الدرر البهية والروضة الندية والتعليقات الرضية

 (الكتاب الثاني عشر: كتاب النذر)

(3/5)


(12 - كتاب النذر)
( [متى يصح النذر؟] :)
(إنما يصح إذا ابتغي به وجه الله، فلا بد أن يكون قربة، ولا نذر في معصية الله) ؛ لأنه قد ورد النهي عن النذر؛ كما في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن عمر قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النذر، وقال: " إنه لا يرد شيئا، وإنما يستخرج به من مال البخيل ".
وفيهما أيضا من حديث أبي هريرة نحوه.
ثم ورد الإذن بالنذر في الطاعة، والنهي عنه في المعصية؛ كما في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصيه فلا يعصه "؛ وعلى ذلك يحمل قوله - تعالى -: {يوفون بالنذر} .
وقد أخرج الطبري بسند صحيح، عن قتادة في قوله - تعالى -: {يوفون بالنذر} ، قال: كانوا ينذرون طاعة الله من الصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، والعمرة، وما افترض عليهم، فسماهم الله أبرارا.
وورد بلفظ الحصر: أنه لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله؛ كما أخرجه

(3/7)


أحمد (1) ، وأبو داود، وغيرهما من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله ".
وأخرج مسلم (2) ، وغيره من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من نذر نذرا في معصية؛ فكفارته كفارة يمين ".
وأخرج أحمد، وأهل " السنن "، من حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين " (3) ، والأحاديث في هذا الباب كثيرة.
( [من أنواع نذر المعصية] :)
(1 -[عدم التسوية بين الأولاد في العطاء] :)
(ومن النذر في المعصية ما فيه مخالفة للتسوية بين الأولاد) ؛ لما قدمنا في كتاب الهدايا.
__________
(1) • في " المسند " رقم (6714، 6732، 6975) ، وأبو داود (1 / 342) ؛ وسنده حسن. (ن)
(2) • هذا خطأ؛ إذ إن مسلما لم يخرجه، بل أبو داود (2 / 81) ، والبيهقي (10 / 45، 72) من طريقين، عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند، عن بكير بن عبد الله الأشج، عن كريب، عن ابن عباس ... مرفوعا به.
وهو قطعة من حديث في النظر، ويأتي لفظه في الكتاب؛ وإسناده عندي صحيح.
وروي من وجه آخر عن ابن عباس؛ أخرجه البيهقي وضعفه.
وإنما روى مسلم (5 / 80) عن عقبة بن عامر مرفوعا: " كفارة النذر كفارة اليمين ". (ن)
(3) • إسناده ضعيف، رواه النسائي (2 / 145 - 146) ، والطحاوي، والبيهقي، وغيرهم، لكن يشهد له ما قبله، ولذلك حسنه ابن تيمية في " نظرية العقد " (ص 55 - 56) .
وهو عندي حديث صحيح لا شك فيه؛ لما سبق؛ ولأن الطحاوي أخرجه (3 / 37) من طريق أخرى عن عائشة مرفوعا؛ وإسناده صحيح. (ن)

(3/8)


(2 -[المفاضلة بين الورثة خلافا للشرع] :)
(أو مفاضلة بين الورثة مخالفة لما شرعه الله - تعالى -) ؛ لأن المخالفة لذلك معصية ولا نذر في معصية، كما تقدم.
(3 -[النذر على القبور] :)
(ومنه النذر على القبور) ؛ لكون ذلك ليس من النذر في الطاعة، ولا من النذر الذي يبتغى به وجه الله - تعالى -؛ بل قد يكون من النذر في المعصية؛ إذا كان يتسبب عنه اعتقاد باطل في صاحب القبر؛ كما يتفق ذلك كثيرا.
وقد أخرج أبو داود (1) بإسناد صالح عن سعيد بن المسيب: أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمة، فقال: إن عدت تسألني القسمة؛ فكل مالي في رتاج الكعبة (2) ، فقال له عمر: إن الكعبة غنية عن مالك، كفّر عن يمينك [وكلم أخاك؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يمين عليك ولا نذر] (3) ، ولا تنذر في معصية الرب، ولا في قطيعة الرحم، ولا فيما لا تملك ".
__________
(1) • في " سننه " (2 / 76) ، وكذا البيهقي (10 / 66) ، والحاكم (4 / 300) ؛ من طريق عمرو بن شعيب، عن ابن المسيب؛ وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي.
وأعله الشوكاني بأن ابن المسيب لم يسمع من عمر، فهو منقطع.
قلت: لم يتفق على عدم سماعه منه؛ بل قال أحمد: قد رأى عمر وسمع منه، وإذ لم يقبل سعيد عن عمر؛ فمن يقبل؟ ! فالحديث صحيح كما قال الحاكم والذهبي. (ن)
(2) • أي: لها؛ كما سيأتي في الكتاب. (ن)
(3) • من " السنن ". (ن)

(3/9)


وأخرج مالك (1) والبيهقي بسند صحيح - وصححه ابن السكن -، عن عائشة: أنها سئلت عن رجل جعل ماله في رتاج الكعبة؛ إن كلم ذا قرابة؟ فقالت: يكفر عن اليمين.
وإذا كان هذا في الكعبة؛ فغيرها من المشاهد والقبور بالأولى.
قلت: اختلف أهل العلم في النذر إذا خرج مخرج اليمين؛ مثل أن يقول: إن كلمت فلانا فلله علي عتق رقبة، أو: إن دخلت الدار فلله علي أن أصوم، أو أصلي، فهذا نذر أخرج مخرج اليمين؛ لأنه قصد به منع نفسه عن الفعل؛ كالحالف يقصد بيمينه منع نفسه عن الفعل، فأصح قولي الشافعي: أنه بمنزلة اليمين؛ عليه الكفارة إن حنث (2) ، والمشهور من مذهب أبي حنيفة: أن عليه الوفاء بما سمى الرتاج الباب، وجعل ماله في رتاج الكعبة؛ معناه: جعله لها، كنى عنها بالباب؛ لأنه يدخل إليها منه ".
(4 -[النذر على المساجد لتزخرف] :)
(وعلى ما لم يأذن به الله) ؛ كالنذر على المساجد لتزخرف، أو على أهل المعاصي ليستعينوا بذلك على معاصيهم؛ فإن ذلك من النذر في المعصية، وأقل الأحوال: أن يكون النذر على ما لم يأذن به الله خارجا عن النذر، الذي أذن الله به، وهو النذر في الطاعة، وما ابتغي به وجه الله.
__________
(1) • في " الموطأ " (2 / 34) ؛ وسنده على شرط الشيخين. (ن)
(2) • وهو الأصح - إن شاء الله -؛ وهو قول عائشة، وعطاء، وعدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
قال البيهقي (10 / 65) : " ومن قال به؛ قاله في كل ما حنث فيه؛ سواء في عتق أو طلاق ".
قلت: وقد تقدم قريبا قول عمر فيمن نذر ماله في رتاج الكعبة، وأنه اعتبره يمينا. (ن)

(3/10)


فيشمل هذا كل نذر على مباح، أو مكروه، أو محرم.
( [لا يجب النذر في فعل لم يشرعه الله] :)
(ومن أوجب على نفسه فعلا لم يشرعه الله؛ لم يجب عليه) ؛ لحديث ابن عباس عند البخاري، وغيره قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب؛ إذ هو برجل قائم، فسأل عنه؟ فقالوا: أبو إسرائيل؛ نذر أن يقوم في الشمس، ولا يقعد ولا يستظل، ولا يتكلم وأن يصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " مروه ليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه ".
وأخرج أحمد (1) من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - نحوه -؛ فيمن نذر أن لا يزال في الشمس حتى يفرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خطبته، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما النذر فيما ابتغي به وجه الله ".
قلت: وعلى هذا أهل العلم.
( [لا يجب النذر على الإنسان فيما لا يطيقه] :)
(وكذلك إن كان) النذر (مما شرعه الله وهو لا يطيقه) ؛ لم يجب عليه الوفاء به؛ لحديث أنس في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى شيخا يهادى (2) بين ابنيه، فقال: " ما هذا؟ ! ". قالوا: نذر أن يمشي، قال:
" إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني "، وأمره أن يركب.
__________
(1) • وإسناده حسن، وقد تقدم قريبا، وهذا أحد ألفاظه. (ن)
(2) " أي: يمشي بينهما معتمدا عليهما؛ من ضعفه وتمايله "؛ قاله ابن الأثير. (ن)

(3/11)


زاد النسائي في رواية: " نذر أن يمشي إلى بيت الله ".
وأخرج أبو داود بإسناد صحيح (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" من نذر نذرا لم يسمه؛ فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذرا لم يطقه؛ فكفارته كفارة يمين ".
وأخرجه أيضا ابن ماجه، وزاد: " من نذر نذرا أطاقه فليف به ".
ومن ذلك: أمره صلى الله عليه وسلم لمن نذر أن يمشي إلى الكعبة بالركوب؛ كما في " الصحيحين " من حديث عقبة بن عامر.
وفي " مسند أحمد "، و " سنن أبي داود " من حديث ابن عباس.
وفي " مسند أحمد " من حديث عقبة بن عامر.
قلت: ذهب أبو حنيفة والشافعي - في أصح قوليه - إلى أن عليه دم شاة.
وذهب بعضهم إلى أنه لا يجب إلا على وجه الاحتياط - لحديث أنس - في مثل هذه الصورة، ولم يذكر هديا ولا قضاء.
( [تجب كفارة اليمين على من نذر في معصية، أو نذر فيما لا يطيقه] :)
(ومن نذر نذرا لم يسمه، أو كان معصية، أو لا يطيقه؛ فعليه كفارة
__________
(1) • هو كما قال، وهو حديث ابن عباس الذي عزاه الشارح آنفا (ص) لمسلم خطأ. ثم تبين أنه معلول بالوقف: " الإرواء " (8 / 210) . (ن)

(3/12)


يمين) ؛ لحديث عقبة بن عامر عند ابن ماجه، والترمذي - وصححه (1) ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كفارة النذر إذا لم يسمه كفارة يمين ".
وهو في " صحيح مسلم " دون قوله: " إذا لم يسمه ".
وقد تقدم حديث ابن عباس - قريبا - فيمن نذر نذرا لم يسمه.
وأخرج مسلم من حديث ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " من نذر نذرا في معصية؛ فكفارته كفارة يمين "، كذا نسبه صاحب " المنتقى " إلى مسلم (2) ؛ وفيه نظر.
وهو عند أبي داود، وابن ماجه، وأحمد.
وأخرج أحمد، وأهل " السنن ": أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا نذر في معصية، وكفارته كفارة يمين "، وفي إسناده مقال (3) .
__________
(1) الترمذي (2 / 368) - من طريق أبي الخير -، وابن ماجه (1 / 653) ، وكذا البيهقي (/ 45 10) - من طريق خالد بن يزيد -، كلاهما عن عقبة.
وفيه - عندهما - إسماعيل بن رافع، وهو ضعيف، وعند الترمذي أبو بكر بن عياش وفيه ضعف.
لكن يشهد له حديث ابن عباس المتقدم قريبا. (ن)
(2) • كذا قال! وهو وهم منه، أو من ناسخ نسخته من " المنتقى "؛ فإنما عزاه - في نسختنا التي عليها شرح الشوكاني - (8 / 203) لأبي داود فقط. (ن)
(3) • قلت: لكن رواه الطحاوي من طريق أخرى، ليس فيه المقال المشار إليه؛ وإسناده صحيح كما سبق منا.
ورواه أحمد (6 / 247) من طريق ثالثة: عن الزهري، عن عروة، عن عائشة؛ وهو صحيح أيضا، وهي غير طريق الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة التي أعلت بالانقطاع، وقد ساقها أحمد قبيل هذه الطريق؛ فكأنه - رحمه الله - عقبها بهذه؛ ليشير إلى تقويتها.
ثم وجدت له متابعا عن أبي سلمة؛ أخرجه الطيالسي (1 / 248) : حدثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عنها ".
وهذا إسناد رجاله ثقات، لكن ابن أبي كثير مدلس، وقد عنعنه (ن) .

(3/13)


وأخرج أبو داود، وابن ماجه بإسناد صحيح من حديث ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نذر نذرا لم يطقه؛ فكفارته كفارة يمين ".
وهكذا أمر صلى الله عليه وسلم المرأة التي نذرت أن تمشي - وهي لا تطيق - بأن تكفر؛ كما أخرجه أحمد، وأبو داود.
( [يجب الوفاء بالنذر المباح] :)
أقول: النذر بالمباح يصدق عليه مسمى النذر، فيدخل تحت العمومات المتضمنة للأمر بالوفاء به.
ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود (1) : أن المرأة قالت: يا رسول الله! إني نذرت إذا انصرفت من غزوتك سالما أن أضرب على رأسك بالدف، فقال لها: " أوفي بنذرك ".
وضرب الدف إذا لم يكن مباحا فهو إما مكروه، أو أشد من المكروه؛ ولا يكون قربة أبدا، فإن كان مباحا؛ فهو دليل على وجوب الوفاء بالمباح، وإن كان مكروها؛ فالإذن بالوفاء به يدل على الوفاء بالمباح بالأولى (2) .
__________
(1) • في " سننه " (2 / 81) ، ومن طريقه البيهقي (10 / 77) بإسناد حسن؛ عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
وله شاهد من حديث بريدة؛ رواه الترمذي (4 / 316) - وصححه -، والبيهقي، وأحمد (5 / 353) ؛ وإسناده صحيح.
ورواه ابن أبي شيبة أيضا، وابن حبان في " صحيحيه " (رقم 1193) ؛ وانظر " نصب الراية " (3 / 300 - 301) . (ن)
(2) • قلت: كلا؛ لأن الأصل في الضرب بالدف أنه لا يجوز؛ لأنه من آلات الملاهي؛ وهي محرمة، والنبي صلى الله عليه وسلم إنما أمرها أن تفي بنذرها؛ لأنه اقترن بإظهار الفرح بقدومه صلى الله عليه وسلم سالما، فصار فعله =

(3/14)


وكذلك إيجاب الكفارة على من نذر نذرا لم يسمه يدل على وجوب الكفارة بالأولى في المباح.
فالحاصل: أن النذر بالمباح لا يخرج عن أحد القسمين: إما وجوب الوفاء به؛ أو وجوب الكفارة مع عدم الوفاء.
ولا ينافي ذلك ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من الإذن لمن نذرت أن تمشي إلى بيت الله حافية غير مختمرة؛ بأن تختمر وتركب؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أمرها مع ذلك بصيام ثلاثة أيام.
وفي رواية: أنه أمرها بأن تهدي بدنة.
ومثل ذلك حديث الشيخ الذي نذر أن يمشي، فقال صلى الله عليه وسلم: " إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه "؛ فإنه لا يعارض ما قدمنا - لوجهين -:
الأول: أن عدم التصريح بوجوب الكفارة عليه لا ينافي الأحاديث المصرحة بوجوبها.
والثاني: أنه رآه يضعف عن ذلك؛ كما في الرواية: أنه رآه يهادى بين ابنيه، ولهذا قال: " إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه ".
__________
= كبعض القرب؛ كضرب الدف في النكاح؛ أفاده الخطابي في " معالم السنن ".
فليس في الحديث دلالة واضحة على الوفاء بالمباح؛ فالأولى الاستدلال بما ثبت في الشرع أن النذر يمين، كما أشار إليه صلى الله عليه وسلم بقوله لأخت عقبة لما نذرت المشي إلى البيت فعجزت: " تكفر عن يمينها ".
ومعلوم أن من حلف على مباح أن يفعله؛ وجب عليه أن يبر في يمينه أو الكفارة، فكذلك في نذر المباح؛ عليه الوفاء أو الكفارة، ولا فرق، وراجع لهذا كلام ابن القيم في " تهذيب السنن " (4 / 373 - 376) . (ن)

(3/15)


ومحل النزاع من نذر بمباح مقدور له من غير تعذيب لنفسه، ثم تعذيب النفس إن كان من قبيل المعصية، فقد ثبت أن في نذر المعصية كفارة يمين، وإن كان لكونه يلحق بغير المقدور، فقد ثبت أن من نذر فيما لا يملك؛ فعليه كفارة يمين، وما ليس بمقدور للإنسان داخل فيما لا يملكه.
وقد أخرج أبو داود حديثا، وفيه: " ومن نذر نذرا لا يطيقه؛ فكفارته كفارة يمين ".
والحاصل: أن النذر إن كان بطاعة مقدورة وجب الوفاء به؛ سواء كانت تلك الطاعة واجبة أو مندوبة، وإن كان بغير طاعة فهو: إما من المباح؛ أو الحرام؛ أو المكروه، فإن كان من المباح فقد تقدم، وإن كان من الحرام؛ فقد ثبت وجوب الكفارة فيه مع المنع من الوفاء به، وإن كان مكروها؛ فهو إما أن يكون لاحقا بالحرام أو بالمباح.
إن كان الأول وجبت الكفارة، ولم يجز الوفاء به.
وإن كان الثاني فقد تقدم.
هذا خلاصة الكلام في أنواع النذر، ولا دليل بيد من لم يوجب الوفاء، ولا الكفارة في المندوب والمباح:
( [يلزم المشرك الوفاء إذا نذر بطاعة ثم أسلم] :)
(ومن نذر بقربة وهو مشرك، ثم أسلم؛ لزمه الوفاء) ؛ لحديث عمر في " الصحيحين " وغيرهما: أنه قال: قلت: يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية

(3/16)


أن أعتكف في المسجد الحرام، فقال: " أوف بنذرك ".
وأخرج أحمد (1) ، وابن ماجه عن ميمونة بنت كردم (2) : أن أباها سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني نذرت أن أنحر ببوانة (3) ، فقال: " أبها وثن أو طاغية؟ ". قال: لا، قال: " أوف بنذرك "، ورجال إسناده رجال الصحيح.
وأخرج أبو داود نحوه من حديث ثابت بن الضحاك، وإسناده صحيح.
( [ماذا على من نذر كل ماله؟] :)
(ولا ينفذ النذر إلا من الثلث) ؛ لحديث كعب بن مالك في " الصحيحين ":
__________
(1) • في " المسند " (3 / 419) ، وابن ماجه (1 / 353 - 354) ؛ من طريق عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب، عن ميمونة بنت كردم ... به، والسياق لابن ماجه.
وقال أحمد: عنها، عن أبيها؛ فجعله من مسند أبيها.
والصواب الأول؛ فقد أخرجه ابن ماجه؛ من طريق أخرى، عن عبد الله بن عبد الرحمن هذا، عن يزيد بن مقسم، عن ميمونة، عن النبي صلى الله عليه وسلم ... بنحوه.
وعبد الله - هذا - فيه ضعف، وإن أخرج له مسلم، وقد اضطرب في إسناد هذا الحديث كما ترى.
وقد رواه عبد الله بن يزيد بن مقسم، عن سارة بنت مقسم، عن ميمونة.
وسارة - هذه - لا تعرف؛ فالحديث من هذا الوجه ضعيف؛ لجهالة بعض رواته؛ واضطرابه.
لكن أخرجه أبو داود (2 / 80) ؛ من حديث ثابت بن الضحاك - رضي الله عنه - بإسناد صحيح.
وابن ماجه، والبيهقي، عن ابن عباس بسند ضعيف. (ن)
(2) كردم؛ بوزن؛ جعفر، وميمونة هذه صحابية، وحديثها في " مسند أحمد " (ج 6: ص 366) ، وذكره ابن الأثير في " أسد الغابة " (ج 5: ص 552) ، وابن سعد في " الطبقات (ج 8: ص 222) ، وابن حجر في " الإصابة " (ج 8: ص 195) ، ونسبه أيضا إلى " سنن أبي داود ". (ش)
(3) بوانة - بضم الباء وتخفيف الواو -: هضبة وراء ينبع، قريبة من ساحل البحر؛ كما في " معجم البلدان ". (ش)

(3/17)


أنه قال: يا رسول الله! إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى الله ورسوله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
" أمسك عليك بعض مالك؛ فهو خير لك ".
وفي لفظ لأبي داود (1) : إن من توبتي إلى الله أن أخرج من مالي كله إلى الله ورسوله صدقة، قال: " لا " قلت: فنصفه؟ قال: " لا "، قلت: فثلثه؟ قال: " نعم ".
وفي إسناده محمد بن إسحاق.
وفي لفظ لأبي داود أنه قال له: " يجزي عنك الثلث ".
وأخرج أحمد (2) ، وأبو داود، من حديث أبي لبابة بن عبد المنذر لما تاب
__________
(1) • في " سننه " (2 / 81) ؛ عن ابن إسحاق: حدثني الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب، عن أبيه، عن جده.
وليست علة هذا اللفظ عنعنة ابن إسحاق؛ فقد صرح بالتحديث، وإنما هي المخالفة؛ فقد رواه جماعة من الثقات الحفاظ عن الزهري، لم يذكروا فيه: " الثلث " بل: " البعض "، كما في الكتاب.
وكذلك أخرجه أبو داود - في رواية -، وأحمد (3 / 454، 456، 459، 459، 460) ، (6 / 387، 389) ، والبيهقي (10 / 67 - 68) . (ن)
(2) • في " المسند " (3 / 452 - 453، 502) ، ولم أجده في " سنن أبي داود " مع أنه قد عزاه إلى كتاب النذور من " سننه " النابلسي في " الذخائر " وليس فيه؛ فلعله في بعض النسخ.
وقد رواه البيهقي (10 / 68) ؛ وقال: إنه مختلف في إسناده ولا يثبت، ولا يصح الاحتجاج به؛ فإن أبا لبابة إنما أراد أن يتصدق بماله شكرا لله حين تاب الله عليه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسك بعض ماله؛ كما قال لكعب؛ ولم يبلغنا أنه نذر شيئا أو حلف على شيء ".
وذكر نحوه ابن القيم في " التهذيب " (4 / 384 - 385) ، ثم اختار في المسألة أن يتصدق به ويمسك عليه بعضه، وهو ما يكفيه ويكفي عياله، هذا إذا كان ناذرا.
وأما إذا كان حالفا بالصدقة؛ أجزأه كفارة يمين، وهذا هو الأقرب؛ والله أعلم (ن) .

(3/18)


الله عليه قال: يا رسول الله! إن من توبتي أن أهجر دار قومي وأساكنك، وأن أنخلع من مالي صدقة لله - عز وجل - ولرسوله، فقال: " يجزي عنك الثلث ".
قلت: وهو قول أهل العلم في الجملة.
ولو حلف الرجل بصدقة ماله، أو قال: مالي في سبيل الله.
فقال قوم: عليه كفارة يمين، وهو من نذر اللجاج، وعليه الشافعي.
وقال مالك: يخرج ثلث ماله، لحديث أبي لبابة المذكور.
وقال أبو حنيفة: ينصرف ذلك إلى كل ما يجب فيه الزكاة من عينه من المال؛ دون ما لا زكاة فيه من العقار والدواب ونحوها.
( [وفاء الولد بنذر أبيه بعد موته مجزئ] :)
(وإذا مات الناذر بقربة، ففعلها عنه ولده؛ أجزأه ذلك) ؛ لحديث ابن عباس: أن سعد بن عبادة استفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن أمي ماتت وعليها نذر لم تقضه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقضه عنها "، أخرجه أبو داود، والنسائي بإسناد صحيح.
وأصل القصة في " الصحيحين ".
وفي " البخاري ": " أن ابن عمر أمر امرأة جعلت أمها على نفسها صلاة بقباء ثم ماتت، أن تصلي عنها ".
وأخرج ابن أبي شيبة، عن ابن عباس نحو ذلك بإسناد صحيح.

(3/19)


وقد روي عنهما خلاف ذلك.
قلت: هو القول القديم للشافعي: إن من فاته شيء من رمضان، وتمكن من قضاءه، ثم مات ولم يقض، وكذا النذر والكفارة؛ تدارك عنه وليه؛ إما بالصوم عنه؛ أو الإطعام من تركته.
قال النووي: القديم ههنا أظهر.
وقال محمد: ما كان من نذر، أو صدقة، أو حج قضاها الولي أجزأ ذلك إن شاء الله - تعالى -، وهو قول أبي حنيفة والعامة من فقهائنا.

(3/20)