الدرر البهية والروضة الندية والتعليقات الرضية

 (الكتاب الرابع عشر: كتاب الأشربة)

(3/85)


(14 - كتاب الأشربة)
( [كل مسكر خمر وكل مسكر حرام] :)
(كل مسكر حرام) ؛ لما أخرجه مسلم، وغيره من حديث ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " كل مسكر خمر، وكل مسكر حرام "، فيشمل ذلك جميع أنواع الخمر؛ من الشجرتين وغيرهما، فيتناوله قوله - تعالى -: {إنما الخمر والميسر} الآية.
وفي لفظ لمسلم: " كل مسكر خمر، وكل خمر حرام ".
وفي " الصحيحين " من حديث عائشة، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع؟ وهو نبيذ العسل، وكان أهل اليمن يشربونه، فقال صلى الله عليه وسلم:
" كل شراب أسكر فهو حرام ".
وفيهما نحوه من حديث أبي موسى.
وفي الباب أحاديث.
قال في " الحجة البالغة ":
" وقد استفاض عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحاديث كثيرة؛ من طرق لا تحصى، وعبارات مختلفة، فقال: " الخمر من هاتين الشجرتين: النخلة والعنبة ".

(3/87)


وكذلك اتفقت جميع الملل والنحل على قبحه بالمرة.
وليس الأمر كما يظنه من لا بصيرة له؛ من أنه حسن بالنظر إلى الحكمة العملية؛ لما فيه من تقوية الطبيعة! فإن هذا الظن من باب اشتباه الحكمة الطبية بالحكمة العملية.
والحق أنهما متغايرتان، وقد نزل تحريم الخمر؛ وهي من خمسة أشياء: العنب، والتمر، والحنطة، والشعير، والعسل.
( [مم يكون الخمر؟] :)
والخمر: ما خامر العقل.
وقال: لقد حرمت الخمر حين حرمت، وما نجد خمر الأعناب إلا قليلا، وعامة خمرنا: البسر والتمر، وكسروا دنان الفضيخ (1) حين نزلت، وهو يقتضيه قوانين التشريع؛ فإنه لا معنى لخصوصية العنب، وإنما المؤثر في التحريم كونه مزيلا يدعو قليله إلى كثيره، فيجب به القول.
ولا يجوز لأحد اليوم أن يذهب إلى تحليل ما اتخذ من غير العنب، واستعمل أقل من حد الإسكار.
نعم؛ كان ناس من الصحابة والتابعين لم يبلغهم الحديث في أول الأمر، فكانوا معذورين؛ ولما استفاض الحديث، وظهر الأمر كرابعة النهار، وصح حديث: " ليشربن ناس من أمتي الخمر؛ يسمونها بغير اسمها "؛ لم يبق عذر، أعاذنا الله - تعالى - والمسلمين من ذلك ". انتهى.
__________
(1) • شراب يتخذ من البسر المفضوخ؛ أي: المشدوخ. (ن)

(3/88)


وتمام هذا البحث في " مسك الختام "، فليرجع إليه.
( [ما أسكر كثيره فقليله حرام] :)
(وما أسكر كثيره فقليله حرام) ، لحديث عائشة عند أحمد، وأبي داود، والترمذي وحسنه، وابن حبان، والدارقطني - وأعله بالوقف -، قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
" كل مسكر حرام؛ وما أسكر الفرق (1) منه؛ فملء الكف منه حرام "، ورجاله رجال الصحيح؛ إلا عمرو بن سالم الأنصاري مولاهم المدني؛ قال المنذري: لم أر أحدا قال فيه كلاما، وقال الحاكم: هو معروف بكنيته؛ يعني: أبا عثمان (2) .
وأخرج أحمد (3) ، وابن ماجه، والدارقطني - وصححه -، من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " ما أسكر كثيره فقليله حرام ".
وأخرجه أبو داود (4) ، والترمذي - وحسنه -، وقال ابن حجر: رجاله ثقات -، من حديث جابر.
__________
(1) بفتح الفاء وإسكان الراء؛ هو مئة وعشرون رطلا - ويقال: بفتح الراء -، وهو مكيال يسع تسعة عشر رطلا، والأول هو الذي اعتمده صاحب " اللسان " وشراح الحديث. (ش)
(2) • قال الحافظ في " التقريب ": مقبول. (ن)
قلت: لكن وفقه أبو داود؛ فحديثه هذا صحيح؛ وانظر " الإرواء " (2376) .
(3) • برقم (5648) ؛ وفي سنده أبو معشر، واسمه: نجيح، وهو ضعيف.
وفي " سنن ابن ماجه " (2 / 332) ضعف أيضا وانقطاع؛ لكن يشهد له الأحاديث الآتية. (ن)
(4) • في " سننه " (2 / 129) ، وكذا أحمد (3 / 343) ؛ وسنده صحيح لا علة له.
وكذلك رواه ابن ماجه. (ن)

(3/89)


وأخرجه أيضا أحمد (1) ، والنسائي، وابن ماجه، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده.
وفي الباب أحاديث.
قال في " المسوى ":
" وعليه الشافعي، وأبو حنيفة؛ إلا أن الشافعي يقول: كل ما خامر العقل فهو خمر، قليله وكثيره حرام، يجب منه الحد؛ سواء كان من عنب، أو تمر، أو عسل، أو غير ذلك؛ وسواء كان نيئا أو مطبوخا.
وفي مذهب أبي حنيفة: النيء من ماء العنب إذا اشتد هو الخمر، والمسكر من فضيخ التمر حرام؛ يحد منه دون سائر المسكرات ". انتهى.
( [ما هي الآنية التي يجوز الانتباذ بها؟] :)
(ويجوز الانتباذ في جميع الآنية) ؛ لما أخرجه مسلم، وغيره من حديث بريدة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" كنت نهيتكم عن الأشربة إلا في ظروف الأدم (2) ، فاشربوا في كل وعاء؛ غير أن لا تشربوا مسكرا ".
وفي لفظ لمسلم - أيضا -، وغيره: " نهيتكم عن الظروف، وإن ظرفا لا
__________
(1) • في " المسند " (2 / 167، 179) ؛ وابن ماجه (2 / 332) ؛ من طريقين عن عمرو؛ فهو إسناد حسن. (ن)
(2) الأدم: الجلد. (ش)

(3/90)


يحل شيئا ولا يحرمه، وكل مسكر حرام ".
وفي الباب أحاديث مصرحة بنسخ ما قد كان وقع منه صلى الله عليه وسلم؛ من النهي عن الانتباذ في الدباء، والنقير، والمزفت، والحنتم (1) ، ونحوها؛ كما هو مذكور في الأحاديث المروية في " الصحيحين "، وغيرهما.
ذهب قوم إلى بقاء الحظر فيها، وبه قال مالك وأحمد.
( [حكم انتباذ جنسين مختلطين] :)
(ولا يجوز انتباذ جنسين مختلطين) ؛ لحديث جابر في " الصحيحين "، وغيرهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه نهى أن ينبذ التمر والزبيب جميعا، ونهى أن ينبذ الرطب والبسر جميعا.
وفيهما من حديث أبي قتادة نحوه.
ولمسلم نحوه من حديث أبي سعيد.
وله - أيضا - نحوه من حديث أبي هريرة.
وفي الباب أحاديث.
ووجه النهي عن انتباذ الخليطين؛ أن الإسكار يسرع إلى ذلك بسبب الخلط، فيظن المنتبذ أنه لم يبلغ حد الإسكار وقد بلغه.
__________
(1) جرار مدهونة خضرة، كانت تحمل الخمر فيها إلى المدينة.
وإنما نهى عن الانتباذ فيها؛ لأنها تسرع الشدة فيها من أجل دهنها. (ن)

(3/91)


قال النووي:
" ومذهب الجمهور: أن النهي في ذلك للتنزيه لا للتحريم، وإنما يحرم إذا صار مسكرا، ولا تخفى علامته.
وقال بعض المالكية: هو للتحريم ".
وقد ورد ما يدل على منع انتباذ جنسين؛ سواء كان مما ذكر في الأحاديث السابقة أم لا، وهو ما أخرجه النسائي، وأحمد، من حديث أنس قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجمع بين شيئين فيُنبذا؛ يبغي أحدهما على صاحبه "، ورجال إسناده ثقات (1) .
قال في " المسوى ":
" اختلف أهل العلم؛ فذهب جماعة إلى تحريمه؛ وإن لم يكن الشراب المتخذ منه مسكرا لظاهر الحديث، وبه قال مالك وأحمد.
وقال الأكثرون: هو حرام إذا كان مشتدا ومسكرا؛ إذ المعنى فيه الإسكار، وإنما خص ذكره؛ لأنه كان من عادتهم اتخاذ النبيذ المسكر بذلك.
وقال الليث: إنما جاءت الكراهة أن ينبذا جميعا؛ لأن أحدهما يشد صاحبه ".
( [حكم تخليل الخمر] :)
(ويحرم تخليل الخمر) ؛ لحديث أنس عند أحمد، وأبي داود، والترمذي
__________
(1) • فيه نظر؛ فإنه من طريق وقاء بن إياس؛ وفيه ضعف، وقال الحافظ: " لين الحديث ".
والحديث في " سنن النسائي " (2 / 324) . (ن)

(3/92)


وصححه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الخمر يتخذ خلا؟ فقال: " لا ".
وأخرج أحمد، وأبو داود، والترمذي، من حديثه - أيضا -: أن أبا طلحة سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أيتام ورثوا خمرا؟ فقال: " أهرقها "، قال: أفلا نجعلها خلا؟ قال: " لا ".
وقد عزاه المنذري في " مختصر السنن " إلى مسلم.
وله حديث ثالث نحوه أخرجه الدارقطني.
وأخرج أحمد من حديث أبي سعيد نحوه.
قال ابن القيم:
" وفي الباب عن أبي الزبير وجابر، وصح ذلك عن عمر بن الخطاب، ولا نعلم له في الصحابة مخالفا، ولم يزل أهل المدينة ينكرون ذلك.
قال الحاكم: سمعت أبا الحسن علي بن عيسى الحيري يقول: سمعت محمد بن إسحاق يقول: سمعت قتيبة بن سعيد يقول: قدمت المدينة أيام مالك، فتقدمت إلى قاض، فقلت: عندك خل خمر؟ فقال: سبحان الله! في حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ثم قدمت بعد موت مالك، فذكرت ذلك لهم، فلم ينكر علي أحد.
وأما ما روي عن علي من اصطناعه الخمر، وعن عائشة: أنه لا بأس به؛ فهو خل الخمر إذا تخللت بنفسها لا باتخاذها ". اه.

(3/93)


وفي " الحجة البالغة ":
" سئل عن الخمر يتخذ خلا؟ قال: " لا "، قيل: إنما أصنعها للدواء؟ فقال: " إنه ليس بدواء، ولكنه داء ".
أقول: لما كان الناس مولعين بالخمر، وكانوا يتحيلون لها حيلا؛ لم تتم المصلحة إلا بالنهي عنها على كل حال؛ لئلا يبقى عذر لأحد ولا حيلة ". انتهى.
( [جواز شرب العصير والنبيذ قبل تخمره] :)
(ويجوز شرب العصير والنبيذ قبل غليانه) ؛ لحديث أبي هريرة عند أبي داود (1) ، والنسائي، وابن ماجه، قال: علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصوم، فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء، ثم أتيته به، فإذا هو ينش (2) فقال:
" اضرب بهذا الحائط؛ فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر ".
وأخرج أحمد عن ابن عمر في العصير، قال: اشربه ما لم يأخذه شيطانه؟ قيل: وفي كم يأخذه شيطانه؟ قال: في ثلاث.
__________
(1) • في " سننه " (2 / 134) ، والنسائي (2 / 334) ، وابن ماجه (2 / 334) ؛ عن خالد بن عبد الله بن حسين، عن أبي هريرة؛ وخالد هذا لم يوثقه غير ابن حبان؛ فهو مجهول الحال، وفي " التقريب ": " مقبول ".
قلت: ولا أعلم أحدا تابعه على هذا السياق؛ فالحديث غير مقبول، والله أعلم. (ن)
(2) قوله: " فتحينت " - بالتاء والحاء؛ كما هو كذلك في أبي داود وغيره -؛ أي: ترقبت وقت إفطاره.
وقوله: " ينش "؛ أي: يغلي. (ش)

(3/94)


وأخرج مسلم، وغيره من حديث ابن عباس: أنه كان يُنقع للنبي صلى الله عليه وسلم الزبيب، فيشربه اليوم، والغد، وبعد الغد إلى مساء الثالثة، ثم يأمر به فيسقي الخادم أو يهراق.
قال أبو داود: ومعنى يسقي الخادم: يبادر به الفساد.
( [ما هي مدة الانتباذ؟] :)
(ومظنة ذلك ما زاد على ثلاثة أيام) ؛ لحديث ابن عباس المذكور.
وقد أخرج مسلم، وغيره من حديث عائشة: " أنها كانت تنتبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم غدوة، فإذا كان من العشي فتعشى شرب على عشائه، وإن فضل شيء صبته أو أفرغته، ثم تنتبذ له بالليل، فإذا أصبح تغدى فشرب على غدائه، قالت: نغسل السقاء غدوة وعشية "، وهو لا ينافي حديث ابن عباس - المتقدم - أنه كان يشربه اليوم، والغد، وبعد الغد إلى مساء الثالثة؛ لأن الثلاث مشتملة على زيادة غير منافية، والكل في " الصحيح ".
( [آداب الشرب] :)
(1 -[أن يتنفس ثلاثا] :)
آداب الشرب أن يكون ثلاثة أنفاس) ؛ لحديث أنس في " الصحيحين ": أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتنفس في الإناء ثلاثا.
وفي لفظ لمسلم: أنه كان يتنفس في الشراب ثلاثا، ويقول: " إنه أروى وأمرأ " (1) ، والمراد أنه كان يتنفس بين كل شربتين في غير الإناء.
__________
(1) • وزاد أبو داود (2 / 135) : " وأبرأ ". (ن)

(3/95)


(2 -[أن لا يتنفس في الإناء] :)
وأما التنفس في الإناء فمنهي عنه؛ لحديث أبي قتادة في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء ".
وأخرج أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، والترمذي - وصححه - (1) ، من حديث ابن عباس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يتنفس في الإناء، أو ينفخ فيه.
وأخرج أحمد، والترمذي (2) - وصححه -، من حديث أبي سعيد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النفخ في الشراب، فقال الرجل: القذاة أراها في الشراب، فقال: " أرقها "، فقال: إني لا أروى من نفس واحد، قال: " فأبِن؟ القدح إذاً عن فيك "، قلت: وعلى هذا أهل العلم. والنهي عن التنفس فيه، من أجل ما يخاف أن يبرز شيء من ريقه أو مخاطه فيقع في الماء.
وقد تكون النكهة من بعض من يشرب متغيرة، فتتعلق الرائحة بالماء لرقته ولطفه.
ثم إنه من فعل الدواب، إذا كرعت في الأواني كرعت، ثم تنفست فيها، ثم عادت فشربت، فيكون الأحسن في الأدب أن يتنفس بعد إبانة الإناء عن فمه.
__________
(1) • وهو كما قال؛ وإسناده رجال البخاري. (ن)
(2) • في " سننه " (3 / 113) ؛ وسنده حسن - إن شاء الله تعالى -. (ن)

(3/96)


والنفخ فيه يكون لأحد معنيين: فإن كان من حرارة الشراب؛ فليصبر حتى يبرد، وإن كان من أجل قذى؛ فليمطه بأصبع أو خلال، وإن تعذر فليرقها؛ كما جاء في الحديث.
(3 -[أن يشرب باليمين] :)
(وباليمين) ؛ لما تقدم في آداب الأكل.
(4 -[أن يشرب قاعدا] :)
(ومن قعود) ؛ لأن الشرب قاعدا من الهيئات الفاضلة، وأقرب لجموم النفس والري، وأن تصرف الطبيعة الماء في محله؛ لحديث أبي سعيد عند مسلم، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الشرب قائما.
وأخرج مسلم أيضا من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" لا يشربن أحدكم قائما، فمن نسي فليستقئ " (1) .
ولا يعارض هذا حديث ابن عباس في " الصحيحين ": أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب من ماء زمزم قائما، ولا ما أخرج البخاري، وغيره من حديث علي: أنه شرب وهو قائم، ثم قال: إن ناسا يكرهون الشرب قائما، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع مثل ما صنعت، ولا ما أخرجه أحمد (2) ، وابن ماجه، والترمذي
__________
(1) قلت: وهو حديث ضعيف بهذا اللفظ؛ وإنما يصح الشطر الأول منه، فانظر " الصحيحة " (175) .
(2) • في " المسند " (رقم 5874) ، وابن ماجه (2 / 310) ، والترمذي (3 / 111) ؛ وإسناده صحيح.
وله في " المسند " (رقم 4765، 4833) طريق أخرى عن ابن عمر؛ وإسناده حسن. (ن)

(3/97)


- وصححه - من حديث ابن عمر، قال: " كنا نأكل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نمشي، ونشرب ونحن قيام " (1) ؛ لأنه يمكن الجمع بأن الكراهة للتنزيه؛ وإن كان قوله: " فمن نسي فليستقئ " يشعر بعدم الجواز في حق من قصد مخالفة السنة (2) ؛ على أن فعله صلى الله عليه وسلم لا يعارض القول الخاص بالأمة، ويخصص القول الشامل له وللأمة، فيكون الفعل خاصا به؛ كما تقرر في الأصول.
قلت: وعليه أكثر أهل العلم؛ رأوا نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الشرب قائما نهي أدب وإرفاق؛ ليكون تناوله على سكون وطمأنينة، فيكون أبعد من أن يكون منه فساد في المعدة؛ كالكباد وغيره.
(5 -[أن يشرب الأيمن فالأيمن] :)
(وتقديم الأيمن فالأيمن) ؛ لحديث أنس في " الصحيحين "، وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتي بلبن قد شيب بماء، وعن يمينه أعرابي وعن يساره أبو بكر، فشرب، ثم أعطى الأعرابي، وقال: " الأيمن فالأيمن ".
وفيهما من حديث سهل بن سعد: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه، وعن يمنيه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: " أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ "، فقال الغلام: والله يا رسول الله! لا أوثر بنصيبي منك أحدا، فتله؛ أي: وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده.
قال في " الحجة البالغة ":
__________
(1) انظر " علل ابن أبي حاتم " (2 / 9)
(2) لعل الأولى أن يقال - بل الصواب أن يقال -: في حق من لم يستطع؛ يشعر بعدم الجواز إلا لعذر. (ن)

(3/98)


" أراد بذلك قطع المنازعة، فإنه لو كانت السنة تقديم الأفضل؛ ربما لم يكن الفضل مسلّما بينهم، وربما يجدون في أنفسهم من تقديم غيرهم حاجة ". اه
(6 -[الساقي آخر القوم شربا] :)
(ويكون الساقي آخرهم شربا) ؛ لحديث أبي قتادة عند ابن ماجه، وأبي داود، والترمذي - وصححه - وقال المنذري: رجال إسناده ثقات -، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ساقي القوم آخرهم شربا ".
وقد أخرجه أيضا مسلم بلفظ: قلت: لا أشرب حتى يشرب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " إن الساقي آخرهم شربا ".
(7، 8 -[التسمية على الشرب، والحمد في آخره] :)
(ويسمي في أوله، ويحمد في آخره) ؛ لحديث ابن عباس عند الترمذي (1) قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تشربوا نفسا واحدا كشرب البعير، ولكن اشربوا مثنى وثلاث، وسموا الله إذا أنتم شربتم، واحمدوا الله إذا أنتم رفعتم ".
وأخرج أحمد (2) ، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، والنسائي،
__________
(1) • في " سننه " (3 / 113) ، وضعفه بقوله: " هذا حديث غريب؛ ويزيد بن سفيان الجزري: هو أبو فروة الرهاوي ".
قلت: وهو ضعيف، كما في " التقريب "، فعزو الحديث للترمذي، وحذف كلامه الذي يدل على ضعفه؛ ليس من الصواب في شيء! (ن)
(2) • في " المسند " (3 / 32، 98) ، وأبي داود (2 / 150) ، والترمذي (4 / 247) ، وابن ماجه (2 / 307) ، وابن السني - أيضا (رقم 458) من طريق النسائي -؛ وليس عند أحد منهم: " وشرب "؛ إلا الترمذي، وسنده ضعيف.
ثم إن في إسناد الحديث اختلافا، ذكره الحافظ في " التهذيب " (3 / 300) ؛ فالحديث ضعيف من أصله، والله أعلم. (ن)

(3/99)


والبخاري في " التاريخ " من حديث أبي سعيد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أكل وشرب قال: " الحمد لله الذي أطعمنا، وسقانا، وجعلنا مسلمين ".
( [حكم التنفس في السقاء، والنفخ فيه والشرب من فمه] :)
(ويكره التنفس في السقاء، والنفخ فيه) ؛ وقد تقدمت أدلة ذلك في الشرب ثلاثة أنفاس.
(والشرب من فمه) لأنه إذا ثنى فم القربة فشرب منه؛ فإن الماء يتدفق وينصب في حلقه دفعة، وهو يورث الكباد، ويضر بالمعدة، ولا يتميز عنده في دفق الماء وانصبابه القذاة ونحوها.
ودليله حديث أبي سعيد في " الصحيحين " قال: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اختناث الأسقية؛ أن يشرب من أفواهها (1) .
وفي رواية لهما: " واختناثها: أن يقلب رأسها ثم يشرب منه ".
وفي " البخاري " من حديث أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب من في السقاء.
__________
(1) • وسببه ما في " مسند ابن أبي شيبة " بإسناد صحيح عن أبي سعيد: شرب رجل من سقاء، فانساب في بطنه جنان؛ فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ... فذكره؛ وكذا أخرجه الإسماعيلي - كما في " الفتح " (10 / 74) -.
ولا ينفي هذا أن يكون النهي لعلة أخرى؛ فقد قالت عائشة: نهى صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء؛ لأن ذلك ينتنه.
رواه الحاكم (4 / 140) - وصححه -، وقال الذهبي: " إنه على شرط مسلم ".
وقال الحافظ ابن حجر في " الفتح " (10 / 75) : " سنده قوي ". (ن)

(3/100)


وزاد أحمد: قال أيوب: فأنبئت أن رجلا شرب من في السقاء فخرجت حية.
وزاد في " الحجة البالغة ": " فدخلت في جوفه ".
وفي " البخاري "، وغيره من حديث ابن عباس، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب من في السقاء.
وهذا لا يعارضه ما رواه ابن ماجة (1) ، والترمذي - وصححه -، من حديث كبشة، قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشرب من في قربة معلقة قائما، فقمت إلى فيها فقطعته ".
وأخرج أحمد (2) ، وابن شاهين، والترمذي في " الشمائل "، والطبراني، والطحاوي، من حديث أم سليم نحوه.
وأخرج أبو داود (3) ، والترمذي من حديث عبد الله بن بسر نحوه - أيضا -؛ لأن فعله صلى الله عليه وسلم قد يكون لبيان الجواز، فتحمل أحاديث النهي على الكراهة لا على التحريم.
__________
(1) • في " سننه " (2 / 336) ، والترمذي (3 / 114) ؛ وسنده صحيح.
وزاد ابن ماجه في آخره: تبتغي بركة موضع في رسول الله صلى الله عليه وسلم! (ن)
(2) • في " المسند " (3 / 119) ، و " الشمائل " (1 / 313) ، والطحاوي في " شرح المعاني " (2 / 358) ؛ عن البراء بن زيد ابن بنت أنس، عن أنس، عنها؛ والبراء هذا مجهول. (ن)
(3) • في " السنن " (2 / 134) ، والترمذي؛ وأعله بأن فيه عبد الله بن عمر العمري؛ يضعف من قبل حفظه. (ن)

(3/101)


وقد يكون ما فعله صلى الله عليه وسلم لعذر، فتحمل أحاديث النهي على عدم العذر.
وقد جزم ابن حزم بالتحريم (1) .
وروي عن أحمد أن أحاديث النهي ناسخة.
( [حكم المائع إذا وقعت فيه نجاسة] :)
(وإذا وقعت النجاسة في شيء من المائعات؛ لم يحل شربه، وإن كان جامدا ألقيت وما حولها) ؛ لحديث ميمونة عند البخاري، وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن فأرة وقعت في سمن فماتت؟ فقال: " ألقوها وما حولها، وكلوا سمنكم ".
وأخرج أبو داود (2) والنسائي - في لفظ لهما من هذا الحديث -: أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الفأرة تقع في السمن؟ فقال: " إن كان جامدا فألقوها وما حولها، وإن كان مائعا فلا تقربوه "، وصححه ابن حبان.
وأخرج أحمد، وأبو داود (3) ، والترمذي من حديث أبي هريرة، قال:
__________
(1) وهو اختيار شيخنا الألباني - حفظه الله -؛ فانظر " السلسلة الصحيحة " (175 - 177) .
(2) في " سننه " (2 / 149) ، ورجال الإسنادين رجال الصحيح.
لكن مداره على معمر، وقد حكم العلماء بخطإه في قوله: " إن كان جامدا "، وبينوا أن الصواب في الحديث الإطلاق، كما في الرواية الأولى؛ راجع " فتح الباري " (9 / 549 - 550) ، و " الفتاوى " لشيخ الإسلام، و " تهذيب السنن " (5 / 336 - 341) لابن القيم.
وعلى هذا؛ فالحديث حجة على المؤلف في التفصيل الذي ذكره؛ ولهذا قال الحافظ:
" واستدل بهذا الحديث لإحدى الروايتين عن أحمد: أن المانع إذا حلت فيه نجاسة لا ينجس إلا بالتغير؛ وهو اختيار البخاري، وقول ابن نافع من المالكية، وحكي عن مالك ". (ن)
(3) • انظر التعليق السابق. (ن)

(3/102)


سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فأرة وقعت في سمن فماتت؟ فقال: " إن كان جامدا فخذوها وما حولها، ثم كلوا ما بقي، وإن كان مائعا فلا تقربوه ".
وقد أخرجه أيضا النسائي.
وحكم غير الفأرة - مما هو مثلها في النجاسة والاستقذار - حكمها إذا وقع في سمن أو نحوه.
قلت: وعليه أهل العلم؛ ومعناه عندهم: إذا كان جامدا؛ فإن كان مائعا تنجس كله، فلا يجوز أكله بالاتفاق، وجوز أبو حنيفة بيعه، ولم يجوزه الشافعي.
( [حكم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة] :)
(ويحرم الأكل والشرب في آنية الذهب والفضة) ؛ لحديث حذيفة في " الصحيحين "، وغيرهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
" لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحافها؛ فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة ".
وفيهما - أيضا - من حديث أم سلمة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:
" إن الذي يشرب في إناء الفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم ".

(3/103)


ولفظ مسلم: " إن الذي يأكل أو يشرب في إناء الذهب والفضة ".
وأخرج مسلم من حديث البراء بن عازب، قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشرب في الفضة؛ فإنه من شرب فيها في الدنيا لم يشرب فيها في الآخرة.
وأخرج أحمد، وابن ماجه من حديث عائشة نحو حديث أم سلمة.
قلت: الجرجرة: صوت وقوع الماء في الجوف، وعليه أهل العلم.
وفي حكمها الذهب.
ورخص الشافعي في تضبيب الإناء بقليل من الفضة عند الحاجة؛ لحديث أنس: أن قدح النبي صلى الله عليه وسلم انكسر فاتخذ مكان الشعب (1) سلسلة من فضة.
قال الشيخ محيي الدين بن إبراهيم النحاس في " تنبيه الغافلين ":
" ومنها استعمال أواني الذهب والفضة للرجال والنساء في الأكل، والشرب، والادهان، والاكتحال، ونحو ذلك.
وكذا قال الشيخ شمس الدين ابن القيم وغيره.
ولا فرق بين أن تكون الآنية كبيرة؛ كالصحن، والزبدية ونحوهما، أو صغيرة؛ كالمكحلة، والميل، والإبرة، ونحوها.
وكما يحرم استعمال أواني الذهب والفضة يحرم اتخاذها لغير استعمال على الرجال، والنساء، ويحرم على الصائغ عملها.
__________
(1) هو الصدع والشق.

(3/104)


ومن قدم إليه طعام في آنية ذهب، أو فضة، ولم يستطع الإنكار؛ فطريقه أن يأخذ الطعام من الآنية، ويضعه في وعاء آخر، أو على الخبز، أو في يده الشمال، ثم يأكل منه؛ لأن ذلك ليس بأكل فيها، وكذلك إذا أراد الاكتحال من كحل في مكحلة فضة؛ أفرغ منه في شيء ثم اكتحل منه، والله تعالى أعلم ". اه.
( [حكم استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب] :)
أقول: استعمال الذهب والفضة في غير الأكل والشرب فيها؛ لم يرد ما يدل على المنع منه، ولم يثبت إلا المنع من الأكل والشرب فيها فقط.
ومن زعم تحريم غيرهما؛ لم يقبل إلا بدليل؛ لأن الأصل الحل، فلا ينقل عنه إلا بناقل.
وأما التحلي بهما؛ فلم يرد ما يمنع من ذلك إلا في الذهب (1) .
__________
(1) • كأنه يشير إلى حديث: " الحرير والذهب حرام على ذكور أمتي، حل لأناثها "؛ أخرجه الطحاوي (2 / 345 - 346) ، ورجاله كلهم ثقات؛ غير هشام بن أبي رقية، ترجمه ابن أبي حاتم (2 / 457) ؛ ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وقد ذكره في " التعجيل " برواية جماعة من الثقات عنه، ثم قال: " وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ".
قلت: فمثله حديثه حسن؛ بل صحيح في الشواهد؛ وهذا منه؛ فإن له شواهد كثيرة عن جماعة من الصحابة، ساقها الزيلعي في " نصب الراية " (4 / 222 - 325) ، وهي وإن كانت مفرداتها لا تخلو من علة؛ فمجموعها يدل على أن للحديث أصلا، سيما وقد صحح بعضها الترمذي، والحاكم، وغيرهما.
والحديث عزاه الحافظ (10 / 243) لأحمد، والطحاوي، وصححه.
وعزوه لأحمد بهذا اللفظ خطأ؛ فإنه إنما رواه من الطريق المذكور بلفظ آخر؛ انظر (4 / 156) من " المسند ". (ن)

(3/105)


وأما الفضة؛ فلم يرد شيء؛ بل قال صلى الله عليه وسلم: " عليكم بالفضة؛ فالعبوا بها كيف شئتم (1) ".
هذا خلاصة ما ينبغي القول به في الاستعمال والتحلي، وللماتن - رحمه الله تعالى - أبحاث جليلة المقدار راجحة الأنظار في ذلك، فلتراجع.
__________
(1) الحديث رواه أبو داود في " سننه " في (باب ما جاء في الذهب للنساء) عن أبي هريرة مطولا، وهذا بعضه. (ش)

(3/106)