الدرر البهية والروضة الندية والتعليقات الرضية

 (الكتاب الثالث عشر: كتاب الأطعمة)

(3/21)


(13 - كتاب الأطعمة)
(1 - باب المحرمات من الأطعمة)
( [الأصل في الأشياء: الحل. والحرام: ما حرمه الله ورسوله] :)
(الأصل في كل شيء الحل، ولا يحرم إلا ما حرمه الله ورسوله، وما سكتا عنه فهو عفو) ؛ لمثل قوله - تعالى -: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه} الآية؛ فإن النكرة في سياق النفي تدل على العموم، ولمثل حديث سلمان الفارسي قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السمن والجبن والفراء؟ فقال:
" الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرمه الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا لكم "، أخرجه ابن ماجه، والترمذي، وفي إسناد ابن ماجه سيف بن هارون (1) البرجمي، وهو ضعيف (2) .
__________
(1) • هذا يوهم أن ابن هارون ليس في سند الترمذي، مع أنه أخرجه (3 / 44) من طريقه أيضا؛ فتنبه!
وسيف - هذا - ضعيف متروك، كما قال الدارقطني في " سؤالات البرقاني " عنه (رقم 196 - نسختي المصورة) .
فقول ابن القيم في " إعلام الموقعين " (1 / 305) : " وهذا إسناد جيد "؛ غير جيد. (ن)
قلت: وانظر " غاية المرام " (3) لشيخنا.
(2) قال الترمذي (ج 1 ص 322 - طبع بولاق) : " هذا حديث غريب، لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ".
ورواه أيضا الحاكم في " المستدرك " (ج 4: ص 115) شاهدا، وفي إسناد الجميع سيف بن هارون البرجمي، وقد ضعفه جماعة؛ منهم ابن حبان، ووثقه أبو نعيم، وصحح الطبري حديثه في " التهذيب "، وقال البخاري: " مقارب الحديث ". (ش)

(3/23)


وفي " الصحيحين " من حديث سعد بن أبي وقاص: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" إن أعظم المسلمين في المسلمين جرما؛ من سأل عن شيء لم يحرم على الناس؛ فحرم من أجل مسألته ".
وفيهما من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" ذروني ما تركتكم؛ فإنما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ".
وأخرجه البزار وقال: سنده صالح، والحاكم (1) - وصححه - من حديث أبي الدرداء، ورفعه بلفظ: " ما أحل الله في كتابه فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا "، وتلا: {وما كان ربك نسيا} .
وأخرج الدارقطني (2) من حديث أبي ثعلبة رفعه:
" إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت
__________
(1) • في " المستدرك " (2 / 375) ، وعنه البيهقي (10 / 12) ، ووافقه الذهبي على تصحيحه؛ وهو كذلك. (ن)
انظر - أيضا - " غاية المرام " (2) .
(2) • لم أجده الآن في " سننه " من حديث أبي ثعلبة؛ وإنما أخرجه (ص 550) من حديث أبي الدرداء، وفيه متهم.
وإنما أخرجه عن أبي ثعلبة الحاكم (4 / 115) ، والبيهقي عنه (10 / 12 - 13) ؛ من طريق مكحول، عن أبي ثعلبة؛ وهو منقطع. (ن)

(3/24)


عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها ".
وفي الكتاب والسنة مما يتقرر به هذا الأصل الكثير الطيب، فيتوجه الاقتصار في رفع الحل على ما ورد فيه دليل يخصه، ومن التخصيص قوله - تعالى - في آخر تلك الآية: {إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير} ، وكذلك قوله - تعالى -: {حرمت عليكم الميتة} إلى آخر الآية.
( [المحرمات من الأطعمة في كتاب الله] :)
(فيحرم ما في الكتاب العزيز) :
(1 -[الميتة] :)
وهو قوله - تعالى -: {حرمت عليكم الميتة} ؛ أي: ما مات حتف أنفه.
(2 -[الدم المسفوح] :)
{والدم} ، وهو المسفوح؛ صرح بذلك في الآية؛ والمفسر قاض على المبهم، وهذا مما ينقض به قول القائل: المبهم على إبهامه، والمفسر على تفسيره؛ فإنهم اتفقوا في هذه الآية على التقييد.
(3 -[لحم خنزير] :)
{ولحم الخنزير} ، وكل شيء من الخنزير حرام، وتخصيص اللحم بالذكر؛ لأنه يقصد في العادة، والخنزير حيوان مسخ بصورته قوم.
ولم يزل نوح ومن بعده من الأنبياء يحرمون الخنزير، ويأمرون بالتبعد

(3/25)


عنه؛ إلى تنزل عيسى - عليه السلام - فيقتله، ويشبه أن الخنزير كان يأكله قوم فنطقت الشرائع بالنهي عنه، وهجر أمره أشد ما يكون.
(4 -[كل حيوان لم يذكر اسم الله عند ذبحه] :)
{وما أهل لغير الله به} ؛ أي: ذكر اسم غير الله عند ذبحه.
(5 -[المنخنقة] :)
{والمنخنقة} : هي التي تختنق فتموت.
(6 -[الموقوذة] :)
{والموقوذة} : هي المقتولة بالعصا.
(7 -[المتردية] :)
{والمتردية} : هي التي تتردى من مكان عال فتموت.
(8 -[النطيحة] :)
{والنطيحة} : هي التي تنطحها أخرى فتموت.
(9 -[ما أكل السبع] :)
{وما أكل السبع} : يريد: ما بقي مما أكل السبع؛ لأنه ضبط المذبوح الطيب بما قصد إزهاق الروح باستعمال المحدد في حلقه، أو لبته، فجرّ ذلك إلى تحريم الأشياء.

(3/26)


{إلا ما ذكيتم} ؛ أي: ما أدركتم من هذه الأشياء وفيه حياة مستقرة فذبحتموه.
أما ما صار إلى حالة المذبوح؛ فهو في حكم الميتة.
(10 -[ما ذبح على النصب] :)
{وما ذبح على النصب} : قيل: مفرد كعنق، وقيل: جمع نصاب، وهو الشيء المنصوب من حجر ونحوه؛ أمارة للطاغوت.
والجمع بينه وبين ما أهل لغير الله به يدل على الفرق بينهما.
وذلك لأن المذبوح عند النصب قصد به تعظيم الطاغوت دلالة؛ وإن لم يتلفظ باسمه؛ فهو بمنزلة ما أهل لغير الله به.
{وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق} ، إلى قوله: {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} .
قلت: قد اتفق المسلمون على ذلك في الجملة؛ وإن كان لهم في التفاصيل اختلاف.
(11 -[كل ذي ناب من السباع] :)
(وكل ذي ناب من السباع) ؛ لخروج طبيعتها من الاعتدال، وبشكاسة أخلاقها، وقسوة قلوبها؛ لحديث أبي ثعلبة الخشني عند مسلم، ومالك، وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كل ذي ناب من السباع فأكله حرام "، وفي

(3/27)


الباب أحاديث في " الصحيحين "، وغيرهما.
والمراد بالناب: السن الذي خلف الرباعية؛ جمعه: أنياب، وكل ذي ناب يتقوى به ويصاد، وقال في " النهاية ": " هو ما يفترس الحيوان ويأكل قسرا؛ كالأسد والذئب والنمر ونحوها ".
قال في " القاموس ": " السبع - بضم الباء -: المفترس من الحيوان ". انتهى.
وأراد بذي ناب: ما يعدو بنابه على الناس وأموالهم؛ مثل: الذئب والأسد والكلب والفهد والنمر، وعلى هذا أهل العلم.
إلا أن الشافعي ذهب إلى إباحة الضبع والثعلب.
وقال أبو حنيفة: هما حرامان كسائر السباع.
أقول: قد قيل: إنه لا ناب للضبع، وأن جميع أسنانها عظم واحد كصفحة نعل الفرس؛ كذا قال ابن رسلان في " شرح السنن ".
وعلى تسليم أن لها نابا؛ فيخصصها (1) من حديث كل ذي ناب؛ حديث جابر؛ فإنه قيل له: الضبع صيد؟ قال: نعم، فقال له السائل: آكلها؟ قال: نعم، فقال له: أقاله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم؛ أخرجه أبو داود (2) ، وابن
__________
(1) • لا داعي للتخصيص؛ فقد نفى ابن القيم أن تعد الضبع من السباع؛ لغة أو عرفا؛ انظر " إعلام الموقعين "، و " تحفة الأحوذي ". (ن)
(2) • في " سننه " (2 / 144) ، والبيهقي (9 / 318) ، والطحاوي أيضا (1 / 384) ، وأحمد (3 / 297، 318، 322) ؛ من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار، عن جابر؛ وإسناده صحيح على شرط مسلم.

(3/28)


ماجه، والنسائي، والترمذي - وصححه -.
وصححه أيضا البخاري، وابن حبان، وابن خزيمة، والبيهقي.
ولا يعارض هذا الحديث الصحيح ما أخرجه الترمذي من حديث خزيمة ابن جزء قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الضبع؟ فقال: " أو يأكل الضبع أحد؟ {". وفي رواية: " ومن يأكل الضبع؟} "؛ لأن في إسناده عبد الكريم أبا أمية، وهو متفق على ضعفه، والراوي عنه إسماعيل بن مسلم، وهو ضعيف (1) .
(12 -[كل ذي مخلب من الطير] :)
(وكل ذي مخلب من الطير) ؛ لحديث ابن عباس عند مسلم، وغيره، قال: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير ".
__________
= وله طريق أخرى عند الطحاوي، والبيهقي عن جابر؛ وفيه التصريح برفع أكلها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وسنده حسن، وصححه الحاكم (1 / 453) من هذا الوجه، ووافقه الذهبي.
وتعصب التركماني؛ فضعف الحديث من الطريقين! (ن)
(1) الحديث في " الترمذي " (ج 1: ص 331) ، وفي " طبقات ابن سعد " (ج 7: قسم 1: ص 33) .
وعبد الكريم: هو ابن أبي المخارق، وكنيته أبو أمية، ووقع في الأصل: " عبد الكريم بن أمية "؛ وهو خطأ.
والحديث ضعيف؛ قال الترمذي: " ليس إسناده بالقوي، لا نعرفه إلا من حديث إسماعيل بن مسلم، عن عبد الكريم أبي أمية ".
ولم يخرجه أحمد في " المسند " على سعته وعظمه. (ش)

(3/29)


والمخلب: بكسر الميم، وفتح اللام؛ قال أهل اللغة: المراد به ما هو في الطير بمنزلة الظفر للإنسان، ويباح منه الحمام والعصفور؛ لأنهما من المستطاب.
(13 -[الحمر الإنسية] :)
(و) من ذلك (الحمر الإنسية) ، وكان كثير من أهل الطباع السليمة من العرب يحرمونه، ويشبه الشياطين، وهو يرى الشيطان فينهق، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:
" إذا سمعتم نهيق الحمار؛ فتعوذوا بالله من الشيطان؛ فإنه رأى شيطانا " (1) ، ويضرب به المثل في الحمق والهوان.
وقد حرمه من العرب أذكاهم فطرة، وأطيبهم نفسا؛ كما في حديث البراء بن عازب في " الصحيحين "، وغيرهما: أنه صلى الله عليه وسلم نهى يوم خيبر عن لحوم الحمر الإنسية.
وفيهما من حديث ابن عمر، وأبي ثعلبة الخشني نحوه.
وفي الباب غير ذلك، وقد ذهب إلى ذلك جمهور العلماء.
قلت: وأما الحمار الوحشي فاتفقوا على إباحته؛ كذا في " المسوى "، وأهدي له صلى الله عليه وسلم الحمار الوحشي فأكله (2) ؛ كذا في " الحجة البالغة ".
__________
(1) • حديث صحيح أخرج الشيخان وغيرهما، عن أبي هريرة مرفوعا. (ن)
(2) • صحيح؛ أخرجه البخاري (4 / 19 - 21، 21، 21 - 22، 23 - 24، 5 / 152 - 153) ؛ من حديث أبي قتادة الأنصاري، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم كان محرما في خروجه إلى الحديبية. (ن)

(3/30)


(14 -[الجلالة] :)
(و) من ذلك (الجلالة (1) قبل الاستحالة) ؛ لحديث ابن عمر عند أحمد، وأبي داود (2) ، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه -، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها.
وأخرج أحمد (3) ، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وابن حبان، والحاكم، والبيهقي، وصححه الترمذي، وابن دقيق العيد، من حديث ابن عباس: النهي عن أكل الجلالة وشرب لبنها.
وأخرج أحمد (4) ، والنسائي، والحاكم، والدارقطني، والبيهقي، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده نحو ذلك.
وفي الباب غير ذلك.
__________
(1) • هي الدابة التي تأكل الجلة؛ وهي البعر من الإبل وغير الإبل.
وقيد ذلك ابن حزم (7 / 410) بذوات الأربع خاصة، قال: " ولا يسمى الدجاج ولا الطير جلالة "، قال الحافظ: " والمعروف التعميم ".
قلت: وظاهر الحديث يشهد لابن حزم؛ لقرينة ذكر اللبن فيه؛ فتأمل!
قال ابن حزم: (7 / 429) : " وقد صح عن أبي موسى تحليل الدجاج، وإن كان يأكل القذر ".
وقال البغوي في " شرح السنة " (3 / 183 / 2) : " ثم الحكم في الدابة التي تأكل العذرة؛ أن ينظر فيها؛ فإن كانت تأكلها أحيانا؛ فليست بجلالة، ولا يحرم بذلك أكلها؛ كالدجاج ونحوها ... ". (ن)
(2) • أبو داود (2 / 142) ، وابن ماجه (2 / 286) ؛ والترمذي (3 / 89) ؛ وفيه ابن إسحاق، وقد عنعنه، لكن يشهد له ما بعده. (ن)
(3) • في " المسند " (رقم 1989، 2161، 2671، 2952، 3142، 3143) ، وأبو داود فيما سبق، وكذا الترمذي، والنسائي (2 / 210) ، والبيهقي (9 / 333) ؛ وإسناده على شرط البخاري، وهو أصح أحاديث الباب، كما قال الحافظ في " الفتح " (9 / 533) . (ن)
(4) • في " المسند " (2 / 219) ، وأبو داود أيضا (2 / 145) ؛ وسنده حسن، كما قال الحافظ. (ن)

(3/31)


وقد ذهب إلى ذلك أحمد بن حنبل، والثوري، والشافعية.
وذهب بعض أهل العلم إلى الكراهة فقط.
وظاهر النهي التحريم (1) .
والعلة تغير لحمها ولبنها، فإذا زالت العلة - بمنعها عن ذلك حتى يزول الأثر (2) -؛ فلا وجه للتحريم؛ لأنها حلال بيقين؛ إنما حرمت لمانع؛ وقد زال.
قال في " الحجة البالغة ":
" الجيفة وما تأثر منها خبيث في جميع الأمم والملل، فإذا تميز الخبيث من غيره ألقي الخبيث وأكل الطيب، وإن لم يكن التميز حرم أكله؛ ودل الحديث على حرمة كل نجس ومتنجس.
ونهى صلى الله عليه وسلم عن أكل الجلالة وألبانها؛ لأنها لما شربت أعضاؤها النجاسة وانتشرت في أجزائها؛ كان حكمها حكم النجاسات، أو حكم من يتعيش بالنجاسة ".
أقول: الاستحالة مطهرة، والأولى أن يقال في طهارة ما استحال: إن العين التي حكم الشارع بنجاستها لم تبق اسما، ولا صفة، فإن حكمه بنجاسة العذرة مقيد بكونها عذرة، فإذا صارت رمادا فليست بعذرة.
__________
(1) • وبه جزم ابن دقيق العيد، كما في " الفتح ". (ن)
(2) • وهذا هو الصحيح؛ جواز أكل الجلالة إذا زالت رائحة النجاسة بعد أن تعلف بالشيء الطاهر، كما في " الفتح "؛ فليس في ذلك أيام محدودة، وإن صح عن ابن عمر أنه كان يحبس الدجاجة الجلالة ثلاثا. (ن)

(3/32)


فمن ادعى بقاء النجاسة مع ذهاب الاسم والصفة؛ فعليه الدليل.
(15 -[الكلب] :)
(و) من ذلك (الكلاب) ، ولا خلاف في ذلك يعتد به.
وهو مستخبث، وقد وقع الأمر بقتله عموما وخصوصا، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن أكل ثمنه - كما تقدم - وسيأتي -.
وتقدم أن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه.
وقد جعله بعضهم داخلا في ذوات الناب من السباع.
قال في " الحجة البالغة ":
" ويحرم الكلب والسنور؛ لأنهما من السباع، ويأكلان الجيف، والكلب شيطان ".
(16 -[الهر] :)
(و) من ذلك (الهر) ؛ لحديث جابر عند أبي داود، وابن ماجه، والترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الهر وأكل ثمنها.
وفي إسناده عمر بن زيد (1) الصنعاني، وهو ضعيف.
لكن يشد من عضده ما ثبت من النهي عن أكل ثمن الكلب والسنور، وهو في " الصحيح "، وقد تقدم.
ولا فرق بين الوحشي والأهلي، وللشافعية وجه في حل الوحشي.
__________
(1) في الأصل: " يزيد "، وهو خطأ. (ش)

(3/33)


(17 -[كل ما كان مستخبثا] :)
(و) من ذلك (ما كان مستخبثا) لقوله - تعالى -: {ويحرم عليهم الخبائث (1) } .
فما استخبثه الناس من الحيوانات - لا لعلة ولا لعدم اعتياد؛ بل لمجرد الاستخباث - فهو حرام.
وإن استخبثه البعض دون البعض كان الاعتبار بالأكثر؛ كحشرات الأرض، وكثير من الحيوانات التي ترك الناس أكلها، ولم ينهض على تحريمها دليل يخصها، فإن تركها لا يكون في الغالب إلا لكونها مستخبثة، فتندرج تحت قوله: {ويحرم عليهم الخبائث} .
وقد أخرج أبو داود، عن ملقام بن تلب [، عن أبيه] (2) ، قال: صحبت النبي صلى الله عليه وسلم فلم أسمع لحشرات الأرض تحريما.
وقد قال البيهقي: إن إسناده غير قوي، وقال النسائي: ينبغي أن يكون
__________
(1) • الظاهر أن المراد بالخبائث ما حرمه الشارع؛ وهذا معنى ما نقله ابن كثير عن بعض العلماء، فكل ما أحل الله من المأكل؛ فهو طيب نافع في البدن والدين، وكل ما حرمه؛ فهو خبيث ضار في البدن والدين.
وإلا؛ فالرجوع إلى استخباث الناس مشكل؛ فإنه ما يدرينا أنهم لم يختلفوا؟ ثم إذا اختلفوا؛ فما يدرينا بالأكثرية؟ ثم هي إذا ثبتت؛ فقد تكون نسبية؛ أعني: بالنسبة لبعض البلاد دون بعض، ثم إذا سلمنا كونها غير نسبية؛ فأين الدليل الشرعي على أنها دليل شرعي؟ ! (ن)
(2) • زيادة لا بد منها. (ن)

(3/34)


ملقام بن تلب ليس بالمشهور (1) .
وهذا الحديث ليس فيه ما يخالف الآية، وغايته عدم سماعه لشيء من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لا يدل على العدم.
وقد أخرج ابن عدي، والبيهقي، من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل الرخمة (2) ؛ وفي إسناده خارجة بن مصعب، وهو ضعيف جدا، فلا ينتهض للاحتجاج به.
وأخرج أحمد، وأبو داود، من حديث عيسى بن نميلة الفزاري، عن أبيه، قال: كنت عند ابن عمر فسئل عن أكل القنفذ؟ فتلا هذه الآية: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه} الآية، فقال شيخ عنده: سمعت أبا هريرة يقول: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " خبيثة من الخبائث "، فقال ابن عمر: إن كان قاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو كما قال.
وعيسى بن نميلة ضعيف (3) ، فلا يصلح الحديث لتخصيص القنفذ من
__________
(1) وقال ابن حزم: " مجهول "، وقال ابن حجر في " الإصابة ": " ذكره البخاري وغيره في التابعين ".
وأبوه صحابي لم يرو عنه غيره.
وحديثه رواه أيضا ابن سعد (ج 7: قسم 1: ص 28) ، وذكره ابن الأثير في " أسد الغابة " (ج 1 ص 212) ، وفيهما أنه رواه عن أبيه.
وملقام؛ بكسر الميم، ويقال: بالهاء. (ش)
(2) هي طائر أبقع على شكل النسر خلقة؛ إلا أنه مبقع بسواد وبياض؛ قاله في " اللسان ". (ش)
(3) لم أجد أحدا ضعف عيسى بن نميلة؛ بل وثقه ابن حبان.
وأبوه؛ قال الذهبي: " لا يعرف ". (ش)

(3/35)


أدلة الحل العامة.
وقد قيل: إن من أسباب التحريم الأمر بقتل الشيء كالخمس؛ الفواسق والوزغ (1) ونحو ذلك، والنهي عن قتله؛ كالنملة والنحلة والهدهد والصرد (2) والضفدع ونحو ذلك، ولم يأت عن الشارع ما يفيد تحريم أكل ما أمر بقتله، أو نهي عن قتله حتى يكون الأمر والنهي دليلين على ذلك، ولا ملازمة عقلية ولا عرفية، فلا وجه لجعل ذلك أصلا من أصول التحريم.
بل إن كان المأمور بقتله أو المنهي عن قتله مما يدخل في الخبائث؛ كان تحريمه بالآية الكريمة، وإن لم يكن من ذلك؛ كان حلالا عملا بما أسلفنا من أصالة الحل، وقيام الأدلة الكلية على ذلك، ولهذا قلنا:
( [الكلام فيما عدا السابق] :)
(وما عدا ذلك فهو حلال) ، قال الشافعي: ما لم يرد فيه نص تحريم، ولا تحليل، ولا أمر بقتله، ولا نهي عن قتله؛ فالمرجع فيه إلى العرب من سكان البلاد والقرى دون أجلاف البوادي، فإن استطابته العرب، أو سمته باسم حيوان حلال؛ فهو حلال، وإن استخبثته، أو سمته باسم حيوان حرام؛ فهو حرام.
فأما ما أمر الشرع بقتله، أو نهى عن قتله؛ فلا يكون حلالا، فقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " خمس يقتلن في الحل والحرم ... " الحديث، وأمر بقتل الوزغ، ونهى عن قتل أربعة من الدواب:
__________
(1) • هو سام أبرص. (ن)
(2) • هو طائر ضخم الرأس والمنقار، له ريش عظيم، نصفه أبيض، ونصفه أسود. (ن)

(3/36)


النملة، والنحلة، والصرد، والهدهد.
وبالجملة: فتحل الطيبات، وتحرم الخبائث لقوله - تعالى -: {ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} ، والطيبات: ما تستطيبه العرب، وتستلذه من غير أن [يكون قد] ورد بتحريمه نص من كتاب أو سنة.
قال الماتن في " حاشية الشفاء ":
" إن القول بكراهية أكل الأرنب لا مستند له؛ بخلاف الضب؛ فإنه قد ورد النهي عن أكله؛ كما أخرجه أبو داود (1) .
__________
(1) • أخرجه في " سننه " (2 / 143) ؛ من طريق إسماعيل بن عياش، عن ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي راشد الحبراني، عن عبد الرحمن بن شبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحم الضب.
ومن هذا الوجه أخرجه البيهقي (9 / 326) ؛ وضعفه بقوله: " تفرد به إسماعيل؛ وليس بحجة، وما مضى في إباحته أصح منه ".
وقال الخطابي في " المعالم " (5 / 310) : " ليس إسناده بذاك "؛ وأقره المنذري في " مختصر السنن "، ثم الزيلعي في " نصب الراية " (4 / 195) .
وأما ابن التركماني؛ فرد ذلك بأن ضمضم حمصي، " وابن عياش إذا روى عن الشاميين؛ كان حديثه صحيحا ... ".
وهذا تعقب صحيح! لكن الذي حمل هؤلاء الأئمة على تضعيف حديث ابن عياش هذا؛ كونه مخالفا لما في " الصحيحين " وغيرهما؛ سيما وأن شيخه ضمضم قد ضعفه أبو حاتم، وإن وثقه ابن معين وغيره، والله أعلم.
ثم رأيت الحافظ ابن حجر صرح في " الفتح " (9 / 547) بأن إسناد الحديث حسن، ثم رد على البيهقي والخطابي تضعيفهما، ثم حمله على أن النهي فيه كان أول الأمر عند تجويز أن يكون الضب مما مسخ، كما في حديث مسلم، ثم لما علم أن الممسوخ لا نسل له - كما في قوله: " إن الله لم يجعل لمسخ نسلا ولا عقبا؛ وقد كانت القردة والخنازير قبل ذلك؛ رواه مسلم (8 / 55) -؛ أذن فيه، وكان هو صلى الله عليه وسلم يستقذره فلا يأكله ولا يحرمه. (ن)

(3/37)


وثبت في " صحيح مسلم " أنه صلى الله عليه وسلم قال:
" إن الله غضب على سبط من بني إسرائيل فمسخهم دواب، ولا أدري لعل هذا منها ".
والنهي حقيقة في التحريم، لولا ما ثبت في " الصحيحين " من حديث جماعة من الصحابة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم بأكل الضب، فقال لهم: " كلوه فإنه حلال، ولكن ليس من طعامي "؛ فإن هذا الحديث يصرف النهي عن حقيقته إلى مجازه - وهو الكراهة -.
وحديث تردده صلى الله عليه وسلم في كونه ممسوخا مؤيد لذلك.
وأما أكل التراب؛ فلم يصح في المنع منه شيء؛ لكنه من أسباب العلل الصعبة، التي يتأثر عنها انحلال البنية، وقد نهى الله - سبحانه - عن قتل الأنفس.

(3/38)


(2 - باب الصيد)
وكان الاصطياد ديدناً للعرب، وسيرة فاشية فيهم؛ حتى كان ذلك أحد المكاسب التي عليها معاشهم، فأباحه النبي صلى الله عليه وسلم.
( [ما يجوز الاصطياد به] :)
(ما صيد بالسلاح الجارح والجوارح (1) كان حلالا إذا ذكر اسم الله عليه) ؛ لحديث أبي ثعلبة الخشني في " الصحيحين "، قال: قلت يا رسول الله {إنا بأرض صيد أصيد بقوسي، وبكلبي المعلم، وبكلبي الذي ليس بمعلم؛ فما يصلح لي؟ فقال: " ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك المعلّم فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل ".
( [يشترط للصيد بالمعراض أن يخزق] :)
وفي " الصحيحين "، من حديث عدي بن حاتم، قال: قلت: يا رسول الله} إني أرسل الكلاب المعلمة فيمسكن عليّ وأذكر اسم الله؟ قال: " إذا
__________
(1) • هي الحيوانات التي يصطاد بهن؛ الكلاب الضواري، والفهود، والصقور، وأشباهها، وسميت جوارح؛ من الجرح، وهو الكسب، كما تقول العرب: فلان جرح أهله خيرا؛ أي: كسبهم خيرا؛ كذا في " تفسير ابن كثير " (2 / 15 - 16) . (ن)

(3/39)


أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله؛ فكل ما أمسك عليك "، قلت: وإن قتلن؟ ! قال: " وإن قتلن ما لم يشركها كلب ليس معها "، قال: قلت: فإني أرمي بالمعراض (1) الصيد فأصيد، قال: " إذا رميت بالمعراض فخزق (2) فكل، وإن أصابه بعرضه فلا تأكل ".
وفي رواية: " إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله، فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله، فإن أخْذ الكلب ذكاة ".
وفي لفظ من حديثه عند أحمد، وأبي داود: قلت: وإن قتل؟ قال: وإن قتل ولم يأكل منه شيئا؛ فإنما أمسكه عليك ".
وفي " الصحيحين " من حديثه: " فكل مما أمسكن عليك؛ إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل؛ فإني أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه ".
وفي حديث ابن عباس عند أحمد (3) قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" إذا أرسلت الكلب فأكل من الصيد فلا تأكل؛ فإنما أمسكه على نفسه، فإذا أرسلته فقتل ولم يأكل فكل؛ إنما أمسكه على صاحبه ".
__________
(1) بوزن مفتاح: هو سهم لا ريش له. (ش)
(2) قال النووي في " شرح مسلم ": " وأما خزق؛ فهو بالخاء المعجمة والزاي، ومعناه: نفذ ". (ش)
(3) • في " المسند " (رقم 2049) ؛ وإسناده حسن - إن شاء الله -. (ن)

(3/40)


وقد أخرج أحمد (1) ، وأبو داود من حديث عبد الله بن عمرو: أن أبا ثعلبة الخشني قال: يا رسول الله {إن لي كلابا مكلبة؛ فأفتني في صيدها؟ قال: " إن كانت لك كلاب مكلبة فكل مما أمسكت عليك "، فقال: يا رسول الله} ذكي وغير ذكي؟ ، قال: " ذكي وغير ذكي " قال: وإن أكل منه؟ ، قال: " وإن أكل منه " قال: يا رسول الله! أفتني في قوس، قال: " كل ما أمسك عليك قوسك "، قال: ذكي وغير ذكي؟ ، قال: " ذكي وغير ذكي " قال: فإن تغيب عني؟ قال: " وإن تغيب عنك ما لم يصل (2) - يعني: يتغير - أو تجد فيه أثر غير سهمك ".
وقد قال ابن حجر: إنه لا بأس بإسناده.
__________
(1) • في " المسند " (رقم 6725) ، وأبو داود (2 / 11) ؛ من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمر؛ وهذا سند حسن، وقال ابن كثير (2 / 17) : " جيد "، والحافظ في " الفتح " (/ 494 9) : " لا بأس بسنده "، وله شاهد من حديث أبي ثعلبة نفسه؛ أخرجه أبو داود (2 / 10) ، ومن طريقه البيهقي (9 / 237) ؛ عن داود بن عمرو، عن بسر بن عبيد الله، عن أبي إدريس الخولاني، عنه؛ قال الحافظ ابن كثير: " إسناد جيد ".
وأعله البيهقي بأنه مخالف لما في " الصحيحين " من حديث ربيعة بن يزيد الدمشقي، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة، وليس فيه ذكر الأكل - يعني: وإن أكل الكلب؛ وهذا إعلال صحيح؛ لأن داود بن عمرو؛ في حفظه ضعف، فلا يحتج بما تفرد به وخالف.
لكن حديث عمرو بن شعيب ثابت كما سبق، وهو معارض لحديث عدي وابن عباس.
وقد جُمع بين الحديثين بحمل المنع على ما إذا أكل في حال صيده؛ لأنه أمسك لنفسه، والإباحة على ما إذا أكل منه بعد أن أمسكه لصاحبه.
وقد استحسن هذا الجمع ابن القيم في " تهذيب السنن " (4 / 140) ، وابن كثير في " التفسير ". (ن)
(2) صل اللحم يصل - بفتح الياء وكسر الصاد؛ وأصل أيضا -: أنتن؛ مطبوخا كان أو نيئا (ش) .

(3/41)


وفيه نظر؛ لأن في إسناده (1) داود بن عمرو الأودي الدمشقي، وفيه مقال وخلاف.
وقد أخرج نحو هذا الحديث أبو داود، من حديث أبي ثعلبة نفسه، ولا ينتهض هذا لمعارضة ما في " الصحيحين " من النهي عن أكل ما أكل منه الكلب.
وأخرج أحمد (2) ، وأبو داود، من حديث عدي بن حاتم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما علّمت من كلب أو باز، ثم أرسلته وذكرت اسم الله عليه؛ فكل ما أمسك عليك ".
وقد أكل صلى الله عليه وسلم من حمار الوحش الذي صاده أبو قتادة طعنا برمحه، وهو في " الصحيح "، وقد تقدم في الحج.
وقد ذكر الله في كتابه العزيز تحليل ما صيد بالجوارح، فقال: {وما علمتم من الجوارح} الآية، وأباح الأكل، فقال: {فكلوا مما أمسكن عليكم} .
__________
(1) • هذا وهم من المؤلف - رحمه الله -؛ فإن ابن حجر إنما قال هذا في حديث عبد الله بن عمرو، وليس في سنده داود بن عمرو الذي فيه المقال المذكور، وإنما هو في حديث أبي ثعلبة نفسه الذي أشار إليه الشارح - وسبق عليه الكلام آنفا -.
ولا داعي لادعاء التعارض بين الحديثين؛ ما أمكن التوفيق بينهما بما سبق. (ن)
(2) • في " المسند " (4 / 257) ، وأبو داود (2 / 10) ، وعنه البيهقي (9 / 238) ؛ عن مجالد، عن الشعبي، عن عدي.
وهذا سند ضعيف من أجل مجالد، وقد تفرد بذكر: " الباز " دون كل من روى الحديث عن الشعبي من الحفاظ، كما قال البيهقي؛ فهي زيادة منكرة. (ن)

(3/42)


وقد دل ما ذكرناه من هذه الأدلة على ما اشتمل عليه المتن؛ من أن ما صيد بالجارح والجوارح كان حلالا إذا ذكر اسم الله عليه.
( [الصيد بغير ما يشرع يحتاج إلى التذكية] :)
(وما صيد بغير ذلك فلا بد من التذكية) ، وقد نزّل صلى الله عليه وسلم المعراض إذا أصاب فخزق منزلة الجارح، واعتبر مجرد الخزق؛ كما في حديث عدي بن حاتم المذكور.
وفي لفظ لأحمد من حديث عدي قال: قلت: يا رسول الله! إنا قوم نرمي؛ فما يحل لنا؟ قال: " يحل لكم ما ذكيتم، وما ذكرتم اسم الله عليه فخزقتم فكلوا " (1) ، فدل على أن المعتبر مجرد الخزق.
وإن كان القتل بمثقل؛ فيحل ما صاده من يرمي بهذه البنادق الجديدة التي يُرمى بها بالبارود، والرصاص؛ لأن الرصاص تخزق خزقا زائدا على خزق السلاح، فلها حكمه - وإن لم يدرك الصائد بها ذكاة الصيد إذا ذكر اسم الله على ذلك -.
( [الصيد بالبنادق اليوم حلال] :)
وعبارة الماتن في " حاشية الشفاء ":
" أقول: ومن جملة ما يحل الصيد به من الآلات هذه البنادق الجديدة التي يرمى بها بالبارود والرصاص، فإن الرصاصة يحصل بها خزق زائد على خزق السهم والرمح والسيف، ولها في ذلك عمل يفوق كل آلة.
__________
(1) لم أجده في " المسند " بهذا اللفظ، وذكر السيوطي في " الدر المنثور " نحوه من رواية ابن أبي حاتم.

(3/43)


ويظهر لك ذلك بأنك لو وضعت ريشا - أو نحوه - فوق رماد دقيق، أو تراب دقيق، وغرزت فيه شيئا يسيرا من أصلها، ثم ضربتها بالسيف المحدد - ونحو ذلك من الآلات - لم يقطعها وهي على هذه الحالة.
ولو رميتها بهذه البنادق لقطعتها، فلا وجه لجعلها قاتلة بالصدم؛ لا من عقل، ولا من نقل.
وما روي من النهي عن أكل ما رمي بالبندقة؛ كما في رواية من حديث عدي بن حاتم عند أحمد (1) بلفظ: " ولا تأكل من البندقة إلا ما ذكيت "؛ فالمراد بالبندقة هنا: هي التي تتخذ من طين، فيرمي بها بعد أن تيبس.
وفي " صحيح البخاري ": قال ابن عمر في المقتولة بالبندقة: تلك الموقوذة.
وكرهه سالم والقاسم ومجاهد وإبراهيم وعطاء والحسن.
وهكذا ما صيد بحصى الخذف، فقد ثبت في " الصحيحين "، وغيرهما من حديث عبد الله بن المغفل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف (2) وقال: " إنها لا تصيد صيدا، ولا تنكأ (3) عدوا؛ لكنها تكسر السن وتفقأ العين ".
__________
(1) • في " المسند " (4 / 380) ؛ ورجاله ثقات رجال الشيخين؛ لكنه منقطع بين إبراهيم النخعي وعدي؛ بينهما همام بن الحارث:
أخرجه البخاري، (9 / 496) ، ومسلم (6 / 56) ، وأحمد أيضا، لكن بلفظ آخر. (ن)
(2) الخذف: رميك بحصاة أو نواة؛ تأخذها بين سبابتيك؛ أو تجعل مخذفة من خشب ترمي بها بين الإبهام والسبابة؛ قاله في " اللسان ". (ش)
(3) الرواية " تنكأ " بالهمز، وروي: " تنكي " - بكسر الكاف بدون همزة -.
قال الشوكاني: " قال ابن سيده: نكى العدو نكاية: أصاب منه، ثم قال: نكأت العدو أنكؤهم لغة في نكيتهم؛ فظهر أن الرواية صحيحة، ولا معنى لتخطئتها ". (ش)

(3/44)


( [الصيد بالرمي بالحجارة لا يحل] :)
ومثل هذا ما قتل بالرمي بالحجارة غير المحددة إذا لم تخزق؛ فإنه وقيذ لا يحل.
وأما إذا خزقت حل؛ قال في " المسوى ": " يحل ما اصطاد بكلبه إذا ذكر اسم الله عليه، عند إرساله وكان الكلب معلما، قال تعالى: {وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} ".
( [متى يكون الحيوان الصائد معلما؟] :)
والتعليم هو أن يوجد فيه ثلاثة أشياء: إذا أُشليت استشلت (1) ، وإذا زُجرت انزجرت، فإذا أخذت الصيد أمسكت ولم تأكل.
فإذا وجد ذلك منها مرارا - وأقله ثلاث مرات - كانت معلمة يحل صيدها.
(1 -[إذا أرسله صاحبه استرسل] :)
وعلى هذا كله أهل العلم في الجملة.
وأكثر أهل العلم على أن المراد بالجوارح الكواسر من سباع البهائم كالفهد والكلب، ومن سباع الطير كالبازي والصقر؛ مما يقبل التعليم، فيحل صيد جميعها.
__________
(1) أشلى الكلب: إذا دعاه باسمه، وأشلاه على الصيد: دعاه فأرسله عليه؛ لكن حذف " فأرسله " تخفيفا. (ش)

(3/45)


(2 -[إذا زجره صاحبه انزجر] :)
والمكلب: هو الذي يغري الكلاب على الصيد ويعلمها.
{فكلوا مما أمسكن} : أراد أن الجارحة المعلمة إذا جرحت بإرسال صاحبها، فأخذت الصيد وقتلته؛ كان حلالا.
(3 -[أن لا يأكل من الصيد] :)
قلت: وهذا هو مذهب مالك، والقول القديم للشافعي، ثم تعقبه الشافعي بحديث عدي بن حاتم المذكور، وهو مذهب أبي حنيفة، وسمع مالك أهل العلم يقولون في البازي والعقاب والصقر وما أشبه ذلك: إنه إذا كان معلما يفقه كما تفقه الكلاب المعلمة؛ فلا بأس بأكل ما قتلوه مما صادت؛ إذا ذكر اسم الله على إرسالها.
قال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا: أن المسلم إذا أرسل كلب المجوسي الضاري، فصاد أو قتل؛ أنه إذا كان معلما؛ فأكْل ذلك الصيد حلال لا بأس به (1) ؛ وإن لم يذكه المسلم، وإنما مثل ذلك مثل المسلم يذبح بشفرة المجوسي، أو يرمي بقوسه، أو بنبله فيقتل بها، فصيده ذلك وذبيحته حلال لا بأس بأكله.
قال مالك: " إذا أرسل المجوسي كلب المسلم الضاري على صيد فأخذه؛ فإنه لا يؤكل ذلك الصيد إلا أن يذكى، وإنما مثل ذلك قوس المسلم ونبله
__________
(1) • وأما حديث جابر: نهينا عن صيد كلب المجوس وطائره؛ فقد ضعفه الترمذي (2 / 341) ، والبيهقي (9 / 245) . (ن)

(3/46)


يأخذها المجوسي، فيرمي بها الصيد فيقتله، وبمنزلة شفرة المسلم يذبح به المجوسي؛ فلا يحل أكل شيء من ذلك ". انتهى.
( [لا يحل الصيد إذا اشترك فيه كلبان معلم وغير معلم] :)
(وإذا شارك الكلب المعلم كلب آخر لم يحل صيدهما) ؛ لما تقدم في حديث عدي من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما لم يشركها كلب ليس معها ".
وفي لفظ له في " الصحيحين " قال: قلت: يا رسول الله! إني أرسل كلبي وأسمي؟ قال: " إن أرسلت كلبك وسميت، فأخذ فقتل فكل، وإن أكل منه فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه "؛ قلت: إني أرسل كلبي أجد معه كلبا؛ لا أدري أيهما أخذه؟ قال: " فلا تأكل؛ فإنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره "، وفي لفظ له: " فإن وجدت مع كلبك كلبا غيره، وقد قتل فلا تأكل؛ فإنك لا تدري أيهما قتله ".
( [لا يحل صيد الكلب المعلم إذا أكل منه] :)
(وإذا أكل الكلب المعلم - ونحوه - من الصيد؛ لم يحل؛ فإنما أمسك على نفسه) ؛ لما تقدم من الأدلة على ذلك، وتقدم أيضا ترجيحها على حديث عبد الله بن عمرو (1) .
( [حكم الصيد إذا وجد بعد أيام] :)
(وإذا وجد الصيد بعد وقوع الرمية فيه ميتا - ولو بعد أيام في غير ماء - كان حلالا ما لم ينتن؛ أو يعلم أن الذي قتله غير سهمه) ؛ لحديث أبي ثعلبة
__________
(1) • قلت: الأولى الجمع بين الحديثين بما سبق (ص) ؛ فراجعه. (ن)

(3/47)


الخشني، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إذا رميت سهمك فغاب ثلاثة أيام وأدركته؛ فكله ما لم ينتن "، أخرجه مسلم وغيره.
وفي " الصحيحين "، من حديث عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصيد؟ قال: " إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن وجدته قد قتل فكل؛ إلا أن تجده قد وقع في ماء؛ فإنك لا تدري؛ الماء قتله أو سهمك ".
وفي لفظ من حديثه لأحمد، والبخاري؛ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا رميت الصيد؛ فوجدته بعد يوم أو يومين، ليس به إلا أثر سهمك فكل، وإن وقع في الماء فلا تأكل ".
وفي لفظ لمسلم نحوه.
وفي لفظ للبخاري من حديثه: إنا نرمي الصيد، فنقتفي أثره اليومين والثلاثة، ثم نجده ميتا وفيه سهمه؟ قال: " يأكل إن شاء ".
وفي لفظ للترمذي (1) - وصححه - قال: قلت: يا رسول الله! أرمي الصيد، فأجد فيه سهمي من الغد؟ قال: " إذا علمت أن سهمك قتله؛ ولم تر فيه أثر سبع؛ فكل ".
قلت: وعلى هذا أهل العلم في الجملة.
__________
(1) • في " سننه " (2 / 342) ، وكذا أحمد (4 / 377) ؛ وسندهما صحيح على شرطهما، ورواه النسائي أيضا (2 / 197) . (ن)

(3/48)


(3 - باب الذبح)
( [تعريف الذبح] :)
(هو ما أنهر الدم) ؛ أي: أساله، (وفرى) ؛ أي: قطع (الأوداج) ، وهما عرقان بينهما الحلقوم.
( [الأداة التي يصح بها الذبح] :)
(وذُكر اسم الله عليه ولو بحجر أو نحوه) ؛ كخشب وغيره؛ (ما لم يكن سنا أو ظفرا) ؛ لحديث رافع بن خديج في " الصحيحين "، وغيرهما، قال: قلت: يا رسول الله! إنا نلقى العدو غدا وليس معنا مدى؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه؛ فكلوا؛ ما لم يكن سنا أو ظفرا، سأحدثكم عن ذلك؛ أما السن فعظم؛ وأما الظفر فمدى الحبشة ".
وأخرج أبو داود (1) من حديث ابن عباس، وأبي هريرة قالا: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شريطة الشيطان؛ وهي التي تذبح فتقطع الجلد ولا تفري الأدواج، وفي إسناده عمرو بن عبد الله الصنعاني، وهو ضعيف.
وأخرج أحمد، والبخاري من حديث كعب بن مالك: أنها كانت لهم
__________
(1) • في " السنن " (2 / 7) ، وكذا الحاكم (4 / 113) من طريق عمرو بن عبد الله، عن عكرمة عنهما، وقال الحاكم: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي. (ن)

(3/49)


غنم ترعى بسلع فأبصرت جارية لنا بشاة من غنمنا موتا، فكسرت حجرا فذبحتها، فقال لهم: لا تأكلوا حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو أرسل إليه من يسأله عن ذلك، وأنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك - أو أرسل إليه -؟ فأمره بأكلها.
وفيه دليل على أن ذبح النساء والرقيق جائز، وعليه أهل العلم.
وأخرج أحمد (1) ، والنسائي، وابن ماجه من حديث زيد بن ثابت: أن ذئبا نيّب في شاة، فذبحوها بمروة، فرخص لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أكلها.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والحاكم، وابن حبان من حديث عدي بن حاتم، قال: قلت: يا رسول الله {إنا نصيد الصيد، فلا نجد سكينا إلا الظرار (2) وشقة العصا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: " أمرّ (3) الدم بما شئت، واذكر اسم الله عليه " (4) ؛ والظرار: الحجر أو المدر.
__________
(1) • في " المسند " (5 / 183 - 184) ، والنسائي (2 / 207) ، وابن ماجه (2 / 283 - 284) ؛ من طريق حاضر بن مهاجر، عن سليمان بن يسار، عنه.
وحاضر - هذا - مجهول، كما جزم به الذهبي، ومع ذلك فقد أقر الحاكم على تصحيح هذا الحديث في " التلخيص " (4 / 114) } (ن)
(2) هو بالظاء المشالة؛ قال في " القاموس " في فصل الظاء: " الظر، - بالكسر -، والظرر، والظررة: الحجر، أو المدر المحدد منه ". ا. هـ المراد منه.
وضبط - بالقلم - الظرر والظررة: بضم ففتح. (ش)
(3) • في إسناده عندهم مري بن قطري لا يعرف؛ كما قال الذهبي. (ن)
(4) • يجوز فيه " امر "؛ من مرى الضرع، ويروى " أمر "؛ من مار يمور، إذا جرى وأماره غيره.
وقد جاء في " سنن أبي داود " و " النسائي ": " أمرر " براءين مظهرتين، ومعناه: اجعل الدم يمر؛ أي: يذهب، قال في " النهاية ": " فعلى هذا؛ من رواه مشددا يكون قد أدغم؛ وليس بغلط ". (ن)

(3/50)


وأخرج البخاري، وغيره من حديث عائشة: أن قوما قالوا: يا رسول الله {إن قوما يأتوننا باللحم؛ لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ فقال: " سموا عليه أنتم وكلوا "، قالت: وكانوا حديثي عهد بالكفر.
وهذا لا ينافي وجوب التسمية على الذابح؛ بل فيه الترخيص لغير الذابح إذا شك في اللحم؛ هل ذكر عليه اسم الله عند الذبح أم لا؟ فإنه يجوز له أن يسمي ويأكل.
( [لا دليل على استحباب استقبال القبلة عند الذبح] :)
وأما استقبال القبلة؛ فليس في السنة ما يدل على هذا.
فإن كان الدال على استقبال القبلة هو قوله في الحديث: " فلما وجههما "؛ فليس فيه أنه وجههما إلى القبلة؛ بل المراد وجههما للذبح.
وقد تقرر أن حذف المتعلق مشعر بالعموم.
وإن كان الاستدلال بقوله: " وجهت وجهي "؛ فكذلك أيضا ليس فيه دلالة على ذلك.
ولا أعلم دليل يدل على مشروعية (1) الاستقبال حال الذبح.
__________
(1) التعبير بالمشروعية غير دقيق؛ فإنه لا خلاف في مشروعية، ولم يقل أحد: إنه مكروه أو حرام؛ وإنما الخلاف في استحبابه فقط. (ش)
• قلت: لا غبار على تعبير الشارح؛ فإنه أراد بالمشروعية الندب والاستحباب كما يدل عليه السياق، وإذ لا دليل على الاستحباب؛ فهو مكروه غير مشروع؛ لأنه داخل في عموم الأدلة الناهية عن الابتعاد في الدين؛ وهذا منه، فتأمل} (ن)

(3/51)


قال الماتن في " السيل الجرار ":
" ليس على هذا دليل لا من كتاب، ولا من سنة، ولا من قياس.
وما قيل من أن القول بندب الاستقبال في الذبح قياس على الأضحية! فليس بصحيح؛ لأنه لا دليل على الأصل حتى يصلح للقياس عليه، بل النزاع فيه كائن كما هو كائن في الفرع، والندب حكم من أحكام الشرع، فلا يجوز إثباته إلا بدليل تقوم به الحجة ". انتهى.
( [تعذيب الذبيحة حرام] :)
(ويحرم تعذيب الذبيحة) ؛ لحديث شداد بن أوس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إن الله كتب الإحسان على كل شيء؛ فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته "؛ أخرجه أحمد، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه.
وأخرج أحمد، وابن ماجه من حديث ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن تحد الشفار، وأن توارى عن البهائم، وقال: " إذا ذبح أحدكم فليجهز "؛ أي: يتمها.
وفي إسناده ابن لهيعة، وفيه مقال معروف (1) .
قلت: في اختيار أقرب طريق لإزهاق الروح اتباع داعية الرحمة؛ وهي
__________
(1) • قلت: وهو - على ضعفه - قد اضطرب في إسناده على وجوه ثلاثة، وخالفه غيره؛ فرواه منقطعا؛ لم يذكر فيه تابعه، وقد بينت ذلك في " التعليق الرغيب على الترغيب والترهيب " (2 / 104) . (ن)

(3/52)


خلة يرضى بها رب العالمين، ويتوقف عليها أكثر المصالح المنزلية والمدنية.
( [المثلة بالذبيحة حرام] :)
(والمثلة بها) ؛ لما ورد في تحريمها من الأحاديث الثابتة في " الصحيح " وغيره، وهي عامة.
( [يحرم الذبح لغير الله] :)
وتحريم (ذبحها لغير الله) ؛ لما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - من لعن من ذبح لغير الله؛ كما في " صحيح مسلم " وغيره، ولقوله - تعالى -: {وما أهل لغير الله} .
وكان أهل الجاهلية يتقربون إلى الأصنام والنجوم بالذبح لأجلهم؛ إما بالإهلال عند الذبح بأسمائهم؛ وإما بالذبح على الأنصاب المخصوصة لهم، فنهوا عن ذلك، وهذا أحد مظان الشرك.
وأما الذبح للسلطان؛ وهل هو داخل في عموم ما أهل به لغير الله أم لا؟ فقد أجاب الماتن - رحمه الله - في بحث له على ذلك بما لفظه:
" اعلم أن الأصل الحل؛ كما صرحت به العمومات القرآنية والحديثية، فلا يحكم بتحريم فرد من الأفراد، أو نوع من الأنواع إلا بدليل ينقل ذلك الأصل المعلوم من الشريعة المطهرة؛ مثل تحريم ما ذبح على النصب، والميتة، والمتردية، والنطيحة، والموقوذة، وما أهل به لغير الله، ولحم الخنزير، وكل شيء خرج من ذلك الأصل بدليل من الكتاب، أو السنة المطهرة؛ كتحريم كل ذي ناب من السباع، ومخلب من الطير، وتحريم الحمر الإنسية.

(3/53)


وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن أصول التحريم: الكتاب والسنة والإجماع والقياس، أو وقوع الأمر بالقتل، أو النهي عنه، أو الاستخباث، أو التحريم على الأمم السالفة، إذا لم ينسخ؛ فلا بد للقائل بتحريم فرد من الأفراد، أو نوع من الأنواع من اندراجه تحت أصل من هذه الأصول، فإن تعذر عليه ذلك؛ فليس له أن يتقول على الله ما لم يقل.
فإن من حرم ما أحله الله كمن حلل ما حرم الله، فلا فرق بينهما، وفي ذلك من الإثم ما لا يخفى على عارف.
ولا شك أن البراءة الأصلية بمجردها كافية - على ما هو الحق -؛ فكيف إذا انضم إليها من العمومات مثل قوله - تعالى -: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} الآية، وقوله: {أحل لكم الطيبات} ، وقوله: {والطيبات من الرزق} ، وقوله: {كلوا من طيبات ما رزقناكم} ، وقوله: {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا} ، وقوله: {يحل لهم الطيبات} ؟ !
والحاصل: أن الواجب وقف التحريم على المنصوص على حرمته، والتحليل على ما عداه، وقد صرح بذلك حديث سلمان عند الترمذي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه؛ فهو مما عفا عنه " (1) .
وأخرج أبو داود (2) ، عن ابن عباس موقوفا: كان أهل الجاهلية يأكلون
__________
(1) • إسناده ضعيف جدا، لكن معناه صحيح ثابت في أحاديث أخرى؛ سبق بعضها. (ن)
(2) • في " سننه " (2 / 144) ، وكذا الحاكم (4 / 115) ، وصححه؛ ووافق الذهبي.
ثم أخرجه الحاكم (2 / 317) نحوه، وقال: " صحيح على شرطهما "، ووافقه الذهبي. (ن)

(3/54)


أشياء، ويتركون أشياء تقذرا، فبعث الله تعالى نبيه، وأنزل كتابه، فأحل حلاله، وحرم حرامه، فما أحل فهو حلال، وما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عفو، وتلا: {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما} .
وأخرج الترمذي، وأبو داود، من حديث قبيصة بن هلب [عن أبيه] (1) قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال له رجل: إن من الطعام طعاما أتحرج منه؟ فقال: " ضارعت النصرانية! لا يختلجن في نفسك شيء ".
( [اختلاف العلماء في جواز الذبح للسلطان] :)
إذا تقرر هذا:
فمسألة السؤال - أعني: ما ذبح من الأنعام لقدوم السلطان -، والاستدلال على تحريم ذلك بقوله - تعالى -: {وما أهل به لغير الله} فاسد.
فإن الإهلال: رفع الصوت للصنم ونحوه، وذلك قول أهل الجاهلية: باسم اللات والعزى؛ كذا قال الزمخشري في " الكشاف "، والذابح عند قدوم السلطان لا يقول عند ذبحه: باسم السلطان، ولو فرض وقوع ذلك؛ كان محرما بلا نزاع، ولكنه يقول: باسم الله.
وقد استدل على ذلك بما رواه أحمد، ومسلم، والنسائي من حديث أمير
__________
(1) في الأصل بحذف (عن أبيه) ؛ وصححناه من " سنن أبي داود " بشرح " عون المعبود " (ج 3: ص 412) ؛ وقبيصة تابعي، وأبوه صحابي.
والحديث حسنه الترمذي كما قال المنذري. (ش)

(3/55)


المؤمنين علي - كرم الله وجهه (1) -: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " لعن الله من ذبح لغير الله ... " الحديث.
وليس ذلك الاستدلال بصحيح؛ فإن الذبح لغير الله - كما بينه شراح هذا الحديث من العلماء -: أن يذبح باسم غير الله؛ كمن ذبح للصنم، أو للصليب أو لموسى، أو لعيسى، أو للكعبة، أو نحو ذلك؛ فكل هذا حرام، ولا تحل هذه الذبيحة؛ سواء كان الذابح مسلما، أو يهوديا، أو نصرانيا؛ كما نص على ذلك الشافعي وأصحابه.
قال النووي في " شرح مسلم ": " فإن قصد الذابح مع ذلك تعظيم المذبوح له - وكان غير الله تعالى -، والعبادة له؛ كان ذلك كفرا، فإن كان الذابح مسلما قبل ذلك صار بالذبح مرتدا ". انتهى.
وهذا إذا كان الذبح باسم أمر من تلك الأمور؛ لا إذا كان لله، وقصد به الإكرام لمن يجوز إكرامه؛ فإنه لا وجه لتحريم الذبيحة ههنا كما سلف.
وذكر الشيخ إبراهيم المروزي من أصحاب الشافعي أن ما يذبح عند استقبال السلطان تقربا إليه؛ أفتى أهل بخارى بتحريمه؛ لأنه مما أهل به لغير الله.
قال الرافعي: " هذا إنما يذبحونه استبشارا بقدومه، فهو كذبح العقيقة لولادة المولود، ومثل هذا لا يوجب التحريم ". انتهى.
وهذا هو الصواب.
__________
(1) الأصل اجتناب مثل الدعاء؛ لأنه مما يكثر استعماله الروافض، فتنبه.

(3/56)


وفي " روضة الإمام النووي ": " من ذبح للكعبة تعظيما لها لكونها بيت الله؛ أو لرسول الله لأنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فهذا لا يمنع الذبيحة؛ بل تحل " (1) ، قال: " ومن هذا القبيل الذبح الذي يذبح عند استقبال السلطان استبشارا بقدومه؛ فإنه نازل منزلة الذبح للعقيقة لولادة ". انتهى.
وقد أشعر أول كلامه أن من ذبح للسلطان تعظيما له - لكونه سلطان الإسلام - كان ذلك جائزا؛ مثل الذبح له لأجل الاستبشار بقدومه؛ إذ لا فرق بين ذلك وبين الذبح للكعبة تعظيما لها لكونها بيت الله.
وذكر الدواري: أن من ذبح للجن، وقصد به التقرب إلى الله - تعالى - ليصرف عنه شرهم؛ فهو حلال، وإن قصد الذبح لهم فهو حرام ". انتهى.
وهذا يستفاد منه حل ما ذبح لإكرام السلطان بالأولى، وذلك هو الحق؛ لما أسلفناه من أن الأصل الحل، وأن الأدلة العامة قد دلت عليه، وعدم وجود ناقل عن ذلك الأصل، ولا مخصص لذلك العموم، والله أعلم ". انتهى كلام الشوكاني.
وفيه دليل على التفرقة بين ما يذبح للتقرب إلى غير الله - تعالى - وبين ما يذبح لغيره من الاستبشار ونحوه؛ كالذبح للعقيقة، والوليمة، والضيافة، ونحوها، فالأول يحرم، والثاني يحل.
قال ابن حجر المكي في " الزواجر ":
__________
(1) في النفس من هذه الإباحة شيء.

(3/57)


" وجعل أصحابنا مما يحرم الذبيحة أن يقول: باسم الله، واسم محمد، أو محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجر (اسم) الثاني، أو (محمد) إن عرف النحو فيما يظهر، أو أن يذبح كتابي لكنيسة، أو لصليب، أو لموسى، أو لعيسى، ومسلم للكعبة، أو لمحمد - صلى الله عليه وسلم -؛ أو تقربا لسلطان، أو غيره، أو للجن.
فهذا كله يحرم المذبوح، وهو كبيرة ".
قال: " ومعنى ما أهل به لغير الله: ما ذبح للطواغيت والأصنام؛ قاله جمع.
وقال آخرون: يعني: ما ذكر عليه غير اسم الله.
قال الفخر الرازي: وهذا القول أولى؛ لأنه أشد مطابقة للفظ الآية.
قال العلماء: لو ذبح مسلم ذبيحة، وقصد بذبحه التقرب بها إلى غير الله - تعالى -؛ صار مرتدا، وذبيحته ذبيحة مرتد ". انتهى كلام " الزواجر ".
وقال صاحب " الروض ":
" إن المسلم إذا ذبح للنبي صلى الله عليه وسلم كفر ". انتهى.
قال الشوكاني في " الدر النضيد ":
" وهذا القائل من أئمة الشافعية، وإذا كان الذبح لسيد الرسل صلى الله عليه وسلم كفرا عنده؛ فكيف الذبح لسائر الأموات؟ ! ". انتهى.

(3/58)


قال الشيخ الفاضل - مفتي الديار النجدية - عبد الرحمن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي؛ في كتابه " فتح المجيد شرح كتاب التوحيد " في (باب ما جاء في الذبح لغير الله) : " قال شيخ الإسلام تقي الدين أحمد ابن تيمية - رحمه الله - في كتابه " اقتضاء الصراط المستقيم " (1) في الكلام على قوله - تعالى -: {وما أهل به لغير الله} : إن الظاهر أنه ما ذبح لغير الله؛ مثل أن يقال: هذا ذبيحة لكذا، وإذا كان هذا هو المقصود؛ فسواء لفظ به أو لم يلفظ! .
وتحريم هذا أظهر من تحريم ما ذبحه للحم، وقال فيه: باسم المسيح ونحوه، كما أن ما ذبحناه متقربين به إلى الله؛ كان أزكى وأعظم مما ذبحناه للحم، وقلنا عليه: باسم الله.
فإذا حرم ما قيل فيه: باسم المسيح، أو الزهرة؛ فلأن يحرم ما قيل فيه: لأجل المسيح أو الزهرة، وقصد به ذلك أولى؛ فإن العبادة لغير الله أعظم كفرا من الاستعانة بغير الله.
وعلى هذا؛ فلو ذبح لغير الله متقربا إليه يحرم؛ وإن قال فيه: باسم الله؛ كما قد يفعله طائفة من منافقي هذه الأمة؛ الذين قد يتقربون إلى الكواكب بالذبح، والبخور، ونحو ذلك.
وإن كان هؤلاء مرتدين لا تباح ذبيحتهم بحال؛ لكونه يجتمع في الذبيحة مانعان:
__________
(1) • (ص 124 - طبعة الخانجي) . (ن)

(3/59)


الأول: أنه مما أهل لغير الله به.
والثاني: أنها ذبيحة مرتد.
ومن هذا الباب: ما يفعله الجاهلون بمكة من الذبح للجن، ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن ذبائح الجن (1) .
قال الزمخشري: " كانوا إذا اشتروا دارا، أو بنوها، أو استخرجوا عينا؛ ذبحوا ذبيحة خوفا أن تصيبهم الجن، فأضيفت إليهم الذبائح لذلك ". انتهى كلام " فتح المجيد ".
وقد نقل الشوكاني أيضا العبارة المتقدمة لشيخ الإسلام في رسالته " الدر النضيد "، واستدل به على تحريم ما ذبح لغير الله - تعالى -؛ سواء لفظ به الذابح عند الذبح أو لم يلفظ؛ وهذا هو الحق.
( [الطعن أو الرمي للحيوان كالذبح إذا ند] :)
(وإذا تعذر الذبح لوجه جاز الطعن والرمي، وكان ذلك كالذبح) ؛ لحديث أبي العشراء عن أبيه: قلت: يا رسول الله! أما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ قال: " لو طعنت في فخذها لأجزأك "؛ أخرجه أحمد، وأهل " السنن "، وفي إسناده مجهولون، وأبو العشراء لا يعرف من أبوه، ولم يرو عنه غير حماد بن سلمة، فهو مجهول، فلا تقوم الحجة بروايته.
والذي يصلح للاستدلال به حديث رافع بن خديج في " الصحيحين "،
__________
(1) • رواه البيهقي بسند ضعيف. (ن)

(3/60)


وغيرهما، قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فند (1) بعير من إبل القوم، ولم يكن معهم خيل، فرماه رجل بسهم فحبسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن لهذه البهائم أوابد كأوابد الوحش (2) ، فما فعل منها هذا؛ فافعلوا به هكذا ".
( [ذكاة الجنين ذكاة أمه] :)
(وذكاة الجنين ذكاة أمه) ؛ لحديث أبي سعيد عند أحمد، وابن ماجه، وأبي داود، والترمذي، والدارقطني، وابن حبان - وصححه -، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال في الجنين: " ذكاته ذكاة أمه "؛ وللحديث طرق يقوي بعضها بعضا.
وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة تشهد له.
قلت: وعليه الشافعي، ووافقه محمد بن الحسن (3) .
وقال أبو حنيفة: لا يجوز حتى يخرج حيا فيذكى.
أقول: وأما التمسك بالآية الكريمة؛ فلا يخفى أنه من معارضة الخاص بالعام، وقد تقرر أن الخاص مقدم على العام.
__________
(1) ند البعير: إذا شرد وذهب على وجهه. (ش)
(2) الأوابد: جمع آبدة؛ وهي التي قد توحشت ونفرت من الإنس. (ش)
(3) • ولكنه قيد الحكم بقيد ليس في الحديث، فقال في " الموطإ " (284) : " وبهذا نأخذ إذا تم خلقه، فذكاته ذكاة أمه؛ فلا بأس بأكله، فأما أبو حنيفة؛ فكان يكره أكله حتى يخرج حيا فيذكى، وكان يروي عن حماد، عن إبراهيم أنه قال: لا تكون ذكاة نفس ذكاة نفسين ".
وظاهر الحديث؛ أنه يؤكل مطلقا، سواء تم خلقه أو لا، وبه قال الشافعي وأحمد. (ن)

(3/61)


وقد قال ابن المنذر: إنه لم يرو عن أحد من الصحابة ولا من العلماء؛ أن الجنين لا يؤكل إلا باستئناف الذكاة فيه؛ إلا ما روي عن أبي حنيفة - رحمه الله -.
قال ابن القيم: " وردت السنة الصحيحة الصريحة المحكمة بأن ذكاة الجنين ذكاة أمه؛ بأنها خلاف الأصول، وهو تحريم الميتة؛ فيقال: الذي جاء على لسانه تحريم الميتة استثنى السمك والجراد من الميتة، فكيف وليست بميتة؟ {فإنها جزء من أجزاء الأم، والذكاة قد أتت على جميع أعضائها، فلا يحتاج أن يفرد كل جزء منها بذكاة، والجنين تابع للأم جزء منها، فهذا هو مقتضى الأصول الصحيحة؛ ولو لم ترد السنة بالإباحة، فكيف وقد وردت بالإباحة الموافقة للقياس والأصول؟} ".
فقد اتفق النص، والأصل، والقياس؛ ولله الحمد.
( [ما قطع من الحيوان الحي فهو ميتة] :)
(وما أبين من الحي فهو ميتة) ؛ لحديث ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ما قطع من بهيمة وهي حية؛ فما قطع منها فهو ميتة "؛ أخرجه ابن ماجه، والبزار، والطبراني، وقد قيل: إنه مرسل.
هذا يدل على تحريم الأكل، ولا ملازمة بينه وبين النجاسة؛ كما عرفت غير مرة.
وأخرج أحمد (1) ، والترمذي، وأبو داود، والدارمي من حديث أبي واقد
__________
(1) • في " المسند " (5 / 218) ، وسنده حسن، وصححه الحاكم (4 / 239) على شرط البخاري، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا.
ولولا أن في أحد رواته - وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ضعفا - لصححناه، ولكن الحديث صحيح على كل حال لشواهده المذكورة في الكتاب، وله شاهد آخر عن أبي سعيد الخدري صححه الحاكم على شرطهما، ووافقه الذهبي؛ وإنما هو على شرط البخاري فقط، (ن)

(3/62)


الليثي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما قطع من البهيمة وهي حية؛ فهو ميتة ".
وأخرج ابن ماجه، والطبراني، وابن عدي نحوه من حديث تميم الداري.
قلت: وكان أهل الجاهلية يجبون أسنمة الإبل، ويقطعون أليات الغنم، فنهوا عن ذلك؛ لأن فيه تعذيبا ومناقضة لما شرع الله - تعالى - من الذبح.
( [أحل السمك والجراد من الميتة، والكبد والطحال من الدماء] :)
(وتحل ميتتان ودمان: السمك والجراد) ، وعليه أهل العلم.
(والكبد والطحال) ، وهما عضوان من أعضاء بدن البهيمة؛ لكنهما يشبهان الدم، فأزاح النبي صلى الله عليه وسلم الشبهة فيهما، وليس في الحوت والجراد دم مسفوح؛ فلذلك لم يشرع فيهما الذبح.
ووجهه حديث ابن عمر عند أحمد، وابن ماجه، والدارقطني، والشافعي، والبيهقي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" أحل لنا ميتان ودمان؛ فأما الميتتان؛ فالحوت والجراد، وأما الدمان؛ فالكبد والطحال ".
وفي إسناده عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وهو ضعيف (1) .
__________
(1) • قلت: لكنه لم يتفرد به؛ بل تابعه أخواه أسامة وعبد الله؛ عند البيهقي (1 / 254) ، وهما ثقتان - على ضعف يسير في حفظهما -، فالحديث - على هذا - حسن على أقل الدرجات.
ثم هو صحيح، فقد تابعهم عند البيهقي أيضا سليمان بن بلال؛ إلا أنه أوقفه على ابن عمر، وإسناده صحيح.
وهو في معنى المسند المرفوع، كما قال البيهقي؛ لأن قول الصحابي: أحل لنا كذا؛ هو كقوله: أمرنا بكذا ونهينا عن كذا، وهذا في حكم المرفوع؛ كما هو مقرر في مصطلح الحديث. (ن)

(3/63)


وفي " الصحيحين "، وغيرهما من حديث ابن أبي أوفى قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات؛ نأكل الجراد.
وفيهما - أيضا - من حديث جابر: أن البحر ألقى حوتا ميتا، فأكل منه الجيش، فلما قدموا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: " كلوا رزقا أخرج الله لكم، أطعمونا منه إن كان معكم "، فأتاه بعضهم بشيء.
وفي " البخاري " عن عمر؛ في قوله - تعالى -: {أحل لكم صيد البحر} قال: صيده ما اصطيد، وطعامه ما رمى به.
وفيه، عن ابن عباس، قال: طعامه ميتته؛ إلا ما قذرت منها.
وفيه، قال ابن عباس: كل من صيد البحر؛ صيد يهودي، أو نصراني، أو مجوسي. انتهى.
وإلى هذا ذهب الجمهور، فقالوا: ميتة البحر حلال؛ سواء ماتت بنفسها أو بالاصطياد.
وذهبت الحنفية إلى أنه لا يحل إلا ما مات بسبب آدمي، أو بإلقاء الماء له، أو جزره عنه، وأما ما مات أو قتله حيوان غير آدمي؛ فلا يحل.
واستدلوا بما أخرجه أبو داود من حديث جابر - مرفوعا - بلفظ:
" ما ألقاه البحر أو جزر عنه؛ فكلوا، وما مات فيه فطفا؛ فلا تأكلوه؛ وفي إسناده يحيى بن سليم، وهو ضعيف الحفظ.

(3/64)


وقد روي من غير هذا الوجه، وفيه ضعف.
قلت: ظاهر القرآن والحديث إباحة ميتات البحر كلها، والمراد منها كل ما يعيش في البحر، فإذا أخرج منه كان عيشه عيش المذبوح كالسمك، فكل ذلك حلال بأنواعه، ولا حاجة إلى ذبحه؛ سواء يؤكل مثله في البر، كالبقر والغنم؛ أو لا يؤكل، كالكلب والخنزير، والكل سمك وإن اختلفت الصور؛ بخلاف ما يعيش في الماء؛ فإذا أخرج دام حيا، فإن كان طائرا كالبط فذبح؛ فحلال، ولا يحل ميتتها.
وإن كان غيرها - كالضفدع، والسرطان، والسلحفاة، وذوات السموم؛ كالحية، والعقرب -؛ فحرام، وعليه الشافعي.
أقول: وعلى هذا فقوله - تعالى -: {أحل لكم صيد البحر} ؛ المراد منه: ما يصطاد بالقصد والاختيار، وقوله: {وطعامه} المراد منه: ميتات البحر؛ مما لم يصد بالاختيار، كنى به عن الميتة كراهية لذكر الميتة في مقام التحليل.
وقوله: {متاعا لكم} : إباحته لأهل الحضر.
وقوله: {وللسيارة} ؛ المراد منه: إباحته للأهل السفر.
وقال أبو حنيفة: جميع حيوانات البحر حرام؛ إلا السمك المعروف.
أقول: الحق أن كل حيوان بحري حلال على أي صورة كان؛ {أحل لكم صيد البحر} ، " هو الطهور ماؤه والحل ميتته "، فمن جاءنا بدليل يصلح

(3/65)


لتخصيص هذا العموم؛ قبلناه.
( [الضرورات تبيح المحظورات] :)
(وتحل الميتة للمضطر) ؛ لقوله تعالى: {إلا ما اضطررتم إليه} ، وقد ثبت تحليل الميتة عند الجوع من حديث أبي واقد الليثي عند أحمد، والطبراني، برجال ثقات (1) ، ومن حديث جابر بن سمرة عند أحمد (2) ، وأبي داود بإسناد لا مطعن فيه، ومن حديث الفجيع العامري عند أبي داود (3) .
وقد اختلف في المقدار الذي يحل تناوله، وظاهر الآية أنه يحل ما يدفع الضرورة؛ لأن من اندفعت ضرورته فليس بمضطر.
قال في " المسوى ": " أما ذبائح أهل الكتاب فتحل بنص الكتاب: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم} .
أقول: معنى الآية باتفاق المفسرين: ذبائح اليهود والنصارى حلال لكم، وذبائحكم حلال لهم.
__________
(1) • هو كما قال، ولكنه منقطع؛ فإنه عند أحمد (5 / 218) ؛ من طريق حسان بن عطية، عن أبي واقد؛ وهذا مرسل كما في " تهذيب التهذيب ".
ومن هذا الوجه؛ أخرجه الدارمي (2 / 88) . (ن)
(2) • في " المسند " (5 / 87، 88، 97، 104) ، وأبو داود (2 / 146) .
وإسنادهما حسن. (ن)
(3) • قلت: وفي سنده عقبة بن وهب العامري، ليس بالمشهور قال الذهبي: " لا يعرف، وخبره لا يصح ".
قلت: ويعني هذا الذي أشار إليه المؤلف، وفي لفظه ما يدل على أن المضطر يباح له من الميتة ما يحتاجه منها، فهو لو صح؛ لكان حجة على المؤلف. (ن)

(3/66)


قيل: أي فائدة في الحل لهم؛ وهم كفار ليسوا من أهل الشرع؟ {
فقال الزجاج: معناه حلال لكم أن تطعموهم، وأقول: معناه: حلال لهم إذا التزموا شريعتنا أكلوها.
وكان اليهود يزعمون أن بني إسرائيل لا يحل لهم ذبائح العرب، فبين الله - تعالى - أن الأحكام الشرعية لا تتفاوت بالنسبة إلى قوم دون قوم.
وعليه أهل العلم؛ أن ذبائح اليهود والنصارى حلال لنا، وذبائح المجوس لا تحل ".
وفي " الموطإ ": سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى العرب؟ فقال: لا بأس بها، وتلا هذه الآية: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} .
قلت: عليه أبو حنيفة.
وقال الشافعي: لا تحل ذبيحة المتنصر بعد التحريف والنسخ (1) ، والمشكوك فيه.
( [ذبائح المسلمين على اختلاف نحلهم حلال] :)
أقول: ذبائح جميع المسلمين - على اختلاف نحلهم، وتبيان طرائقهم -
__________
(1) • وقد ضعف هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاختيارات " (3 / 193) ؛ وهو حري بالضعف، واستغرب هذا القول من مثل الإمام الشافعي؛ لأن أهل الكتاب الذين كانوا في عهده صلى الله عليه وسلم - وفيهم نزلت الآية المذكورة -؛ إنما كان كتابهم محرفا بنص القرآن، ولا فرق بين من كان منتسبا إلى من كان أبوه أو جده في ذلك الدين قبل التحريف أو بعده} (ن)

(3/67)


حلال؛ لأن الله - جل جلاله - إنما نهانا عن أكل ما لم يذكر عليه اسمه، وكل مسلم لا يذبح إلا ذاكرا لاسم الله تحقيقا أو تقديرا؛ على أي مذهب كان.
وذبائح أهل الكتاب تابعة لتحليل أطعمتهم؛ إما لصدق اسم الطعام عليها؛ أو لأنها من الإدام اللاحق للطعام.
ويؤيده أكله صلى الله عليه وسلم للشاة التي أهدتها له اليهودية من خيبر بعد طبخها لها.
ولا نسلم أن ذبائحهم مما لم يذكر عليه اسم الله، فإنهم يذبحون لله، وليسوا كأهل الكفر من غيرهم.
فالحاصل: أن الذبح الذي تحل به الذبيحة ما في حديث رافع بن خديج بلفظ: " ما أنهر الدم وذكر الله عليه فكلوا "؛ أخرجه الجماعة كلهم.
وذبيحة المسلم - على أي مذهب كان، وفي أي بدعة وقع - هي مما يذكر عليه اسم الله، ومع الالتباس؛ هل وقعت التسمية من المسلم أو لا؟
قد دل الدليل على الحل؛ لما أخرجه البخاري، والنسائي، وأبو داود، وابن ماجه، من حديث عائشة: قالت: يا رسول الله! إن قوما حديثو عهد بجاهلية يأتوننا باللحمان؛ لا ندري أذكروا اسم الله عليها؛ أم لم يذكروا؛ أنأكل منها أم لا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اذكروا اسم الله وكلوا ".
فأمره صلى الله عليه وسلم بإعادة التسمية مشعر بأن ذبيحة من لم يسم - سواء كان مسلما أو غير مسلم - حلال.

(3/68)


ويحمل قوله - تعالى -: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} على عدم الذكر الكلي عند الذبح، وعند الأكل، وهو الظاهر من نفي ذكر اسم الله.
فاللحم إذا سمى عليه الآكل عند الأكل - والذابح كافر لم يسم - يكون مما ذكر عليه اسم الله - تعالى -، وهذا من الوضوح بمكان، ولا عبرة بخصوص السبب؛ وهو كون عائشة كان سؤالها عن اللحمان التي يأتي بها من المسلمين من كان حديث عهد بالجاهلية؛ بل الاعتبار بعموم اللفظ - كما تقرر في الأصول -.
والحق: أن ذبيحة الكافر حلال إذا ذكر عليها اسم الله، ولم يهل بها لغير الله؛ كالذبح للأوثان ونحوها.
فإن قلت: الكافر لا يذكر اسم الله على الذبيحة، وقد قال - تعالى -: {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} وقال: {فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه} وقال صلى الله عليه وسلم: " ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه "،
قلت: هذا لا يتم إلا بعد العلم بأن الكافر لا يذكر اسم الله على ذبيحته.
وأما الاحتجاج لعدم اشتراط التسمية بحديث اللحمان المتقدم؛ فليس فيه دليل على عدم اشتراط التسمية مطلقا؛ بل عدم اشتراطها عند الذبح.
وأما حديث: " ذبيحة المسلم حلال؛ ذكر اسم الله أو لم يذكر (1) "؛ فهو إما مرسل؛ أو موقوف؛ فكيف ينتهض لمعارضة الكتاب العزيز؟ !
__________
(1) ضعفه شيخنا في " الإرواء " (2537) .

(3/69)


ثم هو خاص بالمسلم، والنزاع في الكافر، وكذلك الحديث الأول خاص بالمسلم؛ لقوله: " إن قوما حديثو عهد بالجاهلية "، فلا يتم الاستدلال به على عدم اشتراط التسمية مطلقا.
وحاصل البحث: أنه إذا ذبح الكافر ذاكرا لاسم الله عز وجل، غير ذابح لغير الله، وأنهر الدم، وفرى الأوداج؛ فليس في الآية ما يدل على تحريم هذه الذبيحة الواقعة على هذه الصفة.
فمن زعم أن الكافر خارج من بعد ذلك بعد أن ذبح لله تعالى وسمى؛ فالدليل عليه (1) .
وأما ذبح الكافر لغير الله؛ فهذه الذبيحة حرام؛ ولو كانت من مسلم.
وهكذا إذا ذبح غير ذاكر لاسم الله - عز وجل -؛ فإن إهمال التسمية منه كإهمال التسمية من مسلم حيث ذبحا جميعا لله - عز وجل -.
وإذا عرفت هذا؛ لاح لك أن الدليل على من قال باشتراط إسلام الذابح؛ لا على من قال بأنه لا يسقط، فلا حاجة إلى الاستدلال على عدم الاشتراط بما لا دلالة فيه على المطلوب؛ كالاحتجاج بقوله (2) صلى الله عليه وسلم: " لم ينه عن ذبائح المنافقين "؛ فإن المنافقين كان يعاملهم صلى الله عليه وسلم معاملة المسلمين في جميع الأحكام؛ عملا بما أظهروه من الإسلام، وجريا على الظاهر.
__________
(1) • الدليل هو مفهوم قوله - تعالى -: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} . (ن)
(2) لعل صوابه: بأنه صلى الله عليه وسلم لم ينه ... الخ. (ش)
قلت: بل هو نص حديث مرفوع رواه أبو داود في " المراسيل " (رقم 378) ، وضعفه الزيلعي في " نصب الراية " (4 / 183) .

(3/70)


وأما ما يقال من حكاية الإجماع على عدم حل ذبيحة الكافر؛ فدعوى الإجماع غير مسلمة، وعلى تقدير أن لها وجه صحة؛ فلا بد من حملها على ذبيحة كافر ذبح لغير الله، أو لم يذكر اسم الله تعالى.
وأما ذبيحة أهل الذمة؛ فقد دل على حلها القرآن الكريم: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} .
ومن قال: إن اللحم لا يتناوله الطعام؛ فقد قصر في البحث، ولم ينظر في كتب اللغة، ولا نظر في الأدلة الشرعية المصرحة بأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل ذبائح أهل الكتاب؛ كما في أكله صلى الله عليه وسلم للشاة التي طبختها يهودية، وجعلت فيها سما، والقصة أشهر من أن تحتاج إلى التنبيه عليها.
ولا مستند للقول بتحريم ذبائحهم؛ إلا مجرد الشكوك والأوهام التي يبتلى بها من لم يرسخ قدمه في علم الشرع.
فإن قلت: قد يذبحونه لغير الله، أو بغير تسمية، أو على غير الصفة المشروعة في الذبح.
قلت: إن صح شيء من هذا (1) ؛ فالكلام في ذبيحته كالكلام في ذبيحة المسلم، إذا وقعت على أحد هذه الوجوه، وليس النزاع إلا في مجرد كون كفر الكتابي مانعا؛ لا كونه أخذ بشرط معتبر. انتهى.
__________
(1) • يشير إلى أنه لا يشترط شيء من ذلك في طعام أهل الكتاب؛ كأنه تمسك بعموم الآية: {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} .
واختار شيخ الإسلام اشتراط ذلك في بحث له مفيد في " اقتضاء الصراط المستقيم " (ص 120 - 123) .
ومن حجته؛ أن آية {وما أهل لغير الله به} ) - وما في معناها - عمومه محفوظ لم يخص منه صورة؛ بخلاف طعام الذين أوتوا الكتاب؛ فإنه يشترط له الذكاة المبيحة؛ فلو ذكى الكتابي في غير المحل المشروع لم تبح ذكاته ... الخ كلامه؛ فراجعه. (ن)

(3/71)


(4 - باب الضيافة)
( [حكم الضيافة في الإسلام] :)
(يجب على من وجد ما يقري به من نزل من الضيوف أن يفعل ذلك، وحد الضيافة إلى ثلاثة أيام، وما كان وراء ذلك فصدقة، ولا يحل للضيف أن يثوي عنده حتى يحرجه، وإذا لم يفعل القادر على الضيافة ما يجب عليه؛ كان للضيف أن يأخذ من ماله بقدر قراه) ؛ لحديث عقبة بن عامر في " الصحيحين " قال: قلت: يا رسول الله! إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا؛ فما ترى؟ قال: " إن نزلتم بقوم؛ فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم ".
وفيهما من حديث أبي شريح الخزاعي، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر؛ فليكرم ضيفه جائزته "، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: " يوم وليلة، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة، ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه "؛ أي: يضيق صدره.
وأخرج أحمد (1) ، وأبو داود، من حديث المقدام: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروما؛ كان
__________
(1) • في " المسند " (4 / 130، 132، 133) ؛ وسنده صحيح، كما ذكر الشارح، ثم خرجته في " الصحيحة " (2204) . (ن)

(3/72)


دينا له عليه؛ إن شاء اقتضاه؛ وإن شاء تركه "، وإسناده صحيح.
وأخرج أحمد، وأبو داود، والحاكم، من حديث أبي هريرة نحوه، وإسناده صحيح.
وفي الباب أحاديث.
وقد ذهب الجمهور إلى أن الضيافة مندوبة لا واجبة، واستدلوا بقوله: " فليكرم ضيفه جائزته "؛ قالوا: والجائزة هي العطية والصلة، وأصلها الندب.
ولا يخفى أن هذا اللفظ لا ينافي الوجوب، وأدلة الباب مقتضية لذلك؛ لأن التغريم لا يكون للإخلال بأمر مندوب، وكذلك قوله: " واجبة "؛ فإنه نص في محل النزاع، وكذلك قوله: " فما كان وراء ذلك فهو صدقة ".
قال في " المسوى ":
" وفي قوله: " جائزته " قولان:
أحدهما: يتكلف له في اليوم الأول بما اتسع له، ويقدم له في اليوم الثاني والثالث ما كان بحضرته، ولا يزيد على عادته، وما كان بعد الثلاثة فهو صدقة ومعروف، إن شاء فعل؛ وإن شاء ترك.
والثاني: أن جائزته أن يعطيه ما يجوز به مسافر يوما وليلة (1) ".
( [تحريم أكل طعام الغير بدون إذنه] :)
(ويحرم أكل طعام الغير بغير إذنه) ؛ لقوله تعالى: {ولا تأكلوا أموالكم
__________
(1) • لعل هذا التفسير هو الأقرب إلى الصواب؛ بدليل أن الجائزة أمر زائد على ضيافة الثلاثة أيام في حديث أبي شريح، والله أعلم. (ن)

(3/73)


بينكم بالباطل} ، وكل ما دل على تحريم مال الغير دل على ذلك؛ لأنه مال.
وإنما خص منه ما ورد فيه دليل يخصه؛ كالضيف إذا حرمه من يجب عليه ضيافته؛ كما مر.
( [أمثلة على أكل مال الغير] :)
(ومن ذلك: حلب ماشيته، وأخذ ثمرته وزرعه لا يجوز إلا بإذنه؛ إلا أن يكون محتاجا إلى ذلك؛ فليناد صاحب الإبل، أو الحائط، فإن أجابه؛ وإلا فليشرب، وليأكل غير متخذ خبنة (1)) ؛ للأدلة العامة والخاصة.
أما العامة؛ فظاهر كالآية الكريمة، وحديث خطبة الوداع، ونحو ذلك.
وأما الأدلة الخاصة فمثل: حديث ابن عمر في " الصحيحين ": أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يحلبن أحدكم ماشية أحد إلا بإذنه؛ أيحب أحدكم أن يؤتى مشربته فينتثل (2) طعامه؟ وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعمتهم، فلا يحلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه ".
وأخرج أحمد من حديث عمير مولى آبي اللحم، قال: " أقبلت مع سادتي نريد الهجرة، حتى إذا دنونا من المدينة، قال: فدخلوا وخلفوني في ظهرهم، فأصابتني مجاعة شديدة، قال: فمر بي بعض من يخرج من المدينة،
__________
(1) • الخبنة: معطف الإزار وطرف الثوب؛ أي: لا يأخذ منه في ثوبه. (ن)
(2) انتثله؛ أي: استخرجه وأخذه. (ش)

(3/74)


فقالوا: لو دخلت المدينة فأصبت من تمر حوائطها، قال: فدخلت حائطا، فقطعت منه قنوين، فأتاني صاحب الحائط، وأتى بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخبره خبري، وعلي ثوبان، فقال لي: " أيهما أفضل؟ "، فأشرت إلى أحدهما، فقال: " خذه وأعط صاحب الحائط الآخر "، فخلى سبيلي "، وفي إسناده ابن لهيعة (1) .
وله طريق أخرى عند أحمد، وفي إسنادها أيضا أبو بكر بن يزيد بن المهاجر؛ غير معروف الحال.
وقد أعل هذا الحديث بأن في إسناده عبد الرحمن بن إسحاق عن محمد ابن زيد، وهو ضعيف (2) .
وأخرج أحمد، والترمذي، وابن ماجه، من حديث ابن عمر، قال: سئل
__________
(1) • وكذا في " النيل " (8 / 127) - نقلا عن " مجمع الزوائد " -!
ولم أجد لهذا الحديث في " المسند " إلا طريقا واحدا؛ أخرجه (5 / 223) من طريق عبد الرحمن ابن إسحاق: حدثني أبي، عن عمه، وعن أبي بكر بن زيد بن المهاجر، أنهما سمعا عميرا ...
قلت: وهذا سند حسن عندي؛ فإن رجاله كلهم ثقات معروفون، وأبو بكر بن زيد بن المهاجر: هو محمد بن زيد بن المهاجر، كما جزم به الحافظ في " التعجيل "، وهو ثقة من رجال مسلم؛ وعبد الرحمن بن إسحاق: هو ابن عبد الله بن الحارث بن كنانة العامري؛ ثقة أيضا من رجال مسلم، وفيه ضعف يسير؛ وأبوه ثقة؛ وعمه لم أعرفه؛ ولا يضر؛ فإنه مقرون بأبي بكر.
ثم وجدت الحديث في " المستدرك " (4 / 132 - 133) ؛ وقال: " صحيح الإسناد "، ووافقه الذهبي. (ن)
(2) • هذا مشكل؛ فإن محمد بن زيد: هو أبو بكر، وهو ثقة عندنا - كما سلف -، ومجهول الحال عند المؤلف؛ فكيف يقول الآن: " وهو ضعيف ".
وإن رجعنا الضمير إلى عبد الرحمن بن إسحاق؛ فهو خطأ أيضا؛ لأنه ليس في هذه المنزلة من الضعف؛ بحيث يسوغ القول فيه أنه ضعيف. (ن)

(3/75)


رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يدخل الحائط؟ فقال: " يأكل غير متخذ خبنة ".
وأخرج أبو داود، والترمذي، - وصححه - من حديث سمرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أتى أحدكم على ماشية؛ فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، فإن أذن له فليحتلب وليشرب، وإن لم يكن فيها أحد فليصوت ثلاثا، فإن أجابه أحد فليستأذنه، فإن لم يجبه أحد فليحتلب وليشرب، ولا يحمل "، وهو من سماع الحسن عن سمرة، وفيه مقال معروف.
وأخرج أحمد، وابن ماجه، وأبو يعلى، وابن حبان، والحاكم، من حديث أبي سعيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أتى أحدكم حائطا، فأراد أن يأكل؛ فليناد صاحب الحائط ثلاثا، فإن أجابه وإلا فليأكل، وإذا مر أحدكم بإبل؛ فأراد أن يشرب من ألبانها فليناد: يا صاحب الإبل {أو: يا راعي الغنم} فإن أجابه وإلا فليشرب ".
وأخرج الترمذي، وأبو داود، من حديث رافع، قال: كنت أرمي نخل الأنصار، فأخذوني، فذهبوا بي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " يا رافع {لم ترمي نخلهم؟ "، قال: قلت يا رسول الله} الجوع. قال: " لا ترم؛ وكل ما وقع؛ أشبعك الله وأرواك " (1) .
وأخرج أبو داود، والنسائي، من حديث شرحبيل بن عباد في قصة مثل قصة رافع، وفيها: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحب الحائط: " ما علّمت إذ كان جاهلا، ولا أطعمت إذ كان جائعا؟ ! " (2) .
__________
(1) حديث ضعيف؛ وانظر " الإرواء " (2518) .
(2) • صححه الحاكم (4 / 133) ، ووافقه الذهبي؛ وهو كما قالا. (ن)

(3/76)


والمراد بالخبنة: ما يحمله الإنسان في حضنه؛ وهي: بضم الخاء المعجمة، وسكون الباء الموحدة، وبعدها نون.
ويمكن الجمع بين الأحاديث: بأن تغريم النبي صلى الله عليه وسلم لآبي اللحم لعدم المناداة منه، ولو فرضنا عدم صحة الجمع بهذا؛ كانت أحاديث الإذن عند الحاجة مع المناداة أرجح.

(3/77)


(5 - باب آداب الأكل)
فقد علّم النبي - صلى الله عليه وسلم - آدابا يتأدبون بها في الطعام؛ كما ستأتي.
(1 -[التسمية] :)
(تُشرع للآكل التسمية) ؛ لحديث عائشة عند أحمد (1) ، وأبي داود، وابن ماجه، والنسائي، والترمذي - وصححه - قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا أكل أحدكم طعاما فليقل: بسم الله؛ فإن نسي في أوله فليقل: بسم الله على أوله وآخره ".
وأخرج مسلم، وغيره من حديث جابر: سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا دخل الرجل بيته، فذكر الله عند دخوله، وعند طعامه؛ قال الشيطان: لا مبيت لكم، ولا عشاء، وإذا دخل، فلم يذكر الله عند دخوله؛ قال الشيطان:
__________
(1) • في " المسند " (6 / 143، 207، 246، 265) ، وأبو داود (2 / 140) ، والترمذي (/ 102 3) ؛ عن أم كلثوم، عن عائشة.
وأم كلثوم - هذه - لم أجد من وثقها، ومع ذلك؛ فالترمذي يقول في حديثها هذا: " حديث حسين صحيح ".
وله شاهد من حديث أمية بن مخشي عند ابن السني (رقم 455) ، ورجاله ثقات؛ غير المثنى بن عبد الرحمن الخزاعي، وهو مستور؛ فالحديث به حسن - إن شاء الله -. (ن)

(3/78)


أدركتم المبيت، فإذا لم يذكر الله عند طعامه؛ قال: أدركتم المبيت والعشاء ".
وأخرج مسلم، وغيره من حديث حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إن الشيطان ليستحل الطعام الذي لم يذكر اسم الله عليه "؛ الحديث.
وأخرج الترمذي (1) ، عن عائشة، قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأكل طعاما في ستة من أصحابه، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أما إنه لو سمى لكفى لكم "، وقال: حسن صحيح.
وفي الباب أحاديث.
قلت: وعليه أهل العلم.
قال النووي: الأفضل أن يقول: بسم الله الرحمن الرحيم (2) ، فإن قال: بسم الله. حصلت السنة.
(2 -[الأكل باليمين] :)
(والأكل باليمين) ؛ لحديث ابن عمر عند مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" لا يأكل أحدكم بشماله، ولا يشرب بشماله؛ فإن الشيطان يأكل
__________
(1) • في إسناده أم كلثوم التي في الإسناد السابق. (ن)
(2) لا دليل على هذه الأفضلية، ولا تحصل السنة إلا بالسنة {فتأمل}

(3/79)


بشماله، ويشرب بشماله.
قلت: وعليه أهل العلم.
(3 -[الأكل من حافتي الطعام] :)
(ومن حافتي الطعام لا من وسطه) ؛ لحديث ابن عباس عند أحمد، وابن ماجه، والترمذي وصححه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
" البركة تنزل في وسط الطعام، فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه ".
وأخرجه أبو داود (1) بلفظ:
" إذا أكل أحدكم طعاما؛ فلا يأكل من أعلى الصحفة، ولكن ليأكل من أسفلها؛ فإن البركة تنزل من أعلاها ".
(4 -[الأكل مما يليه] :)
(ومما يليه) ؛ لحديث عمر بن أبي سلمة في " الصحيحين "، وغيرهما قال: كنت غلاما في حجر النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت يدي تطيش في الصحفة، فقال لي: " يا غلام! سمّ الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك ".
(5 -[لعق الأصابع والصحفة] :)
(ويلعق أصابعه والصحفة) ؛ لحديث أنس عند مسلم، وغيره: أن النبي
__________
(1) • في " سننه " (2 / 140) ؛ وإسناده صحيح، وصححه الحاكم (4 / 116) ، ووافقه الذهبي. (ن)

(3/80)


صلى الله عليه وسلم كان إذا طعم طعاما لعق أصابعه الثلاث، وقال:
" إذا وقعت لقمة أحدكم؛ فليمط عنها الأذى، وليأكلها، ولا يدعها للشيطان "، وأمرنا أن نسلت (1) القصعة، وقال:
" إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ".
وفي " الصحيحين " من حديث ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا أكل أحدكم طعاما فلا يمسح يده حتى يَلعقها أو يُلعقها (2) ".
وأخرج مسلم من حديث جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلعق الأصابع والصحفة، وقال:
" إنكم لا تدرون في أي طعامكم البركة ".
قال في " الحجة البالغة ":
" وقد اتفق لنا أنه زارنا ذات يوم رجل من أصحابنا، فقربنا إليه شيئا، فبينا يأكل؛ إذ سقطت كسرة من يده، وتدهدهت في الأرض، فجعل يتبعها، وجعلت تتباعد عنه، حتى تعجب الحاضرون بعض العجب، وكابد هو في تتبعها بعض الجهد، ثم إنه أخذها فأكلها، فلما كان بعد أيام تخبط الشيطان إنسانا (3) ، وتكلم على لسانه، فكان فيما تكلم: إني مررت بفلان وهو يأكل، فأعجبني ذلك الطعام، فلم يطعمني منه شيئا، فخطفته من يده، فنازعني حتى أخذه مني.
__________
(1) سلت القصعة من الثريد: إذا مسحه. (ش)
(2) • قال النووي: " المراد: إلعاق غيره ممن لا يتقذر ذلك؛ من زوجة، وخادم، وولد، ولو ألعقها شاة ونحوها ". (ن)
(3) قارن بكتابي " برهان الشرع في إثبات المس والصرع ".

(3/81)


وبينا يأكل أهل بيتنا أصول الجزر؛ إذ تدهده بعضها، فوثب إليه إنسان فأخذه وأكله، فأصابه وجع في صدره ومعدته، ثم تخبطه الشيطان، فأخبر على لسانه أنه كان أخذ ذلك المتدهده.
وقد قرع أسماعنا شيء كثير من هذا النوع، حتى علمنا أن هذه الأحاديث ليست من باب إرادة المجاز، وإنما أريد به حقيقتها، فمن العلم الذي أعطاه الله نبيه صلى الله عليه وسلم حال الملائكة والشياطين، وانتشارهم في الأرض ". انتهى.
(6 -[الحمد عند الفراغ] :)
الحمد عند الفراغ والدعاء) ؛ لحديث أبي أمامة عند البخاري، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع مائدته قال: " الحمد لله كثيرا طيبا مباركا فيه؛ غير مكفي (1) ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا ".
وأخرج أحمد، وأبو داود (2) ، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي، والبخاري في " التاريخ " من حديث أبي سعيد، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل وشرب قال: " الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وجعلنا مسلمين ".
وأخرج أحمد، وابن ماجه، والترمذي - وحسنه - (3) من حديث معاذ بن أنس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) • أي: غير محتاج إلى أحد، لكنه هو الذي يطعم عباده ويكفيهم: " خطابي ". (ن)
(2) • في " سننه " (2 / 150) ، والترمذي (4 / 247) بسند ضعيف؛ لما سيأتي تحقيقه في الأشربة (ن)
(3) • وليس بحسن؛ فإنه من رواية أبي مرحوم عبد الرحيم بن ميمون؛ قال الذهبي: " ضعفه يحيى، وقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به ". (ن)
قلت: وقد انتهى الشيخ - أخيرا - إلى حسنه؛ فانظر " الإرواء " (1989) .

(3/82)


" من أكل طعاما، فقال: الحمد لله الذي أطعمني هذا ورزقنيه من غير حول مني ولا قوة؛ غفر له ما تقدم من ذنبه ".
وأخرج أبو داود (1) من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إذا أكل أحدكم طعاما فليقل: اللهم {بارك لنا فيه، وأطعمنا خيرا منه.
وإذا سُقي لبنا؛ فليقل: اللهم} بارك لنا فيه وزدنا منه؛ فإنه ليس شيء يجزي من الطعام والشراب إلا اللبن ".
وأخرجه الترمذي بنحوه وحسنه، ولكن في إسناده علي بن زيد بن جدعان، وفيه ضعف.
وقد رواه عن محمد بن حرملة.
قال أبو حاتم: بصري لا أعرفه!
(7 -[أن يستوي جالسا] :)
(ولا يأكل متكئا) ؛ لحديث أبي ححيفة عند البخاري، وغيره، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " أما أنا فلا آكل متكئا ".
قلت: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - بُعث في العرب، وعاداتهم
__________
(1) • في " السنن " (2 / 135) ، والترمذي (4 / 247) ؛ عن علي بن زيد، عن عمر بن حرملة، عن ابن عباس؛ وحسنه الترمذي؛ وليس كذلك؛ لما ذكره الشارح. (ن)
قلت: ثم حسنه الشيخ بطرقه في " الصحيحة " (2320) .

(3/83)


أوسط العادات، ولم يكونوا يتكلفون تكلف العجم، والأخذ بها أحسن، ولا أحسن لأصحاب الملة من أن يتبعوا سيرة إمامها في كل نقير وقطمير.
وما أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم على خوان (1) ، ولا في سكرجة (1) ، ولا خبز له مرقق، ولا رأى شاة سميطا (2) بعينه قط، وما رأى منخلا - كانوا يأكلون الشعير غير منخول -.
__________
(1) • هو ما يوضع عليه الطعام.
والسكرجة: إناء صغير يؤكل فيه الشيء القليل من الأدم، وهي فارسية، وأكثر ما يوضع فيه الكوامخ ونحوها. (ن)
(2) • أي: مشوية؛ فعيل بمعنى مفعول. (ن)

(3/84)