثم رجع إِلَى الإسلام أقيم عليه الحد، لأن
ذَلِكَ لزمه فِي حال إسلامه، وَلا يجوز أن يسقط مَا وجب عليه فِي حال
إسلامه لكفره، وإذا ارتد الرجل عن الإسلام وقعت الفرقة بينه وبين زوجته
مدخولا بها كانت أو غير مدخول بها.
وهذا عَلَى مذهب مالك، والثوري، والنعمان.
وَلا يجوز أكل ذبيحة المرتد، لأنه ليس بمسلم وَلا هو من أهل الكتاب.
وأجمع أهل العلم: عَلَى أن الكافر إذا شهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدا
عبده ورسوله وأن كل مَا جَاءَ به مُحَمَّد حق ويبرأ من كل دين خالف دين
الإسلام وهو بالغ صحيح العقل أنه مسلم، فإن رجع بعد ذَلِكَ فأظهر الكفر
كَانَ مرتدا يجب قتله إذا لم يتب.
واختلفوا فِيهِ: إن شهد أن لا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رَسُول اللَّهِ،
فَقَالَ أحمد بن حنبل: يجبر عَلَى الإسلام، وأنكر عَلَى من قَالَ: لا يجبر.
وكذلك قَالَ الشَّافِعِيّ: إن كَانَ القائل منهم من أهل الأوثان ومن لا دين
لَهُ يدعي أنه لا دين نبوة وَلا كتاب.
وقال أصحاب الرأي: إن كَانَ من اليهود والنصارى، فَقَالَ: أشهد أن لا إله
إلا اللَّه، وأن محمدا رَسُول اللَّهِ لم يكن بذلك مسلما حَتَّى يصلي مع
المسلمين فِي جماعة أو يؤذن لهم.
وقال الشَّافِعِيّ: إن كَانَ من اليهود والنصارى، من يقول: أشهد أن لا إله
إلا اللَّه وأن محمدا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ويقول: لم يبعث إلينا لم يكن مستكمل الإقرار بالإيمان، حَتَّى يقول: وإن
دين مُحَمَّد حق أو فرض، وأتبرأ مما خالف دين مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو دين الإسلام.
(2/588)
وإذا ارتد مرة بعد مرة استتيب ليس لذلك حد
يوقف عليه.
وأجمع أهل العلم: عَلَى أن الشاهدين يجب قبول شهادتهما عَلَى الارتداد،
ويقتل المرتد بشهادتهما إن لم يرجع إِلَى الإسلام، وكل مَا ثبت عَلَى
المرتد من دين أدي من ماله، وإذا كَانَ لَهُ ديون عَلَى الناس وجب قبض
ذَلِكَ وضمه إِلَى ماله، وما كَانَ عليه إِلَى أجل أو لَهُ دين إِلَى أجل
فهو إِلَى أجله كَانَ مما عليه أو لَهُ، وليس للمرتد أن ينكح امرأة مسلمة
وَلا كتابية.
(2/589)
كتاب العتق
قَالَ اللَّه جل ذكره: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ {11} وَمَا أَدْرَاكَ
مَا الْعَقَبَةُ {12} فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 11-13] ، وثبت أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «من أعتق رقبة أعتق
اللَّه بكل عضو منها عضوا منه من النار» .
199 - نا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: نا الْحُمَيْدِيُّ، قَالَ:
نا سُفْيَانُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا شَيْخٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، يُقَالُ
لَهُ: شُعْبَةُ وَكَانَ ثِقَةً، قَالَ: كُنْتُ مَعَ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ
أَبِي مُوسَى فِي دَارِهِ عَلَى سَطْحِهِ فَدَعَا بَنِيهِ، فَقَالَ: وَا
بَنِيَّ تَعَالَوْا حَتَّى أُحَدِّثَكُمْ حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ أَبِي،
يُحَدِّثُهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
سَمِعْتُ أَبِي، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «مَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً أَعْتَقَ اللَّهُ
بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عُضْوًا مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وفي حديث كعب بن مرة البهزي، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، أنه قَالَ: «أيما رجل مسلم أعتق رجلا مسلما كَانَ فكاكه من
النار يجزى بكل عظم من عظامه عظما من عظامه، وأيما رجل مسلم أعتق امرأتين
مسلمتين كانتا فكاكه من النار، يجزى بكل عظمين من عظامهما عظما من عظامه،
وأيما امرأة مسلمة أعتقت امرأة مسلمة كانت فكاكها من
(2/590)
النار، يجزى بكل عظم من عظامها عظما من
عظامها» .
وثبت عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه سئل أي الرقاب أفضل؟
قَالَ: «أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها» .
باب ذكر المعتق شركا لَهُ فِي عبد وهو موسر أو معسر
200 - نا الرَّبِيعُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا
لَهُ فِي عَبْدٍ، فَكَانَ لَهُ مَالٌ يَبْلُغُ ثَمَنَ الْعَبْدِ قُوِّمَ
عَلَيْهِ قِيمَتَهُ فَأُعْطِيَ شُرَكَاؤُهُ حِصَصَهُمْ وَعَتَقَ عَلَيْهِ
الْعَبْدُ، وَإِلا فَقَدْ عَتَقَ مِنْهُ مَا عَتَقَ»
إذا أعتق الرجل شركا لَهُ فِي عبد وكان موسرا حين أعتقه عتق العبد كله،
وصار حرا وغرم لشريكه قيمة نصيبه فِي ماله والولاء كله لَهُ، وإن لم يكن
لَهُ مال عتق نصيبه وَلا يعتق منه غير ذَلِكَ.
وليس عَلَى العبد المعتق سعاية، لأن هماما ذكر أن الاستسعاء من فتيا قتادة
فألحق بعضهم الزيادة التي زادها قتادة فِي الحديث،
(2/591)
فأوهم بعضهم أن ذَلِكَ من كلام رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وليس كذلك وإذا أعتق الرجل
شركا لَهُ فِي عبد وهو موسر وقت أعتق، ثم أفلس مكانه فعليه قيمة حصة شريكه،
لأنهم لما قالوا: إن المعتق بعد دفع القيمة لا يحتاج إِلَى تجديد قول ثان،
فإن العتق إنما وقع عَلَى الحصة التي للشريك بالقول الأول، والقيم إنما
تكون للأشياء المتلفة،
(2/592)
ولو منعوا الذي لم يعتق من بيع حصته بعد
عتق شريكه، ولم يمنعوه، قيل: يعتق شريكه من البيع كَانَ ذَلِكَ عَلَى الفرق
بين الحالين، وإنهم إنما منعوه من بيع مَا وقع عليه العتق.
باب ذكر الرجل يعتق بعض عبده أو عضوا من أعضاء
عبده
أجمع أهل العلم عَلَى أن الرجل إذا أعتق عبدا لَهُ فِي صحته وهو موسر أن
عتقه ماض عليه.
وإذا أعتق الرجل بعض عبده وهو صحيح عتق العبد كله استدلالا بأن النَّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما ألزم الشريك المعتق حصة شريكه الذي
لم يملكه قبل العتق إذ كَانَ موسرا وأوقع العتق عَلَى جميع العبد، وجب إذا
كَانَ العبد للمعتق بكماله فأعتق شقصا منه بأن جميعه يعتق عليه من حيث دلت
السنة عَلَى وجوب عتق مَا لا يملك من العبد عليه، لأنه أعتق مَا يملكه منه.
وإذا قَالَ الرجل لعبده: أصبعك حر.
ففي قول قتادة، والليث بن سعد، وأحمد، وإسحاق يعتق العبد كله وهذا قياس قول
الشَّافِعِيّ، وفي قول أصحاب الرأي لا يعتق.
باب ذكر ملك الرجل ولده أو والده أو ذوي أرحامه
أجمع أهل العلم عَلَى أن الرجل إذا ملك والده أو ولده أنه يعتق عليه ساعة
(2/593)
يملكهم، وأجمعوا: عَلَى أن من ملك من كل من
ذكرنا جزءا أن الجزء يعتق عليه.
وإذا ملك شقصا ممن يعتق عليه بشراء أو هبة، ففيهما قولان: أحدهما: أن يعتق
عليه مَا ملك ويعتق عليه الباقي، وهذا قول: مالك، والشافعي، ويعقوب.
والقول الثاني: أن لا يعتق عليه إلا مَا اشترى أو وهب لَهُ وَلا يعتق عليه
الباقي، هذا قول أبي ثور، لأن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ضمن المعتق قيمة حصص أصحابه، لأنه أحدث العتق والمشتري لم يحدث عتقا إنما
أعتق عليه، ويعتق عليه أبواه وأجداده لأبيه وأمه، وجداته لأبيه وأمه وولده
وولد ولده، وهذا قول: مالك، والشافعي، والكوفي، وعوام العلماء.
وَلا يعتق عليه سائر ذوي أرحامه، وإنما أعتقنا عليه من ذكرنا لإجماع أهل
العلم عليه.
ووقفنا عن عتق من يملكه المرء من ذوي أرحامه لأني لا أعلم حجة توجب عتقهم.
باب ذكر مال العبد المعتق والاستثناء من العتق
201 - نا أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الرَّازِيُّ، قَالَ: نا
أَبُو صَالِحٍ، قَالَ:
(2/594)
حَدَّثَنِي اللَّيْثُ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ بُكَيْرٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ،
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ:
«مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا فَمَالُهُ لَهُ إِلا أَنْ يَشْتَرِطَ السَّيِّدُ
مَالَهُ فَيَكُونُ لَهُ»
قَالَ أبو بكر: وقد روينا هذا القول عن ابن عمر، وعائشة، وبه قَالَ الحسن
البصري، وعطاء بن أبي رباح، والزُّهْرِيّ، والشعبي، والنخعي، ومالك،
(2/595)
وأهل المدينة وبه أقول لحديث ابن عمر.
أجمع أهل العلم عَلَى أن من قَالَ لعبده: أنت حر، أو قد أعتقتك، أو أنت
معتق، أو عتيق ينوي به عتقه أن عبده يعتق عليه، وَلا سبيل لَهُ إليه، وإذا
قَالَ لعبده: أنت حر.
إن شاء اللَّه لم يقع عليه العتق فِي قول عطاء بن أبي رباح، وطاوس، وحماد
بن أبي سُلَيْمَان، والشافعي، ويعتق فِي قول الحسن البصري، والأوزاعي،
ومالك.
القول الأول أحب إلي.
وأجمع كل من يحفظ عَنْهُ من أهل العلم عَلَى أن الرجل إذا أعتق مَا فِي بطن
أمته فولدت ولدا حيا مكانها، أن الولد حر دون الأم، وممن حفظنا هذا عَنْهُ
مالك، والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وَلا يحفظ عن غيرهم خلاف
قولهم، ولم يجعلوه فِي هذا الوجه كعضو من أعضائها، وإذا أعتق الرجل الأمة،
واستثنى
(2/596)
مَا فِي بطنها فله ثنياه كذلك.
قَالَ ابن عمر: وَلا نعلم أحدا من أصحاب النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خالفه، وبه قَالَ: عطاء، ومحمد بن سيرين، والشعبي، والنخعي،
والحكم، وحماد، وأحمد، وإسحاق، وبه نقول.
وإذا باع الأمة دون ولدها وهي حامل فالبيع جائز، لأن البيع معلوم وَلا
يضرهما أن يجهلا مَا لم يقع عليه البيع.
مسائل
202 - نا يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: نا مُسَدَّدٌ، قَالَ: نا عَبْدُ
الْوَارِثِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُمْهَانَ،
(2/597)
عَنْ سَفِينَةَ، قَالَ: كُنْتُ مَمْلُوكًا
لأُمِّ سَلَمَةَ، فَقَالَتْ: " أَعْتَقْتُكَ، وَأَشْتَرِطُ عَلَيْكَ أَنْ
تَخْدُمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عِشْتَ.
فَقُلْتُ: لَوْ لَمْ تَشْتَرِطْ عَلَيَّ مَا فَارَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا عِشْتُ ".
فَأَعْتَقَتْنِي، وَاشْتَرَطَتْ ذَلِكَ عَلَيَّ.
وَمِمَّنْ رُوِّينَا عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ بِمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ،
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْحَسَنُ،
وَابْنُ سِيرِينَ، وَالنَّوَوِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَصْحَابُ
الرَّأْيِ، وَبِهِ نَقُولُ
وإذا قَالَ الرجل لأمته: أول ولد تلدينه فهو حر فولدت ولدين وقع العتق
عَلَى الأول
(2/598)
منهما وهذا عَلَى مذهب مالك، والشافعي،
والكوفي، وإن ولدت ولدين ولم يدر الأول منهما ففيها ثلاثة أقوال: أحدها:
يستسعيان، هذا قول الثَّوْرِيّ.
والقول الثاني: أن يقرع بينهما فمن أصابته منهما، القرعة عتق، هذا قول
أحمد، وإسحاق.
والقول الثالث: أن يوقف أمرهما حَتَّى يتبين الأول منهما هذا يشبه مذهب
الشَّافِعِيّ وبه أقول.
وإذا قَالَ الرجل لأمته: كل ولد تلدينه فهو حر فولدت أولادا فهم أحرار، هذا
قول مالك بن أنس، والأوزاعي، والليث بن سعد، وسفيان الثَّوْرِيّ، والشافعي،
وَلا أحفظ عن غيرهم خلاف قولهم.
فإن باع الأمة ثم ولدت بعد زوال ملكه عنها أولادا لم يعتقوا وهم مماليك،
لأنهم ولدوا بعد خروجها من ملكه.
وإذا قَالَ الرجل يعاتب عبده: مَا أنت إلا حر ولم يرد الحرية فلا شيء عليه،
وهذا قول: مالك، والأوزاعي، وبه قَالَ الأكثر من أهل العلم، والحجة فِيهِ
قول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الأعمال بالنية» .
وهذا لم يرد عتقا، كأنه قَالَ: أنت تشبه الأحرار فِي أفعالهم وتخلق
بأخلاقهم.
(2/599)
باب تقدم العتق قبل الملك وقول الرجل لعبده
إن بعتك فأنت حر وغير ذَلِكَ
إذا قَالَ الرجل: كل مملوك أملكه فهو حر فاشترى عبيدا بعد هذا القول فلا
شيء عليه، لا عتق إلا بعد الملك، ثبت هذا القول عن ابن عباس، وبه قَالَ:
سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح، والحسن البصري، وجابر بن زيد، وعروة بن
الزبير، وسوار القاضي، والشافعي، وأبو ثور.
الخبر والنظر يدلان عَلَى صحة هذا القول، فأما الخبر فحديث عبد الله بن
عمرو، وابن عباس، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه
قَالَ: «لا عتق فيما لا يملك وَلا بيع فيما لم يملك» .
ولما أجمع
(2/600)
أهل العلم عَلَى ثبوت ملك المشتري عَلَى
العبد الذي قَالَ القائل: إن اشتريته فهو حر.
واختلفوا فِي زوال ملكه عن هذا العبد لم يجز إزالة ملكه عن مَا ملك إلا
بإجماع مثله، وثبت ذَلِكَ عن ابن عباس، وَلا مخالف لَهُ من أصحاب رَسُول
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذلك لازم للمدني، والكوفي
عَلَى أصولهم.
وإذا قَالَ الرجل لعبده: إن بعتك فأنت حر عتق من مال البائع وهذا قول:
الحسن البصري، ومالك، والليث بن سعد، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة،
(2/601)
والشافعي، وأحمد بن حنبل.
لأن اسم البيع يلزم من باع عبده بيعا صحيحا فلما باع لزمته الحرية، لأنه قد
باع ولأنهما بالخيار مَا لم يتفرقا، وإذا وقعت الحرية انفسخ البيع.
وإذا دفع العبد مالا إِلَى من يشتريه من مولاه ويعتقه، فاشتراه الرجل من
مولاه وأعتقه نظر، فإن كَانَ اشتراه بعين المال فالشراء فاسد، وَلا يقع
عليه العتق والذي قبضه السيد إنما قبض ماله، فإن اشتراه بغير عين المال
فالشراء جائز، والعتق ماض ويدفع المشتري إِلَى السيد مَا قبض من العبد،
ويزن للعبد الثمن من ماله، وهذا عَلَى مذهب الشَّافِعِيّ وبه أقول.
وفي العبد الذي نصفه حر ونصفه مملوك قولان: إذا مات أحدهما أن ميراثه للذي
لَهُ النصف وهذا قول: الزُّهْرِيّ، ومالك، ومن الحجة لهما: أن أحكام العبيد
كانت لازمة لَهُ قبل أن تحدث فِيهِ الحرية، فلا تزول تلك الأحكام عَنْهُ
حَتَّى يجمعوا أو تدل سنة عَلَى زوال ذَلِكَ عَنْهُ.
والقول الثاني: أن مَا ترك بين المولى الذي أعتق والمتمسك برقه شطران، هذا
قول: عطاء بن أبي رباح، وعمرو بن دينار، وطاوس، وإياس بن معاوية، وأحمد بن
حنبل.
(2/602)
مسائل من كتاب العتق
وإذا شهد رجلان عَلَى رجل أنه أعتق عبده فردت شهادتهما ثم اشتراه أحدهما
عتق عليه، وهذا قول: مالك، والأوزاعي، والشافعي، وثبت أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: " رفع القلم عن ثلاثة:
عن الصبي حَتَّى يحتلم، وعن النائم حَتَّى يستيقظ، وعن المجنون، والمعتوه
حَتَّى يفيقا ".
فلا يجوز عتق الصبي وَلا عتق المجنون استدلالا بهذه السنة، وَلا أعلمهم
اختلفوا فِيهِ، وَلا يجوز عندي عتق السكران، لأن عثمان بن عَفَّانَ لما
أبطل طلاقه كَانَ عتقه كذلك، وَلا يجوز عتق المولى عليه.
وإذا قَالَ الرجل: كل مملوك لي حر وله عبيد وإماء ومكاتبون ومدبرون وقع
العتق عَلَى جميعهم، وهذا قول: أحمد بن حنبل، وأبي ثور، والمدني.
وقال من حفظنا عَنْهُ من أصحاب رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إن المكاتب عبد مَا بقي عليه، منهم من قَالَ: شيء.
ومنهم من قَالَ: درهم.
والقياس عَلَى الأكثر من
(2/603)
المعاني.
وأكثر أحكام المكاتب أحكام العبيد، وَلا يقولن قائل إنه لما لم يجز بيعه لم
يجز عتقه، فإنه يجيز عتق الآبق وَلا يجيز بيعه، ولو قَالَ لعبد لَهُ، ولعبد
آخر آبق، ولمكاتب لَهُ: أنتم أحرار.
عتقوا جميعا.
(2/604)
باب ذكر أولاد العرب
من الإماء
إذا تزوج العربي مملوكة، وهو يعلم أنما مملوكة فوطئها وأولدها ففي ذَلِكَ
قولان: أحدهما: أن يقوم عَلَى أَبِيهِ ويعتق وَلا يسترق هذا قول:
الثَّوْرِيّ، وإسحاق، وأبي ثور.
والقول الثاني: أنهم رقيق هذا قول: مالك، وأصحاب الرأي، وناس من أهل
الحديث.
ومن حجة من قَالَ هذا القول أخبار ثابتة عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أحدها: أنه سبى هوازن، وأنهم لما كلموه ترك
حقه وحق من أطاعه، وضمن لكل من لم تطب نفسه لكل رأس بشيء ذكره، وأن عمر بن
الْخَطَّابِ كَانَ مَعَهُ غلام من رقيق حنين، قَالَ: فاذهب فأنت حر.
ولم يكن رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليعتق أحرارا
(2/605)
وهؤلاء قوم من العرب قد جرى عليهم الرق
بالسبي.
ويدل عَلَى صحة هذا القول قول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي سبية كانت عند عائشة من بني تميم: «أعتقيها فإنها من ولد إِسْمَاعِيل»
.
وأمرها أن تعتق من بني العنبر فِي محرر كَانَ عَلَيْهَا وهذه أخبار ثابتة
لما أجمع أهل العلم عَلَى التسوية بين العرب والعجم فِي الدماء، لما قَالَ:
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «المؤمنون تتكافأ
دماؤهم» .
فإذا اختلفوا فيما دون الدماء فحكمه حكم الدماء الذي دلت السنة والإجماع
عليه.
203 - نا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، قَالَ: نا عَفَّانُ، قَالَ: نا
حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ
ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ قَالَ بِالْجِعْرَانَةِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
إِنِّي نَذَرْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنْ أَعْتَكِفَ عِنْدَ الْبَيْتِ.
قَالَ: «فَاذْهَبْ فَاعْتَكِفْ عِنْدَ الْبَيْتِ» .
فَسَمِعَ نَاسًا، يَقُولُونَ: «أَعْتَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَقِيقَ حُنَيْنٍ» ، وَمَعَهُ غُلامٌ مِنْ رَقِيقِ
حُنَيْنٍ، فَقَالَ: فَاذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ
(2/606)
مسائل من كتاب العتق
وإذا قَالَ الرجل: أنت حر إن فعلت كذا ثم باع العبد بيعا صحيحا ثم فعل
ذَلِكَ الفعل لم يعتق العبد، لأنه حنث وهو خارج عن ملكه، وهذا مذهب
الشَّافِعِيّ، والنعمان وبه أقول.
وإذا قَالَ لعبده: أنت حر إِلَى سنة أو قَالَ ذَلِكَ لجاريته فالعبد
والجارية عَلَى ملكه، وله أن يبيعهما قبل مضي السنة، وله أن يطأ الجارية،
وإذا باعهما بيعا صحيحا قبل مجيء الوقت، ثم جَاءَ الوقت لم يحنث، لأنهما
فِي ملك غيره، وإذا قَالَ الرجل لعبده: إن لم أضربك فأنت حر.
فأراد بيعه، وأن لا يضربه فله أن يبيعه ويهبه متى أحب، لأنه عَلَى يمينه
إذا لم يكن وقت لذلك وقتا، وإن مات السيد قبل أن يضربه عتق، فِي قول مالك،
والشافعي من ثلث ماله.
وأجمع أهل العلم: عَلَى أن مَا يحدثه المريض والمخوف عليه فِي مرضه الذي
يموت فِيهِ من هبة لأجنبي أو صدقة أو عتق أن ذَلِكَ فِي ثلث ماله، وأن مَا
جاوز ثلثه من ذَلِكَ مردود غير جائز إنفاذه.
ودل خبر عمران بن حصين، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي قصة
(2/607)
الرجل الذي أعتق ستة أعبد لَهُ عند موته،
فأعتق النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منهم اثنين وأرق أربعة
عَلَى مثل مَا أجمع عليه أهل العلم، وقال بظاهر خبر عمران بن حصين عمر
(2/608)
بن عبد العزيز، وأبان بن عثمان، ومالك،
والشافعي، وأحمد، وإسحاق.
وأجمع أهل العلم عَلَى أن الراهن ممنوع من بيع الرهن، وهبته والصدقة به
وإخراجه من يدي مرتهنه حَتَّى يبرأ من حق المرتهن.
واختلفوا فِي الراهن يعتق العبد المرهون بغير إذن المرتهن، فكان عثمان
البتي، وأبو ثور، يقولان: عتقه باطل لا يجوز، وبه نقول، وقال
(2/609)
الشَّافِعِيّ، وأحمد بن حنبل، وأصحاب
الرأي: إن كَانَ موسرا فعتقه جائز، وتؤخذ منه قيمته تكون رهنا مكانه، وإن
كَانَ معسرا فلا يجوز عتقه فِي قول: مالك، والشافعي.
ومن حجة من قَالَ بالقول الأول، أنهم لما أبطلوا بيع الراهن بغير إذن
المرتهن، لأنه إخراج لَهُ من الرهن كَانَ كذلك العتق لا يجوز، لأنه إخراج
لَهُ من الرهن، وإذا مثل الرجل بعبده لم يعتق عليه، لأني لا أعلم مع من
أوجب عتقه حجة.
(2/610)
وأجمع أهل العلم عَلَى أن الرجل إذا قَالَ
لعبده: أنت حر.
أو: قد أعتقتك.
أو: أنت معتق.
يريد به اللَّه أنه حر.
وإذا قَالَ السيد لعبده: لا سبيل لي عليك أو لا ملك لي عليك.
وقال: لم أرد عتقا فإنه يحلف وَلا يلزمه العتق، وإن أقر بالعتق لزمه العتق.
وإذا قَالَ الرجل لعبده: يَا بني، أو لأمته: يَا بنية فهو سواء وَلا يعتق
واحد منهما لأن هذا دعاء، وكلام لطيف، وقد روينا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أنه قَالَ لأنس: «يَا بني» .
(2/611)
وإذا قَالَ الرجل لغلام مجهول النسب: هذا
ابني ومثله يولد لمثله ثبت نسبه منه وهو حر، وإذا قَالَ الرجل وهو ابن
عشرين سنة لعبد لَهُ خمسون سنة: هذا ابني وصدقة العبد أو كذبه لم يلحق
نسبه، ولم يلزمه عتق، وهذا كذب منه.
وإذا قَالَ الرجل لعبده: لا سلطان لي عليك، وقال: لم أرد عتقا وإنما أردت
أنه غير مطيع لي فالقول قوله مع يمينه وَلا يلزمه العتق، وإذا قَالَ الرجل
لمملوكه: يَا سالم، فأجابه نافع، فَقَالَ: أنت حر.
وقال: عنيت سالما فإنهما يعتقان عليه، إذا ثبتت عليه بذلك بينة، وأما فيما
بينه وبين اللَّه فلا يعتق عليه إلا الذي أراد.
وإذا قَالَ الرجل لعبد لغيره: أنت حر من مالي ثم اشتراه فلا شيء عليه، وهو
مملوكه، وإذا أعتق الرجل عبد ولده الصغير لم يعتق لأنه لا يملكه.
وإذا قَالَ الرجل لعبده: أعتقتك أمس عَلَى ألف درهم وقبلته، وقال العبد:
أعتقتني عَلَى غير شيء حلف العبد وعتق بإقراره أنه حر وهذا عَلَى مذهب
الشَّافِعِيّ، والكوفي وبه نقول.
وإذا قَالَ لعبده: إذا أديت لي ألف درهم فأنت حر فمتى أدى إليه ألف درهم
فهو حر، وإذا قَالَ الرجل لعبده: أنت حر وعليك ألف درهم فهو حر وَلا شيء
عليه.
وإذا أعتق الرجل عن أَبِيهِ عبدا وهو حي يريد بر أَبِيهِ فهو حر، والولاء
للمعتق لقول النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الولاء لمن
أعتق» .
وإذا اشترى الرجل العبد بثوب بعينه ثم أعتق واستحق الثوب بطل البيع، وإذا
بطل البيع بطل العتق، لأنه أعتق مَا لم يملك، وإذا قَالَ الرجل لعبده: أنت
حر اليوم فهو حر أبدا، وقال ذَلِكَ مالك.
(2/612)
|