الإيضاح
في مناسك الحج والعمرة الباب الثالث
في دخول مكة (1) زادها الله تعالى شرفاً وتعظيماً وما يتعلق به
وفيه ثمانية فصول:
الفصل الأول
في آداب دخولها
وفيه مسائل إحدى عشرة:
الأولَى: يَنْبَغي لهُ بَعْدَ إحْرامهِ بالحَجِّ أو العمرة من الميقات أو
غيره أنْ يَتَوَجَّهَ إلى مكَّةَ ومنها يكونُ خُروجُهُ إلى عَرَفاتٍ فهذه
هي السُّنّة أمَّا ما يَفْعَلُهُ حَجيجُ العِرَاقِ في هذه الأَزمان من
عدولهم إلى عرفات قبل دُخُولِ مكة لضيق
__________
(1) مكة: بالميم والباء: اسْمَان للبلد، وقيل بالميم للحرم وبالباء للمسجد،
وقيل بالباء للبيت مع المطاف، وقيل بدونه، وبالميم للبلد، وهي كبقية الحرم
أفضل بقاع الأرض عندنا كجمهور العلماء رحمهم الله تعالى للأحاديث الصحيحة
الناصة على ذلك.
قال في التحفة: وما عارضها بعضه ضعيف، وبعضه موضوع، وما أحسن قول القائل في
مدح مكة:
أرضٌ بها البيتُ المحرمُ قبلةٌ ... للعالمين لها المساجد تعدل
حَرَمٌ حرام أرضها وصيُودها ... والصيد في كل البلاد محلل
وبها المشاعرُ والمناسك كلها ... وإلى فضيلتها البريّة ترحل =
(1/192)
وقتهم ففيه تَفْويت لسُنَن كثيرة منها هذه،
وَطَوَافُ القُدُومِ وَتَعْجِيلُ السَّعي (1) وزيارةُ البَيْت وكثرةُ
الصَّلاة بالمسجد الحرام وحُضُورُ خُطبة الإِمام في اليومِ السَابع بمكَّةَ
والمبيتُ بمنى لَيْلَةَ عَرَفَات والصَّلواتُ بها وحُضُورُ تلك المشاهد
وغيرُ ذلك ممَّا سنذكره إنْ شاء الله تعالى.
المسألة الثانية: إذا بَلَغَ الحَرَمَ فقد اسْتَحَبَّ بعض أَصحْابِنَا (2)
أَنْ تقُول: اللَهُمَّ هذا حَرَمُكَ وأمْنُكَ فحَرمني على النَّار وآمني من
عذَابِكَ يَوْمَ تَبْعَثُ عبادَكَ واجْعَلني من أوليائكَ وأهْل طاعتكَ
ويَسْتَحْضر (3)
__________
= وبها المقام وحوض زمزم مشرع ... والحجر والركن الذي لا يرحل
والمسجد العالي المحرم والصفا ... والمشعران لمن يطوف ويرمل
وبمكة الحسنات ضوعف أجرها ... وبها المسيء عنه الخطايا تغسل
قوله: (والصيد في كل البلاد محلل) أي ما عدا صيد حرم المدينة المنورة ووادي
وَج بالطائف فيهما في التحريم كحرمة مكة دون الضمان لأنهما ليسا محلاً
للنسكَ، ويصير مذبوحهما ميتة والدليل على تحريم حرم المدينة قوله - صلى
الله عليه وسلم -: "إن إبراهيم حَرَّم مكة وإني حَرمت المدينة ما بين
لابتيها، لا يقطع عضاها ولا يصاد صيدها" واللاّبتان الحرتان، وعضاها: أي
شجرها. والدليل على تحريم وادي وَج بالطائف قوله - صلى الله عليه وسلم -:
"ألا إن صيد وادي وَج وعضاه حرام محرم" رواه البيهقي وسمي المكان باسم (وج
بن عبد الحي) من العمالقة. وعند الحنابلة صيد وج وشجره مباح لأنهم ضعفوا
الخبر.
(1) أي بعد طواف القدوم فالتعجيل أفضل كقول المصنف لأنه - صلى الله عليه
وسلم - سعى بعد طواف القدوم.
(2) قال في الحاشية: هو كما قال فقد اعتمده المتأخرون وغيرهم، وروى ابن
جماعة نحوه عن أحمد قال: وزاد بعض السلف (ووفقني للعمل لطاعتك وامنن علي
بقضاء مناسكك، وتُب علي إنك أنت التواب الرحيم).
(3) أي للحديث الذي ذكر في الحاشية: (مَنْ دخل مكة فتواضع لله عز وجل وآثر
رضا الله تعالى على جميع أموره لم يخرج من الدنيا حتى يغفر له).
(1/193)
من الْخُشُوع (1) والخضوع في قلبهِ وجسده
ما أمكَنَهُ.
الثالثة: إذا بَلَغَ مكَّةَ اغْتَسَل بذي طَوى (2) بفَتْح الطَّاءِ
ويَجُوزُ ضمها وَكَسْرُها وهِيَ في أسْفلِ مَكَّةَ في صَوْب طَريق
العُمْرَة المُعْتَادة ومسْجد عَائشَةَ رضي الله عنها فَيَغْتَسِلُ فيه
بنية غُسْلِ دُخُولِ مكَّةَ هذا إنْ كان طريقه على ذي طوَى وإلاّ اغْتَسَلَ
في غيرها وهذا الغسْل مُسْتَحَب لكِلِّ أحد حتَّى الحائض (3) والنَّفساء
والصَّبى وقد سبق بَيانُهُ في باب الإِحْرَامَ.
الرابعة: السنةُ أنْ يدخُلَ مكَّةَ من ثنِيّة كداء (4) بفتحِ الكَاف
والمدِّ وهي
__________
(1) الخشوع: تسكين الجوارح. والخضوع: فراغ القلب من غير ما هو بصدده مع
استحضار عظمة الله، وجلاله، وربوبيته، وغير ذلك مما يناسبه.
(2) موضع معروف بمحلة جرول بمكة المكرمة به الآن مستشفى الولادة وأمامه بئر
تسمى بذي طوى، لكونها مطوية بالحجارة لم يكن ثمة غيرها فنسب المكان إليها،
وجرول اسم رجل سمي المكان باسمه والله أعلم.
(3) أي والحلال لأنه - صلى الله عليه وسلم - اغتسل لدخوله عام الفتح وهو
حلال.
(4) هي طريق "الحَجُون" بفتح الحاء وضم الجيم، كانت ثنية كداء الحجون صعبة
المرتقى كما في كتاب (مفيد الأنام) ناقلاً عن الفتح للحافظ ابن حجر
العسقلاني رحمهم الله فسهّلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي على ما ذكره
الأزرقي، ثم سُهل في عصرنا هذا منها سنة إحدى عشرة وثمانمائة موضع ثم
سُهلَت كلها في زمن سلطان مصر الملك المؤيد في حدود العشرين وثمانمائة، وكل
عقبة وطريق عال يسمى "ثنية". اهـ.
قلت: سُهلَتْ في زمن الشريف الحسين بن علي رحمه الله تعالى في حدود
الثلاثين وثلثمائة وألف ثم سُهّلت في زمن الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن
آل فيصل آل سعود رحمهم الله تعالى ثم سهلت تسهيلاً كاملاً بعده. اهـ
أقول: أي في زمن أبنائه الميامين سعود وفيصل وخالد وفهد بارك الله في هذه
الأسرة جميعهم، وأيدهم بنصره ووفقهم لما يحبه ويرضاه آمين.
قال في الحاشية: وحكمة الدخول منها -أي من ثنية كداء الحجون- الإشعار بقصده
=
(1/194)
بأعلَى مكَّة ينحدرُ منهَا إلى المقابر
وإذا خَرَجَ رَاجعاً إلى بلده خرجَ من ثنيةَ كُدى (1) بضم الكَافِ والقصْرِ
والتنوين وهي بأَسفَل مكَّة (2) بقرب جَبَلِ قيقَعان
__________
= محلاً عالي المقدار، والتفاؤل بأنه استولى على مطلوباته التي قصدها من
خيري الدنيا والآخرة.
(1) على وزن هُدى طريق محلة الباب موضع ريع الرسام بالميم وبالنون من لحن
العوام سمي بذلك لوجود موظف به في السابق يأخذ الرسم أي ما يفرضه الحاكم
على قوافل الحجاج، ومن لحن العوام أيضاً قولهم للموضع الذي بأسفل محلة
المسفلة فوز النكاسة بالنون والصحيح (المكاسة) بالميم سمي بذلك لوجود
موظفين به في السابق يأخذون (المكس) أي ما يفرضه الحاكم على البضائع وقطعان
المواشي الواردتين من جهة اليمن. وضبط بعض العلماء رحمهم الله تعالى الدخول
والخروج بقوله: افتح وادخل وضُم واخرج يعني أن كَدَاء بفتح الكاف والمد
للدخول وكُدى بضم الكاف مع القصر والتنوين للخروج. اهـ.
(2) أي من جهة محلة الباب، وجرول، لا من جهة مَحَلة المسْفَلة، ولذا قال
رحمه الله تعالى بقرب جبل قيقعان، وإلى صوب (أي جهة) ذي طوى، وجبل قيقعان:
هو الجبل الذي يقابل جبل أبي قبيس، وهما أخشبا مكة وتقع تحت جبل قيقعان جهة
المسجد الحرام محلة السليمانية والنقا والشامية ثم ينعطف جبل قيقعان إلى
الشمال الغربي فتقع تحته محلة الشبيكة والباب وأول محلة جرول، وفي هذا
الموضع يقع ذو طوى، وهو اسم للبقعة الواقعة بها بئر ذي طوى وهي البئر
الواقعة أمام مستشفى الولادة، والبئر معروفة مشهورة ترحب بمن يريد الاغتسال
منها، جعلت عليها حكومتنا السنية آلات رفع الماء للمغتسلين من حجاج وعُمار.
وفق الله حكومتنا السعودية لما يحبه ويرضاه آمين.
ثم تقع بعد ذي طوى محلة المغاربة، ومحلة العتيبية. ثم ينعطف جبل فيقعان إلى
الشمال الشرقي فيقع طريق كداء الحجون. فظهر من هذا أن جبل قيقعان واقع بين
كداء الحجون وكُدَى ريع الرسام بمحلة الباب، وسميت بالباب لحصول باب في هذا
الموضع سابقاً أزيل في القرن السابع الهجري، والآن سطح جبل قيقعان مقسم
ثلاثاً:
(القسم الأول): من الحجون إلى محلة الشامية ويسمى جبل دفان لوقوع مقابر
المعلاة تحت سفحه من هذه الجهة، ويسمى أيضاً جبل المدافع لحصول مدافع شهر
رمضان والعيدين بأعلاه. =
(1/195)
وإلى صَوْب ذي طَوَى وَذَكَرَ بعض
أصحَابنا: أنَّ الْخُروجَ إلى عَرَفَاتٍ يُسْتَحَبُّ أيضاً أن يكُونَ مِنْ
هذه السُّفْلى (1) والثَّنيةُ هي الطريقُ الضَّيقَة بَيْنَ جَبَلَيْنِ.
واعلم أنَّ المَذْهَب الصَّحيحَ المُخْتَار الَّذِي علَيْهِ المُحقّقُون
أنَّ الدُّخُول من الثَّنِيَّة الْعُلْيَا مُسْتَحَبٌ لكُل داخل سَوَاء
كانت في صَوْب طَريقهِ أو لم تكنْ في طَريقهِ فقد صَحّ أَنّ رسول الله -
صلى الله عليه وسلم - دَخَلَ منها ولم تكن صَوْبَ طَريقهِ وقد ذَهَبَ أبُو
بَكْر الصَّيْدَلاَنيّ وجَمَاعَة من أصْحَابنَا الْخُرَاسَانِيِّينَ إلى
أنَّهُ إنما يُسْتَحَبُّ الدُّخُولُ منها لمن كانت في طَريقهِ وأما مَنْ لم
تكن في طَريقه فَقَالُوا: لا يُسْتَحَبُّ له الْعُدُولُ إليها، قالوا:
وإنَّما دَخَلَهَا النَبي - صلى الله عليه وسلم - اتْفَاقَاً وهذا ضَعيفٌ
مَرْدُود والصَّوَابُ أَنهُ نُسُكٌ مُسْتَحَبٌ لكُلِّ أَحَد.
الخامسة: اخْتَلَفَ أصحَابُنَا في أنَّ الأَفْضَلَ أَنْ يَدْخُلَ ماشياً أو
رَاكباً والأَصَحُّ أَنَّ المشيَ أَفضَلُ وعلى هذا قيل الأولَى أَن يكونَ
حافياً (2) إذا لم يَخْش نَجَاسَة ولا يَلْحَقهُ مَشَقَّةٌ.
__________
= (الثاني): من محلة الشامية إلى محلة الشبيكة يسمى جبل الترك.
(الثالث): من محلة الشبيكة إلى آخره يسمى جبل هندي والله أعلم.
(1) قال في المجموع كما في الحاشية: إنه غريب بعيد قال فيها: قيل لأنه لم
يفارق مكة مفارقة انصراف بالكلية، بل انتقل إلى ما يتوقف عليه صحة نسكه وفي
هذا الانتقال تعظيم البيت، فلم ينتقل من علو إلى سفل الذي هو حكمة الخروج
من التثنية السفلى. اهـ مختصراً. أقول: هناك طريق ثالثة أخرى تسمى (كُدَي)
بالتصغير على وزن (سُمَي) طريق بأسفل مكة من جهة محلة المسفلة، وهي طريق
الذاهب منها إلى الليث والقنفذة وجيزان واليمن والله أعلم.
(2) هو ما جزم به في المجموع، بل قال الحليمي رحمه الله تعالى: يسن المشي
والحفاء من أول الحرم ويؤيده ما رواه ابن ماجه عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهم: (إن =
(1/196)
السادسة: لهُ دُخُولُ مَكَّةَ لَيلاً
وَنَهَاراً فقد دَخَلَهَا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نَهَاراً في
الحَجِّ ولَيْلاً في عمرة له (1) وأَيُّهُمَا أَفْضلُ؟ فيه وَجْهَان
أصَحُّهُما نهاراً (2) والثَّاني هُما سَواء في الفضيلَة.
السابعة: ينبغي أَنْ يَتَحَفظَ في دُخُوله من إيذاء النَّاس في الزَّحْمَة
وَيَتَلَطَّفُ بمَنْ يُزَاحمُهُ ويَلْحَظُ بقَلْبِهِ جَلاَلَة البقعَة التي
هو فيها والتي هُو مُتَوجه إليها ويُمَهّدُ عُذْرَ منْ زاحَمَهُ وَمَا
نُزِعت الرَحْمَةُ إلا من قَلْب شقي.
الثامنة: ينبغي لمن يأتي من غير الحرم أن لا يدخل مكة (3) إلا محرَّماً بحج
أو عمرة وهل يلزمه ذلك أم هو مستحب، فيه خلاف منتشر (4) يجمعه ثلاثة أقوال:
أصحها أنه مستحب (5)، والثاني: أنه واجب، والثالث: إن كان ممن يتكرر دخوله
كالحطابين والسقائين (5) والصيادين ونحوهم لم يجب وإن
__________
= الأنبياء كانوا يدخلون الحرم حفاة مشاة) بناء على شمول لفظة الأنبياء
لنبينا عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام. اهـ حاشية.
(1) هي عمرة الجعرانة وكانت عام حنين منصرفة منها سنة ثمان من الهجرة وهي
إحدى عمره - صلى الله عليه وسلم - (الثانية) عمرة الحديبية سنة ست من
الهجرة (الثالثة) عمرة القضية وكانت سنة سبع من الهجرة.
(2) والأفضل أن يكون أوله لما صح أنه - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة صبح
رابعة مضت من ذي الحجة يوم الأحد ولا كراهة في دخولها ليلاً لما مر أنه -
صلى الله عليه وسلم - دخلها في عمرة الجعرانة ليلاً ويستحب الخروج من مكة
ليلاً لما روي عن النخعي كانوا يستحبون دخولها نهاراً والخروج منها ليلاً.
(3) يعني الحرم.
(4) الخلاف في الداخل الذي قضى حجته وعمرته أو المكي العائد من سفره المريد
الدخول.
(5) أي ويكره تركه ويسن له دم فيما يظهر خروجاً من خلاف من أوجبه وهو =
(1/197)
كان ممن لا يتكرر دخوله كالتاجر والزائر
والرسول والمكي إذا رجع من سفره وجَبَ وإذا قُلْنَا يجبُ فلهُ شُروط ثلاثة:
أحدها: أنْ يكون حُرَّاً فإنْ كان عَبْداً (1) لم يجب بلا خِلاَف ولو أذِن
لَهُ سيدُه في الدُّخُول مُحْرِماً لم يَلْزَمْهُ.
والثاني: أَنْ يَجيء مِنْ خارجِ الْحَرم أمَّا أهلْ الحَرمِ فَلا إحْرَام
عليهم بلا خلافٍ (2).
الثالثُ: أنْ يكونَ آمناً في دُخُوله وأَنْ لا يدْخُلَ لقتَال فأَمَّا
دَاخلُها خَائفاً مِنْ ظَالِم أو غَريم يَحْبِسُهُ وهو مُعْسر أو نَحْوُهما
أو لا يُمْكنه الظُّهورُ لأداء النُّسُكِ أو دَخَلَهَا لقتال باغ أْو قَاطع
طَرِيقٍ فَلاَ يلْزمُهُ الإِحْرَامُ بلا خلاَف (3) وإذا قُلْنَا يجبُ
الدُّخُولُ مُحْرماً فَدَخَلَ غيرَ محرم عَصَى وَلاَ قَضَاء عليه (4)
لَفَواته كما لا تُقْضَى تَحيَّةُ المسجد إذا جَلَسَ قَبْلَ أَنْ يُصَليهَا
ولا فِدْيةَ عليه.
__________
= مذهب الشافعية سواء قربت داره أم بعدت. وقال الإِمامان مالك وأحمد:
يلزمه. وقال الإمام أبو حنيفة: إن كانت داره في الميقات أو أقرب إلى مكة
جاز دخوله بلا إحرام وإلا فلا. واحتجوا بقول ابن عباس رضي الله عنهما: (لا
يدخل أحدكم مكة إلا محرماً) ورخص للحطابين. واستدل الشافعية بحديث الحج كل
عام؟ قال: (لا بل حجة). اهـ مجموع.
(1) أي رقيقاً كله أو بعضه.
(2) أي إذ لم ينتهكوا حرمة الحرم.
(3) لما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (دخل
مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء بغير إحرام).
(4) قال في الحاشية: قالوا: وهذا من الشواذ لأن كل من ترك نسكاً واجباً
فعليه القضاء والكفارة إلا هذا. فإنْ قيل: يشكل عليه ما مَرّ فيما إذا جاوز
الميقات مريداً للنسك بلا إحرام فإنه يجب عليه العود ما لم يتلبس بنسك،
فلِمَ لا يقال بنظيره هنا. =
(1/198)
والأصح (1) أَن حكم دُخول الحرَم كحُكْم
دُخُول مكَّة فيما ذَكَرْناه لاشتراكهما في الحرمةِ.
التاسعة: يُسْتَحَبُّ إذا وقَع بصرهُ على البَيْت (2) أَنْ يَرْفَعَ
__________
= أجيب أخذاً من كلام المصنف: بأن الإحرام هنا تحية لدخول الحرم أو مكة
فإذا دخل بلا إحرام فات المعنى الذي شرع. فلم يجب تداركه بخلافه ثمة فإنه
ليس تحية لشيء، وإنما هو متعلق بإرادة النسك وعدمها. اهـ.
الدعاء عند دخول مكة
اللهم إن البلد بلدك والبيت بيتك، جئتك أطلب رحمتك وأؤم طاعتك متبعاً لأمرك
راضياً بقدرتك. أسألك مسألة المضطر إليك المشفق من عذابك أن تستقبلني
بعفوك، وأن تتجاوز عني برحمتك وأن تدخلني جنتك. الحمد لله الذي أقدمنيها
سالماً ومعافاً، والحمد لله رب العالمين كثيراً على تيسيره وحسن بلاغه.
اللهم أنت ربي وأنا عبدك، والبلد بلدك والحرم حرمك، والأمن أمنك جئت إليك
راغباً وعن الذنوب مقلعاً، ولفضلك راجياً، ولرحمتك طالباً ولفرائضك مؤدياً،
ولرضاك مبتغياً، ولعفوك سائلاً، فلا تردني خائباً، وأدخلني في رحمتك
الواسعة وأعذني من الشيطان الرجيم وجنده وشر أوليائه وحزبه، وصلى الله على
محمد وآله وصحبه وأتباعه آمين.
(1) كلام مستأنف وليس هو من تفريعات الضعيف، ومقابل الأصح: له أن يفرق بأن
مكة امتازت بأحكام، فلم يلزم إلحاق الحرم بها ها هنا أيضاً.
(2) أي سواء كان فوق رأس ردم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو الموضع
المرتفع الواقع بين الجودرية والمدعا المعروف الآن بمقرأة الفاتحة سمي بردم
عمر أنه وقع (سيل) عظيم في خلافته عام (17) هجرية (638) ميلادية سمي (سيل
أم نهشل بنت عبيدة بن العاص بن أمية بن عبد شمس) أخذ بها إلى أسفل مكة
وهلكت فيه، وأخذ السيل أيضاً بحجر مقام إبراهيم عليه السلام وذهب به إلى
أسفل مكة، فجاء عمر من المدينة وردّ الحجر (مقام إبراهيم) في موضعه الآن،
وأمر بفعل هذا الردم فجيء بالأحجار والصخار الكبار العظام، ووضعت في هذا
الموضع ليميل سيل جبل لَعْلَع، وهو الجبل الذي بسفحه المروة وعلى سطحه محلة
القراءة وشارع الفلق وأول محلة النقاء وكانت بقمة جبل لعلع هذا قلعة تسمى
(قلعة فلفل)، وهي الآن دائرة اللاسلكي ويوجد بمؤخر =
(1/199)
يَدَيْه (1) فقد جاء أَنهُ يُسْتَجَابُ
دُعَاء المُسْلم عند رُؤْية الكَعْبَة (2).
__________
= جبل لعلع جهة محلة النقا موضع يسمى (الرقمتين) كان كثيراً ما يقع في كلام
الشعراء (ما بين النقا والرقمتين) وهو كناية عن هضبتين بأعلى الجبل ذكر لي
الأستاذ محمد عيسى رواس ابن شيخي وشيخ مشايخي الشيخ عيسى رواس رحمه الله
تعالى أن موضع الرقمتين يَحُد دارهم من أعلى جبل لعلع كما يحدها من الواجهة
شارع الفلق. وجبل لعلع هو جزء من سفح جبل قيقعان كأنف له، كجبل الصفا لجبل
أبي قبيس، وليميل أيضاً سيل الجودرية إلى جهة الغزة فيتصل سيل لعلع وسيل
الجودرية بمجرى وادي إبراهيم ولا يدخلان المسجد الحرام فيجزي الله سيدنا
عمر بن الخطاب أمير المؤمنين رضي الله عنه عن الإِسلام وعن بيته خير الجزاء
آمين.
(1) قال البيهقي رحمه الله تعالى: هو الأشهر عند أهل العلم، وقال ابن القيم
رحمه الله تعالى: وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان عند رؤيته
(يعني رؤية البيت) يرفع يديه ويكبر. قال في المجموع: قد ذكرنا أن مذهبنا
استحبابه -يعني رفع اليدين عند رؤية الكعبة- وبه قال جمهور العلماء، حكاه
ابن المنذر عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم وسفيان الثوري وابن المبارك
وأحمد وإسحق قال: وبه أقول. وقال مالك: لا يرفع. وقد يحتج له بحديث المهاجر
المكي قال: سئل جابر بن عبد الله عن الرجل الذي يرى البيت يرفع يديه؟ فقال:
(ما كنت أرى أحداً يفعل هذا إلا اليهود. قد حججنا مع رسول الله - صلى الله
عليه وسلم - فلم يكن يفعله) رواه أبو داود والنسائي بإسناد حسن، ورواه
الترمذي عن المهاجر المكي أيضاً قال: (سئل جابر بن عبد الله: أيرفع الرجل
يدية إذا رأى البيت؟ فقال: حججنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فكنا
نفعله) هذا لفظ رواية الترمذي وإسناده حسن. قال أصحابنا: رواية المثبت
للرفع أولى لأن معه زيادة علم. اهـ.
وقال الإمام ابن قدامة في مغنيه: ولنا ما روى أبو بكر بن المنذر عن النبي -
صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن: افتتاح
الصلاة، واستقبال البيت، وعلى الصفا والمروة، وعلى الموقفين والجمرتين"
وهذا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وذاك من قول جابر وخبره عن ظنه
وفعله، وقد خالفه ابن عمر وابن عباس، ولأن الدعاء مستحب عند رؤية البيت،
وقد أمر برفع اليدين عند الدعاء. اهـ.
(2) الحديث رواه ابن ماجه رحمه الله تعالى وهو أنه - صلى الله عليه وسلم -
قال: "تفتح أبواب السماء وتستجاب دعوة المسلم عند رؤية الكعبة".
(1/200)
ويقُول اللَّهُمَّ زد هذا البَيْتَ
تَشريفاً وتَعظيماً وتكْريماً ومَهَابةَ وزد مِنْ شرّفه وعَظمه مِمَّن
حَجَّهُ واعْتَمَره تَشْرِيفاً وَتكريماً وتَعْظيماً وبرَّاً ويُضيفُ إليه:
اللَّهُمَّ أنت السَّلامُ (1) ومنكَ السَّلاَم (2) فَحينَا رَبنَا
بالسَّلاَم (3) ويَدْعُو بِمَا أحب مِنْ مُهمات الآخرة والدُّنْيا
وأهَمُّهَا سُؤَال المغْفرةِ.
واعلم أَنَّ بِنَاء البَيْتِ زاده اللهُ شَرَفاً رفيع يُرى قَبْلَ دُخُولِ
المَسْجد في موضع يقَالُ له رَأسُ الرَّدْم (4) إذا دَخَلَ مِنْ أعلى
مَكَّةَ وهُنَاكَ يقفُ وَيَدْعو ويَنْبَغي أنْ يَتَجَنَّبَ في وُقوفِهِ
مَوْضعاً يَتَأذَّى به المَارونَ أو غيرهم.
واعلم أنهُ يَنْبَغي أَنْ يستَحضر عند رُؤية الكَعْبَة ما أمكنه من
الْخُشُوع والتذَلُل والخضُوع فهذه عادة الصالحينَ وعبادَةُ الله العارفين
لأنَّ رؤية البيت تذَكّر وتشوق إلى رَب البيت.
وقد حكي أن امْرَأة دخلت مكة فجعلت تَقُول: أينَ بَيتُ رَبي؟ فقيلَ: الآن
ترينه فلمَّا لاَحَ لها البيت قالُوا: هذا بيتُ ربك فاشتدتْ نحوه فأَلصقَتْ
جبينها بحائط البيت فما رفعت إلاَّ ميتة.
__________
(1) أي ذو السلامة مما لا يليق بك.
(2) أي السلامة من الآفات.
(3) أي الأمن مما اجتنبناه والعفو عما اقترفناه، ويزيد (وأدخلنا برحمتك دار
السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا كنا نحل عقدة ونشد أخرى
ونهبط وادياً، ونعلو آخر، حتى أتيناك غير محجوب أنت عنا، إليك خرجنا، وبيتك
حججنا، فارحم ملقى رحالنا بفناء بيتك، وصل اللهم على نبينا محمد وآله وصحبه
وأمته).
(4) أي ردم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد تقدم الكلام عليه وهو الموضع
المرتفع الواقع بين الجودرية والمدعى، ويسمى الآن مقرأة الفاتحة لأن حاملي
الجنازة حينما يمرون بها في هذا الموضع يقرؤون الفاتحة وقد ترك هذا.
(1/201)
وعن أبي بكْر الشِّبليِّ رَحمه اللهُ
تعَالَى أَنهُ غُشي عَلَيه عنْد رُؤْية الكَعْبة ثُمّ أفَاقَ فَأَنْشَدَ.
هَذه دارُهمْ وأنْتَ مُحبّ ... ما بقاءُ الدُّمُوعِ في الآمَاقِ
العاشرة: يُسْتَحَب أنْ لاَ يُعَرِّجَ أوَّلَ دُخُولهِ على استئجَار منْزل
أوْ حطِّ
قماش وتغْيير ثِيَاب ولاَ شَيْء آخر غَيْرَ الطَّوَاف (1) ويقِفُ بَعْضُ
الرُّفقة عنْد مَتَاعهمْ وروَاحِلِهِم حَتَّى يُطُوفُوا ثُمَّ يرجعوا إلَى
رَوَاحلهم وَمَتاعهمْ واستئجار الْمنزل.
بَلْ إذَا فَرَغَ مِنَ الدعَاء عنْدَ رَأس الرَّدْم قَصَدَ المَسْجِدَ
ودَخَلَهُ منْ بَابِ بَني شيبة (2) والدُّخُولُ مِنْ بَاب بني شَيْبةَ
مستحبٌّ لكُلِّ قَادم مِنْ أيِّ جهة كَانَ بلاَ خِلاَف وَلَوْ قَدمتْ
امْرَأةٌ جَميلةٌ أو شَريفَةٌ لا تَبْرزُ للرجَال استحبّ لَهَا أنْ تؤخِّرَ
الطَّوَافَ وَدُخُولَ الْمَسْجِد إلَى اللَّيْلِ.
ويقدِّمُ رِجْلَهُ اليُمْنَى (3) في الدُّخُولِ ويقول: أعُوذُ باللهِ
الْعَظيم وبِوَجْهِهِ
__________
(1) عن عروة بن الزبير رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حج
فأخبرتني عائشة رضي الله عنها أن أول شيء بدأ به النبي - صلى الله عليه
وسلم - حين قدم مكة أن توضأ ثم طاف بالبيت .. الحديث. اهـ. القرى لقاصد أم
القرى.
(2) هو المسمى الآن بباب السلام. ووجه اختصاصه بذلك كما في الحاشية مع
الاتباع أنه في جهة باب الكعبة ووجهها والحجر الأسود والمنبر والمقام. وهذه
الجهة هي أفضل جهات البيت كما قاله العز بن عبد السلام رحمه الله تعالى
أقول: لعله لاشتمالها على ما ذكر والله أعلم.
(3) أو بدلها، وكذا يقال في اليسرى، وكذا يقدم اليمنى عند دخول الكعبة
والحجر واليسرى خروجاً لأنهما أشرف من بقية المسجد.
(1/202)
الكَريمِ وسُلْطانِهِ القَدِيمِ مِنَ
الشَّيْطَان الرَّجيم بسْم الله والحمْدُ لله (1) اللَّهُمَّ صَلِّ على
محمدٍ وعلى آلِ محمّد وسلم اللَّهُم اغْفِرْ لي ذُنُوبي وافْتَحْ لي أبْواب
رَحْمَتِك وإذا خَرَجَ قَدَّمَ رِجْلَهُ الْيُسْرَى وقَالَ هذا إلا أنه
يقُولُ وافْتَحْ لي أبْوَابَ فَضْلِكَ وهذا الذكر والدُّعَاءُ مُسْتَحَب في
كل مَسْجد وقد وَرَدَتْ فيه أحَادِيثٌ في الصحيح وغيرِه يَتفقُ منها ما
ذَكَرْتُهُ وقد أَوْضَحْتُها في كِتَاب الأَذْكار الذي لاَ يَسْتَغْني
طَالب الآخرة عن مثلِه (2).
الحادية عشرة: إذا دَخَلَ المَسْجدَ يَنْبَغي أن لاَ يَشْتَغل بِصَلاَة
تَحِية المسجِد ولا غيرِها بلْ يقْصِدُ الحَجَرَ الأَسْوَدَ ويبْدأ بِطَواف
القُدُوم وهو تَحِيةُ المَسْجد الحَرَامِ (3).
والطَوَافُ مُسْتَحَب لكل داخلٍ مُحْرماً كان أو غير مُحْرِم إلاَّ إذا
دَخَلَ وقد
__________
(1) زاد غير المصنف بعد الحمد لله: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين
وبعد رحمتك: (وسهل لي أبواب رزقك).
(2) ولذا قيل فيه: (ربع الدار واشتر الأذكار) وقال بعضهم رحمه الله تعالى:
ورحم الله النواوي الإِمام ... لجمعه أذكار سيد الأنام
فطالعوه يا ذوي الدراية ... فإن فيه الخير والكفاية
أقول كما في الحاشية: وليس في كلام المصنف رحمه الله من الثناء على النفس،
أي حيث مدح كتابه الأذكار بقوله: لا يستغني طالب الآخرة عن مثله، بل هو من
باب التحدث بالنعمة المأمور به في قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ
رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)} [الضحى: 11]. ومن باب الدلالة على الفائدة في
محلها، ويجري ذلك في نظائره الواقعة في كلام المصنفين رحمهم الله تعالى.
(3) أي الكعبة، نعم تحصل تحية المسجد بركعتي الطواف إنْ لم يجلس عمداً بعد
الطواف وقبل ركعتيه، وإلاّ فاتت لأنها تفوت بالجلوس عمداً، وإن قَصُر،
بخلاف طواف القدوم فلا يفوت بالجلوس ولا بالتأخير وإنْ طالا، إلا إنْ أخره
حتى وقف بعرفة فيفوت به ما لم يدخل قبل نصف الليل، فإنْ دخل بعده طاف طواف
الإِفاضة لدخول وقته.
(1/203)
خافَ فَوْتَ الصَّلاَةِ المكْتُوبة أو
فَواتَ الْوِتْر أو سنةَ الْفَجْر أو غيرِها من السُّنَنِ الرَّاتِبة أو
فَوْتَ الجماعةِ في المكْتُوبةِ (1) إن كانَ وقْتُهَا واسعاً أو كان عليه
فَائتَةٌ مكْتُوبةٌ فإنَّهُ يُقَدِّمُ كل ذلك على الطَّوَاف (2) ثم يَطُوف
ولو دَخَلَ وقد مُنعَ النَّاسُ مِنَ الطَّوَافِ صلَّى تَحِيَّة المسْجِدِ.
واعلم أَنَّ في الحجْ ثَلاَثَةَ أطْوِفَة: القُدُوم وطَوَافَ الإِفَاضَة،
وطَوَافَ الْوَدَاعِ ويُشْرَعُ له طَوَافٌ رَابعٌ وهو المتطَوعُ به غير هذه
الثلاَثَةِ كما سيأتي إنْ شاء اللهُ تعالى أنه يُسْتَحَب الإِكْثَارُ من
الطَّواف. فأمَّا طَوَافُ القُدُوم فلهُ خمسةُ أسماء: القُدُومِ والقادِم
والوُرُودِ والوارد وطَوَافِ التحية. وأمّا طَوَافُ الإِفاضَةِ فَلَهُ
أيضاً خمسة أَسمَاء: طَوَافُ الإِفَاضَةِ وطَوافُ الزِّيَارَةِ وطَوَافُ
الْفَرْضِ وطوافُ الرُّكْنِ وطوافُ الصَّدَرِ بِفَتْح الصَّاد والدال.
وأمَّا طَوَافُ الْوَداع فيقال لهُ أيضاً: طوافُ الصَّدَرِ ومَحلّ طوَاف
الإِفاضة بعد الوقُوفِ ونصفِ ليلة النحر وطوافُ الْوداعِ عندَ إرادة
السَّفَرِ مِنْ مكَّةَ بعدَ قضاء جميع المنَاسك.
ثم اعلم أنَّ طَوافَ القُدُوم سُنَّة ليسَ بواجب فَلَو تَرَكَهُ لم
يَلْزَمْهُ شيء (3)
__________
(1) ومثل المكتوبة ما سنت الجماعة فيه من النفل كعيد ونحوه، وكخوف فوتها
قرب إقامتها بحيث لا يفرغ من الطواف قبل فراغها بل بعده ومعه وحينئذ يصلي
تحية المسجد إن كان يفرغ منها قبل الإقامة، وإلاّ بأن قربت جداً انتظرها
واقفاً.
(2) أي ولو كان وقت الصلاة المكتوبة والفائتة موسعاً، والفائتة المنذورة
كالمكتوبة.
(3) وبه قال أبو حنيفة وابن المنذر رحمهما الله، وقال أبو ثور: عليه دم.
وعن مالك رواية كمذهبنا، ورواية أنه إنْ كان مضايقاً للوقوف فلا دم في تركه
وإلا فعليه دم. اهـ مجموع.
أقول: ومذهب الحنابلة كالشافعية أي إن طواف القدوم سنة. قال العلامة ابن
قدامة رحمه الله في مغنيه: وطواف القدوم وهو سنة لا شيء على تاركه. اهـ.
(1/204)
وطَوَاف الإِفاضَةِ ركْن لا يَصحُّ الحج
إلاَّ به (1) ولاَ يُجْبَرُ بدَمٍ ولا غيرِهِ وطَوافُ الوداعِ واجب على
الأَصَح (2) وليسَ بركْنٍ وعلى قَوْلٍ هو سُنَّة كالْقُدُومِ وسيأتي
إيضَاحُ هذا كُله في موضعه إن شاء الله تعالى.
واعلم أن طوافَ الْقُدُوم إنَّمَا يُتَصَوَّر (3) في حَق مُفْرْدِ الْحج
وفي حق القارنِ إذا كانَا قَدْ أحْرمَا من غير مكَّةَ ودَخَلاَها قبلَ
الوقُوفِ فَأَمَّا المكيُّ فلا يُتَصَوَّرُ في حَقه طوافُ قُدُومِ إذ لا
قُدُوم لَهُ.
وأما مَنْ أحْرَمَ بالعُمْرَةِ فَلاَ يُتَصَوَّرُ في حقه طَوَافُ قُدُومٍ
بل إذا طَافَ عن الْعُمْرَةِ أَجزَأَهُ عنها وعَنْ طَوَافِ الْقُدُوم كما
تُجْزىءُ الفَريضةُ عن تَحية المسْجِدِ حتى لو طافَ المُعْتَمرُ بنيَّة
القُدُومِ وقَعَ عَنْ طَوَافِ العُمْرَة كما لو كانَ عليه حَجَّةُ
الإِسْلاَمِ وأحرمَ بتَطَوُّعٍ يقعُ عن حَجَّةِ الإِسْلاَمِ.
وأما مَنْ لم يَدْخُلْ مكَّة قبْلَ الْوُقُوفِ فليسَ في حَقِّه طَوَاف
القُدُوم بل الطَّوَافُ الذي يَفْعَلُهُ بعد الوقُوفِ هُوَ طوافُ الإِفاضةِ
فلو نَوَى به القُدُومَ وَقَعَ
__________
(1) قال ابن قدامة: طواف الزيارة وهو ركن لا يتم الحج إلا به بغير خلاف.
اهـ.
(2) قال المصنف في شرح مسلم رحمهما الله تعالى كما في أضواء البيان: الصحيح
في مذهبنا وجوب طواف الوداع وأنه إن تركه لزمه دم ثم قال: وبه قال أكثر
العلماء منهم الحسن البصري والحكم، وحماد والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحق
وأبو ثور رحمهم الله تعالى. وقال مالك وداود وابن المنذر رحمهم الله: هو
سنة لا شيء في تركه، وعن مجاهد روايتان كالمذهبين. اهـ منه. وقد نقل ابن
حجر كلامه هذا ثم تعقب عزوه سنيته لابن المنذر فقال: والذي رأيته في الأوسط
لابن المنذر أنه واجب للأمر به إلا أنه لا يجب بتركه شيء. اهـ.
(3) الحصر هنا بالنسبة للمحرم لأن طواف القدوم يتصور من حلال دخل مكة.
(1/205)
عن طَوَافِ الإِفَاضَةِ إنْ كانَ دَخَل وقْتُهُ (1) كما قُلْنَا في
المعتمرِ. |