الإيضاح
في مناسك الحج والعمرة الفصل الثاني
في كيفية الطواف
فَإذَا دَخَلَ الْمسجِد (2) فَلْيقْصد الْحَجَرَ الأَسْوَدَ وَهُوَ في
الرُّكْنِ الَّذِي يَلِي بابَ الْبَيْتِ مِنْ جَانبِ المَشْرِق وَيُسَمَّى
الرُّكْنَ الأَسْودَ وَيقالُ لهُ وللرُّكْنِ الْيَمَاني: الرُّكنَانِ
اليَمَانيَّان وارتفَاعُ الحَجَرِ الأَسْوَدِ مِنَ الأَرْضِ ثَلاَثةُ
أفْرُعٍ إلا سَبع أصَابعَ وَيُسْتحبُّ أنْ يَسْتَقْبِلَ الحجَرَ الأَسْود
بوَجْهِهِ وَيَدْنُو منهُ بشرْط أنْ لاَ يُؤذِيَ أحَداً بالمُزاحَمَةِ (3)
فَيَسْتَلمه (4) ثُمَّ يقبله منْ غَيْر صَوْتٍ يَظْهَرُ في القُبْلَةِ
ويَسجُد عَلَيه
__________
(1) يدخل وقت طواف الإِفاضة بعد نصف ليلة النَّحْر. وسيأتي الكلام عليه إن
شاء الله تعالى. والحنابلة كالشافعية وعند الإِمامين مالك وأبي حنيفة بعد
طلوع الفجر.
(2) الدعاء عند قرب الكعبة الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله: اللهم
إني عبدك والبلد بلدك والحرم حرمك والبيت بيتك، أسالك في مقامي هذا أن
تتقبل توبتي وتتجاوز عن خطيئتي وتضع عني وزري فإنك أرحم الراحمين.
(3) لما رواه الشافعي وأحمد وغيرهما رحمهم الله تعالى عن عبد الرحمن بن
الحارث قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعمر رضي الله عنه: (يا
أبا حفص إنك رجل قوي فلا تزاحم على الركن، فإنك تؤذي الضعيف ولكن إذا وجدت
خلوة فاستلمه وإلا فكبر وامض). وأَما فِعْلُ ابن عمر رضي الله عنهما أنه
كان لا يدع الركن الأسود واليماني في كل طواف طافه بهما حتى يستلمهما، ولقد
زاحم على الركن مرة في شدة الزحامِ حتى رعف فما تركه حتى استلمه فهو مذهبه،
ولا يتابع عليه لا سيما وقد خالفه النص وخالفه أيضاً والده رضي الله عنه
وخالفه كثير من الصحب الكرام رضوان الله عليهم، ولعله لم يبلغه النص
المتقدم والله أعلم.
(4) أي يمسحه بيمينه فإنْ عجز فبيساره، وليحذر المحرم من تقبيل الحجر
الأسود وهو مطيب، ويقوم مقام الحجر الأسود في كل ما ثبت له محله إذا نزع
منه والعياذ بالله وإن جعل في ركن آخر من البيت فيما يظهر من كلامهم لا
تنتقل الأحكام إليه كما في الحاشية.
(1/206)
ويكرّرُ التَّقْبيلَ والسُّجُودَ عَلَيْه
ثلاثاً (1) ثُم يبْتدىءُ الطَّوَافَ وَيقْطَعُ التَّلْبيةَ في الطوَافِ
كمَا سَبقَ وَيُسْتَحَبُّ أنْ يضطَبعَ مَعَ دُخُولهِ في الطَّوَافِ فإنْ
اضْطَبع قَبْلَهُ بقَليل فلاَ بأْس (2) وَالاضطبَاعُ أنْ يَجْعَلَ
الرَّجُلُ وَسَطَ ردَائه تحتَ منكبِهِ الأَيمنَ عندَ إبطه ويطرَحَ طَرَفيْه
عَلَى منكبِهِ الأَيْسَرِ ويكُونُ منكبُهُ الأيمنُ مكشوفاً والاضطبَاعُ
مَأْخُوذٌ مِنَ الضَّبع بإسكَانَ الْبَاءِ وهُوَ العضدُ وقيل وسط العضُدِ
وقيلَ مَا بيْن الإِبطِ ونصْفِ العَضُدِ.
وكيفيةُ الطَّوَافِ أَنْ يحَاذيَ بِجَميعِهِ (3) جميع الْحجَرِ الأَسْوَدِ
فَلاَ يصحُّ
__________
(1) روى البيهقي كما في (مفيد الأنام) أن ابن عباس رضي الله عنهما قبل
الركن اليماني ثم سجد عليه ثم قبله ثم سجد عليه ثم قبله ثم سجد عليه ثلاث
مرات، قلت: والمراد بالركن اليماني هنا الحجر الأسود، كما يفهم من كلام ابن
القيم رحمه الله تعالى: قال ابن القيم: وذكر البيهقي أيضاً عن ابن عباس رضي
الله عنهما قال: (رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد على الحجر ولم
يستلم - صلى الله عليه وسلم - ولم يمس من الأركان إلا اليمانيين فقط).
فالركن الأسود يستلم ويقبل ويسجد عليه واليماني يُستلم ولا يقبل ولا يسجد
عليه والآخران لا يُستلمان ولا يقبلان والاستلام هو المسح باليد فقد ثبت
عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قبل الحجر الأسود وسجد عليه، وثبت عنه أنه
استلمه بيده ثم قبلها، وثبت عنه أنه استلمه بمحجن (أي عصا معكوفة الرأس)
وقبله. اهـ.
(2) قال المصنف رحمه الله في مجموعه: قد ذكرنا أن مذهبنا استحباب الاضطباع.
وقال مالك: لا يشرع الاضطباع لزوال سببه، قال أصحابنا: هذا منتقض بالرمل
وبما قدمناه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. اهـ. أقول: قول المصنف: ما
قدمناه مراده به قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (فيم الرملان الآن والكشف
عن المناكب وقد وطَد الله الإسلام ونفى الكفر وأهله، ومع ذلك لا نترك شيئاً
كنا نصنعه مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) رواه البيهقي باسناد صحيح.
(3) أي بجميع الشق الأيسر أي بمجموعه وهو أعلاه المحاذي لصدره وهو المنكب
لأن المحاذاة لا تكون إلا به.
(1/207)
طوافه حتى يمر بجميع بدنِهِ على جميعِ
الْحَجَرِ وذَلكَ بأَنْ يَسْتَقْبلَ (1) الْبيتَ ويقف علَى جَانب الحجرِ
الذي إلى جهةِ الرُّكْن الْيماني بحيثُ يصيرُ جميع الحجر عنْ يَمينِهِ
ويصيرُ منكبُه الأَيْمَنُ عند طَرفِ الحَجَرِ ثُم يَنْوي الطَّوَافَ لله
تعالى ثُم يَمْشي مُسْتَقبلَ الحَجَرَ مَارَّاً إلى جهةِ يَمينِهِ حتى
يجاوز الْحَجَر فإذا جاوزه انفتل (2) وجَعَلَ يَسَارَهُ إلى البيت
ويَمينَهُ إلى خارج، ولو فعل هذا من الأول وترك استقبال الحجر جاز (3)، ثم
يمشي هكذَا تِلْقَاءَ وجهِهِ طائفاً حَوْلَ البيت أجْمَع فَيَمُرُّ على
المُلْتزَم (4) وهو ما بينَ الْحَجَر الأَسْودِ والْبَابِ سُمِّيَ بذلك
لأَنَّ النَّاس يَلْتَزمُونَهُ عنْدَ الدُّعَاءِ ثم يَمُرُّ إلى الرُّكْنِ
الثاني بَعْدَ الأَسْوَدِ
__________
(1) هذا الاستقبال غير الاستقبال الأول عند تلقاء الحجر الأسود فإنه مستحب
وسنة مستقلّة كما سيصرح به المصنف رحمه الله تعالى.
الدعاء عند مجاوزة الحجر الأسود
بسم الله، والله أكبر، اللهم إيماناً بك وتصديقاً بكتابك، ووفاء بعهدك،
واتباعاً لسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم -، لا إله الا الله وحده لا
شريك له، آمنت بالله وكفرت بالطاغوت وما يدعى من دون الله إن وليي الله
الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين.
(2) أي ولا بد من استحضار النية عند هذا الانفتال لأنه أول الطواف وما قبله
مقدمة له.
(3) أي وفاتته فضيلة الاستقبال كما سيصرح به المصنف إن شاء الله.
(4) الدعاء عند الملتزم: (اللهم إني أسالك ثواب الشاكرين ونزل المقربين،
ومرافقة النبيين ويقين الصادقين، وذلة المتقين، وإخبات الموقنين حتى
تتوفاني على ذلك يا أرحم الراحمين).
الدعاء قبالة باب الكعبة أي بدون وقوف عنده: (اللهم البيت بيتك والحرم حرمك
والأمن أمنك، وهذا مقام العائذ بك من النار اللهم بيتك عظيم ووجهك كريم
وأنت أرحم الراحمين، فأعذني من النار وشر الشيطان الرجيم، وحرم لحمي ودمي
على النار، وآمني من أهوال يوم القيامة، واكفني مؤنة الدنيا والآخرة).
(1/208)
وَيُسَمى الركْنَ العِراقي (1) ثم يَمُر
وراء الحِجْرِ بكَسر الحاء وسكون الجيم وهو في صوبِ الشَّامِ والمَغربِ
فَيمشي حولهُ حتى ينتهيَ إلى الرُّكنِ الثَّالثِ ويقالُ لهذا الرُّكْنِ
والَّذي قبلهُ الرُّكنان الشَّاميان ورُبَّما قيل الغَربيان ثُمَّ يدُورُ
حولَ الكَعبةِ حتى ينتهي إلى الرُّكْنِ الرَّابعِ المُسمى بالركْن اليمانِي
ثمَّ يمر منهُ إلى الحجرِ الأسودِ فيصلُ إلى الموضِعِ الذي بدأ منهُ
فيَكْمُلُ لهُ حينَئذ (2) طَوفةٌ واحدةٌ ثم يَطوفُ كذلك حتَّى يُكْمِلَ
سبعَ طوْفات وكلُّ مرة طوفَةٌ والسَّبع طوافٌ كاملٌ.
__________
(1) الدعاء عند الركن العراقي: (اللهم إني أعوذ بك من الشك والشرك، والنفاق
والشقاق وسوء الأخلاق وسوء المنظر في المال والأهل والولد).
(2) أي حين انتهائه لمبدئه.
الدعاء عند الانتهاء إلى تحت الميزاب
(اللهم) أظلني في ظلك يوم لا ظل إلا ظلك، واسقني بكأس نبيك محمد - صلى الله
عليه وسلم - شراباً هنيئاً لا أظمأ بعده أبداً يا ذا الجلال والإِكرام
(اللهم) إني أسالك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب.
الدعاء بين الركن الشامي والعراقي
(اللهم) اجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وعملاً مقبولاً وتجارة لن تبور،
رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم.
الدعاء عند الركن اليماني
بسم الله والله كبر، (اللهم) إني أعوذ بك من الكفر والفقر والذل، ومن عذاب
القبر ومن فتنة المحيا والممات ومواقف الخزي في الدنيا والآخرة.
الدعاء بين الركن اليماني وركن الحجر الأسود
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار (اللهم) قنعني
بما رزقتني وبارك لي فيه واخلف على كل غائبة منك بخير. =
(1/209)
وكَره (1) الشَّافعيُّ رحمه الله تعالى أن
يُسَمّى الطواف شَوْطاً ودَوْراً وقد رَوَى كَرَاهَتَه عن مُجاهِد رَحِمهُ
الله تعالى (2) وقد ثَبَتَ في صَحيحَي البُخَاريّ ومُسْلم رَحِمَهُمَا الله
تعالى عن ابن عَبَّاس رضي الله عنهما تَسْميةُ الطَوافِ شَوْطاً (3)
والظَّاهِرُ أنهُ لا كَرَاهيةَ فيه (4) والله أَعْلَمُ، وهذه صفَةُ
الطوَافِ الذي إذا اقْتُصِر عليهَا صَحّ طَوَافهُ، وَبقِيَتْ من صِفَتِهِ
المكَملَةِ أفْعَالٌ وأذْكَارٌ نَذْكُرُها إن شاء الله تعالى في سُنَنِ
الطواف.
__________
=الدعاء عند بلوغ الحجر الأسود
(اللهم) اغفر لي برحمتك أعوذ برب هذا الحجر من الدين والفقر وضيق الصدر
وعذاب القبر.
الدعاء في كل الطواف وبين الركنين آكد
لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير،
(اللهم) ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار،
(اللهم) قنعني بما رزقتني وبارك لي فيه واخلف على كل غائبة بخير وصل على
نبينا محمد وآله وصحبه وأمته.
(1) أي تنزيهاً وتبعه بعض الأصحاب رحمهم الله جميعاً ووجه الكراهة أن
الشوط: الهلاك، فهو ككراهية العقيقة من العقوق.
(2) حيث قال: وكره ما كرهه مجاهد لأن الله سماه طوافاً فقال تعالى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)} [الحج: 29].
(3) أي حيث قال ابن عباس رضي الله عنهما: (أمرهم رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - أن يرملوا ثلاثة أشواط).
(4) أي لعدم ورود النهي عنه. والظاهر أن الشافعي رحمه الله تعالى لم يرد
بالكراهية إلا أنه ينبغي التنزه عن التلفظ به لإشعار اللفظ بما لا ينبغي.
ويؤيده أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يحب الفأل الحسن ويكره ضده. والله
أعلم.
(1/210)
واعلم أنَّ الطَّوافَ (1) يَشْتَمِلُ على
شُرُوطٍ وواجِبَاتٍ لاَ يَصحُّ الطَّوافُ بدُونَها وعلى سُنَنٍ يَصح
بدُونِها أَمَّا الشُروطُ والْواجبَاتُ فثمانية (2) مُخْتَلَف في
بَعْضِهَا.
الواجب الأوَّلُ: سَتْرُ الْعَورَةِ (3) والطَّهَارَةُ عن الْحَدَثِ (4)
وعن النَّجَاسَةِ
__________
(1) أي بسائر أنواعه من قدوم ووداع ونذر وتطوع وتحلل.
(2) قد نظمها بعضهم رحمه الله تعالى فقال:
واجبات الطواف ستر وطهر ... جعله البيت يا فتى عن يسار
في مروره تلقاء وجه وبالأسود ... يبدأ محاذياً وهو ساري
مع سبع بمسجد ثم قصد ... لطواف في النسك ليس بجاري
فقد صرف لغيره ذي ثمان ... قد حكى نظمها نظام الدراري
(3) ستر العورة مع القدرة عند الشافعية والمالكية والحنابلة شرط في الطواف
لحديث: (لا يطوف بالبيت عريان) وهو في الصحيحين، فعورة الرجل والأمة ما بين
السرة والركبة، وعورة الحرة جميع بدنها إلا الوجه والكفين كما سيذكره
المصنف رحمه الله. أما العاجز عن الستر فيطوف عارياً، ولا تلزمه إعادة،
وقال أبو حنيفة: لا يشترط ستر العورة.
(4) أي بنوعيه الأصغر والأكبر، فإذا عجز عن الماء وتيمم تيمماً لا إعادة
معه كأنْ كان في محل لا يغلب فيه وجود الماء ولم يكن به نجاسة ولا جبيرة
بعضو تيمم مثلاً يطوف ولا إعادة عليه، أما فاقد الطهورين إن لم تكن به
نجاسة فلا يطوف أصلاً ففي التحفة، ولا يجوز طواف الركن، ولا غيره لفاقد
الطهورين بل الأوجه أنه يسقط عنه طواف الوداع. اهـ.
وفي فتاوى الجمال الرملي أنه ليس له الطواف فإن خرج ووصل إلى محل يتعذر
عليه الرجوع منه إلى مكة يتحلل بذبح وحلق ونية، وصار حلالاً بالنسبة
لمحظورات الإِحرام مُحْرماً بالنسبة لبقاء الطواف في ذمته فإذا عاد فعل
الطواف ولا يلزم أن يحرم بما أحرم به أولاً بل ظاهر كلامهم أنه محرم
بالنسبة له، وأنه لا يحتاج في فعله إلى إحرام. اهـ. فإن كان به نجاسة منجسة
لا يقدر على طهرها فكذلك عند الرملي رحمه الله. =
(1/211)
في الْبَدَنِ والثوْب والمكان الَّذي
يطؤُهُ في مَشْيِهِ فلو طافَ مكْشُوفَ جُزْء من عَوْرَتِه أو مُحْدثاً أو
عليهِ نَجَاسَةٌ غَيْرُ مَعْفُو عنها أو وطىءَ نَجَاسَة في مَشْيه عَامداً
أو نَاسياً لم يَصحَّ طَوافُهُ ومن طَافَتْ من النِّسَاءِ الحَرائِر
مكْشُوفَةَ الرِّجْلِ أو شيء منها أو طَافَتْ كَاشِفَةَ جُزْء من رَأسِهَا
لم يَصحَّ طَوافُهَا حتى لو ظَهَرَتْ شعرة من شَعْرِ رَأسِهَا أو ظُفْرِ
رجْلِهَا لم يصحَّ طَوافُهَا لأَنَ ذاك عَوْرَةٌ منها يُشْتَرطُ سَتْرُهُ
في الطَّوَافِ كما يُشْتَرَطُ في الصَّلاَةِ وإذا طَافَتْ هَكَذَا
ورَجَعَتْ فقد رَجَعَتْ بغيرِ حَج صحيح لها ولا عمرة.
__________
= وقال في الفتح: ولمحدث أي بلا نجاسة أو متنجس أي محدث عدم الماء طواف
وداع بالتيمم وكذا النفل للمحدث لا المتنجس فيما يظهر أخذاً من امتناع نفل
الصلاة عليه كما مَرّ ولهما على الأوجه طواف الركن بالتيمم لفقد ماء أو نحو
جرح، وإن لزم كلاً منهما الإِعادة أي كان كان الغالب بالمحل وجود الماء أو
كانت الجبيرة في أعضاء التيمم أو نحوه حيث لم يرج البُرء أو الماء قبل
رحيله لشدة المشقة في بقائه محرماً وتجب إعادته إذا عاد لمكة لبقائه في
ذمته وإنما أبيح له نحو الوطء للضرورة. اهـ.
وقال في التحفة: ولا يلزمه عند فعله تجرد ولا غيره فإن مات وجب الإِحجاج
عنه بشرطه. اهـ. وكذا في الحاشية، وقوله ولا غيره شمل النية وهو الأوجه من
احتمالين للعلامة ابن قاسم ونقله عن الجمال الرملي لأنه محرم بالنسبة
للطواف أفاده ابن الجمال، ونقل ابن الجمال عن ابن قاسم ونقله عن الجمال
الرملي أنه لا يجب المجيء فوراً ونحوه في الحاشية ثم قال ابن الجمال: ولعله
محله ما لم يخف نحو عضب وإلا وجب فوراً، وإذا أخر فمات فينبغي عصيانه من
آخر سني الإمكان، وإن لم أرَ في ذلك نقلاً، وخرج بقول التحفة: (فإن مات ..
) إلى آخره: ما إذا عُضب وعليه الطواف فتجوز الاستنابة فيه لعذره مع بقاء
أهليته وبه فارق الميت كما أفتى به الشهاب الرملي، ولو سعى بعدُ للركن بعد
هذا الطواف المفعول بالتيمم ثم رجع إلى مكة وجب إعادته بعد الطواف لأنه
إنما صح للضرورة تبعاً لصحة الطواف للضرورة. =
(1/212)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= وقال ابن الجمال على الإيضاح قضيته إن الكلام في الآفاقي وإن المكي تجب
عليه المصابرة لاحتمال وجود الماء احتمالاً قريباً إذْ لا مشقة عليه، ونظر
فيه تلميذه عبد الرؤوف بأن بقاء الإِحرام مشقة أي مشقة، قال: ولم لا يجوز
التيمَّم والطواف ثم إعادته بعد وجود الماء. اهـ. وهو ظاهر مقيس. اهـ.
ثم قال في الفتح: ولمن حاضت وعليها طواف الركن ولم يمكنها التخلف له أي
لنحو فقد نفقة أو خوف على نفسها كما في التحفة، وحمل في الحاشية قول
الأصحاب أن عدم النفقة لا يجوز التحلل له من غير شرط على التحلل قبل
الوقوف، أما بعده فيجوز التحلل بسببه وإن لم يشرطه. اهـ. أن ترحل ثم إذا
وصلت محلاً يتعذر عليها الرجوع منه لمكة تحللت كالمحصر، ويبقى الطواف في
ذمتها. اهـ. قال في التحفة: والأحوط لها أن تقلد من يرى براءة ذمتها بطواف
قبل رحيلها. قال في النهاية: تقلد أبا حنيفة وأحمد على إحدى الروايتين عنه
في أنها تهجم وتطوف وتلزمه بدنة وتأثم بدخولها المسجد. اهـ.
وقال في النهاية: والأقرب أنه -أي تحللها- على التراخي وأنها تحتاج عند
فعله إلى إحرام لخروجها من نسكها بالتحلل بخلاف من طاف بتيمم تجب معه
الإِعادة لعدم تحلله حقيقة. اهـ وسيأتي. وقال أيضاً: والقياس من المحل الذي
أحرمت منه أولاً ولا تعيد غيره. اهـ. قال الشبراملسي: قوله إلى إحرام أي
للإتيان بالطواف فقط دون ما فعلته كالوقوف. اهـ. فتحرم بالطواف فقط وتكشف
وجهها فيه، ولا تحرم بما أحرمت به أولاً قياساً على ما مر في فاقد
الطهورين، فقال ابن قاسم: الأوجه أنه لا بد من الإِحرام أي بما أحرمت به
أولاً لإتيان بتمام النسك لأن التحلل يقطع النسك ويخرج منه. اهـ. أي فتحرم
بفرضها ويكون ما في ذمتها زائداً فلا تحتاج لطواف به. وعبارة القليوبي:
وإذا أعادت الطواف نوت الإحرام بالنسك أو الإحرام بالطواف فقط على الخلاف
بين ابن قاسم وع ش.
وقال ابن حجر: لا تحتاج إلى إنشاء إحرام ثم قال الرملي: فإن كان متيمماً
تيمماً لا يسقط الإعادة، وخلا عن النجاسة فعل غير الركن وكذا الركن إن لم
يرج البرء أو الماء قبل رحيله لشدة المشقة في بقائه محرماً مع عودته إلى
وطنه وتجب إعادته بلا إحرام إذا تمكن بأن عاد إلى مكة أي ولو بعد مدة طويلة
لأنه وإن كان حلالاً بالنسبة لإباحة المحظورات له قبل العودة للضرورة إلا
أنه محرم بالنسبة إلى بقاء الطواف في ذمته، أي =
(1/213)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= فَيحُج عنه بعد موته إذا تمكن من العود ولم يعد، ووجد في تركته أجرة ذلك
قاله ع ش، وإذا طاف ولي الصبي أو المجنون به وجب طهرهما من الحدث والخبث
بأن يتطهر ويطهرهما بأن ينوي الولي عنهما ويغسلهما ولا يضر الشك بعد فراغ
الطواف في طهره. اهـ عمدة الأبرار.
(قوله: قال في النهاية: تقلد -يعني الحائض- أبا حنيفة وأحمد في إحدى
الروايتين عنه) يقول مقيده عبد الفتاح حسين راوه عفا الله عنه آمين: أي
لأنهما لا يشترطان الطهارة من الحدثين في الطواف كالوقوف بعرفة يصح بدون
طهارة من الحدثين، قال الشيخ عبد الله بن جاسر رحمه الله في مفيد الأنام:
وقال شيخ الإِسلام: وكذا المرأة الحائض إذا لم يمكنها طواف الفرض إلا
حائضاً بحيث لا يمكنها التأخر بمكة، ففي إحدى قولي العلماء الذين يوجبون
الطهارة على الطائف إذا طافت الحائض أو الجنب أو المحدث أو حامل النجاسة
مطلقاً أجزأه الطواف وعليه دم، إما شاة وإما بدنة مع الحيض والجنابة وشاة
مع الحدث الأصغر - إلى أن قال: فلا يجوز لحائض أن تطوف إلا طاهرة إذا
أمكنها باتفاق العلماء، ولو قدمت المرأة حائضاً لم تطف بالبيت لكن تقف
بعرفة وتفعل سائر المناسك مع الحيض إلا الطواف فإنها تنتظر حتى تطهر إنْ
أمكنها ذلك ثم تطوف. وإنْ اضطرت إلى الطواف فطافت أجزأها ذلك على الصحيح من
قولي العلماء.
وقال رحمه الله أيضاً: وأما الذي أعلم فيه نزاعاً أنه ليس لها أن تطوف مع
الحيض إذا كانت قادرة على الطواف مع الطهر فلا أعلم منازعاً أن ذلك يحرم
عليها وتأثم به.
وتنازعوا في إجزائه. فمذهب أبي حنيفة يجزئها ذلك وهو قول في مذهب أحمد إلى
أن قال: وأما القول بأن هذه العاجزة عن الطواف مع الطهر ترجع محرمة أو تكون
كالمحصر أو يسقط عها الحج أو يسقط عنها طواف الفرض، فهذه أقوال كلها مخالفة
لأصول الشرع، مع أني لم أعلم إماماً من الأئمة صرح بشيء منها في هذه
الصورة، وإنما كلام مَنْ قال: عليها دم أو ترجع محرمة أو غير ذلك من السلف
والأئمة كلام مطلق يتناول من كان يفعل ذلك في عهدهم، وكان في زمنهم يمكنها
أن تحتبس حتى تطهر وتطوف، وكانوا يأمرون الأمراء أن يحتبسوا حتى تطهر الحيض
ويطفن، ولهذا ألزم مالك وغيره المكاري لها أن يحتبس معها حتى تطهر وتطوف
انتهى ملخصاً من نحو عشر ورقات. =
(1/214)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= وقال أبو عبد الله محمد ابن القيم رحمه الله: المثال السادس: أن النبي -
صلى الله عليه وسلم - منع الحائض من الطواف بالبيت حتي تطهر. وقال لها:
(اصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت) فظن أن هذا حكم عام في جميع
الأحوال والأزمان، ولم يفرق بين حال القدرة والعجز ولا بين زمن إمكان
الاحتباس لها حتى تطهر وتطوف، وبين الزمن الذي لا يمكن فيه ذلك وتمسك بظاهر
النص ورأى منافاة الحيض للطواف كمنافاته للصلاة والصيام إذ نهى الحائض عن
الجميع سواء ومنافاة الحيض لعبادة الطواف كمنافاته لعبادة الصلاة، ونازعهم
في ذلك فريقان أحدهما صححوا الطواف مع الحيض ولم يجعلوا الحيض مانعاً من
صحته بل جعلوا الطهارة واجبة تجبر بالدم ويصح الطواف بدونها كما يقول أبو
حنيفة وأصحابه وأحمد في إحدى الروايتين عنه وهي أنصهما عنه وهؤلاء لم
يجعلوا ارتباط الطهارة بالطواف كارتباطها بالصلاة ارتباط الشرط بالمشروط بل
جعلوها واجباً من واجباته وارتباطها به كارتباط واجبات الحج به يصح فعله مع
الإخلال بها ويجبرها بالدم.
والفريق الثاني جعلوا وجوب الطهارة للطواف واشتراطها بمنزلة وجوب السترة
واشتراطها بل وبمنزلة سائر شروط الصلاة أو واجباتها التي تجب وتشترط مع
القدرة وتسقط مع العجز قالوا: وليس اشتراط الطهارة للطواف أو وجوبها له
بأعظم من اشتراطها للصلاة، فإذا سقطت بالعجز عنها فسقوطها في الطواف بالعجز
عنها أولى وأحرى، قالوا: وقد كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -
وخلفائه الراشدين يحتبس أمراء الحج للحيض حتى يطهرن ويطفن، ولهذا قال النبي
- صلى الله عليه وسلم - في شأن صفية وقد حاضت: "أحابستنا هي؟ " قالوا: إنها
قد أفاضت، قال: (فلتنفر إذا) وحينئذ كانت الطهارة مقدورة لها، أما في هذه
الأزمان التي يتعذر إقامة الركب لأجل الحيض فلا تخلو من ثمانية أقسام:
(أحدها): أن يقال لها: أقيمي بمكة وإنْ رَحَلَ الركب حتى تطهري وتطوفي، وفي
هذا من الفساد وتعريضها للمقام وحدها في بلد الغربة مع لحوق غاية الضرر لها
ما فيه.
(الثاني): أنْ يقال: يسقط طواف الإفاضة للعجز عن شرطه.
(الثالث): أنْ يقال: إذا علمت أو خشيت مجيء الحيض في وقته جاز لها تقديمه
في وقته.
(الرابع): أن يقال: إذا كانت تعلم بالعادة أن حيضها يأتي في أيام الحج
وأنها إذا حجت أصابها الحيض هناك سقط عنها فرضه حتى تصير آيسة وينقطع حيضها
بالكلية. =
(1/215)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= (الخامس): أن يقال: بل تحج وإذا حاضت ولم يمكنها الطواف ولا المقام رجعت
وهي على إحرامها تمتنع من النكاح ووطء الزوج حتى تعود إلى البيت وتطوف وهي
طاهرة، ولو كان بينها وبينه مسافة سنين ثم إذا أصابها الحيض في سنة العود
رجعت كما هي ولا تزال كذلك كل عام حتى يصادفها عام تطهر فيه.
(السادس): أن يقال: بل تتحلل إذا عجزت عن المقام حتى تطهر كما يتحلل المحصر
مع بقاء الحج في ذمتها ثم إذا أصابها ذلك أيضاً تحللت وهكذا أبداً حتى
يمكنها الطواف طاهرة.
(السابع): أن يقال: يجب عليها أن تستنيب من يحج عنها كالمعضوب وقد أجزأ
عنها الحج وإن انقطع حيضها بعد ذلك.
(الثامن): أن يقال: بل تفعل ما تقدر عليه من مناسك الحج ويسقط عنها ما تعجز
عنه من الشروط والواجبات كما يسقط عنها طواف الوداع بالنص وكما يسقط عنها
فرض السترة إذا شلحتها العبيد أو غيرهم، وكما يسقط عنها فرض طهارة الجنب
إذا عجزت عنها لفقد الماء أو مرض بها وكما يسقط عنها فرض اشتراط طهارة مكان
الطواف إذا عرض فيه نجاسة يتعذر إزالتها شرط استقبال القبلة في الصلاة إذا
عجز عنه وكما يسقط فرض القيام والقراءة والركوع والسجود إذا عجز عنه
المصلي، وكما يسقط فرض الصوم عن العاجز عنه إلى بدله وهو الإطعام ونظائر
ذلك من الواجبات والشروط التي تسقط بالعجز عنها إما إلى بدل أو مطلقاً فهذه
ثمانية أقسام لا مزيد عليها، ومن المعلوم أن الشريعة لا تأتي بسوى هذا
القسم الثامن ثم تكلم رحمه الله تعالى عن الأقسام السبعة المتقدمة، وأبطل
قول مَنْ قال بها أو إحداها ورده رداً شافياً لا مزيد على حسنه.
ثم قال: فإِذا بطلت هذه التقديرات تعين التقدير الثامن وهو أنْ يقال: تطوف
بالبيت والحال هذه وتكون هذه ضرورة مقتضية لدخول المسجد مع الحيض والطواف
معه، وليس في هذا ما يخالف قواعد الشريعة بل يوافقها كما تقدم إذْ غايته
سقوط الواجب أو الشرط بالعجز عنه ولا واجب في الشريعة مع عجز ولا حرام مع
ضرورة، فإنْ قيل: الطواف كالصلاة ولهذا تشترط له الطهارة من الحدث وقد أشار
إلى ذلك بقوله في الحديث: (الطواف بالبيت صلاة) والصلاة لا تشرع ولا تصح مع
الحيض فكذا شقيقها ومشبهها ولأنها عبادة متعلقة بالبيت فلا تصح مع الحيض
كالصلاة. =
(1/216)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= (فالجواب) أن القول: باشتراط طهارة الحدث للطواف لم يدُل عليه نص ولا
إجماع بل فيه النزاع قديماً وحديثاً، فأبو حنيفة وأصحابه لا يشترطون ذلك
وكذلك أحمد في إحدى الروايتين عنه وقد نص أحمد في إحدى الروايتين عنه على
أن الرجل إذا طاف جنباً ناسياً صح طوافه ولا دم عليه، وعنه رواية أخرى عليه
دم وثالثة أنه لا يجزئه الطواف إلى أن قال: وقد دَلت أحكام الشريعة على أن
الحائض أولى بالعذر من الجنب الذي طاف مع الجنابة ناسياً أو ذاكراً فإِذا
كان فيه النزاع المذكور فهي أحق بالجواز منه فإِن الجنب يمكنه الطهارة وهي
لا يمكنها فعذرها بالعجز والضرورة أولى من عذره بالنسيان، فإِن الناسي لما
أمر به من الطهارة والصلاة يؤمر بفعله إذا ذكره بخلاف العاجز عن الركن أو
الشرط فإِنه لا يؤمر بإِعادة العبادة معه إذا قدر عليه، فهذه إذا لم يمكنها
إلا الطواف على غير طهارة وجب عليها ما تقدر عليه وسقط عنها ما تعجز عنه
كما قال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]،
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما
استطعتم" وهذه لا تستطيع إلا هذا وقد اتقت الله ما استطاعت فليس عليها غير
ذلك النص، وقواعد الشريعة والمطلق يقيد بدون هذا بكثير إلى أن قال: فَإِن
قيل، لو كان طوافها مع الحيض ممكناً أمرت بطواف القدوم وطواف الوداع فلما
سقط عنها طواف القدوم والوداع علم أن طوافها مع الحيض غير ممكن.
(قيل): لا ريب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسقط طواف القدوم عن الحائض
وأمر عائشة لما قدمت وهي متمتعة فحاضت أنْ تدع أفعال العمرة وتحرم بالحج،
فَعُلِمَ أنّ الطواف مع الحيض محظور لحرمة المسجد أو الطواف أو لهما
والمحظورات لا تباح إلا في حال الضرورة ولا ضرورة بها إلى طواف القدوم لأنه
سنة بمنزلة تحية المسجد ولا إلى طواف الوداع فإِنه ليس من تمام الحج، ولهذا
لا يودع المقيم بمكة، وإنما يودع المسافر عنها فيكون آخر عهده بالبيت،
فهذان الطوافان أمر بهما القادر عليهما إما أمر إيجاب فيهما أو في أحدهما
أو استحباب كما هي أقوال وليس واحد منهما ركناً تقف صحة الحج عليه بخلاف
طواف الفرض فإِنها مضطرة إليه وهذا كما يباح لها دخول المسجد واللبث فيه
للضرورة ولا يباح لها الصلاة ولا الاعتكاف فيه، وإنْ كان منذوراً، إلى أن
قال:
وبالجملة فالكلام في هذه الحادثة في فصلين: (أحدهما): في اقتضاء قواعد
الشريعة لها لا لمنافاتها وقد تبين ذلك بما فيه كفاية. و (الثاني): في أن
كلام الأئمّة =
(1/217)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= وفتاويهم في الاشتراط والوجوب إنما هو في حال القدرة والسعة لا في حال
الضرورة والعجز، فالإِفتاء بها لا ينافي نص الشارع ولا قول الأئمة وغاية
المفتي بها أنه يقيد مطلق كلام الشارع بقواعد شريعته وأصولها، ومطلق كلام
الأئمة بقواعدهم وأصولهم وبالله تعالى التوفيق انتهى ملخصاً.
وقد سقت كلام الشيخين في هذه المسألة لأني لم أرَ مِنْ الأصحاب مَنْ استوفى
الكلام فيها سواهما، ومن كلامهما يتضح أنهما يريان صحة طواف الحائض طواف
الإِفاضة الذي هو ركن في الحج إذا اضطرت إلى طوافه بأن لم تتمكن من المقام
بمكة حتى تطهر لسفر رفقتها عنها وقولهما هذا وجيه وإنْ كان خلاف المذهب عند
متأخري الأصحاب.
قلت: وحكم النفساء حكم الحائض في صحة طوافها الإِفاضة الذي هو ركن في الحج
إذا اضطرت إلى طوافه بأن لم تتمكن من المقام بمكة حتى تطهر من نفاسها لسفر
رفقتها عنها والله أعلم. اهـ.
فائدة: تكميلاً وتتميماً لما سبق نثبت هنا رسالة في طواف الحائض للإمام
العلامة قاضي القضاة نجم الدين عبد الرحمن بن شمس الدين إبراهيبم البارزي
الجهني الشافعي رحمه الله وغفر له ولوالديه آمين.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا
محمد خاتم النبيين وآله وصحبه أجمعين، قال رحمه الله: مسألة تقع في الحج كل
عام ويبتلى بها كثير من العلماء والعوام وهي أن المرأة المحرمة تحيض قبل
طواف الركن وهو طواف الإفاضة ويرحل الركب قبل طوافها ولا يمكنها المقام وفي
سنة (سبع وسبعمائة) جرى ذلك لكثير من نساء الأعيان وغيرهم ومنهن من انقطع
دمها يوماً أو أكثر باستعمال دواء لذلك وظنت أن الدم لا يعود فاغتسلت وطافت
ثم عاد الدم في أيام العادة، ومنهن من انقطع دمها يوماً وكثر بلا دواء
فاغتسلت وطافت ثم عاد الدم في أيام العادة أيضاً، ومنهن من طافت قبل انقطاع
الدم والاغتسال، ومنهن من طافت مع الركب فهؤلاء أربعة أصناف فلما اشتد
الأمر بهن وخفن أن يرجعن بلا حج وقد أتين من البلاد البعيدة وقاسين الأهوال
الشديدة وخرجن عن الأوطان وفارقن الأحباب والأولاد والخلان وأنفقن الأموال،
كثر منهن السؤال، وقد قاربت عقولهن الزوال، هل من مخرج من هذا الحرج وهل
لهذه =
(1/218)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= الشدة من فرج؟ (فسألت الله) التوفيق والإِرشاد إلى ما فيه التيسير على
العباد من مذاهب الأئمة الذين جعل الله اختلافهم رحمة للأمة فظهر لي الجواب
والله أعلم بالصواب (أنه) يجوز تقليد كل واحد من الأئمة الأربعة رضي الله
تعالى عنهم، ويجوز لكل واحد أن يقلد واحداً منهم في مسألة ويقلد إماماً آخر
في مسألة أخرى ولا يتعين تقليد واحد بعينه في كل المسائل (إذا عرفت هذا)
فيصح كل حج واحد من الأصناف المذكور على قول لبعض الأئمة.
(أما الصنف الأول والثاني) فيصح طوافهن على مذهب الإِمام الشافعي رضي الله
عنه على أحد القولين فيما إذا انقطع دم الحيض يوماً أو يومين فإن يوم
النقاء طهر على هذا القول ويعرف بقول التلفيق وصححه من أصحاب الشافعي الشيخ
الإِمام أبو حامد والمحاملي في كتبه وسليم والشيخ منصور المقدسي والروياني
واختاره الشيخ الإِمام أبو إسحاق المروزي وقطع به الدارمي.
(وأما على مذهب الإِمام أبي حنيفة) رضي الله عنه فيصح طوافهن لأنه لا يشترط
عنده في الطواف طهارة الحدث والنجس ويصح عنده طواف الحائض والجنب مع
الحرمة.
(وأما على مذهب الإِمام مالك) رضي الله عنه فيصح طوافهن لأن مذهبه النقاء
في أيام التقطع طهر.
(وأما على المذهب الإِمام أحمد) رضي الله عنه فيصح طوافهن لأن مذهبه في
النقاء كمذهب مالك وفي اشتراط طهارة الحدث والخبث كمذهب أبي حنيفة رضي الله
عنه في إحدى الروايتين.
(وأما الصنف الثالث) فيصح طوافهن على مذهب الإِمام أبي حنيفة، وفي إحدى
الروايتين عن الإِمام أحمد لكن يلزمها ذبح بدنة وتأثم بدخولها المسجد وهي
حائض فيقال لها: لك الدخول وأنت حائض ولكن إن دخلت وطفت أثمت ويصح طوافك
وأجزأك عن الفرض.
(وأما الصنف الرابع) وهي التي سافرت من مكة قبل الطواف فقد نقل المصريون عن
الإِمام مالك رضي الله عنه أن من طاف طواف القدوم وسعي ورجع إلى بلده قبل
طواف الإفاضة جاهلاً أو ناسياً أجزأه عن طواف الإِفاضة ونقل البغداديون
خلافه، حكى الروايتين =
(1/219)
واعلم أن عورةَ الرجلِ والأمة (1) ما بين
السرةِ والركبةِ (2) وعورةَ الحرة جميعُ بدنِها إلاّ الوَجْهَ والكفين (3)
هذا هُوَ الأصحُّ ومما تعم به البلوَى في الطوافِ ملامسةُ النسَاءِ للزحمةِ
فينبغي (4) للرجل أن لا يزاحمَهنّ ولها أن لا تزاحِمَ الرّجال خوفاً من
انتقاضِ الطهارةِ فإنْ لمسَ أحدُهما بَشرةَ الآخرِ بِبَشرته انتقض طهُورُ
الملامِسِ.
__________
= عن الإِمام مالك القاضي أبو عبد الله محمد بن أحمد المالكي في كتاب
المنهاج في مناسك الحج وهو كتاب جليل مشهور عن المالكية ويتخرج على رواية
المصريين سقوط طواف الإِفاضة عن الحائض التي تعذر عليها الطواف والإفاضة
فان عذرها أظهر من عذر الجاهل والناسي فإن لم تعمل بهذه الرواية ولم يصح
التخريج المذكور وأرادت الخروج من محظورات الإِحرام فعلى قياس أصول الإِمام
الشافعي وغيره تصبر حتى تجاوز مكة بيوم أو يومين بحيث لا يمكنها الرجوع إلى
مكة خوفاً على نفسها ومالها فتصير حنيئذ كالمحصر لأنها تيقنت الإِحصار،
وتيقن الإِحصار لوجود الضرر في حصول الإكراه حتى لو أمره سلطان علم من
عادته أنه يعاقب إذا خولف بالطلاق فطلق لم يقع الطلاق عليه، إذا تقرر هذا
وأرادت الخروج من الإِحرام فتتحلل كما يتحلل المحصر بأن تنوي الخروج من
الحج حيث عجزت عن الرجوع وتذبح هناك شاة تجزىء في الأضحية وتتصدق بها وتقص
شعر رأسها فتصير حلالاً ويحل لها جميع ما حرم بالإِحرام، ولكن إذا كان
إحرامها بالحج الفرض بقي في ذمتها فتأتي به في عام آخر، وإذا صح حجها على
قول بعض الأئمة المذكورين دون بعض وأرادت الاحتياط بالخروج من محظورات
الإِحرام فتتحلل كما ذكرنا والله أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب. (انتهت
الرسالة).
(1) أي بالنسبة للطواف والصلاة أما في النظر فكل بدنها.
(2) أي ويجب ستر جزء منها إذ لا يتم الواجب إلا به.
(3) أي في الصلاة والطواف أما في النظر فكل بدنها.
(4) أي يندب بالنسبة لما ذكره من الخوف أما بالنسبة لخوف فتنة تحدث من
المزاحمة فهي حينئذ حرام على كل حال من الفريقين.
(1/220)
وفي الملموس قولان للشافعي رحمه الله تعالى
أصَحهما عند أكثر أصحابه أَنه ينتقض وُضوءُهُ وهو نصُه في أكثر كتبه
والثاني لا يَنتقض واختارَهُ جماعة قليلةٌ من أصحابِهِ والمختار الأولُ
فأما إذا لمسَ شعرهَا أو ظفْرَهَا أو سنَّها (1) أو لَمَسَ بشرتَها بشَعْره
أو ظُفْره أو سنه فلا ينتقض.
ولو تصادما فالتقت البشرتان دفعة واحدة فليسَ فيهمَا مَلْموسٌ بَلْ
يَنْتَقضُ وُضُوؤهُمَا جميعاً بلا خِلاَف (2) ولو كانت الملمُوسَةُ ممن
يَحرُم عليه نكاحُها على التأبيد بقرابة أو رضاع أو مُصَاهَرة (3) لم
يَنْتَقِضْ وُضُوءُ واحد منهما بِلَمْس الْبَشْرَة على الأصح (4) وَسَوَاءٌ
في الانتقاضِ بِمُلاَمَسَةِ الأَجنَبيةِ الجميلة والْقَبيحَة والشَّابة
والعَجُوز ولاَ يَضرُّ لمسُهَا فَوْقَ حائِل من ثَوْب رَقيق أو غيْره ولو
كانَ بِشَهوَة ولا يَنْتَقض بلمس الصغيرِ والصَّغيرة اللذَيْن لم يَبْلَغا
حَدّاً يُشْتَهيان فيه (5).
__________
(1) مثل السن كل عظم ظهر من بدنها على الأوجه وفي داخل عينها تردد ولا يبعد
إلحاقه بالسن. اهـ حاشية.
(2) أي عند الشافعية قال صاحب كتاب (رحمة الأمة): واختلفوا في لَمْس الرجل
للمرأة فمذهب الشافعي الانتقاض بكل حال إذا لم يكن حائل، والصحيح من مذهبه
استثناء المحارم، ومذهب مالك وأحمد أنه إن كان بشهوة انتقض وإلاً فلا.
ومذهب أبي حنيفة أنه لا ينتقض إلا أن ينتشر ذكره فينتقض باللمس والانتشار
جميعاً. اهـ.
(3) خرج به الملاعنة وأصول الموطوءة بشبهة وفروعها وأزواجه - صلى الله عليه
وسلم - فهؤلاء كلهن وإنْ كن يَحْرُمن على التأبيد ينتقض الوضوء بلمسهن.
(4) لكن يسن الوضوء خروجاً من الخلاف وكذا يقال في كل صورة جرى فيها خلاف
كلمس الأمرد ونحو الشعر.
(5) أي لأصحاب الطباع السليمة سواء أبلغا سبع سنين أو أكثر أم لا، وإنما لم
يشترط ذلك في العجوز لأنه سبق لها حال كانت تشتهى فيه فاستصحب.
(1/221)
(فرع): ومما عَمَّتْ به البَلْوى غَلَبةُ
النَّجاسَةِ فِي موضع الطَّوَافِ مِنْ جهةِ الطيْرِ وغيرِهِ وقد اخْتَارَ
جَمَاعَةٌ من أصْحَابِنَا المُتَأخرينَ المُحَققينَ المُطَّلعين أنهُ
يُعْفَى عَنْهَا وَيَنْبَغِي أنْ يقالَ: يُعْفَى عَمّا يشَق الاحْترازُ عنه
(1) من ذلك كما عُفي عن دمِ القَمل والْبَرَاغيثِ والبق وَوَنيمِ
الذُّبَابِ وهو رَوْثُهُ وكما عُفِي عن الأثَر الْبَاقي بعد الاستِنجاء
بالحجر وكما عُفِي عن القَليل من طين الشَّوارعِ الذي تَيقنَّا نجاسَتَهُ
وكما عفي عن النجاسةِ التي لم يدركها الطَّرْفُ في الماءِ والثوب على
المذْهَبِ المُخْتَارِ (2) ونَظَائرُ ما أشَرْتُ إليه أكثَرُ من أن
تُحْصَرَ وَمَوْضعُهَا في كُتبِ الفقهِ وقد سُئلَ السَّيِّدُ الجَليلُ
المتفقُ على جَلاَلتهِ وأمَانته وورَعِهِ (3) وزَهَادَتِه واطّلاَعِهِ على
الفقهِ وهو الشّيْخُ أبو زَيْد المَرْوَزيُّ إمام أصْحَابِنَا
الْخَرَاسانِيّين عن مَسْئَلة من هذا النَحْوِ فقالَ بالْعَفْوِ وقال
الأمْرُ إذا ضَاقَ اتَّسَعَ كأنَّهُ مُسْتَمد من قَوْلِ اللهِ عَزّ
وَجَلَّ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]
ولأنَّ مَحَل الطَّوَافِ في زَمَن النبيّ - صلى الله عليه وسلم -
وأصحَابِهِ رضي الله عنهم ومَنْ بعدهم منْ
__________
(1) أي بحيث لم يتعمد المشي عليه، ولم يجد عنه معدلاً ولم يكن ثم رطوبة،
فإنْ تعمد وطأه وله غنى عن وطئه أبطل طوافه وإن قل وجَف، وإلا فلا لكن
الرطب يضر مطلقاً حتى مع النسيان وعدم المندوحة.
قال الشمس الرملي رحمه الله تعالى: ومما شاهدته مما يجب إنكاره ما يفعله
الفراشون بالمطاف من تطهير ذرق الطير بمسحه بخرقة مبتلة بل يصير غير معفو
عنه. قال العلامة ابن علان رحمه الله تعالى: قد ذكرت ذلك للفراشين ولشيخ
الحرم وما حصل منهم اعتناء فيعفى عنه لغلبة الجهل وعموم البلوى. اهـ عمدة
الأبرار.
(2) أي ولو كانت النجاسة من مغلظ. وجرى عليه المحقق محمد الرملي رحمه الله
وقال المحقق ابن حجر المكي رحمه الله: إذا كانت النجاسة من غير مغلظ وليس
لفعله مدخل.
(3) الورع: هو ترك ما لا بأس به حذراً مما به بأس. وقيل: هو ترك ما فوق
الحاجة من الأغراض.
(1/222)
سلَف الأمَّةِ وخَلَفِها لم يزل على هذا
الحالِ ولَمْ يَمتنع أحدٌ من الطَّواف لذلِك ولا ألزَمَ النَّبيُّ - صلى
الله عليه وسلم - ولا منْ يقتَدى به مِنْ بعده أحَداً بتَطهير المَطَافِ عن
ذلك ولاَ أَمرُوهُ بإعادة الطَّوافِ لذلكَ والله أعلم.
الواجبُ الثاني: أنْ يكُون الطَّوافُ في المسجدِ ولا بأسَ بالحائِلِ بين
الطَائِفِ والبَيْتِ كالسقَايةِ والسَّوَارِي (1) ويجُوزُ الطَّوَافُ في
أُخْرياتِ المسجدِ وفي أرْوقَتِهِ وعنْدَ بابِهِ من داخِلِهِ وعلى أسْطحته
ولا خلافَ في شيءٍ من هذا لكن (2) قَالَ بَعْضُ أصْحَابِنَا يُشْترط في
صحَّةِ الطَّوَافِ أن يكونَ الْبيتُ أرْفَعَ بنَاء من السَّطْح كما هو
الْيَومَ حتى لو رُفع سَقْفُ الْمَسْجِد فصار سطحُهُ أَعْلَى مِنَ الْبَيت
لم يَصحّ الطَّوافُ على هذا السَّطْحِ وأنكرهُ عليه الإِمام أبو القاسم
الرافعيّ (3).
وقال: لا فَرْقَ بين عُلُوّه وانخفاضِهِ قال أصْحابُنَا: ولو وُسعَ
الْمَسْجِدُ واتّسع المطافُ فَيصحُّ الطَّوَافُ في جَميعهِ وَهُوَ الْيوْمَ
أوْسَعُ مما كانَ في عصرِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بزيَاداتٍ
كَثيرةٍ كَمَا سيَأْتي بيانُهُ إن شاء الله تعالى في الباب الخامِس
واتَّفَقُوا عَلَى أنَّهُ لو طَافَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ لَمْ يَصحَّ
طَوافُهُ بحالٍ واللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الواجبُ الثالثُ: اسْتكْمَالُ سَبع طَوْفَاتٍ فَلَو شَكّ (4) لزِمهُ
الأَخْذُ بالأقل
__________
(1) أي وجدار بني في المسجد محيط بالكعبة وإنْ لم يرها مِنْ خلفه ولم ينفذ
إليها لأنه لم يخرج عن مسجد الكعبة. اهـ ابن الجمال. اهـ تعليق.
(2) هو استدراك من عموم وقوله بعض أصحابنا كصاحب العدة والماوردي
والروياني.
(3) صوب في المجموع ما قاله الرافعي رحمه الله.
(4) أما إذا أخبره غيره بخلاف ما يعتقده فلا يخلو إما بالنقص أو بالزيادة
فإن =
(1/223)
ووجَبتِ الزِّيَادَةُ حَتى يَتَيقنَ
السَّبع إلا إن شَك بعد الفَرَاغِ منه (1) فَلاَ يلْزَمُهُ شَيْء.
الواجبُ الرابعُ: التَّرتيبُ وهُوَ في أَمْرَين:
أحَدهُما: أَنْ يَبْتَدِىءَ مِنَ الْحَجَر الأسْودِ (2) فَيَمُرُ بِجَميع
بَدَنِهِ على جَميعه (3) على الصّفَةِ التي ذَكَرنَاهَا ولو ابْتَدَأَ بغير
الحَجَرِ الأَسْوَدِ أو لم يَمُرَّ عليه بجميعِ بَدَنِهِ (4) لَمْ تُحْسَبْ
لهُ تلكَ الطَّوْفَةُ حتى يَنْتَهِيَ إلى مُحَاذَاةِ الْحَجر الأَسْوَدِ
(5) فَيجعلُ ذلك أَوَّلَ طَوَافِهِ (6) ويَلْغُو مَا قَبْلَهُ فَافْهَمْ
هَذَا فَإنَّهُ مما يُغْفَل عَنْهُ ويَفْسُدُ بَسَبَبِ إهْمَالِهِ حَجُّ
كَثير من النَّاسِ.
والأمر الثاني: أَنْ يَجْعَلَ في طَوَافِهِ البَيْتَ عن يَساره (7) كما
سَبَقَ بيَانُهُ فلو
__________
= أخبره بالنقص ندب الأخذ بقوله احتياطاً بخلاف الصلاة، فإنها تبطل
بالزيادة، أو بالكمال لم يجز الرجوع له وإن كثر ما لم يبلغ حد التواتر على
الأوجه كما في الصلاة.
(1) قال في الحاشية: مقتضاه أنه لا يضر الشك في طهره بعده أيضاً وهو ظاهر
مقيس، فما اقتضاه قول بعضهم: لو شك بعد العمرة هل طاف متطهراً لم يؤثر من
أنَّ الشك قبل فراغها يضر، ولو بعد الطواف مردود. اهـ.
(2) مثل الحجر الأسود محله فيما لو نزع منه والعياذ بالله كما مَرّ سابقاً
فتجب محاذاة محل الحجر من الركن. هذا في غير الراكب ومن على السطح أما هما
فيحاذيان ما سامتهما من الركن ولو مع وجود الحجر في محله أي بقدر الحجر لو
جعل في ذلك المحل المسامت.
(3) أي على جميع الحجر بحيث لا يتقدم جزء منه على جزء من الحجر من جهة
الباب، أما إذا جاوزه ببعض بدنه إلى جهة الباب فلا تحسب طوفته.
(4) أي بجميع شقه الأيسر.
(5) أي بمنكبه الأيسر.
(6) أي إنْ كان لا يفتقر لنية أو استمر ذاكراً لها لما يأتي فيها.
(7) فيشمل المحمول ولو صبياً. =
(1/224)
جَعَلَ البَيْتَ عن يَمينِهِ ومَرَّ من
الحَجَر الأَسْوَدِ إلى الرُّكن الْيَماني لم يَصحّ طَوَافُهُ ولو لَمْ
يَجْعل البَيْتَ عَلَى يَمينِهِ وَلاَ عَلَى يسَارِهِ بل استَقْبله
بوَجْهِهِ وطَافَ مُعْترضاً أوْ جَعَلَ البيتَ عَلَى يَمينِه وَمَشَى
قهْقَرى إلَى جهةِ المُلْتَزمِ والْبَابِ لَمْ يَصحَّ طَوَافُهُ علَى الأصح
وكَذَا لوْ مر مُعتَرضاً مُسْتَدْبِراً لَمْ يَصحَّ عَلَى الصَّحيح
وَلَيْسَ شَيءٌ مِنَ الطَّوَافِ يَجُوزُ مَعَ اسْتِقْبَالِ البَيْتِ إلاَ
مَا ذَكَرْنَاهُ (1) أَوَّلاً مِنْ أَنهُ يمُرُّ في ابْتِدَاءِ الطَّوَافِ
عَلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ مُسْتَقْبِلاً لهُ فَيقَعُ الاستِقْبَالُ
قُبَالَةَ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ لا غير وذلكَ مُسْتَحَب في الطَّوْفَةِ
الأولى خَاصَّةً دونَ ما بعدها ولو تَرَكَهُ في الأولى فَمَرَّ بالْحَجَرِ
وهو على يَسارِهِ وسَوَّى بين الأُولى وما بعدها جازَ ولكنْ فَوَّت هذا
الاسْتِقْبَالَ المُسْتَحَبَّ ولم يَذْكُرْ جماعةٌ من أصْحَابِنا هذا
الاسْتقبالَ وهوَ غيرُ الاستقْبالِ المُسْتَحَب عند تلقَاءِ الحجَرِ قَبْلَ
الطَّوَافِ فَإنّ ذلك مُسْتَحَبٌ لا خلافَ فيه وسُنَّة مُسْتَقِلّة.
الواجب الخامس: أنْ يكونَ في طَوَافِهِ خَارجاً بجميع بدَنِهِ عن جميعِ
البيت فلو طاف على شَاذَروَانِ الْبَيْتِ (2) أو في الحَجْرِ لم يَصحّ
طَوَافُهُ لأنه
__________
= (تنبيه): قال المحشي رحمه الله تعالى: يسري إلى ذهن كثيرين من اشتراط جعل
البيت عن يساره أن الطواف يسار وليس كذلك. بل هو يمين كما يصرح به خبر مسلم
عن جابر رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - أتى البيت فاستقبل الحجر
ثم مشى عن يمينه أي الحجر وحينئذ فيكون الطائف عن يمين البيت لأن كل مَنْ
كان عن يساره شيء فذلك الشيء عن يمينه ولأن من استقبل شيئاً ثم أراد المشي
عن جهة يمينه فإنه يجعل ذلك الشيء عن يساره قطعاً. اهـ.
(1) هذا الاستثناء صوري لأن أول الطواف الواجب هو الانفتال وما قبله مقدمته
لا منه ومِنْ ثم لَمْ تَجُزْ النية إلا إنْ قارنته كما تقدم، وهذا معتمد
العلامة ابن حجر المكي رحمه الله، ومعتمد الجمال الرملي والخطيب وابن قاسم
وغيرهم رحمهم الله تعالى أن أول طوافه ما فعله أولاً وأن الاستثناء حقيقي.
(2) الشاذروان: جدار قصير مسنم بأسفل الكعبة مرتفع عن الأرض به حلق يربط =
(1/225)
طَافَ في الْبَيْتِ لا بالبيت وقد أمر
اللهُ تعالى بالطَّوَافِ بالبَيْتِ، والشَّاذَروَانُ والْحِجْرُ مِنَ
البيتِ.
أَمَّا الشَّاذَروَانُ فهو القَدْرُ الذي تُركَ مِنْ عَرْضِ الأساسِ
خَارجاً عن عَرْضِ الجدارِ مُرْتَفعاً عنْ وجْهِ الأرضِ قَدْر ثُلُثَيْ
ذراع قَالَ أبو الوَليدِ الأزْرَقيُّ في كِتَابِهِ في تَاريخ مَكةَ طُولُ
الشَاذَرْوَانِ في السَّمَاءِ ستَّةَ عشرَ أُصْبعَاً وعرضُهُ ذِرَاعٌ قال:
والذّرَاعُ أرْبَعٌ وعشْرُونَ أصْبعاً قَالَ أصْحابُنَا وغَيرُهمْ مِنْ
العُلَمَاءِ هَذَا الشَّاذرْوَانُ جُزءٌ من الْبَيْتِ نَقصَتْه (1) قُرَيشٌ
مِنْ أَصْلِ الْجِدَارِ حينَ بَنَوا الْبَيْتَ (2) وهوَ ظَاهرٌ في
جَوَانِبِ الْبَيْتِ لكن لا يَظْهَرُ عنْدَ الْحَجَرِ الأسودِ (3) وقَدْ
أُحدِثَ في هَذه الأَزْمَانِ عندَهُ شاذروانُ.
ولَوْ طافَ خَارِجَ الشَّاذَرْوَانِ وكَانَ يَضَعُ إحْدَى رجْلَيْهِ
أَحياناً علَى الشَّاذروَانِ ويقفزُ بالأخْرَى لَمْ يَصحَّ طَوَافُه (4)
ولوْ طَافَ خَارجَ الشَّاذروَانِ وَلمسَ بيده الجدَارَ في مُوَازَاةِ
الشَّاذروَانِ أو غيرِهِ من أجزاء الْبيتِ لم يصحَّ
__________
= بها ثوب الكعبة، قد ترك من طرف أساس الكعبة لمصلحة البناء وهو من الجهة
الغربية واليمانية فقط كما في النهاية، والمعتمد كما في التحفة ثبوته من
جهة باب الكعبة أيضاً.
قال في إعانة الطالبين رحمه الله تعالى: مختلف في ثبوته من جميع الجوانب
فالإِمام والرافعي لا يقولان به إلا في جهة الباب، وشيخ الإِسلام ومَنْ
وافقه لا يقولان به من جهة الباب، وأبو حنيفة لا يقول به في جميع الجوانب،
وفيه رخصة عظيمة بل لنا وجه أن مَس جدار الكعبة لا يضر لخروج معظم بدنه عن
البيت. اهـ.
(1) أي تركته من عرض أساس البيت لمصلحة البناء.
(2) أي في عهده - صلى الله عليه وسلم - قبل النبوة وعمره عليه الصلاة
والسلام حينذاك خمس وثلاثون سنة.
(3) أي ترك بناؤه ثَم ليتيسر تَقْبيل الحجر الأسود، ثم خشي توهم عدمه ثم
فيطوف الطائف فتبطل طوفته فأعيد كما قال المصنف رحمه الله وقد أحدِثَ ..
إلخ.
(4) أي ما أتى به من فعل المبطل فليعد.
(1/226)
طَوَافُهُ أَيضاً على المذْهَب الصَّحيحِ
الذي قَطَعَ به الْجَماهيرُ لأنَّ بعضَ بدنِهِ في البيتِ ويَنبغي أَن
يُتَنبَّه هُنَا لدقيقة وهي أنَّ مَنْ قَبَّلَ الْحجَرَ الأسْوَدَ
فَرَأْسُهُ في حدِّ التقْبيلِ في جزء مِنَ البيتِ فَيَلْزَمُهُ أَن يقرَّ
قدَمَيْهِ في موضعهِمَا حتى يَفْرُغَ من التَّقْبيلِ ويعتدلَ قائماً
لأَنَّهُ لو زالَتْ قَدَماهُ من مَوْضِعِهِمَا إلى جهةِ البابِ قليلاً ولو
قدْرَ بعضِ شِبر في حالِ تقبيلِهِ ثُمَّ لما فَرَغَ من التَّقْبيلِ
اعْتَدَلَ عَلَيْهِما في الْمَوْضِعِ الذي زَالَتَا إليهِ ومضَى من هُنَاكَ
في طَوَافِهِ (1) لكانَ قد قَطَعَ جُزءاً من مَطَافِهِ وبدَنُهُ في هَوَاءِ
الشَّاذرَوانِ فَتبطُلُ طَوْفَتُهُ تلك.
وأما الْحِجْر (2) فهو مَحُوطٌ مُدَوَّر على صُورَةِ نصفِ دَائرةٍ وهو
خارجٌ عن جدارِ الْبَيْتِ في صَوْبِ الشَّامِ وهُو كُلهُ أو بعْضهُ من
البيتِ تركَتْهُ قُرَيشٌ حينَ بَنَتْ البيت وأخْرَجَتْهُ عن بناءِ إبراهيمَ
- صلى الله عليه وسلم - (3) وصارَ لهُ جدار قَصِير (4).
واخْتَلَفَ أَصحَابُنَا في الْحِجْرِ فذهَبَ كَثيرُونَ إلى أنَّ ستَّةَ
أذْرُعٍ منْهُ مِنَ البَيْتِ وَمَا زَادَ لَيْسَ مِنَ الْبَيْتِ حَتَى لَوْ
اقْتَحَمَ جدَارَ الْحِجْرِ وَدَخَلَ منْهُ وخَلَّفَ بَيْنَهُ وبَيْنَ
البَيْتِ ستة أذْرُعٍ صَحَّ طَوَافُهُ وبَعْضُهُم يقُولُ سبعَ أَذْرُع (5)
وَبِهذاَ الْمَذْهَبِ قَالَ الشَيْخُ أبُو مُحَمَّد الْجُوَيْني مِنْ
أئِمّةِ أصْحَابِنَا وَوَلَدُهُ إمَامُ الْحَرَمَيْن وَالْبَغَوِيُّ،
وَزَعَمَ الإِمَامُ أبُو القَاسِمِ الرَّافعيُّ أَنهُ الصَّحيحُ ودَليلُ
هَذا المذهب مَا ثَبَتَ في صَحيحِ مُسْلم عَنْ عَائشَةَ رَضِيَ اللهُ
عنْهَا عن رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - قالَ: "ستَّةُ أذْرُعٍ من
الحِجْرِ مِنَ الْبيتِ" وفي رواية لهُ: أنَّ من الْحِجْرِ قريباً من سبعة
__________
(1) أي ولم يرجع إلى المحل الذي زالتا منه.
(2) الحِجْر: بكسر الحاء.
(3) لأن الأجرة الطيبة الحلال التي تنفق على بناء الكعبة نقصت على قريش.
(4) ليدل على أن الحجْر من الكعبة.
(5) لفظ ذراع يذكر ويؤنث كما في مختار الصحاح والمراد به ذراع اليد.
(1/227)
أذرع من البيت وَالمذهب الثاني أَنهُ
يَجِبُ الطَّوافُ بجَميعِ الْحِجْرِ فَلَوْ طافَ في جُزءٍ مِنْهُ حَتى
عَلَى جدَارِهِ لَمْ يَصحَّ طوافُهُ وهَذَا المذهبُ هُوَ الصَّحيحُ
وعَلَيْه نَصَّ الشَّافِعِيُّ رَحمهُ اللهُ تعالى وبه قطعَ جماهيرُ
أصْحابِنَا وهذَا هُوَ الصَّوابُ لأنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم -
طَافَ خارجَ الحِجْرِ، وهكذا الخُلُفاءُ الرَّاشِدُونَ وغيْرُهُمْ مِنَ
الصَّحَابةِ فمَنْ بَعْدهُمْ.
وأَمَّا حديثُ عائشَةَ رضي الله عنها فقد قال الشّيخُ الإِمامُ أَبُو
عَمْرِو بن الصَّلاحِ رحمهُ اللهُ تعالى قد اضطربَتْ فيه الرِّواياتُ. ففي
رواية في الصَّحيحينِ الحِجْرُ من البيتِ ورُوِيَ ستَّةُ أَذْرُع نحوها،
ورُوِيَ خَمسةُ أذْرُع ورُوِيَ قريباً مِنْ سَبعْ أذْرُع قَالَ: وإذا
اضطرَبَتْ الرِّواياتُ تَعَيَّنَ الأخذُ بأكثرِها ليَسْقُطَ الْفَرْضُ
بيقينٍ قُلْتُ: ولو سُلِّمَ أنَّ بعضَ الحِجْرِ ليسَ مِنَ البيتِ لا
يَلْزَمُ منه أَنهُ لاَ يجبُ الطَّوافُ خارج جَميعِهِ لأن المُعْتَمَدَ في
بابِ الحَج الاقْتِدَاءُ بفعْلِ النَّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فيجبُ
الطَّوافُ بجميعِهِ سَوَاءٌ كان من البيتِ أمْ لاَ والله تَعَالَى أعلم.
(فَرع): في صِفَةِ الْحِجْرِ ذكر أبو الْوَليدِ الأزْرَقيُّ في كتاب تاريخِ
مَكَّةَ الْحِجْرَ ووَصَفَهُ وصْفاً واضحاً فقالَ: هُوَ ما بَيْنَ
الرُّكْنِ الشَّامِيّ والْغَرْبيِّ وأرْضُهُ مَفْرُوشَة برُخَام وهُوَ
مُسْتَوٍ بالشَّاذَرْوَانِ الذي تحتَ إزَارِ الكَعْبةِ وعَرْضُهُ من
جِدَارِ الْكَعْبَةِ الذي تَحْتَ الميزَابِ إلى جِدَارِ الْحِجْرِ سَبْعَ
عَشرَةَ ذِرَاعاً وثَمَانِ أصَابعَ. وَذَرْعُ ما بينَ بَابَيْ الْحِجْرِ
عشرون ذرَاعاً وعَرْضُهُ اثْنَان وَعشْرُونَ ذراعاً، وذَرْعُ جدارِهِ مِنْ
داخلِهِ في السَّماءِ (1) ذرَاعٌ وأرْبَعَ عَشْرَةَ أُصْبعاً (2)، وذَرعُهُ
مما يَلي البابَ الذي يلي المَقامَ ذرَاعٌ وعشْرُ أَصَابعَ، وذَرْعُ
جدارِهِ
__________
(1) أي في جهتها.
(2) الأصبع يذكر ويؤنث كما في الصحاح.
(1/228)
الْغَرْبي في السماءِ ذرَاعٌ وعشرونَ
أصْبُعاً، وذَرْعُ جِدَارِ الْحِجْرِ مِنْ خَارِج ممَّا يَلِي الرُّكنَ
الشَّامي ذرَاعٌ وَستةَ عَشَرَ أصبُعاً وَطُولُه مِنْ وَسَطِهِ في
السَّمَاء ذرَاعان وَثَلاَثُ أَصَابعَ وعَرْضُ الجدارِ للْحِجْر ذراعَان
إلاَّ أصْبُعَيْنِ وذَرْعُ تَدْويرِ الْحِجْرِ من دَاخِلِهِ ثمان وثلاثون
ذرَاعاً، وَذَرْعُ تَدْويرِهِ مِنْ خَارِج أرْبَعُونَ ذراعاً وستُّ أصَابع
وفَرْعُ طَوْفَة واحدة حَوْلَ الْكَعْبَةِ والحجر مائةُ ذراع وثلاث وعشرونَ
ذِرَاعاً واثْنَتَا عشرةَ أُصْبُعاً. هذا آخرُ كلاَمِ الأَزْرَقي رَحمَهُ
اللهُ تعالى وهذا الفْرَعُ مما يُحتَاجُ إلى مَعْرفَتِهِ.
الواجبُ السادسُ: نِيةُ الطَّوَافِ (1)، فإنْ كانَ الطَّوافُ في غَير حَج
وعُمْرَة فَلاَ يَصحُ إلاّ بالنيةِ (2) بِلاَ خِلاَف (3). وإنْ كانَ في حَج
أو عُمْرَة فالأوْلَى أنْ يَنْوِيَ فإنْ لم يَنْوِ صَحَّ طَوافُهُ على
الأصَح لأنَّ نِيّةَ الْحَجّ تَشْمِلُهُ كما تشمَلُ الْوُقُوفَ (4) وغيرَهُ
(5) وإذَا قُلْنا بالأَصَح أَنَّ النية لا تَجِبُ فالأَصَحُّ أنهُ
يُشْتَرَطُ أَلاّ
__________
(1) قال رحمه الله في التعليق: المراد بالنية .. المذكورة سواء وجبت أو
سُنت: قصد الفعل عنه أما مطلق قصد أصل الفعل فلا بد منه حتى في طواف النسك
ولذلك قال ابن علان رحمه الله تعالى: أما قصد الفعل فواجب فيه مطلقاً، وأما
التعيين ففيما عدا طواف النسك لاستحباب نية على نية وأما قصد الفرضية ففي
الطواف المنذور.
(2) محل نيته أوله كغيره فتشترط مقارنتها لما يعتبر محاذاته من الحجر
الأسود.
(3) الخلاف في نية طواف النسك كما سيذكره المصنف في قوله: (وإن كان في حج
أو عمرة إلخ).
(4) به قال الثوري وأبو حنيفة وقال أحمد وإسحق وأبو ثور وابن القاسم
المالكي وابن المنذر رحم الله الجميع: لا يصح إلا بالنية لأنه عبادة فاحتاج
إلى نية كركعتي المقام والله أعلم. اهـ مجموع.
(5) يدخل فيه طواف القدوم فلا يحتاج لنية ويخرج منه طواف الوداع، فيحتاج
إليه لأنه ليس من المناسك على المعتمد عند الشيخين رحمهما الله تعالى.
(1/229)
يَصْرِفَهُ إلى غَرَضٍ آخرَ منْ طَلَبِ
غَريمٍ ونَحْوِهِ فلو صَرَفَهُ لا يَصِحُّ طَوَافُهُ (1) وقيلَ يَصِحُّ.
(فرع): لو حَمَلَ رَجُل مُحْرِماً من صَبِي أو مَريضٍ أو غَيْرِهِمَا
وطَافَ فإنْ كانَ الطَّائفُ حَلاَلاً (2) أو مُحْرِماً قد طَافَ عن
نَفْسِهِ (3) حُسِبَ الطَّوَافُ للْمَحمولِ (4) بِشَرْطِهِ (5) وإن كان
مُحْرِماً لَمْ يَطُفْ عن نَفْسِهِ (6) نُظِرَ، إنْ قَصَدَ الطَّوَافَ عن
نَفْسِهِ فَقَط أو عنهما أو لم يقْصِدْ شَيْئاً وَقَعَ عن الحامِلِ وإنْ
قَصَدَهُ عن المحمولِ وَقَعَ عن الْمَحْمُولِ على الأصَحِّ وقيلَ عن
الْحَامِلِ وقيلَ عنهما
__________
(1) فارق الوقوف حيث لا يضر صرفه بأنه قربة في نفسه بخلاف الطواف. اهـ
حاشية.
(2) أي ولو لم ينوِ الطواف لنفسه.
(3) أي أو لم يدخل وقت طوافه.
(4) قال الإمام الإسنوي رحمه الله تعالى كما في الحاشية: المراد بالحسبان
له إنما هو عن طواف تضمنه إحرامه لا مطلق الطواف حتى لو كان المحمول قد طاف
عن نفسه كان كما لو حمل حلالٌ حلالاً بلا شك. اهـ. وهو ظاهر معلوم من قول
المصنف الآتي بشرطه.
(5) أي من نحو ستر وطهر ودخول وقت وعدم صارف وغير ذلك مما مَرّ وبشرط أن لا
ينوي الحامل الحلال أو المحرم الذي طاف عن نفسه أو لم يدخل وقت طواف نفسه
سواء نوى المحمول أم لا، فإن نوى نفسه ولو مع المحمول المحرم أو الحلال وقع
لنفسه، ولو نوى كُل نفسه وقع للحامل على الأصح وبه قال مالك أو للمحمول أو
لهما، وبه قال أبو حنيفة. وعن الإِمام أحمد روايتان للحامل ورواية لهما
وحامل محدث أو نحوه كالبهيمة فلا أثر لنيته عند الأئمة الثلاثة خلافاً
للإمام أبي حنيفة لعدم اشتراطه الطهارة للطائف.
(6) أي وقد دخل وقت طوافه والمراد به طواف الركن وكذا طواف القدوم لإلحاقه
به في عدم النية كما تقدم.
(1/230)
وسَوَاء في الصَّبي المَحْمُولِ حَمَلَهُ
وَليُّهُ الذي أحْرَمَ عَنْهُ أو حَمَلَهُ غيرُهُ (1) ولو حَمَلَ
مُحْرَمَيْن (2) وطَافَ بِهِمَا وهو حَلاَلٌ أو مُحْرِمٌ طافَ عن نَفْسِهِ
وقَعَ عن الْمَحْمُولَيْن جميعاً كما لو طافَ على دابة.
الواجبُ السَّابعُ والوَاجِبُ الثَّامِنُ: الْمُوَالاَة بين الطَّوْفَاتِ
والصَّلاَةُ بعدَ الطَّوافِ والأَصَحُّ أنَّهُما سُنَّتانِ وفي قَوْلٍ
واجِبَتَانِ وَسَيَأتي إيضَاحُهُمَا في السُّنَنِ إن شاءَ الله تَعَالى.
أما سُنَنُ الطوافِ وآدابِهِ فثمان:
أحَدهما: أنْ يَطُوفَ مَاشياً فَإنْ طَافَ راكباً لعُذْر يَشُقُّ معهُ
الطَّوافُ مَاشياً أو طافَ رَاكباً ليَظْهَرَ ويُسْتَفْتَى ويُقتَدَى
بِفعلِهِ جازَ ولا كَرَاهَةَ فيه لأَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
طافَ راكباً في بعض أطْوفَتِهِ وهو طَوَافُ الزِّيَارَةِ (3) ولو طَافَ
رَاكباً بلا عُذْرٍ جازَ أيضاً.
قالَ أصْحَابُنَا ولا يُكْرَهُ (4) قَالَ إمَامُ الحَرَمَيْنِ وفي
الْقَلْبِ من إدخالِ
__________
(1) أي بشرط إذن الولي له.
(2) أي أو أكثر.
(3) قال في الحاشية: ما أشار إليه من أن ركوبه - صلى الله عليه وسلم - فيه
إنما كان ليظهر فيستفتى هو ما رواه مسلم. قال السبكي: وهذا أصح من رواية
مَنْ روى أنه طاف راكباً لمرضى، أشار بذلك لما رواه أبو داود على أن في
إسناده مَنْ لا يحتج به. وقال البيهقي: في حديثه لفظة لم يوافق عليها وهي
قوله: (وهو يشتكي) ومن ثمة قال الشافعي رضي الله عنه: لا أعلم أنه - صلى
الله عليه وسلم - في تلك الحجة اشتكى، وأما طواف القدوم، ففي الأم وغيرها،
وحكى الاتفاق عليه أنه - صلى الله عليه وسلم - فعله ماشياً وخبر مسلم أنه -
صلى الله عليه وسلم - طاف في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة
لا ينافي ذلك، وإن كان سعيه في تلك الحجة إنما كان مرة واحدة وعقب طواف
القدوم لأن الواو لا تقتضي ترتيباً. اهـ.
(4) أي ما لم يكن هناك زحام بل قد يحرم الركوب إنْ تحقق الإِيذاء أو ظنه.
(1/231)
البَهيمَةِ التي لا يُؤمَنُ تَلْويثُهَا
المسْجدَ شَيء، فَإنْ أمْكَنَ الاسْتيثَاقُ فَذَاكَ وإلاَّ فَإدْخَالُهَا
مَكْرُوه.
الثانية: الاضْطبَاعُ الَذي سَبَقَ بيانُه (1) مُسْتَحَبٌّ إلى آخِر
الطَّوافِ وقيلَ يَسْتَديمُهُ بَعْدَ الطَّوَافِ في حَالِ صَلاَة
الطَّوَافِ وما بَعدهَا إلى فَرَاغِهِ مِنَ السَّعْي، وَالأَصَحُّ أَنَّهُ
إذا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ أزَال الاضطبَاع وصَلَّى، فإذا فَرَغَ مِنَ
الصَّلاَةِ أَعَادَ الاضطْبَاعَ (2) وَسَعَى مُضْطَبِعاً (3) وإِنَّمَا
يَضْطَّبعُ في الطَّوَافِ الذي يَرْمُلُ فِيه (4) وَمَا لاَ رَمَلَ فِيهِ
لا اضْطِبَاعَ فيه وَسَيَأْتي بيانُ الطَّوافِ الذي فيهِ الرَّمَلُ إنْ
__________
(1) أي في الفصل الثاني في كيفية الطواف، الاضطباع كما تقدم هو أن يجعل
الرجل وسط ردائه تحت منكبه الأيمن عند إبطه ويطرح طرفيه على منكبه الأيسر
ويكون منكبه الأيمن مكشوفاً. اهـ. قال في الحاشية: ويكره تركه يعني
الاضطباع وترك الرمل بلا عذر كما نَص عليه الشافعي رحمه الله ولو تركه في
بعض الطواف أو الرمل في الأولى أو الثانية أو بعض إحداهما أتى به في الباقي
وكذا الاضطباع في السعي.
(2) أي قبل شروعه في الدعاء.
(3) أي في جميع سعيه وقيل بين الميلين فقط.
(4) أي الطواف الذي يشرع فيه الرمل وهو كل طواف يعقبه سعي. قال في الحاشية:
ويسن الاضطباع، وإن لم يرمل كما أنّ الرمل يسن وإن لم يضطبع لأن كل واحد
منهما هيئة في نفسه فلا يتركه بترك غيره، وقال فيها أيضاً، وظاهر كلام
المصنف السابق في تعريف الاضطباع أنه لا يسن لمن كان لابساً للمخيط لعذر أو
غيره والذي يظهر أنه يسن ويكون فوق ثيابه إن لم يتيسر كشفها ويجعل طرفيه
على عاتقه الأيسر لأن الحكمة في أصل مشروعيته كالرمل إظهار الجلادة والقوة
للمشركين وبالنسبة إلينا إظهار التأسي والاتباع والجد في العبادة، وكل ذلك
حاصل مع اللبس.
وقولهم يكون كتفه الأيمن بارزاً جَرْيٌ على الغالب، وأيضاً فإلحاقهم السعي
بالطواف فيه يدل أن علته مَعْقولة يتأتى الإِلحاق فيها فيقاس غير المتجرد
عليه لما علمت من أن إظهار دأب أهل الشطارة يحصل بذلك مع اللبس أيضاً ثم
رأيت الزركشي بحث أنه لا يسن للابس، وغيره بحث أنه يسن له إنْ لبس لعذر،
والأوجه ما قدمنا من الإِطلاق. اهـ.
(1/232)
شَاءَ اللهُ تعالى إلا أَنهُ يُسَنُّ
الاضْطِبَاعُ في جميعِ الطَّوْفَاتِ السَّبْعِ والرمل يختص بالثلاث الأول،
والصبي كالبالغ في استحباب الاضطباع على المذْهَب المشهُورِ ولاَ تَضْطَبعُ
المرأةُ (1) لأن مَوْضعَ الاضْطِبَاعِ مِنها عَوْرَة.
الثالثةُ: الرَّمَلُ بفتح الراءِ والميمِ وهُوَ الإِسْرَاعُ في المشْي مع
تَقَارُبِ الْخُطَا دُونَ الوُثُوبٍ والْعَدْوِ ويقالُ له الْخَبَب (2) قال
أصحَابنا: ومَنْ قَالَ إِنَّهُ دونَ الخببِ فقد غَلِطَ، والرَّمَلُ
مُسْتَحَبٌّ (3) في الطَّوفاتِ الثَّلاَثِ الأوَلِ ويُسَنُّ المشيُ على
الْهِينَةِ في الأَرْبَعِ الأخيرةِ والصَّحِيحُ مِنَ القَوْلَيْنِ أنهُ
يَسْتَوْعِبُ البيتَ بالرَّمَلِ وفي قَوْلٍ ضَعِيفٍ لا يَرْمُلُ بينَ
الرُّكْنَيْنِ الْيَمانِيّين (4) وإِنْ تَرَكَ الرَّمَلَ فِي الثلاثِ
الأوَلِ لم يقْضِهِ في الأَرْبَعِ الأخيرَةِ لأنّ السنَّةَ في الأخِيرةِ
المشيُ على
__________
(1) أي ولو صغيرة ومثلها هنا الخنثى وفي الرمل فلا يُسَن لهما.
(2) صَح عن ابن عمر رضي الله عنهما كان - صلى الله عليه وسلم - إذا طاف
الطواف الأول خب ثلاثاً ومشى أربعاً. وفسر أكثرهم (الخبب) بأنه الإِسراع في
المشي مع هز المنكبين بدون وثب.
(3) لا ينافيه خبر مسلم: (ارملوا ثلاثاً وليس بسنة) لأن معناه ليس بسنة
عامة في كل طواف لكل أحد كسائر السنن، وإنما شرع بسبب خاص وهو إظهار الجلد
للكفار حينما قالوا سنة سبْع من الهجرة وقت اعتماره هو وأصحابه عمرة
القضاء: هؤلاء قد وهنتهم حمى يثرب فلم تبق لهم طاقة بقتالنا. فأطْلع الله
نبيه - صلى الله عليه وسلم - على ما قالوا فأمر أصحابه بالرمل ليرى
المشركين جلدهم وقوتهم ففعلوا، فلما رأوهم قالوا: هؤلاء الذين زعمتم أنهم
أنهكتهم حمى يثرب؟ إنهم لأجْلد من كذا وكذا.
ثم بقي الرمل مع زوال سببه لأن فاعله يستحضر به سبب ذلك وهو ظهور أمرهم،
فيتذكر نعمة الله بإعزاز الإِسلام وأهله، ويقال: إن عمر بن الخطاب رضي الله
عنه أراد منع الرمل لزوال سببه فتذكر هذا، أي أن فاعله يستحضر به سبب ذلك.
(4) ودليله رواية مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - تركه بينهما. وأجيب: كما
في الحاشية بأنه كان في عمرة القضاء سنة سبع، ورواية أنه - صلى الله عليه
وسلم - رمل من الحجر إلى الحجر كانت في حجة الوداع فهي ناسخة لتلك والله
أعلم.
(1/233)
الْهينة، فإنْ كانَ رَاكباً حَرك دَابتَهُ
في مَوْضِع الرَّملِ وإِنْ حَمَلَهُ إنسانٌ رَمَلَ بِهِ الحَامِلُ ولا
تَرْمُلُ المرْأةُ بِحَال.
واعْلَمْ أنَّ الْقُرْبَ مِنَ البيْتِ مُسْتَحَب فِي الطَّوَافِ (1) ولا
نَظَرَ إلى كَثْرة الْخطا لو تَباعدَ، فَلَوْ تَعَذرَ الرَّمَلُ مَعَ
الْقُرْبِ للزحْمَةِ فَإِنْ كَانَ يَرْجو فُرْجَةً وَقَفَ (2) لَهَا
لِيَرْمل فِيهَا إِنْ لم يُوذِ بِوُقُوفِهِ أَحَداً، وإِنْ لم يَرْجُهَا
فَالمُحَافَظَةُ علَى الرَّمَلِ مَعَ الْبُعْدِ عن الْبَيْتِ أَفْضَل من
الْقُرْبِ بِلاَ رَمَلٍ (3) لأَن الرملَ شِعَار مُسْتَقِل وَلأنَّ
الرَّمَلَ فَضيلَةٌ تتعَلَّقُ بِنَفْسٍ العِبَادَةِ والْقُرْبُ فَضيلَةٌ
تتعَلَّقُ بِمَوْضع الْعِبَادَة والتّعَلُّقُ بنَفْس الْعِبَادةِ أوْلَى
بالمُحافَظَةِ، أَلاَ تَرَى أن الصَلاَةَ بالجَمَاعَةِ في الْبَيْتِ أفضلُ
مِنَ الانْفِرَادِ في المسجد (4).
ولو كان إذا بَعُدَ وقعَ في صَفّ النِّسَاءِ فالْقُرْبُ بلا رَمَلٍ أولى من
البُعْدِ إليهنَّ من الرَّمْلِ خَوفاً مِنْ انتقاضِ الوُضُوءِ ومن
الفتْنَةِ بِهن وكذا لو كان بالْقُرْبِ أيضاً نِسَاءٌ وتَعَذرَ الرَّمَلُ
في جميع الْمَطَافِ (5) لِخَوْفِ الْمُلامَسَةِ فَتَرْكُ الرَّمَلِ
__________
(1) أي لكونه أشرف البقاع ولأنه أيسر في الاستلام والتقبيل ولأن القرب منه
أفضل في الصلاة.
(2) أي ندباً.
(3) قال ابن الجمال رحمه الله تعالى كما في التعليق: محله إنْ أمن لمس نساء
ناقضاً أو لم يختلط بهن اختلاطاً يخشى منه فتنة، وإنْ أمن اللمس ولم يبعد
بحيث يكون طوافه وراء زمزم والمقام وإلا قرب بلا رمل. اهـ.
(4) ولو المساجد الثلاثة على المعتمد خلافاً للمتولي رحمه الله تعالى وعلله
بِأن المضاعفة فيها تزيد على المضاعفة في غيرها ويؤيد الأول قاعدة أنّ فضل
الاتباع يربو على فضل المضاعفة. اهـ تقريرات عن ابن علان رحم الله تعالى
الجميع.
(5) خرج به ما لو تيسر في بعضه فإنه يفعله فيما تيسر فيه لأن الميسور لا
يسقط بالمعسور والله أعلم.
(1/234)
أَوْلَى، وَمَتَى تَعذَّرَ الرمَلُ في
الْجَميع اسْتُحِب أنْ يَتْرُكَهُ في مَشْيِهِ ويُشيرُ إلى حرَكةِ
الرَّمَلِ ويُظْهِرُ مِنْ نَفْسِهِ أَنهُ لَوْ أَمْكَنَهُ الرَّمَلُ
لَرَمَلَ.
قَالَ أَصْحَابُنَا رحمهم الله تعالى: ولا خِلاَفَ أَنهُ لا يُشْرَعُ
الرَّمَلُ إلاَّ في طَوَاف واحدِ من أطْوِفَةِ الْحَجّ وفي ذَلِكَ
الطَّوَافِ قَوْلاَنِ أصَحُّهُمَا عنْدَ الجمهُور أنهُ إِنَّمَا يُسَنُّ في
طَوَاف يَسْتَعْقِبُ السَّعْي (1) والثاني: يُسَنُّ في طَوَاف الْقُدُوم
كَيْفَ كانَ (2) فَتَحَصَّلَ من الْقَولين أنهُ لاَ يَرْمُلُ في طَوَافِ
الْوَدَاعِ بلاَ خِلاَفِ وكذَا لا يَرْمُلُ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ مكَّةَ إلا
بَعْدَ الوُقُوفِ بِلاَ خلافِ في طَوَافِ الإِفَاضَةِ لأَن طَوَافَ
الْقُدُومِ في حَقه انْدرجَ في طَوَافِ الإِفاضَةِ، وكذا يَرْمُلُ مِنْ
قدمَ مكَّةَ معتمراً لوُقُوعِ طَوَافِهِ مُجْزِئاً عن القُدُومِ
واسْتعقَابِهِ السَّعْيَ، وَلَوْ طَافَ للقُدُومِ وَلَمْ يُرد السَّعيَ
بَعدهُ رَمَلَ (3) على الْقَوْلِ الثاني وَلاَ يرمُلُ على الْقَوْلِ
الأَوَّلِ الأصح بل يَرْمُلُ عَقيبَ طَوَافِ الإفَاضَةِ لاسْتعقَابِهِ
السَّعْيَ وإذَا طَافَ لِلقُدومِ ورمَلَ وسَعَى بعدَهُ لا يَرْمُل في
طَوَافِ الإِفاضة وَلَوْ طَافَ للقُدوم ورملَ وَسَعَى عقِيبَهُ فَهَلْ يرمل
في الإِفَاضَةِ أم لا؟ فيه وَجْهانِ، وقيلَ قوْلاَنِ أصَحُّهُمَا لا
يَرْمُلُ لأَنَّهُ ليسَ مُسْتَعْقِباً سَعْياً ولو طافَ وَرَمَلَ ولم
يَسْعَ فالصَّحِيحُ الَّذي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أنهُ يَرْمُلُ في
الإِفاضَةِ لاسْتِعْقَابِهِ السَّعْيَ.
__________
(1) أي وأراده عقبه بالنسبة لطواف القدوم حتى لو أراد بعد طواف القدوم أو
الركن ولو بيومين فأكثر سن له الرمل فيه وعلم من كلامه رحمه الله أنه لا
يسن في طواف القدوم إذا فعله حلال دخل مكة.
(2) قال رحمه الله تعالى في الحاشية: هو ما اختاره السبكي وغيره من جهة
الدليل لأن الأحاديث إنما وردت فيه وَرُدَّ بأن الذي سعى فيه - صلى الله
عليه وسلم - كان في المعنيان لأنه سعى عقبه. اهـ.
(3) أو حرك دابته إنْ كان راكباً أو رمل به حامله لتوجه الطلب إليه.
(1/235)
أْمَّا المكي المُنْشىءُ حَجة مِنْ مَكَّة
فَهُو علَى القَوْلينِ الأصحّ أَنهُ يَرْمُلُ لاسْتِعْقَابِهِ السَّعْي
والثاني لا لِعَدَمِ القُدُومِ وَأمَّا الطَّوَاف الذي هُوَ غيْرُ
طَوَافَيْ القُدُومِ وَالإفَاضَةِ (1) فَلاَ يُسَنّ فِيهِ الرَّمَلُ
وَالاضْطِبَاعُ بِلاَ خِلاَفٍ سَوَاء كَانَ الطَّائفُ حَاجَّاً أوْ
مُعْتَمِراً أوْ غَيْرَهُمَا.
واعلم أنَّ مَا ذَكَرْنَاهُ منَ اسْتحبَابِ القُرْبِ مِنَ البَيتِ في
الطَّوَافِ هُوَ فِي حَق الرَّجُلِ، وَأمَّا الْمَرأة (2) فَيُسْتَحَبُّ
لَهَا أنْ لاَ تَدْنُوَ منْهُ بَلْ تكُونُ في حاشية المَطَافِ ويُسَنُّ
لَهَا أن تَطُوفَ لَيْلاً لأْنَّهُ أسْتَرُ لَهَا وَأصْوَن لَهَا
وَلغيرِهَا مِنَ المُلاَمَسَةِ والْفتنةِ فإنْ كَانَ المطَافُ خالياً عن
النَّاس اسْتُحِبَّ لَهَا الْقُرْبُ كالرجُل.
الرابعة: اسْتلاَمُ الْحَجر الأسْوَدِ وتَقْبيلُهُ وَوَضْعُ الْجَبهةِ
عَلَيْهِ (3) وقد سبقَ بيانُ ذلك (4) ويُسْتَحَبُّ أيضاً أنْ يَسْتلمَ
الرُّكْنَ الْيَمانِيَّ ولا يقبلهُ لكنْ يقَبّلَ يَدَهُ
__________
(1) أي وغير طواف العمرة.
(2) ومثلها الخنثى ولكن لا يختلط بالنساء ولا بالرجال لأنه مع النساء كرجل
ومع الرجال كامرأة.
(3) أي في أول الطواف وفي ابتداء كل طوفة وليحذر المحرم من تقبيل الحجر
الأسود واستلامه والسجود عليه وهو مطيب كما تقدم فإن عجز عن استلامه بيمينه
فبيساره ويقبلهما وإلا فبما في يمينه وإلا فبما في يساره ويقبلهما.
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يدع أنْ
يستلم الحجر والركن اليماني في كل طوافه رواه أحمد وأبو داود رحمهما الله
تعالى، وقد تقدم أيضاً في أول هذا الفصل حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه
قَبل الركن اليماني أي الحجر ثم سجد عليه ثم قَبله إلخ فراجع أول الفصل
تجده.
(4) أي في أول هذا الفصل أي الفصل الثاني في كيفية الطواف فارجع إليه وإلى
التعليق عليه تجد أدلة ما تقدم.
(1/236)
التي اسْتَلَمَهُ بِهَا (1) ويكونُ
تَقْبيلُها بعد الاستلامِ بِهَا هذا هو الصَّحيحُ الذي قالهُ جُمْهُورُ
أصْحَابِنَا وقال إمامُ الحَرَمَيْن: إِنْ شَاءَ قبَّلها ثُمَّ اسْتَلَمَ
بِهَا وَإِن شاءَ اسْتَلَمَ ثُم قَبلَهَا والمُخْتارُ مذْهَبُ الجمهورِ.
وذكرَ القاضي أبُو الطيبِ أَنهُ يُسْتَحَبُّ الجمعُ بينَ الحَجر الأَسوَد
والرُّكْنِ الذي هُوَ فيه في الاسْتِلاَمِ والتقبيل (2) واتَّفَقُوا على
أنَّهُ لا يقبِّلُ ولا يَسْتَلِمُ الرُّكْنَين الآخرَيْن وَهُما
الشَّاميَّانِ لأَنهما ليسا على قَوَاعِد إبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم -
(3) بخلافِ الأسودِ واليَمَانِي (4) ويُسْتَحَب استلامُ الْحَجرِ الأسْوَدِ
وتَقْبيلُه واستلاَمُ اليمَانِي
__________
(1) لعله قياساً على الحجر الأسود.
(2) قال في الحاشية: (غريب ضعيف).
(3) أي لأن الركنين الشاميين ليسا موضوعين على قاعدتي الركنين الشاميين
اللتين وضعهما إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام بل موضوعين على أساس
البيت الذي أسسه، لأن تركينهما وقع على أُسَّيْ الجدارين الناقصين في عرضه
فلذلك لا يستلمان لأن الاستلام للأركان المخصوصة لا لنفس البيت ولا لما وضع
من الأركان على أساسه ولذا قال ابن عباس رضي الله عنهما لمعاوية رضي الله
عنه حين طاف وجعل يستلم الأركان كلها: لِمَ تستلم هذين الركنين ولم يكن
النبي - صلى الله عليه وسلم - يستلمهما؟ فقال معاوية: ليس شيء من البيت
مهجوراً فقال ابن عباس: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) فقال معاوية:
صدقت.
وسبب عدم وضعهما على قاعدتيهما السابقيتن أن قريشاً لما بنت البيت على
هيئته التي هو عليها الآن نقصوا بعضه من الجهة الشامية لما ارتفع البناء
وحاذى وجه الأرض لأنهم لم يجدوا من الأموال الطيبة الحلال ما يفي بالنفقة
وجعلوا على ذلك البعض وما زاد عليه جداراً قصيراً علامة على أنه من البيت
وهو المسمى بالحجر وأخرُوا الركنين الشاميين عن قاعدتيهما السابقتين
وجعلوهما فوق طَرَفَيْ الجدارين الناقصين في عرض البيت.
(4) أي فيقبل الحجر الأسود ويسجد عليه ويستلم والركن اليماني يستلم فقط كما
تقدم في أول هذا الفصل لأنهما موضوعان على قَاعِدتي الركنين اليمانيين
اللتين وضعهما إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام.
(1/237)
وتقبيلُ اليدِ بَعْدَهُ عِنْدَ
مُحَاذَاتِهِمَا فِي كُل طَوْفَة وَهُوَ في الأَوْتَارِ آكد (1) لأَنَّهُما
أفْضَلُ فَإنْ مَنَعته زَحْمَةٌ مِنَ التَّقْبيلِ اقْتَصَرَ على
الاسْتِلاَمِ (2) فإنْ لَمْ يُمْكِنْهُ (3) أشَارَ إلَيْهِ بِيَدهِ (4) أو
بِشَيْء فِي يَدهِ ثُم قَبلَ ما أشارَ بِهِ (5) ولا يُشيرُ بالْفَمِ إلى
__________
(1) وآكدها الأولى والأخيرة وهل الأولى آكد لشرفها ببداءة أو الأخيرة لوقوع
الختم بها أو بهما سواء؟ الأقرب الثالث للتعارض. اهـ تقريرات.
(2) أي باليد بلا حائل إلا لعذر وقيل: ما استلم به الحجر الأسود من يد أو
عصا عند العجز عن الاستلام باليد، لأنه ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه
قبل الحجر الأسود وثبت عنه أنه استلمه بيده ثم قبلها، وثبت عنه أنه استلمه
بمحجن (عصا معكوفة الرأس) ثم قتله كما تقدم ولا يزاحم للتقبيل لقوله - صلى
الله عليه وسلم -: "يا عمر إنك رجل قوي لا تزاحم على الحجر فتؤذي الضعيف
إنْ وجدت خلوة وإلاّ فَهَلِّل وكبر" رواه الإمامان والشافعي وأحمد رحمهما
الله تعالى.
وأما نَصُّ الإمام الشافعي في الأُم على طلب الاستلام أول الطواف وآخره ولو
بالزحام فمحمول على زحام ليس معه ضرر، وأما فعل ابن عمر رضي الله تعالى
عنهما كما في تاريخ الأزرقي رحمه الله تعالى أنه كان لا يدع الركن الأسود
واليماني في كل طواف طافه بهما حتى يستلمهما، حتى لقد زاحم على الركن مرة
في شدة الزحام حتى رعف فخرج فغسل عنه ثم رجع فعاد يزاحم فلم يصل إليه حتى
رعف الثانية فخرج فغسل عنه ثم رجع فما تركه حتى استلمه وبسنده أن عبد الله
بن عمر كان لا يترك استلام الركنين في زحام ولا غيره حتى زاحم عنه يوم
النحر وأصابه دم فقال: قد أخطأنا هذه المرة، فليس بحجة لقوله: لقد أخطأنا
ولمخالفة والده وغيره من الصحب له رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
(3) فإن لم يمكنه أي الاستلام باليد لمشقة شديدة.
(4) أي باليد اليمنى إن قدر وإلا فاليسرى، وقوله أشار إليه أي الحجر وليحذر
المحرم من تقبيل الحجر الأسود ومسه وهو مطيب كما تقدم ويحرم لَحْسُهُ
باللسان كما يفعله بعض العامة إن وصلته رطوبة منه.
(5) قال في الحاشية: هو ما في المجموع ثم قال فيها أيضاً: إن تقبيل ما أشار
به للحجر خالف فيه كثير مِن الشافعية بخلاف نفس الإشارة وجزم في مختصر
الإيضاح كما جزم في شرح بافضل رحمهما الله تعالى بأنه لا يقبل ما أشار به
للركن اليماني فارقاً بينه =
(1/238)
التقْبيل ولا يُسْتَحَب للنساءِ (1)
اسْتلامٌ ولا تَقْبِيلٌ إلا فِي اللَّيْلِ عَنْدَ خُلُوِّ المطَافِ (2).
الخامسةُ: الأذكار المُسْتَحَبةُ فِي الطَّوافِ.
يُسْتَحَب أنْ يقُولَ عندَ استلاَمِ الْحَجر الأسْودِ أولاً وعندَ ابْتداءِ
الطَّوَافِ أيضاً (3) بِسْمِ اللهِ واللهُ أْكْبَرُ اللهُمَّ إيمَاناً بِكَ
وَتَصْدِيقاً بِكَتابِكَ ووفاءً بعهدِك (4) واتباعاً لسنةِ نَبِيك مُحَمدٍ
- صلى الله عليه وسلم -، ويأْتِي بِهَذَا الدُّعَاءِ عِنْدَ مُحَاذَاةِ
الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فِي كُل طَوْفَةٍ قَالَ الشَّافعي رحمهُ اللهُ تعالى:
وَتقُولُ اللهُ أكبرُ ولاَ إلهَ إِلا الله قَالَ: وإنْ ذَكَرَ اللهَ تعالى
وَصَلَّى على النَّبي - صلى الله عليه وسلم - فَحَسَنٌ، قال: وَأُحِب أنْ
__________
= وبين الحجر الأسود بأن الحجر أشرف فاختص بذلك، أقول كما قال سادتي
العلماء رحمهم الله تعالى: كون ركن الحجر أفضل لأن فيه فضيلتين فضيلة كونه
على قاعدة ركن إبراهيم، وفضيلة وجود الحجر به، واليماني فيه فضيلة واحدة
وهي كونه على قاعدة ركن إبراهيم على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام.
(1) أي والخناثي فلا يسن لهم أيضاً ذلك إلا عند خلو المطاف عن الرجال
والنساء جميعاً لأنهم مع النساء كرجال ومع الرجال كنساء كما تقدم قريباً
والله أعلم.
(2) المراد بخلو المطاف خلوه من ناحية الاستلام فقط بأن يأمن النساء
والخناثي مجيء ونظر رجل غير محرم من تلك الناحية ليلاً أو نهاراً وتعبيره
رحمه الله تعالى بالليل للغالب من خلو المطاف فيه ولمحل الحجر الأسود لو
أزيل والعياذ بالله تعالى حكمه من استلام وغيره ولو جعل الحجر الأسود في
محل آخر من البيت فلا تنتقل الأحكام إليه كما تقدم.
(3) وهو ما نقله في المجموع عن الشافعي والأصحاب رحمهم الله ورحمنا معهم
آمين. وأما رفع اليدين حذو المنكبين في الابتداء كالصلاة فجعله بعضهم بدعة
وجعله بعضهم سنة قياساً على الصلاة.
(4) المراد بالعهد (هو المأخوذ يوم: ألست بربكم) لما قيل من أنه كتب وأدرج
في الحجر كما تقدم والله أعلم.
(1/239)
يقُولَ (1) فِي رَمَلِهِ: اللَّهُمَّ
اجْعَلْهُ حَجاً مَبْرُوراً وذَنْباً مَغْفُوراً وَسَعْياً مَشكُوراً،
قَالَ وَيقُولُ فِي الأَرْبَعَةِ الأَخِيرَةِ: اللَهُمَ اغْفِرْ وارْحَمْ
واعْفُ عَمَّا تَعْلَمُ وأنْتَ الأَعَزُّ الأَكْرَمُ، اللَّهُمَّ رَبنَا
آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةَ (2) وفي الآخِرَةِ حسنةَ وقِنَا عَذَابَ
النَّارِ.
وَقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحَيْنِ عن أنَسٍ رضي الله عنهُ قَالَ: كَانَ
أكْثَرُ دُعَاءِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم -: "اللَهُمَ آتِنَا في
الدنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَةِ حسنةَ وقِنَا عَذَابَ النَّارِ". قَالَ
الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى هَذا أحَبُّ ما يقالُ في الطَّوَافِ
قَالَ: وأحبُّ أنْ يقالَ فِي كُلهِ، قَالَ أصْحَابُنَا وَهُوَ فيمَا بَيْنَ
الرُّكْنِ الْيَمَانِي والأَسْوَدِ آكَدُ ويَدْعُو فِيمَا بين طَوْفَاتِهِ
بِمَا أحَبَّ (3) من دينٍ ودنيا لنفسه ولمن أحبَّ وَلِلْمُسْلِمِينَ (4)
عَامَّةَ، وَلَوْ دَعَا وَاحِدٌ وأمَّنَ جَمَاعَةٌ فَحَسَنٌ (5)
وَيَنْبَغِي الاجتهَادُ فِي ذَلِكَ الْمَوْطِنِ الشريف وَقَدْ جَاءَ عَنِ
الْحَسَنِ الْبَصْرِي رحمَهُ الله تعالى أَنهُ قال في رسالَتِهِ
المشْهُورَةِ إلى أَهْلِ مكَّةَ: إنَّ الدُّعَاءَ يُسْتَجَابُ هُنَاكَ في
خمسةَ عَشَرَ مَوْضعاً: في الطَّوافِ وعِنْدَ المُلْتَزَمِ وتَحْتَ
الميزَابِ وَفِي الْبَيْتِ وعِنْدَ زَمْزَمَ وَعَلَى الصَّفَا والمَرْوةَ
وفِي السَّعْي وخَلْفَ المقَامِ وفي عَرَفَات وَفِي المُزْدَلِفَةِ وَفِي
مِنى وعندَ الْجَمَرَاتِ الثَّلاث.
__________
(1) أي الحاج والمعتمر لأن العمرة تُسَمى حَجاً لغة، بل قال الصيدلاني رحمه
الله كما في الحاشية: بأنها تسمى حجاً شرعاً لقوله -صلى الله عليه وسلم -:
"العمرة هي الحج الأصغر".
(2) الحسنة في الدنيا: كل خير دنيوي أو ديني أو ما يجر إليهما، وفي الآخرة:
كل مستلذ أخروي متعلق بالروح والبدن جعلنا الله والمسلمين والمسلمات من
أهلها في الدنيا والآخرة آمين.
(3) أي ندباً إنْ كان بديني وجوازاً إنْ كان بدنيوي مباح ويصلي ويسلم على
النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن ذَلِك مستحب في جميع الأحوال ففي حالة
تلبسه بهذه العبادة أولى.
(4) أي والمسلمات فهو من باب التغليب.
(5) هذا أولى مما يفعل الآن من الترديد.
(1/240)
ومَذْهَبُ الشَّافِعِي رحمه اللهُ تعالى
أنهُ يُسْتَحَبُّ قِرَاءةُ القُرْآنِ فِي طَوَافِهِ (1) لأَنهُ مَوْضعُ
ذِكْرِ والْقُرْآنِ أعْظَمُ الذكرِ (2) قال أصْحَابُنا وقراءة القرآن في
الطَّوَافِ أفْضَلُ مِنَ الدُّعَاءِ غَيْر المأثُور (3) وأمَّا المأثورُ
فهو أفضلُ منها (4) عَلَى الصَّحيحِ وَقَال أبو عبدِ الله الحلِيمي مِنْ
أصحَابِنَا لا تُسْتَحب القرَاءةُ في الطَّوَافِ والصَّحِيحُ ما قَدمنَاهُ،
قَالَ الشَّيْخُ أبُو مُحمَّدٍ الجُوينيُّ: ويَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَخْتِمَ
فِي أيامِ الْمَوْسِمِ في طَوافِهِ ختْمَةً (5).
__________
(1) وبه قال الإِمام أبو حنيفة وكره الإِمام مالك القراءة في الطواف، وعن
الإِمام أحمد روايتان كالمذهبين.
(2) أقول: كما في المجموع ومما يستدل به لتفضيل قراءة القرآن حديث أبي سعيد
الخدري رضي الله تعالى عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقول
الرب سبحانه وتعالى: مَنْ شَغَلَهُ ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطى
السائلين، وفضل كلام الله سبحانه وتعالى على سائر الكلام كفضل الله على
خلقه". رواه الترمذي وقال: حديث حسن والأحاديث في ترجيح القراءة كثيرة.
(3) المأثور ما نقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أو عن أحد من أصحابه رضي
الله تعالى عنهم لكن المراد بالمأثور هنا ما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم
- فقط.
(4) أي أن الاشتغال بالمأثور في مواضعه وأوقاته أفضل من الاشتغال بقراءة
القرآن ولهذا أمَرَ بالذكر في الركوع والسجود ونهى عن القراءة فيهما. قال
في الحاشية: واعلم أن التفضيل بين القرآن وغيره إنما هو من حيث إن الاشتغال
بغيره قد يكون أفضل من الاشتغال به لعارض وإلا فذات القرآن أفضل قطعاً
مطلقاً. اهـ. فإنْ قيل خبر مسلم رحمه الله: (أحب الكلام إلى الله تعالى
أربع: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، لا يضرك
بأيهن بدأت) يدل على أن هذا أفضل الكلام.
أجيب: كما في الحاشية بأن الحديث محمول على أن المراد أحبه من كلام
الآدميين. اهـ.
(5) قال إبراهيم النخعي رحمه الله كما في الحاشية: كان يعجبهم إذا قدموا
مكة أنْ لا يخرجوا حتى يختم القرآن. وفقنا الله لتلاوته آناء الليل والنهار
مع الإخلاص له تعالى آمين.
(1/241)
السَّادِسَةُ: المُوَالاةُ بَيْنَ
الطَّوْفاتِ (1) سنةٌ مُؤَكدَةٌ ليْسَتْ بوَاجِبَة عَلَى الأصَح وَفِي
قَوْلٍ هِيَ واجبة (2) فَيَنْبَغِي أنْ لا يُفَرِّقَ بَيْنَهَا بشيءٍ سِوَى
تَفْريقِ يسير فَإنْ فرَّقَ كثيراً وَهُوَ مَا يَظُنُّ النَّاظرُ إلَيْهِ
أَنهُ قَطَعَ طَوَافَهُ أو فَرَغَ منه فالأحْوَطُ أنْ يَسْتأنِف (3)
ليَخْرُجَ مِنَ الخِلاَفِ وإنْ بَنَى عَلَى الأولِ ولَم يَسْتأنفِ جَازَ
عَلى الأصحِّ وإذَا أحْدثَ في الطَّوافِ عَمْداً أو غَيْرَ عَمْدٍ
وتَوَضَّأ وَبَنَى عَلَى مَا فَعَلَ جَازَ على الأَصَح والأَحْوَطُ
الاستئنافُ وَإِذا أُقيمَتِ الْجَمَاعَةُ المكْتُوبةُ (4) وهُوَ فِي
الطَّوافِ أوْ عَرَضَتْ حَاجَةٌ ماسَّةٌ (5) قَطَعَ الطَّوَافَ (6) لذلكَ
فإذا فَرَغَ بَنَى والاسْتِئْنَافُ أفْضَلُ ويُكْرَهُ قَطْعُهُ بلا سَبَبٍ
وَهُوَ مِثْلُ هذا حَتَّى يُكْرَهُ قَطْعُ الطَّوَافِ الْمَفْرُوضِ
لِصَلاَةِ جنازة (7) أوْ لِصَلاَةِ نافلةٍ راتبةٍ.
السابعة: أنْ يكُونَ في طَوَافِهِ خاضعاً مُتَخَشِّعاً حَاضِرَ القَلْبِ
مُلاَزمَ الأَدَبِ
__________
(1) أي بين خطا الطوفة، وبين الطواف وسننه وبينها وبين استلام الحجر وبينه
وبين السعي.
(2) هو مذهب الحنابلة فعندهم لو قطع الطواف بفصل طويل عرفاً ولو سهواً أو
لعذر لم يجزئه لأنه - صلى الله عليه وسلم - والى بين طوافه وقال: "خذوا عني
مناسككم".
(3) أي إذا كان التفريق كثيراً ولو بعذر.
(4) أي المؤداة إن لم يخش فوتها ففارق الطواف صلاة النافلة فإنه لا يسن
قطعها إلا إنْ خشي فوت الجماعة وسبب التفريق أن قطعها يبطلها بخلافه.
(5) أي كشرب من ذهب خشوعه بعطشه.
(6) أي الطواف الفرض أو النفل، وحيث قطعه فالأولى قطعه عن وتر وكونه من عند
الحجر الأسود (فإن قيل): يشكل عليه ما سيذكره من كراهة قطع الفرض لصلاة
الجنازة غير المعينة عليه مع كونها فرض كفاية، والجماعة كذلك فلم كره القطع
للأولى دون الثانية؟ أجيب: كما في الحاشية بأن أمر الجماعة آكد ألا ترى
أنهم جوّزوا قطع الصلاة المفروضة لها دون الجنازة. اهـ.
(7) أي لم تتعين عليه.
(1/242)
بظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ وَفِي حَرَكَتِهِ
ونَظَرِهِ (1) وهَيْئَتِهِ، فَإنَّ الطَّوَافَ صَلاَةٌ فَيَنْبَغِي أنْ
يتأدَّبَ بآدَابِهَا وَيَسْتشعرَ بِقَلْبِهِ عَظَمَةَ مِنْ يطوفُ بَيْتَهُ،
ويُكْرَهُ له الأكْلُ والشُّرْبُ (2) في الطَّوَافِ وكَرَاهَةُ الشُّرْبِ
أخَف وَلَوْ فَعَلَهُمَا لَمْ يَبْطُلْ طَوَافُهُ، ويُكْرَهُ أنْ يَضَعَ
يَدَهُ عَلَى فَمِهِ كما يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الصلاَةِ إلاَّ أنْ يَحْتاجَ
إِلَيْهِ أو يتثاءب فَإن السُنَّةَ وَضْعُ الْيَدِ عَلَى الْفَمِ عِنْدَ
التثَاؤُبِ.
وُيْسْتَحَب أَنْ لاَ يَتكَلَّمَ فِيهِ بِغَيْرِ الذكْرِ إِلاَّ كَلاَماً
هُوَ مَحْبُوبٌ (3) كَأمْرٍ بمَعْرُوفٍ أوْ نَهْي عَنْ مُنكرٍ أوْ
لِفَائِدَة علم لاَ يَطُولُ الكَلاَمُ فِيهِ وَيُكْرَهُ أنْ يُشبِّكَ
أَصَابِعَهُ أو يُفَرْقعَ (4) بِهَا كَمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فِي الصَّلاَةِ
ويُكْرَهُ أنْ يَطُوفَ وَهُوَ يُدَافع البوْلَ أوْ الغَائطَ أو الرِّيحَ
أوْ وهُوَ شَديدُ التَّوقْانِ (5) إِلَى الأَكْلِ وَمَا في مَعْنى ذَلِكَ
(6) كما تُكْرَهُ الصَّلاَةُ في هَذه الأَحْوالِ.
__________
(1) أي بأنْ يكون غاض الطَّرْفِ ناظراً إلى أرض المطاف دون السماء والكعبة.
(2) أي إلا لعذر لأنه صَح أنه - صلى الله عليه وسلم - شرب ماءً لشدة عطشه
أو لبيان الجواز كما يدل عليه خبر الدارقطني رحمه الله تعالى كما في
الحاشية.
(3) أي مشروع ليشمل الواجب كأمر بواجب أو نهى عن محرم وإنْ طال الكلام فيه،
والمندوب كأمر بمندوب أو نهى عن مكروه والمحبوب كالسلام على صاحبه والسؤال
عن حاله وأهله إذا لم يطل الكلام فيه.
(4) لأنهما يدلان على الكسل.
(5) أي الشوق.
(6) منه شدة توقانه إلى الشرب ومنه أن لا يبصق في الطواف أو يتنخم لغير
حاجة مع عدم إصابة المسجد بشيء من البصاق وإلا حرم، فإن تفل أو تنخم لحاجة
فلا كراهة فيتفل في نحو ذيل ثوبه أو منديله متجهاً بوجهه للأرض لا للكعبة
لحرمتها ولا ليمينه لكراهته ومنه سائر مكروهات الصلاة التي تتأتى هنا كوضع
اليد على الخاصرة والمشي على رجل.
(1/243)
وَيَجبُ أَنْ يَصُونَ نَظَره عَمّا لا
يحلُّ لَهُ النَّظَرُ إِليهِ مِنْ امْرَأة وأَمْرَد حَسَنِ الصُّورَةِ (1)
فإنَّهُ يَحْرُمُ النظَرُ إِلى الأَمْرَدِ الْحَسنِ بكُلّ حَال (2) إِلاَّ
لِحَاجَة، شَرْعية كَحَالِ الْمُعَامَلَةِ ونحوِهَا مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ
إِلى المَرْأةِ للحَاجَةِ، فَلْيَحْذَرْ ذَلِكَ لاَ سِيّمَا فِي هَذه
المَوَاطِنِ الشَّريفَةِ ويَصون نَظَرَهُ وقَلْبَهُ عَن احْتِقَارِ مَنْ
يَرَاهُ من ضُعَفَاء المسْلِمينَ أوْ غَيْرِهِم كَمَنْ في بَدَنِهِ نَقْصٌ
أو جَهِلَ شَيْئاً منَ الْمَنَاسِكِ أو غَلَطَ فِيهِ فَيَنْبَغِي أنْ
يُعَلِّمَهُ ذَلِكَ بِرِفْق. وَقَدْ جَاءَتْ أشْيَاءٌ كَثِيرَةٌ (3) فِي
تَعْجِيلِ عُقُوبةِ كَثِيرينَ أسَاؤوا الأدب فِي الطَّوافِ ونَحْوِهِ
وهَذَا الأَمْرُ مِمَّا يَتَأكَّدُ الاعْتِنَاءُ بِهِ فَإنَّهُ مِنْ أشَد
القَبَائح فِي أشْرَفِ الأمَاكِنِ وبالله التَّوْفِيقُ وَالعَوْنُ
والعِصْمَةُ.
الثَّامِنَةُ: إذا فَرَغَ مِنَ الطَّوَافِ صَلى رَكْعَتَي الطَّوَافِ
وَهُمَا سُنَّةٌ مُؤكَّدةٌ على الأصَحِّ وفي قَوْل هُمَا وَاجِبَتَان (4).
__________
(1) لخص المعلق رحمه الله تعالى ما في الحاشية بقوله: تقييد الحسن بالعرف
فيما بظهر ويحتمل الرجوع إلى طبع الناظر وما يستحسنه ولهذا اختلفوا في
الملاحة هل هي وصف قائم بالذات أو مختلفة باختلاف الطباع والأصح الثاني،
وعلى الأصح فالراجح الاحتمال لا الاستظهار والله أعلم.
(2) أي ديني أو دنيوي إذا كان النظر بشهوة أو خوف فتنة من غير محرم أو
مملوك فإنْ انتفيا جاز كالنظر لنحو تعليم ونحوه.
(3) منها كما في الحاشية: أنّ رجلاً كان في الطواف فبرق له ساعد امرأة فوضع
ساعده عليه متلذذاً به فالتصق ساعداهما فأتى بعض الشيوخ فقال له: ارجع إلى
المحل الذي فعلت به هذا وعاهد رب البيت أن لا تعود ففعل فَخُلي عنه، وقضية
إساف لما فَجَرَ بنائلة أو قَبلها كما في رواية أخرى في البيت فمسخا حجرين
والمرأة التي جاءت إلى البيت تعوذ بربه مِنْ ظالم فمد يده إليها فصار أشل،
والرجل الذي سالت عينه على خده من نظره إلى شخص استحسنه وغير ذلك. اهـ.
(4) محله في طواف الفرض، وإلا لم يجبا قطعاً.
(1/244)
والسُّنَّةُ أنْ يُصَليَهُمَا خَلْفَ
المَقَام (1) فَإنْ لم يُصَلهِمَا خَلْفَ الْمَقَامِ لِزَحْمَةٍ أوْ
غَيْرِها صَلاهُمَا فِي الحِجْرِ (2) فَإنْ لمْ يَفْعَلْ فَفِي الْمَسْجِدِ
وَإِلاَّ فَفِي الْحَرَمِ (3) وَإِلاَّ فَخَارِجَ الْحَرَمِ وَلاَ يتعَيّن
لَهُمَا مَكَان وَلاَ زَمَان بَلْ يَجُوزُ أنْ يُصَلّيَهُمَا بَعْدَ
رُجُوعِهِ إِلى وَطَنِهِ وَفِي غَيْرِهِ ولا يفُوتَانِ مَا دَامَ حَيَّاً
وَسواء قُلْنَا هُمَا واجِبَتَان أو سُنَّتان فَلَيْسا رُكْناً في
الطَّوَافِ ولا شَرْطاً لصحَّتِهِ بَلْ يَصحُّ بِدُونِهِمَا ولا يُجْبَرُ
تأخِيرُهُما (4) ولاَ تَرْكُهُمَا بِدَم وَلاَ غَيْرِهِ، لَكِنْ قَالَ
الشَّافِعِي رحمهُ اللهُ تَعَالَى يُسْتَحَب إذا أَخَّرَهُما (5) أن يُريقَ
دَماً.
وتَمْتَازُ هَذِهِ الصَّلاَةُ عَنْ غَيْرهَا بِشَيْء (6) وهُوَ أنها
تَدْخُلَهَا النيَابةُ، فَإنَّ
__________
(1) أي مقام أبينا إبراهيم على نبينا وعليه الصلاة والسلام لقوله تعالى:
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]
وللاتباع، والمراد بالمقام هنا الحجَر الذي كان يقوم عليه عند بنائه
للكعبة، وقدماه مؤثرتان فيه، وهذه آية من الله تعالى فيجعل المصلي المقام
بينه وبين البيت.
(2) بكسر الحاء وسكون الجيم كما تقدم. قال في الحاشية: أي تحت الميزاب، كما
في المجموع وغيره فهو أفضل أجزاء الحِجْر لقول ابن عباس رضي الله عنهما أنه
مُصَلَّى الأخيار، ثم قال: والذي يظهر أن فعلهما داخل الكعبة أفضل من
فعلهما تحته، لأنه قطعي وما تحت الميزاب ظني. اهـ.
(3) أي ففي بقية مكة ثم في بقية الحرم.
(4) لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صلاهما بذي طوى، وأخرَتْ أم سلمة رضي
الله عنها الركعتين حين طافت راكبة بأمر النبي - صلى الله عليه وسلم -.
(5) قال في الحاشية: ويظهر ضبط التأخير بما تنقطع به نسبتهما عنه عرفاً.
(6) ضَمَّ إليه توقيتها ابتداء بالفراغ من الطواف لا انتهاءً فإنه لا
انتهاء لوقتهما وأفضلية فعلها خلف المقام عليه في الكعبة للاتباع، وتداخلها
إذا فعلها بعد أسابيع إذا ليس لنا صلاة يتكرر سببها وتتداخل إلا هذه. فلو
طاف طوافين أو أكثر بلا صلاة خلف كل أسبوع ثم صلى للكل ركعتين جاز بلا
كراهة لكنه ترك الأفضل هذا الحكم على القول بسنيتهما كذا في الحاشية.
(1/245)
الأجِيرَ (1) يصليهما عَنِ الْمستَأجِرِ
(2) هذَا هُوَ الأَصَحُّ، وَمِنْ أصحَابِنَا مَنْ قَالَ إِنَّ صَلاَةَ
الأجِيرِ تَقَعُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ أَرَادَ أنْ يَطُوفَ طَوافَيْنِ أوْ
أكْثَرَ اسْتُحِبَّ لَهُ أنْ يُصَلِّيَ عَقِبَ كُل طَوَافٍ رَكْعَتَين
فَلَوْ طَافَ طَوافَيْنِ أوْ أكثَر بِلاَ صَلاة ثُمَّ صَلَّى لكلِّ طَوَاف
رَكْعَتَيْن جازَ (3) لَكِنْ تَرَكَ الأَفْضَلَ (4) وَيُسْتَحَب أنْ يقْرَأ
فِي الرَّكْعَةِ الأُولى منْهُمَا بعد الْفَاتِحَة: {يَا أَيُّهَا
الْكَافِرُونَ (1)} وَفِي الثَّانِية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1)}
ويَجْهَر (5) بِالْقِرَاءَةِ إِنْ صَلاهُمَا لَيْلاً (6) ويُسرُّ إنْ كَانَ
نَهَاراً.
وَإِذَا قُلْنَا إنَّهُمَا سُنَّة (7) فَصَلَّى فَريضَة بعدَ الطَّوافِ
أجْزأهُ (8) عَنْهُمَا كَتَحِيَّةِ المسجد نَصَّ عليه الشافعي رضي الله عنه
في القديم (9) وقالَه الصَّيْدَلاَنِي مِنْ
__________
(1) مثل الأجير ولي غير المميز والمجنون.
(2) ولو معضوباً لأن هذه الصلاة تفعل عن المحجوج عنه تبعاً للطواف حياً كان
أو ميتاً.
(3) هو مذهب الحنابلة لفعل عائشة والمِسْوَر بن مخرمة، وكرهه ابن عمر
والحسن والزهري ومالك وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى الجميع.
(4) قال في الحاشية: يكفي أيضاً ركعتان عن جميع الأسابيع من غير كراهة كما
في المجموع بناءً على أنها سنة، وإلا لم يكف وقد علمت أن هذا مما انفردت به
سنة الطواف. اهـ. أقول: قد تقدم هذا قريباً في جملة ما تمتاز به هذه
الصلاة.
(5) أي يسمع غيره ولا يزيد عليه إنْ شوش على أحدٍ، وأما التوسط بين الجهر
والإسرار وهو أول مراتب الجهر فمحله في النافلة المطلقة.
(6) أي وما يتبعه من الفجر إلى طلوع الشمس.
(7) هو المنقول المعتمد.
(8) أي فعل الفريضة ومثلها كل نافلة فتجزىء عنها في إسقاط الطلب ما لم
ينفهما وكذا في حصول الثواب إن نويتا نظير ما مَرّ في صلاة الاستخارة وسنة
الإحرام.
(9) هو مذهب الحنابلة وعن الإِمام أحمد يصليهما بعد المكتوبة وأوجبها
الإِمامان مالك وأبو حنيفة كركعتي الفجر رحم الله الجميع.
(1/246)
أصْحابِنا (1) واسْتَبْعَدَهُ إمَامُ
الْحَرَمَيْنِ (2): وَالاحْتياط أنْ يُصَلِّيَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ (3)
وَالله تَعَالَى أعْلَمُ، وَيُستحبُّ أنْ يَدْعُوَ عَقِيبَ صَلاَتِهِ هذه
خَلْفَ الْمَقَامِ بِمَا أحَب (4) مِن أُمُورِ الآخرة والدُنْيا.
__________
(1) قال في الحاشية: وقوله وقاله الصيدلاني من أصحابنا: أفاد في المجموع
أنّ الصيدلاني لم ينفرد بذلك بل ذكره جماهير الأصحاب وعَدَّدَ منهم جماعة.
اهـ. أقول: لعل صحة العبارة ما في الحاشية والله أعلم.
(2) رَدَّه في المجموع كما في الحاشية بأنه شَاذٌ وبأن دعواه انفراد
الصيدلاني به عجيب.
(3) أي بعد فِعْل الفريضة خروجاً من خلاف مَنْ أوجبهما.
(4) قال في الحاشية أي بعد دعائه بما ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - وهو:
اللهم هذا بلدك الحرام والمسجد الحرام وبيتك الحرام وأنا عبدك وابن عبدك
وابن أمتك، أتيتك بذنوب كثيرة وخطايا جمة وأعمال سيئة وهذا مقام العائذ بك
من النار فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم إنك دعوت عبادك إلى بيتك
الحرام وقد جئت طالباً رحمتك مبتغياً مرضاتك وأنت الغفور، وأنت مننت علي
بذلك فاغفر لي وارحمني إنك على كل شيء قدير، وأخرج ابن الجوزي كالأزرقي خبر
أن آدم لما أهبط طاف بالبيت سبعاً وصلى خلف المقام ركعتين ثم قال: اللهم
إنك تعلم سري وعلانيتي فاقبل معذرتي، وإنك تعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم
ما عندي فاغفر لي ذنوبي، اللهم إني أسالك إيماناً يباشر قلبي ويقيناً
صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبت لي، وأرضني بما قضيته عليّ،
فأوحى الله تعالى إليه: قد دعوتني دعاء أستجيب لك به ولن يدعوني أحد من
ذريتك من بعدك إلاّ استجبت له وغفرت له ذنوبه وفرجت همومه واتجرت له من
وراء كل تاجر وأتته الدنيا وهي راغمة وإن كان لا يريدها، وفي رواية: أنه
دعا بذلك في الملتزم. وفي كتاب ابن أبي الدنيا إنه دعا بنحوه بين اليمانيين
ولا منافاة لاحتمال أنه كرر الدعاء به في تلك الأماكن. اهـ.
(فائدة): نقل الأزرقي عن جمع من السلف أن موضع المقام الآن هو موضعه في
الجاهلية وفي عهده - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما ثم
ذهب به السيل في خلافة عمر فجعل في وجه الكعبة حتى قدم عمر من المدينة فرده
بمحضر من الناس، وقول مالك: =
(1/247)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= إنه كان في عهده - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر ملصقاً بالبيت اعترضه
المحب الطبري بأن سياق حديث جابر رضي الله عنه الصحيح الطويل، وما روى عنه
يشهد للأول.
قال: وقد ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - صلى ركعتي الطواف في أماكن حول
البيت كحاشية المطاف تجاه الحجر الأسود وحاشيته مما يلي باب العمرة وقريب
من الركن الذي يلي الحجر من جهة باب الكعبة انتهى.
واعترض بأن دليل الثاني والثالث ليس فيه التقييد بركعتي الطواف وعلى تسليمه
فينبغي أن يكون فعل ركعتي الطواف بأحد هذه الثلاثة أولى من بقية المسجد بل
ينبغي أن كل محل ورد عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى فيه ولو نفلاً
مطلقاً أن يكون أفضل من غيره ذلك كما ذكره المحب عند باب الكعبة لحديث:
أمني جبريل عند بابها، وفي وجهها لحديث: فلما خرج أي النبي - صلى الله عليه
وسلم - منها ركع قِبل البيت، واعترضه التقي الفاسي بأن كلامه يوهم
اختلافهما والذي يدل عليه كلام الأزرقي اتحادهما ثم حكى فيه خلافاً هل هو
عندها في نصف الحفرة المرخمة في وجهها مما يلي الحجر بسكون الجيم أو خارج
الحفرة مقدار ذراعين وثلثي ذراع بالحديد مما يلي الحفرة من جهة الحجر بسكون
الجيم أيضاً ثم حكى عن ابن خليل المكي ما يؤيد الثاني وعن ابن عبد السلام،
وارتضاه ابن عجيل اليمني وقال: إنه حققه بطريق الكشف أن صلاة جبريل بالنبي
- صلى الله عليه وسلم - الصلوات الخمس حين فرضت كانت بتلك الحفرة وهو يؤيد
الأول لكن قال ابن جماعة: لم أر ذلك لغير ابن عبد السلام وفيه بعد انتهى.
والذى يميل إليه كلام التقي الفاسي موافقة ابن عبد السلام وترجيح الأول ومن
ذلك بين اليمانيين، فالصلاة في هذه الأماكن فرضها ونفلها إذا لم يعارضها
موقف في صف أول ونحوه أفضل منها في غيرها سواء سنة الطواف وغيرها وبذلك مع
ما قدمته يعلم ما في قول المصنف وغيره فإن لم تفعل ففي المسجد. اهـ حاشية.
(فائدة أخرى): قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام: الطواف أفضل أركان الحج
حتى الوقوف لأنه مشبه بالصلاة ومشتمل عليها والصلاة أفضل من الحج والمشتمل
على الأفضل أفضل ولا حجة في خبر: الحج عرفة على أفضلية الوقوف لأنا نقدر
أمراً مجمعاً عليه وهو إدراك الحج وقوف عرفة انتهى. ولك أن تقول ورد في
الوقوف من حقائق القرب ولطائف الإِحسان ما لم يرد في غيره وكونه مشبهاً
بالصلاة لا يقتضي أفضليته على =
(1/248)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= الوقوف وكون المشتمل على الأفضل أفضل ممنوع، وتقدير ما ذكر في الخبر لا
دليل عليه ثم رأيته في الجواهر مع كونه نقل ما ذكره الشيخ هنا عنه قال بعد
ذلك بأوراق: الوقوف أعظم أركان الحج وهو ظاهر فيما ذكرته وإن أمكن تأويله
بما يوافق الشيخ، رأيت الزركشي قال بعد كلام الشيخ: وفيه نظر، بل أفضلها
الوقوف، لخبر: الحج عرفة، ولهذا لا يفوت الحج إلا بفواته، ولم يرد غفران
الذنوب في شيء ما ورد فيه، فالصواب القطع بأنه أفضل الأركان انتهى.
وقول شيخنا زكريا: الأوجه ما قاله ابن عبد السلام لتصريح الأصحاب بأن
الطواف قربه في نفسه بخلاف الوقوف فيه نظر فإنه وإن كان كذلك لكنه اختص
بخصوصيات لم يشركه فيها غيره قيل: ويمكن الجمع بين الكلامين انتهى. وكان
وجهه أن الوقوف أعظم من حيث توقف حصول الحج عليه وفواته بفواته بخلاف
الطواف والطواف أفضل من حيث أنه يشترط فيه من شروط الصلاة ما لا يشترط في
الوقوف وهذا وإن كان له وجه لكن المقام يأباه. اهـ حاشية.
مذاهب العلماء في مسائل تتعلق بالطواف مأخوذة من المجموع للإمام النووي ومن
كتاب رحمة الأمة
1 - أجمعوا على أن الطواف في الأوقات المنهي عن الصلاة فيها جائز، وأما
صلاة الطواف فمذهب الشافعية جوازها في جميع الأوقات بلا كراهة، وهو مذهب
الحنابلة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً
طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاءَ من ليل أو نهار" رواه أحمد وأصحاب السنن
وغيرهم. وحجة مخالفيهم عموم الأحاديث الواردة في النهي عن الصلاة في أوقات
النهي.
2 - يستحب عند المسلمين استلام الحجر الأسود، ويستحب عند الشافعية مع ذلك
تقبيله والسجود عليه بوضع الجبهة كما سبق بيانه فإنْ عجز عن تقبيله استلمه
بيده ثم قبلها وبه قال الإِمام أحمد، وقال الإِمام مالك: يضع يده على فيه
من غير تقبيل. قال في كتاب الرحمة: وقال الإمام أبو حنيفة: لا يستلمه. اهـ.
قال ابن المنذر رحمه الله تعالى: وبالأول أقول: لأن أصحابه - صلى الله عليه
وسلم - فعلوه وتبعهم جملة الناس. ورويناه أيضاً عن النبي - صلى الله عليه
وسلم -: "وأما السجود على الحجر الأسود" فقال به الشافعي وأحمد. قال ابن
المنذر: وبه أقول قال: وقد روينا فيه عنه - صلى الله عليه وسلم - وقال
مالك: هو بدعة. =
(1/249)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . .
__________
= 3 - أما الركن اليماني فعند الشافعية يستحب استلامه ولا يقبل بل تقبل
اليد بعد استلامه، وقال أبو حنيفة: لا يستلمه. وقال مالك وأحمد: يستلمه ولا
يقبل اليد بعده بل يضعها على فيه، وعن مالك رواية أنه يقبل يده بعده. قال
العبدري: وروى عن أحمد أنه يقبله.
4 - أما الركنان الشاميان وهما اللذان يليان الحِجْر فلا يقبلان ولا
يستلمان عند الشافعية وبه قال جمهور العلماء وهو مذهب الأئمة الثلاثة رحم
الله الجميع.
5 - الاضطباع والرمل مستحب عند الثلاثة وأنكره الإمام مالك كما تقدم.
6 - اشتراط الطهارة عن الحدثين والنجس وستر العورة عند الثلاثة شرط خلافاً
لأبي حنيفة كما تقدم.
7 - استحباب قراءة القرآن في الطواف هو قول جمهور العلماء، منهم الشافعية
وأحمد في الرواية الثانية عنه.
8 - الترتيب بأنْ يجعل البيت عن يساره ويطوف على يمينه تلقاء وجهه، فإنْ
عكسه لم يصح، وبه قالت الشافعية ومالك وأحمد وجمهور العلماء، وقال أبو
حنيفة: يعيده إنْ كان بمكة، فإنْ رجع إلى وطنه ولم يعده لزمه دم وأجزأه
طوافه.
9 - الطواف في الحجر لا يصح وبه قال جمهور العلماء ومنهم الأئمة الثلاثة،
وقال أبو حنيفة: إنْ كان بمكة أعاد، وإنْ رجع إلى وطنه بلا إعادة أراق
دماً، وأجزأه طوافه.
10 - إذا حضرت جنازة والطائف في أثناء الطواف فعند الشافعية إتمام الطواف
أولى، وبه قال مالك وابن المنذر وعطاء وعمرو بن دينار، وقال أبو حنيفة:
يخرج لها.
11 - لو حمل محرم محرماً وطاف به ونوى كل واحد منهما الطواف عن نفسه فعند
الشافعية ثلاثة أقوال: (أصحها) يقع الطواف للحامل (الثاني) للمحمول
(الثالث) لهما وممن قال لهما أبو حنيفة وابن المنذر، وقال مالك للحامل وعن
أحمد روايتان رواية للحامل ورواية لهما.
12 - مذهب الثلاثة يكفي للقارن لحجه وعمرته طواف واحد وسعي واحد كما تقدم.
وقال أبو حنيفة: يلزمه طوافان وسعيان وحكى هذا عن علي وابن مسعود، قال ابن
المنذر: لا يصح هذا عن علي رضي الله عنه.
13 - إذا كان على الشخص طواف فرض فنوى بطوافه غيره انصرف إلى الفرض نَص =
(1/250)
|